العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم
ابن الوزير
الجزء الأول
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء الأول مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 1
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بسم الله الرحمن الرحيم
قالوا في «العواصم» ومصنفه: 1 - «كان مقبلاً على الاشتغال بالحديث، شديد الميل إلى السُّنَّة». الحافظ ابن حجر «إنباء الغمر» 7/ 372 2 - «إن العواصم والقواصم يشتمل على فوائد في أنواع من العلوم، لا توجد في شيء من الكتب، ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله». الشوكاني «البدر الطالع» 2/ 91 3 - «والذي يغلب على الظن أنّ شيوخه لو جمعوا جميعاً في ذاتٍ واحدةٍ لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا، ولو قلت: إن اليمن لم تنجب مثله، لم أبعد عن الصواب». الشوكاني «البدر الطالع» 2/ 92 4 - «كان فريد العصر، ونادرة الدهر، خاتمة النُّقاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد، بلا خلاف وعناد، رأساً في المعقول والمنقول، إماماً في الفروع والأصول». صدّيق حسن خان «أبجد العلوم» 3/ 190
الإمام محمد بن إبراهيم الوزير وكتابه العواصم والقواصم بقلم القاضي الفاضل الأستاذ إسماعيل الأكوع رئيس الهيئة العامة للآثار ودور الكتب باليمن الشمالي
كلمة القاضي إسماعيل الأكوع في التعريف بالمؤلف وبكتابه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله نحمُده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللهِ من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدِ الله، فهو المهتدي، ومن يُضلِل، فلا هادِيَ له ونصلي ونسلِّم على رسول الله الهادي إلى أقوم طريق، وأوضح سبيل، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، فإني لا أجد -وأنا أتحدثُ عن الإمام الجليل محمد بن إبراهيم الوزير، رحمه الله- عبارةً تصفُ علماء السنة المجتهدين في اليمن وهو في مقدمتهم أدق وأشمل من كلمة شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله وهو يترجم للإمام تفسه في كتابه " البدر الطالع " مشيراً إلى جهل علماء المسلميين خارج اليمن بمكانة علماء السنة في اليمن، وعُلُوِّ منازلهم، وطول باعهم، ورسوخ أقدامهم في ميادين الاجتهاد وهذا نصُّها: "ولا ريب أن علماء الطوائف لا يُكثرُون العناية بأهل هذه الديار (اليمن) لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطَّلِع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً
يُجاوِز الوصف، يتقيِّدونَ بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صحَّ في الأمهات الحديثية، وما يلتحق بها مِن دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأساً، لا يشوبون دينَهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهلُ مذهب من المذاهب من شيء منها. بل هُم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتابُ الله، وما صحَّ من سنة رسول الله مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحوٍ وصرفٍ وبيانٍ وأصولٍ ولغةٍ، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية. ولو لم يكن لهم مِن المزية إلا التقيدُ بنصوصِ الكتاب والسنة، وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خصَّ اللهُ بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا تُوجد في غيرهم إلا نادراً" (¬1). أما سببُ تفرد اليمن بظهور علماء مجتهدين ملتزمين بالعملِ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم غير ميِّالين إلى أيِّ مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة، فيرجِعُ إلى أن المذهب الزيدي في أصل عقيدته يدعو إلى الاجتهاد، فلم يَحجُرْ على أتباعه حريةَ التفكير، ولا قيَّدهم بالتزام نصوصه وآرائه، ولكنه أطلق لهم العِنَانَ، وترك لهم الخِيار بعد أن جعل بات الاجتهاد مفتوحاً لمن حذق علومه واستوفى شروطه؛ فكان هذا حافزاً لمن وهبه اللهُ ذكاءً وفِطنة، ورزقه فهماً وبصيرة أن يعملَ بما أوصله إليه اجتهادُه من أدلة الكتاب والسنة، فكان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أبرزَ منْ بلغ أقصى درجاتِ الاجتهاد المطلق، وكذلك الحسن بن أحمد الجلال (1014 - 1084) وصالح بن مهدي المَقْبلي (1038 - 1108) ومحمد بن إسماعيل الأمير (1099 - 1182) ومحمد ¬
ابن علي الشوكاني (1173 - 1250)، رحمهم الله جميعاً على تفاوتٍ فيما بينهم. ولم أخص هؤلاء بالذكر إلا لأنهم نَعَوْا على العلماء المقلدين جمودَهم، وحثُّوا المسلمين على العمل بالكتاب والسنة، فهذا شيخ الإسلام الشوكاني يستطردُ في ترجمته للإمام الوزير استنكاره على العلماء المقلدين، فيقول: " وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بَعده، كيف يقفونَ على تقليد عالم من العلماء، ويُقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي فيم فهم الكتاب والسنة بعضه؟ فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهماً لما يسمعه منها، صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن صار كذلك، وجب علبه التمسكُ بما جاء به رسولُ الله ععلى الله عليه وآله وسلم، وترك التعويل على محض الآراء. فكيف بمنْ وقف على دقائق اللغة وجلائلها إفراداً وتركيباً وإعراباً وبناء؟، وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية، والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه مِن لسان العرب خافية، ولا يَشذُّ عنه منها شاذة ولا فاذة، وصار عارفاً بما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير كتاب الله، وما صحَّ عن علماء الصحابة والتابعين، ومنْ بعدهم إلى زمنه، وأتعب نفسه في سماع دواوين السنة التي صنفتها أئمة هذا الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده فمن كان بهذه المثابة فكيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحةٍ، أو حديث صحيحٍ إلى رأي رآه أحدُ المجتهدين؟ حتى كأنه أحدُ الأغتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة رسماً. فيالله العجب، إذا كانت نهايةُ العالم كبدايته؛ وآخر أمره كأوله، فقل لي: أيُّ فائدةٍ لتضييع الأوقات في المعارف العلمية؟ فإن قول
إمامه الذي يُقلِّده هو ما كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه كما نُشاهده في المقتصرين على علم الفقه، فإنهم يفهمونه، بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليه منه شيء، ويدرسون فيه، ويُفتون به وهم لا يعرفون سواه، بل لا يُميزون بينَ الفاعل والمفعول (¬1). ثم خَلَصَ شيخ الإسلام إلى هذه النصيحة: " والذي أدينُ الله به أنه لا رُخصةَ لمن علِمَ من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يُقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطرٍ من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاعُ على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعملَ بها المتقدمون والمتأخرون، كالصحيحين وما يلتحقُ بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة، أو جمعوا فيه بينَ الصحيح وغيره مع البيانِ لما هو صحيح، ولما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العملُ بما كان كذلك من السنة، ولا يَحِل التمسكُ بما يُخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحداً أو جماعة أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب والسنة فكيف بما كان منها كذلك، بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". إلى آخر ما أورده في الحث على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحدهما (¬2) ". مولد الإمام الوزير: وُلِدَ على المشهور الصحيح في رجب سنة 775 بهجرة الظَهْرَاوين ¬
من شَظب (¬1) بيد أن المؤرخ عبد الوهاب بن عبد الرحمن البُرَيهي ذكر في تاريخه -وهو يترجم له- ما لفظه: " قلت: قرأتُ تاريخ مولده منقولاً من خطه، قال: مولدي سنة ست وسبعين وسبعمائة " وبمثل هذا روى الإمام شرف الدين في شرح مقدمة كتابه "الأثمار في فقه الأئمة الأطهار" حينما تعرض لذكر محمد بن إبراهيم الوزير استطراداً (¬2) فقال: " ورأيتُ لابن أخيه وأنا أدركتُ آخر مدته في أول وقت طلبي، رأيت له ترجمة لهذا بخطِّه؛ قال فيها: ولِدَ رحمه الله في شهر رجب الفرد -كما وجدته بخطه- في سنة ست وسبعين وسبعمائة بهجرة الظهْرَاويْن بشَظَب، وهو جبل عالٍ باليمن ". قلت: وإذا كانت هذه الترجمة التي اعتمد عليها الإمامُ شرف الدين هي التي بين أيدينا اليوم، فهي ليست لابن أخيه؛ وإنما هي لابن ابن أخيه محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير وقد ورد فيها ما لفظه: " مولده -رضي الله عنه ورحمه- في شهر رجب الأصب مِن سنة خمس وسبعين وسبعمائة بهجرة الظَهْرَاوين من شَظَب، وهو جبل عالٍ باليمن، هكذا نقلتُه من خطه رضي الله عنه، وحفظتُه من غيره من الأهل ". ¬
أما ما ذكره السخاوي في " الضوء اللامع " بأنه وُلدَ تقريباً سنة 765 فلا صحةَ لذلك، وقد فَنَّد هذا الوهم شيخ الإسلام الإمام الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته حيث قال: " وهذا التقريب بعيد والصواب الأول " (أي سنة 775). نشأته ودراسته وشيوخه: نشأ في هجرة الظهراوين بين أهله الذين آثروا طلبَ العلم على ما سواه، وانقطعوا له، واشتغلوا به درساً وتدريساً وتأليفاً، فأخذ يسيرُ على منهجهم، ويقتفي أثرَ من سبقه منهم، متبعاً خطاهم، وملتزماً بمسلكهم، فحفظ القرآن الكريم وجوده واستظهره، وحقظ متون كتب الطلب من نحوٍ وصرفٍ ومعانٍ وبيان وفقه وأصول، ثم أخذ في قراءة شروَحها المختصرة، ورحل إلى صعدة. فأخذ عن أخيه الأكبر العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير في جميع الفنون تحقيقاً، واستفاد منه كثيراً حتى في علم الأدب. وأخذ عن القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر، وكان المشارَ إليه في علوم العربية واللغة والتفسير. وقرأ علم الأصول على القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدَّوَّاري. ثم رحل إلى صنعاء، فأخذ عن القاضي علي بن أبي الخير " شرح الأصول " وهو معتمد الزيدية في اليمن، " والخلاصة " للرصاص، "والغياصة الجامعة لمعاني الخلاصة" للقاضي محمد بن يحيى بن حنش، وتذكرة الشيخ ابن متَّويه، وسمع عليه " مختصر المنتهى " في علم الأصول لابن الحاجب، كما قرأ هذا المختصر على السيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، ولما سمِعَه عليه، بهَرَهُ ما رأى من صفاء ذهنه، وحُسن نظره وألمعيته وبلاغته وفطنته وبراعته، وكان يُطنِبُ في الثناء عليه، ويرشد طلبة العلم إليه.
وأخذ أيضاً عن شيوخ آخرين. أما ما قرأه لنفسه من سائر العلوم، فشيء كثير لا يأتي عليه الحصرُ. وكان عمدة قراءته التي أفنى فيها عنفوان شبابه -كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه الفضائل- علم أصول الفقه وعلم أصول الدين (علم لطيف الكلام) فقد جود فيهما غايةَ التجويد؛ وفحص وحقق وبحث، وبلغ الغاية القصوى، واطَّلع من أقوال أهل الفنين على ما لا يكادُ يعرفه إلا مثلُه، كما يُحدثنا هو نفسه في كتابه " العواصم والقواصم " الذي نقدم له بقوله: " وقد وهبتُ أيام شبابي وزمانَ اكتسابي لكدوره علم الكلام والجدال والنظر في مقالات أهل الضلال حتى عرفتُ قولَ من قال: لقد طُفتُ في تلك المعاهد كلها ... وسيَّرتُ طرفي بَيْن تلك المعالِمِ وسبب إيثاري لذلك، وسلوكي تلك المسالك أن أول ما قرع سمعي، ورسخ في طبعي وجوب النظر والقول بأن من قلد في الاعتقاد كفر، فاستغرقتُ في ذلك حدة نظري وباكورة عمري. وما زلت أرى كل فرقة من المتكلمين تداوي أقوالاً مريضة؛ وتقوي أجنحة مهيضة، فلم أحصلْ على طائل، وتمثلت فيهم بقول القائل: كل يداوي سقيماً من معايبه ... فمن لنا بصحيحٍ ما به سقم تحوُّله إلى علوم الكتاب والسنة: فرجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله، وقلت: " لا بد أن تكون فيهما براهين وردود على مخالفي الإسلام، وتعليم وإرشاد لمن اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، فتدبرت ذلك، وانشرح صدري، وصلح أمري وزال ما كنتُ به مبتلى ".
ثم يقول: " هذا وإني لما رَتَبْتُ رُتوب (¬1) الكعب في مجالسة العلماء السادة، وثبت ثبوتَ القُطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمراً في طلب معرفة ديني أتنقل في رتبة الشيوخ من قُدوة إلى قُدوة وأتوقَّل (¬2) في مدارس العلوم من ربوة إلى ربوة ولم يزل يَرَاعي للطائف الفوائد نواطف (¬3) وبناني للطف المعارف قواطف لم يكن حتماً أن يرجعَ طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسيراً، ولم يجب قطعاً أن يعودَ جناحُ طلبي للفوائد مهيضاً كسيراً، ولم يكن بِدْعاً أن تنسمتُ من أعطارها روائح، وتبصرتُ من أنوارها لوائح أشربت قلبي محبةَ الحديث النبوي، والعلم المصطفوي، فكنتُ ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيدِ ما تعفى من رسومه، ورأيتُ أولى ما اشتغلتُ به ما تعيَّن فرض كفايته بعدَ الارتفاع، وتضيّق وقت القيام به بعدَ الاتساعِ من الذب عنه، والمحاماة عليه، والحثَّ على اتباعه، والدعاء إليه، فإنه علْمُ الصدر الأول، والذي عليه بعدَ القرآن المُعوِّلُ، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة {لتبين للناس} وهو الذي قال الله فيه تصريحاً {إنْ هُو إلا وَحْي يوحى} وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين، حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمَّعة " إنِّي أُوتيتُ القُرآنَ ومِثلَه مَعه " (¬4). لذلك فقد رسخ هذا الإمامُ في علوم القرآن والسنة حتى فاق أقرانه، وزاحم شيوخَه وتخطاهم، وبلغ مِن علوم الاجتهادِ ما لم يبلُغْه أحدٌ منهم. ¬
اجتهاده: كان -رحمه الله- من أبرز علماء اليمن المجتهدين على الإطلاق، وقد وصف العلامة أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه "الفضائل" مكانة اجتهاده وعلو منزلته بقوله: " وله في علوم الاجتهاد المَحلُّ الأعلى، والقدح المُعَلى، وبلغ مبلغ الأوائل، بل زاد، واستدرك، واختار وصنف، وألف وأفادَ وجمع وقيد، وبنا وشيد، وكان اجتهادُه اجتهاداً كاملاً مطلقاً، لا كاجتهاد بعض المتأخرين، فإن ذلك إنما يُسمَّى ترجيحاً لأدلة بعض الأئمة المستنبطين على بعض، لا ابتداء اجتهاد واستخراج للحكم عما عُرفَ من غير معترف انتهاض ذلك الدليل عليه بعدَ معرفته للحكم نفسه وللدليل، ولكيفية الدلالة، وانتفاء المعارض، وشروط الاستدلال في العقليات والسمعيات، والتبحر في علم الرواية، ومعرفة الرجال وأحوالهم في النقد (¬1) والاعتدال والوفيات والأنساب والشيوخ، والتعمق في علم الأصولين والعربية، والتوغل في معرفة الكتاب العزيز، والاطلاع السديد على تفسيره، وكلام المفسرين. ولم يكن بهذه الصفة بغير شك ولا مِرية غيرُ هذا السيد الإمام الأكبر النقيد في هذا الشأن الذي شَهِدَ له بذلك جميعُ أهل الزمان من الأقارب والأباعد، والمخالف له في الاعتقاد والمساعد، ولقد كان آية في زمانه لم يأت الزمانُ بمثلها. وأما تلك المقاماتُ العالية، والاستخراجاتُ الأصلية من الأدلة الكلية مثل ما صنعه في استخراجاته واختياراته في مسائل الاجتهاد، فهم عن ذلك بمراحل؛ وكيف يكون ذلك؟ وهم يغلطونَ في أسماء الرجال المشهورين، وتلتبِسُ عليهم أزمانُهم، ويُصحِّفُون من أسماء كبارهم، ومن ¬
جَهلَ الاسم كيف يعرف الحال؟ وكثيراً ما يضبِطون ألفاظاً في متون الحديث (¬1) مصحفة تصحيفاً يُفسد المعنى، ولا يُعرف منه المراد، ولا يَصِح معه ظن، ولا يصدق عنده اعتقاد. وهو الخبيرُ الخِرِّيتُ الماهِر من (¬2) ذلك المقصد، وبما تدورُ عليه من معرفة التخصيص والنسخ أعرفُ وأقعد، والترجيح عند التعارض وغير ذلك من الأحكام المترتبة على ذلك وله القوة والمَلَكَةُ في تقوية بعض الأدلة بالطريق التي يقويها على اختلاف أنواع ذلك بوجه صريحٍ، وتصرفٍ صحيح، ولفظ فصيح، وحجة لازمة وأدلة جازمة عقلية ونقلية، وفي تضعيف بعض الأدلة مثل ذلك لا يتبع في ذلك إلا محض الدليل، ولا يكتفي فيه بمجرد أنه قيل كما عليه أكثر الناس تساهلاً وعدم تمكن واقتدار. وأمره في التفسير لكلام رب العزة كذلك في معرفته نفسه، ثم معرفته قراءته، ومعرفة المفسرين والنقلة عنهم، ومعرفة أحوال الجميع، ومعرفة أسباب النزول وزمانه ومكانه، ومعرفة الألفاظ، وكثيراً مما يتعلق بالتفسير وآيات الأحكام، وتنبني عليه قواعد شرع الإسلام مما يطولُ ذكرُه. ثم قال: "وإنما الغرض التعريفُ أن حال هذا الرجل -رحمه الله- ليس كحالِ غيره، وأن اجتهادَه كاجتهاد أئمة المذاهب، لا كالمخرجين (¬3) ومجتهدي المذاهب، ولا كالمرجحين الذين لا يُرجِّحون بغير المعقول، ويشق عليهم معرفة الآثار النقلية، والاطلاعُ على الإسنادات، ومعرفة الرجال، وَيعْسرُ عليهم الأخذُ من لطائف أدلةِ الكتاب والسنة ومعرفتها ومعرفة أنواع الحديث ومراتبه وأقسامه من الصحة والحسن ونحوها التي ¬
عليها مدارُ الاجتهاد والترجيح والانتقاد، وليس لِغيره مثلُ هذه الأهلية، ولا أعطاهم الله -سبحانه- مثل هذه العطية" (¬1). وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله فيه حيث يقول: " والذي يَغْلِبُ على الظن أن شيوخه لو جُمِعُوا في ذاتٍ واحدة، لم يَبْلُغْ علمُهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا، ثم يقول: بعدَ كلام طويل: " ولو قلتُ: إن اليمنَ لم تُنْجِبْ مثلَه لم أُبعِدْ عن الصواب " (¬2). ولما بلغ من العلم هذه الدرجة العليا، وبخاصة في علوم القرآنِ والسنة التي بَرزَ فيها، وأقبل على العمل بكتاب الله، وما صَح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الاجتهاد، ومندِّداً بعلماء عصره الذين التزموا بالتقليد، لم يرُق لهم خروجُه على ما أَلفوهُ من التقليد ودعوته لهم إلى نبذه، والرجوع إلى العمل بكتاب الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، فناصبوه العداء، وشنعوا عليه، وشكَّكوا في دعوته، وصدُّوا الناسَ عن سلوكِ هذا المنهج القويم، والذي تَصَدَّرَ هذه المعارضة هو شيخُه العلامة جمالُ الدين علي (¬3) بن محمد بن أبي القاسم، فقد جرت بينَه وبينَ تلميذه منازعة في مسائل كما ذكر صاحب " الفضائل " وقال: " وكان مِن شيخه طَرَفٌ من الحَيف في السؤالات، وتحويلٌ لما يرويه الإمام محمد بن إبراهيم على صفة أنه يأخذ من كلامه مفهوماً لم يقصده، أو قد صرَّح بنفيه والإجماعُ منعقد على عدم اعتبار مفهومٍ وقع التصريحُ بخلافه، وما كان ذلك إلا لمكان دعوى الاجتهاد ". ¬
ثم قال: "وترسَّل السيدُ جمال برسالةٍ حكى فيها كلام الإمام محمد بن إبراهيم، وأجابه على حسب ما حكاه وطلح في موضع التطليح، وساقه مساقَ العلماء، وعلى منهاح الاستدلال والجدل الكامل في أحسن مساق وأوفى عبارة". وقال محمد (¬1) بن عبد الله بن الهادي في ترجمته للإمام محمد بن إبراهيم: " وقد نسب -أي جمالُ الدين علي بن محمد بن القاسم في رسالته إلى محمد بن إبراهيم- القول بالرؤية، وبقدَمِ القرآن، ولمخالفته أهل البيت، وقد بناها على مجرَّد التوهمات الواهية والتخيلات الباردة ". وقال شيخ الإسلام الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمة علي بن محمد بن أبي القاسم المذكور: " ولكنه لما اجتهد السيد محمد بن إبراهيم، ورفض التقليد، وتبحر في المعارف، قام عليه صاحبُ الترجمة في جملة القائمين عليه، وترسل عليه برسالة تَدُلُّ على عدم إنصافه، ومزيد تعصبه سامحه الله ". مع أن جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم كان من المعجبين بتلميذه الإمام محمد بن إبراهيم، وكان يحُثُّ طلبة العلم على الأخذ عنه، وُيثني على علمه ونبوغه كما وصف ذلك أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه " الفضائل " بقوله: ولقد حكى لنا السيدُ الإمام علي بن أبي القاسم -وكان من أجل مشايخه سئل عنه- وكان في نفسه عليه ما يقع في نفوس العلماء فقال: "هو أذكى الناس قلباً، وأزكاهم لُباً كأنَّ فؤاده جذوةُ نار تتوقد ذكاءاً، وغيرُه أكبرُ منه سناً ومثله وأصغر من علماء زمانه المصنفين لم يبلغوا هذا المحل، إنما غايةُ اجتهادهم أن يقولوا: هذا أولى، لأنه حاظر، والحظر أقدم من ¬
الإباحة، أو عام ومعارِضُه خاص، أو مطلق ومعارضه مُقَيَّد ونحو ذلك" (¬1). ورغم هذا الثناء والتقدير من شيخه، فإنه قد تحوَّل من مادح إلى قادح، ومن صديق إلى كاشح، ومن مُعجبٍ به وبعلمه ونبوغه إلى مسفِّهٍ له، ومنفرٍ للناس عنه مما آلم الإمام الوزير وأحزنه، فقال معاتباً شيخه: عَرَفْتَ قدْرِي ثُم أنكَرتَهُ ... فما عدا بالله مما بدا؟ في كل يوم لك بي موقف ... أَسرَفْتَ بالقَوْل بسُوء البَدَا أمْسِ الثنَا واليومَ سوءُ الأذى! ... يا لَيْتَ شِعري كيف تضحي غدَا؟ يَا شيْبة العتْرةِ في وَقْتهِ ... ومَنْصِبَ التعْلِيمِ والاقْتدَا قَد خلَعَ العِلْمُ رداء الهُدَى ... علَيْكَ، والشيْبُ رِداءَ الرَّدَى فَصُنْ رِدَائَيكَ وطَهرْهُما ... عَنَ دنسِ الإسْراف والإعتدَا وقد ردَّ الإمام محمد بن إبراهيم الوزير على رسالة شيخه بكتابه " العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم " الذي يُعد ذخيرةً نفيسةً في عالم المؤلفات الإسلامية لم يَسْبِقْ لأحد في المتقدمين، ولا في المتأخرين أن ألف في موضوعه مثله. وقد وصف ما حدث له مِن علماء زمانه المتمسكين بالمذهب، والمجاهرين بمعاداته لتمسكه بالسنة النبوية بقوله " وإني لما تمسكتُ بعروة السنن الوثيقة، وسلكتُ سنَن الطريقة العتيقة، تناولتني الألسنةُ البذيئة من أعداء السنة النبوية، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة، وأمورٍ غير ذلك كثيرة حرصاً على ألا يُتَبَّع (¬2) ما دعوتُ إليه من العمل بسنة سيد المرسلين، ¬
والخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، فصبرت على الأذى، وعلمتُ أن الناس ما زالوا هكذا: ما سَلِمَ اللهُ من بريَّته ... ولا نبيُّ الهُدى فَكيف أنا! (¬1) وقد اعترض عليه شيخُه المذكور برسالة وصفها الإمام ابنُ الوزير بقوله: " إلاّ أنه لما كثر الكلامُ وطال، واتسع مجال القيل والقال جاءتني رسالة محبَّرة، واعتراضات محررة، مشتملة على الزواجر والعظات، والتنبيه بالكلم المُوقِظَات، زعم صاحبها أنه من الناصحين المحبين، وأنه أدَّى بها ما عليه لي من حق الأقربين، وأَهلاً بمن أبدى النصيحة، فقد جاء الترغيب إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة، وليس بضائرٍ إن شاء الله ما يَعْرِضُ في ذلك من الجدال مهما وُزِنَ بميزان الاعتدال، لأنه حينئذ يدخل في السنن، ويتناوله أمر {وَجَادِلهُم بالتِي هِيَ أحْسَنُ} (¬2) وقد أجاد من قال، وأحسن: وجدالُ أَهلِ العِلْمِ لَيْس بِضائِرٍ ... مَا بَيْنَ غَالبِهِم إلى المَغْلُوبِ وعقب الإمام ابن الوزير على ما ورد في هذه الرسالة بقوله: بيد أنها لم تَضعْ تاجَ المرح والاختيال، وتستعملْ ميزان العدل في الاستدلال، بل خُلِطَت مِن سِيما المختالين بشوب، ومالت من التعنت في الحجاج إلى صوب، فجاءتني تمشي الخطَرَا، وتميس في محافِل الخطَرا، مفضوضةً لم تُختم، مشهورةً لم تكتم، متبرجةً قد كشفت حجابَها، وطرحت نِقابها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر حتى مضت أيدي الابتذال ¬
نضارتَها، وافتضت أفكارُ الرجال بكارتها، وخيرُ النصائح الخفي وخيرُ النُّصاح الحفى، وخيرُ الكتاب المختوم، وخير العتاب المكتوم. ثم إني تأملت فصولها، وتدبرت أصولها، فوجدتها مشتملة على القدحِ تارةً فيما نُقِلَ عني من الكلام، وتارةً في كثير من قواعد العلماء الأعلام، وتارة في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام فرأيتُ ما يَخُصُّنِي غير جديرٍ بصرف العناية إليه، ولا كثير يستحق الإقبال بالجواب عليه. وأما ما يختصُّ بالسنن النبوية، والقواعِد الإسلامية مثلَ قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، والآثار الصحابية، ونحو ذلك من القواعد الأصولية، فإني رأيتُ القدحَ فيها ليس أمراً هيّناً، والذب عنها لازماً متعيناً، فتعرضتُ لجواب ما اشتملت عليه من نقض تلك القواعد الكبار التي قال بها الجِلَّةُ من العلماء الأخيار (¬1). وقد قصدتُ وجه اللهِ تعالى في الذب عن السنن النبوية، والقواعد الدينية، وليس يضرني وقوفُ أهل المعرفة على ما لي من التقصير، ومعرفتهم أن باعي في هذا الميدان قصير، لاعترافي بأني لست من نُقَّاد هذا الشأن، ولا مِن فرسان هذا الميدان، لكني لم أجد من الأصحاب من تصدَّى لجواب هذه الرسالة لما يجُرُّ إليه ذلك من سوء القالة، فتصديتُ لذلك من غير إحسان ولا إعجاب، وَمَنْ عَدِمَ الماءَ تيممَ بالتراب، عالماً بأني لو كنت باريَ قوسها ونبالِها، وعنترةَ فوارسها ونزالها، فلن يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي من الكدر عند النقاد. فالكلامُ الذي لا يأتيه ¬
الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو كلامُ الله الحكيم، وكلامُ من شهد بعصمتِهِ القرآن الكريم؛ وكُلُّ كلام بعدَ ذلك، فله خطأ وصواب، وقِشر ولُباب. ولو أن العلماء رضي الله عنهم تركوا الذبَّ عن الحق خوفاً من كلام الخلق، لكانوا قد أضاعوا كثيراً، وخافوا حقيراً، وأكثر ما يخافُ الخائفُ في ذلك أن يَكِلَّ حسامُهُ في معْتَرَكِ المناظرة، وينبو ويعثر جوادُهُ في مجال المحاجة ويكبو، فالأمر في ذلك قريب إن أخطأ فمن الذي عُصِمَ؟ وإن خُطِّىء فمن الذي ما وُصِمَ؟ والقاصد لوجه الله تعالى لا يخافُ أن يُنقد عليه خللٌ في كلامه، ولا يهابُ أن يُدل على بطلان قوله، بل يُحِبُّ الحقَّ من حيث أتاه، ويقبل الهُدى ممن أهداه، بل المخاشنةُ بالحق والنصيحة أحبُّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك مَنْ صَدَقَكَ لا من صدَّقك. وفي نوابغ الحكمة: عليك بمن ينذر الإبسال والإبلاس، واياك ومن يقولُ: لا بَاسَ وَلا تَاس. ثم إن الجواب لما تم -بحمد الله تعالى- اشتمل على علوم كثيرة، وفوائد غزيرة أثرية ونظرية، ودقيقة وجلية، وجدلية وأدبية، وكلُّها رياض للعارفين نضِرة، وفراديسُ عند المحققين مُزْهِرَة، لكني وضعته وأنا قوي النشاط، متوفر الداعية، ثائر الغَيرة، فاستكثرتُ من الاحتجاج رغبةً في قطع اللجاج، فربما كانت المسألة في كتب العلماء رضي الله عنهم مذكورة غيرَ محتج عليها بأكثر من حجة واحدة، فأحتج عليها بعشر حُجج؛ وتارة بعشرينَ حُجة، وتارة بثلاثين حُجة، وكذلك قد يتعنَّت صاحبُ الرسالة، ويُظهِرُ العُجْبَ مما قاله فأحبُّ أن يظهر به ضعفُ اختياره، وعظيم اغتراره، فاستكثر من إيراد الإشكالات عليه حتى يتضِحَ له خروج الحق من يديه، فربما أوردتُ عليه في بعض المسائل أكثر من
مئتي إشكال على مقدار نصف ورقة" (¬1). وهذا هو ما أشار إليه شيخ الإسلام الشوكاني في معْرِضِ كلامه عن " العواصم والقواصم " في أثناء ترجمته لمؤلفه، فإنه قال: " ومن أراد أن يعرف حالَه -أي حال الإمام محمد بن إبراهيم الوزير- ومقدار علمه، فعليه بمطالعة مصنفاته، فإنها شاهدُ عدلٍ على علو طبقته، فإنه يسرد في المسألة الواحدة من الوجوه ما يبْهَرُ لُبَّ مطالعه، ويعرف بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا الإمام كما يفعله في " العواصم والقواصم " فإنه يورد كلامَ شيخه السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه، ثم ينسفه نسفاً بإيراد ما يُزَيِّفُهُ من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالم الكبير في قوته استخراج البعض منها" (¬2). رحلته إلى تعز رحل الإمام ابن الوزير إلى تعز إلى الإمام نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي الحنفي، وبعث أخوه العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير رسالة منه إلى الإمام نفيس الدين يصف علم أخيه جاء فيها ما يلي: " وأما محمد أخي، فإنه لما أخذ من علم الحديث، جذب إليه القلوب ورقَّقها، ودعا إلى طائفةٍ من العلماء (¬3) ... وشوّقها، وهو بحمد الله ممن جَوَّد في علم الكلام وصنف، وبرَّز فيه وشنَّف، وجالس في نقله الأفاضل، ومارس في العلم فأفحم كل مناضل إلاّ أنه نزل إليكم، ففاضت ¬
بركاتُكُم على أحواله وأقواله، وصار في هذا الفن لا يُجارى، وكأنَّه لقنه هذا العلمَ شيخُ بخارى (¬1) مع إجادته في الفنين العظيمين: علمِ الكلام وعلمِ الأصول: فاعترضه بعضُ الأصحابِ الأكابر، وهي من ذوي الدفاتر والمحابر، فصنف كتابه الكبير في الرد على المعترض. ولما صنفه تراشقته الألسنُ، وتغامزت به الأعين، وتوغَّرت عليه الصدور، وقال الناسُ فيه مقالاً، وأغضب فيه رجال رجالاً، فتصفحتُ كتابَه الكبير، فلم أره أتى بما فيه ضراً (¬2) ... الله هجراً، ولكنه سلك عندهم طريقاً وعراً، وأظهر مِن خلافهم أمراً إمرا، وجاء فيه مما لا يعتاد في جهتهم من الذبِّ عن علم الحديث وحملته ومن سلك مسلكه كان بين الناس غريباً، ووجب أن يتخذ من الصبر مجناً صليباً ". انتهى. وقد أخذ الإمام الوزير عن الإمام نفيس الدين العلوي وأجازه بما لفظه: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله حمداً يُوافي نعمه، ويُكافىء مزيده، لا نحصي ثناء عليه، والصلاة والسلامُ على رسوله سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وأصهاره وأنصاره كلما ذكرهم الذاكرون، وَغَفَلَ عن ذكرهم الغافلون. وبعد، فإنه شرفني الله تعالى، ورحل إلي، وقدِمَ على إلى بلدي مدينة تعز المحروس مستقر المملكة اليمنية الرسولية عَمَرَهَا الله بالعلم الشريف سَيِّدُنَا الإمام حقاً، والمجتهدُ صدقاً، الفائقُ على أقرانه من ¬
الأغصان النبوية، والأفنان المصطفوية، المؤيَّد بالتأييد الإلهي، المختارُ لله تعالى، والموفِّق في اجتهاده، جمال العترة النبوية محمدُ بنُ إبراهيم بن علي ابن المرتضى بن المفضل بن منصور بن محمد العفيف، بن المفضل الحسني السني بحمد الله تعالى وسمع من لفظي، وقرأ علي ثُلُثَ كتاب "الجمع بين الصحيحين" صحيحي البخاري ومسلم رحمة الله عليهما جَمْع الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن حُميد الأزدي الحُميدي الأندلسي الظاهري المذهب من كبار تلامذة ابن حزم، مولده في سنة عشرين وأربعمائة. أجمع العلماء أنه لم يكن في العلماء له نظير في براهينه وعفته وورعه. وتوفي سابع عشر من ذي الحجة سنة 488. وأجزته باقي الكتاب لأهليته لذلك ودينه وأمانته وعلمه وبراعته، وسمع معه ما ذكرتُهُ الفقيهُ الصالحُ النبيه صالحُ بن قاسم بن سليمان بن محمد الحنبلي ثم المَعمري القادم معه، وآخرون من بلادنا. وأخبرتُهُم أني قرأته على شيخي الإمام الحافظ المحقق المجتهد المقدم على مقرئي كتاب الله تعالى أبي الحسن موفق بن علي بن أبي بكر ابن محمد بن شداد المقري الهَمْدَاني، ومولده سنة 694، ووفاته في شهر شوال سنة 771، قال: أنا الشيخُ الإمامُ الحافظ المجتهد أبو العباس شهابُ الدين أحمد بن أبي الخير بن منصور بن أبي الخير الشماخي السعدي، ومولده في سنة 657، ووفاته سنة 729 قال: أنا والدي الإمام الحافظ المجتهد أبو الخير، مولده في سنة 611، ووفاته في 673، قال: أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي بن عبد العزيز الفَشَلي، قال: أنا الإمام برهان الدين أبو الفرج نصر بن علي الحصري البغدادي عرف بالبرهان بروايته عن أبي الفتح عبد الباقي بن أحمد الحنفي عرف بابن البطيّ بروايته عن الحميدي.
وأرويه عن والدي الإمام الحافظ أبي اسحاق برهان الدين إبراهيم بن عمر العلوي الحنفي إجازة منه لي في سنة 752 قال: أنا الإمام أحمد بن أبي الخير بسنده قال والدي رحمه الله. وأخبرنا الإمام الحافظ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المِزي، والشيخ الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي وغيرهما، قالا: أخبرنا الشيخُ المسندُ علي بن أحمد البخاري، عن الإمام أبي محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم بروايته عن الإمام الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي بروايته عن المصنف الحميدي. وأرويه عن والدي، عن الذهبي قال: قرأته على أبي الفهم بن أحمد السلمي قال: أنا أبو محمد بن قُدَامَة (ح) قال الذهبي: وقرأت على أبي سعيد الحلبي، عن عبد اللطيف بن يوسف قالا: أنا أبو الفتح محمد ابن عبد الباقي عن الحميدي. وأجزته وصاحبَه جميعَ رواية صحيح الإمام الحافظ، المجتهد المقلِّد، المتبع لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجامع الصحيح المسند من أمور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه ومغازيه أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجُعْفي رحمه الله تعالى، وأخبرته أني قرأته جميعاً على الشيخ الصالح العابد الناسك شرف الدين أبي عمران موسى بن مُرّ بن رماح الغزولي الحنفي الدمشقي الزُبَيْدي منسوب إلى القبيلة المعروفة رحمه الله، وقد قَدِمَ علينا ديارنا إلى تعز المحروس من البلاد اليمنية في خامس ربيع الأول سنة 795 وتم ذلك في ثلاثة وعشرين مجلساً آخرُها يوم الخميس ثاني وعشرين شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، ومولده في سنة 741 وتوفي عندنا في تعز المحروس في المدرسة المجاهدية في ليلة الأحد من شهر جمادى الأولى سنة 795 وكأنه لم يصل إلينا إلا لنأخذ طريقَ
الحجاز عنه محققة فلله الحمد. ووالدي رحمه الله وآخرون قالوا: أخبرنا بالجامع الصحيح المذكور الذي هو أصح الكُتُبِ بعدَ القرآن العزيز عند جماهير العلماء الشيخ الصالحُ الكبيرُ ملحق الأصاغر بالأكابر والأحفاد بالأجداد بعد أن استدعي به إلى مدينة دمشق المحروسة أبو العباس أحمد ابن أبي طالب نعمة بن أبي النِعَم بن علي بن حسن بن بيان عُرف بابن الشِّحِنة الحجار وهو المُعَمّرُ الذي أجمع علماءُ مصر والشام على الأخذ عنه لقرب سنده، وعلوِّ مشايخه، ومولده سنة 624، وفاته في خامس وعشرين صفر من سنة 730 وبلغ عمره 106 رحمه الله تعالى، قال: أنا الشيخ الصالح الحسين بن المبارك بن عمران بن المُسلم الزَبيدي بفتح الزاي، ومات في صفر سنة 631، ومولده في سنة 545، قال: أنا الشيخ الصالح أبو الوقت عبد الأول بن علي بن شعيب الصوفي الهروي السِّجزي ولد في سابع ذي القعدة في سنة 458 وماتت في ذي القعدة سنة 553 قال: أنا الشيخ الفقيه أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الداوودي الشافعي، ولد في شهر ربيع الآخر سنة 364. ومات في شوال سنة 469 قال: أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه الحموي السرخَسِي، ومولده في سنة 293 ومات في ذي القعدة (¬1) لليلتين بقيتا منه سنة 381 قال: أنا الشيخ الصالح محمد بن يوسف بن مطر الفربري بفَربرْ، وولد في سنة 231 ومات سنة 320 قال: أنا الشيخ الإمامُ الحافظُ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجُعفي مولاهم، ومولده بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة 194، وتوفي ¬
في ليلة السبت هي ليلة الفطر بعدَ صلاة العشاء وذلك سنة 256. قلت: فبيني وبين البخاري سبعة رجال وللمجاز له ثمانية رجال، وهذا غايةُ العلو في وقتنا، قال مشايخنا: ليس على وجه الأرض أعلى من هذا السند، وإنما كان كذلك، لأن كلاً من المشايخ عُمر مائة أو قريباً منها أو زيادة عليها. قلتُ (¬1): هو كما قال النفيسُ العلوي فإني قد وقفت على إجازه الفقيه العالم المحدث شهاب الدين أحمد بن سليمان الأوزري الصَعدي للإمام الأعظم أمير المؤمنين الناصر لدين الله محمد بن علي بن محمد بن علي ابن منصور بن يحيى بن منصور بن المفضَّل كتب الحديث فوجدتُ هذه الإجازة أعلى إسناداً وأقدم ميلاداً، فإن بينَ الفقيه الأوزري وبين البخاري أحدَ عشرَ رجلاً، وللمجاز له اثنى عشر رجلاً، وطريق الفقيه أحمد الأوزري -نفع الله به- طريق الفقهاء بني مُطَيْر، وقد حققتُ ذلك، فوجدته كذلك، وكذلك وقفت على إجازة الأوزري -رحمه الله- لحي السيد العلامة جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم الهادوي رحمه الله تعالى، فوجدتُ بينَ الفقيه الأوزري وبين البخاري أحد عشر رجلاً، وبين المجاز له وبين البخاري اثني عشر رجلاً وهذا سندٌ صحيح منه إلى البخاري والله أعلم. قال: ولي في الحجاز مشايخ كثيرون. وأجزته أيضاً رواية صحيح مسلم بن الحجّاج بن مسلم بن الورد ابن شاهنشاه القشيري، ورواية سنن الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني، ورواية جامع الإمام أبي عيسى بن محمد بن عيسى بن سورة ¬
ابن سلمة من الضحاك الترمذي، وكتابه الشمائل، ورواية سنن الإمام أبي عبد الرحمن النسائي، وصحيح أبي حاتِم بن حبان، وابن خُزيمة، ومسند الشافعي، وأبي حنيفة، وغير ذلك. وسمع من لفظي " الأربعين " للإمام الحافظ القطب أبي زكريا يحيى بن شرف النووي في مجلس واحد وأجزته بحق سماعه لذلك من لفظه هو وصاحبه صالح المذكور بروايتي لها قراءة على شيخي الإمام موفق الدين علي بن أبي بكر بن محمد بن شداد بروايته عن جبريل عن الحريري عن المؤلف، وأجزت الشريف المذكور رواية جميع ما أرويه من سائر العلوم الدينية، فليروِ ذلك عني موفقاً مسدداً بتاريخ يوم الثلاثاء ثامن شهر ذي القعدة سنة 806 وكان ذلك في منزلي من مدينة تعز المحروس حرسها الله تعالى. وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى سليمان بن إبراهيم بن عمر بن علي العلوي الحنفي خادم السنة النبوية، لطف الله به وغفر له وتاب عليه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وحسبُنا اللهُ ونعم الوكيلُ. رحلته إلى مكة المشرفة كما رحل إلى مكة المكرمة مرتين، إحداهما سنة 807 هـ، فأخذ فيها على قاضي القضاة محمد بن عبد الله بن ظهيرة الشافعي، فلما رأى مكانته العلمية وجلال قدره، وعِظَمَ محله، قال له: ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى الإمام الشافعي، فأجاب عليه: وقال: سبحان الله أيها القاضي إنه لو كان يجوز لي التقليد، لم أعدل عن تقليد الإمام القاسم بن إبراهيم أو حفيده الهادي. وأخذ في مكة عن الشيخ نجم الدين محمد بن أبي الخير القُرَشي
الشافعي، والشيخ زين الدين محمد بن أحمد الطبري، والشيخ محمد بن أحمد بن إبراهيم المعروف بأبي اليُمن الشافعي، والشيخ علي بن مسعود ابن علي بن عبد المعطي الأنصاري المالكي، والشيخ المُعمَّر أبي الخير بن الحسين بن الزين بن محمد بن محمد القطب القسطلاني المكي، والشيخ علي بن أحمد بن سلامة السلمي المكي الشافعي، وجار الله بن صالح الشيباني، والشريف أحمد بن علي الحُسَيني الشهير بالفاسي، فهؤلاء الثمانية وعلى رأسها ابن ظهيرة كانوا أشهر علماء مكة في ذلك الوقت، وقد أجازوا للسيد محمد كل ما يجوز لهم روايتُهُ من كتب الفقه والحديث والتفسير والسير واللغة والعربية والمعاني والبيان والأصول الفقهية، وكتب الكلام على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وذلك بشروط الإجازات المعروفة المشهورة (¬1) وكانت هذه الإجازات في مكة المشرفة في أيام الحج المفضلة سنة 807 هـ. ولما انقطع الإمام محمد بنُ إبراهيم الوزير للكتاب والسنة، واشتغل بعلومهما، وامتلأت جوانِحُه بحُبِّهما أنشأ سنة 808 قصيدة دالية طويلة يفخر ويعتز بتمسكه بهما وحدَهما، وبحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ظَلت عَواذِلُه تَروح وَتَغْتدي ... وَتعيد تعنِيفَ المُحِبِّ وتَبْتَدِي واللوْمُ لَا يَثني المحِبَّ عَنِ الهَوَى ... ويَزيدُ تَوليعَ الفُؤَادِ المُعمَدِ إنَّ المُحِبَّ عن المَلامَةِ في الهوَى ... في شَاغِل لولا اللوائِمُ يَغْتَدي ألهى المُحِبَّ عن الملام وَصَدِّه ... بينَ الجوَانِحِ لوعَةٌ لم تَبْردِ وَخُفوقُ قلْبٍ لا يقرُّ قَرَارُه ... وسُفُوحُ دمعٍ صَوْبُه لَمْ يَجْمَدِ ¬
قُلْ للعذُولِ: أفِقْ فلسْت بمُنتَهٍ ... عَنْ حُبِّ أكمَل مَنْ تحلى فابعَدِ لو لُمتنِي في الغَوْر لَمْ أشتقْ إلى ... شطيهِ أو في نَجْدِهِمْ لَم أُنجِدِ أوْ كان لَوْمُكَ في التصَابِي مَا صَبا ... قَلبي، ولا غلبَ الغَرَام تجلدِي أو لمْتَنِي في اللهو لَم أطْرب إلى ... نغمِ الغناءِ مِن الغَرِيضِ ومَعْبدِ أوْ لُمْتني في المَال لَم يَسْتَهْوني ... نظَرُ اللُّجَيْنِ ؤلاَ نُضَار العسْجَد أوْ لُمْتنِي فِي غَيْرِ حُبَّ مُحَمدٍ ... لَحَسبْتَ أنكَ بالنصِيحَة مُرْشِدِي أو لَو أريت مَحَبة مثلاً لَهُ ... لِلمُهتدِي والمُرْتَجي والمُجْتدي يهْديه أوْ يُجْديه أو يُغنِيه عَنْ ... نُور الرسُولِ الصادعِ المُتوقدِ هَيهات ما ابْتهج الوُجودُ بِمثلِهِ ... فَدعِ اللجاجَ فَمِثلُه لمْ يُوجَدِ يَا صَاحبى على الصبابَة في الهَوى ... منْ مِنْكُمَا في حُب أحْمد مُسْعِدِي؟ حَسبِي بأني قدْ شُهِرتُ بحُبِّهِ ... شَرَفاً بِبُرْدَتِه الجَميلة أرتدِي لِي باسْمِه وَبِحُبهِ وبقُرْبِهِ ... ذِمَمٌ عظَامٌ قَدْ شَدَدْتُ بها يدي وَمحمد أوْفى الخَلائقِ ذمةً ... فلْتَبْلُغَنَّ بِي الأمانِي في غَدِ يا قلْبُ لا تَسْتبعِدَنَّ لقَاءَه ... ثِقْ باللقَاءِ وبالْوَفَا فكَأنْ قدِ يا حَبذَا يَوْمُ القيامَة شُهْرتي ... بيْنَ الخلائق في المَقَام الأحْمَدِ بِمَحَبتي سُنَنَ الرسُولِ وإنَّني ... فيهَا عَصَيْتُ مُعَنِّفِي ومُفَندي وَتركْت فيهَا جِيرَتِي وَعشيرَتي ... ومَحَل أترَابِي وَموضِع مولدِي فَلأَشكُوَن علَيه شكوى موجِعٍ ... مُتَظلًمٍ مُتَجرم مسْتنْجِدِ مما لقيتُ مِنَ المتاعِبِ والأذَى ... في حبه من ظَالِمِي وحُسَّدي وأقولُ: أنْجدْ صادِقاً في حُبه ... منْ يُنجِدُ المَظلُومَ إن لم يُنجدِ؟ إني أحِب محَمداً فَوْق الورى ... وَبِهِ كَمَا فَعلَ الأوائِلُ أقتَدِي فقَدْ انْقَضَتْ خَيْرُ القُرونِ وَلمْ يَكنْ ... فِيهِم بغَيْرِ مُحَمد منْ يهْتدي وأُحِب آلَ مُحَمدٍ نَفسي الفِدى ... لهُم فما أحدٌ كآل مُحمَّدِ
همْ بابُ حِطة والسفِينَةُ والهُدَى ... فِيهم، وهم للظالِمِينَ بِمَرْصدِ وَهم النجومُ لِخير مُتعبدِ ... وهُمُ الرجُومُ لكل مَنْ لم يعبُدِ وهمُ الأمانُ لِكُل مَنْ تَحْت السمَا ... وَجزَاءُ أحْمدَ ودهُمْ فتوددِ والقَوْم والقرآنُ فاعرِفْ فضْلَهم ... ثَقَلانِ للثَّقلين نصُّ مُحَمدِ وَلَهُم فَضائلُ لست أُحصِي عَدهَا ... منْ رَام عدَّ الشُّهبِ لم تَتعَدد وَكَفى لَهُم شَرَفاً وَمَجْدَاً باذِخَاً ... شرعُ الصلاةِ لَهُم بكلِّ تشُّهدِ سَنوا متَاَبعةَ النَّبي، وَلم يَكنْ ... لَهُمُ غرَام بِالمَذاهِبِ عَنْ يَدِ قَدْ خَالَفُوا آباءهُمْ جهَراً وَلم ... يتقَيَّدُوا إلا بسنة أحْمَد أو لَم يَشِعْ مَا بَين آلِ مُحمدٍ ... ذكرُ الخِلاف لِمُغْوِرِين ومُنْجِدِ قَدْ خَالَفَ الهادي بنوهُ لصلْبهِ ... مَع قربهم كمُحَمدٍ وكأحمَد والسيدَانِ على اتباعِ نصُوصِهِ ... قدْ خَالَفا ما نصَّه بتعَمدِ بَلْ حرم الجُمْهُورُ مِنْ سادَاتهمْ ... تَقلِيد موْتَاهُم بِغَيْر تَردُّد ذَا مَذْهَبُ الجمْهور فيما قَالَه ... يَحيى بنُ حَمزة وهوَ أوثقُ مُسندِ وكذا ابن زيدٍ قال ذَاك وغيْره ... وهُو اختِيارُ الناطق المُتَشَددِ واسْأل كتاب العِقدِ (¬1) عما قُلت والـ ... ـمجزي (¬2) وسائِلْ منْ بَدَا لَكَ وَانشُدِ وانظُرْ إلى إنصَاف أهل البَيتِ لَم ... يَغْلُوا وَلَم يتعَصبُوا في مَقصدِ بَلْ خالَفُوا آباءَهُمْ وَتَبَينوا ... وَجْه الصوابِ تَحَرياً لِلأرشَدِ وَأنا اقتَدَيتُ بهم فأنكر قُدْوتِي ... من طُغمة (¬3) الغوغاءِ كُل مُبلَّد قَالوا: نقَلدُهمْ وإنْ مَاتُوا عَلَى ... رأي المؤيدِ ذِي العُلُوم الأوحدِ قلنا لهم: لَسنا نَعيبُ عَلَيْكُمُ ... مَنْ قلَّدَ الأموَاتَ فَهْوَ مؤَيَّدُ ¬
همْ قَلدُوهمْ واقتَديتُ بهِمْ وَكَمْ ... بَينَ المُقَلد فِي الهَوَى والمُقتدِي؟ مَنْ قَلَّدَ النُّعمانَ أمْسَى شَارباً ... لمُثَلَّثٍ نَجِسٍ خَبِيثٍ مُزبِدِ وَلَوِ اقْتَدَى بأبي حنيفَةَ لَم يكُن ... إلاَّ إماماً خاشعاً في المَسْجِدِ ومَنِ اهتدَى فَقدِ اهْتدَى نصاً وإجـ ... ـماعاً وليسَ كذاك من لم يَقْتَدِ والكُل مُخْتَارٌ لأِقوَم منهَجٍ ... فِيمَا تَحراة وأعذب مورِد والكُلُّ إخْوانٌ وَدِينٌ وَاحِدٌ ... كُلٌّ مُصِيب في الفُرُوع وَمُهتَدِي هذي الفرُوع وفي الأصُولِ عَقِيدتي ... مَا لا يُخَالِفُ فيهِ كُلُّ مُوَحِّدِ دِيني كأهلِ البيت ديناً قيماً ... متَنَزَّهاً عَنْ كلِّ مُعتَقدٍ رَدِي لكننِي أرضى العتِيقَ (¬1) وأحتمي ... مِن كلِّ قولٍ حَادِثٍ متَجَددِ إنَّ السَّلامةَ في العَتِيقِ وإنَّهُ ... كَالشمسِ واضِحةً لِعَينِ المُهتدِي وَيشُكُّ فيه ذوو الجهالَةِ والعَمَى ... والشمسُ لا تَبدُو لِعَينِ الأرمَدِ ويصد عَنهُ منْ يصعد (¬2) فِكرَهُ ... في الغَامِضاتِ وعِلمِ كُلِّ مُسوَّدِ ما كان للإسلام وقت مُحَمدٍ ... دَرْس سِوَى القُرآن لِلمُتَعَبِّدِ وَدَعَائِمُ الإسلام كانَت وَقته ... خَمساً يُعَدِّدُها لِكُلِّ مُشهدِ فَلأيِّ شيءٍ كان من لم يَعْتَمِدْ ... دَرْسَ الأدِلَّة كافِراً كَالمُلحِدِ مَا عِندهمْ فِي كلِّ برٍ عَابِدٍ ... مُتألِّهٍ متَفَرِّدٍ متجَرِّدِ لا يعرفُ الأعرَاض لا لَفظاً ولا ... مَعنى يُكفِّرُ كالذي لَم يسْجُدِ؟ كلاَّ، وَرَبِّ مُحمد مَا دِينهُ ... يَقْضِي بِكُفْر التائِب المتَهجِّدِ إلا الذي تَركَ الشرَائِع جَاحِداً ... لِلدِّينِ كالمُرْتَدِّ والمُتَهَوِّدِ قَالوا: الأدِلَّة لَيس تخْفَى جُمْلَةً ... قُلْنَا لَهُم: ذا قَوْل مَنْ لَم يَنْقُدِ ¬
إنْ كانَ لِلإسْلام عَشرُ دَعَائِمٍ ... فانقُصْ مِنَ العَشرِ الدَّعَائِم أوْ زدِ تَجِدِ الزِّيَادَة في الدَّلِيلِ مُحَالَةً ... والنَّقص لِلبُرهَانِ أعظمُ مُفسِدِ يا لائِمي في مذْهَبي باللهِ قُلْ ... لِم زِدتَ فِي الإسلام مَا لَم يُعهَدِ ما لِلسنينَ قَضَت ولَم ينْطِق بِذَا ... خيرُ البَرِيِّةِ مَرةً فَي مَشهَدِ؟ أوَ لَم يكنْ أوْلَى بِتَبيينِ الهُدَى ... وَالمُشكِلاتِ ِلأَحْمَرٍ ولأسْودِ مَا كان أحْمَدُ في المِرا مُتَدَرِّباً ... كلاَّ، وَلا للمُشكِلاتِ بِمُورِدِ بَلْ كَان يَأمُرُ بِالجِهَادِ لكُلِّ مَنْ ... جَحَدَ الدليل وكُلِّ بَاغٍ مُعْتدِ حتى اسْتَقَامَ الدِّينُ وانتعَشَ الهُدَى ... بالمَشْرَفِيةِ والقَنَا المتَقَصدِ قَامَت شَرِيعَتُهُ لِكلِّ مُجَرّبٍ ... ماضِي المَضارِب لا يَكِلُّ مُجَلّدِ وكذَاكَ أهلُ البيت مَا زَالُوا علَى ... منهَاجِه مِنْ قَائِمٍ أوْ سيِّدِ واقْرَ المُهَذبَ تَلْقَ ما أطْلَقتُهُ ... قَدْ نَصَّهُ المَنصُورُ (¬1) غَيْرَ مُقَيَّدِ وَاقْرَأ كِتَابَ الجَامع الكَافِي (¬2) عَلَى ... نَهْجِ الأوائِل إنَّه يُروِي الصَّدِي إذ لَم يَكنْ سَلفٌ سِوَى أرْبابِهِ ... لِلمُدَّعِي لِولاَءِ عِتْرةِ أحْمَدِ وَكذلِكَ الرسِيُّ دَانَ وإنَّهُ ... هُو فِي نُجُومِ الآل مِثلُ الفَرْقَدِ وَكذَا المُؤَيَّدُ (¬3) قال ذَاك مُصَرِّحاً ... وَأرى ابْنَ حمْزَةَ فيهِ لَمْ يَتَردَّدِ وَكذاكَ يحيى (¬4) نَجْمُ آلِ مُفَضَّلِ ... أعني ابْنَ منْضورٍ كَرِيم المَحْتدِ قدْ قَال ذاكَ ولمْ يَزلْ بلزُومهِ ... يُوصِي، وَمِن شِعْرٍ لَهُ في المَقْصِدِ يَكْفِيكَ مِنْ جِهَةِ العقِيدَةِ مُسْلِمٌ ... وَمن الإضافةِ حَيْدَرِيٌّ أحْمَدِي وكَذاكَ شَيَّدَ ذَا سُلالَةُ قَاسِمِ ... يحيى الأخير الحِبْرُ أي مُشَيّدِ وكذا إبنُ زيدٍ (¬5) في المَحَجَّةِ نَصُّه ... رأسُ التشيعِ قدوةُ المسترشِدِ ¬
وإمام (¬1) بغداد تَوَدَّدَ أَنَّهُ ... لَم يَعرِفِ التدقِيقَ أيَّ تَوَدُّدِ وابنُ الخَطِيب (¬2) وَحُجَّة الإسلامِ (¬3) قَدْ ... خَمَدَا وَنَارُ ذَكاهُمَا لَمْ تَخْمُدِ تَابَا وَلكنْ بَعدَ أَن سَلاَّ عَلَى الـ ... إسلامِ سيفاً مَا أرَاهُ يُغْمَدِ وَبِذَا اكْتَفَى آلُ الرسُولِ ومَنْ ثَوَى ... عنْد الحَجونِ وفي بقِيعِ الغَرْقَدِ وَكذَا الصحَابَةُ والذِينَ يَلُونَهُمْ ... سَلْ كُل تارِيخٍ بذَاكَ وَمُسْنَدِ وَكذَلِكَ الفقَهَاءُ قالوا وَامتحِنْ ... قَوْلي وسَل كُتُبَ الترَاجِمِ وانْقُدِ مَا كنْتُ بِدْعاً في الذِي قَدْ قُلتُهُ ... يا لائمي فَدَعِ الغَوَاية تَرْشُدِ وإذَا أبَيْتَ وكُنتَ لا تَدري فقُمْ ... عنْ مَجْلِسِ العُلَمَا وَقِفْ بِالمِربَدِ فَلأجْهَرَنَّ بِما عَلِمتُ فإنْ أعِشْ ... أنصَحْ وإن أقضِي فغَيرُ مُخَلَّدِ هذَا ومَا اختَرْت العتيق لِحيرتي ... في الغَامِضَاتِ، ولا لِفَرْطِ تَبلُّدِ فأنَا الذِي أفْنَيتُ شرْخَ شَبيبَتِي ... في بَحثِ كُلِّ مُحَقق وَمُجَوِّدِ والإفتِخَارُ مَذَمَّةٌ منِّي فسَلْ ... عَنِي المَشَايخَ فَالمَشَايِخُ شُهَّدِي وإذَا أتتْكَ مَذمتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَافهم فَتِلكَ كنَايَةُ عَنْ سُؤدُدي وإذَا شككتَ بأنَّ تِلك فَضِيلةٌ ... فاسْتَقْرِ -وَيْحَكَ- وَصفَ كُلِّ مُحَسَّدِ فلِحُسَّدِي مَا في الضَّمَائِر مِنهُمُ ... أبَداً وَلي مَا هُمْ عَلَيهِ حُسَّدِي وقد انتقده شيخُه علي بن محمد بن أبي القاسم على ما ورد فيها متحاملاً عليه، ومشنِّعاً به، فَرَدَّ عليه الهادي بن إبراهيم الوزير مدافعاً ومحتملاً ومتأولاً لأخيه، ومصححاً لشيخه أوهامه وظنونَه في أخيه، وسمى رده " الجواب الناطق بالحق اليقين الشافي لصدور المتقين " وقال بعدَ الخطبة: وبعد: فإني لما وقفتُ على ما ذكره السيدُ الإمام العلامة جمالُ ¬
الإسلام، رباني العِترة الكرام، وسلالة الأئمة الأعلام عليُّ بن محمد بن أبي القاسم، أبقاه الله غُرَّةً شادِخة في الأنام، وذِروة باذِخَةً على مرور الأيام في جوابه على تلميذه وولدِه الصَّنو محمد بنِ إبراهيم (الوزير) في نقضه لما انتزعه مِن قصيدته التي أشار فيها إلى عقيدته، وجدته -أيده الله- قد نسب إلى محمد في بعض ما ذكره ما لم يَقُلْه، وَفَهِمَ من أبياته ما لم يقصده، وقد أطلق المحققون من الأصوليين أن الفهم شرطُ التكليف، وإليه ذهب بعضُ القائلين بجواز التكليف بالمستحيل، وقد نصَّ على ذلك ابن الحاجب في " منتهى السول " فكيف لا يشترط ذلك في جواز كمال التكليف، ومن حق الجواب أن يكون لِما ورد عليه مطابقاً، ولما سيق من أجله موافقاً، وأن لا يؤاخذ بمفهوم الخطاب، ولا يقطع بوهمٍ يُخالِفُ الصواب، فإن مِن حق الناقض لكلام غيرِه أن يفهمه أولاً، ويعرف ما قصد به ثانياً، ويتحقق معنى مقالته، ويتبين فحوى عبارته، فأما لو جمَعَ لخصمه بَيْنَ عدم الفهم لقصده، والمؤاخذة له بظاهر قوله، كان كمن رمى فأشوى، وخَبَطَ خَبْطَ عشوا. ثم إن نَسَب إليه قولاً لم يعرفه، وحمَّله ذنباً لم يقترِفْه، كان ذلك زيادةً في الإقصا، وخلافاً لِما بِهِ الله تعالى وَصَّى، قال تعالى: {وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا}، وقال تعالى: {قُلْ أمَرَ ربِّي بالقِسْطِ}، وقال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمِنكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقوى} إلى أمثالها من الآيات. وكانت قصيدة محمد قد اشتملت على أشياء أجبتها، وكلامات نقضتها بكلام جُمْلي (¬1) لأن الشعر لا يحتمل أكثر من ذلك. ولما عدل السيد أيده الله إلى نقضها بكلامه، وأفاض عليها سَجْلا من علمه، وكان ¬
في شيء من ذلك ما ذكرته، رأيت أن أذكر ما ذكره السيد العلامة جمال الدين من الأبيات وأعقبها بما نقضها به أيده الله من الإشارات، ثم أذكر من كلام محمد ما يشهد له بالنزاهة عن القول الباطل، وأرسم من الوساطة بالحق ما يميز بين الحالي والعاطل، وأحمل كلام السيد جمال الدين أيَّده الله على السلامة في جميع أحواله وأنظم ما صدر منه في سلك الفوائد المنتزعة من علومه وأقواله غير أن الأوهام قد تقع، وماء اليقين لصداء النفوس ينقع، والله الهادي إلى الصواب، والموفق لإصابة الحق في المبتدأ والجواب. ومن أمثلة اعتراضات علي بن محمد بن أبي القاسم على الإمام محمد بن إبراهيم الوزير ما رواه الهادي بن إبراهيم بقوله: قال السيد جمال الدين: ثم إنه قال -يعني محمداً- هو على دين أهل البيت، وأهل البيت ينزهون الله تعالى من شُبه المحدثات ومن قبائح العباد ومن إخلاف الوعيد ويرون أن من خالفهم في هذه المسائل ضال مخطىء، ثم اختلفوا في كفره فأكثرهم كَفَّره، ومنهم من توقف في كفره، وقطع بخطئه فإذا كان هذا اعتقادَهم وصاحبُ هذا الشعر يزعم أنه يُوافقهم، فكيف يقدم رواية هؤلاء الذين هم فساقُ تأويل، أو كفار تأويل على رواية أهل التوحيد والعدل (¬1)، ولم يقل أحد من هذه الأمة بهذا، والمخالف لنا منهم يقول: إنهم أهلُ الحق، ونحن على الباطل فلذلك قدم روايتهم. واعلم أنه لا بد من أحد أمرين: إما أن تُرَد رواية هؤلاء المبتدعين القائلين بالجبر والتشبيه عند معارضة أهل التوحيد والعدل، وإما أن نقول: بأن الحق معهم، والنافي للتشبيه والجبر هو المبتدع. الجواب: أن هذه الجملة التي أوردها السيد جمال الدين مفتقرة إلى ¬
إقامة البرهان، وإلا كانت دعوى بغير بيان، لأنه نسب إلى محمدٍ جميع أقاويل الجبرية، وعزا إليه القول بمذاهبهم الفرية، وعدد منها ما أعتقد براءة محمد منه جملة وتفصيلاً وتحقيقاًً وتأويلاً، فحال السيد في هذه المقالات التي ذكرها وإلى محمد نسبها، إما أن يكون علمها من محمد علماً يقيناً، أو يكون وهمها فيها ظناً وتخميناً، فإن كان الأول أظهر ما عنده في ذلك حتى يعرف الصحيح من السقيم، ويتضح المعوج من المستقيم. فأما مجرد البهت الصراح، فلا يليق بذوي الصلاح. وقول السيد: وصاحب هذا الشعر يزعم أنه يُوافقهم، فكيف يقدم رواية فساق التأويل وكفار التأويل على رواية أهل التوحيد والتعديل؟ قد تقدم الكلام في جواز رواية فاسق التأويل وكافره بما لا فائدة في إعادته، وأما أن محمداً يقدمها على رواية أهل التوحيد والعدل، فليس الأمر كما ذكره السيد جمال الدين، بل ما من مسألة أخذ بها محمد في الفروع إلاَّ ولها قائل من أهل البيت عليهم السلام، وجملتها فيما علمت ست مسائل: أولها: التوجه بعد التكبير قال به المؤيد في جماعة من أهل البيت، وفيهم يحيى بن حمزة. وثانيها: تربيع التكبير في أول الأذان قال به طائفة من أئمة العترة، وهم زيد بن علي، والنفس الزكية، والباقر، والصادق في رواية، وأحمد بن عيسى، والناصر الكبير، والمؤيد بالله، ويحيى بن حمزة. وثالثها: الإسرار ببسم الله الرحمن الرحيم في الجهريات، فعند الناصر والمؤيد بالله أن الجهر والمخافتة هيئة لا تفسد الصلاة، وقال زيد ابن علي وأبو عبد الله الداعي: إن الجهر سنة يوجب تركه سجود السَّهو،
وبه قال المنصور بالله في من ترك الجهر في الصلاة في القراءة المجهور بها قال: أكثر ما يجب عندنا سجود السهو. قال المؤيد بالله: يجب الجهر ببسم الله الرَّحمن الرحيم في الصلاه الجهرية فإن ترك الجهر، لم تبطل صلاته. ورابعها: التشهد المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو " التحيات لله والصلوات الطيبات " الخ. وهي رواية المنتخب، وبه قال المؤيد بالله وغيره من أهل البيت عليهم السلام، وقال القاسم والمؤيد بالله: أي تشهد يتشهد به المصلي مما ورد به الأثر، فهو جائز، وهي تشهدات أربعة كلها مأثورة. وخامسها: القنوت بعد القراءة وقبل الركوع، وبهذا قال زيد بن علي، وأحمد بن عيسى والباقّر وغيرهم وهو اختيار الإمام يحيى بن حمزه. وسادسها: وضع اليد على اليد قوق السُّرَة، ومذهب الشافعي على الصدر. فهذه جملة المسائل التي ذكر أن محمداً خالف بها إجماع أهل البيت عليهم السلام، وأنه قدم فيها رواية أهل التشبيه والجبر على رواية أهل التوحيد والعدل، وما من مسألة من هذه المسائل إلاَّ وقد قال بها من ذكرناه من عيون أئمه الزيدية والعترة النبوية. وأما غيرها من مسائل الاعتقاد فما علمت أن محمداً خالف فيها مذهب الزيدية وأئمة العترة النبوية. كما أجاب على أخيه محمد بقصيدة مماثلة في الوزن والروي يثني عليه، ويحثه على الرجوع إلى المذهب الزيدي والتمسك به وهذا نصها: عَجِلَتْ عَوَاذِلُه وَلَم تَتَأيِّد ... وَجَنَتْ عَلَيْهِ جِنَايَة المُتَعَمِّدِ
ما سُرْعَةُ العَذْلِ المُعوَّج نَهْجُه ... مِنْ سُنة العدْلِ القَوِيم الموْرِد شيآن ما أعيا الأنام سواهما ... لوم البري وتهمة المتودد وأخُو الهُدَى مسْدُودَةٌ أسْماعُهُ ... لا يَرْعوي لمقامِ كلِّ مُسَددِ سدِّدْ كلامك في إصابةِ رَأيِهِ ... أو لا يقع في مَسْمَع مُتَبَدِّد يا عاذلي فِي حُبِّ آل مُحَمَّدٍ ... دَعْ ما تَقولُ فأنت غيْرُ مُحمدِ لو كُنْتَ تعْذلُ في مَحَبَّةِ غَيْرهِمْ ... لَعَلِمْتُ أنكَ بالنصيحَةِ مُرْشِدِي أأحبهم وأُحِبَّ غَيْرَ طَرِيقهِم ... هذا المُحالُ منَ المقَالِ الأبعد منْ مال عنْهُم لم يَكن مِنْهُم، وسلْ ... أَهل المعَارف والطريقِ الأرشَد أَنَا منْهُم في فِعْلِهمْ وَمقالِهِمْ ... يَا شَاهدَ اللهِ المُهيْمِن فَاشْهدِ حبي لَهُم فَرْضٌ وحُبي جدّهُم ... مَجْد وَصَلْتُ فريضَتي بِتَهجْدِ لا رَيْبَ في حُبِّ النبي لِمُسْلِمٍ ... إذْ كانَ ذلِك أصْل دين محَمدِ فاخصص بحبك آله متقربا ... بهم إليه وحبهم فتزود لم يسأل الرحمن إلا وِدَّهم ... أجراً على الإبلاغ منه لأحمد ما ذاكَ إلا أن حُبَّ مُحَمَّدِ ... شرْع لَه في الناسكِ المُتعبدِ جَمَعَ الطوائِفَ حُبه وَتَفرَّقوا ... في حُبِّ عتْرته بِغيْر تَرَددِ فاجْعَل وِدادَك حُبَّ ما افترقُوا تُصِبْ ... نَهْجاً مُعَبدةً بغيرِ مُعبدِ ومُحَمَّد وافي إليَّ نظَامَهُ ... كالدْرِ في عُنُق الغَزَال الأغْيَدِ رتب محاسنه بِرِقَّه شوقِ منْ ... أهداه في طَلَب الحدِيث المُسْندِ وأفادَ عين كماله وجمالِه ... مَرْهى، ولما تكتحل بالإثمد ما كانَ أحوج ذا الكمال إلى الذي ... فيه من العيب اتقاء الحُسَّدِ لما تَنَحَّى عن محجَّة أهلِه ... ومشى على الطُّرقات مشي الأصْيدِ أأخي وقُوَّة ناظرِي ومُشارِكي ... في أصله ومحله والمَولِد أَخَوَانِ إلا أنَّ هذا قد عَتَا ... كبراً وهذا في الشباب الأمْلَدِ
ولد صغيرٌ في حَدَاثَةِ سِنِّه ... وأخ كبيرٌ في العلا والسؤْدُدِ أربَى عليَّ براعةً وبلاغةً ... وأكل مِذودُه المفوَّه مذودي قد زادني علماً فتلكَ وسِيلَةٌ ... لِلرَّاغبين فإنْ تَجِدهَا فَاْزدد وأفادني مِنْ علمه وبيانه ... حُسنَ الإفادةِ فاستفدْه وأسنِدِ أبنيَّ إن ناديتُه لِتلطفٍ ... وأخَيَّ إن ناجيتُه لِتَجَلُّدِ مالي أراك وأنتَ صفوةُ سادةٍ ... طابت شمائلهم لطيب المحْتدِ تمتازُ عنهم في مآخذ علمهم ... وهُمُ الذين علومُهم تُروي الصَّدي اخذُوا مباني علمهم وأصولَه ... عَنْ أهلهم مِن سيدٍ عن سيِّد سند عن الهادي وعن آبائه ... لا عن كلام مُسَدَّدٍ بنِ مُسَرهد سند عن الآباء والأجدداد في ... أحكامهم وفنونهم والمفرد وكذاك في التجريد والتحرير والتـ ... ـعليق والمجموع ثُم المرشدِ لهم من التصنيف ألفُ مصنّفٍ ... ما ببنَ علم سابق ومجدّد قد قلتَ في الأبيات قولاً صادقا ... ولقد صدقتَ وكنت غيرَ مُفَندِ هُمْ باب حطةَ والسفينةُ والهدى ... فيهم وهُمْ للظالمين بمرصدِ وهم الأمان لكلِّ من تحت السما ... وجزاء أحمد ودُهُم فَتَوَدَّدِ والقوم والقرآن فاعْرِفْ قدرهُم ... ثقلانِ للثقلين نص محمد وَكَفَى لَهُم شرفاً ومجداً باذِخاً ... فرضُ الصلاة لهم بكل تَشهدِ هذا مقالُك في القصيدِ وإنَّه ... محْضُ الصوابِ وعِصمة المسترشِد فأتِم قولَك بالمصيرِ إليهم ... في كُلِّ قولٍ يا محمد تهتدي فهُم الأمان كما ذكرت ونهجُهم ... نهحُ البُلوغِ إلى تمام المَقصِدِ مالي أراك تقولُ فيهم هكذا ... وبغيرِ مذهبهم تدينُ وتقتدي أو ليس هم حجج الإله على الورى ... والفلك في بحر الضلالِ المزبد ما كان أحسن حسن فهمك ترتقي ... درجاتِ علمهم إلى المتصعِّد
حتى إذا استوريت زندَ علومِهم ... وأردتَ تزند ما بدا لكَ فازند بَعْدَ النهاية في العلوم ودرسها ... وإحاطةِ المتوغل المتجرد ولأنت فرع باسق مِن دوحةٍ ... شَرُفَتْ بحيدرة الوصيِّ وأحمد متردد بينَ النبوة والهدى ... مِن أهله ناهيك من متردد فأعِد هداك اللهُ نظرة وامقٍ ... في علمهم تلقَ الرشادَ لمرشد وتوسَّمِ العلمَ الذي في كتبهم ... تجدِ الدراية والهدايةَ عن يد وذكرت سنة أحمد وحديثه ... يا حبّذا سننُ النبي محمد أورد مسائلها ورد في مائها ... يا حبذاك لِوارد ولمُورِد لسنا نقولُ: بأن سنة أحمدٍ ... متروكةٌ وحديثه لم يُوجَدِ بلْ سُنَّةُ المختار معمول بها ... وحديثه شف النضار المسجدِ ومقالُهم في سنة وجماعة ... قول رديء ليس بالمتمخد سبوا الوصي وأظهروها سنةً ... لبني الدُنا من مغورين ومنجد وكذاك سموْا حين صالح شَبَّرَ ... ابنَ التي عُرِفَت بأكل الأكبُدِ عامَ الجماعة واستمروا هكذا ... حتى تملك عصره المستنجد أعني به عمراً فأنكر بدعةً ... ونظيرُه في عدله لم يُوجَدِ ونقول في كتب الحديث محاسن ... مِن سنة المختار لما نقصد لكن نُرَجِّح ما رواه أهلُنا ... سفنُ النجاة وأهلُ ذاك المسجد ونقول: مذهبهم أصحُّ رواية ... وأمتّ في متن الحديث المسند فبِهِم على كُل الأكابر نبتدي ... وإليهم أبداً نروح ونغتدي وَبهديهم في كل سمتٍ نهتدي ... وبقولهم في كل أمرٍ نقتدي وبفعلهم في كل مجد نحتذي ... وبعلمهم في كُل وقت نجتدي وإذا تعارض عندنا قولٌ لهم ... ولغيرهم قول وإن هو واحدي مِلنا إلى القول الذي قالوا به ... لتوثق في حفظهم وتشدد
وتصلّب في دينهم وتنزه ... وتورع في كسبهم وتزهد ولما روينا فيهم عن أحمد ... حسبي به للمقتدي والمهتدي فاليوم عِصمتنا بهم وبحبهم ... وهم الأئمة والأدلة في غد نشروا العلومَ وأيدوا دينَ الهدى ... علماً بهادٍ فيهم ومؤيد وَمَضوْا على سنن الجهاد وَرسمه ... ما بين مقتول وبين مشرد ومخلد في حبسه ومطرد ... عن أهله ومصلب ومقيد من في البرية يا محمد مثلهم ... في فضلهم وجهادهم والسؤدُد وذكرتَ تصحيح الخلاف وأنهم ... قد خالفوا آباءهم بتعمد فصدقتَ فيما قلتَه وحكيتَه ... وقع الخلافُ وليس ذاك بمفسِدِ إنَّ الصحابة ماج فيما بينَهم ... شرعُ الخلاف وهم صحابةُ أحمد وكذا الأئمة بعدَهم لما تزَلْ ... آراؤهم في العلمِ ذات تبدُّدِ والحقُّ تصويبُ الخلاف وما ترى الـ ... إجماع إلا في نوادر شرد وذكرتَ أن الموت يقطع في الهدى ... تقليدَ صاحبه لكل مقلد وحكيتَ ذلك مذهبَ الجمهور عن ... علمائهم بينت كالمستشهدِ فخلاف ذلك ظاهرٌ متعارف ... في كتبنا وبكتبهم فاستورد قد نصَّ بيضاويهم في شرحه ... تجويز تقليد الإمام المُلْحَد وكذاكَ في المعيار جوزه وقد ... أفتى به حسنٌ سليلُ محمد قالوا جميعاً للضرورة: إنه ... لم يبق مجتهد فطُفْ وتفقد قالوا: والا أي فائدة لنا ... في درس علم الشافعي وأحمد وكذاك درس علومِ آل محمد ... كم دارس لعلومهم متفرد؟ فاذا تبين أن تقليدَ الورى ... حق لمهدي وهادٍ قد هُدِي وأصبتَ فيما قلت من تصويب أهـ ... ـلِ العلم في فنِّ الخلاف الأمجد فن الفروع فإنه لا بأس في ... سَعةِ الخلاف به لكل مجرد
وذكرت قولك في الكلام ومالهم ... فيه من القول الغريبِ الموجد فلقد ذكرت من العلوم أجلَّها ... قدراً وأعظمها لكل مُوَحِّدِ فن به شَهدَ الكتاب وصحة الـ ... ألباب ليس لِفَضْلِهِ من مَجْحَدِ راضته أفكار الأفاضلِ واغتدى ... كالدُّرِّ بين زبرجد وزُمرد ما فيه مِن عيب سوى أن دققوا ... لِدفاع قولِ الفيلسوفِ المُلْحِد لولا صناعتُهم وحسنُ كلامهم ... نزعت يدُ الحربا لسان الأسود وصدقت أن محمداً في صحبه ... لم يعرفوا تلك العبادة عن يد ماذا أرادَ محمد منها وجِبْـ ... ـريلٌ لديه كل حينٍ في الندي؟ حمَّاد عجْرَد لم يكن في وقته ... ابداً، ولا سمعوا هناك بعجرد وابن الروندي وابن سينا أحدثا ... بعدَ النبوة في الزمان الأقرد ما كان في وقت النبي مدقق ... منهم فيحتاجُ البيان لملحد لكن علي قد أبان بنهجه ... هذي الدقائق فاستبنها واقصدِ هُوَ أوَّل المتكلمين وقولُه ... قبس كنارِ القابس المستوقد فاتبع مقالتَه فإن شيوخَنَا ... اتباعُه فيها أصبها تُرْشَد ماذا أردتَ بانتقاصِ مشايِخ ... هم أصلتوا في العلم كل مهند لولا سيوفُ كلامهم وعلومهم ... لم ينتقض تاج الغواة الجحد نقضوا به شبه الفلاسفة الأولى ... دانُوا تأفلاك وقول أنكد فنريهم القمر المنير من الهدى ... ويروننا وجهَ السُّها والفرقد فهناك أمسينا بأحسن ليلة ... وهناك قد باتوا بليلة أنقد وأدلة التوحيد ليسَ شعاعُها ... يخفي على مَنْ لم يكن بالأرمد ولهم مسالك في العبارة بعضها ... يُشفي به قلبُ العليل المعمد والبعضُ منها ليس بالمرضي في ... قولِ الهُداة من النصاب الأحمد ولنا مِن الماء السلاسل صفوه ... والآجن المنبوذُ للمستورد
فاشرب مِن الماء الزلال ألذَّه ... ودعِ الكُدورة في شواطي المورد وشكوتَ من ألم البُغاة ولم تَجِدْ ... ذا سؤدُد الا أصيب بحسد لا زلتَ باسبطَ الكرام محسَّدا ... فالناقصُ المسكين غير محسد قال السيد جمال الدين: ومن مخالفة إجماعهم ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " في الفاتحة، ومن مخالفة إجماعهم القولُ بالرؤية، ومن مخالفة إجماعهم تركُ " حي على خير العمل ". الجواب على هذه الثلاث المسائل، أما ترك بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يقل محمد بتركها، وأكثر ما سمعته يذكر في البسملة الإسرار بها، قال: وهو يحتاط في ذلك فيجعل الإسرار بها بحيث يسمع من بجنبه، وذلك أقل الجهر، وقد قال زيد بن علي: ما خافت من أسمع أذنيه، فأما الترك رأساً، فليس من القبيل الذي نسبه إلى محمد، إذ لم يقل به محمد. ومثله أبقاه الله لا يعجل بنسبة شيء إلى أحد إلا بعد معرفته وتحقيقه وإلا كان خلافَ الصواب، وهو لا يليقُ بمثله، وإنما يليق بالعالم المتقي التثبت في الرواية، وحسن الرد من بعد الهداية، ومسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم غير مسألة الترك، ولكل واحدة منهما كلام لا يحتمِلُهُ الموضع. وأما مسألة مخالفة إجماع العترة بالقول بالرؤية، فهذا شيء لم أعرفه، ولم أسمعه من محمد لا في قول ولا في كتاب وأنا أنزهه عن هذه المقالة ومعي خطه بأن إعتقاده في العقائد الكلامية والمسائل الإلهية اعتقاد أهل البيت عليهم السلام وأنه غيرُ مخالف في واحدة من هذه المسائل، ويدل على ذلك من شعره قوله من جملة أبياته: - هذي الفروع وفي العقيدة مذهبي ... ما لا يخالِفُ فيه كُلُّ موحد
ديني كأهلِ البيت ديناً قيماً ... متنزهاً عن كل معتقد ردي وكيف يقول بالرؤية بعد هذه المقالة، أو يضاف إليه ذلك، ومذهبُ أهل البيت واعتقادهم أن الرؤية على الله تعالى غيرُ جائزة معقولة ولا غير معقولة وكيف يصرح محمد ها هنا بأنه يتنزه في عقيدته عن كل معتقد ردي؟، ويُضاف إليه اعتقاد مخالفة العترة بالقول بالرؤية وهذه هي المصادمة بنفسها. وأما مخالفة إجماعهم بترك حي على خير العمل، فهذا من الطراز الأول، وهو التقول على محمد ما لم يقله، والنسبة إليه ما لم يصدر عنه ولم يكن منه، وقد سمعتُهُ يؤذنُ غير مرة، ويذكر (حي على خير العمل)، وأكثر ما يصنعه في الأذان التربيع في أوله كما هو مذهب طائفة من العترة وساداتهم، وذكر محمد أنه وجد في سنن البيهقي وهي السنن الكبيرة رواية حي على خير العمل أثبتها البيهقي، وصححها، وذكر هذا في معرض التصحيح للأذان بـ (حي على خير العمل) وهو على ذلك قبل أن يقف على سنن البيهقي، فكيفَ نَسب إليه السيد جمال الدين ما لم يصح عنه، وأكثر ما يتمسك به السيد في إضافة هذه الأقاويل رواية أحادية لم تبلغ حد التواتر، فيحصل له طريق موصلة إلى العلم. وقد روى القاضي محمد ابن عبد الله بن أبي النجم في كتاب الفصول ما لفظه: وعن القاسم عليه السلام أنه قال الأذان بغير (حي على خير العمل) معناه جائز، وهذه رواية شاذة لم تسمع عن غيره، وهي رواية غريبة، ولو صدر مثل هذه الرواية عن غيره، لأنكرناها ولكن رواية العدل مقبولة.
بين الوزير والمهدي حينما تُوفِّي الإمام الناصر صلاحُ الدين محمد بن علي بن محمد في ذي القعدة سنة (793) سارع ابنُهُ الإمامُ المنصور علي بن صلاح، فدعا إلى نفسه بالإمامة، ودعا في ذات الوقت إلى نفسه الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، فانحاز الإمام محمدُ بنُ إبراهيم الوزير، وأخوه العلامة الهادي بن إبراهيم وغيرهما من علماء صَعْدَة إلى جانب الإمام علي بن صلاح مما أضعف جانبَ الإمام المهدي الذي خسر المعركة في حربه مع علي بن صلاح، وانتهي به الأمر إلى أن اعتُقِلَ وسُجِن في صنعاء، فبقي في نفس المهدي شيء على الإمام محمد بن إبراهيم الوزير لم تْمْحُهُ السِّنون: وَقَدْ يَنْبُتُ المَرْعى عَلَى دِمن الثَّرى ... وَتَبْقَى حَزازاتُ النُّفُوس كَمَا هيا وقد انتقل ما في نفس المهدي من كرهٍ للإمام الوزير إلى حفيده الإمام شرف الدين الذي شنع على الإمام الوزير، ونسب إليه أشياء لم يقل بها أحدٌ غيره كما تقدم بيانُ ذلك في بداية هذه الترجمة. ولما فَرَّ المهدي مِن السجنِ ذهب إلى ثُلاء وأقام هنالك فترةً طويلة، فرحل إليه الإمامُ محمد بن إبراهيم الوزير، ووقف معه مدةَ يُسائله ويُراجعه ويُباحثه كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في (تاريخ آل الوزير) ومن جملة ذلك أنَّه وجه إليه خمسة وعشرين سؤالاً في مسألة الإمامة، وأن المهدي لم يجب عليها، فكتب إليه محمد بن إبراهيم الوزير هذه القصيدة: أعالِمَنَا هَلْ لِلسُّؤَالِ جوَابُ ... وهَلْ يَرْوِيَ الظمآنَ منك عُبَابُ (¬1) ¬
وَهَلْ يكشفُ الظلْماء منْكَ بَصَائِرٌ ... يَدُلُّ عليها سُنَّةٌ وكِتَابُ وَهلْ حَسنٌ مِنِّي إذَا كنْتُ سائِلاً ... أمِ البَحْثُ يَا بَحْرَ العُلُومِ يُعابُ وَهلْ جَاء في شَرْعِ التنَاصُف أنَّه ... يُكَدِّرُ مِن صافي الوِدادِ شَرابُ وَهَلْ قَدْ سعَى بَينِي وبَيْنَكَ جَاهِلٌ ... ظَنينٌ يُريكَ الماءَ وهوَ سَرابُ وَهلْ غَرَّكُمْ في الخُمُولُ فَإنَّمَا ... أنَا السَّيْفُ خُبْراً والخُمُول قِرابُ وَهَلْ يُزْدَرَى بِالسَّيْف مِنْ أجْل غِمْدِه ... ويُحْقَرُ من وهنِ المَحَلِّ عُقَابُ وَهَل لِكَثيرِ الشَّوْقِ وَالوجد رَاحِمٌ ... وهَلْ للمساكينِ الضِّعافِ صَحابُ وَهلْ عَائِدٌ في الدَّهر ودُّكَ عامِراً ... فها هُوَ ذَا يابْنَ الكِرامِ خَرَابُ وَهلْ مُثمِرٌ حَوْكي مُلاءَ رقَائِقٍ ... تَهُزُّ صِلابَ الصَّخْرِ وَهِيَ صِلاَبُ وَهلْ عَاطِفٌ لِلودِّ مِنكَ تَلَطُّفٌ ... وَهَلْ قَاطِعٌ للهَجْرِ مِنْكَ عِتابٌ وهلْ لِمَجَلاَّتي إذَا لَم تُجِلَّهَا ... رُجُوعٌ إلى مَنْ خَطَّها وإيابُ وَهَلْ لِسَلامِي مِنْكَ رَدٌّ فإنَّه ... يَخُصُّكَ مِني ما اسْتَهَلَّ سَحَابٌ ولما صنف الإمام محمد بن إبراهيم الوزير كتابه "قبول البشرى في تيسير اليُسرى" ضمنه ما يجوز من الرُّخَص وما لا يجوز، وما يكره وما يستحب، وأقوال أهل العلم في ذلك، فرد عليه الإمامُ المهدي بكتابه " القمر النوار في الرد على المرخصين في الملاهي والمزمار " وكان الإمام المهدي كثير التحامل على الإمام ابن الوزير على غير ذنب سوى أنه كان يأخذ بكتاب الله ورسوله ويعتصم بهما ويفهمها على طريقة السلف الصالح، ولا يعتد بقول من يخالفهما كائناً من كان ذلك القائل حتى قال فيه المهدي من قصيدة: هذي مقالة من زلَّت به القدم ... عن منهج الحق أو في قلبه مرض وقال أحمد بن عبد الله الوزير يَصِفُ ما جرى بينَ العالِميْنِ
المذكورين: " ولما ظهر لحي الإمام المهدي من سيدي عز الدين الانعزال، وسرى الأمرُ في المراجعة إلى بعض مسائل الكلام، انجرت بينهما المراسلةُ، ووقعت بينهما المراماةُ والمناضلةُ في المنثور والمنظوم، وكُلُّ ذلك موجودٌ في كتبه، وأشعاره حتى أزِف التّرحالُ، ودنا الانتقالُ، وتحول الحال، فاعتذر كُلُّ من صاحِبه، وقبل أعذاره، وأوضح اعتذارَه، وكان ذلك في سنة 839 " أي قبل وفاتهما بسنة واحدة. بين الوزير والمؤيَّد ذكر أحمد بنُ عبد الله الوزير في الفضائل في ترجمة محمد بن إبراهيم الوزير ما لفظه: " ووقف -رضي الله عنه- في فَللَّة (¬1) مدة مع حي الإمام علي بن المؤيد على جهة الاختبار، ورافقه إلى بعض بلاد الأهنوم، ولم يكن بينَه وبينَه شيء من المصنفات إلا شيء يسير وقع فيه عتابٌ سهل، وكتب فيه حي سيدي عز الدين أبياتاً حسنة رقيقة من محاسن الشعر وأجودِهِ قافية منصوبةَ الروي وهي: وَلَوْ شِئْتُ أبكيتُ العُيُونَ مُعاتباً ... وَألْهَبْتُ نِيران القُلُوبِ دَقَائِقَا وَلَكنني أصْبَحتُ ِللهِ طَالباً ... وأصْبَحْنَ مِنِّي التُّرُّهَاتُ طَوَالِقَا فإن أنْصفَ الأصْحَابُ لَم أُلْفَ فَارِحاً ... وإنْ أعتَبُوا لَمْ يُصْبِحِ الصَّدْرُ ضَائِقَا وَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ النُّهي لا يَسُرُّهُ ... سُرُورٌ ولا خَافَ الحُتُوفَ الطَّوَارِقَا فَصِلْنِي أو اقْطَعْنِي فَعِنْدِي خلِيقَةٌ ... يَضِيعُ رديّاً مِن صَدِيقي وَرَانِقَا (¬2) ¬
ولي نَفْسُ حُرٍّ لَيس أكثرُ هَمِّهَا ... مُلاطَفَةً تُرضي عَلَيَّ الخلاَئقَا وَلولا الرَّجَا أنْ أرضِيَ اللهَ لَم أكُنْ ... عَلى أرْضِ منْ يجْفُو أشيمُ البَوارِقا ولكِن ذُلِّي في رضَى اللهِ عِزَّةٌ ... وإنْ كُنْتُ فيهِ لِلسْلُوِّ مفَارِقا وَما لِي إلا الصَّبرُ في الدَّهرِ جُنَّة ... وإن شّيَّبَ الصَّبْرُ الشَّوى والمفَارِقَا وما نَحْن إلا في مجازٍ فلا ترِدْ ... مَجازاً إذا مَا كُنْت تَبْغِي الحَقَائِقا وَقائِلةٍ عشْ بالسُّلُوِّ مُمَتَّعَاً ... وَنل بِكتسابِ الأصْدِقاءِ مُرافِقا فقلْتُ لها: لا عَيْشَ لي في سِوى التُّقى ... ولا صَاحِب في النَّاس إلا مُخَالِفَا وَأينَ الصَّفا هيهات مِنْ عَيشٍ طالبٍ؟ ... غَدَا لأهاويل المَماتِ مُرَاهِقَا وللخِزي في يوْم الجَزَا مُتَرقِّباً ... وللصَّبْرِ في دار الفناءِ مُعَانِقَا فَلُوْمِى رُوَيداً إنني غَيرُ جَازِعٍ ... وعَزْمِي سِواي إنَّنِي لسْتُ مَائِقا بينه وَبَيْنَ أخيه لم تنقطع الصلةُ القويَّةُ بَيْنَ الأخوينِ الشقيقين الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، والعلامة الهادي بن إبراهيم الوزير على ما بينَهُمَا مِن خلاف في العقيدة، فالهادي كان عالماً جليلاً مبرزاً في علوم كثيرة لا سيما علم أصول الدين، ملتزماً بالمذهب الزيدي، وكان يريد لأخيه محمد أن يسلك مسلكه، لكنه مشى في طريق آخر، فقد مال إلى علوم السنة، وجرى بينَه وبين علماء عصره المتمذهبين صراعٌ كبير سبق ايضاحُهُ فيما تقدم. وتفرقت الديارُ بَيْنَ الأخوين إلا أنهُما كانا يتبادلان الرسائلَ، ويتطارحان الشعر، فمن ذلك قصيدةٌ قالها الهادي بن إبراهيم الوزير مهنئاً أخاه بعودته سالماً بعدَ أن حُصِرَ عن الحج للمرة الثالثة سنة 818 ورجع من (حَلْي ابن يعقوب) بعد أن بلغه وقوعُ خلافٍ بين الأشراف -أشرافِ مكة-
وقيام الأتراك بعزل الحسن بن عجلان، وتولية بعضِ أهله، فكر حاجٌّ اليمن راجعاً إلى بلاده، ولم نعثر من هذه القصيدة إلا على مطلعها وهو قولُه: إذا فاتَ حَج البَيْتِ في ذلك المجْرَى ... فَقَدْ كتبَ اللهُ المَثُوبةَ وَالأجْرا فأجاب عليه محمد بن إبراهيم بقصيدة منها: تبَارَكَ مَنْ أعْطَى مُحَمداً الاسْرَا ... وَاحْصَرَه في عام عُمْرَتهِ قَسْرَا فسُرَّ بذاكَ المُشْركونَ لِجَهلهمْ ... وعزَّ علَى قَوْمٍ وقَدْ شَهِدُوا بَدْرَا ومنها: فَلِلهِ مَنْ أهْدَى إلَيَّ نِظامهُ ... لِيبردَ مِنِّي وَعظُهُ كبِدَاً حَراً أشَارَ إلى زُهْرِ المَوَاعظِ ناظِماً ... لَها نظْمَ أَفْلاكِ السما الأنْجُمَ الزُّهْرَا فَلَم أرَ شِعراً في الشعَائِر قَبْلَهُ ... وَلا مِثْلَه شِعْراً يَتِيهُ عَلَى الشِّعْرَى وَلوْ لم يَكُنْ فِيهَا سِوَى بيتَها الَّذِي ... أرَى مَلَكاً ألْقاهُ في سِرِّهِ سِرَّا أذاقكمُ فَقراً إلَيْه لِتعْلمُوا .... بأنَّ الغِنَا المَقْصُودَ أنْ تَطْعَمُوا الفَقْرَا فَمَن لَمْ يَذُقْ هذا الغِنَا في حيَاتِهِ ... فَقَدْ عَاشَ مِسْكِيناً وإن مَلَكَ الأمْرَا
ومنها: وَمَا امتَحَن اللهُ الكلِيمَ بفِعْلِهِ ... وَخِدْمتِهِ للشَّاءِ في مَدينٍ عَشْرَا لِيَقضِيَ مِنْ مَهْرِ الزَّوَاجَة حَقَّه ... وَلكِنْ لِيَقْضِي لِلمُكاَلَمَة المهْرَا وَمَا (¬1) كان إبْرَاهِيمُ في المَنْجنِيقِ والـ ... ـلظَى عَادِماً لُطْفاً وَلا نَاقِصَاً قَدْرَاً وَلَا ظَمِئَتْ في الوادِ هَاجرُ وابْنُهَا ... هوَانَاً على منْ يَمْلِك السُّحْبَ والقَطْرَا وَلَا بِيعَ بالبَخْسِ المُكَرْم يُوسُفُ ... لِيُمْلَكَ لَكِن حُكْمُهُ لِيَلِي مِصْرَا وفِيمَا رَأَى يَعْقُوبُ مِنْ فَقْدِ يُوسُفٍ ... مَواعِظُ تَشْفِي مِنْ مُلاحِظِهَا الصَّدْرَا وكتب الإمام محمدُ بنُ إبراهيم الوزير إلى أخيه هذه القصيدة يحثُّه على الابتعاد مِن مجالسة الحكام. يَا سِبْطَ إبْرَاهِيمَ لا تَنْسَ ما ... كَانَ عَليْهِ بالتَّحَلِّي أبُوكْ فَإنَّ آباءك لوْ شَاهَدُوا ... بَعْضَ الَّذي تَفْعَلُهُ أنَّبُوكْ مَا لك لا تَسْلُكُ نَهْجَاً وقَدْ ... سَنَّ لنَا فِيهِ أَبُوكْ السُّلُوكْ وَأهْلُنَا من قبْلِنَا طالَمَا ... عَاشُوا وهُمْ فِيهِ لِحَرْبٍ سلوكْ فانْهَضْ إلى أوْطَانهِمْ شاخِصَاً ... وَارْمُكْ بِهَا إمَّا أَردْتَ الرُّمُوكْ (¬2) ¬
فَوَقْفَةُ في مَسْجدٍ سَاعَةً ... خَيرٌ لنَا منْ مُلْكِ ملْكِ المُلوكْ هذَا وإنْ كُنْتَ آمْرءاً عَاشِقَاً ... لِلمُلْكِ لا تَنْفَع لَدَيكَ الصُّكُوكْ وإنَّمَا تنفعُ مَنْ قَلْبُهُ ... لا يعْتَرِيهِ في المُلُوك الشُّكوكْ واعْلَم بأن العِزَّ والزُّهدَ ... والفَضْلَ وَأهْلَ المُلُوكِ طُرَّاً هَلُوكْ وابعَدْ عن المُلْكِ وَأرْبَابهِ ... وإن هُمُ يَوْمَاً لهُ أَهَّلُوكْ ولا تُطِعْهُمْ يا شقِيقي وَلَوْ ... وليتهم في أمْرِهِمْ أوْ وَلُوكْ وَلا تُضِعْ يَا سَيِّدِي حُلَّةً ... وحِليَةً قَدْ صَاغهَا أَوَّلُوكْ لا تنْظُرَنْ يَوماً إلى قَائِمٍ ... وَانْظُرْ إلى مَا قَالَه نَاصِحُوكْ وعَاصهِمْ إنْ كُنْت ذَا هِمةٍ ... لَهُم وطاوعْهُمْ إذَا نَاصَحُوكْ وقد أجاب عليه الهادي مؤيداً رأي أخيه الأصغر، وممتثلاً نصيحته مع أنه أكبرُ منه بسبعة عشرَ عاماً. فَارِقْ بني الدُّنيا وإنْ أكْرَمُوك ... وارفُضْ بني المُلْكِ وَإنْ قَرَّبُوكْ يوماً إذَا ما أنْتَ أرْضَيْتهُمْ ... مَلُّوك أو أسْخَطتَهُمْ عَاتبُوكْ ومِثْلُ خَطَّ فوْقَ ماءٍ إذَا ... عَاتبْتَهُمْ، والويْلُ إن عاتَبُوكْ وإنْ هُمُ أعْلَوْكَ في رُتْبةٍ ... فَإنَّما في هوَّةٍ كَبْكبوكْ إنْ قَطَعُوا عَنْك عطَايَاهُمْ ... أوْ قَطَعُوا أملاكَهُمْ عَذَّبُوكْ لَهُم علَيْكَ الحَقُّ فِيهَا سَوا ... أعْتبْتهُمْ في الأمرِ أوْ أعْتَبُوكْ وَلَا يغُرَّنْكَ أنْ ثَوَّبوكْ ... وإنما فيما أرى ثَيبوكْ فابعَدْ عَنِ القَوْم فَلوْ جِئْتَهُمْ ... طِفْلاً وَخَالطتهم شَيَّبُوكْ ولا تَحَملْ لهُم رَايةً ... في الحَرْب لوْ أنَّهُمْ حَاربُوكْ فإنمَا تحْمِلُ في مثلِ ما ... أمَّ بها المختارُ غزوةْ تَبُوكْ وَاقْنَعْ من الدُّنْيا بِمَرْقُوعَةٍ ... لَوْ أنهَا مَوْضُوعَةٌ في مُسُوكْ فارْغَبْ عَنِ المُلْكِ وأرْبَابِهِ ... وَإنْ هُم في شَأنهِ رَغَّبُوكْ
وَكلْ حَلالاً خَشِنَاً وَاتَّدِمْ ... شُكراً، وَكُنْ لِلدهر مِمن يَلُوك وَجَالِسِ الزُّهَّاد وَانْهدْ إلى الـ ... ـعبادِ واقْصِدْهُمْ وإن جَانَبُوكْ فَإنَّ بَعْضَ الفُضلا كَان في ... جَزيرَةٍ يَعْبدُ رَبَّ المُلُوكْ وَكَانَ لا يأكُلُ في عُمرهِ الـ ... ـمَحمُود إلاَّ مِن لُحُوم السَّموكْ وَلَيستِ الدُّنيا بمحمودَةٍ ... هيهَاتَ مَا فيها لَنا منْ سُلُوكْ والزُّهْدُ منها ثوْبُ عزٍ لمَن ... يلْبسُهُ جوَّده مَنْ يَحُوكْ لكَِّنه عزُّ فتىً لابسٍ ... في ذلِكَ الثوب الشَّريف المحُوكْ وقَدْ أتَى يَا وَلدِي منْك لي ... نظْمٌ هُوَ الدُّرُّ الَّذي في السُّلُوكْ كَأنَّهُ الشَّمْسُ ولكِنَّهَا ... طَالِعةٌ ما إنْ لها مِن دُلُوكْ هُوَ اليقينُ الحقُّ مَا خالطتْ ... قلْبِي فِيما قُلْت فيه الشْكُوك ما أوْضحَ النَّهْجَ الذي جئتَه ... وأوْضَح المَسْلَك لا فُضَّ فُوكْ واعْلمْ بأنِِّي يابْن أمِّي عَلى النـ ... ـهجِ الَّذِي نَوَّرَهُ سَابقُوكْ وكلُّ حَالٍ غير هذَا وإن ... قِيلَ بِه لا يَرْتضيهِ أخُوكْ وَلَسْتُ بالراضي بهَا حَاجَةٌ ... أحسن فيها رفضها والتُّروكْ تِلْكَ التي من وصف أصحابِها ... حماقةُ الروم وكِبرُ التُروكْ ولما مَرِضَ الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في الأقهوم من جبل عيال يزيد، طلب منه الهادي بن إبرإهيم أن يكتُبَ له بخطِّ يده ما يُطمئنه على تماثله للشقاء فكتب إليه: طَلَبتَ تقرِير خطِّي كي تَقَرَّ بهِ ... قلْباً وَعَيْنَاً وأحشاءاً وَأشْجَانا وفي الأنامِل ضَعْفُ غيرُ مكتبة ... وَرَعْشَةٌ لمْ تَدَعْ لِلخَطِّ تبيانَا أضْحَتْ عَوَامِلُ خَطَّي بَعْدَ قُوَّتِهَا ... وهُنَّ أضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أرْكَانا وَقدْ كَتَبْتُ عَلَى عجْزٍ وَتعْتَعةٍ ... هذي القَوافيَ لِلمطلُوبِ عُنوانا
وَلَوْ غَدَا ابنُ هلالٍ والعميدُ وَمَنْ ... زان الجزيرة تجويداً وإتقانا مترجمين لما في القَلْبِ مَا وَجَدُوا ... إلى بَيَانِ الَّذِي في القلب إمكانا وَقَدْ وَقَفْتُ على الأبياتِ جامعَةً ... وَداً ولُطْفَاً وإعجازاً وإحسانا وَلَيسَ في قُدرتي وَصفٌ لِمَوْقعِهَا ... وَلَو تَحَوَّلْتُ في الإحْسَانِ حَسَّانا وقد أجابه الهادي بن إبراهيم الوزير مهنئاً له بشفائه فقال: - بُشرى بعافية العُلُوم كلامِها ... وحديثِهَا وحلالِها وحرامِها وأصولهَا وفروعِها وبيانِها ... وبديعهَا وغريبها ونظامِها لمحمدٍ شفيت وزالَ سقامُها ... وبهِ شفاء الداء من أسقامها لما ألمَّ بجسمه ألمٌ سَرَى ... مِنْه إلى الأرواحِ في أجسامِها وشفاه مِن آلامه ربُّ السما ... فشفى عُلُومَ الدِّينِ مِن آلامها حمداً لمن أولاك بَرْدَ سَلاَمة ... وَحَباكَ مِن تُحَفِ الهُدَى بسلامِها اللهَ أحْمَدُ قَدْ شَفَى لِي مُهْجَةً ... هَامَتْ وَحُقَّ لَهَا عظيمُ هُيَامِهَا لِمحمد عِزِّ الهُدى وهو الَّذي ... قَدْ حَلَّ في العَلْيَاءِ فَوْقَ سَنامِهَا هذا الَّذِي أحيا العُلُومَ وَذَا الذِي ... أحيا التِّلاوَة فَهوَ بدرُ ظَلامِهَا الله قلَّدني بذلك نِعْمَة ... عُظْمَى ينوءُ الشُّكرُ تَحْتَ مَصَامها لا يهتدي الدُّعْموص طرقَ رمالِهَا ... أبداً ولا التِّسماحُ في قمقامِهَا لو أن عدناناً حبتني كُلُّها ... بِبيَانِ منطقها وحسْنِ كلامِهَا ما كُنْتُ أبلُغُ شكرَهَا مِن نِعْمَةٍ ... لوْ كانَتِ الأشجارُ مِن أقلامِهَا فاللهُ يُوزِعُنا جَمِيعاً شُكرَها ... ويزيدُنا حَمدَاً على إتمامهَا إني أقولُ مقالَةً قَدْ قالَهَا ... عُمَرٌ بِبَطْحا مَكَّةٍ وَإكَامِهَا مَعَ حُسْنِ خَاتِمَةٍ أفُضُّ خِتَامَهَا ... وَرِضَاه عَنِّي يا لَطِيبِ خِتَامِها
بينه وبين المقري ولما اطلع الإمامُ العلامة شرفُ الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي على " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " مختصر " العواصم والقواصم " كتب إلى مؤلفه رحمه الله ما يلي: ولقد وقف المملوكُ على " الروض الباسم " فما هو إلا الحسامُ القاصم، لقد وقع من القلوب موقع الماءِ من الصادي والنَّجح من الغادي، والراحة من المعمور، والصلة من المجهور (¬1) ولقد نصرتَ الحديثَ على الكلام، والحلالَ على الحرام، وأوضحت الصراطَ المستقيم، وأشرت إلى النَّهْجِ السليم (¬2)، ولم تترك شبهة إلا فضحتها، ولا حُجَّةً إلا أوضحتها، ولا زائِغاً إلا قومته، ولا جاهلاً إلا علمته، ولا ركناً للباطِل إلا خفضته، ولا عقداً لمبتدع إلا نقضته، ولقد صدقت الله في النية (¬3) في الرغبة إليه، ووهبت نفسك لله، وتوكلتَ عليه، فالحمد للهِ الذي أقر عين السنة بمكانه، وأدالها على البدع وأهلها ببرهانه (¬4)، فلقد أظهر مِن الحق ما ودَّ كثير من الناس أن يكتمه، وأيد دين الأمة الأمية (¬5) بما علمه الله وألهمه فعض على الجذل، وسيجعل الله لك بعد عسر يسراً، وإنا لا ندري لعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، وفتح لمن أراد له الدخول بابه. إذا الله سَنَّى حَلَّ عَقْدٍ تَيَسَّرا. ¬
ومن وقف على ما أفحمتَ به ذلك المعتدي (¬1) من الحق الذي استحلفت فيه بالإعجاز والتحدي علم أن بينه وبينَ النفثات النبوية أسباباً (¬2) شريفة لا تُحل عقودها، ولا تُضاع حقوقها، ورحماً بلها ببلالها، وبادر إلى صلتها ووصالها، لقد أبقى نوراً في وجه الزمان، وسروراً في قلوب أهل الإيمان، وقلدت جيدَ السنة منة وأي منة، أصبح شخصُك ملموحاً بأعين البصائر، وحديثُك (¬3) ملتقطاً بأسماع الضمائر والمنة. في ذلك المصنف على عامة أهل الملة وخاصة أعيان هذه النحلة، فحق على الكل أن يعرفوا حقه إن كانت لهم أفهام تقدره حق قدره، وأن يستضيئوا بنوره إن كانت لهم أبصار تثبت للنور فجره، وأرى لهم أن يكتبوا (¬4) أنفاسه إن كانت الأنفاس مما يكتب سمع الدعاء (¬5) إلى الفلاح فوثب، وقلب الله قلبه إلى الحق فانقلب من غير ترهيب استفزه، ولا ترغيب هزه، ولا محاسدة اعترته ولا مناظرة غيرته بل توفيق مِن الله (¬6) إلهي، وإلهام سماوي سهل عليه مفارقةَ العادة وما نشأ عليه بدءاً وإعادة، وإن أمراً هذا أوله، فعواقبه عن النجاح مسفرة، وقصداً هذا مبتلؤه، فمغارسُه مثمرة. وإني لأرجو الله حَتَّى كأَنَّنِي ... أَرى بجميلِ الظَّنِّ ما اللهُ صانِعُ ومن جواب محمد بن إبراهيم الوزير عليه: - ومِنْ عَجَبٍ لم أقضِه مِنه أنَّه ... توهَّمني في العلم سامي المراتب ¬
أغرك أنَّي قد ذُكرتُ وإنَّما ... ذكرتُ لأني مِن جبال المغارب وقد عَدِمَت فيها البصائرُ والنهي ... فطيَّب ذِكري (¬1) موْتُ كُلِّ الأطايِبِ ولَو عدمت وُرْقُ الحَمَائِم لم يَكُنْ ... بمستبعَدٍ تشبيبنا (¬2) بالنَّواعِبِ وألبست تأليفي العَواصِمَ بالثنا ... جمالاً أطاب الشكر مِن آل طالِب وما فيه منْ حُسن سوى أنه شجا ... روافِض صحبِ المصطفي والنواصِب وما كان تأليفي له عن تضلُّع ... مِن العلم يشفي الصدرَ من كُلِّ طالب ولكنني والحمدُ لله منصف ... أذُبُّ بجهدي عن صحاح مذاهبي فلا تَتَوهَّمني بِعِلْمٍ مُحققاً ... فإنَّك ما جربت كُلَّ التَّجارِب توهمت ناراً بالتخيُّل حينما (¬3) ... دجا الليلُ وامتدت ذيولُ الغياهِب رويداً خليلي لا يَغُرَّك إنَّما ... رأيت التي تُدعى بنار الحُباحِبِ وما كُلُّ نار نارُ موسى لِمهتدٍ ... ولا كُلُّ بَرقٍ في الثقال الهَوَاضِبِ نصحتُك لا أني تواضعْتُ فَانْتَفعْ ... بِنُصْحي فما أرضى خِداعاً لِصاحب ولا زِلْتَ يا خيْر الأفاضِل باقياً ... رضيع لبان للعُلا والمَناقِب مرحلة التدريس ولما تَصَدَّرَ للتدريسِ، أقبل عليه طلبةُ العلمِ مِن كل مكانٍ، لينهلوا مِن علومه الواسعة، ومعارفه المتنوعة، وقد سأله بعضُ إخوانه القراءَة عليه في بعض كتبَ المنطق فأجاب عليه بقوله كما في " تاريخ الوجيه العطاب ": يا طَالِبَ العِلْم والتَّحْقِيقِ في الدِّين ... والبَحْثِ عنْ كُلِّ مكْنُونٍ ومخْزونِ ¬
أهلاً وَسَهْلاً عَسَى مَنْ رَامَ تبْصِرةً ... منِّي وهدياً إلى الخَيراتِ تهديني لكِنْ أطعْنِي وأنْصِفْ في الدَّلِيلِ مَعِي ... فَمنْ يُقلِّدُ فيهِ لا يُوَاتيني أمرتَ أن تطلُبَ الدِّين الحَنيفَ وَلوْ ... بالصِّين أو بالأقاصي مِن فِلِسْطينِ والعِلْمُ عَقلٌ وَنقْلٌ ليسَ غَيرهما ... والعقلُ فيكَ وَليسَ العَقْلُ في الصِّينِ أُمرت أن أطلبَ العِلمَ الشريفَ وَلَو ... بالصِّين إن كان عِلمُ الدِّين في الصِّينِ إلى أن يقول ناصحاً له أن ينصرف عنه إلى ما هو أنفع وأجدى: إن البَصَائِرَ كالأبصارِ لَيسَ تَرَى الـ ... ـخَفِيَّ جدّاً سِوى رجْمٍ وَتَظْنينِ لِذا تَخالف أهْلُ العَقْلِ واضَّطربُوا ... فيهِ كَعَادَتِهِمْ في كل مظنونِ قَليتُ في العلم مِن بعد الرُّسوخ به ... واعتضْتُ بالذِّكرِ منه غيرَ مغْبُونِ مَا فِيهِ إلا عِباراتٌ مُزخْرفةٌ ... أتى بِهِنَّ ابنُ حَزْمٍ بالتَّبايينِ كمْ منْ فتىً منطقي الذِّهن ما خطَرتْ ... بالبالِ منه اصْطلاحاتُ القَوانينِ وَكمْ فَتىً منطِقي كافِر نَجِس ... كالكلْبِ بلْ هُوَ شَرُّ منه في الهُونِ يرى وَساوِسَ أهلِ الكفْرِ منقبةً ... فهماً ويسْخرُ من طه وياسِينِ كذلِكَ الرُّسلُ لم يُعْنَوا بذاك إلى الـ ... ـمحمد مِن سليلِ الماء والطِّينِ بَلِ اكتفوا بالذي في العقْلِ مَعْ نظرٍ ... سَهْلٍ بغيرِ شيوخ كالأسَاطينِ معَ اعتراضِ شَياطينِ الخُصُومِ لَهُم ... وَشُهرة الطِّين في كُلِّ الأحايينِ وَرُبَّمَا كانَ في التدقيق مَفْسَدَةٌ ... لِلقلب أو لافتراق الناسِ في الدِّينِ مثل الغلو بأفعالِ الخوارجِ كالـ ... ـوِصَالِ والاختصا خوفاً من العَيْنِ
واللهُ أعلمُ والرسلُ الأكارم من ... شيوخ جبة (¬1) قطعاً غير تخمين (¬2) ولا شك أنَّه قد حصر اهتمامه في المقام الأول بنشر علوم الكتاب والسنة، وتدريسها لطلبة العلم، ولكنه لما ظهر أمره، وبَعُدَ صيتُهُ واشتهر علمُه بين الناس، خاف على نفسه من فتنة الشهرة، وحُبِّ الدنيا، فعزف عن المضي في هذا الطريق، ورجع لمحاسبة نفسه على ما أسلف: ولما عُوتِبَ على انقطاعه من مجالس التدريس أجاب عليهم بقوله: لامني الأهلُ والأحِبَّةُ طُرّاً ... في اعتزالي مَجَالِس التَّدريسِ قُلْتُ لا تَعذُِلُوا فَمَا ذَاكَ مِنِّي ... رغبةً عَنْ علُومِ تِلك الدُّرُوسِ غَيْرَ أنَّ الرِّيَاضَ تأوي الأفاعي ... وجِوَارُ الحَيَّاتِ غيرُ أنيسِ غَيْرَ أني خَبَرْتُ كُلَّ جليسٍ ... فَوَجدْتُ الكتَابَ خَيْرَ جَلِيسِ هي رِيَاضُ الجِنَانِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ... وَسَنَاهَا يُزْرِي بنُورِ الشُّمُوسِ حَبَّذَا العِلْمُ لَوْ أمِنْتَ وَصَاحَبـ ... ـتَ إماماً في العِلْمِ كالقَامُوسِ فَدَعُوني فَقَد رَضِيتُ كِتَابِي ... عِوَضاً لي عَنْ أنْس كُلِّ أنيسِ (¬3) وقد وصف محمد بن عبد الله بن الهادي الوزير حاله قائلاً: ثم إنه بعد ذلك انتصب لنشر هذه العلوم، وتصدر برهةً من الزمان، وهُرِع إليه الطلبة من كل مكان، فاستناروا بمعارفه، واقتبسوا من فوائده، فظهر أمره، وَبعُد صيته. فلما رأى أن في هذا طرفاً من الدنيا والرئاسة قدع نفسَه وقمعها، ومنعها مما تشوَّفت إليه وردعها، ثم أقبلَ على الله بكليته، فلزم العبادَة والأذكار، ¬
وقيامَ الليل وصيام النهار، وتأديب النفس وإذلالَها للملك الجبار، فألجمها بلجامِ الزُهد، وجرها بعِنان التقوى، وأخزاها (¬1) في ميدان الورع، وساقها بسوط الصبر، وأدخلها اصطبل الخلوة، وربطها إلى جدار التوكل، وعلفها الجوعَ، وسقاها الدموعَ، وألبسها سرابيلَ الذل والخضوع، وتوّجها بتاج التبتل والخشوع، ولم يبق نوع من أنواع الرياضة، ولا طريق من طرق السلوك إلاّ سلك بها مسلكه، وشرع بها في جناحه، وكلفها تحمل أعبائه. ولقد كان يخصِفُ نَعلَه، ويكتسِبُ لأهله، وربما تظاهر بأنواع التصرفات والحرف كحرف الفدادين والجفاة، ويلبَسُ الصُّوفَ الخشن، ويُفطِرُ على قرص الشعير بلا إدام، ويقصِدُ بذلك رياضة نفسه وتحقيرها وتصغيرها، وردعها، وتعريفها بمنزلتها عنده، ثم يقول: ومِن رقائق أشعاره في بُعْده من الناس وانقطاعه أبيات كان كتب بها إلى المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في عقب دعوته: - أعَاذِل دَعْني أُرِي مُهْجَتِي ... أزُوفَ الرَّحيل ولُبْسَ الكَفَنْ وأدْفِنُ نَفْسِي قَبْلَ المَماتِ ... في البَيْتِ أو في كُهُوفِ القِنَنْ فإنْ كُنْتَ مقتدياً بالحُسَيْنِ ... فَلِي قُدْوةٌ بأخيهِ الحَسَنْ فَقدْ حَمِدَ المصطَفي فِعْلَهُ ... لإطْفَائِهِ لِنيَارِ المِحنْ وَلَوْ كانَ في فِعْلِه مُخْطِئاً ... لَمَا كانَ لِلمَدْحِ مَعْنىً حَسَنْ وأقبل ما في حَدِيث الرَّسُولِ ... من ذِكْرِ مَوْجِ بِحَارِ الفِتَنْ فإنَّ السَّلامَةَ في الاعتِزَالِ ... جَاءت بِذَا، مُسْنَداتُ السُّنَنْ ¬
وفي دَرْسِ آي الكِتَابِ العَزِيزِ ... وَتَرجيعِهَا لِيهِيجَ الحَزَنْ وَدَرْسِ الصَّحيح من المُسْنَدَات ... إلى المُرْسَلِ العَاقِبِ المُؤْتَمَنْ ومحو الذُّنوبِ بِدَمْع يَصُوب ... على مَا مضَى في قَدِيم الزَّمَنْ وأمسِ الرسوم مَحتْها الغيُومُ ... وأنسى الحبيبَ وأنسى الوَطَنْ وَأنْسَى الدِّيارَ وسُكَّانَهَا ... ومَا كَانَ لي فيهمُ مِنْ شَجَنْ وأبكي بِشَجْوٍ عَلَى مُهْجَتِي ... بُكاءَ الحَمَائِم فَوْقَ الفَننْ فإنِّي رَأيْتُ الوَرَى ظَاعِنيـ ... ـنَ نَحْوَ البِلَى ما لَهُمْ مِنْ سَكنْ فأيْقَنْتُ أني بِلا مِرْيَةٍ ... غداً ظَاعِنٌ مِثْل مَنْ قَدْ ظَعَنْ سَأجْعل ذِكْر البِلَى في القُنُوت ... مَكانَ ادِّكار اللِّوا والدِّمَنْ وأورد من كلامه في الزهد قوله: أيّها السائر إلى ديار الموتى قد سارتِ الدُّنيا وما تدري والراكب لسفينة البقاء، أما علمت أنَّها إلى الفناء تجري؟ أنتَ المغتر بمدة العُمُر وهي قصيرة، والمُفتن في أنواع الهوى بغير بصيرة، عجباً من اختلاف أحوالك وأطوارك، وتقلباتك وأسفارك، أما أسفار دنياك، فتشفق فيها من عبدٍ عاجز أن يَنْهَب طِمرك، وأما سفرك إلى أُخراك، فتأمن فيه مِن ربِّ قادرٍ أن يقصِفَ عمرك، ما أخوفك في موضع السلامة، وآمنك في موضع المخافة، أما خوفك، فحيث ينجو الغني بفلوسه، والفقير ببؤسه، والمترفِّق برفقائه، والقوي بقوته، وأما أمنُك، فحيث ارتعدت فرائصُ الملوك القواهر، ولم يدفع عنهم الحصون ولا العساكر ضَلَّةً لرأيك، فأستيقظ، وضيعةً لعمرك فاستحفظ. يَا مُولَعاً بوِصَالِ عَيْشٍ نَاعِمِ ... سَتُصَدُّ عَنْهُ رَاضِياً أوْ كارِهَا إن المَنِيَّة تُزْعِجُ الأحْرَارَ عَنْ ... أوْطَانِهمْ والطَّيْرَ عنْ أوْكَارِهَا
فقطع حبائل الأمل ورجاه. واعلم أنك إن لم تمت فجأة مرضت فجأة، فاستعن على ترقيق قلبك وخشوعه، واحتسب (¬1) طرفَكَ ودموعه بتصور حال خروج الروح من الجسد، والمفارقة للأهل والولد، والسَّفَر الذي ليس بعدَهُ إياب إلى المنزل الذي وساده الحجرُ، وفراشُهُ التراب حيث لا أهل ولا أصحاب، ولا أنس ولا أتراب، هيهاتَ ما في الترابِ من تِرب، ولا في الشراب من شَرب. إن آخر قضاء الإخوان لحقوقكَ، وأول قطيعتهم لك وعقوقك هيلُهُم للتراب على قبرك عند الدفن، وإدرارهم من الدمع ما سحَّ به الجفن، ثم كلما رَمَّ جسمُكَ في لحدك، وأكل الترابُ من جلدك، رمَّت عندهم حبائلُ ودِّك، وامّحت رسومُ عهدك. وإلى هذا أشار من يقول في بعض الفصول: صدق المثل: (لا صَدِيقَ لميت لو كان يصدق مات حين يموتُ) فما اشتغالُكَ بما لا ينفعك في معاشك، ولا معادك، ولا يُبصرك (¬2) في اقترابك ولا ابتعادك، اصْحَبْ صاحباً لا تحتاج معه إلى سواه، وهُمّ عملاً واحداً لا تكلف نفسك إلا اياه، لعل قلبَكَ بذلك الصاحب يأنس، ونفسَكَ من غير ذلك العمل تيأس، إنَّكَ إن جلوت بالخلوة فؤادك، وقصرت على الخير مرادَكَ، وكحلت عينيك سُهَادَكَ، واتخذت الله في كل أمر عمادَك، وشفعت بالدموع لمردود وجهك الذي لا حياء في ديباجته، ورفعت إلى الله يديك مرتعشاً من هيبته وجلالته، وشفعت ذلك بإطالة السجود والناس هُجود، وبالإلحاحِ في طلب القبول والناس غفول، رَجَعتْ لك رعاية تأخذ بضبُعَيْك عند السقطات، وتُنقذك من ورطتك عند الورطات، لعلهم إن عَلِمُوا بحبه، يرعون حق ودِّهِ لقلبه، ويسمحون طول بُعده منهم بحسن وصله وقربه، فييأس الحساد من حنينه، ويستريحُ من عظيم كربه بإراحة ¬
القلب وسلوانه، إن لم يُفِدْ مودة من ربه. ومن كلام له رضي الله عنه: إخواني قَطِّعُوا مراثر الآمال، فإن الأمر قريب، واستكثروا من صالح الأعمال، فإن السفر بعيد، وسرحوا أبصاركم في مواطن الأهوال، فإن الأمر جليل، وقلِّبوا أفكاركم في عواقب الأحوال، فإن اللُّبث قليل، واهتدوا بنور القرآن في ظلمة الحيرات، وانتفعوا بقول الرحمن (فاستبقوا الخيرات) ألا أدلكم على طبيب هذه النفوس ومطلقكلم من هذه الحبوس، عليكم بالقرآن، فإنه الطبيب الآسي، عليكم بالقرآن فإنه الكريم المواسي، ارتعوا في رياض حواميمه، انتفعوا ببيان طواسيمه، اقتدوا بأعلام مصابيحه، استقوا بغمام مجاديحه إلى قوله: "انظروا إلى معجز لا ينالُهُ طاقاتُ العباد، وجديدٍ لا يَخْلَقُ على الترداد، وأسلوبٍ يتعالى عن الإِقواء والسِّناد، وغريبٍ لا يُمَاثلُهُ ما في الأنجاد، وعربي جاء به أفصح من نطق بالضاد، تحدّى به مَهَرَةَ الكلام فأسكتهم، وأردى به فرسانَ البيان، فكبتهم أظهر به عجزهم، وأبطل به عُزَّاهُم وعِزَّهُم، وتلاه في مجامع محافلهم المشهودة بمسالفهم، وأوحاه في مسامع جحافلهم المرفودة بمصاقعهم، فقالوا مرة: ساحر كذاب، وتارة شاعر مرتاب، تَاللهِ لهم أكذب وأشعر، وأعرفُ بأساليب الكلام وأسحر، راضوا فنون البلاغة وملكوها، وارتضعوا أضاريب البلاغة ولاكوها، وخاضوا أودية الشعر وغماره، ومارسوا أعمارهم كهولة وأغماره فما بالهم وهذه الفرية على من لا يُحسن إقامة بيت من أوزانه، ولا يدري بأفنانهم في ميدان عروضه وميزانه، وأعجب من هذه رميهم له بالخيانة وهو في ألسنتهم يُدعى الأمين وبهتهم له بالخيانة وهو في بيوتهم مُصاصة المُصاصة في النسب العربي المبين، معروف البشارة في باديتهم ومَكَّتِهم،
مشهور العدالة في بطحائهم وبَكَّتهم .. إلى كلام طويل حذفناه اختصاراً (¬1). وقد ابتعد الإمام الوزير عن الناس حتى عن أهله؛ ومال إلى الزهد والورع، واشتغل بالذكر والعبادة كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه " الفضائل " وملازمة الخلوات والأماكن الخالية، كمسجد وهب (¬2)، ومسجد نُقُم، ومسجد الروية، ومسجد الأخضر، وفي المنازل العالية على سطح الجامع ينقطِعُ في بعض هذه الأماكن ثلاثة أشهر: رجب وشعبان ورمضان، ويعتذِرُ عن موافقة أهله وأرحامه، ويسألهم إسقاط الحق من الزيارة وعن غيره. كما كان يذهب إلى المفاوز، وشِعاف الجبال، وبطون الأودية، وأقام بعضَ الوقت في رأس قُلة بني مسلم (¬3) (جبل سَحَمَّر) ووصف حاله بقوله: فَحِيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونهُ ... أشمَّ منيفٍ بالغَمامِ مُؤَزَّرُ وَحِيناً بشعْبِ بَطْنِ وَادٍ كأنَّهُ ... حَشَا قلم تُمْسِي به الطَّيْرُ تصفرُ أُجَاورُ في أرَجائِهِ البُومَ وَالقَطَا ... فَجِيراتُها لِلمَرْء أولى وأجْدَرُ هُنَالِكَ يصْفُو لي مِن العيشِ وِرْدُهُ ... وإلا فَوِرْدُ العَيْشِ رَنْقُ مُكَدَّرُ فإن يَبِسَتْ ثَمَّ المراعي وأجْدَبَتْ ... فروضُ العُلاَ والعلم والدين أخْضَرُ ولا عَار أن ينجو كريمٌ بنفسه ... ولَكِنَّ عاراً عجزُهُ حين يُنصر فَقَدْ هَاجَرَ المختارُ قبلي وَصحْبُهُ ... وفرَّ إلى أرض النجاشيّ جَعفَرُ ¬
شعره له شعر كثير في أغراض شتى وأكثره في مدح علم الحديث ومدح أهله، وقد تقدم شيء من ذلك ومن شعره قوله: إن كان حبي حديثَ المصطفي زللاً ... مني فما الذنبُ إلا من مصنفه وإن يَكُنْ حبه ديناً لِمعترف ... فذاك هَمِّي وديني في تعرفه ومذهبي مذهبُ الحَقِّ اليَقين فمَا ... يُحَوِّل الحال إلا من تشوفه وذاك مذهبُ أهلِ البيت إنَّهم ... نَصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في تَصَرُّفِهِ نَصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في الفروعِ فما ... لَوْمُ الذي لام إلا مِن تعَسُّفهِ فما قفوتُ سوى أعلام منهجه ... ولا تلوتُ سوى آياتِ مصحفه أما الأصولُ فقولي فيه قولُهم ... لا يبتغي القلب حيفاً عن تحنفه ففي المَجَازاتِ أمضي نحو معلمه ... وفي المجازَات أبقى وسطَ موقفه فإن سعيتُ فسعيي حَوْلَ كعبتِه ... وإن وقفتُ ففي وَادِي مُعرّفه وحقِّ حبي له أنِّي به كَلِفٌ ... يُغنيني الطبعُ فيه عن تكلُّفه هذا الذىِ كَثُرَ العُذُّالُ فيه فما ... تّعَجَّبَ القَلْبُ إلا مِن معنفه ما الذنب إلاَّ وقوفي بين أظهرهم ... كالماء ما الأجن إلاَّ من تفوقه والمندلُ الرطب في أوطانِه حَطَبٌ ... واستقر صرفَ الليالي في تصرفه يستأهِلُ القَلْبُ ما يلقاه ما بَقِيَتْ ... لَهُ عَلاقَةُ توليعٍ بمألفِهِ (¬1) وله أيضا: إذَا فُتِّحَتْ أبوابُ رحمةِ رَبِّنا ... صَغُرْن لديها موبقات الجرائِمِ وإنْ هي لم تُفْتَحْ ولم يَسْمَحِ الخطا ... فَعدّ مِن الهُلاَّك أهل العزائم ¬
وما الربحُ والخُسران إلا لِحكمة ... بها جَفَّت الأقلامُ قبلَ الخواتم كما حجب الأبصارَ عن كُنْهِ ذاته ... لِذَا حَجَب الأسرارَ عن كل عَالِم فَقُلْ لِجميع الخائضينَ رُويدَكم ... فليسَ بسرِّ الرَّبِّ فيكم بِعالمِ فهذا مرامٌ شَطَّ مَرْمَى العُقُولِ في ... مداه فما في سُبْلِهِ غيرُ نادِم بعض ما مدح به الإمام ابن الوزير من نثر وشعر: أثنى بعض العلماء على الإمام ابن الوزير فقد وصفه الأديب البارع وجيه الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العطاب في تاريخه بقوله: الإمام الحافظ أبو عبد الله شيخ العلوم وإمامها ومن في يديه زمامها قُلِّد فيها وما قلَّد، وألفي جيد الزمان عاطلاً فطوقه بالمحاسن وقلد، صَنَّف في سائر فنونها وألف كتباً تقدم فيها وما تخلف، وله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الباع المديد والشأو البعيد الذي ما عليه مزيد، وله شعر تحسده زهر النجوم، وتود لو أنها في سلكه المنظوم. وقال القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرحال في كتابه (مطلع البدور) في وصفه: المحيط بالعلوم من خلفها وأمامها والحري بأن يُدعى إمامها وابن إمامها كان سبَّاق غايات وصاحب آيات وعنايات بلغ من العلوم الأقاصي، واقتداها بالنواصي فما أجد على قصوري عبارة عن طوله ولا أجد في قولي سعة لذكر فعله وقوله " وقد تقدم ما أثنى به عليه أحمد بن عبد الله الوزير في تاريخ آل الوزير والإمام الشوكاني في البدر الطالع. ومدحه الشاعر شهاب الدين أحمد بن قاسم الشامي بقوله: ألمَّ بمحمودِ السجايا محمد ... يُعنك وإن ضاقت عليكَ المسالِكُ فتقتبس الأنوارُ مِن روض علمه ... وتُلتمَسُ الأزهارُ وهي ضواحك
هو البحرُ علماً بل هو البدرُ طلعةً ... هو القطرُ جوداً وهو للمجد مالك كفاه كتابُ اللهِ والسنة التي ... أتانا بها مَنْ صدقته الملائكُ ففاضت له مِن حضرة القدس نُكتة ... من العلم سراً فيضُها متدَاركُ فأشرق منها طورُ سنين بهجةً ... ونوراً تعاطته النجومُ السوامِكُ فما شاطىء الوادي المقدسِ مِن طُوى ... ولا نوره إلا عليه يباركُ ولم يَتَّبِعْ نعمانَهم وابنَ حنبل ... ولا ما يقولُ الشافعي ومالكُ وأعلامَ أهلِ البيتِ ردَّ علومَهم ... وما زالَ يحكي ضعفَها وهو ضاحِكُ وما ذاك إنكار لِمشهورِ فُضلهم ... ولكنَّه في منهجِ الحَقِّ سَالِكُ وأما رجَالُ الاعتزالِ فإنَّه ... لِما صنفوه في الأصولين تَارِكُ إذا كانَ ذاك العلمُ منهم فعقلُه ... لتلك العقول العالمات مشارِكُ هنيئاً لقوم قلَّدوه لأنَّه ... أنار المعالي وهي سُودٌ حوالِكُ كأني بهم في جّنَّةِ الخُلد حولَه ... لهم سُرُرٌ مرفوعةٌ وأرائِكُ فهذا الذي أحيا شَرِيعةَ جَدِّه ... وأحيا به من في الضَّلالَةِ هالِكُ فَلَوْ قَلَّدُوه الأمر كَانَ خليفةً ... وقلتَ له الدنيا وتلك الممالِكُ وقصَّر كسرى عن مداه وقيصرٌ ... وهرموزهم، والنردَسَين (¬1) وبابكُ وسار وتاجُ المُلك مِن فوق رأسه ... كذا سارَ عيسى وهو لله ناسِكُ وحوليه مِن آل النبيِّ عِصابةٌ ... ترق للقياها الجبالُُ البوارِك يدورُ عليها من جديد سحائب ... بوارِقُها تلك السيوفُ البوائِكُ فيا لك مِن أقمار ليلٍ تقلنسَت ... كواكِب إلا أنَّهن برائِكُ يشُقُّون قَلْبَ الجيشِ والموتُ شاهد ... فيمضون قسراً والقنا متشابِكُ غُيوث ولكِنْ حين لا يسمَحُ الحيا ... ليوث ولكِن حينَ تحمى المعارِكُ ¬
أولئك أهلُ البيت أثنى بمدحهم ... وتطهيرهم مَن للسَّمواتِ سامِك فيابن رسولِ الله لستُ ببالغ ... ثناءَكَ إلاَّ أنَّني متبارِكُ فَخُذْها بعفوٍ منك واسْتُرْ عيوبَها ... ولا يهتِكنْ تلك الستارة هاتِكُ (¬1) وهذه أبيات كتبها العلامة العارف البارع يحيى بن رويك الطويلي، وكان مقيماً في تعز، يمدح الإمام محمد بن إبراهيم الوزير: أَراك تَلُوم ولا أَرْعَوي ... فَخَلِّ الهديرَ وخَلِّ الدوي كلامُك في الحق لم تعدُه (¬2) ... فيدخل في سَمْعِ صّبٍّ جَوِي وأنتَ الحكيمُ وأنتَ الرشيد ... فدَعْ عنك لَومَ السفيهِ الغوي تملَّك قلبي حُبُّ الحبيب ... وصارَ على عرشه مستوي وما زالَ ينشرُ فيَّ السَّقَام ... غرامٌ عليه فؤادي طوي وما ضَحِكَ البرقُ إلا بكَيتُ ... بُكاً ما شَفَى لي قَلباً دوِي يلوحُ فيمطر مِن أعيني ... دموعاً كَوَبْل السحابِ الروي وأتبعه مِن حنيني ومن ... زفيري رعداً شديدَ الدوي وُيوقد في الغيم ناراً بها ... يذوبُ فؤاديَ أو ينشَوِي لَهَا لهباتٌ يبيت الظلام ... يجفَل عنهن أو ينزَوي وقد طَارَ عَنْ وكر جفني الكَرَا ... فَلَيسَ إليه لَه مِن أوي وساهرني البرق حتّى الصباح ... كما ساهَر الخِلِّ خِلٌّ نوي ويظهر لي كلما شمته ... تَضَرُّب من جُنَّ أو من حَوِي كأن الذي بي من لوعة ... به فهو يقلق أو يلتوي تَصَوَّب مِن صَوبِ صنعاء لي ... فَشَبَّ الهوى مِن فؤادي الهوي ¬
وذكرني مَن ثوى ثم من ... أناس لهم في فؤادي ثوي مهماتُ قلبي ادِّكارهم ... يؤلفها البارقُ الأسنوي أحن إليهم حنينَ النياق ... وأثغوا غراماً ثُغاء الشوي ولا سيما عزِّ دينِ الهدى ... وقطبِ رحا الشرفِ الهادوي محمد المرتدي بالكمال ... وسالك كل صراط سوي وإنسان عين بني المرتضى ... ودُرَّة عقدهم اللؤلؤي وبحر المعارف ذاك الذي ... غدا البحر في جنبه كالطوي ورافع أعلام علم الحديث ... وناصب عرش الهدى المنهوي وناشر سنة خيرِ الأنام ... وقد كان منثسورها منطوي ومُحييها وبإحيائها ... جلا ذهب المذهب اليحيوي تجرد في بعث مقبورها ... وإنقاذ ما كان فيها ثوي وما زال يفتي بها في أزال ... ويخدمها خدمةَ المقتوي ويسفك في نصر أعلامها ... بصُمِّ اليراع دِمَاء الدوي فروضتُها الآن مخضرَّةٌ ... تَرِفُّ من الرِّيِّ بعد الذُّوي ومرتعها قد غدا مُعْشِبَاً ... ومن بعد صفرته قد حوي فلِلهِ دَرُّكَ من سَيِّدٍ ... على كُلِّ مكرمة محتوي ودَرُّ جحا حجةٍ أشبهُوك ... مِن هادويٍ وَمِن مهدوي هُمُ مثلُ أحرفِ بيت القصيد ... وأنتَ لهم مثلُ حرف الروي إليكم أحِنُّ حنيناً إذا ... ظما كَادَ ضلعي به يَشْتَوِي وأذكركم فيكادُ الفؤاد ... يذوبُ مِن الشَّوقِ أو ينشوِي فقلبي كليمُ بموسى الفِراق ... وحُبِّي برؤيتكم موسوي أحبُّكم يا بني أحمدٍ ... وَحُبُّكم أسُّ ديني القوي أًحِبُّكم مثل حُبِّ المسيـ ... ـح دان به الراهب العيسوي
أوفيكم حَقَّ حبي ولا ... أُدنِّسُه بغُلُو الغَوِي وأهوى على البُعدِ لُقياكم ... ولُقياكم خَيْرُ شيء هوي وأعلم أنكم كالوُكور ... ونحنُ طيورٌ إليها أوي عَطِشْتُ إلى لَثْمِ أقدامِكُم ... فيا ليتَ شعري متى أرتوي فلا زلتُم يا بني أحمد ... كهوفاً إليها اللحاق الضوي مؤلفاته اشتغل بالتأليف منذ سِن مبكرة، فهو قد صنف " العواصم والقواصم " ولما يَبْلُغ الثلاثينَ سنة، ولم ينقطع عن التأليف حتى قرب وفاته: 1 - إيثار الحق على الخلق في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته على مناهج الرسل والسلف. صنفه سنة 837 هـ وهو آخر مؤلفائه. 2 - البرهان القاطع في معرفة الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع فرغ من تأليفه في رجب سنة 801 هـ وقد طبع، وقال يحيى بن الحسين: وله كتاب البرهان في أصول الأديان قرر فيه الاستدلال بالظنيات في الأصول وهو خلافُ الجمهور ولعلَّه هو البرهان القاطع. 3 - التأديب الملكوتي وهو مختصر، وفيه عجائب وغرائب، قال صلاح ابن أحمد بن عبد الله الوزير: لم أجد هذا الكتاب في الخزانة، وإنما وجدتُ منه وريقاتٍ يسيرة من مُسَوَّدَتِهِ زادت الأسف عليه. 4 - تحرير الكلام في مسألة الرؤية وما دار بَيْنَ المعتزلة والأشعرية. 5 - التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية لأخيه الهادي بن إبراهيم الوزير.
6 - ترجيحُ أساليب القرآن على أساليب اليونان في أصول الأديان وقد طبع. 7 - تنقيح الأنظار في علوم الآثار وهو كتاب جليلُ القدر، جمع فيه علومَ الحديث وزاد فيه ما يحتاج إليه طالبُ الحديث مِن علم أصول الفقه، وأفاد فيه التعريف لمذهب الزيدية، وهو يُغني عن كتاب العلوم للحاكم، صنفه سنة 813 هـ وشرحه البدر محمد بن إسماعيل الأمير، وسماه " توضيح الأفكار على تنقيح الأنظار " في مجلدين وقد طبع. 8 - الحسام المشهور في الذب عن دولة الإمام المنصور. 9 - حصر آيات الأحكام، وقال يحيى بن الحسين في " طبقاته ": وكتاب في آيات الأحكام قدر مائتين وست وثلاثين آية. 10 - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم في أربع مجلدات، وهو الذي تقوم مؤسسة الرسالة بنشره وقد اختصره في مجلد وسماه " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " وقد فرغ من تأليف المختصر يوم الأربعاء الثالث من شهر شعبان سنة 817 هـ. وقد طبع مرتين. 11 - قبولُ البشرى في تيسير اليُسرى، مجلد لطيف ضمنه ما يجوزُ من الرخص وما لا يجوز، وما يكره وما يستحب، وأقوالُ أهل العلم في ذلك. 12 - كتاب في التفسير من الكلام النبوي ذكره في " إيثار الحق على الخلق " وقال: جمع فيه ما في جامع الأصول، ومجمع الزوائد، والمستدرك للحاكم. وقال صلاح ابن أحمد بن عبد الله الوزير: ولم يُوجد هذا الكتاب.
13 - نصر الأعيان على شر العميان كتبه رداً على أبي العلاء المعري وقال فيه ما لفظه: وقد ولع بعض أهل الجهل والغرة بإنشاد الأبيات المنسوبة إلى ضرير المعرة، وهي أحقر من أن تسطَّر، وأهون من أن تُذكر، ولم يشعر هذا المسكينُ أن قائلها أراد بها القدحَ في الإسلام من الرأس، وهدم الفروع بهدم الرأس، وليس فيها أثارَةٌ من علم، فيستفاد بيانُها، ولا إشارة إلى شبهة فيوضح بطلانها، وإنما سلك قائلها مسلك سفهاء الفاسقين والزنادقة المارقين وما لا يَعْجِزُ عن مثله إلا الأراذلُ مِن ذم الأفاضل بتقبيح ما لهم من الحسنات، وتسميتها بالأسماء المستقبحات، تارة ببعض الشبهات، وتارة بمجرد التهويل في العبارات، كما فعل صاحب الأبيات. وصدَّر الكتابَ المذكور بهذه الأبيات: مَا شَأْنُ مَنْ لمْ يدْرِ بالإسْلامِ ... والخَوْضِ في مُتشابِه الأحْكامِ لَوْ كُنْتَ تدْرِي مَا دروْا مَا فَاهَ بِالْـ ... ـعَوْرَاءِ فُوكَ، ولا صَمَمْت صَمَام لَكِنْ جَمَعْتَ إلى عَمَاكَ تَعَامِياً ... وَعُمُومَةً فَجمعْتَ كُلَّ ظَلامِ فَاخْسَأ فَمَالك بالعُلوم دِرَايَةً ... القَوْلُ فِيهَا ما تقُول حَذَام ما أذْكَرَ العُمْيَانَ للأعْيَانِ بَلْ ... ما أذْكر الأنعَامَ للأعلامِ وإذَا سَخِرْتَ بِهمْ فلَيْسَ بِضَائِرٍ ... إنْ هَرَّ كَلْبٌ في بُدُورِ تَمَامِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلأنبياءِ مُعَظماً ... لَمْ يَدْرِ قَدْرَ أَئِمَّةِ الإسْلامِ لَمْ تَدْرِ تَغْلِبُ وَائل أَهجَوْتَهَا؟ ... أمْ بُلْتَ تحْت المَوْجِ وهي طَوامِي وقال محمد بن عبد الله بن الهادي: وقد أحببتُ ذكر هذه الأبيات لما فيها مِن الذب عن أئمة الاسلام. 14 - كتاب الأمر بالعزلة في آخر الزمان.
15 - مجمع الحقائق والرقائق في ممادح رب الخلائق وقال فيه بيتين: ولي فيك دِيوان سَقَيْتُ فنونَه ... دُموعي فأضحى رَوْضُه مُتفنّنا وكنتُ امرءاً أهوى البَرَاهِينَ في الثَّنا ... فرصعتُه فِيها فَجَاء مُبرْهَنَا 16 - مختصر في علم المعاني والبيان. 17 - رسالة في عدم اشتراط الإمام الأعظم في صلاة الجمعة. 18 - كتاب في علم المعاملة. 19 - ديوان شعره. 20 - رياض الأبصار في ذكر الأئمة الأقمار والعلماء الأبرار (¬1). وأما المسائل والردود على أصحاب الأفكار المُبَدَّعة، فلا يأتي عليها العد ولا يُستطاع على ما تضمنه الرد. وفاته توفي رحمه الله يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من المحرم غرة سنة (840) (¬2) وقد بلغ من العمر أربعة وستين سنة ونصف السنة بمرض الطاعون الذي انتشر في اليمن في سنة (839) وسنة (840 هـ) وقد دفن في الرويات (مسجد الروية) المعروف اليوم بمسجد فروة بن مسيك قبلي مصلى العيد ¬
بجوار جدار المسجد. ولشمس الحور بنت أخيه الهادي بن إبراهيم الوزير فيه قولها من أبياتِ: رَحِمَ اللهُ أعظماً دفنُوها ... بالرّويات عن يمين المُصَلَّى وقال يحيى بن الحسين في طبقاته: وروي أن الوزير حسن باشا (الوالي العثماني في اليمن من غرة ذي الحِجة سنة 988 - 1013) لما عمر المسجد الذي بفروة وجدده، وعمر قبة أكيدة البناء الباقي إلى الآن، وجد قبر السيد جنب المواثر على حاله فأبقاه مكانه (¬1). خلاصة القول يتضح مما سبق أن الإمام محمد بن إبراهيم الوزير قد التزم بالعمل بنصوصِ الكتاب، وصحيح السنة في كل أمرٍ من أمور الدين، ودافع عن السُّنة وأهلها دفاعاً مشهوداً، وأبلى في ذلك بلاء حسناً، وله أقوالٌ كثيرة في ذلك منها قولُه من قصيدة دالية سبق ذكرها: يا حَبَّذا يَوْمُ القيَامَةِ شُهْرَتي ... بَينَ الخلائقِ في المَقام الأحمدِ لِمحبتي سُنَنَ الرَّسولِ وأنَّني ... فيها عَصَيْتُ مُعَنِفِّي ومُفَنِّدي وتركتُ فِيهَا جيرتي وعَشيرتَي ... وَمَحل أتْرَابي وَمَوْضِعَ مَولدِي إلى أن يقول: إني أُحِبُّ محمداً فَوْقَ الوَرى ... وبه كما فَعَلَ الأوائِلُ أقتدي فقد انقضت خيرُ القرون ولم يكن ... فيهم بِغيرِ محمد مَن يهتدي ¬
إلا أنه هناك بعضَ قضايا أصولية تردد في تحديدِ موقفه منها؛ وكان يجنح أحياناً في بداية أمره إلى معتقدات الزيدية، كما جاء في قوله من القصيدة السابقة إذا لم تكن مقحمة على صاحبها: هذي الفروع وفي الأصول عقيدتي ... ما لا يُخالف فيه كُلُّ مُوحِّدِ ديني كأهل البيت دِيناً قيماً ... متنزهاً عن كل معتقدٍ ردي لكنني أرضي العتيقَ وأحتمي ... من كل قولٍ حادث متجدِّدِ والعتيق أقوال أهلِ البيت المتقدمة على ما تضمنه " الجامع الكافي " كما جاء في ترجمته في طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين بن القاسم، ويقول في أهل البيت: وأُحِبُّ آل محمد نفسي الفِدا ... لَهُمُ فما أحدٌ كآل محمدِ هُمْ بَابُ حِطَّة والسفينة والهدى ... فِيهم، وهُمْ للظالمين بمَرْصَدِ وهُمُ النجومُ لِخير متعبِّد ... وهُمُ الرجومُ لِكل من لم يعبد وهُم الأمانُ لِكل من تحت السما ... وجزاءُ أحمد ودُّهم فتودَّدِ والقوم والقرآن فاعرف فضلَهم ... ثقلانِ للثقلين نَصُّ محمدِ ولهم فضائلُ لستُ أُحصي عدَّها ... من رام عدَّ الشهب لم تتعدد وكفي لهم شرفاً ومجداً باذخا ... شرعُ الصلاة لهم بكل تَشَهُّدِ وذكر في مقدمة " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " (¬1) ما لفظه: "وأصلي وأسلم صلاة دائمة النما، تملأ، ما بين الأرض والسما وما بينهما عليه وعلى آله الكرما الثقل المذكور مع القرآن (¬2) أئمة الإسلام، ¬
وأركان الإيمان المتوجين بتاج: {قُلْ لا أَسْاَلُكُم عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَودَّةَ في القُرْبَى} (¬1) الشاهد بمناقبهم كتاب " ذخائر العقبى " (¬2). فهو هنا قد التزم بمقولات الزيدية، وسلك في ذلك مسلك علمائها، وقصد بأهلِ البيت ما يقصِدونه من أنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولاده في اليمن (¬3) ناسياً أن كثيراً من أولاده قد سكنوا في غير اليمن مِن ديار المسلمين، وتمذهبوا بمذاهب تلك الديار، ففيهم الحنبلي والحنفي والمالكي، والشافعي، كما أن منهم أيضاً من اعتنق مذهب الإمامية الاثني عشرية، وكذلك فإن الإسماعيلية بفرقتيها المستعلية والنزارية تَدَّعي أنها تسير على منهج أهلِ البيت وإن مؤسسيها هُم من أعيان أهل البيت، وهؤلاء جميعاً يختلفون كثيراً في عقائدهم عن عقائد الزيدية. كذلك فإن الإمام الوزير التزم ببعض شعائر الزيدية كالقول بـ: حي على خير العمل في الآذان، وقد تفرد بهذه الرواية أخوه العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير حينما رد على جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم لإنكاره على أخيه بأنه خالف الزيدية، وأنكر صحة القول بـ: حي على خير العمل. ¬
وأنا في شك مما نسب إليه من تمسكه بعقائد الزيدية أصولاً وفروعاً إذ لو كان الأمر كذلك لما كان هناك مسوغ لمحاربته حرباً لا هوادة فيها في زمانه وبعد زمانه من بعض علماء المذهب الزيدي. حتى من أقرب الناس إليه. وإذا كان قد ورد شيء يدل على انتمائه إلى الزيدية في كلامه على فرض صحة ثبوته فإنما كان ذلك في بداية أمره. ومهما يكن مما نسب إليه، فإنه كان ملتزماً بالسنة أصولاً وفروعاً كما هو معروف عنه في مؤلفاته كلها، فهو يقول في مقدمة الروض الباسم (¬1): " ولم يكن بدعاً أن تنسمت من أعطارها روائح، وتبصرت من أنوارها لوائح، أشربت قلبي محبةَ الحديث النبوي، والعلم المصطفوي، فكنت ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيد ما تعفَّى من رسومه، ورأيتُ أولى ما اشتغلت به ما تعين فرض كفايته بعد الارتفاع وتضيق وقت القيام به بعد الاتساع من الذب عنه، والمحاماة عليه، والحث على إتباعه والدعاء إليه، فإنه علم الصدر الأول، والذى عليه بعدَ القرآن المُعَوَّل، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة {لتبين للناس}. وهو الذي قال الله فيه تصريحاً {إن هُو الا وحي يوحى}، وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين؛ حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمَّعة: " إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه " (¬2). وهو العلم الذي لم يشارك القرآن سواه في الإجماع على كفر جاحدِ المعلوم من لفظه ومعناه، وهو العلم الذي إذا تجاثت الخصوم للركب، وتفاوتت العلوم في الرتب أصمت مرنان نوافله كل مناضل، وأصمت برهان معارفه كُل فاضل، وهو العلم الذي ¬
ورثه المصطفي المختار والصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار، وهو العلم الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية حسناته في أمة الرسول عليه السلام، وهو العلم الذي صانه الله عن عبارة الفلاسفة، وتقيدت عن سلوك مناهجه، فهي راسفة في الأغلال آسفة، وهو العلم الذي جلّى الإسلام به في ميدان الحجة وصلّى، وتجمل بديباج ملابسه من صام لله وصلى، وهو العلم الفاصل حين تلجلَجُ الألسنةُ بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوع عمر بن الخطاب، وهو العلم الذي تفجرت منه بحارُ العلوم الفقهية، والأحكام الشرعية، وتزينت بجواهره التفاسيرُ القرآنية، والشواهدُ النحوية، والدقائق الوعظية. وهو العلم الذي يُميز اللهُ به الخبيثَ من الطيب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريب، وهو العلم الذي يسلك بصاحبه نهج السلامة، ويوصله إلى دار الكرامة، والسارب في رياض حدائقه، الشارب من حِياض حقائقه، عالم بالسنة، ولابس من كل صوف جُنَّة، وسالك منهاج الحق إلى الجَنة، وهو العلم الذي يرجع إليه الأصولي وإن برز في علمه، والفقيه وإن برز في ذكائه وفهمه، والنحوي وإن برز في تجويد لفظه، واللغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصر، والصوفي والمفسر، كلهم إليه راجعون ولرياضه منتجعون" (¬1). وإذا تأملنا هذا الكلام، وأمعنا فيه فإننا نراه قد نقض ما سبقه، بل نسفه نسفاً. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. ¬
التعريف بالعواصم والقواصم هذا هو الكتاب العظيم الذي تقوم دار البشير بنشره، ويتولى تحقيقه وتخريج نصوصه والتعليق عليه الأخ الأستاذ العلامة شعيب الأرنؤوط، قد اعتمدت في التعريف به، وبما اشتمل عليه من أبحاث على ما كتبه محمد ابن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير في ترجمته له، وقد أوجز ما اشتمل عليه من أبحاث فيما يلي: ذكر في المجلد الأول الخطبة، وفيها الإشارة إلى سنة الله في إقامة الحجج، ومقام الرفق، ومقام الشدة في ذلك، وفيها شيء من مناقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مناقب أهل بيته، ثم مناقب أصحابه رضي الله عنهم، ثم مناقب أمته، ثم ترجيح عدم التكفير لأهل التأويل منهم، وذكر كثير مما جاء في ذلك كتاباً وسنة. ثم الإشارة إلى أقربِ الطُّرقِ إلى معرفة الله تعالى والاكتفاء بالجُمَل وكيفية التعلم لذلك من كتاب الله تعالى، وذكر أقرب الأشياء إلى قطع الوسواس والشكوك، ثم في ذكر النهي عن التفكير (¬1) والاختلاف والفرق ¬
بينَ المراء المنهي عنه، والجدال بالتي هي أحسن، والحث على الصلح بين المسلمين والتأليف حسب الإمكان، ثم ذكر الموجب لتأليف هذا الكتاب والعذر في التصدي، ثم في الشروع في الجواب. والذي اشتمل عليه من المسائل العلمية هذا المجلد مسألتان: المسألة الأولى: الكلامُ في صعوبة الاجتهاد في العلم أو سهولته وذكر شرائط الاجتهاد عند الفريقين المعسرين والميسرين، والرد على من زعم أنه قد صار متعذراً على الإطلاق، وفي ذلك عشرون تنبيهاً تشتمل على بيان غلط من أوهم تعذره، أو شكك في ذلك، ودعا الناس إلى الإعراض عن طلبه. ثم الكلام فيما يكفي المجتهدين من معرفة الأخبار النبوبة، ومعرفة طرق التصحيح والجرح والتعديل .. وما يؤدي إليه القول بتعذر الاجتهاد، وخلو دار الإسلام ممن يعرف معنى كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحيح حديثه من عموم الضلالات وأنواع الجهالات، وتعذر معرفة جواز التقليد حينئذ، وارتفاع التكليف بتفاصيل الشريعة المطهرة المحفوظة صانها الله عن ذلك. وفي آخر ذلك تمام الكلام في الجرح والتعديل وفي أئمة الحديث الذين أخذ ذلك عنهم، واتصلت الروايةُ بهم، ثم الكلام في معرفة الصحابة رضي الله عنهم، وحكم المجهول منهم، ومعرفة ما يكون المسلم به صحابياً. ثم القول في معرفة ما يحتاج إليه المجتهدُ من التفسير، ثم معرفة الناسخ والمنسوخ، وحصر المنسوخات وذكرها بأعيانها مع تمييز ما أجمع على نسخه مما اختلف فيه بأوجز عبارة، ثم ذكر اجتهاد الصحابة، وعدد منْ عُرِف بالاجتهاد منهم وفيه الذَبّ عن أبي هريرة (رضي الله عنه) وعن
أمثاله من السلف وبيان صدقهم والردِّ على من اتهمهم بتعمد الكذب. ثم ذكر الحسن البصري، وأبي حنيفة رضي الله عنهما مناقبهما، واجتهادهما والرد على من قدح فيه، ثم الرد على من قال: إنه لا مجتهد بعدَ الإمامِ الشافعي رضي الله عنه، وما يُؤدي ذلك إليه من تجهيل كبار الأئمة وأحبار الأمة في مقدار ستمائة سنة، وذكر خلائق من المجتهدين في هذه القرون وتسمية كثير منهم. المسألة الثانية: القول في قبول أهل التأويل في الرواية من أنواع المبتدعة إذا عُرِفَ صدقُهم وحفظهم، وذكر الاختلاف في ذلك، وتقصي الأدلة فيه، وفي ذلك فصلان: الفصل الأول في ذكر من قال: إن قبولهم باطل قطعاً لا ظناً، وذكر أدلته وإبطالها، وذكر ما يلزمه من دعوى القطع في ذلك من اللوازم الصعبة، والإشكالات الجمّة التي بلغت مئتي إشكال أو أكثر، وفي آخر ذلك ذكر ما يَخُصُّ المرجئة ثم الجبرية من ذلك وما يؤدي إليه القولُ بأن المسألة قطعية. الفصل الثاني في ذكر الأدلة على قبول المتأولين، وفيه مسألتان: المسألة الأولى قبولُ فاسق التأويل، وفيها ذكر الاجماع على قبولهم من اثني عشر طريقاً فمن الأئمة المنصور بالله عبد الله بن حمزة، والإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين، وأخوه يحيى بن الحسين الحسنيين الهارونيين، والإمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة، والأمير الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى الهادي إلى الحق، والقاضي زيد بن محمد، والفقيه العلامة عبد الله بن زيد صاحب الإرشاد، والحاكم المعتزلي صاحب العيون والسفينة والتفسير، والشيخ أحمد بن محمد الرصاص،
وجده الشيخ العلامة المتكلم الحسن بن محمد الرصاص، والشيخ الإمام أبو عمر عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب. ثم ألحق -رحمه الله- تعالى ما يدل على صحة رواية هؤلاء للإجماع، وما اعترضت به هذه الرواية والجواب عنه، ثم شهرة خلاف المتأخرين في ذلك على تقدير التسليم أن إجماع القدماء لم يصح، وذكر نصوص أهل البيت خاصة على قبول فسّاق التأويل، ونقل ذلك من تصانيفهم المشهورة الموجودة المتداولة، ثم ذكر الحجج العقلية في ذلك ومن ذكرها منهم وتأييدها بالأدلة السمعية إلى أن تمت اثنتان وثلاثون حجة. ثم ذكر خمسة عشر مرجحاً لقبولهم على ردهم وما فيه من الاحتياط والورع. ثم ذكر المسألة الثانية من هذا الفصل الثاني، وهي قبولُ كفار التأويل عند مَنْ يقول به، ورواية الإجماع فيه من خمس طرق عن المنصور بالله، والمؤيَّد بالله يحيى بن حمزة، والفقيه عبد الله بن زيد، والقاضي زيد بن محمد، والإحالة بأكثر الأدلة إلى الأدلة على المسألة الأولى، وبيان أن هذه المسألة محل نظر واجتهاد. ثم ذكر -رحمه الله تعالى- فائدة في حكم حديث فسَّاق أهل التأويل إذا عارض رواية أهل العدل وماهية شرط التعارض. ثم ذكر -رحمه الله- خصيصتين: أولهما في فضل أهل البيت، والثانية في تقديم أهلِ كُلِّ فن في فنهم ومعرفة حَقِّ تجويدهم فيه، وعنايتهم فيه، ثم بيان التنزه عن تقديم فساق التأويل على أئمة الإسلام وأن ذلك لم يكن منه -رحمه الله- قط، وأن الخصم قد وقع فيه من حيث لم يشعر.
ثم بيان القول في العموم والخصوص إذا تعارضا، وطرف من الكلام في مسألة الجهر بالبسملة والإخفات، ثم بيان أن البخاري ومسلماً وأهل السنن الأربع لم يتعرَّضوا لحصر الحديث الصحيح، ولا ادَّعوا ذلك، بل صَرَّحُوا بنقيضه، ثم بيان حكم ما ادعى من الإجماع الظني على صحته من حديث البخاري ومسلم، وما خرج عن دعوى الاجماع الظني من حديثهما ومن لم يقل بهذا الإجماع من جماهير العلماء والمحدثين. ثم ذكر ترجيح الذي ليس بمجتهد لبعض مذاهب العلماء لموافقتهما للأخبار الصحاح، وما يرد على ذلك، والرد على من منعه. ثم ذكر التزام مذهب معين في التقَليد، وهل يجب ذلك، وما المختار فيه؟. ثم الكلام في حديث المحاربين لأمير المؤمنين علي عليه السلام وإفراد الكلام عليهم من دون أهل التأويل. ثم ذكر -رحمه الله- أربعة عشر وَهْماً من سبعة وعشرين وهْمَاً: الأول منها قولُ المحدثين بعصمة الصحابة وأن كبائرهم صغائر. الثاني: أنهم يُجيزون الكبائر على الأنبياء صلوات الله عليهم. الثالث: أن مروان بن الحكم ليس هو طريدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بل طريدُه الحكم. الرابع: في حكم مروان. الخامس: أن الزنا صح من المُغيرة بن شعبة. السادس: في تعيين جَرْحه بذلك أو جرْح الشهود عليه به.
السابع: أن الشهود الثلاثة إن لم يكونوا قاذفين، وجب جرحُ المغيرة بالزنا الذي أخبروا به. الثامن: في مناقضته في الثناء على أبي بكر، وذم من قعد عن نصرة علي عليه السلام، لأنه كان من القاعدين عن نصرته. ثم إنه ذكر -رحمه الله- كلاماً في الوليد بن عقبة، وفيه الرد على من زعم أنه من رواة الكتب الصحاح. ثم ذكر كلاماً في عبد الله بن عَمْرو بن العاص وأبي موسى، وجوَّد الكلام على الأحاديث التي فيها ذكر القوم الذين يُؤتى بهم يومَ القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيذهب بهم إلى النار فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أصحابي فيقال له: إِنك لا تدري ما أحدثوه بعدك. فهذا ما تضمنه المجلد الأول من العواصم. وأما المجلد الثاني، ففيه تنزيه إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل عن القول بالتشبيه والتجسيم، وتنزيه أئمة الحديث مطلقاً، وذكر بعض من روى عنه أئمة أهل البيت، وأئمة الحديث ممن يختلف في قبوله وفي توثيقه، وبيان نزاهة الإمام أحمد عن التشبيه، وبيان مذهبه ومذهب أهل الأثر في ذلك في فصل طويل أودعه رحمه الله كتاب الوظائف في ذلك، وزاد عليه زيادة في آخره مفيدة. ثم إنه رحمه الله ألحقه بما يُناسبه من مقالات أهل الجُمَل من أهل البيت، ثم بيان كيفية الاحتجاج على التوحيد والنبوات وسائر ما يحتاج إليه من أصول الدين، وأخذ ذلك من كتاب الله عز وجل، وكلام علماء
الإسلام من جميع الفرق، وكيفية التعلم لذلك من كتاب الله تعالى وأخذه منه. ثم ذكر -رحمه الله- مباحث في دليل الأكوان، وأورد عليهم فيه معارضات ومناقضات لم يسبق إلى مثلها وذكر أبياتاً له صادية (¬1) وشرح شيئاً منها. ثم الرد على من نسب الإمام مالكاً -رحمه الله- وأمثالَه من أئمة الفقه والحديث إلى البَلَه والجمود لعدم محارستهم علم الكلام والمعقولات، وجَوَّد الرد على من زعم ذلك في نحو أربعة عشر وجهاً، وبين ما يرجع إليه التارك لعلم الكلام في مقامين: أحدُهما: مقام النظر في معرفة الله لتحصل قوة اليقين بذلك، وثانيهما: مقام الرد على الفلاسفة والمبتدعة عند الحاجة إلى ذلك. ثم ذكر رحمه الله تعالى مذهب الفرقة الثانية من أهل الأثر وهم الجامعون بين الآثر والنظر وعلوم المعقولات والمنقولات، وأورد مختصراً لابن تَيمية في ذلك وذكر أدلة الفِرَق في التكفير وعدمه لأهل التأويل، وضمنه أيضاً كلام الإمام المنصور بالله في تعذر معرفة إجماع أهل البيت بعد تفرقهم في البلاد الشاسعة، وذكر جماعة لا يعرفون، ولا تُعرف مذاهبهم من خلفاء ودعاة وغيرهم ممن في بلاد الغرب الأقصى وبلاد اليمامة وغيرهما. ثم أورد بعد هذا ترجمة الإمام أحمد بن حنبل مستوفاة من كتاب النبلاء للذهبي الشافعي. ¬
ثم الكلام على مسألة القرآن وتجويدها، والدلالة على عدم تكفير المختلفين فيها، وذكر قول من قال من قدماء أهل البيت: إن القرآن ليس بمخلوق، كقول جمهور أهلِ الحديث، وما ذكره محمد بن منصور الكوفي الزيدي في ذلك، وفي الجُمَل وترك التكفير، ونقله لذلك من جملة أهل البيت وقدماء المعتزلة. ثم تكلَّم -رحمه الله- في مسألة الرؤية وفي عرض ذلك الذب عن الإمام الشافعي، والرد على من قدح في اعتقاده، وضمن مسألة الرؤية قواعد كباراً كلامية، وبسط القول في معنى الجسم والكلام على تضعيف أدلة المتكلمين في تماثل الأجسام، وتضعيف القول بأن المعدوم شيء وما يلزم من قال بذلك. ثم تكلم -رحمه الله- بعد هذه المقدمات في فصلين في الرؤية أحدهما في إمكانها وإحالتها، وثانيهما فيما ورد من السَمع في أنها تقع في الآخرة عند أهل السنة، وذكر أدلة الفريقين مستوفاة بألفاظهم، ثم الذب عن البخاري محمد بن إسماعيل صاحب الصحيح، والرد على من ألزمه الجَبر ببعض ما في كتابه الصحيح. ثم ذكر ستة أوهام تتعلق بمن اعتقد الإيمانَ، ولم ينطِقْ به، وهل التلفظُ بالشهادتين بعدَ الاعتقاد شرط في صحة إلإسلام أو واجب مستقل متأخر مثل الصوم والصلاة والحج؟ ثم الرد على من زعم أن المخالفين كفار تصريح، ثم بيان القدر الضروري في وجوب شكر المنعم، وطرف من الكلام في التحسين والتقبيح بالعقل، وذكر حجة من لا يقول به على أن الله تعالى واجب الصدق محال عليه أن يتصف بصفة النقص عند جميع أهل الإسلام.
ثم ذكر -رحمه الله- في المجلد الثالث من هذا الكتاب الرد على من زعم أن أئمة السنة الأثبات ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفات، واستخرج من ذلك أنهم كفارُ تصريح لإنكارهم في زعمهم العلومَ الضروريات، وأن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينة، وأنهم مجمعون على إثبات الاختيار ونفي الإجبار، وأن بيان ذلك يظهر من طريقين: أحدهما: النقل لذلك عن المعتزلة والشيعة، فإنه يوجد في كلامهم عند حاجتهم إليه في إلزام الأشعرية لبعض المناقضات، والطريق الثانية: النقل عن أئمة أهل السنة ومتكلميهم، وذكر نصوصهم المتواترة الصريحة من كتبهم الشهيرة. وذكر الفرق بين المحبة والإرادة والرضى والمشيئة، وإن الفرق بينهما في اللغة واضح، فالمحبة والرضى نقيض الكراهة، والإرادة والمشيئة معناهما واحد، وهو ما يقع الفعل به على وجه دون وجه على تفصيل قد ذكره واستدل عليه، وأطِال الحجة فيه وأدلة الفريقين من المعتزلة والأشعرية مستوفاة العقلية والسمعية. ثم أورد تأويل المعتزلة لآيات المشيئة، وهو قولهم: إن الله لو شاء أن يكره العصاة على الطاعة لفعل، لأنه لو كان يعلم لهم لطفاً إذا فعله لهم أطاعوه، لوجب عليه فعل ذلك، لأنه تعالى لا يخل بالواجب، وقد ألزمهم علماءُ الإسلام تعجيز الرب سبحانه عن هداية عاصٍ واحد على وجه الاختيار وهم يلتزمونه في المعنى، لأنه صريح مذهبهم إلا أنهم يقولون: إنه لا يستلزم اسم العجز، لأن اللطف بهم محال، والمحال ليس بشيء، والقادر لا يوصف بالقدرة على لا شيء. وأجاب -رضي الله عنه- عن هذا السؤال بأن الإحالة ممنوعة، ومع تقدير تسليمها، فيلزمهم قبحُ التكليف لأن إزاحة أعذار المكلفين عندهم
واجبة، ولذلك أوجبوا اللطف على الله تعالى، وخالفهم في ذلك قدماء أهلِ البيت عليهم السلام، كما نقله في أوائل هذا الجزء عنهم، وعن غيرهم، وجلة من المتأخرين منهم السيد العلامة الإمام أبو عبد الله مصنف " الجامع الكافي " والإمام يحيى بن حمزة وغيرهم. ثم ذكر الكلام على القضاء والقدر، وما ورد من النهي في الخوض فيه، وبيان مرتبة ذلك من الصحة، وبيان معناه، وأن الوارد في ذلك عموم وخصوص، فالعموم مثل قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} وغير هذه الآية، والخصوص عشرة أحاديث عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثوبان، وأبي الدرداء، وعن ثوبان أيضاًً، وعن ابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة، وعن ابن عباس أيضاً، وأبي رجاء العطاردي (¬1)، وليس فيها شيء متفق على صحته، ولا خرَّج البخاري ومسلم منهما شيئاً، لكن خرَّج أحمد بن حنبل منها حديثاً من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي طريق مختلف فيها اختلافاً كبيراً، وهي تصلح مع الشواهد، وخرَّج الترمذي منها حديثاً عن أبي هريرة وقال: غريب لكن خرَّج البزار له إسنادين آخرين. قال الهيثمي: رجال أحدهما رجال الصحيح غيرَ رجل واحد، وخرج الطبراني في المعجمين الأوسط والكبير حديثَ ابن عباس في ذلك، وقال الحاكم: صحيح على شرطيهما، وهذا عارض، والعود أحمد. ثم ذكر -رحمه الله- ما قاله العلماء وأهل اللغة في تفسير القضاء والقدر على اختلاف مذاهبهم وأدلتهم وأفهامهم، وغلط من زعم أن معنى القدر ¬
والقضاء معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه، وليس كذلك وذكر أن كثيراً من أهل السنة فسروا القضاء والقدر بعلم الغيب السابق، منهم القاضي عياض في شرحه لمسلم، والنووي في شرحه له، وابن بطال في شرح البخاري وغيرهم. ثم ذكر -رحمه الله تعالى- أن الأحاديثَ التي وردت في وجوب الإيمان به أكثر من سبعين حديثاً، وأنها قد كثرت كثرة توجبُ التواتر، وذكر أيضاًً بعدها نحو مائة وخمسين حديثاً، في صحة ذلك فيما ليس فيه ذكرُ وجوب الإيمان به، وكل رواتها رجال الصحيح، وتكلم على حديث " القدرية مجوس هذه الأمة " وأنه ضعيف عند المؤيَّد بالله من أئمة الزيدية وعند المحدثين. قال رحمه الله: وأما قول الحاكم أبي عبد الله: إنه صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر فشره منه بالتصحيح، فإنه لم يصح ذلك، وتصحيح كل ضعيف على شروط معدومة غير ممكن، فإن فسر القدر بالعلم، فالمذموم منْ نفاه، وإن فسر بالجبر والإكراه، فالمذموم من أثبته، ثم ذكر فائدة العمل مع القدر جواباً على من قدح في أحاديث الأقدار من المبتدعة، وأن الفائدة في العمل مع القدر مثل الفائدة في العمل مع سبق العلم، إذ كل منهما غيرُ مزيل للقدرة، ولا مؤثر فيها، ولو كان شيء من ذلك يؤثر فيها، لما تعلق جميع ذلك بأفعال الله، وجوَّد الكلام في ذلك، وشنَّع الكلام على من وعر إليه المسالك. ثم ذكر أفعال العباد، وأنه لا خلاف بينَ المسلمين أن للعباد أفعالاً مضافة إليهم يسمون بها مطيعين وعصاة، ويثابون على حسنها، ويستحقون العقاب على قُبحها، وأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، وأن له سبحانه الحجة البالغة لا عليه، وأن عقابَه لمن عاقبه منهم عدل منه
لا جور فيه ولا ظلم، وأن ذلك معلوم ضرورة من الدين، وأن الإجماع منعقد على أن أفعال العباد اختيارية لا اضطرارية، وأن الفرق بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب ضروري إلا من لا يُعتد به في الإجماع من سقط المتاع (¬1) الذين لم يرجعوا إلى تحقيق في النظر، ولا إلى حسن في الاتباع، ولا لهم في ذلك سلف ماض ولا خلف باق، وهم الجبرية الخالصة الذين لا يثبتون للعبد قدرة أصلاً. ثم ذكر أن فِرَق المعتزلة عشرون، وفرق الأشعرية أربع فرق، وأن الفرقة الثالثة من الأشعرية أهل الكسب وهم الجمهورُ منهم. قال رحمه الله: وقد طال اللجاجُ بينهم وبينَ المعتزلة وبعض الأشعرية أيضاً: هل الكسبُ معقول أو غيرُ معقول؟، وذكر أن المشنعين على أهل الكسب من الأشعرية هم إمام الحرمين وأصحابه، ومن المعتزلة أبو هاشم وأصحابه. قال: والإنصاف يقتضي أنه معقول كما عقله الشيخُ مختار المعتزلي في كتابه "المجتبى" وغيره، فإن معنى قول المشنعين: إنه غيرُ معقول أنه مستحيل تصورُهُ في الذهن وتفهمه، فإذا استحال ذلك استحالَ الحكْم عليه بالبُطلان أو الصحة. قال: وهذا غلو في العصبية وليس كذلك، ولا في معناه شيء من الغموض والدقة، فإن الكسب هو فِعلُ العبد بعينه الذي هو فعلُ الطاعات والمعاصي والمباحات وسائر التصرفات، وإنما اختاروا تسميةَ فعل العبد بالكسب دونَ الفعل، ومعناهما واحد عندهم، لأن الكسب يختصُّ بفعل العبد دونَ فعل الرب سبحانه ولا يجوزُ أن يُسمَّى الربُّ تعالى كاسباً بخلاف الفعل، فإنه مشترك إلى آخر كلامه. وهو كلامٌ طويل مفيد. ثم الرد على من نسب إلى أهل السنة إنهم يقولون بتكليف ما لا ¬
يُطاق، وإنه لم يذهب إلى هذا المذهب إلا الأقل من أهل الكلام منهم كالرازى والسُبكي صاحب " جمع الجوامع " دون حملة العلم الشريف النبوى الذي كلامه -رحمه الله- فيهم وذبُّه عنهم، ثم الرد على من زعم أنهم يخالفون في القدر الضروري من القول بجواز التعذيب بغير ذنب أو الإيلام لغير حكمة، وأن المحققين منهم لا يجوزون ذلك، وتكلم في ذلك عموماً وخصوصاً، فأما الخصوص، ففي مسألتين: الأولى: مسألة الأطفال، وأن المعتزلة والشيعة ينسبون إليهم القول بأن أطفال المشركين في النار بذنوب آبائهم، ويجزمون بذلك هكذا من غير استثناء قال: وهذا تقصيرٌ كبير في معرفة مذاهبهم، ولهم في ذلك أقوالٌ ذكرها في هذا المجلد. المسألة الثانية: مما يتوهم مخالفتهم فيه تعذيبُ الميت ببكاء أهله عليه، وأن البخارى في الصحيح والخطابي فيما رواه عنه ابن الأثير والنووي تأوَّلوا ذلك على أن الميت أوصى بالبكاء عليه كما كانت عادة العرب في ذلك، وذكر تأويلين آخرين حذفتهما اختصاراً. وأما العموم، فقال رحمه الله: إنها كلمة إجماع من أهل السنة ونقله عن نص الإمام الشافعي والزنجاني والذهبي، فهذا ما تضمنه المجلد الثالث من العواصم وهو ميدان الصراع بين الفريقين فمن أراد معرفة المذهبين معرفة تامةً وهو من أهل النظر والفهم والإنصاف فليقف عليه، وإنما طولت في ذلك -وإن كان كالخارج عن المقصود- رجاء أن يقف على هذه الترجمة من لا يشتفي بها، فيدعوه النشاط والرغبة إلى الوقوف على الكتاب، ولم آت على ترتيب ما اشتمل عليه هذا المجلد ما أتيت على ما اشتمل عليه أخواه فليعرف ذلك الواقف عليه. وأما المجلدُ الرابع من الكتاب، فجملة ما فيه سبعةُ أوهام بعدَ ثلاثين
وهماً فيما قبلَه. ثم بعد السبعة الأوهام القدح على المحدثين برواية ما يُوهم التجسيمَ، وما يُوهم الجبر، وما يُوهم الإرجاء، وما يُوهم نسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم الجواب عن المحدثين. فأما الوهم الأول فتقدم، والثاني فيه تحقيق الخلاف في التحسين والتقبيح العقليين، وفيه تفصيل غريب جيد، والوهم الثالث والثلاثون في الكلام على إمامة الجائر مطولاً مجرداً، وفيه فصول: الفصل الأول في بيان أن الباغي هو الخارج على أئمة العدل دون الخارج على أئمة الجور، في مذهب الفقهاء وسائر علماء الإسلام، وذكر في الوجه الرابع منه الإجماع على أن المقاتلين لأمير المؤمنين عليه السلام في صِفِّين والجمل بُغاة عليه ظالمون له، ونص أهل الحديث على ذلك وسائر فقهاء الإسلام، وفيه حكم قاتل علي عليه السلام، ونقل البيهقي أن قتل قاتله كان لكفره عند الشافعية، وما ورد في قاتله من حديث، وكلام أهل السنة وكذا ما ورد عنهم في أمثاله، وحكم الفاسق الصدوق، ثم القول في حكم قاتل الحسين، ثم ذكر يزيد الشقي وما ورد في ذمه من الحديث ومن كلام السلف، ودعوى الإجماع على الإنكار عليه، والإغلاظ في ذمه والإجماع على التصويب لمن حاربه. ثم ذكر -رحمه الله- تعالى فصلاً ثانياً في بيان أن من جوَّز إمامة الجائر للضرورة كأكل الميتة، فإنه استثنى من ذلك من فَحُشَ جورُه كالحجاج بن يوسف، ويزيدَ بن معاوية، ثم عاد إلى ذكر قتل الحسين عليه السلام والإجماع على تحريمه وتعظيمه، وذكر ما روي عن الغزالي من تحريم لعن كل كافر أو فاسق معين. والجواب على ذلك مستقصى في ذكر كلام الشيعة، وأهل الحديث في ذلك مطولاً مجوداً، وفيه فوائد ونكت وأحاديث في قدر ثلاث
كراريس، ثم عاد إلى الموضع الثالث وذكر موضع الخلاف بيننا وبين الفقهاء في شروط الإمامة وأنهم لم يُخالفونا إلا في النسب، فمذهبهم فيه كمذهب المعتزلة، وإنما خالفوا في مسألة ثانية تعلق بالنظر في المصالح كما بسطه من موضعه من هذا الجزء الرابع، ثم ذكر -رحمه الله تعالى- ثمرة الخلاف وما تنتجه الضرورات، ثم ما ورد من طاعة أولي الأمر وإن جاروا، وأخذ الولاية عن بعضهم، وذكر من عقد له ثم جار، وبين من تغلب من غير عقد وكان جائراً. ثم ذكر محمد بن شهاب الزهري: وإن بعض الأصحاب من أهل المذهب ادعى أنه ما روى أحد من أهل البيت حديثه وهو غلط، وقد روى عنه الإمام أحمد بن سليمان وغيره من أئمة أهل البيت كما قد ذكروه في موضعه، وعقبه بذكر من خالط الملوك من أهل العلم وما حُكم الموالاة؟ وما هي الموالاة المجمع عليها؟ وما يجوز من المخالطة لهم وما شرط الجواز. وفي ضمن ذلك بيان القدر المحرم من ذكر الدنيا وما يستثنى من ذلك وما يدخل منه في المستحب، ثم القول في إعانة الظلمة والعصاة، وما يسمى إعانة قطعاً أو ظناً وما لا يسمى إعانة. ثم ذكر ترجمة الزهري مستوعبة، وما قدح به عليه، وعدد جميعَ ما روي من الحديث وما الذي تفرَّد بروايته، ثم قصة يحيى بن عبد الله بن الحسن عليهم السلام، ومن شَهِدَ عليه بالرق، وأنه ليس فيهم أحد من الثقات، ولا ثبت أنهم شهدوا بذلك مختارين من غير إكراه. ثم ذكر أبا البختري وهب بن وهب، وأنه مجمع على جرحه، ثم إبطال قياس أهل التأويل على الخطابية، ثم الجواب على من قدح على المحدثين برواية ما يُوهِمُ التجسيم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز على الأنبياء، وفيه المنعُ من العلم بكذب ما رواه أهل الصحاح، وبيان المرجحات للمنع من ذلك، ثم بيان شواهد ما
فيها من القرآن الكريم، ثم بيان مراتب التأويل وعالم المثال، وتأثير السحر في الرؤية، والجواب الجُملي في ذلك. ثم بين معارضات بذكر تأويلات بعيدة قبلها الأصحاب، ولم يقطعوا بكذب ما أولت به مع ركتها وانحطاطها عن رتبة الصواب عند النظار من العلماء، ثم ذكر الأحاديث التي عينها المعترض، وقطع بكذبها، والجواب عنها بورود مثلها أو نحوها في القرآن ومثل تأويلها في تأويل المعتزلة للقرآن، وجملتها ستة أحاديث الأول: الحديث الذي فيه ذكر مجىء الله تعالى يوم القيامة، والثاني: فيه ذكر الكشف عن الساق ووضع القدم والضحك وتأويل ذلك، الثالث: حديث جرير في الرؤية، الرابع: محاجة آدم وموسى، الخامس: قصة موسى مع ملك الموت، السادس: خروج الموحدين من النار. والجواب عن ذلك مطولاً مجرداً، وذكر فيه فوائد أصولية وقرآنية وحديثية قدر نصف المجلد المذكور، وذكر -رحمه الله- أن أحاديث الرجاء بلغت قدر أربع مائة حديث وثمانين حديثاًً وذكر كثيراً من آيات الوعد والوعيد، وختم ذلك بقدر ثلاثين حديثاً في الوعيد بعد ذكر نيف وعشرين آية من القرآن الكريم. أعاد اللهُ علينا مِن بركته وفضله العميم ثم إنه رحمه الله تعالى ختم كتابه بهذه الأبيات: جمعتُ كتابي رَاجياً لِقَبُولهِ ... مِنَ اللهِ فالمرجوُّ منه قريبُ رجوتُ بِنَصْرِ المصطفي وحَدِيثِه ... تُكَفِّرُ لي يومَ الحِسَابِ ذُنوبُ ومَنْ يتشَفَّعْ بالحبيبِ مُحَمَّدٍ ... إلى اللهِ في أمر فَلَيْسَ يخِيبُ فيا حافظي علم الحَديثِ ليَ اشْفعُوا ... إلى اللهِ فالرَّبُ الكَرِيمُ يُجيبُ لَعَلَّ كِتابي أنْ يكونَ مُذَكِّراً ... لَكُمْ بالدُّعا لِلعَبْد حِين يَغِيبُ ولا سَيَّما بعدَ المماتِ عَسَى به ... يُبَلُّ غَلِيلٌ أوْ يُكَفِّرُ حوبُ
ولا تُغْفِلُوني إن بَلِيتُ بودِّكم ... وإن بَلِيت مني العظام تشيب ومهما رأيتُم من كتابي قُصُوَرَه ... فستراً وغفراً فالقُصُورُ مَعِيبُ وَلكِنَّ عُذْرِي واضِحٌ وهو أنَّنِي ... مِن الخلْقِ أُخْطِي تَارَةً وأُصِيبُ وقد ينْثنِي الصَمْصَامُ وهُو مُجرَّدٌ ... وينكسِرُ المُرَّان وهو صَليبُ وَلكِنَّنِي أْرْجُو إذا حََّل دارَكُم ... حَلَى منه وِرْدٌ بالأجاجِ مَشُوبُ يكون أُجَاجاً دُونَكُم فإذَا انتهَى ... إلَيكُم تلَقَّى طيبَكُم فيَطِيبُ ولما أكمل الإمام محمد بن إبراهيم الوزير كتابه " العواصم والقواصم " ختمه بقصيدته اللامية المشهورة والتي ختم بها أيضاًً " الروض الباسم ". عليكَ بأصحابِ الحَديثِ الأفاضِلِ ... تجِدْ عِنْدَهُم كُلَّ الهُدَى والفَضائِلِ أَحِنُّ إليهِمْ كُلَّمَا هَبَّتِ الصَّبَا ... وأَدعُو إلَيْهِمْ في الضُّحى والأصائِلِ ولما وقف أخوه العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير رحمه الله على هذا الكتاب وعلى هذه الأبيات تلقى ذلك بالقبول، وقال مجيباً لأخيه، فما أحسن ما يقول: وقفتُ على سِمْطٍ من الدُّرٍ فَاضِل ... تَرقُّ له شوقاً قلوبُ الأفاضِلِ لِمُتَّبعٍ منهاجَ أحمدَ جَدَّه ... وحامي حِمَى أقوالِهِ غير ناكل بديعِ المعاني في بديع نظامِهِ ... وثِيقِ المَبَانِي في فُنُونِ المَسائِلِ إذا لَزِمَتْ يُمناه نَصْلَ يَراعِهِ ... سَجَدْنَ لهُ طَوعاً جباه المناصلِ وإن خَاضَ في بَحْرِ الكَلام تَزَيَّنتْ ... بِجَوْهَرِهِ عنق الرِّقابِ العَوَاطِلِ تَبَارَى وقوم في الجدال فأصبحوا ... وإن لجَّجوا من علمهم في جداول أسمتُ عيونَ الفكرِ في رَوْضِ قَوْلهِ ... فأنشدتُ بيتَ الأبطحي المُواصِل أعوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طاعِنِ ... عَلَينَا بِشَكٍّ أوْ مُلِحٍ بِبَاطِلِ
وثنَيَّتُ لمّا أن تَصفَّحْتُ نظْمَهُ ... بِقَوْلِ فَصيحٍ نَابِهِ القَوْلِ فَاضِل يَرُومُ أنَاسٌ يَلْحَقُونَ بِشأوِهِ ... وَأيْن الثُّريا مِن يدِ المُتَطَاوِلِ؟ وثلَّثت بالبيتِ الشهير وإنه ... لدُرَّةُ عقد المفردات الكوَاملِ وقد زادني حباً لِنَفْسِي أنَّنِي ... بَغِيضٌ إلى كُلِّ امرىءٍ غَيْرِ طَائِلِ علامَ افتراقُ النَّاسِ في الدِّين إنَّه ... لأمْرٌ جلي ظَاهِرٌ غَيْرُ خَامِلِ عليكَ بمَا كَان النَّبِيُّ مُحمَّدٌ ... علَيه وَدَع مَا شِئتَ مِنْ قَولِ قَائِلِ هُو المَسلكُ المَرضِي والمَذهَبُ الَّذِي ... عَليْهِ مَضَى خَيْرُ القُرُونِ الأوائِلِ فَدِنْ بالذِي دَانَ النَّبِيُ وَصحبُهُ ... مِن الدِّينِ، واترُك غيرَهُم في بَلابلِ هُمُ الشَّامَة الغَرَّا وهُم سَادَة الوَرَى ... وَهُمْ بَهجَةُ الدُنيا ونُورُ القَبائلِ وأرفَعُ مَا تدلي به مِنْ فضَائِلٍ ... على الخَلقِ أدنَى مَا لَهُم مِنْ فَوَاضِلِ إذَا أنت لم تسلُك مسالك رُشدِهم ... وَتُمسِكُ مِنْ أقوَالهِم بِالوَصائلِ فَقَدْ فَاتك الحَظُّ السِّنِيُّ وَلم تكُنْ ... إلى الحَقِّ فِي نَهْج السَّبِيلِ بِوَاصلِ رَضيتَ بِدينِ المُصطفي ووصِيِّه ... وأصحابِهِ أهْل النُّهي والفَوَاضَلِ همُ قادةُ القاداتِ بَعْدَ نَبِيِّهِم ... إلى مَشرَعِ الحَقِّ الرّّوِي (¬1) السلاسِل إلى السُّنَّةِ البيضَاءِ والمِلَّةِ التي ... عَليها مَثارُ النَّقعِ مِنْ كُلِّ صَائِلِ وَلَكنَّها عَزَّت بِدَعوَةِ أحمَد ... وَقَامَتْ بِبُرْهانٍ مِن الحَقِّ فاضِلِ مؤيَّدة في حَربِهَا بِمَلائِكٍ ... مُشَيَّدَةٍ في أمْرِها بِعَواسِل عِصَابَة جِبرِيل الأمينِ جُنُودُها ... تَحُفُّ بِهَا في خَيلِهَا في قنابِلِ (¬2) أقَامَت مَعَ الرَّايَات حَتَّى كَأنَّهَا ... مِنَ الجَيشِ إلا أنَّها لَم تُقَاتِلِ ولَم يعْجِزِ الصِّدِّيقُ بَعَدَ وَفَاتِهِ ... عَنِ الحَرْبِ بَلْ شَادَ الهُدَى بِجَحَافِل ¬
وتَابَعَهُ الفارُوقُ فَاشْتَدَّ رُكْنُهُ ... وسَار بِهِم في الحقِّ سِيرَة عَادِلِ وتمَّم ذو النُّورَينِ سَعْياً مُبَارَكاَ ... وَعَمَّ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ بِنَائِلِ وَقامَ بِأعْبَاءِ الخلافَةِ بَعدَهُم ... عَلِيٌّ فأمسَى الدِّينُ رَاسِي الكَلاكلِ عَلَيكَ بهَدْي القَوم تنْجُ مِنَ الرَّدَى ... وتَعلُو بِهِم في الفَوزِ أعلى المنَازِلِ وختم الهادي بن إبراهيم الوزير رحمه الله هذه القصيدة العظيمة بما يلي: كتب هذه الأسطر الفقيرُ إلى رحمة الله ورضوانه الهادي بن إبراهيم ابن علي بن المرتضى أرضاه الله بعفوه حامداً له، ومصلياً على نبيه ومسلماً ومُرَضياً على آله وصحبه " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعلْ في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ". صنعاء في 19 رجب سنة 1404 الموافق 19 نيسان سنة 1984 إسماعيل بن علي الأكوع غفر الله له ولوالديه
ترجمة المؤلف بقلم الاستاذ إبراهيم الوزير
ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير المجدّد الإسلامي، المصلح المجتهد المطلق، الحجّة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير (775 - 840 هـ) " تبَحَّرَ في جميع العلوم، وفاق الأقرانَ، واشتهر صيتُه، وبَعُدَ ذِكْرُه، وطار عِلْمُه في الأقطار. لو قُلْتُ: إنَّ اليمنَ لم تُنْجبْ مثله لا أبعد عن الصواب وفي هذا الوصف ما لا يحتاج معه إلى غيره ... " الإمام: محمد بن علي الشوكاني. نسبه: هو الإمامُ المجتهد المطلَق، المفَسِّرُ الحافِظُ، المُحَدِّثُ العلامة المُتْقِنُ الأصوليُّ الفقيه المُتَكَلِّمُ الحُجَّةُ، " محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتَضى، بن المفضَّل، بن منصور، بن محمد العفيف، بن المفضَّل، ابن الحجاج، بن علي بن يحيى، بن القاسم، بن يوسف، بن يحيى المنصور، بن أحمد الناصر، بن يحيى، بن الحُسين بن القاسم، بن إبراهيم، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن الحسن، بن الحسن السِّبْط، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " اشتهر بابن الوزير " اليمني " الصنعاني.
مولده .. ووفاته: وُلِدَ في شهر رجب عام 775 هـ " بهجر الظهراوين من شظب " وتوفي في 27 محرم عام 840 هـ عن 65 عاماً. أساتذته: في اللغة العربية: الهادي بنُ إبراهيم الوزير، ومحمدُ بنُ حمزة بن مظفر. في علم الكلام: عليُّ بنُ عبد الله بن أبي الخير اليمني. في علم أصولِ الفقه: عليُّ بن محمد بن أبي القاسم. في علم التفسيرِ: عليُّ بنُ محمد بن أبي القاسم. في علم الفروع: عبدُ اللهِ بن حسن الدواري وغيره من مشايخ صعدة. في علم الحديث: عليُّ بنُ عبد الله بن ظهيرة بمكة المكرمة وفي غيرها نفيس الدين العلوي، ومن شيوخه: الناصرُ بنُ الإمام المطهر الحسني، ودرس على جماعة عدة. تلامذته: وقد تلمذ له الكثيرون مِن العلماء، وتسابقوا على ورود مَشْرَعِهِ الصافي، والمَوْرِدُ العذبُ كثيرُ الزِّحام، ونذكر من مشهوري تلاميذه: محمدُ بن عبد الله بن الهادي الوزير، والإمام الناصر صلاح الدين محمد بن علي بن محمد، وعبدَ الله بن محمد بن المُطَهّر، وعبدَ الله بن محمد بن سليمان الحمزي.
مؤلفاته: 1 - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، وهو أعظم كتبه، وأفضلها، تقوم بنشره دار البشير لأول مرة. 2 - البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع .. مطبوع 3 - التأديب الملكوتي .. مخطوط 4 - التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية .. مخطوط 5 - الأمر بالعزلة في آخر الزمان .. مخطوط 6 - إيثار الحق على الخلق .. مطبوع 7 - ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان .. مطبوع 8 - تنقيح الأنظار في علوم الآثار .. مطبوع 9 - الحسام المشهور .. مخطوط 10 - واضحة المناهج وفاضحة الفوالج .. مخطوط 11 - حصر آيات الأحكام الشرعية .. مخطوط 12 - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم .. مطبوع 13 - قبول البُشرى بالتيسير لليُسرى .. مخطوط 14 - القواعد .. مخطوط 15 - مجمع الحقائق والرقائق في ممادح رب الخلائق .. طبع مختارات منه 16 - نصر الأعيان .. طبع مختارات منه 17 - التفسير النبوي .. مخطوط ثناء العلماء عليه: ترجم له الإمام الشوكاني، والسخاوي، والحافظ ابن حجر
العسقلاني، وصاحب مطالع البدور، والوجيه العطاب اليمني، والشريف الفاسي المالكي في كتابه " العقد الثمين ". يقول عنه الشوكاني: " هو الإمامُ الكبيرُ، المجتهد المطلق، المعروف بابن الوزير .. قرأ على أكابرِ مشايخ "صنعاء"، "وصعدة"، وسائر المدن اليمنية و"مكة"، وتبحر في جميع العلوم، وفاق الأقرانَ، واشتهر صيتُه، وبَعُدَ ذكرُه، وطار علمُه في الأقطار " .. ويصل الشوكاني إلى تلخيص رأيه فيه، فيقول: " والحاصل أنه رجل عرفه الأكابرُ، وَجَهِلَه الأصاغرُ، وليس ذلك مختصاً بعصره، بل هو كايْن فيما بعدَه مِن العصور إلى عصرنا هذا، ولو قلتُ: إن اليمن لم تُنجِبْ مثلَه، لم أُبْعِدْ عن الصواب، وفي هذا الوصف ما لا يحتاح معه إلى غيره ". وقال صاحب " مطالع البدور": " ترجم له الطوائفُ، وأقر له الموالف والمخالف ". مكانته العلمية: يقول عنه الشوكاني: " إن صاحب الترجمة لما ارتحل إلى " مكة "، وقرأ علمَ الحديث على شيخه " ابن ظهيرة " قال له: أي ابن ظهيرة: " ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى الإمام الشافعي، أو أبي حنيفة. فَغضِبَ " ابنُ الوزير " وقال: " لو احتجتُ إلى هذه النسب، أو التقليدات ما اخترتُ غيرَ الإمام القاسم بن إبراهيم، أو حفيده الهادي ". ثم قال الشوكاني: "إنه ممن يَقْصُرُ القلمُ عن التعريف بحاله وكيف
يُمْكِنُ شرحُ حال من يُزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمن بعدهم من الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم .. ويُضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة في مقالاتهم، ويتكلَّم في الحديث بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون، ومعرفة رجال الأسانيد شخصاً وحالاً، وزماناً ومكاناً .. وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد يَقْصُرُ عنه الوصفُ. ومن رام أن يَعْرِفَ حاله ومقدارَ علمه، فعليه بمطالعة مصنفاتِه، فإنها شاهد عدلٍ على علو طبقته، فإنه يسْرُدُ في المسألة الواحدةِ من الوجوه ما يبهر لُبِّ مطالِعه، وُيعَرِّفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا " الإمام " كما يفعله " في العواصم والقواصم "، فإنه يورد كلامَ شيخه السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه، ثم ينسفه نسفاً بإيراد ما يُزيفه به من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالمُ الكبيرُ في قوته استخراج البعض منها، وهو في أربعة مجلدات يشتمِلُ على فوائد في أنواعٍ من العلوم لا توجد في شيء من الكتب. ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله ولكن أبى ذلك لهم ما جبلوا عليه من غمط محاسن بعضهم لبعض ودفن مناقب أفاضلهم" .. وقال عن مكانته العلمية أيضاًً: " إنه إذا تكلَّم في مسألة لا يحتاج بعدَه الناظر إلى النظر في غيره من أي علم كان " .. نثره وشعره: يقول الإمام الشوكاني عنه: " كلامه لا يُشبه كلامَ أهلِ عصره ولا كلام مَنْ بعده، بل هو من نمط كلامِ ابن حزم، وابن تيمية، وقد يأتي في كثير من المباحث بفوائدَ لم يأت بها غيرُه كائناً مَنْ كان ".
وديوان شعره مجلد، وشعره غالبه في التوسلات والرقائق، وتقييد الشوارد العلمية والمجاوبة لمن امتحن به من أهل عصره، فإن له معهم قلاقلَ وزلازلَ، وكانوا يثورون عليه ثورةً بعدَ ثورة، وينظمون في الاعتراض عليه القصائدَ، وأفضى ذلك إلى أن اعترض عليه شيخُه المتقدم ذكرُه برسالة مستقلَّةٍ فأجابه بما تقدم، " فكان يُجاوبهم ويصاولُهم، ويُحاولهم فيقهرهم بالحجة، ولم يكن في زمنه مَنْ يقوم له لِكونه في طبقة ليس فيها أحدُ من شيوخه فضلاً عن معارضيه .. والذي يغلب على الظن أن شيوخَه لو جُمِعُوا جميعاً في ذاتٍ واحدة لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا " .. صور من نثره: قال يصف الرسولَ والرسالة في مقدمة كتابه " الروض الباسم ": " أما بعد، فإن الله لما اختار محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً أميناً، ومعلماً مبيناً، واختار له ديناً قويماً، وهداه صراطاً مستقيماً ارتضاه لجميع البشر إماماً، وجعله للشرائع النبوية ختاماً، وأقسم في كتابه الكريم تبجيلاً له وتعظيماً، فقال عز قائلاً كريماً: {فلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حرَجَاً مِمَّا قَضَيْت وَيسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .. ثم إنَّه عز وجل أثار أشواقَ العارفين إلى الاقتداء برسوله بكثرة الثناءِ عليهم في تنزيله مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل: {الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يجِدُونَه مكتُوباً عِنْدَهُم في التَّورَاةِ والإنْجِيلِ} .. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة .. الشاهدة لمتبعيه بالطريقةِ القويمة. فلما وعت هذه الآياتُ آذان العارفين وتأملتها قلوبُ الصادقين، حَرَصُوا على الاقتداء به في أفعاله، والاستماع منه في أقواله،
فكانوا له أتبعَ من الظَّل، وأطوعَ من النعل، فعلمهم أركانَ الإسلام وشرائعَه وفرائضَه ونوافله، وكان بهم رؤوفاً رحيماً، وعلى تعليمهم حريصاً أميناً. كلما وصفه ربُّ العالمين حيث قال في كتابه المبين: {لَقَدْ جَاءكم رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَليِهِ ما عَنتُّم حَرِيصٌ عَليْكُم بِالمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فلم يزل عليه الصلاةُ والسلامُ يُرشدهم إلى أفضل الأعمال، ويهديهم إلى أحسنِ الأخلاق، ويلزمهم ما في النجاةَ والفوزَ في الآخرة، والسلامة والغبطة في الدنيا من لزوم الواجب والمسنون، ومجانبة المكروه وترك الفضول، فلم يترك خيراً قَطُّ إلا أمرهم به ففعلوه، ودعاهم إليه فأجابوه، حتى لم يكن في زمأنه شيء مِن أعمال البر متروكاً، ولا منهج من مناهج الخير إلا مسلوكاً .. فلما تَمَّ ما أراد اللهُ تعالى برسوله من هداية أهلِ الإسلام، وبلغ إلى الأنام جميعاً ما عنده من الأحكام من العقائد والآداب والحلال والحرام، أنزل الله في ذلك تنصيصاً وتبييناً: {اليوْمَ أَكمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِينا} .. فكمل الدينُ في ذلك الزمان، ووضحت الحجةُ والبرهان، ودحضت وساوس المشتبهين، وانحسمت قوادِمُ المبطلين، إذ لا حجة على الله بعدَ الرسل لأحدٍ من العالمين بنصِّ كتابه المبين. وقال يَصِفُ أحاديثَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: " فإنَّه علمُ الصدرِ الأوّل، والذي عليه بعد القرآن المعوَّل، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة لتبين للناس. وهو الذي قال الله فيه تصريحاً: {إنْ هُو إلا وَحْيٌ يُوحى} وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين حيث قال في التوبيخ لِكُلِّ مترف إمَّعه: " إنِّي أوتيتُ القُرآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " وهو العلم الذي لم يشارك القرآن
سواه في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه، وهو العلمُ الذي إذا تجاثت الخصومُ للركب، وتفاوتت العلومُ في الرتب، أصْمَتْ مرنانُ نوافله كُلِّ مناضل، وأصمت برهانُ معارفة كُلِّ فاضل وهو العلم الذي ورثه المصطفي المختار، والصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار. وهو العلمُ الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية حسناتُه في أمة الرسولِ عليه السلامُ، وهو العلم الذي صانه اللهُ عن عبارات الفلاسفة، وتقيدت عن سلوك مناهجه، فهي راسفة في الفلا آسفة، وهو العلم الذي جلّى الإسلامُ به في ميدانِ الحجة، وصلَّى، وتجمل بديباج ملابسه من صام لله وصَلى، وهو العلمُ الفاصل حين تلجلج الألسنةُ بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوعَ عمر بن الخطاب، وهو العلمُ الذي تفجَّرت منه بحارُ العلوم الفقهية، والأحكام الشرعية، وتزينت بجواهره التفاسيرُ القرآنية، والشواهد النحوية، والدقائقُ الوعظية، وهو العلم الذي يميزُ اللهُ به الخبيثَ من الطيب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريِّب، وهو العلمُ الذي يسلك بصاحبه نهج السلامة ويوصله إلى دار الكرامة. والسارب في رياض حدائقه، الشارب من حياض حقائقه، عالم بالسنة ولابس من كل صوف جُنة، وسالك منهاح الحق إلى الجَنة، وهو العلم الذي يَرْجِعُ إليه الأصولي، وإن برز في علمه، والفقيه وإن برز في ذكائه وفهمه، والنحوي وإن برز في تجويد لفظه. واللغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصر، والصوفي والمفسر كلهم إليه راجعون، ولرياضه منتجعون " .. إن أسلوب محمد بن إبراهيم الوزير في الكتابة وإن كان يهتم بأناقة الجملة إلا أنها غنية بالمعاني، فسجعه غيرُ متكلف يسيرُ في سُهولة ويُسر، ممتلئاً بالمعاني العظيمة، معبراً عما يُريد دون حشو أو تكلف ..
إن أسلوب الكتابة في القرن الثامن الهجري كان يرزح تحتَ المحسنات البديعية، والحلى اللفظية حى إن أغلب الإنتاج الفكري كان حينذاك خِلْواً من المعاني، متكلفاً لا يدل إلا على خواء الأفكارِ .. ولقد أدرك الإمام الشوكاني في القرن الثالث عشر الهجري بحاسته المرهفة مدى تَرَدِّي الأسلوب الكتابي في المحسنات اللفظية، وما تَجُرُّه على المضمون والمحتوى من فراغ معنوي متكلِّف حين قال عبارته الناقدة البصيرة ببلاغة التعبير عن التكلف في الشعر ولا نرى التكلف في النثر إلا موثراً على روعة الأسلوب الكتابي تماماً كما هو الحال في الشعر: " وإنَّ من لا يَعْرفُ محاسنَ الشعر إلا بالنكات البديعية المتكلفة خلاف ما ذكرنا، فهو غيرُ مصيب، فإن غالب أشعارِ المتأخرين إنما صارت بمكان من السماجة لتكلُّفِهِم ذلك ". كما أنه أدرك عمق أسلوب محمد بن إبراهيم الوزير: فعلى الركم من اعتماده السجع إلا أنه غَيرُ متكلف، ويتميَّزُ بوضوح المعنى، وموافقة المضمون للشكل في سهولة ويسر، ولذلك رأينا الإمام الشوكاني يقول في ترجمته عن أسلوب محمد بن إبراهيم الكلامي بأن " كلامه لا يُشبه كلام أهلِ عصره، ولا كلام مَن بعده ". صورة من شعره: قال: العِلمُ ميراثُ النَّبيِّ كذا أََتَى ... في النَّصِّ والعلماءُ هُمْ وُرَّاثُهُ فإذَا أَرَدْتَ حقيقَةً تَدْري لِمن ... وراثه فكرتَ ما مِيرَاثُهُ ما وَرَّثَ المُخْتَارُ غَيْرَ حَديثِهِ ... فِينَا وَذاكَ متاعُه وأثَاثُه فَلَنا الحَديثُ وِرَاثَةً نَبَوِيَّة ... وَلِكُلِّ مُحدِث بدعة إحداثُه
وقال: فحيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونَه ... أَشَمَّ مُنيفٍ بالغَمامِ مُؤَزَّرُ وَحيناً بِشِعْب بَطْنِ وَادٍ كَأَنَّهُ ... حَشَا قَلَمٍ تُمْسِي به الطَّيرُ تَصْفِرُ إذا التفَتَ السَّارِي به نَحْوَ قُلَّةٍ ... تَوَهَّمَهَا مِنْ طُولِهَا تَتَأخَّرُ أجَاوِرُ في أَرْجَائِه البُومَ وَالقطا ... فَجِيرتها للمرء أَوْلَى وَأَجْدَرُ هُنَالِكَ يَصْفُو لِي مِن العَيْش وِرْدَهُ ... وإلا فَوِرْدُ العيشِ رَنْقٌ مُكدَّرُ فإنْ يَبسَت ثَمَّ المَرَاعِي وَأَجْدَبَتْ ... فَرَوْضُ العُلا والعِلم والدِّين أَخْضَرُ ولا عَارَ أن يَنْجُو كرِيمٌ بنَفْسِه ... وَلكِنَّ عَاراً عجزُه حِينَ يُبْصِرُ فَقَدْ هَاجَرَ المُخْتَارُ قَبْلِي وَصَحْبُه ... وَفرَّ إلى أرض النجاشيِّ جَعْفَرُ معالم شخصيته وتفكيره: إنَّ محمدَ بن إبراهيم الوزير يُمَثِّلُ الشخصيةَ المسلمة التي تلقت معالِمَ تفكيرها عن القرآن والسنة النبوية، فهو تَلميذ لكتاب الله وسنة رسوله لا لشيء سواهما .. لقد اتجه مباشرة إلى النبيع الصافي ليستضيء بالنور الإلهي، ويضيء للأمة الطريق. لقد وجد محمدُ بنُ إبراهيم الوزير الأمة الإسلامية دولاً ممزقة، وفرقاً متناحرة، وشيعاً ومذاهب، يُكفِّرُ بعضُها بعضاً، فاتجه أولَّ ما اتجه إلى تفكير الأمة ليرى هل يحمِلُ وحدة أم فرقة .. ؟ وفي بحثه الواسع رأى أن في قمة التفكير الذي أدى إلى الفرقة والانقسام يأتي دورُ التفكير الفلسفي الذي صاغته أهواءُ البشر بعيداً عن الاهتداء لفظاً ومعنى بالنور الإلهي الذي لا يّضِلُّ من اهتدى به ولا يشقى ..
لقد رأى محمد بنُ إبراهيم في "علم الكلام" الذي نشأ كأثرٍ مباشر وقوي للفكر اليوناني بحوثاً لا طائِلَ تحتَهَا وخروجاً بالأداة العقلية عن قدراتها. إن علم الكلام هو مضيعة للوقت، وليست أساليبُه ومناهجُهُ بالطريق الموصلة إلى الأدلة الحاسمة في الشعاب الفكرية المتعددة التي سلكها علمُ الكلام .. لقد كان أحدَ الأسباب لتمزُّق الأمَّة الواحدة وتناحرها، وتكفير بعضها بعضا .. ! إن التيه الفلسفيَّ الذي سلكه من قبل فلاسفةُ اليونان قد أوضح بصفة حاسمة عدم استطاعته الإفضاء إلى أدلةٍ حاسمة لا سبيل إلى الشك فيها، وليس في قدراته بما لا يشك فيه ذو تفكير سليم الإحاطة بما هو أكبرُ منه، وأجلُ وأعظمُ. بل إنه زاد السر غموضاً، وأتى له الانطلاق إلى ما وراء قدراته المحدودة إِلا ما شاء الله .. {وما أُوتِيتُم من العِلْمِ إلا قَلِيلاً} .. ولكن أساليب القرآن أساليبُ رسل الله وأنبيائه قد أخذت بيدِ الإنسان إلى الإيمانِ، وأخرجته من ظلمات الشك، ولم تدعه يمضي إلى ما هو خارج عن حدوده، فيضيع نفسه ووقته عبثاً، وقد يترتب على أشياء لم يهضم فهمها تَماماً أحكام متناقضة تُمَزِّقُ وحدته إلى فرق وأحزاب وشيع .. بل على العكس من ذلك أخذت بيده ليتجه إلى فهم سنن الله، والاستفادة منها. إن المهم هو معرفة واجب الوجود ذو الكمال المطلق عن طريق معرفة آثار قدرته اللامتناهية في عالم الغيب والشهادة، ومعرفة سننه التي تسير وفق
قوانينها الكون للاستفادة منها، وزيادة المعرفة بها، إذ لا يمكن لأي أداة أن تستخدم فوق طاقتها، ولكن المجال الأجدى هو في اكتشاف سنن الله، والسير بمقتضاها في طريق الحق والخير .. إن العلم الحديث، وتقدم الإنسان الفكري قد جعل حداً للضياع الفلسفي التائه، فقد نقل الفلسفة من الميتافيزيقيا -علم ما وراء الطبيعة- إلى الطبيعة نفسها -عالم الشهادة- تفسير وفهم أسبابها ومسبباتها والاستفادة منها إنها الاستجابة للصوت القرآني: {وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَاتِ ومَا في الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1) .. وعلى رأسِ الأزمِنَةِ الحديثة جاء بيكون -الأول والثاني- أبو الفلسفة الحديثة يقرران ما توصل إليه الفكر الإسلامي الخالص المتتلمذ على القرآن ذلك الاتجاه الذي يقود الفكر الإنساني إلى الطبيعة -عالم الشهادة- والتفكير في سنن الله في مخلوقاته لاستخلاص حقائقِ السنن التي تسير وفقها الكائناتُ، ولقد وضع بيكون منهجَ الفهم اليقيني على أسس ثلاثة: * الشك .. ويعني به " عدمَ الحكم ". * التجربة .. ويعني بها " منهج الاختبار ". * استخلاص النتائج .. ويعني به " الحكم على الشيء ". وهكذا ارتبط التأمل الفكري بالمجال العملى والتطبيقي، واستفاد الإنسانُ بهذه النقلة المنجزات الرائعة في التقدم الهائل السريع في كل ¬
مجالات الاستفادة مما سَخَّرَ الله للإنسان هذا الكائن المكرم .. ووجد الانسان في: * انظروا ماذا في السموات والأرض. * أفلا تعقلون .. * أفلا تتفكرون .. * يا أولي الألباب .. * لآيات لأولي النُّهى .. * {وهو الذي خلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جميعاً} .. {وسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الأَرْضِ جَميعاً منه} .. وجد الإنسان في ذلك آفاقاً لا نهائية لمجالات التقدم الرائع المذهل. إن الفلسفة التائهة لا يُمكن أن تصل إلا إلى متناقضات متعددة أما معرفة الحق سبحانه، فيستطيع العقل السليم أن يصل إليها عن طريق آياته المعجزة في هذا الكون، فإذا أرادت العقول أن تُقحم أداتَها المحدودة في اللامحدود، فلن تربح إلا عَنَاءَ السفر على حد تعبير " ابن ابي الحديد " .. إن أسلوبَ الإنسان يرْسُفُ في الضعف والهوى، ولم يترك الله الإنسان لضعفه وهواه، فبعث إليه الأنبياء معهم الهدى والنور، لذلك فإن الأسلوب الإلهي هو الحجةُ البالغة، والدليل الحاسم المُتَّسِق مع نظرة الإنسان التي لا يبتعد الإنسانُ عنها إلا مكابرة أو عناداً. هكذا رأى محمد بن إبراهيم الوزير أن كتاب ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان هو الصيحةُ في وجه الأفكار الفلسفية التي لم يكن من نتيجتها:
إلا الفرق المتعددة، المكفرة بعضها بعضا. وإلا ضياع الوقت فيما ليس له علاقة بسلوك الفرد والجماعة في الحياة .. وبكتابه " إيثار الحق على الخلق " أراد أن يسلك بالأمة الطريق الواحد .. الذي لا تتعدد عنده السبل. وبكتبه كلها كان يهدف إلى مقاصد الإسلام: * وحدة الأمة الفكرية وترك ما لا يُجدي. * وحدة الأمة على كتاب الله، واعتصامها به، وإبعادها عن مواطن الفرقة والاختلاف، وتيه الأفكار فيما لا طائل تحته .. ويبين لها مدى الابتعاد عن منطق الحق عندما تعمد إلى التكفير والتفسيق باللازم. وينهاها عن التحجُّر والغلو والتقليد وتصعيبِ الاجتهاد، فعلوم الاجتهاد ليست مقصودة لذاتها، وليست بحاجة إلى جعلها علوماً بذاتها تتبارى العقول في توسيعها وإيجاد أسرار وألغاز شكلية ولفظية لا فائدة من ورائها. إن هذِه العلوم وسيلة لاستقامة الفهم الصحيح وليست بحاجة إلى تطويل وتعقيد لفظي ومعنوي، بل إلى تيسير وتوضيح، وبيان وتبسيط، ووضوح تام. وهذا العقل نورُ من الله ليتجه مباشرة إلى نبع الهداية الإلهية في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا من خلفه، وإلى الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام. وسيجد صراطاً مستقيماً ...
وسيجد هدى وبياناً ونوراً ... وسيجد طمأنينةً في الحياة، وسلاماً في الضمير، وخيراً في دنياه وأخراه .. وفي هذا الصدد، فإنه قد قَلَّلَ مِن شأن المعتزلة التي أرادت أحياناً رغم إخلاصها وإيمانها العميق المستنير، أن تجعل العقلَ أكبر من طاقته في عالم الغيب، فإذا كان العقلُ يستطيع أن يتبين بدليلٍ قاطع وحاسم معرفة خالقه، فإنه لا يستطيع تجاوزَ ذلك، فالمحدود لا يُحيط باللامحدود، والمعتزلة والفرق الكلامية قد خاضت آفاقاً أكبر مِن طاقتها وليست ذات نفع عملي للإنسان في دنياه وأخراه، وقد حاوَلَ الإمام، التوفيق بين الفرق الإسلامية فبين لها أن خلافَهَا في الغالب خلاف مصطلحات، ويتعلق بالألفاظ أكثر من تعلقه بالمعاني، ودعا إلى تحريم كل ما من شأنه تمزيق وحدة الأمة فيما لا طائل تحته. كما أن الإمام " محمد بن إبراهيم " في كتابه العظيم " العواصم والقواصم " قد دافع عن السنة دفاعاً لم يُؤلِّف مثلُهُ في بابه وهو على حق في ذلك، لأن السنة النبوية وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره مبينة وموضحة لما جاء في كتاب الله الكريم من النصوص العامة والمطلقة والمجملة بمقتضى النص القرآني {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} الذي أوكل إليه ذلك، دالة على معاني القرآن، هادية إلى طرق تطبيقه. وهي والقرآن شيئآن متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، والمسلم الذي رضي بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً والإسلام ديناً لا يسعه إلا الأخذ بالسنة الصحيحة الثابتة، والرجوع إليها عند الخلاف، والرضى بها، والتسليم لها، وطرح ما سواها، وعدم الاعتداد بقول أحد كائناً من كان إذا كان يخالفها أو يتأولها على غير وجهها.
وقد أبدع المؤلف -رحمه الله- في هذا المجال، وأتى فيه بما يعجز عنه غيره من أهل العلم إلا أنه رحمه الله قد ترخَّص في الأخذ ببعض معايير النقد، وهي مؤوفة، وغيرها أصح منها وأسد، ولا يضيره ذلك أو بعض من شأنه، فإنه رحمه الله من أهل الاجتهاد، وخطؤه مأجور عليه إن شاء الله، وما منا إلا مَنْ رَدَّ أو رُدَّ عليه إلا صاحب العظمة صلى الله عليه وسلم. فلا بد من تمحيص تلك المعايير، وإخضاعها للموازين العلمية الدقيقة التي وضعها الجهابذة النقاد من أهل العلم -وهي مقاييس شهد بصحتها الأعداء قبل الأصدقاء- ويحكم عليها بما يليق بحالها. وخلاصة هذه الدراسة أن محمد بنَ إبراهيم الوزير قد نَهَجَ في طريق الحق والوضوح وبين: أولاًً: أن كل ما لا مجالَ للعقل فيه من الغيبيات، فلا ينبغي أن يتكلف العقل الخوض فيه، أو اعتساف تأويله حتى يكونَ لديه إمكانية ذلك، لأنه إما أن يخطىء الحقيقة، أو يتيه عنها، وهو مع ذلك لا فائدة تُرجى من الجدال النظري البحت الذي لا صلة له بمجالات الحياة العملية. إن موضوع علم الكلام ومتاهاته لا تُفِيدُ يقيناً، بل إنها تجعلهم يدورون فيما لا طائل تحته في بعد عن التفكير السليم. ثانياً: وَقد عَمِلَ على توجيه الأمة إلى منطق القرآن، وإلى العمل الذي رسم منهجه القرآن، وبين للأمة أسبابَ الاختلاف، ومن أبرز النتائج، والمعالم التى وضحها ما يلي: أ- لا تكفير ولا تفسيق باللازم، فقد كانوا يكفرون ويفسقون بعضَهم بعضاً بلازم كلامِهِم ولو لم يقولوه.
ب- دافع عن أئمة السنة، وبين خدماتهم الجليلة للحديث، والمقاييس العلمية التي وضعوها وبحوثهم وتراجمهم وتواريخهم في خدمة السنة، وهممهم العالية، ونفي عنهم ما يتهمون به بسبب ما يثبته فيه البعض من مدلول آرائهم في حرية الاختيار والعدل والخروج على الظلمة، فهم لا يقولون بالجبر ولا بمهادنة الظلمة، بل إنهم على منهج الكتاب والسنة في هداية الإنسان إلى النجدين، ومن ثم منحه القدرة على المضي فيما يختاره، وما يترتب على ذلك من مسؤولية عادلة أمام المحيط بكل شيء علماً وكذلك وضح رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقييد مبدأ السمع والطاعة فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .. جـ- بَيّن وأكد أن النبعَ الصافي للإسلام هو الكتابُ وصحيحُ السنة وما عدا ذلك، فمضيعة للعقل ومتاهات تخبط غير مجدية سبب خلافات ومنازعات لأنها أهواء لا نتيجةَ لها غير ذلك. إذ المطلوبُ مِن المسلم هو الإيمان، وعملُ الصالحات، والتزام الحق، والصبر على تنفيذ هذا المنهج الإلهي بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتفهم سنن الله، والتفكير في السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما تفكير المستكشف لآيات اللهِ المُتَبين لها، وبالاختصار المضي على الصراط المستقيم لخير الإنسان نفسه في الدنيا والآخرة {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثوَابَ الدُّنيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنيا والآخِرَةِ} .. {رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} .. لا أن يذهب الفكر فيما من شأنه مضيعة الوقت، وما لا طائلَ تحته في لعبة فكرية صبيانية تنتهي بصرخة في واد.
د- ولم يجد محمد بنُ إبراهيم الوزير وهو يعمل لِما يراه وُيؤمِنُ به طريقاً لتوحيد الأهواء المتفرقة، والصفوف المتناحرة الطريقَ ممهداً وسهلاً، بل لقد حاربه النفعيون ممن يجد في أفكاره خطراً على امتيازاتهم على الناس، وحاربه من يَخْشَوْنَ الدعوةَ الجامعة غير المفرقة، فقال في وجههم صائحاً: يا لاَئمِي كُفَّ عَنْ لَوْمِي فَمُعْتقَدِي ... قَوْلُ النبِيِّ وَهَمِّي في تَعَرُّفِهِ فَمَا قَفَوْتُ سِوَى آياتِ مَنْهَجِهِ ... وَلا تَلَوْتُ سِوَى آيَاتِ مُصْحفِهِ وعاتب أخاه من قصيدةٍ حزينة: ظَلَّت عَوَاذِلُهُ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي ... وتُعِيدُ تعْنِيفَ المُحِبِّ وَتَبْتَدِي يَا صَاحِبيَّ على الصَّبابَةِ والهَوَى ... مَنْ مِنكُمَا في حُبِّ " أَحْمَدَ " مُسعِدِي حَسْبِي بَأنّي قَدْ سَهِرْتُ بحُبِّهِ ... شَرَفَاً ببُردَتِهِ الجميلةِ أَرْتَدِي لي باسْمِهِ وبِحُبِهِ وَبقُرْبهِ ... ذِمَمٌ عظَامٌ قدْ شَدَدْتُ بهَا يَدِي وَمُحَمَّدٌ أوفي الخَلائِقِ ذِمَّةً ... فَلَيَبْلُغْنَّ بي الأمَاني في غَدِي يَا قَلبُ لا تَسْتَبْعِدَنَّ لِقَاءَهُ ... ثِقْ بِاللِّقَاءِ وبالوَفَا فَكَأنْ قدِ يَا حَبَّذا يوْمُ القِيَامَةِ شُهْرَتي ... بَيْنَ الخلائِقِ في المَقَامِ الأحْمَدِي بِمَحَبَّتِي سُنَنَ الشَّفِيعِ وَأنَّنِي ... فِيهَا عَصّيتُ مُعَنِّفِي وَمُفَنِّدِي وترَكْتُ فِيهَا جيرَتِي وَعَشِيرَتي ... وَمكانَ أَترَابِي وَموْضِعَ مَوْلدِي فَلأشكُوَنَّ عَلَيْهِ شَكوَى مُوجَعٍ ... مُتَظَلِّم مُتجَرِّم مُسْتنِجدِ وأقُولُ أنْجِدْ صَادِقَاً في حُبِّه ... منْ يُنْجِدِ المظلومَ إن لم تُنْجِدِ إنِّي أحِبُّ مُحَمَّداً فَوْقَ الوَرَى ... وبهِ كَمَا فَعَلَ الأوائِلُ أقْتَدِي فَقدِ انْقضَتْ خَيْرُ القُرونِ ولَمْ يكنْ ... فِيهِمْ لِغَيرِ مُحَمَّدٍ مَنْ يَهتَدِي
ويصف حالته هائماً في جبال عالية، وبواد خالية وعلى الرغم من ذلك أمسك بقلمه يُدافع عن الحق منشداً في حزن وألم وتوجع: فحيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونَه ... إلى آخر الأبيات الحزينة .. انقطاعه عن الناس: يقول الشوكاني: " إنه بعدَ هذا أقبل على العبادة، وتمشيخ وتوحش في الفلوات، وانقطع عن الناس، ولم يبق له شغلة بغير ذلك، وتأسَّف على ما مضى من عمره في تلك المعارك التي جرت بينَه وبينَ معاصريه مع أنه في جميعها مشغول بالتصنيف، والتدريس، والذب عن السنة والدفع عن أعراض أكابر العلماء، وأفاضل الأمة، والمناضلة لأهل البدع، ونشر علم الحديث وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلُها ذلك لا سيما في تلك الأيام، فله أجرُ العلماء العاملين، وأجرُ المجاهدين المجتهدين " ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم.
مقَدمَة التَحقيق بقلم الأستاذ شعيب الأرنؤوط
مقدمة التحقيق
بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بِهِ من شُرورِ أنفُسِنا وَمِن سَيِّئاتِ أعمالنا، من يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل، فلا هاديَ لَه. وأَشهَدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحْدَه لا شريكَ لَهُ، وأشهَدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].
وبعد: فالحمدُ لله حَمْداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيرضَى، على ما وفقنا إليه مِن تحقيق هذا السِّفْرِ النفِيسِ، وضَبْطِ نُصُوصِهِ، وتَخْرِيجِ أَحَادِيثِه، والتَّعْليقِ عَليْهِ على نحوٍ نَرْجُو أَنْ نَكُونَ قَدْ وُفِّقنَا إلَيْه، ويحوزَ إعْجابَ القُرَّاء الأكَارِمِ، ويَحْظَى بِتَقْدِيرهِمْ. فَهُوَ كتَابٌ عَظيمٌ في بَابِه، لم يُؤلِّفْ مثْلُهُ فِيمَا نعْلَمُ، ضَمَّنَهُ المُؤَلِّفُ رَحِمه الله بحوثاً قَيِّمة في عُلومٍ مختلِفَةٍ تُنْبيء عَنْ صِحَّة ذِهْن، وحَافِظةٍ واعيةٍ، واطِّلاعٍ وَاسِعٍ، وقُدْرَةٍ فائِقةٍ على تقريرِ الأدِلَّةِ، والبَرَاهِينِ المُسْتَنْبَطةِ مِنْ كتابِ الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بأُسلُوبٍ يَتَّسِمُ بالوضوحِ والجَزالَةِ، وتبحُّرٍ في جَميعِ العُلُومِ العقلِيَّةِ والنَّقلِيَّة على حدٍّ يَقْصُرُ عنه الوَصْفُ، وتَجَرُّدٍ كَاملٍ من العَصبية والهوى والتقليد. ألَّفه رَحِمَه الله بَعْدَ أن انقَطَع للكتَاب والسُّنةِ، واستَغل بِعُلُومهما، وامتلأت جَوانِحُه بجبهما، وتضلع من مختلف العلوم حتى فاق أقرانَه، وزاحَمَ شُيوخَه، وتَخطَّاهُم، وبلغ درجة الاجتهاد المطلق. فهُو -كما يقول الإمامُ الشوكاني رحمه الله-: " مِمن يَقْصُرُ القلمُ عن التعريفِ بحاله، وكيْفَ يُمْكنُ شَرْحُ حالِ منْ يُزَاحِمُ أئمةَ المذاهِبِ الأربعة فَمَنْ بَعْدَهُم منَ الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم، ويُضَايقُ أَئِمَّة الأشعَرِيَّة والمُعتَزِلَةِ في مقالاتهم، ويَتَكَلَّمُ في الحديث بكلامِ أَئِمَّتِه المعتبرين، مَعَ إحاطةٍ بحفظِ غَالِبِ المُتُونِ، ومعرفةِ رجال الأسانيد شخصاً وحالاً وزماناً ومكاناً ". وَيَلْمَحُ القارىءُ في كتابه هذا حُبَّهُ لِلحديثِ النَّبوي الشريفِ، وَمُنَاصَرة أهله، والاعتداد بِهِ، وأنه هُو والقرآنَ الكريمَ الطريقُ الأمثلُ
لِمعرفة الحق مِنْ بَيْنِ أقوالِ المختلفينَ، ولا بِدْعَ في ذلِكَ، فإنه قدْ صَرَّحَ في مختصره أنَّه قَدْ أُشرِبَ قَلْبُه مَحَبَّة الحديثِ النبويِّ والعِلْم المُصطفوي، وأنه يرى الحَظَّ الأسنى في خدمة علومِه، وإحياءِ ما دَرَسَ مِن آثارِه، وأنَّ أولى ما يُشتَغَلُ به هو الذبُّ عنه، والمحاماةُ عليه والحَثُّ على اتباعِه، والدُّعاء إليه، لأنَّه عِلْمُ الصَّدْرِ الأوَّل، والَّذي عليه بَعْدَ القرآن المُعَوَّلُ، وهُو لِعلوم القُرآن أصْلٌ وأسَاسٌ، وهُو المُفَسِّرُ لِلقُرآنِ بشهادَة {لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ}. وإن القارىء لِهذا السِّفْرِ النَّفيسِ سيرى فيه: 1 - أصالَة المَنْهَجِ المُتَمثِّل في الكتَابِ والسُّنَّةِ، وفَهْمِهما على النَّحوِ الَّذي فَهمَهُ السَّلفُ الصَّالِحُ المَشْهُودُ لهم بالفضْل والخيريَّةِ على لِسَانِ خَيْرِ البَرِيَّةِ. 2 - وُضُوحَ الفِكرة وجزالَةَ الأسلُوبِ والقُدْرَةَ على الإبَانَةِ، وقُوَّةَ العَارِضَةِ، والاستيفاءَ في الاستدلالِ بما لا يَخطُرُ على بالٍ، فإنَّه يَسْرُدُ في المسألةِ الواحِدَةِ من الوُجُوه ما يَبْهَرُ لُبِّ مُطالِعِه، ويُعَرِّفُه بِقِصَرِ باعِه بالنِّسبة لِعِلمِ هذا الإمَام، فهو يُوردُ كَلامَ شيخه في رسَالته التي اعْترضَ بها عليه بنَصِّهِ وفَصَّه، ثم يَنْسِفُه نسْفاً، بإيراد ما يُزَيِّفُه بهِ مِن الحُجَجِ الكثيرةِ، التي لا يجِدُ العالِمُ الكبِيرُ في قُوَّته استخراجَ البعضِ منها. 3 - البصَرَ التَّامَّ بأقاويلِ أهلِ العلْم من الطَّوائف الإسلامية واختلافِهم في أمَهَات المسائِل، وعرض أدِلَّتهم بدِقة وأمانَةٍ، وترجيح ما اسْتَبَانَ لَهُ صَوابُه بالحجة والبُرهان، مشفوعة بلسانٍ عفٍّ، وأسلوبٍ مُهَذَّبٍ، وقَولٍ لَيِّنٍ. 4 - الحافِظَةَ النَّادِرَةَ المُواتية التي تُمِدُّهُ بما يَشَاءُ مِن نصوصِ الكِتَاب والسُّنَّةِ
وأَقاويلِ أهْلِ العلْمِ في المسألةِ التي يَعْرِضَ لها، ويَبْحثُ فيها بما لا يَكادُ يَظْفرُ بِه البَاحِث عندَ غيْرِهِ مِنْ أهْلِ العِلْم. 5 - الجمعَ بَيْنَ الرِّوايَةِ والدِّراية، وقلما تجتمعانِ لأحدٍ، وبَصَرَاً تامَّاً في مُخْتَلِف الفنوفِ بحيث يُعَدُّ إماماً في كل فَنٍّ مِنْها. فهو يُعَُّد بحقٍّ في زُمرة أولئك المُفكِّرينَ المُصلِحِينَ الذِين استنارَتْ بأَفْكارِهِمْ المبثوثةِ في تَفاريقِ مُؤلَّفَاتِهم عُقُولُ مُعاصِريهم، ومَنْ أتى بَعْدَهُم إلى يَوْمِنَا هذا، وتنَوَّرتْ قلوبُهم، وانجلَى ما لَصِقَ بمرآتها مِنْ صدَإ الشَّكِّ والجُمُود، وانحَلَّ ما انعَقدَ في أذهانِهِم منْ شُبَهِ الزَّيغِ والارتياب. وبَعْد، فقد كنت رأيت أن أكتب مقدمة مطولة، أعرف فيها بالمؤلف وما تضمنه كتابه مِنْ بحوثٍ وآراء لَوْلا أن قامَ فضيلة القَاضي إسماعيلُ الأكوعُ مشكوراً بتزويدِنا بمقدمته الضَّافِيَة الماتِعة التي أوفت على الغايَةِ ولم تدَعْ زيادةً لمستزيد، وأَهْلُ مَكَّة أَدْرَى بِشِعَابِهَا، فاقتصرتُ في كلمتي هذه على وصف الأصولِ المعتمدة، وعملي في الكتاب. وصف النسخ المعتمدة في التحقيق: لقد تحصَّلَ لنا وقت الشروع في التحقيق أكثرُ مِنْ نسخةٍ، وهاك وصفَها: 1 - نسخة نفيسَةٌ متقنَةٌ، جيدةُ الضبط، حسنةُ الخط، وهي مقابَلَةُ، ومُحَلاَّةٌ بحواشٍ قيِّمة تُنبىء عن كون ناسخها مِن أهل العلم والفضل. وهي المرموز لها بـ (أ). الموجودُ منها الأولُ والثاني والثالثُ، وتَنْقُصُ المجلدَ الرابع
والأخيرَ، وقد كُتِبَ الأولُ منها بعدَ وفاةِ المصنف رحمه الله بقليل. المجلد الأول: عددُ صفحاته (532) صفحة، في كل صفحة أربعة وعشرون سطراً، كل سطر فيه ثلاث عشرة كلمة تقريباًَ، ينتهي بالوهم الرابع عشر الذي ختمه بقول الشاعر: أقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أبَا لأبِيكُمُ ... مِنَ الَّلؤم أِوْ سّدُّوا المَكَانَ الَّذِي سَدُّوا وجاء في الصفحة الأخيرة منه ما نصه: بلغ قِصاصةً وسماعاً ومقابلةً حسبَ الطاقة والإمكانِ في مواقِفَ آخرُها يوم السبت سابعَ شهر صفر أحد شهور سنة (854) ولله الحمدُ والمنة، وكتب ذلك العبدُ الفقير لله محمد ابن عبد الله بن المنادي، عفا الله عنه. وقوله: بلغ قِصاصة. من اقتص الحديث: إذا رواه على وجهه، كأنه تتبع أثره فأورده على قصة. وقد ألحق به فهرس جامع مفصل بخط مغاير للأصل. المجلد الثاني: ويبدأ بالكلام على الوهم الخامس عشر، وينتهي بالكلام على الوهم السابع والعشرين. وعدد صفحاته (444) صفحة، ولم يَرِدْ فيه شيء عن الناسخ، ولا تاريخ النسخ، ويغلب على الظن أن ناسخ المجلد الأول هو ناسخ هذا المجلد، فهما يجريان في كل شيء على نسق واحد، وألحق به فهرس مفصل كالأول. المجلد الثالث: ويبدأ بالكلام على الوهم الثامن والعشرين، وهو فيما ينسب إلى أئمة السنة من الإنكار منهم لأفعال العباد وتصرفاتهم،
والجواب عن ذلك وينتهي بالكلام على التحسين والتقبيح، وقول الأشعرية فيه. وعدد صفحاته (527) صفحة. وجاء في آخره ما نصه: انتهي تحريرُ هذا الجزء الثالثِ من العواصم بحمد الله ومَنِّه في يوم الخميس لعلَّه سابع شهر ذي الحجة الحرام سنة ثمانية عشر وثلاث مئة وألف، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وقْد أُلحِقَ به فهرس مُفَصْلٌ أيضاًَ. 2 - نسخة ثانية، والموجود منها مجلدان، ورمزنا لها بـ (ب)، وهي نسخة جيدة مضبوطة ومنقوطة، ومقابلة يغلب عليها الصّحة، ووقع فيها قليل من الخطأ نبهنا عليه في غير ما مَوْضِعٍ من الكتاب. وعددُ صفحات الأول منها (476) صفحة، في كل صفحة (29) سطراً، في كل سطر 14 كلمة تقريباً، ينتهي بانتهاء الكلام على الوهم الرابع عشر. وفي صفحة العنوان عدة تمليكات إحداها مؤرخة سنة 1131 هـ والثانية سنة 1133 هـ والثالثة 1193 هـ، والرابعة 1210 هـ. وهذا المجلد مصور عن الأصل الموجود في مكتبة محمد بن عبد الرحمن العُبيكان الخاصة بالرياض 413 م/42 قام بتصويره وإرساله إلينا قسم المخطوطات بجامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وجاء في آخره ما نصه: تم بعون الله وحسن توفيقه نهارَ الإثنين،
ليلة أحد وعشرين من شهر شعبان سنة تسع وستين وألف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وعدد صفحات الثاني منها (320) صفحة، ويبدأ بالوهم الخامس عشر، قال: إن التشبيه مستفيض، وينتهي بانتهاء الكلام على الوهم السابع والعشرين في شكر المنعم هل يجب عقلاً أو سمعاً، وهو كسابقه في عدد الأسطر والكلمات والخط، فهما من بابة واحدة، إلا أنه غفل من تاريخ النسخ. وجاء في آخره ما نصه: كمل المجلد الثاني، وهو النصف الأول من العواصم والقواصم بحمد الله ومنِّه وإعانته، ويتلوه في أول النصف الآخر الوهم الثامن والعشرون وهذا المجلد قد تفضَّل بإرساله الأستاذُ المِفضال إبراهيم الوزير فورَ علمه بأن مؤسسة الرسالة عازمة على تحقيقه ونشره. 3 - نسخة ثالثة، ومنها مجلدان الأول والثاني، وهي نسخة مجوَّدة ومنقوطة ومضبوطة بالشكل، وقد رمزنا لها بـ (ج) إلا أنها لا ترقى إلى نسخة (أ) و (ب) ففيها غيرُ ما خطأ وتحريف. وعدد صفحات الأول منها (378) صفحة في كل صفحة (29) سطراً، وفي كل سطر (18) كلمة تقريباً. وينتهي هدا المجلد بانتهاء الوهم الرابع عشر. وجاء في آخره: تم الجزء الأول من العواصم بحمد الله ومنِّه، وتيسيره، فله الحمد على ذلك كثيراً كما ينبغي له، وكما هو له أهل، وذلك غرةَ شهر جُمادى الآخر الذي هو مِن سنة أربع بعدَ ألفٍ بيد أفقرِ عباد الله وأحوجِهم إليه عبدِ الرحمن بن محمد بن بسمان الشمسي الحراري
عامله الله بلطفه ورأفته، وذلك في محروس مدينة صنعاء تقبَّل الله ذلك ... غفر الله لمالكه وكاتبه وعفا عنهم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وعدد صفحات المجلد الثاني (308) صفحات، وأسطر صفحاته كالأول، ويبدأ بالوهم الخامس عشر، وينتهي بانتهاء الكلام على الوهم السابع والعشرين. وقد كتبه كاتب المجلد الأول، فقد جاء في آخره: تم الجزءُ الثاني بحمد الله ومنِّه وطوله، فله الحمد كثيراً حمداً يبلغ رضاه ويزيد، وينيلنا من فضله الإلهام إلى طاعته، فقد وعد مع حمده وشكره بالمزيد، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وأصفيائه من العبيد وسلم، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين صلاة دائمة لا تفنى ولا تبيد، وسلم كثيراً. وكان تمام زبر هذا الكتاب المبارك في سلخ شهر رجب الأصم، الذي هو من شهور سنة أربع بعد ألف من الهجرة الطاهرة على صاحبها أفضل السلام، بيد من استؤجر في الكتابة المعرّض باسمه رجاء دعوة مستجابة أفقر عباد الله وأحوجهم إليه عبد الرحمن بن محمد بن بسمان ابن .... بن أحمد بن علي بن عمران العبشمي نسباً، الشافعي مذهباً، عفا الله عنه، وعن والديه، وغفر لهم ولمن دعا لهم بالمغفرة والرضوان، وألهمنا لما يرضي، غفر لمالكه، وتقبل منا ومنه. 4 - نسخة رابعة: الموجود منها المجلد الرابع، وبه تكمل النسخة الأولى التي تقدم وصفها، فهو يبدأ بالوهم الثاني والثلاثين، وينتهي بانتهاء
الكتاب، وقد رمزنا له بـ (د). وعدد صفحاته (153) صفحة، عدد أسطر صفحاته تتراوح ما بين (28) سطراً و (56) سطراً، وكلمات السطر ما بين (20) كلمة و (25) كلمة، وخطه نسخي معتاد يجري على نسق مطرد، وجاء في آخره: وكان الفراغ من رقمه يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب سنة ألف من الهجرة النبوية على مهجرها أفضل الصلاة والتسليم. 5 - نسخة خامسة: خزائنية نفيسة الموجود منها المجلد الثاني وقد رمزنا لها بـ (هـ) وعدد أوراقه 177 ورقة، في كل صفحة منها 25 سطراً، وعدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة تقريباً. وقد جاء في صفحة الغلاف ما نصه: الجزء الثاني من العواصم والقواصم تصنيف السيد السند الإمام العلامة المحدث الأصولي النحوى المفسر المتكلم البليغ الحجة السني الصوفي فريد العصر ونادرة الدهر، وخاتمة النقاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد عز الدين محيي سنة سيد المرسلين أبي عبد الله محمد ابن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي الهادوي رحمه الله تعالى رحمة الأبرار وأسكنه دار القرار. حرر هذا الكتاب المعظم برسم المجلس السامي المكرم الملحوظ بعين السعادة المخصوص بمحبة العلم والعلماء السادة عمر آغا بن محمد ... زاده خازندار الحضرة العالية الوزيرية الحسينية حرس الله مهجته بالإيمان ونور قلبه بشموس العرفان. ويبدأ هذا المجلد بالوهم الخامس عشر، وأوله: قال: إن التشبيه مستفيض عن أحمد بن حنبل وقصد بذلك القدح في كتب الحديث لكونه
من رجالهم .... وينتهي بنهاية الوهم السادس والعشرين. وجاء في آخره ما نصه: تم المجلد الثاني من كتاب العواصم بحمد الله تعالى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رجب الأصب من شهور سنة ثلاث بعد الألف من الهجرة النبوية على مهجرها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين أتم الحمد وأكمله وأفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وصف النسخ الموجودة في اليمن بقلم العلامة الفاضل القاضي إسماعيل الأكوع. توجدُ في خزانتي الجامعِ الكبيرِ بصنعاء عددٌ من نسخِ العواصمِ والقواصمِ، ولكنه لا توجدُ فيها نسخةٌ كاملةٌ بقلم كاتبًٍ واحدٍ من أولها إلى آخرِها، وهي كلُّها مكتوبةٌ بعدَ الألفِ، ففي الخزانةِ الغربيةِ. الجزءُ الأولُ، أوله " رب عونك يا كريم الحمد لله الحي القيوم إنصافاً .. الخ وآخرُه: ومن العجائبِ أنَّ من ذمَّ الحديث وأهلَه من المعتزلةِ وأهلِ الكلام لم يستغن عنهم، وإن حادَ عن التصريحِ بالروايةِ عنهم. مكتوبةً بخطٍّ جميلٍ بتاريخ يوم السبت 24 شهر ربيع سنة 1082 هـ. المداخل الرئيسية بالمدادِ الأسود بالقلمِ العريضِ المقوى بالمدادِ الأحمر، والصفحاتُ محجوبةٌ بالمدادِ الأحمر خطاً واحداً. 155 ورقة 32 س 30×20 سم. على صفحةِ العنوانِ تمليكاتٌ ليحيى بن إسحاق، ويحيى بن علي ابن عبد الله الردمي، كما يوجدُ عليها تمليكُ الإمامِ يحيى حميد الدين بتاريخ سنة 1340 هـ.
رقم النسخة 129 علم الكلام. الجزءُ الثالثُ: أولُهُ بعدَ البسملةِ: " الفائدةُ الخامسةُ من الكلامِ على القضاءِ والقدرِ، بيانُ وجوب العمل مع القدرِ وفائدتُهُ ". آخرُه من أهلِ التأويلِ، فكذلك يلزمُهُ مثل ذلك في الأشعرية، وإلا كان كما قيل: فعين الرِّضا عن كلِّ ذنبٍ كليلةٌ ... ولكِن عَيْن السُّخط تبدي المساوِيَا واللهُ سبحانَهُ وتعالَى أعلم. تمَّ الجزءُ الثالثُ من العواصمِ. بخطٍّ نسخي جيدٍ تاريخهُ يوم 27 محرم الحرام سنة 1123 هـ. 222 ورقة 35 س 29×20 سم. الجزءُ الرابعُ: فيه سقطٌ من أولِهِ، ويبدأُ من الورقة 71، وينتهي في الورقةِ 222 بقولِهِ: "إذا عرفت ذلك فغيرُ بعيدٍ أن يتحتمَ على عمر بن عبدِ العزيز ما كان منه من تولي الأمر". بخط محمد بنِ محمد بن عبد الله بن عامر. وفي نهايَتهِ قصيدةُ محمد بنِ إبراهيم الوزير. ظلت عواذله تروح وتغتدي ثمَّ قصيدةُ الهادي بنِ إبراهيمَ الوزيرِ: عجلت عواذله ولم تتأيد في ثلاثِ ورقاتٍ علم الكلام 130. كما يوجدُ في الخزانةِ الشرقية:
الجزءُ الأولُ والثاني مِنَ العواصِمِ والقواصِمِ بخطٍّ مجودٍ مضبوطٍ في 333 ورقة 27 س 30×21 تاريخُ نسخهَا في 12 رجب سنة 1002. وتوجد نسخةٌ أخرى الجزء الأول والثاني مكرر بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ حديثٍ، غيرِ مؤرخٍ نسخها. 283 ورقة 28 س 37×23. نسخةٌ أخرى من الجزء الأول. آخره: من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا. بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ غيرِ مؤرخٍ. 67 - 235 30 س 29×21. في أولِ الكتابِ ترجمةُ الصاحبِ بنِ عباد، ثم رسالةٌ تتعلقُ بالعواصم والقواصِِمِ. نسخةٌ أخرى من الجزءِ الأول مكرر: آخر المخطوط ولهذا قالَ حاتم: وإنك إن أعطيت بطنك سؤله .... الخطُّ نسخيٌّ معتادٌ. مداخلُ البحوثِ بالمدادِ الأسودِ والقلم الكبيرِ، محجوب بالمدادِ الأحمرِ، خطين من وقف الإمامِ يحيى حميدِ الدينِ. 104 ق 30 س 31×22. الجزءُ الثالثُ: أولُه. الوهمُ الثامنُ والعشرون. وفقه الله، إنَّ أئمة السنة الأثبات ... وآخره: على أنَّ الجزاء يخصُّ الكافرينَ لقولّهِ تعالى: {إنَّ الخِزيَ اليَوْمَ والسُوءَ عَلَى الكَافِرِينَ}. 22 - 387 ق 32 س 32×21.
في أولِهِ ترجمةُ المؤلفِ من ص 1 - 20 مبتور من آخره. الجزء الثالث مكرر: أوله: إن المخالفين بأسرهم قالوا: بقدرة العبدِ. لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة .. الخ. وآخرُهُ: وأبياتُ الرازي المشهورةُ تقضي له، أنه مات من التائبينَ مِنْ جميع مذاهبِ المُبْطلينَ والحمد للهِ ربِ العالمين. بخط نسخي حديثٍ، الآيات مكتوبة بالمدادِ الأحمرِ، وكذلك مداخلُ البحوث. تاريخُ الفراغِ منه يوم الخميسِ 19 شعبان سنة 1346، 191 ورقة، 28 س، 35×23. ولا شكَّ أنه توجدُ من هذا الكتابِ نسخٌ متفرقةٌ في الخزائنِ الخاصةِ: ففي خزانةِ الوالدِ العلامةِ المعمرِ القاضي أحمدَ بنِ أحمدَ بنِ محمدٍ الجرافي نسخةٌ: الجزءُ الأولُ منها قديمُ النسخِ، وأعتقدُ أنه من أواخر عصرِ المؤلفِ، ففيه في آخره ما لفظُه: فرغ مقابلةً وقراءةً على الوالِدِ صارِمِ الدينِ إبراهيمَ بنِ محمدِ بن عبدِ الله بطريقه، عن والدِهِ سيدي عزِ الدينِ، شيخِ العترةِ الأكرمينَ، وبركةِ أهلِ البيتِ المطهرين، رحمه الله عن المصنفِ ختام المجتهدينَ، وإمامِ المحققين، وحامي حِمى سنة سيد المرسلين أبي عبدِ الله محمدِ بني إبراهيمَ بنِ عليٍّ بني المرتضى، رضي الله عنه وأرضاه وأكرم نزلَه لديه ومثواه. وكتبهُ العبد الفقير إلى ربه الكريم الهادي بن إبراهيم، وفقه اللهُ ولطفَ به، وكان ذلك في شهرِ الحجةِ الحرامِ أحد شهورِ سنة 897، وللهِ الحمدُ.
قلتُ: هذا الهادي هو الهادي الصغيرُ بنُ إبراهيمَ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الهادي الكبيرِ أخي المؤلف، وكان هذا الجزءُ من خزانة آل الوزيرِ، ففي صفحةِ العنوانِ تمليك بخطّ عبدِ الله بنِ عليٍّ الوزير، هذا لفظه: هذا الكتاب من خزانة الآباءِ رضي الله عنهم قد كانَ خَرَجَ عنها، ثم عادَ إِليها بحمدِ الله تعالى بتاريخِ شهر شوال سنة 1108 وكتبه عبده بنُ عليٍّ عفا اللهُ عنهُ. وفوقَ العنوانِ صورة مكتوب في الورقة الأولى ما لفظه: من أراد النظر في هذا الكتاب المباركِ، فهو محجور أن يعلق عليه شيئاً من أنظاره، حسبما أراده المصنفُ يعلم ذلك. كتبه عثمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ (الوزيرُ). ثم صارَ من ممتلكات العلماء آل المجاهِدِ. وعليه تمليك هذا نصه: الحمدُ للهِ، من كتبِ سيدي الوالدِ العلاّمة عزّ الإسلامِ صفي الإمام أحمدَ بن عبد الرحمن بن عبد الله المجاهد -حفظه الله- ذي القعدة الحرامِ سنة 1280 هـ. ثم تحول إلى العلماءِ آل الجرافي. وهذا التمليكُ: الحمد للهِ مِن كتبِ سيدي الوالدِ المالكِ عزِّ الإسلام القاضي محمد بن أحمد الجرافي عافاه الله تعالى -وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وآله، كتبه الفقير أحمد بن محمد الجرافي. كما يوجد في خزانته أيضاً مجلد من العواصِمِ والقواصمِ يحتوي على الجزءِ الثاني والثالثِ، إلا أنه قُدِّم عند التجليدِ الجزء الثالث على الثاني.
وهذا المجلد، خطه جيد، وتاريخ نسخه يوم الثلاثاء خامس عشر شهر شوال سنة 1004 هـ، بقلم العلامةِ سعدِ الدين المسوري كتبهُ برسمِ الأديب جارِ اللهِ محمدِ بنِ عبد اللهِ بنِ أميرِ المؤمنينَ، وقد طالعهُ السيدُ العلامةُ محسنُ بنُ عبدِ الكريم بن إسحاق. وفرغَ من مطالعتهِ في شهر صفر سنة 1237 هـ. وقد استعارَهُ من القاضي عبدِ الرحمنِ المجاهدِ. ثم صارَ هذا المجلدُ من خزانةِ الإمامِ المنصورِ القاسمِ بنِ محمد، وانتقلت ملكيته بالإرثِ إلى ابنه الإمامِ المؤيدِ محمد بن القاسم. ثم تحول إلى أخيه الإمام المتوكلِ إسماعيل بنِ القاسمِ. ثمَّ صارَ في ملكِ أحدِ العلماءِ الاعلام. وتاريخُ ملكيته في شهر ربيع الآخر سنة 1235 هـ، ولكنَّ اسمَ المالِكِ طمس. ثم انتقلت ملكليتُهُ إلى القاضي العلامةِ عبدِ الرحمنِ المجاهِدِ، ثم انتقلَ إلى ملكيةِ القاضي أحمدَ ابن لطف الباري الزبيري بتاريخ شوال سنة 1284 هـ. وملكه أيضاًً القاضي إسماعيل بن محمد بن أحمد حنش. وقد انتقلت ملكيته إلى القاضي العلامةِ محمدِ بنِ أحمد الجرافي. صفحات الجزءِ الثاني 169 ص، وعدد السطور يتراوحُ ما بين 24 إلى 25 سطراً. وصفحات المجلدِ الثالثِ 247 صفحة وعددُ السطور في كلِّ صفحةٍ ما بين 24 إلى 25 سطراً. وأما الجزءُ الرابع من العواصمِ والقواصمِ فهو حديثُ الخطِّ. انتهي كلام القاضي إسماعيل الأكوع. عملنا في الكتاب: 1 - لقد اتَّخذنا النسخةَ المصوَّرة عن الأصلِ المحفوظ باستانبول وهي الموموزُ لها بـ (أ) أصلاً لتحقيق الكتابِ، لأنها أكملُ النسخ التي وقعت إلينا وأصحُّها، وَيَنْدُرُ وقُوُع الخطأ فيها، وهو مما لا يخلو منه كتاب مهما
تَنوقَ به الناسخُ في تجويده، فقمنا بنسخه، ثم تمت المقابلةُ على الأصل المنسوخ عنه، وعلى بقيةِ الأصول التي في حوزتنا، وأثبتنا الاختلافات الهامة. 2 - ثُمَّ شرعنا في ترقيم النَّصِّ وتفصيله، وتوزيعه، وضبطِ الكلمات الملبسة وأسماء البلدان والأعلام بالشكل كما فعلنا في تحقيقنا لسير أعلام النبلاء، وعُنِينَا بمراجعة الآياتِ المستدل بها وضبطِها بالشَّكْلِ الكامل، وجعلنا رقمَ الآية والسورة بين حاصرتين عند الانتهاء منها في صلب الكتاب، وإذا كانَ في الأصل قراءةٌ لغيرِ حَفْصٍ نسبناها إلى صاحبها مِن القُرَّاء العشر، وذكرنا المصادر المأخوذ عنها. 3 - ثم خرجنا أحاديثَ الكتاب من مصادر السنة المعتمدة، كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم مما هو متيسّرٌ لنا، وتكلمنا على الأحاديثِ التي لم تَرِدْ في " الصحيحين " أو في أحدهما، فحكمنا على كُلِّ حديث بما يليق بحالهِ المأخوذة من صفات رواته من الصحة أو الحسن أو الضعف، مسترشدين بالمعايير الدقيقة التي وضعها جهابذة هذا الفن وأئمته، وفي الغالب نَذْكُر ما انتهي إلينا من حكمهم على الحديث الذي نحن بصدد تخريجه، وربما يقع بينَنا وبينهم خلاف في الحكم على بعض الأحاديث، فنذكر أحياناً السببَ الحامل على ذلك كما مو مبين في التعليقات. 4 - اقتصرنا على التعريف بالأعلام غيرِ المشاهير، والكتبِ المنقول عنها مما هو غيرُ مطبوع، أو مطبوع، ولكن تداولُه بين الطلبة قليل. 5 - ربما عرض المؤلف مسائل تتعلق بعلم الأصول أو المصطلح أو غيرهما، فلا يبسط القول فيها، ولا يبتُّ فيها برأي، فنذكر القول المختار
الذي هو أقرب إلى الصواب، وأبلغ في الحجة، وقد نقوي بعض الآراء في أمهات المسائل التي يعرضها بأدلة لم ترد عنده. 6 - وقد نخالف المؤلف، رحمه الله في بعض ما ذهب إليه من آراء، وما انتهي إليه من أحكام، فنرد قولَه برفق معتمدين على نصوص الكتاب والسنة اللذين هما أصلُ الدين وملاكه، وإليهما المرجع في فصل النزاع في جميع مسائل الخلاف، وذلك مما يسرُّ المصنف إن شاء الله ويرضيه، فإنه رحمه الله كان يدعو إِلى إمعان النظر في الأمور المختلف فيها بين الأئمة، واستعراضها، والاطلاع على حججهم ودلائلهم، والأخذ في كل باب بما هو أقوى دليلاً، وأبلغ في الحجة من غير تعصب لمذهب أو عليه. 7 - وسنقوم عند نهاية الكتاب إن شاء الله بصنع فهارس مفصلة للآيات والأحاديث والشعر والأعلام والكتب مما ييسر الاستفادة من هذا السفر العظيم، والانتفاع به. 8 - ولا بد من الإشادة والتنويه بكل من كانت له يد مشكورة في تيسير إخراج هذا الكتاب بالقول أو بالفعل، نخص منهم بالذكر الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على ما يقدمه لنا من الأصول المصورة لأي كتاب نتولى تحقيقه مما هو موجود في مكتبة الجامعة، وعلى ما يمدنا به من توجيهاته القيمة وآرائه المسددة، والأستاذ الفاضل الدكتور عبد الرحمن العثيمين رئيس مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الذي بعث إلينا بالأصول المصورة (أ) و (ج) و (د) و (هـ) فور علمه بأننا عازمون على تحقيقه ونشره، والأستاذ الفاضل إبراهيم الوزير الذي كتب كلمة تعريف بالمصنف الذي امتلأ قلبه حباً به -وهو أحد
أجداده- وقناعةً بطريقته المثلى في الأخذ بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله الصحيحة، والاعتصام بهما، ونبذ التعصب، وطرح التقليد. والقاضي الفاضل إِسماعيل بن علي الأكوع الذي كتب مقدمة ضافية عرف فيها بالمؤلف وبكتابه العظيم هذا. والأستاذ الفاضل رضوان دعبول صاحب مؤسسة الوسالة الذي آلى على نفسه أن يقوم بنشر الكتب الموسوعية المتخيّرة في العلوم الإسلامية، وإخراجها على نحو يروق ويعجب، ويرضي ويسر. والأستاذ الشاب علي حسن علي الحلبي وغيره ممن يعمل بإشرافي في قسم التحقيق في مؤسسة الرسالة، في هذا الكتاب وغيره. فإلى هؤلاء جميعاً أزجي خالص شكري وعظيم امتناني، وأرجو الله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة والأجر، وأن يتولاني وإياهم برعايته وتأييده وتوفيقه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 1/ 1/1405 هـ 26/ 9/1984 م شعَيب الأرنؤوط
العواصم والقواصم في الذَّبِ عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ
خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم رب عونك يا كريم الحمدُ لِله الحيِّ القيوم إنصافاً وعدلاً، الكريم العظيم أسماءً وفضلاً، الذي أرشد إلى العدلِ ابتداءً في دار الدنيا بصوادع آياته، وانتهاءً في دار الآخرة بإحضار بيِّناته. لم يكتفِ هُنالك بعلمه الحقِّ، وعلمِ جميع عبيده، عن إحضارِ كتبه وموازينه وشهودِه، بل لم يكتف -وكفي به شهيداً- بأعدلِ شهود، عن شهادة الأيدي والأرجل والجلود، كما لم يكتفِ في دار التكليف بما فطر لخلقهِ من نورِ العُقولِ، حتى عَضَدَ ذلك النورَ بنورِ الكتاب، ونورِ الرسول، فكان ذلك نوراً على نور، كما وصفه سبحانه في سورة النور (¬1)، قطعاً لبواطل أعذارِ المُبطلين، وصدعاً لِقواطع (¬2) شُبهِ المعطَّلين، وفي ذلك يقول سبحانه تنبيهاً على ذلك وتعليلاً: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. ¬
ولهذا قال رسولُ اللهُ -صلى الله عليه وآله وسلم-: " ما أحدٌ أحبَّ إليه العُذْرُ مِن الله، من أجلِ ذلك أنزل الكتابَ، وأرسل الرُّسُلَ " (¬1). ومن الدليل على ذلك: قولُهُ عز وجل في كتابه المبين، في حق من يعلمُ أنه من الكاذبين: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 64]. ومن ألطف ما أمر بهِ رسولَه الأمين؛ أن يقولَ في خطاب المبطلينَ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. وقد شَحَنَ اللهُ تعالى كتبَه الكريمةَ المطهَّرةَ بكثير من شُبَهِ أعدائه الكفرةِ الفجوة، وأورد شنِيعَ ألفاظِهم وصريحَها، ومنكرَها وقبيحَها، ليردَّ عليهم مقالتهم، ويُعَلِّم المؤمنين معاملتَهم، كما قال في مُحْكَم الآيات: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، ولم يمنعْهُ علمُه بعنادِهم، من الاحتجاجِ عليهم، وإرسال (¬2) خيرِ كتاب ورسول إليهم، بل قال مستنكراً الإضرابَ (¬3) عن أعدائه من (¬4) الكافرين: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]. ومِن أعظمِ ما أنزل الله تعالى في ذلك، قولُه تعالى: {فقُولا لَهُ ¬
قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، إذ (¬1) كان هذا بالرفق (¬2) بفرعونَ الذىِ نصَّ اللهُ تعالى على أنه طغى، وعلى أنه أراه آياتِهِ كُلَّها، فكذب وأبى، ومِنْ ثَمَّ كان اسمُهُ اللطيف الأسنى، ومن (¬3) أخصَّ أسمائه الحسنى، هذا ما لم يشتدَّ غضبُهُ، نَعوذُ بوجهه الكريم مِن غضبه، ومن مُقَارَفه مُوجبِهِ وسببهِ، ففي مثل تلك الحال يقول ذو العزةِ والجلال: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]. وفي الحال الأخرى -وهي الغالبة-: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]، {وإذا خَاطبَهُمُ الجاهلُون قالوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، {وأن تعفُوا أقْربُ للتقوى} [البقرة: 237]، {ويَدْرَؤنَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ} [الرعد: 22]، {ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ} {المؤمنون: 96، وفصلت: 34]، {وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، {والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]. ولا دليل على نسخ ذلك وأمثالهِ، مما وردت به السُّنَّة النبوية، وَوُصِفَتْ به الأخلاقُ المصطفوية، إلا توهمُ التعارض، ممن خَفِيَ عليه حُسْنُ اختلافِ الأمرين، عند اختلاف الحالين، كما نصره الإمامُ المهدي (¬4) في " عقود العِقيان في النَّاسخ والمنسوخِ مِن القرآن " (¬5). ¬
وذلك مِن مقتضى البلاغة عند علماء البيان، حيث يختلِف الحالان، ويفترِق المقامانِ. ومِنْ ثََمَّ مدح الله تعالى المؤمنين بالعزَّةِ والذِّلة في آيةٍ واحدة (¬1)، وَقَرنَ الوعدَ بالوعيد، وأنزل الكتابَ والحديدَ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيَّ المَرْحَمَةِ والمَلْحَمَة (¬2)، وقال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9]. ولا شكَّ أن صفة اللُّطف والرفق والرحمة هي الغالبةُ القوية في الكُتب السماوية، والأحوالِ النَّبوية، ومن ثمُّ تمدَّح اللهُ تعالى بأنه وَسِع كُلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً، وبأن رحمة الله سبحانه وسعت كُلَّ شيء، وليس في وَعْده لأهل الصلاح بكتابتها؛ التي هي بمعنى إيجابِها لهم ما ينفي سعَتها لِغيرهم، بل هي لهم واجبة، ولغيرهم واسعة، وليس بين أوَّلِ الآية وآخرِها معارضَةٌ، ولم يَرِدْ مثلُ ذلك في الغضب ولا قريبٌ منه، وصحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إنَّ الله تعالى كَتبَ كِتَاباً ¬
ووَضَعَه عِنْدَهُ، فيه: إنَّها غلَبَتْ رَحمتي غضبي، وسبَقتْ رحمتي غضبي " (¬1). وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بَشِّروا ولا تُنَفِّروا " (¬2)؛ وقال في معرض الزجر والذم: " إنَّ منكم منفِّرين " (¬3). والأحاديثُ والآثارُ في ذلك لا تُحصى، ويأتي لذلك تمامٌ في ذكر الداعي إِلى الترغيب والترهيب، في الكلام على سهولة الاجتهاد وتعسُّرِه، وهو يسير، وفي آخرِ الكلام في القدر، في تقدير الشرور، وبيان الحكمة والرحمة فيها وهو كثير مستوفى. والقصدُ تنبيهُ ذوي الأفهامِ الذين يُغنيهم القليلُ عن التكثير والتطويل. فَزِنِ الأشياء بميزان الاعتدال، وجادِلْهم بالتي هي أحسن كما علَّم ذو الجلال. ¬
الثناء على النبي ومدحه، وذكر شيء من خصائصه
واعلم أن مِن لطائف الأنظار لذوي الأذهان، أنَّ الله سبحانه لما وضع الميزانَ، وهو ميزانُ المقادير على الصحيح، لا ميزانُ البُرهان، حرَّم الإخسارَ فيه والطُّغيان، فقال سبحانه في سورة الرحمن: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرَّحمن: 7 - 9]. وإذا كان هذا في ميزانِ الدِّرهم والدِّينار، اللذيْنِ هما من جنس الأحجار، وكانِزُهما المانِعُ حقوقَهما متوعَّدٌ بالنار، فما ظنَّك بالإخسار والطُّغيان في ميزان البُرهان، الذي يُعْرَفُ به الدَّيَّان، وتُحفظ به الأديان. والصَّلاة والسَّلام الأتَمَّانِ الأكملانِ على نبيِّهِ ورسوله وحبيبِه وخليلِه، الذي مدحه الله العظيمُ، ووصفه في الذكر الحكيم بالخُلُق العظيم، وأنَّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، المخصوصِ مِن بين الأنبياء بالخمسِ الفضائل (¬1)، المسموحِ له -يومَ قابَ قوسين أو أدنى- ما زاد على الخمس الفواضِلِ: سَيِّدِ ولدِ آدمَ يوم القيامة في المقامِ المحمود، وحاملِ لواء الحمد في اليوم الموعود، صاحِبِ السَّبع المثاني والكوثرِ (¬2)، والشفاعةِ ¬
العُظمى يومَ المحشر، المبعوثِ بالحنيفية السَّمحة (¬1) إلى الأسودِ والأحمرِ (¬2)، المنعوتِ بأنَّه خيرُ الناس نِصاباً، الموعودِ -مَنْ أعْرَضَ عن سنته- بالصَّغار عقاباً (¬3)، الذي لا يُفتح لأحدٍ قبلَه أبوابُ الجنان، ولا ينامُ قلبُه وإن نامت منه العينانِ (¬4)، الذي وجبت له النبوةُ وآدمُ بين الجسدِ ¬
والرُّوح (¬1)، ووعده ربُّه سبحانه أن يُرضِيَه في أمَّته حين فاض لِرحمتهم دَمْعُهُ المسفوح، الذي استخرح لنا شفيعٌ {وأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} من كنوز فضائله، ونفيسِ خصائصه: قولَه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس: " أنَا حبيبُ اللهِ ولا فخر، وأنا حامِلُ لِوَاءِ الحمدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فخر، وأنا أول شَافِع وأوَّل مُشفَّع يومَ القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مََنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الجنةِ، فيفتح الله لي فيُدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر" (¬2). وحديث. " ولكنَّ صاحبَكم خليلُ الله " (¬3). وفي حديثِ الخُدْرِي: " أنَا سيِّد وَلَدِ آدمَ وَلا فخر، وبيدي لِواءُ الحمدِ ولا فخر، وما مِن نبيٍّ -آدمَ فمن سِواه- إلا تحتَ لوائي، وأنا أوَّلُ من تنشق عنه الأرضُ ولا فخر " (¬4). وفي حديث أنس: "أنَا أوَّلُ النَّاسِ خروجاً إذا بُعِثُوا، وأنَا ¬
ذكر آل النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمر بمحبتهم، وبيان شيء من فضائلهم
خطيبُهم إذا وَفَدوا، وأنا مُبَشِّرُهم إذا يَئِسُوا، ولِوَاءُ الحمدِ يومئذٍ بيدي، وأنا أكرمُ ولدِ آدمَ على ربِّي ولا فخر" (¬1). وفي حديث أُبي بنِ كعب: " إذا كَاَن يوم القيامة كنتُ إمامَ النبيين، وخطيبَهم، وصاحبَ شفاعتهم، غيرَ فخر " (¬2). وفي حديث أبي هُريرة: " أنا سيِّدُ ولدِ آدَمَ، وأوَّلُ شافعٍ، وأوَّلُ مُشَفع، وأوَّلُ مَنْ تنشقُّ عنه الأرضُ، فأُكسى حُلَّةً من حُلَلِ الجَنَّةِ، ثم أقومُ عن يمين العرش، فليس من الخلائق يقومُ ذلك المقامَ غيري " (¬3). فعليه أفضلُ الصَّلاةِ والسلامِ، على الدَّوام. وعلى آلهِ الذين أمرَ بمحبتهم، واختصَّهم للمُباهلةِ (¬4) بهم، وتلا آية التطهير (¬5) بسببهم، وبشَّر مُحبِّيهم أن يكونوا معه، في درجته يومَ القيامة، وأنذز محاربيهم بالحرب، وبشَّر مسالميهم بالسَّلامة، وشرع الصلاةَ عليهم ¬
معه في كُلِّ صلاة، وقَرَنَهُمْ في حديث الثقلين (¬1) بكتاب الله، ووصى فيهم، وأكَّدَ الوصاة، بقوله: " الله، الله ". خرَّجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي وسِواه: بشراه لذوي قُرباه، إنهما لن يفترقا حتى يلقياه. ولمَّا أهَبَّ اللهُ سبحانَه لهم أرْوَاحَ الذِّكرِ المحمود في جميعِ الوجود، بذكرهم في الصلواتِ الإلهية، ومع الصلواتِ النبوية، فلازم ذكرهم الصلوات الخمس، والصلاة على خيرِ مَنْ طلعت عليه الشَمس. كان ذلك إعلاناً ممن له الخلقُ والأمرُ، وإعلاماً مِمن لا يُقَدِّرُ لجلاله قَدْرٌ، أنَّهُ أراد أن يَهُبَّ ذكرُهم مَهَبِّ الجَنُوب والقَبُولِ (¬2)، وأن لا يُنسى فيهم عظيمُ حق الرسول، لا سِيَّما وقد سبق في علمه سبحانه: أن ¬
وصف أصحابه الذين آمنوا بدعوته، وصبروا معه
الأشراف لا يزالون مُحَسَّدين (¬1)، وأن الاختلاف والمعاداة فتنةُ هذه الأمة إلى يوم الدين. وكذلك، فإنه لمَّا علم ما سيكون من استحلال حُرمَتِهِمُ العظيمة، وسفكِ دمائهم الكريمة، أذِنَ بأنَّه حرب لمن حاربهم، وسِلمٌ (¬2) لمن سالمهم، وقَرنهم بالكتاب المجيد، ووصَّى فيهم من كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد. وهذا الكتاب لا يّتَّسِعُ لذكر فضائل ذوي القربى، فعليك أبها السُّنِّي بمطالعتها في كتاب " ذخائر العُقبى " (¬3)، وأمثالِه من الكتب المجرَّدةِ لذكر فضائلهم المشهورة، ومناقبهم المأثورة، وكراماتِهم المشهودة، وسِيَرِهم المحمودة، وفي تراجم أئِمتَّهِم السَّابقين، في كتب أئِمة الحديث العارفين. وعلى أصحابِه أجمعين مِن الفقراء المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]. ¬
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا (¬1) الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]. و" مِنْ " ها هنا لِبيان الجنس، لأن لفظةَ "بعضٍ" لا تَصلُحُ مكانَها. فما أكرمَ قوماً ذُكِروا في التَّوراة والإنجيل والقرآن، وَوُصفوا بالسَّبق والهجرة والنُّصْرَة والإيمان، أولئك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين صَدَعتْ مَمادحُ الوحي قرآناً وسُنَّةً، بأنَّهم خيرُ الناس وخيرُ القرون، وخيرُ أُمَّة. ولو لم يَرد من فضائلهم الشريفة، إلا حديثُ " ما بلغَ مُدِّ أحدهم ولا نصيفه " (¬2). ¬
ولَمَّا علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -أنْ سوف تُجهلُ حقوقهم، ويُستحلُّ عقوقُهم- حذَّرَ من ذلك وأنذر، وبالغ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وأكثر. ولو لم يَرد في ذلك إلاَّ قولهُ صلى الله عليه وآله وسلم: " الله، الله في أصحابي، لا تتَّخِذُوهُمْ غرَضَاً بَعْدي منْ أحبَّهم فَبِحُبي أحبَّهم، ومَنْ أبَغَضهم فَببُغضي أبغضهم، ومَنْ آذاهُم، فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى اللهَ، فَيُوشِكُ أن يأخذه " (¬1). وقولهُ صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا رأيْتُمُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أصحابي، فَقُولُوا: لعنةُ اللهِ على شَرِّكم " (¬2). فيا لَه مِن قصاص ما أنصَفَهُ، وجزاءٍ ما أعدله، فخذها أيها السُّنّي ممن أُوتي الكلم الجوامع، والحجج القواطع. فَرَضِيَ اللهُ عَن السابقين منهم واللاَّحقين، والمتبوعينَ منهم والتابعين، من أهلِ الحرمين، والهِجْرَتيْنِ، والمسجدَيْنِ، والقبلتين، والكِتابين، والبيعتين (¬3)، والأربعةِ والعشرة، وأهلِ بدرٍ البررة، والذين ¬
تبوَّؤا الدار والإيمان، وأهلِ العشرين الغزوة والثمان (¬1). وعن البعوثِ والجنودِ، وأهلِ حِجَّةِ الودَاع والوفود. وعن الذين جاؤوا منْ بعدهم يقولون: ربَّنا اغْفِرْ لنا ولإخواننا الَّذينَ سبقونا بالإيمان ولا تَجْعَلْ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنك رؤوف رحيم. فعليك أيُّها السُّنِّي بمطالعة " الرياض النضرة في فضائل العشرة " (¬2) وأمثاله. ومِنْ أحسنِ ما صُنِّفَ في هذا: كتاب الدارقطني " في ثناء الصحابة على القرابة، وثناءِ القرابة على الصحابة " (¬3). وذكرَ الحافظُ العلامةُ ابنُ تيمية: أنَّ الذي روى ما يُناقِض (¬4) ذلك " يهودي "، أظهر الإسلامَ لتُقْبَلَ أكاذيبُه، ثم وضع تلك الأكاذيبَ، وبثَّها في النَّاس. فيا غوثاه ممن يَقْبَلُ مجاهيلَ الرواة في انتقاص خَيْرِ أمَّةٍ بنصِّ كتاب الله (¬5)، وخيرِ القرون بنصِّ رسول الله (¬6)! فحسبُنا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ¬
من فضائل الأمة المحمدية
ولعلَّ كتابَ الدارقطني هذا مِن أَنفس المصنفات، فإنَّهُ لا يجتمع حُبُّ الأصحاب والآل، إلا في قلوب عقلاء الرجال. ورضي اللهُ عن هذه الأُمةِ الكريمة، السَّابقةِ على تأَخُّرِها (¬1)، المرحومةِ الشهداء العُدول، المُشَبَّهين بالملائكة في الشهادة والقبول، الغُرِّ المُحَجَّلين، الشفعاءِ المشفَّعين، الذين أوتوا من الأجر في المُدَّةِ القليلة، مِثْلَ ما أوتيَ منْ قبلهم في الأعمارِ الطويلة، الذين أوجب اللهُ بشهادتهم (¬2) إحدى الدارين (¬3) واسْتُحِقَّت الجنةُ خاصةً بشهادة أربعةٍ منهم أو ثلاثةٍ أو اثنين (¬4)، المرفوع عنهم الخطأُ والإكراهُ والنسيانُ. واستقر بشراهم في ¬
نصوص السُّنةِ والقُرآن بتكفيرِ ذنوبهم بما جرى بينهم في دنياهم من الفتنة (¬1) والقتال، وسائر المصائب والأوجال، بمشيئة ذي الطول والإفضال بشهادة آية التخوف، ومقبول الأحاديث عند فرسان الاستدلال، المعصومةِ (¬2) من الاجتماع على الضَّلال (¬3)، فلا تزالُ طائفةٌ منهم على الحق، حتى يُقاتِل آخِرهُم الدَّجال (¬4). الموعودين في الكتاب المسطورِ، بالإخراج من الظُّلماتِ إلى النور، المسْتغْفِرِ لهم ملائكةُ الرحمن، بنصوص السُّنة والقرآن، الشاهد لهم بحُبِّ الله مطلق الاتباع، وادخار الدعوة المقبولة، وخير شفيع مطاع، المُنْعَمِ عليهم بلزوم خوفه، المبلِّغ لهم بعدَ الموت إلى الأمان، لشهادته بالإيمان، بدليل تعليقه في القرآن بخوف الرحمن، المبشرين بكونهم نصفَ أهلِ الجنة (¬5)، بل ثُلُثيهم (¬6)، مع كثرة من تقدم ¬
من الأُمم عليهم، وقلَّتهم بالنظر اليهم. فأتقن طرق النقاد في حديث: " أمتي منهم ثمانون صَفَّاً " (¬1)، وحديث: " الثلاث الحَثَيَات، بعد السبعين ألفاً مع كُلِّ ألفٍ سبعون ألفاً " (¬2). وحديث: " إنَّ ما بين مِصْرَاعينِ مِن باب واحد -من ثمانية أبواب- مِثْلُ ما بَيْنَ مكَّةَ وبُصرى " (¬3). عطاءً بغير حساب، ثم إنَّهم يتضاغطون عليه، حتى تكادُ مناكبُهم تزول، فتدبَّر هذا بالمعقول، إن كنت من أهل القبولِ، لِما صحَّ عن الرسول. فابذلْ جهدَك في نُصحهم، والتأليف بين قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولو بينَ اثنينِ منهم. وتأمل قول الله تعالى حيثُ يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى ¬
حديث افتراق الأمة والكلام عليه
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. وأمثالَها مِن كتاب الله تعالى، كما يأتي قريباً. وقولَه في حَقِّ البُغاة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقِّهم أيضاًً: " إنَّ ابْنِي هذَا سَيِّدٌَ، وَأرْجُو أنْ يُصْلحَ اللهُ بهِ بَيْنَ فِئَتيْنِ عَظِيمَتيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ " (¬1). وإذا نقلتَ مذاهبَهم، فاتَّق الله في الغَلَطِ عليهم، ونسبةِ ما لم يقولوه إليهم، واستحضر عندَ كتابتك ما يبقى بعدَك: قولَه عز وجلْ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12]. وَلا تَكتُبْ بِكفِّكَ غَيْرَ شَيءٍ ... يَسُرُّك في القِيَامَةِ أنْ تَرَاهُ واطَّرِحْ قوْلَ مَنْ كفَّرهم بغيرِ دليل شرعي متواترٍ قطعي، إن كنتَ ممن يسمع ويَعي، وحَقِّقِ النظر في شروطِ هذه الصورة، تَعْلَمْ أنها لا تكونُ إلا في المعلوم مِن الدين بالضرورة، كما سيأتي تحقيقُ ذلك، عند سلوكِ هذه المسالك، وإيَّاكَ والْاغَتِرَارَ بـ " كُلُّهَا هَالِكَةٌ، إلاَّ وَاحِدَةً " (¬2) فإنها زيادةٌ فاسدة، غيرُ صحيحةِ القاعدة لا يُؤْمَنُ أن تكونَ مِن دسيسِ الملاحَدِة. وعن ابن حزم (¬3): أنها موضوعة، غير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميعُ ما ورد في ذم القَدَرِية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفةٌ غيرُ ¬
تعمد الخطأ والقول فيه
قوية. ذكر ذلك الحافظُ زينُ الدين، أبو حفص، عُمَرُ بنُ بَدر المَوْصِلي (¬1) في كتابه: " المغني عن الحفظ من الكتاب، بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب " (¬2). ونقل عنه الإمام الحافظ العلامة: ابن النحوي (¬3) الشافعي، في كتاب له، اختصرَ فيه -كتاب الحافظ زين الدين- وفي كليهما نقلٌ عن المحدثين، حيث قالا بقولهم: " لم يصح شيءٌ في هذا الباب ". فالضمير في " قولهم " راجع إلى أهل الفن -بغير شك- وهما من أئِمَّة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان. وأين هذه الأحاديث من الدليل الذي شرطناه، وأين هو من مُلاءمَةِ كتاب الله، وسنةِ رسول الله، عليه أفضلُ السلام والصلاة: قال الله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وصح في تفسيرها: أن الله تعالى قال: " قد فعلت " من حديث ¬
ابن عباس (¬1)، ومِن حديث أبي هريرة (¬2)؛ ولفظ أبي هريرة قال: " نعم "، والأول: لفظ ابن عباس. خَرَّجهما مسلم، وخرج الترمذي: حديثَ ابنِ عباس، وأشار إلى حديثِ أبي هريرة. وسيأتي الكلامُ على طرقهما -إن شاء الله تعالى- في مسألة الأفعال. وقال في قتل المؤمن، مع التغليظ فيه: {وَما كَانَ لِمؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إلا خَطَئاً ... } إلى قوله: {وَمَنْ يقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً ... } [النساء: 92 - 93] وقال تعالى في قتلِ الصيد: {فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ... } [المائدة: 95]. وممَّا يُقارِبُ هذه الآياتِ، ويشهد لمعناها: قولُه تعالى: {لا يُكلِّفُ اللهُ نفْسَاً إلا وُسْعَها ... } [البقرة: 286]، وفي آية: {لا نُكَلِّف نفساً ... } [الأنعام: 152]، بالنون. وفي آية: {إلا ما آتاها} [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُم في الدِّين مِن حَرَجٍ ... } [الحج: 78]. وإلاحتراز مما دَقَّ وتَعَسَّر، ليس في وُسْعِ أكثرِ البشر. وأما قولُه تعالى: {أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتُم لا تشْعُرُون} [الحجرات: 2] فالظاهر أن التقدير: لا تشعرون بإحباطها، لا بالذَّنْب ¬
في فِعكلم، لأن المفعولَ إذا حُذف، قُدِّر من جنس الفعل المذكور، والفعل المذكور -هنا- قولُه: أن تحبط. فافهم ذلك. وأما رسولُ الله، عليه أَفْضُلُ السَّلام والصلاة، فإنَّه شرع بينَ المسلمين المؤاخاة، وغلَّظ في المهاجرة والمنافاة، والتكفير والمعاداة، فَكَفَّرَ مَنْ كَفَّرَ أخاه. فرحم اللهُ من اعتبر، وأََنصف في النظر، والرحمةُ -إن شاء الله- إلى مَنْ بذل الجهْدَ حين تعثَّر، فيما وجب من دقائق النظر أقربُ منها إلى مَنْ أفطر أو قَصَّر، لمشقة السَّفر. فَمِنَ البعيدِ أَن يُسمح لهذا أَمر مقدور، ويكون ذاك فيما يقدر عليه غيرَ معذور. وقد بشر (¬1) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما ثبت في " الصحيحين " (¬2) بالمغفرة في كل خميس واثنين لجميع أهل الشهادثين، إلا المتهاجِرين. وقالَ: " بِحَسْبِ امْرىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ " (¬3). حيث كان لا يعلم ما أَخفي قلبُه من تقواه، فإن التفاوت العظيم هو في تقوى القلب الذي لا يراه. وأَيَّدَ ما ورد من العفو عن المخطىء منهم: ما صححه غيرُ واحد مِن أََئمةِ الرواة. ¬
الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - متعمدا، وجزاؤه
فمِن المتواترات في ذلك، حديثُ: "منْ كذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتبؤَّأْ مَقْعدهُ من النَّارِ" (¬1). فشَرَط التعمد في الكذب عليه، الذي هو أعظمُ المفاسد، وإحدى الكبائر. وهذا الحديثُ - قال زينُ الدين في كتابه في " علوم الحديث " (¬2): رواه بعضُ المحدثين، عن نيف وأربعين مِن الصحابة، فيهم العشرةُ رضي الله عنهم. وبعضُهم عن نيف وستين، وصَنَّف المزِّي (¬3) في طُرُقهِ: جزئين، فرواه عن مئة صحابي واثنين. وروي عن بعض المحدثين: أنَّه رواه مئتان من الصحابة. وعلى الجملة إنه متواتر، وبعدَ التواتر يستوي كَثْرَة العدد وقِلَّتُه، إذ ¬
العلمُ الضروري لا تتفاوت قوته (¬1). وَمِن ذلك حديثُ زيدِ بن ثابت (¬2) مرفوعاً: " اللهُمَّ ما صلَّيتُ منْ صلاة، فعلى مَنْ صَلَّيْتُ، وما لَعنْتُ مِنْ لعْنةٍ، فَعلى منْ لعَنْتُ " (¬3). مختصر من حديث فيه طول رواه أَحمد والحاكم. وهذا يَدُلّ على قبولِ هذه النية، ممن نواها فأخطأ، والله أَعلم. وَمِن أَحسن ما يُحتج به في ذلك: حديثُ الذي أوصى أن يُحْرَقَ، ثم يُسْحَقَ، ثم يُذرى في البحر والبَرِّ، فإن الله إن قدَر عليه، عَذبَه عذاباً لا يُعذِّبُه أحداً من العالمين. والحديث متواتر (¬4)، وقد أدركته الرحمةُ مع جهله بقدرة اللهِ، وشكِّهِ في المعاد بخوفه (¬5) وتأويله. ¬
بحث في تخريج حديث العفو عن الخطأ والنسيان، وإيراد وتحرير ألفاظه
واتفقوا على تصحيح: " إنَّ الله تجاوزَ لُأمتي ما حدَّثت به أَنْفُسَها، ما لم يعملوا به، أَو يتكلَّمُوا " من حديث أبي هريرة، وعائشة (¬1). فما لم يعلموه، ولم يتعمَّدُوه أولى. وكذلك اتفقوا على صحة حديث: " فلم يعنف أَحداً مِنَ الطائفتين " وقد أَخطأت إحداهُما في صلاة العصر -التي مَنْ فاتته حَبطَ عملُه- رواه البخاري (¬2). ومن المشهور في ذلك: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله تجاوزَ لي عن أُمَّتِي الخطأَ والنسيانَ وما استُكرِهُوا عليه ". وله طرقٌ كثيرة، عرفتُ منها سَبعاً: الطريقُ الأولى: عن ابن عباس رضي الله عنهما. رواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وقال: على شرط الشيخين، ¬
وابن ماجه في " سننه "، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني (¬1). قال البيهقي: جود إسناده بِشرُ بنُ بكر، وهو من الثقات ولفظها: " إن اللهَ تجاوزَ عن أُمَّتي، الخطأَ والنسيانَ .. " الحديث - لا رفع ولا وضع، فاعرف ذلك. وهذه روايةُ بشر بن بكر عن الأوزاعي، وروايةُ الوليد بن مسلم عنه بلفظ: " الوضع "، وقد رجح البيهقي والطبراني: رواية بشر. الطريق الثانية: عن عبد اللهِ بن عمر رضي الله عنهما بمثله، رواه العُقيلي، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح غريب (¬2). الطريق الثالثة: عن عُقبة بنِ عامرٍ، وفي إسناده: ابنُ لَهيعة، وهو ممن يُسْتَشْهَدُ بحديثه (¬3). ¬
الطريق الرابعة: عن أبي ذر (¬1)، وليس في إسنادِه إلا شهرُ بن حَوْشَبه. والصحيح: توثيقُه. وقال ابنُ النحوى في " البدر المنير " (¬2): " تركوه " فأخطأ، بل قوَّى أمرَهُ: البخاري، وابن معين، ويعقوب بن شيبة، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن عبد الله العِجلي، والفسوي (¬3)، وأبو حاتِم، وأبو زُرعة. ولم يحتجَّ من جَرحَه بما يقوم بمثله حُجَّةٌ، وأكثر ما قيل فيه: شيء مستند إلى رواية " عبَّاد بن منصور " (¬4) وهو متكلَّم فيه أكثر من شهر، ومخالف لشهر في الاعتقاد، وذلك مِن موجبات العداوة والتُّهمة، فلا تُقْبلُ عليه خصوصاً في حقِّ القدماء، وحَدُّهم: رأس ثلاث مئة سنة. وهو من رجال السنن الأربع، ومسلم متابعة. ¬
وقد ضعفه النَّسائي، وشُعبة، بألفاظ تقتضي أنه حسنُ الحديث، ولم يَقُل: إنهم تركوه، إلا ابنُ عون وحده، وذلك مردودٌ عليه. فإذا كان مثلُ أحمدَ والبخاري وسائر مَنْ ذكرنا يُقوونه، فَمَنِ النَّاسُ في هذا العلم بَعْدَهُم؟! ومن الذين (¬1) يعودُ الضميرُ في " تركوه " إليهم؟! الطريق الخامسة: عن أم الدرداء [عن أبي الدرداء] (¬2)، وفيها شهرٌ أيضاً (¬3). الطريق السادسة: عن ثوبان، رواه الطبراني (¬4) وفيها " يزيد بن ربيعة الرَّحبي الدمشقي " قال البخاري: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: متروك، لكن قال ابن عدي: أَرجو أنه لا بأْسَ به. وقال أَبو مُسْهِر، كان فقيها لا يُتهم، ولكن أََخشى عليه سوءَ الحفظِ والوهم، فحديثُ مِثْلِ هذا مما يُسْتَشْهَدُ به، ويقوى مع غيره، وإن لم يُحْتَجُّ به منفرداً. وقد اقتصر في " البدر المنير " على ذِكر جَرْحِه، فما أَنْضفَ. الطريق السابعة: عن الحسن البصري مرسلاً، ومسنداً (¬5). ¬
فالمرسل: صحيح عنه، رواه أَحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وابن الجوزي في " تحقيقه ". واستنكر أحمد رَفْعه في هذا الطريق، حتى قال: كَأنَّهُ موضوع. قلت: كأَنَّهُ عنى بالرفع هنا الإسناد، وهو خلاف عُرْف المحدثين. ورواه عن الحسن، مسنداً موصولاً بأبي بكرة، مرفوعاًً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعفرُ بن جسر بن فَرْقَد عن أبيه، وهما ضعيفان. قال ابنُ عدي: البلاءُ فيه منْ جعفر، لا مِنْ جسر. وجاءَ في هذه الطريق " لفظُ الرفع "، وهي ضعيفة، وتقدَّم أَن رواية " الوضع " أيضاً مُعَلَّة مَرْجُوحة. وإنما الصحيحُ ما تقدم، وهو لفظ " التجاوز " دونَهما، كما مضى على ذلك ابن النحوي لِكثرةِ غلط الأكثرين في ذلك. وذَكر أَن النواويَّ حسَّنه في " الروضة " (¬1) في الطلاق بهذا اللفظ. وليس كذلك (¬2). قلت: وكذلك الأُصوليون، قد رووه بلفظ: " رُفع عن أُمتي ... ". وبَنَوْا على هذه اللفظة خلافاً: المرفوعُ ما يكون تقديره؟ لأن نفس الخطأ والنسيان والإكراه غيرُ مرفوع بالضرورة. ¬
فمنهم من قال: يكون مجملاً. ومنهم من قال: يقدر أعم الأشياء، لأن تقدير غيره تخصيص بلا دليل، وذلك تحَكُّم، فيقدر: أن المرفوعَ حُكمُ هذه الأشياء، فَيَعُمُّ أحكامَ الدنيا والآخرة، إلا ما خصه الدليل. ومنهم: مَنْ خَصَّه بأحكام الآخرة لِكثرة مخصّصاته في أحكامِ الدنيا في الجِنايات ونحوِها. وهو الصحيح في نظير هذه المسألة عندهم، وهما متقاربان. ولكنَّهم فرقوا بينهما في الكلام عليهما: بأنه إن ثبت عُرْفٌ يسْبِقُ الفهمُ إليه، تَعَين، مثل: تحريم الميتة والأمهات والحرير، فإن الفهم يسبِقُ إلى أن المحرَّم من الميتة: أَكْلُها، ومِنَ الأُم: نكاحُها، ومن الحرير: لباسُه، ونحو ذلك، وإن لم يَثْبُت عُرْفٌ، لزم التعميمُ، لأنه السابق إلى الأفهام حينئذ. والله أعلم. ويقوي صحة هذا الحديث -مع ما تقدم من مفهومات كتاب الله، وصحيح السُّنن- ما رواه الحاكمُ، في تفسير سورة التكاثر، من " المستدرك "، فقال: " حدثنا أبو العباس محمدُ بنُ يعقوب، حدثنا محمد بنُ سِنان القزَّاز، حدثنا محمد بن بكر البرساني، حدثنا جعفرُ بن برْقان، قال: سمعتُ يزيدَ بن الأصم، يُحَدِّث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أخشى عليكم الفقْرَ، ولكن أخشى عليكم التَّكَاثُرَ، وما أخشى عليكم الخطأَ، ولكن أخشى عليكم التعمد " (¬1). ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ¬
الكلام على الخوارج وما ورد فيهم
قلت: ولم يذكر المزي في ترجمة: يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، أحداً من الستة أخرجه. وروى أحمد في " المسند "، من حديث مَعْقِل بنِ يسار، قال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن أقضيَ بين قوم، فقلتُ: ما أحْسِنُ أن أقضِيَ يا رسولَ الله، قال: " الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمداً " (¬1). إسناده عندي حسن. والله أعلم. وينبني على هذا مسألة، وهي أنه قد ثبت بالتواتر الأمْرُ بحَرْبِ " الخوارج " وذمِّهم، وتأثيمهم، وتسميتهم: موارق من الإسلام (¬2). فَمَن أخرجهم مِن الإسلام، ومِن الأُمة؛ لم يحتج إلى كلام، ولم يتعارض عنده الأمران، وكذلك: من لم يسلِّم أنهم مِن أَهل الخطأ، وجوز أنهم عاندوا، ولو في بعض الأوقات، واعْتَقَدَ أن تنْزِيهَهُم من ذلك، دعوى لعلم الغيب، وبناء على تصديقهم فيما أظهروه، وهو مُحَرَّمٌ ممنوعٌ شرعاً. فكل كافر يَدَّعي ذلك، وعلام الغيوب يُكذِّبهُم. وهذا قوي جداً. وَمنْ أدخلهم في الأُمة، وكفَّرَهم، خَصَّصَ رواية الرفع في الحديث -قطعاً- في الدنيا والآخرة، لكنَّها لم تصح، لكونها معللة مَرْجُوحة -كما تقدم في طريق ابن عباس- ولا شكَّ أن رواية التجاوز: أَصَحُّها، لأنها من (¬3) طريق بِشر بنِ بكر، عن ابن عباس. وإسناد حديثه أَصَحُّها، ثم هي مطابقة للقرآن في الدلالة على أن المراد أحكامُ الآخِرة، ¬
وذلك أَن لفظ كتاب الله تعالى: {لا جُنَاحَ عليكم} [البقرة: 236] كما تقدم بيانه. والجُناح: هو الإثم في اللغة. وكذا قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] في كون شرط التعمد، حيث ورد. وإنما وَرد قيداً في الوعيد، وهذه أصرحُ الآيات، وبقية الآيات كالشواهد لها، ثم هو القَدَرُ المتحقق. وتخصيصُ -هؤلاء الخوارج- بعدم العفو في الآخرة، مثلُ تخصيص المخطىء من اليهود والنصارى. والوجه فيه أن الله تعالى أقام عليهم الحُجَّة، وعَلِمَ منهم التعمد -ولو في بعض الأوقات-: إما في الابتداء، ثم عاقبهم، وسلبهم الطاقة، كقوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وإما في أثناء المناظرة والنظر، يدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]. وقوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] وقوله -في بعضهم، بعد ذكر الآيات-: {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]. وقوله -في آخرين-: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. قُرِىءَ: " يكذبونك " بالتشديد والتخفيف معاً (¬1). ¬
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]. وأما مفهومُ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. فلأن التحريفَ شأنُ بعضهم -بغير شك-، ولَيْس كلُّ متعمدٍ للكفر -من العوام والبُلداء- يُحسنُ (¬1) ما يخفي من ذلك، وخصوصاًَ وذنب الخوارج قَتْلُ المؤمنين، واستحلالهم وتكفيرُهم. وكل ذلك مغَلَّظ في الشرع، ولا (¬2) يُقاس عليه غيرُه، كما يأتي بيانهُ، في مسألة الوعيد، في آخر الكتاب. وأما قوله في أهل الكتاب: {بل أكثرُهم لا يؤمنون} [البقرة: 100] وقوله تعالى: {نبذ فريقٌ من الذين أُوتوا الكتاب كتاب اللهِ وراءَ ظهورِهم كأنَّهم لا يعلمون} [البقرة: 101]، ونحوها فلأنه قد آمن منهم أمة، كما قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113]. وإما (¬3) بإعراضهم عن الرجوع إلى كتاب الله، وتدبره -كما أمر سبحانه-. وبالجملة: فقد قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ ¬
كلام المصنف عن نفسه
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فهُوَ لهُ قرينٌ} [الزُخرف: 36] فنعوذ بالله من اتخاذه ظِهرياً، وتركه نَسْياً مَنْسياً. والجواب: على مَنْ سأَلَ هذا السؤالَ (¬1) كجواب موسى على فرعون، حيث قال: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52]. وسيأتي في الكتاب شروطُ القطع بالتكفير والتفسيق. وإنما ذكرتُ هذه النُّبذةَ اليسيرة في المقدمة، لأنها معظمُ مقاصد الكتاب. وبَعْدُ: فإني ما زِلْتُ مشغوفاً بِدرْك الحقائق مشغولاً بطلب المعارف، مُؤثِراً الطلب لملازمة الأكابر، ومطالعةِ الدَّفاتر، والبحثِ عن حقائق مذاهب المخالفين، والتَّفتيشِ عن تلخيص أَعذارِ الغالطين، مُحسِّناً في ذلك للنِّيَّة، متحرِّياً فيه لطريق الإنصاف السَّوية، متضرعاً إلى اللهِ تَضَرُّعَ مضطرٍ محتار (¬2)، غريقٍ في بحار الأَنْظار، طريح في مهاوي الأفكار، قد وهبتُ أيامَ شبابي وَلَذَّاتي، وزمان اكتسابي ونشاطي، لِكُدُورةِ علمِ الكلام والجِدال، والنَّظرِ فىِ مقالاتِ أهل الضَّلال، حتى عرفتُ صحةَ قولِ مَنْ قَالَ: لَقَدْ طُفْتُ في تِلْكَ المعَاهِدِ كُلِّها ... وسيَّرْتُ طَرْفي بينَ تِلْكَ المعالم فلم أرَ إلّا وَاضِعَا كفَّ حَائِرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادم (¬3) ¬
وبسبب إيثاري لذلك، وسلوكي تلك المسالك، أنَّ أولَ ما قرعَ سمعي، ورسخَ في طَبْعِي: وجوبُ النظرِ والقول بأن من قلَّدَ في الاعتقاد، فقد كفر، فاستغرقت في ذلك حدَّةَ نظري، وباكورةَ عمري، وما زلت أرى كُل فرقة من المتكلمين تُداوي أقوالاً مريضة، وتُقَوِّي أجنحة مهيضة، فلَمْ أحْصِّل على طائل، وَتَمَثلْت فيهم بقول القائل: كُل يُدَاوِي سَقِيماً مِن مَقَالَتِهِ ... فَمنْ لَنَا بِصَحِيحِ مَا بِهِ سَقَمُ فرجعت إلى كتاب الله، وسُنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقلت: لا بد أن يكون فيها بَراهِينُ، وردُود على مخالفي الإسلام، وتعليم وإرشاد لمن اتَّبَعَ الرسولَ -عليه أفضلُ الصلاة والسلام-. فتدبرتُ ذلك، فوجدت الشِّفاءَ كُله: دِقه وجِله، وانشرحَ صدري، وَصَلُحَ أمري، وزال ما كنت به مُبتلى، وانشدتُ مُتمَثِّلاً: فألْقَتْ عَصَاهَا واسْتقَرتْ بها النَّوى ... كما قَرَّ عيناً بالإيَاب المُسَافِرُ (¬1) وعرفتُ بالتجربة (¬2): صحةَ ما رواه علي -عليه السلام- عن ¬
ذكر شيء من إعجاز القرآن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنهُ قال في كتاب الله تعالى: " من التمسَ الهُدَى من غيره، ضَلَّ " (¬1). فأمَّا كتابُ اللهِ تعالى، فإن نظرتَ في إعجازه، في بلاغته وأسلوبه، أو فيما اشتمل عليه من أخبار غيوبه، عرفت بالضرورة (¬2) العادية (¬3) عَجْز جميعِ المخلوقين -من الجن والإنس أجمعين- عن الإتيان بمثله، أو سورةٍ من مثلِهِ. وما أوضحَ قولَه تعالى في ذلك: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. وإن نظرتَ فيما اشتمل عليه، من المنع عن المفاسد، والأمر بالمصالح، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، علمتَ بالبرهان -إن كنتَ مِن عارفيه-، وبالقرآن -إن كنت مِن متدبِّريه- صِدْقَ قولِ من أنزله سبحانه: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]. ¬
العلم الضروري وأحواله
وقد جمع -سبحانه- في هذه الآية الشريفة -لمن تأملها-: بينَ الوجوه الثلاثة المتقدمة، فأشار إلى الأول، وهو العجز عن مثله، بقوله: {وما يستطيعون}، وإلى الثاني، وهو جهلُهُم بالغيب الذي فيه، بقوله: {إنهم عن السمع لمعزولون}، وإلى الثالث، وهو أنَّهُ لا يصدر منهم ما فيه الإرشاد إلى الخير، والمنع عن الشر، بقوله: {وما يَنْبغي لهم}. وهذا الوجهُ الثالث، لم يتعرَّضْ أحدٌ لذكره -فيما علمتُ- وقد نبَّهَ الله -سبحانه- عليه، في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]. لأن كتاب موسى -عليه السلام- غيرُ معجز، من جهة البلاغة، ولا يَعْرفُ المخاطبون -المحتجُّ عليهم ذلك- ما فيه من العيوب، معرفةً ضرورية بالتواترت لبُعْدهِمْ عن المعرفة الظنيَّة؛ كيف الضرورية؟!، ولكنَّهم يعلمون جملةً بالتواتر: أنه مُشْتَملٌ على المنع من المفاسد، والأمْرِ بالمصالح، وهذا لا يكون من شيطان، لأنه نقيضٌ قصده، ولا سيما وفيه: سبٌّ الشياطين، ولعنهم، ووعيدُهُم، ولا يكون من ملكٍ ولا من صالح، لأن الكذِبَ على العالم، وإلزامهم المشاقِّ العظيمة، من غير ثواب، مما يُناقِضُ معنى المُلْكِ، ومعنى الصلاح. فمنْ فعَل مثل ذلك، فهو شيطان، فكيف نفرِضُ أنه ملك أو صالحٌ؟! هذا خلافٌ، والضرورة المانعةُ عن صدور هذا عن الشياطين عاديةٌ لا أوليةٌ. وكثيرٌ مِنَ النُّظار لا يعرف الضروريَّ العادي، ويغلَطُ فيه لإمكان خلافه بالنظَرِ إلى مجرد الإمكان. ولم يَعْلم أن العلمَ فيه إنما يتعلق بعدم وقوع الممكن، لا بعدم إمكانِه، كما أنَّا نعلم عند دخول منازلنا: أن الله
تعالى لم يقلِبِ الأرض ياقوتةً خضراء، مع قُدرته -سبحانه- على ذلك، ولا حوَّل قوة الحديد إلى الزجاج، وضعفَ الزجاج إلى الحديد، وحلاوة العسل إلى الصبِرِ، ومرارة الصَّبِر إلى العسل. ومن جَوَّزَ مثل هذَا، أو شكَّ فيه؛ فقَد شكَّ في أحد العلوم الضروريات، وخرج إلى المقالات السُّوفسطائيات (¬1). وهذا لا ينبني على معرفةِ عدلِ الله وحكمته، لاشتراك مَن يعرفُ ذلك ومَنْ يجهله فيه، وقد احتج الله تعالى في القرآن الكريم بالعلم العَادي، في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] فإن تعذيبَ الحبيب بذنبه -مع حُبِّه- ممن لا يتألم بذنبه؛ لا يقع عادةً ضرورة، وإن كان مقدوراً، وهي حجة في مسألة الداعي، وحجة مفحمة للأشعرية، في نفي الدواعي والأسباب عن أفعال الله تعالى (¬2). ومن ذلك: قوله تعالى: {لَفَسَدَتَا} (¬3) [الأنبياء: 22] ونحو ذلك كثير في كتاب الله تعالى. وربما توقف العلمُ الضروريُّ على تذكُّر وتفكُّرٍ في مقدمات ضرورية؛ مثل: علم الحساب، فإنَك متى أردت أنْ تَعْرِف نصف خمسة وسبعة مضاعفة سبعة أضعاف؛ احتجت إلى فكرة، تضطرُّ بعدَها إلى معرفة الصواب. ويختلفُ الناسُ في ذلك اختلافاً كثيراً، ويكون فيهم منْ ¬
يَفْهَمُهُ من غير فكرة؛ كما يفهم كلُّ أحد نصفَ العشرة، إما لفرط ذكائه، وإما لشدة رياضته في علم الحساب، وكذلك سائرُ المعارف، على ما يأتي تحقيقه (¬1)، إن شاء الله تعالى. فتأمل هذه النكتة. وان رجعت إلى ما أرشد إليه كتابُ الله تعالى مِن البراهين القاطعة، والأنوارِ الساطعة، وجدْتَهُ مشحوناً من ذلك بأشفاهُ وأكفاهُ وأوفاه. وذلك ما اختارهُ لخليلهِ إبراهيم -صلى الله عليه- حين طلب أن يَطْمَئنَ قلبُهُ، ولكليمه موسى حين أراد أن يُفْحِمَ خصمَه، وهو النَظرُ في المعجزات المعلومة، والتواتر فيها يقومُ مقامَ المشاهدة، والآيةُ في قصةِ إبراهيمَ معروفة. وفي قصة موسى -عليه السلام- قولهُ تعالى، في حكاية موسى لفرعون، لَما اشتدَّ كُفْرُ فرعون وتفاقمَ، ولم يُسَلِّم له ما أشار إليه من الاحتجاج بخلق المخلوقات، فرجع موسى بعد ذلك إلى أفحمِ الحُجَحِ، وأقطعها للشَّغَب، فقال: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 30 - 34]. فالنظرُ في المعجزات الواضحات، والخوارق الباهرات، كان إيمان عامةِ أهلِ الأسلام، في زمن الرَّسُول عليه السلام، وبه كان إيمان السَّحَرة في زمن موسى عليه السلام، الذين حصل لَهم مِن اليقين في ساعةٍ واحدةٍ، حتى صبَرُوا على مرارةِ القَتْل، وفراق الحياة ما لم يحصل لكثيرٍ من النُّظارِ في الكلام، في عِدَّة أعوام. فمن أحَبَّ برْد اليقين، وثلَج الصُّدور، تدبر ما في كتاب الله تعالى ¬
من ذلك، وَمِن ردود الأنبياء على الكفار، فإِنْ أحَبَّ الزيادَةَ؛ ضمَّ إلى ذلك النظر في المصنفات في ذلك: "كالشفاء" (¬1) للقاضي عياض، و" أعلام النبوة " من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير وأمثالهما. وكذلك قراءةُ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة أوصافِه، وقرائنِ أحوالِهِ، فإِنَّها تُفيدُ العلم الضروري العادِيَّ وَحْدَها، فإذا انْضمَّت إلى المُعْجِزِ؛ مَحَت الوسواسَ وأطفأته؛ كما يُطفىء الماءُ النارَ. وممنْ ذكر ذلكَ، واقتصر عليه، وما قصَّرَ فيه الرازي في كتابِهِ " الأربعين في أصول الدين ". وقد أخذتُ كلامَهُ وزدتُ عليه أكثر منه، وجعلتُهُ مُصَنفاً مُسْتَقلاً، سميتُهُ: " البرهان القاطع في معرفة الصانع، وجميع ما جاءت به الشرائع " (¬2)، وهذه طريقُ المحدثين، بل طريقُ السابقين الأولين، وجميعِ التابعين، وسائرِ عوام المسلمين. ولمَّا كتبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرَقْل، جمع من وَجَد من العرب، وكان فيهم أبو سفيان، فسألَهُ عن القرائن التي تَدلُّ على صِدقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان عليه جميعُ الأنبياء، من أصالةِ النسب، وصدقِ اللهجة، والوفاء بالعهد، وعدمِ الغَدْرِ، ونحو ذلك. وقطع بنبوته وظهوره، لأجل ذلك. وهو حديث عظيم؛ ينفعُ في التصديق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه ¬
البخاري (¬1)، من حديث ابن عباس. وليس فيه ذكرُ المعجزات، ولا سأل عنها قيصر. وقد بسطْتُ الحُجَّة في هذا؛ في غير هذا الموضع. وليت المبطلينَ لهذه الطريقة، والْمُكَفِّرين لِمَنْ تَمسَك بهذه العروةِ الوثيقة؛ أتَوْا بما يجْبُر الكُلومَ، ويُحَيِّرُ الخُصُوم، وإنما أثاروا غُبار اللَّجاج، وشَبُّوا نيرانَ الحِجاج. فأتوا بما يُمْكنُ الخصمُ أن يُعَارِضَهُ بنحوه، أو يُنْكِرَ الحجةَ فيه. فَدَوَّنوا وسواسَ الشيطانِ، وما يُورِثُ الحيرةَ على أهْل الإيمانِ، وراموا الاحتجاجَ على مبادىءِ الأدلةِ القوية الفطرية بما هو أدقُّ منها؛ مِن الأساليب النظرية الخفية. حتى ذهب كثير من المعتزلةِ إلى أن بعد العلم بالله، وأنَّهُ صانع العالم، وأنَّه مُتَّصف بصفات الكمال؛ نحتاج إلى دليل آخر يدلُّ على أنه موجود، وأنا قبل ذلك، نجَوِّزُ أنَهُ -مع إيجاده للعالم وكماله في صفاته وأسمائه- معدوم. ثم لا بد لهم من الانتهاء إلى دعوى الضرورةِ، أو سكون النفس في أمور لا تزيدُ في الوضوح على مبادىء الأدلة؛ التي أشار إليها السمعُ، واكتفى بها السَّلَفُ. وتحصُل بكثرة الإصغاء إلى الشُّبهِ شُكُوكٌ تشْبهُ شُكُوكَ المُوسْوَسين في الطَّهارة. ويمكن فيما انْتَهوْا إليه ما يمكن في مبادىء الأدلة مِن الشَّك، أو دعوى الضرورة. وهذا يقوِّي كلامَ أهل المعارف، وطرائق السلف، كما يأتي مبسوطاً، إنْ شاء الله تعالى. وربما أنكرَ هذا؛ مَنْ شَرَعَ في تعَلُّمِ الكلامِ، ولم يُحقِّقْ، ولم يَعْرف مقاصدَهُم فَيُصَدِّق. ¬
وعلى الجُملَة، إنهم جَعلوا ميزان عِلْمهم الذي يتميزُ به عن الجهل، واعتقاد التقليد، وعن الضروريات التي لا تستحق أن تُطلب بالنظر و (¬1) التَعَلمِ، هو جوازُ ورود الشكِ، وطُرؤ الشُبْهة عليه في الحال، وفي الاستقبال. وأنتَ إذَا حققت النظر، وجدتَ ما كان على هذه الصِّفةِ، خارجاً عن العلم المتميز عن غيره بالجزم والقطع، لأنَّ كل ما جوزت أن ينكشف بطلانُه في وقت من الأوقات، جوزت أن ينكشف بطلانه (¬2) الآن، إذ لا أثر للأوقات في البطلان. وكلما جوزت أن ينكشِفَ بطلانُهُ الآن، لم يكن علماً جازماً، ولا كان بينَه وبينَ الظن الغالب الراجح فَرقٌ ألبتة. إنهم يُسمُّون الوساوِس -في حقِّ المحدثين، ومَنْ لم يعرف الكلام من سَائر علماء المسلمين، وعامةِ المؤمنين-: شَكاً وجهالة، ويجعلونه في حق أنفسهم فارقاً بين الضرورة والدِّلالة (¬3). وقد ذكر الشيخُ تقي الدين (¬4)، في " شرح العمدة ". أن في الفرق بينهما إشكالاً. ولما يَزد على هذه الإشارة، وقد أوجز وأبلغ. وَقَوْلُهُم: إنْ قدِحَ في أركان الدليل؛ فهو شك يجبُ إزالتُهُ وإلا فهو وسواس مُطَّرح، زخرفةٌ لا تحقيق فيها، فإن الشك في الشيء إنما ينشأُ من ¬
الشك في أحد أركان الدليل. والطمأنية بجميع أركان الدليل تستلزم بالضرورة الطُمأنينة بالنتيجة. وكيف يحصل الشك في أن الدراهم في الصندوق، وهو النتيجة المعتقدة، مع الطمأنينة بركني الدليل ومقدمتيه، وهما القطعُ بكون الدراهم في الصُّرة، وكل صُرَّة في الصُّنْدوق. وهذا خَلْفٌ (¬1) مِن الكلام، وغلاط (¬2) مِن أهلِ الكلام. ولكنَّ هذا شيء لم يُكلف الله المسلمين بإتقانه؛ بإجماع المتكلمينَ والمحدثين وجميع المسلمين، لخروجه عن مقدوراتهم بالضرورة، وكل أحد يجدُ ذلك من نفسه، ولم يسلم منه الأنبياء! صلوات الله عليهم وقد يكون امتحاناً من الله تعالى وقد يكون عقوبةً -والعياذ بالله من ذلك- وقد يكون سببُه من الشيْطَان -نعوذ بالله منه-. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ولذلك وَردَ في الصحيح من غير طريق -كما يأتي- الأمْرُ عند ذلك بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، أعاذنا الله منه. وهذا لا يخرُجُ من الإيمان -كما يأتي تحقيقُهُ- بل ولا يخْرجُ مِن مطلق العلم اللغوي، فإنَّ الظن الراجح المطابق يُسمَّى علماً في كتاب اللهِ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهبُ أبي القاسم البلخي الكعبي (¬3)، ¬
ومن تابعه على ذلك. رواه عنه: الإمامُ المؤَيد بالله (¬1)، في آخر كتاب " الزيادات " واختاره -عليه السلام-. والمختار عندهم: كفاية الجُمل، وأوائل الأدلة لعامة المسلمين، مع السلامة من الشك والشبهة والحيرة، وذلك وسطٌ بين المذهبين، وخيرُ الأمور أوساطُها، لا تفريطُها، ولا إفراطُها. وسيأتي هذا مبسوطاً بأدلة الفريقين، وإنَّما قدمتُ هذا؛ لأنَّ من الناس منْ يكتفي بالنظر في مقدمة الكتاب. ومن حُجَّة " المؤيد بالله " ومن قال بقوله: إنه قد وَرَدَ في الحديث: زيادة الإيمان ونقصانه، حتى ينتهي إلى أدنى أدنى من مثقال ذَرَّة (¬2)، وذلك متواترٌ، ومجمع عليه عند أهل السُّنة. والعلمُ الاصطلاحي، لا يصِحُّ فيه التَّفاوت، وقِسْمتُهم له إلى ضروري واستدلالي، مختَلَفٌ فيه، والصحيح أنه لا يكون حيث يَثبُتُ إلا ضرورياً، وحين تزولُ عنه الضرورَةُ، تزول عنه صِفةُ العلم الاصطلاحي. والوجه في ذلك؛ أنهُ لا بد من انتهائه إلى مقدمتين ضرورتين، ومتى انتهي إلى ذلك، فنتيجةُ كل مُقدمتين ضروريتين، ضرورية مثلُهما. وهذا ¬
شرح حديث " نحن أحق بالشك من إبراهيم "
يُوجب أنْ تكونَ المقدمات كلها ضرورية، وكونُ المقدمات كذلك، يوجب أنْ تكون النتائج كذلك. والله تعالى له حكمةٌ بالغةٌ في عدم وضوح أمور (¬1) الآخرة لكل أحد إلى حدِّ الضرورة، على جهة الاستمرار، لِما فيه من بطلان الامتحان؛ الذي أخبر سبحانه أنه له مراد، قال الله تعالى في الساعة: {أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، وقال {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]. وأمثال هذا لا يُحصى، وسيأتي لهذا مزيدُ بَيان، والمُقَدمةُ لا تتسع لأكثرَ من هذا. واليقينُ التام، وانتفاءُ الوسواس؛ هو الغالبُ على أنبياء الله -سبحانه- وأوليائِه، وحصولُه مَوْهِبَةٌ من الله تعالى، تقف على أسباب يُوفَّقُون لعملها، كالثواب المتوقف على العمل سواء. ويَندُرُ خلافُ ذلك منهم، لحكمة الله تعالى، لو لم يكن إلا لتأسي المؤمنين بهم، وعدم انكسارِ نفوسهم، كما ورد في الصحيح: " نحنُ أحقُّ بالشَّكِ مِن إبراهيم " (¬2). ¬
ومعنى الشكِّ هنا: هو الوسواسُ الذي لا يدخل دفعه تحت القدرة، وليس معناه الشك المستويَ الطرفين قطعاً. وقد جاء مثل ذلك؛ في موسى الكليم -عليه السلام-، في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 67 - 68]. فيا من جَرحُ وَسْوَاسهِ لا يُؤسى، أما يُعزِّيك: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}؟! ويا مَن يُداوي بالكلام قلبَه الكلِيم، لا تعدِلْ عن المرهم الذي صنعه الحكيم، لخليله إبراهيم، وهو النظرُ في المعجزات، المعلومُ حُدُوثها، وأنَّه لا بُدَّ لها من مُحْدث مختار؛ بالعلوم الضروريات، عند النظر بالفطرة الأولى (¬1)، والإخبات، والخلوصِ من شوائب العادات. فإن تعَذَّرَ ذلك - ¬
تفصيل أهم أمور الدين
بهذه الطريقة، وما قدمناه من النظر في كتاب الله، وقرائن أحوال أنبياء الله -فليس لليقين- بعدَ ذلك- إلا اللجوءُ (¬1) والتضرُّعُ إلى الله أن يَهَبَه مِنْ عِنده، ويشرح له صدْرَ عبدِهِ. وإن طال في ذلك الطلبُ، وقُوسيَ النَّصَبُ، فإن مراماً طلبَه الكليمُ والخليلُ، لجديرٌ بالطَّلَب الطويل: مَرامٌ شَطَّ مَرْمَى العَقْلِ فيه ... فَدُونَ مَداهُ بيْدٌ لا تَبِيدُ بل الدعاءُ، والتضرع، والخضوعُ مُقَدَّم: على النظر في المعجزات، وقرائِنِ الأحوالِ والأمارات. وكفي في ذلك إماماً بالخليل - عليه السلام- فإنَّه حين طلب الطمأنينة؛ رجع إلى مولاه وتضرع إليه ودعاه. وقد أفردتُ في ذلك مصنفاً، سميته: " ترجيحُ دلائلِ القرآن على دلائل اليونان " (¬2). وكما أن ذلك سببُ اليقين، فسببُ الشَّكِّ والكفر: هو النظرُ في المتشابهات، التي لم يُحِطِ البشرُ بها عِلماً، ولا عرفوا تأويلَها، كما أشار إليه القرآن العظيم، في قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. وما أعظم نفْعها للمتأملين، وما يعقِلُها إلا العالمون، هي أثقابُ الدُّر دقاق، وفهْمُك حبل؛ فما يصحُّ النظمُ. ثم إني بعدَ الفراغ من ذلك الاضطراب بمعرفة الصواب، والاهتداء بنور السُنَّة والكتاب نظرتُ في أهمِّ أمور الدين، فإذا هو بذلُ الجهد في نصيحة المسلمين كما جاء في " الصحيح ": " الدِّينُ النَصيحة " (¬3) الحديثَ. ¬
ومِن أهمَ ما ورد: تحذيرُهم من التباغض والاختلاف وأسبابِ ذلك، وأن تُحِبَّ لهم ما تُحِبُّ لنفسك، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32] وقال تعالى: في آل عِمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 102 - 103]. وقال تعالى -بعدها بآيةٍ واحدة-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]. ونَقَمَ على مَنْ قَبلنا عدم رجوعِهم إلى ما أنْزِلَ إليهم من الكتب، والعلم الذي فيها، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]. ومثلُه قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]. يعْني الكتابَ، ولذلك ¬
وَصَفَهُ بالمجيء. وقال بعدَه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] إلى قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]. وعن جُنْدُب قال: قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقْرَؤُوا القرآنَ ما ائْتَلَفت عَليْهِ قلُوبُكمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فقُوموا عَنْهُ " رواهُ البخاري ومسلم والنسائي (¬1). وروى البخاري والنسَائي من حديث ابنِ مسعود قالَ: سَمِعْتُ رجلاً قرأ آيةً، وسَمعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافَها، فَجِئْتُ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُهُ؛ فعرفت في وجهه الكراهيَة. فقال: " كِلاكُما مُحْسِن، ولا تختلِفوا فإنَّ مَنْ قبلَكم اختلفوا فهلَكُوا ". انفردَ به البخاريُّ دونَ مسلم (¬2)، وللجماعةِ معناه ¬
مِن حديث عمرَ بنِ الخطاب في قصته مع هِشام بن حكيم (¬1). وله طرق عن ثمانيةَ عشر صحابياً (¬2). وفيه حجة واضحة على أن الاختلاف في الأفعال مع التصويب ليس هو الاختلافَ المنهيُّ عنه. ألا تراهُ صوَّبهما في اختلافهما في القراءة، وقالَ: " كلاكُما محسن " وإنما حرَّم عليهم المماراة في ذلك، على وجه تقبيح كل واحدٍ منهما لقراءة الآخر؛ لأن ذلك مفضٍ إلى العداوة، وافتراق كلمة الإسلام. وإلى هذا أشار القرآن الكريم، حيث قال: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أي قُوَّتكم. فثبتَ تحريمُ ذلك، وما يؤدي إليه، بالكتاب والسُّنةِ. وما يَعْقلُها إلا العالمون. ويُوَضحُ ذلكَ من كتاب الله، ما حكاهُ اللهُ تعالى: من اختلاف سليمان وداود -عليهما السلام- مع الثناء عليهما، حيث قال: {ففهَّمناها ¬
سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا} [الأنبياء: 79]. وكذلك اختلافُ موسى وهارون، وموسى والخضِر (¬1)، ومخالفةُ علم كُلِّ واحدٍ منهما لِعِلْم الآخر، وموسى وآدم؛ في حديث أبي هريرة (¬2). متفق عليه. بل قال الله: {لو كان فِيهما آلِهة إلا اللهُ لَفَسدَتا} [الأنبياء: 22]، وأمثالها؛ مما يَدُلُّ على لزوم الاختلاف. بل جاء اختصامُ الملإِ الأعلى في القرآن، في " ص " (¬3)، وتفسيره في الحديث (¬4)، ومنه خصومتُهم في الذي قتلَ مئةً، ثم ¬
بيان منهج المؤلف في كتابه
تابَ (¬1)، وخصومتهم في الدرجات والكفارات، ورجع الضمير إليهم في قوله: {قُضِيَ بينهم بالحق} [الزمر: 75] على الظاهر (¬2) والله أعلم. وَخَرَّجَا معاً من حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما هلك مَنْ كان قبلكم كثرةُ مسائِلهم، واختلافُهم على أنبيائهم " (¬3). وقد نَبَّهَ الله -سبحانه- على ذلك، في كتابه الكريم، حيث ذَمَّهم به في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]. ولم أبذلْ جهدي فيما جمعت في (¬4) كتابي هذا طَمعاً فيما لم يحصل بكتب الله المُنزلة على المرسلين من اجتَماع كلمةِ المُنْصِفين والمعاندين على الحق اليقين، وقد قال تعالى في كتابه المبين لسَيِّد ولد آدم أجمعين: ¬
الكلام على المبتدعة، وأقسام المراء
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 81] {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60]. بل حكى الله -تعالى- أنَّ آيات كتابه المُسَمَّى: شفاءً ونوراً، يزيدُهم عمى ونفوراً، بَلْ حصرَهم في ذلك، وَقَصَرهم عليه حيثُ قالَ، تَذكيراً وتحذيراً: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41]. فإنْ قيلَ: هل السُّكُوتُ عن المُبتدعة لازم؛ خوفاً من التفرق، والزيادة في أسبابه، لحديث جُنْدُب المقدم " اقْرَؤُوا القُرآنَ ما ائْتلَفَتْ علَيْهِ قلُوبُكُمْ فإذا اخْتَلَفْتمْ فَقُومُوا عَنْه " خرَّجاه كما مضى (¬1). قلْنا: أمَّا بيانُ بِدَعِهِم، وَكَفُّ شَرِّهم على الوجهِ المَشْروع؛ فواجبٌ، أو مستحبٌ، لِما ثَبتَ مِن النصوصِ الصحيحةِ، في تصويبِ عليٍّ -عليه السلام- في حربِ الخوارج (¬2). وأجمعت الأُمةُ على ذلك، مع ظهور التأويلِ منهم، والإجماعِ عليه. وأما المِراء -الذي يظنُّ فيه المفسدة، دون المصلحة- فلا خير فيه، وقد فرَّق القرآن بينَه وبين الجدال، بالتي هي أحسنُ، فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال {ولَا تكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] والله سبحانه أعلم. ¬
الباعث على تصنيف هذا الكتاب ورود رسالة مشتملة على زواجر وعظات ومدح ولوم وعتاب موجهة من شيخه إليه
هذا وإني لَمَّا نشأتُ بيْنَ كَراسي العُلماء الأكابر، وتربيتُ بَيْنَ عيون أهل البصائر، وَرَتَبْتُ رُتُوبَ الكَعْب في مجالسةِ فُضلاءِ السادة، وثبتُّ ثبوتَ القُطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفتُ شِمالي من يميني، مشمراً في طلبِ معرفةِ ديني، أتنقَّل (¬1) في تربية الشيوخ من قُدوة إلى قُدوة، وأتوقل (¬2) في مدارس العلوم من ربْوَةٍ إلى ربْوَة، وَأمُتُّ إِلى الأصول النبوية بعروق مباركة، وآمُلُ في دعواتهم لِذُرِّيَّاتهِم أن تَشمَلَني منها بَرَكة. ولم يَزَل يَرَاعِي بلطائف الفوائد نواطِفَ، وبناني للطف المعارف قَواطف. لم يكن -حتماً- أن يرجِعَ طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسِيراً، ولم يجب -قطعاً- أن يعودَ جناحُ طلبي للفوائد مهيضاً كَسِيراً، ولم يكن بِدْعاً أن أتَنسَّم من أعطارها روائح، وأتَبصَّرَ من أنوارها لوائح. وإنَّ جماعةً نَسبوني إلى دعوى كبيرةٍ، وأُمور كثيرةٍ، فاعْتَذَرْتُهم فما عذروا، بل لاموا وعذَلوا، وجاروا وما عَدَلُوا، فصبرْت على الأذى، وعلمتُ أن الناس ما زالوا هكذا. إلا أنَّه لمَّا كَثُرَ الكلامُ وطالَ، واتَّسعَ القيلُ والقال، جاءتني "رسالة " مُحبَّرة، واعتراضاتٌ مُحرَّرة، مشتملة على الزواجر والعظات، والتنبيه بالكلم المُوقظات، وأهلاً بمنْ أهدى النصيحَةَ، فقد جاء الترغيبُ إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة (¬3)، وليس بضائرٍ -إن شاء الله- ما ¬
يَعْرِضُ في ذلك من الجدال، مهما وُزنَ بميزان الاعتدال. وجِدالُ أهلِ العلْم لَيْسَ بضَائِرٍ ... مَا بَيْنَ غالِبِهِمْ إلى المَغْلُوبِ بَيْد أنَّها لم تضع تاجَ المَرَحِ والاختيال، وتستعمِلُ ميزان العدل في الاستدلال، بل خالطها من سيما المُحْتالين شَوْبٌ، ومالت من التَّعَنُّتِ في الجدَال إلى صوبٍ، فجاءتني تمشي الخطرى (¬1) وتميس في محافل الخطَرا (¬2)، مفضوضة لم تُغتم، مشهورة لم تكتم، متبرجة قد كشفت حجابَها، وَمَزَّقت نِقَابَها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر، وَتَرَقَّت إلى قصير الإمامة، ومحل الزَّعامة، حتى مصَّتْ أيدي الابتذال نضارَتَها، واقتضَّت أفكار الرجالِ بكارتَها، وإن خيرَ النصائح الخفي، وخير النُّصَّاح الحَفِي. ثُم إني تَأملْتُ فُصُولَها، وتَدبَّرْتُ أصولَها، فوجدتُها مشتملة على القدحِ تارةً فيما نقل عني مِن الكلام، وتارة في كثير من قواعد أهلِ البيت - عليهم السلام- وغيرهم من علماء الإسلام. فرأيتُ ما يَخصني غيرَ جدير بصرف العناية إِليه، ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه، إذ كان ذلك مما يتعلق بالمسائل الفرعية، والمسالك الفقهية. وأما ما يختص بالقواعد الإسلامية -التي أجمعت على صِحَّتها العِتْرةُ الزَّكية، مثل تصحيح الرجوع إلى الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، والآثار الصحابية، ونحو ذلك منَ القواعد الأصولية -فرأيتُ القدحَ فيها ¬
الجواب عما اشتملت عليه تلك الرسالة من أخطاء علمية، وآراء فاسدة ومنهج غير سوي، ينم عن تعصب مقيت ومجانبة لمنهج السلف
ليس أمراً هَيِّناً، والذبِّ عنها لازماً متعيناً، فتعرضتُ لجواب ما اشتملت عليه مِنْ نقضِ تلكَ القواعد الكبار، التي قالَ بها الجِلَّةُ مِنَ الأئمة الأطهار، والعلماءِ الأخيار، مضمناً له النداء الصريح ببراءتي عن مخالفة أهل البيت -عليهم السلام- في تلك القواعد العظام، غير متعرضٍ لجواب ما يَخُصُّني في هذه الرسالة المذكورة، إلا أنْ يتخلل شيءٌ مِنْ ذلك؛ -في معْرِضِ الكلام- على هذه القواعد المشهورة. وقد قَصَدْت وجهَ الله تعالى في الذبِّ عن السنن النبوية، والقواعد الدينية، وليس يَضُرُّني وقوفُ أهل المعرفة على ما لي منَ التقصير، ومعرفتهُم أنّ باعيَ في [هذا] الميدان قصير، لاعترافي أني لستُ مِنْ نُقَّاد هذا الشَّان، وإقراري أني لستُ مِنْ فُرْسَان هذا الميدان، لكنِّي لم أجد من الأصحاب مَنْ يتصدَّى لجواب هذه الرسالة، لمَا يَجُرُّ إليه ذلك منَ القالة. فتصدَّيتُ لذلك مِن غيرِ إحسان، ولا إعجاب، ومنْ عدمَ الماء تيمم التراب، عالماًً بأني لو كنت باريَ قوسهَا ونبالها، وعنترة فوارسها ونزالها. فلا يخلو كلامي مِنَ الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي منَ الغلط عند النُّقاد، فالكلامُ الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه، ولا مِنْ خَلْفِهِ؛ هو كلامُ الله في كتابه العزيز الكريم، وكلامُ مَنْ شهد بعصمته الذِّكرُ الحكيم. وكُلُّ كلام بعد ذلك، فله خطأٌ وصواب، وقِشْرٌ ولُباب. ولو أن العلماء -رضيَ الله عنهم- تركوا الذَّبَّ عن الحق؛ خوفاً مِنْ كلام الخلق، لكانوا قد أضاعُوا كثيراً، وخافوا حقيراً. ومن قَصدَ وَجهَ الله -تعالى- في عملٍ من أعمال البِرِّ والتُّقى، لم يَحْسُنْ منه أن يترُكه، لِمَا يجوزُ عليه في ذلك مِنَ الخطا، وأقصى ما يخاف أن يَكِلَّ حُسامُهُ في معترك المناظرة، وَينْبُوَ، ويعْثُر جوادُهُ في مجال
طريقته في الكتاب، وبيان أنه لم يرد التوسع فيه
المجادلة ويَكبُو، فالأمر في ذلك قريب؛ إنْ أخطأ، فَمَن الذي عُصمَ، وإن خُطىءَ فمَن الذي ما وُصِم. والقاصد لوجه الله لا يخافُ أن يُنقد عليه خَلَلٌ في كلامه، ولا يهاب أن يُدلَّ على بطلان قوله، بل يحب الحق من حيث أتاه، ويقبل الهُدى ممن أهداه، بل المخاشنة بالحق والنصيحة، أحبُّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك من أصْدَقَكَ لا من صَدَّقَك، وفي نوابغ الكلِمِ، وبدائع الحكَم، عليك بمن يُنذر الإبسالَ والإبلاس، وإياك ومَنْ يقول: لا باسَ ولا تاس. فإن وقف على كلامي ذكي لا يسْتقويه، أو جافٍ يَسْخرُ منه وَيسْتَزْريه، فالأولى بالذكي أن يحفظ لي جنَاحَ الذُّلِّ من الرحمة، ويشكرَ اللهَ على أن فَضَّلهُ عليَّ بالحكمة، وأما الآخر الزَّاري، وزَنْد الجهالةِ الواري؛ فإن العلاج لِترقيق طبعه الجامد، هو الضرب في الحديد البارد، ولذلك أمَرَ اللهُ بالإعراض عن الجاهلين، وَمدَح به عبادَهُ الصالحين. ثم إني ترددتُ في كيفية الجواب منَ الإيجاز والإطناب، إذ كان في كلٍّ منهما محامد، ولكلٍ فيهما مقاصد، ففي الإيجاز تأليفُ النفوس الأوابد، وفي الإطناب توسيعُ دائرة الفوائد. وصَدَّني عن التوسيع والتكثير خشية التنفير والتأخير. أما التنفير، فلأنه يُمِلُّ الكاتبَ والمكتوبَ إليه، والمتطلع إلى رؤية الجواب، والوقوف عليه، مع أنَّ القليل يكفي المنصفَ، والكثير لا يكفي المُتعَسِّف، وضوء البرق المنير يدُلُ على النور الغزير. وأما التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيل عرائس الأفكار، حتى يستكمل الزينة، ومطالعة نفائس الأسْفار الحافلة بالأنظار الرصينة، والآثار
تخريج حديث " إن هذا الدين بدأ غريبا ... "
المتينة. فهذا البحر -وهو الزَّخّار- يحتاجُ مِنَ السُّحبِ إلى مدَدٍ، والبدرُ -وهو النَّوَّار- يفتقر مِنَ الشمسِ إلى يَد. ومِنْ أين يتأتَّى ذلك، أو يتهيأ لي، وأنا في بَوادٍ خَوالي، وجبالٍ عوالي (¬1)، فَتَمَصَّصْتُ مِنْ بلل أفكاري بَرَضا، وما أكفي ذلك وأرضى، إذا كان طيباً محضاً. سامحاً بالقَليلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ... رُبَّمَا أقْنَعَ القَلِيلُ وأرْضى ولكن هيهات لذاك، لا محيص لي عن أوفر نصيب من طَف الصَّاع، ولا يد لي منَ الانخداع بداعيةِ الطِّباع. وقد سَلكتُ -في هذا الجواب- مسَالكَ (¬2) الجدليِّينَ، فيما يُلْزِمُ الخصم على أصوله، ولم أتَعَرَّض في بعضه لبيان المختار عندي، وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية، فليتنبه الواقفُ عليه على ذلك، فلا يجْعلْ ما أجَبْتُ به الخصم مذهباً لي، ثم إني قد اختصرتُ هذا الكتاب في كتاب لطيف سَمَيْتهُ: " الروضَ الباسم " (¬3). وهو أقلُّ تَقِيَّة مِن هذا، ولن يخلو، فالله تعالى المستعان. " إنَّ هذا الدينَ بَدأ غريباً، وَسيعُودُ غريباً كما بدأ، فطُوبى للغرباء " رواهُ مسلم، من حديث ابن عمر، ومِن حديث أبي هريرة معاً، وصححه الترمذيُّ من حديث ابن مسعود، وَحسَّنه مِنْ حديث عمرو بن عوف بنحوه، ورواه ابنُ ماجة مِنْ حديث أنس، ونحوه مِنْ حديث معاذ (¬4). ¬
ثم وَجدتُ شيخَ الإسلام الأنصاري (¬1): قد روى مِنْ طريق أهل البيت عن عليٍّ -عليه السلام- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " طلبُ الحق غُربة " (¬2) ¬
ابتداء الرد، وذكر المسالة الأولى التي عرض لها في الرد على دعوى شيخه في صعوبة الاجتهاد، وتعذره، وبيان سهولة ترقيه لطالبيه، والشروط التي لا بد منها في من يسمى مجتهدا
وهذه كلمة حق، وحكمة جاءت من مَعْدِنِها. فنسألُ الله أن يَجْبُرَ غُرْبَتنا فيه بسطوع أنواره، وظهور خوافيه، إنه جَوَاد كريم. وهذا حينَ أشرع في الجواب، والله الهادي إلى الصواب. قال: " أما المسألة الأولى، وهي: سهولةُ تَرقِّي مَرْتبَة الاجتهاد. فأقولُ: الاجتهاد مبني على أصول: منها: معرفةُ صحيح الأخبارِ. ومنها: معرفةُ التفسير المحتاج إليه من الكتاب والسُّنة. ومنها: معرفةُ الناسخ والمنسوخِ. ومنها: رسوخ في علوم الاجتهاد أيُّ رُسُوخٍ، وكُلٌّ منها صعبٌ شديد، مدركُهُ بعيد ". أقول: الكلام في المحاضرات والمراسلات والمناظرات والمحاورات وإن تفاوتت مراتبُهُ، وطالت مساحبُهُ، وتباينت تراكيبُهُ، وتنوَّعت أساليبُهُ، واستنَّت فرسانُهُ في ميادينه الرحيبة، وافتنَّت نُقادُهُ في أساليبهِ العجيبَةِ، فمسالِكُهُ المستجادة: أربعةُ مسالك، ولا يليق التعدي إلى وراء ذلك. ¬
المسلك الأول: الدعاء الى الحق بالحكمة البرهانية والأدلة القطعية
المسلك الأوَّل: الدعاءُ إلى الحق بالحِكمة البُرْهانية، والأدلة القطعية، وهي أجلُّ المراتب، وأرفعُها، وأقطعُها للتشغيب، وأنفعُها، وعليها المدارُ في القطعي من علم المعقول، وعلم المنقول. المسلك الثاني: الجدلية: وهي عبارة عن أقْيِسَةٍ مؤلَّفةٍ مِنْ مقدمات مشهورة؛ غير يقينية. وهي قضايا يُحْكَم بها لاعتراف الناس لمصلحةٍ عامة، أو رِقَّةٍ، أو حَمِيُّة، أو عادات، أو آداب. ولو خُلِّيَ الإِنسانُ ونفسُهُ -مع قطع النظر عمّا وراء العقل- لم يحكم بها، مثل قول البرَهْمي (¬1): " كشفُ العورة مذموم ". وقول الفلسفي: " تعذيب العاصي قبيح ". مستندين في ذلك إلى مجرد العادة، والرِّقَّة، وقد تصْدُقُ وتَكْذِبُ، والغرض منَ الجدل إقْنَاعُ القاصر عن درْكِ البُرهان، وإلزام الخَصم، هكذا ذكَرَهُ علماءُ هذا الفنِّ. المَسْلك الثالث: الخطابية. قال المنطقيون: وهي قياساتٌ مؤَلَّفَةٌ مِنْ مقدماتٍ مقبولةٍ مِنْ شخص معتقد، أو مظنونة، وهي قضايا تُؤْخذ ممن يُعْتَقَد فيه مزيد عقل أو دين، كالموجودات من أهل العلم والزهد، أو مظنونات منْ سائر القرائن، مثل: فلان يطوف بالليل فهو سارق. والغرض مِن الخطابية، ترغيبُ السامع فيما ينفعه مِن تهذيب الأخلاق، وأمر الدين. المسلك الرابع: الوعظية، وهي نوعان: التأليف والترغيب، والتخويف والترهيب، ولكلٍّ منهما مكانٌ يليق به، وحال يَصْلُح له، وَمِنْ ثَمَّ اختلَف السمعُ في ذلك؛ ففي موضعٍ يقولُ: {وقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً} ¬
النوع الأول: نوع الأليف والترغيب
[طه: 44]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللهِ ... } [آل عمران: 159]. وفي موضع: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18]. ومنْ ثمَّ مدح المؤمنين بالذِّلة في موضع، وبالعزَّةِ في موضع. أما النوعُ الأول: وهو نوعُ التأليف والترغيب، فهو الدعاء إلى الحقِّ بالملاطفة، وَضرْبِ الأمثالِ، وحُسْن الخُلُقِ، ولِين القولِ، وحسنِ التَّصَرُّفِ في جَذب القلوب، وتَمييل النفوس. وهذا النوع أشهرُ مِنْ أن يُبَيَّنَ بِمثَال، وسوف يأتي في التنبيه السابع ذِكْرُ طرَفٍ يسيرٍ منْ أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المَرْويَّة في هذا المعنى. وأما النوع الثاني: وهو نوع التخويف والترهيب؛ وهو الدعاء إلى الحق بذكر الزواجر، وكشفِ غطاء المداهنة مع المخاطَب. وقد وردَ ذلك وروداً كثيراً، في السُّنةِ النبوية، والآثارِ الصحابية، وأخبار العِتْرةِ الزكية. بل ورَد في كتاب الله تعالى، قال اللهُ -سبحانه- حاكياً عن كليمه موسى -عليه السلام-: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18]. ومنْ ذلكَ قولُ يوسف لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: 77] لَمَّا نسَبُوهُ إلى السَّرقة. ومنَ الأحاديث الواردة في ذلك قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَر -رضي الله عنه-: " إنَّك امرءٌ فيكَ جاهلية " (¬1) رواهُ البخاريُّ. ومنه: ¬
حديثُ سَلَمة بن الأكوع، الثابت في صحيح مسلم أنَّ رجلاً أكَلَ بشِمالِهِ عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: " كُلْ بيمينك " فقالَ: لا أستطيعُ. فقالَ: " لا استَطعْتَ " مَا مَنعهُ إلا الكبْرُ، قالَ: فما رَفعَها إلى فِيه (¬1). وهذا الرجلُ صحابيٌّ منْ أهلِ الإسلام، وهو بُسْر بن راعي العِير الأشجعي. ذكره النووي (¬2). ومِنْ ذلكَ الحديث: " مَنْ سمعَ رجلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المسجدِ، فليقُلْ: لا رَدَّهَا الله علَيْكَ، فإنَّ المساجدَ لم تُبْنَ لِهَذا ". رواهُ مسلمٌ (¬3) عن أبي هريرة. وروى مسلمٌ أيضاًً عن بُريدة: أنَّ رَجلًا نشد في المسجد، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا وَجَدْتَ " (¬4). ومنه الحديث: " إذَا رَأيْتُمْ مَنْ يبِيعُ أو يبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقولُوا: لَا أرْبَحَ الله تجارتك " (¬5) ¬
من أحكام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رواهُ الترمذيُّ عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن. وهذه الأخبارُ عامةٌ في ناشدٍ الضَّالَّةِ، والبائع، والمبتاع، كائناً مَنْ كان. وقد ذكرَ النواويُّ فصلاً في كتاب " الأذكار " (¬1)، في أنه يجوز للآمرِ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ، وكُل مُؤَدِّب، أن يقول لمن يُخاطبه في ذلك: ويلك، ويا ضَعِيفَ الحال، ويا قليلَ النظر لنفسه، أو يا ظالِمَ نفسه، وأورد في ذلك أحاديثَ. منها: حديثُ عَديِّ بنِ حاتِم، الثابت في صحيح مسلم (¬2): أنَّ رجلاً خطب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَنْ يُطع اللهَ ورسولَه، فَقد رشد، ومَنْ يَعْصهِما، فَقد غَوى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بِئْسَ الخَطِيبُ أنْت؛ قُلْ: ومَنْ يعْصِ الله ورسوله " (¬3). وروى فيه حديثَ جابرِ بنِ عبد الله: أن عبْداً لحاطِبٍ جاء يشكو حَاطِباً، فقال: يا رسُولَ الله ليدخلنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كذبْتَ، لا يدْخُلها فإنَّهُ شهِد بدراً والحُديبية " رواهُ مسلمٌ في الصحيح (¬4). ¬
وذَكَرَ فيه قولَه -عليه السلام- لِصاحب البَدنةِ: " ويلَك ارْكَبْها " (¬1). وقوله -عليه السلام- لذي الخُويصرة: " ويلك فَمنْ يَعْدلُ إنْ لَمْ أَعْدِلْ " (¬2). ومِنَ الآثار في ذلك: ما روي من قولِ علي -عليه السلام-: " قَبَّحَ اللهُ مَصقلة، فعَلَ فِعْلَ السادة، وَفرَّ فِرارَ العبيد. فما أنطقَ مادحه حتى أسكته، وما صدق واصفه حتى بكَّتَهُ ". ذكره في " النَّهْجِ " (¬3). وما رُوي من قوله -عليه السلام-: لابن عباس -رضي الله عنهما-: إنك امرؤ تائِه. -حين راجعه في المُتْعَة-، وكلامُ عليٍّ -عليه السلام-: لأصحابه، في " النَّهْج " مشهور، وفيه من هذا القبيلِ شيءٌ كثير. وَمِنَ الأثارِ في ذلك: أَثرُ عبد الرحمن بن أبي بكر. وفيه: أن أباه ¬
ضَيَّف جماعةً، وأجلسهم في منزله، وانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأخر رجوعُهُ. فقالَ: أَعَشَّيتُموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن، فقال: يا غُنثَرُ، فجدَّع وسبَّ (¬1). وفي هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ، وآثارٌ واسعةٌ لا سبيلَ إلى استقصائِها. وهذا النوعُ أقسامٌ: منه ما يقع مع أهل المعاصي، ويتضمَّنُ الذَّمَّ لهم، والدعاء عليهم. وهذا القسم لا يكون في هذا الجواب منه شيءٌ - إن شاء الله تعالى-، لأن هذا الجواب خطاب لأهل العلم والمراتب الشريفة. ومنه ما يكونُ مع أهل العلم والفضل، ولكن على سبيلِ التأديبِ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَر: " إنَّك امرؤٌ فيك جَاهِلِيةٌ " (¬2). وقول عليٍّ -عليه السلام- لابنِ عباس: إنكَ امرؤٌ تائه (¬3). فهذا أيضاً لا يكون -في هذا الجواب- منه شيءٌ؛ لأنَّ المُجيبَ أحقرُ مِنْ أن يؤدِّبَ مَنْ هو أجلُّ مِنهُ وأكبر، بل هو بأن يُؤدَّبَ أحقُّ وأجدرُ. ومنه ما يكونُ على جهة التنبيه -لأهل الفضل والعلم- بقوارعِ الكلام ¬
شروط الزجر بالألفاظ القاسية
الموقظة -على سبيل الحِدَّة في المَوْجدَه والموعظة- وهذا قد يدخلُ منه شيءٌ في الجواب، لأنه لا أحد بأحقر من أن يقول لغيره: اتق الله، ولا أحد بأكبر من أن يقال له: اتَّقِ الله. واعلم أن للزجر والتخويف بالألفاظ الغليظة شروطاً أربعة: شرطين في الإباحة، وهما: أن لا يكون المزجور مُحِقَّاً في قوله أو فعله، وأن لا يكون الزاجرُ كاذباً في قولهِ، فلا يقول لِمن ارتكب مكروهاً: يا عاصي، ولا لِمَن ارتكب ذنباً لا يعلم كِبْرَهُ (¬1): لا فاسق، ولا لصاحب الفسق -مِنَ المسلمين-: يا كافر. ونحو ذلك. وشرطين في النَّدب، وهما: أن يظنَّ المتكلمُ أنَّ الشدَّة أقربُ إلى قبولِ الخَصْمِ للحقِّ، أو إلى وضوحِ الدليلِ عليه، وأن يفعلَ ذلك بنيَّةٍ صحيحةٍ، ولا يفْعَلُهُ لمجردِ داعيةِ الطبيعة. فإن قلتَ: فكيف تكونُ الشِّدةُ أَقربَ إلى القبول؟ قلت: قد يكونُ كذلك -في بعض المواضع- مثل أن يقع مع الصالح الخاشع المتواضع، وذلك قليل. إذا عرفَت هذا، فاعلم أنه لَمَّا كان الكلام في المراسلات لا يكاد يخلو مِنْ هذه المسالك الأربعة، أحببتُ التعريف بها، خوفاً مِمَنْ لا يعرف هذا الشأن، وممَّن لم يتدرَّبْ في هذا الميدان يحْسِبُ أنِّي حين أذكر الطريقة الخطابية، والأمثال الوعظية، قد اكتفيتُ بها عن إيرادِ الأدلةِ ¬
الرد على كلام السيد في تفنيده الاجتهاد، ومنع القول بسهولته، والجواب عليه من أحد وعشرين تنبيها
العلمية، والبراهينِ القطعية، واهماً أني لا أسبحُ إلا في شريعة هذا الفرات، ولا أجري إلا في ميادين هذه العبارات، ولا يدري أني قد أصَبتُ مَحَزَّ (¬1) الإصابة، ووضعتُ الهِناء (¬2) مواضِع النُّقْبِ. ولكل مقام مقالٌ، لا يَلِيقُ سواه بمقتضى الحال. وإنما المجيب يقفو آثارَ مَنِ ابتداه، ويتكلَّم على كلامه (¬3) بمقتضاه. فحين يتكلم المبتدىءُ في المواضع الخطابية، والمسالك الجدلية، أغزو مغزاه، وأسْتنُ في مجراه، وحين يتكلَمُ في الأدلة القطعية، والبراهين القوية، أقفو على آثاره، وأعشُو (¬4) إلى ضوءِ ناره، وهذا هو حكمُ المجيب. فليس بملومٍ على ذلك، ولا معيب. وإذْ قدْ عرفت هذه المقدَمة، فلنشرعْ في الجواب على ما تقدم - من كلام السيِّد -أيَّده الله- في تفسير الاجتهاد، ومنع القول بسهولته. والجواب على ما تقدَّم مِنْ كلامه يَتمُّ بذكر أحدٍ وعشرين تنبيهاً. التنبيه الأول: في عبارة " السيد " -أيده الله- رَمي لي بقولٍ مستغرَب في تسهيل الاجتهاد، ورأي مستطرَف يُجانِبُ مذاهب النقاد، ولم أعلم لي في ذلك مذهباً غريباً، ولا رأْيأ حديثاً، وأنا أَشْترطُ في الاجتهاد ما يَشْتَرطُهُ غيري من أهلِ المذهبِ (¬5) وغيرهِم -كما سيأتي بيان ذلك-. ولا ¬
بيان إخلال السيد بقاعدة كبيرة هي أساس المناظرة، وهي: إيراد كلام الخصم، بلفظه أولا، ثم التعرض لنقضه ثانيا، ولأهل العلم في ذلك مذهبان:
معنى لِمراسَلتي ومناظرتي في ذلك، لأنَّ المراسلةَ فرعُ المخالفةِ، ولمْ يكن الأصل مني -وهو المخالفة- فيكونُ الفرعُ من " السَّيدِ "؛ وهو المراسلةُ والمناظرةُ. وقد أَخلَّ " السيِّدُ " -أَيَّدَهُ الله- بقاعدَةٍ كبيرةٍ؛ هي أساسُ المناظرة، وأصلُ المراسلة، وهي: إيرادُ كلام الخصْم " بلفظه " أوَّلاً، ثم التَّعَرُضُ لِنَقْضِه ثانياً. وهذا شيء لا يَغْفُلُ عنه أحدٌ من أهل الدِّرْيةِ (¬1) بالعلوم، والخوض في الحقائق، والممارسة للدَّقائق، وإنما تختلِف مذاهبُ النُّقادِ في ذلك، ولهم فيه مذهبان: المذهب الأول: أن يُورِدَ كلامَ الخصْمِ " بنَصِّه "، ويتخلَّص من التُّهمة بتَغْييره وَنقصهِ. وهذا هو المذهبُ المرتضى عند أمراءِ الفنونِ النظريةِ، وأَئِمةِ الأساليبِ الجدَلية. وقد عاب عبد الحميد بن أبي الحديد (¬2) على قاضي القضاة (¬3)؛ أنه ¬
المذهب الثاني: في نقض كلام الخصوم: أن ينقلوا مذاهبهم بالمعنى
ينْقُضُ كلامَ السيِّدِ المرتضى (¬1) في مراسلات دارت بينهما، ولا يُورِدُ لفظَهُ ولا يَنُصُّ. واعلم: أن تركَ كلام الخَصْمِ ظلٌم لَه ظاهرٌ وحَيْفٌ عليهِ واضح، لأنَّهُ إنَّما تكلَّم، ليكونَ كلامُه موازناً لكلام خصْمِهِ في كفَّةِ المِيزان الذهني، وموازياً له في جولة الميدان الجَدَلي، لأنَّ المُنْفَرِدَ يرجحُ في الميزانِ، وإن كان خفيفاً، ويسبِقُ في الميدان، وإن كان ضعيفاً. وهذا كُلُّهُ إذا كان للخصمِ كلامٌ يُحْفَظُ، واختيارٌ يصِحُّ أنْ يُنقَض، فمِنَ العدلِ بيانُ قوله، وحكايةُ لفظهِ، وأما إذا لم يكن له مذهبٌ ألبَتَّة، وإنما وُهِمَ عليه في مَذْهبهِ، ورُميَ بما لم يَقُلْ به، فهذا ظُلم على ظُلْمٍ، وظلماتٌ بعْضُها فوق بعض. المذهب الثاني: من مذاهب النُّقاد في نقضِ كلامِ الخُصُوم: أن يحكوا مذاهبَهم بالمعنى، وفي هذا المذهب شَوبٌ مِن الظلم، لأن الخصمَ قد اختار له لفظاً، وحرَّرَ لدَليلهِ عبارةً ارتضاها لبيان مقصدِهِ، وانتقاها لكيفيةِ استدلاله، وتراكيبُ الكلامِ متفاوتة، ومراتبُ الصِّيغ متباينة، والألفاظُ معاني المعاني، والتراكيبُ مراكيبُ المتناظرين، وما يرْضى المبارزُ لِلطِّرادِ بغير جواده، ولا يرضى الرافعُ للبناء بغيرِ أساسه، مع أن قطعَ الأعذارِ من أعظمِ مقاصدِ النُّظَار. وهذه الأمور لم تكن مظالم شرعيَّة، وحقائق حِسِّيَّة، فهي آدابُ بينَ المتناظرين رائقة، ولطائفُ بين المتأدبينَ لائِقة، ومراقٍ إلى العدل ¬
والتناصف، وَدَواعٍ إلى الرفقِ والتعاطف. وكل ما خالَفَها من الأساليبِ فارقَ حظَّهُ من هذه الآدابِ الحسان، وكلُّ منْ جانبها من المتناظرين علقته رائحة من قول حسَّان: .................... إنَّ الخَلَائقَ فَاعْلَمْ شرُّهَا البِدَعُ (¬1) استدراك: ما كان من أقوال الخصومِ معلوماً بالضرورة، لا تفاوت العبارات في إعطاءِ معناه؛ كبعض مذاهب المعتزلة والأشاعرة، وسائر الطوائف، فإنها معلومةٌ بالتواترِ، مأمون من منازعةِ أربابها فيها، فلا شين على الخصمِ إذا ذهبَ هذا المذهب في حكايتِها -بالمعنى- إذ لم يكن في معناها غُموضٌ تفاوتُ -في الكشف عنه- العبارات. والعجبُ أن السيِّد -أَيَّدَه الله- مع ما لَه من جلالةِ القدر والخطر، ومع قطعِ عُمُرهِ في علومِ الجَدَلِ والنظر، أَهْملَ هذا المهمَّ الجليل، وغَفَلَ عن هذا الأصلِ العظيم، فظلمني حظي، ولم يأت بلفظي؛ حتى أُحاميَ عنه، وأُبيِّنَ فسادَ ما أَخَذهُ منه. وإنما تُقَرَّرُ الأُمور على مبانيها، وتُفَرَّعُ العلوم على مباديها، والفرعُ من غير أصل كالبناء من غير أساس، والجواب من غير مبتدأٍ كالطُّنْبِ (¬2) من غيرِ عمود. أيها السَّيِّد: كم جمعتَ عليَّ في هذه الدعوى مظالم، وادعيت عليَّ وأنا (¬3) غائب، ولم تأت ببينة، وحكمت لنفسك، ولم تَنْصِبْ لي وكيلاً، ¬
التنبيه الثاني: في الاجتهاد: هل هو متعسر أو متيسر، وبيان أنه للذكي متيسر ومن فقد الخصائص متعسر، والاستدلال بالآثار.
ولم تجعل بيني وبينكَ حكماً. فضربت خَيمةَ الدَّعوى على غير عمودٍ ولا طُنُبٍ، ورفعتَ سقفَ الحكومة على غيرِ أساسٍ ولا خُشُب. التنبيه الثاني: المراجعةُ في أنَّ الاجتهادَ مُتَعَسَرٌ أو مُتيَسِّر من غرائب الأساليب المُتَعَسِّفَة، لأن مقاديرَ التَّسَهُّلِ والتَّعَسُّر غيرُ مُنْضَبِطَةٍ بحَدٍّ، ولا واقفةٌ على مِقْدار، ولا جاريةٌ على قِياس، ولا يصحُّ في معرفة مقاديرها برهانُ العقل ولا نصُّ الشرع، ولا يعرف مقاديرُها بكيلٍ ولا وزن، ولا مساحةٍ ولا خَرْصٍ، فإن من قال: إن حفظ القرآنِ علَيَّ متعسِّرٌ أو متيسِّرٌ، أو حفظَ الفقه، أو طلبَ الحديث، أو الحجَّ، أو الجهاد، أو غيرَ ذلك، كلُّ من ادعى سهولةَ شيءٍ منها -عليه- أو مشقته، لم يعقد له مجلسُ المناظرة، ويُطالب بالبراهين المنطقية، لأن الذي ادَّعاه أمرٌ ممكن، وهو يختلِفُ باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون متسهِّلاً على بعض الناس، متعسِّراً على غيره. فطلبُ العلم متسهلٌ على ذَكيِّ القلبِ، صادقِ الرَّغبةِ، خَليِّ البالِ عن الشواغلِ، الواجدِ للكتب المفيدة، والشيوخ المُبَرِّزِين، والكفايةِ فيما يحتاج إليه، ونحو ذلك من كثرة الدواعي، وَقِلَّةِ الصوارف. وطلبُ العلمِ متعسِّرٌ على مَنْ فقد هذهِ الأشياءَ كلَّها، وابتُلِيَ بأضدادها، وبينهما في التَّيسُّرِ والتَّعسُّر درجاتٌ غيرُ منحصِرَةٍ، ومراتبُ غيرُ منضبطةٍ، وبينَ النَّاس من التفاوت ما لا يُمْكنُ ضَبْطُهُ ولا يَتَهَيَّأ، وأين الثَّرى من الثُّريَّا!. وجامدُ الطبع، بليد الذِّهْنِ؛ إذا سَمِعَ من يدَّعي سهولَة ارتجال القصائد والخُطَب، وتحبير الرسائلِ والكتُب، توهم أنه بمنزلةِ من يدعي
إحياءَ الموتى، وإبراءَ الأكمه والأبْرَص، وكذلك الضَّعيفُ الزَّمِن إذا سمعَ من يدَّعي سهولةَ حملِ الأشياءِ الثَّقيلة، وعمل الأعمالِ الشاقَّة. وكذلك الجَبان الفشل (¬1)؛ إذا سمع من يدعي سهولَة مقارعةِ الأقران، ومنازلة الشُّجْعان. ولم نعْلَمْ أنَّ أحداً سَنَّ المناظرةَ في دعوى سهولة شيءٍ أو تَعسُّره؛ وسواء كان ذلك الشيء من قِبل العلمِ أو العمل، أو الفضائل أو (¬2) الصناعات، مهما كان ذلك الشيء المدعى من جِنْسِ المقدورات. وليت شعري! كيف يكون تركيب المقدمات على أن غيبَ القرآن، أو قراءَة الحديث، أو نحو ذلك: مُتَسَهِّلٌ أو مُتَعسِّرٌ؟! فإن قيل: لم يَزلِ العلماءُ يختبرون الأئمة في الاجتهاد، ويُناظرونهم؟ قُلنا: وأين هذا مما نحن فيه، إنما كلامنا فيمن ادعى أن طلب الاجتهاد سهلٌ على من أراده، ولم يَدَّعِ أنَّه مجتهد. وكذا مَن ادَّعى: أن غيب القرآن سهلٌ، ولم يَدَّعِ أنه مُتَغيِّب. فإنا ما علمنا أن أَحداً ترسَّل على من ادعى شيئاً من ذلك حتى يكشِف ما ادعاه من الجهالة، ويهديه إلى الحقِ، ويصدَّهُ عن الضَّلالة، ويطوِّفَ في الرد عليه في المحافل، وُيسيِّر الجواب عليه إلى المدارس. ومثل هذا لا يحتاج إلى تطويل العبارة، بل ولا يحتاجُ إلى الإيماءِ والإشارة، لكن أحْوَج إليه كثرةُ التَّعسُّف. وإذا عرفتَ هذا، فنقولُ للسيِّد -أيَّده الله-: ما مرادُك بتعسُّرِ الاجتهادِ، أو تعَذُّرِه، وتصدير الرسالة بالإنكار لسهولته، والاحتجاج ¬
الكلام على حديث علي: " ما أسر إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا كتمه عن الناس "
الطويل على ذلك؟ هل تريدُ أنه متعسِّرٌ على الخصم الذي كتبتَ إليه، وأوردتَ الأدلةَ عليه؟ فَلسْتُ أُنكرُ عليك هذا، فربما رأيتَ من قصورِ هِمَّتي، وعدم صلاحيتي؛ ما يقضي بذلك، فتكلمت بِما علمت، ولا لوْمَ عليك في ذلك، ولا حَرَجَ، ولكن ما هذا ممّا يحتمل إنشاءَ الرسائلِ، ولا يليقُ في مثله طَلبُ البرهان والدلائل، وإن كنت تريد أن ذلك عسيرٌ على الناسِ كلهم -كما هو ظاهرُ كلامِك، ومفهومُ خطابك- فذلك لا ينبغي صدُوره منْ مِثلِكَ، ولا يَليقُ بفهمك وفضلِك، فإنَّكَ قد عرفتَ أحوالَ الناسِ وتفاوتَها إلى غير حدٍّ، وتباينها إلى غيرِ مقدار، واعْتبِر أحوال الناسِ في قديمِ الزمان وحديثهِ، وبعيدهِ وقريبه. هذا أميرُ المؤمنين -عليه السلام- اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ الصحابة والقرابة بالعلم الذي لم يُمَاثَلْ فيه، ولم يُشارك ولم يُشابَه فيه، ولم يُقارَبْ، بحيث إنه لم يُعْلَمْ -بعدَ الأنبياء عليهم السلام- نَظيرٌ لهُ في عِلْمِهِ؛ الذي حَيَّرَ العقول، وأسكت الواصفين، فما كأنََّه نشأ في جزيرة العرب العرباء، ولا كأنَّهُ إلا مَلَكٌ نَزَل من السماء، على من درس علوم الأذكياء، وتَلْمَذ في مغاصات الفطناء؟! إنما هي مِنحٌ ربانية، ومواهبُ لَدُنِّيَّة. ولكثرة علمه -عليه السلام- اتُّهِم أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره مِن الشريعة بما أَخفاه عن الناس، فسأله رجلٌ: ما الذي أسرَّ إليك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فغَضِبَ وقال: واللهِ ما أسرَّ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً كَتَمَهُ عنِ الناسِ، وإنما عندنا كتابُ الله، وشيء من السُّنَّة ذكره عليه السلام، أو فهم أُوتيهِ رَجُلٌ (¬1). ¬
وهذا مع صحة إسناده؛ صحيح المعنى، فإنه ليس يجوزُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسِرَّ شيئاً من أمرِ الشريعة، فإنه بُعِثَ مبيناً للناس، وإنما كان يسرُّ إليه شيئاً من الملاحم والفِتن، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلالِ والحرامِ، وشرائع الإسلام، فقد أوضحَ أميرُ المؤمنين -عليه السلام- في كلامه هذا: أن فَضْلَهُ في ذلك على القرابة والصحابة ومَنْ عدا الأنبياء والمرسلين من الناس أجمعين، إنما كان بالفهمِ الذي آتاه الله. وأما القرآن الذي كان معه -عليه السلام- والأخبارُ النبوية، فإنه يُمْكِنُ غيْرُهُ معرفةَ ذلك، ولكن ما ¬
يُمْكِنُ غيرُهُ أن يفهمَ مِن ذلك مثلَ فهمه، ولا يستنبط منه مثلَ استنباطه (¬1)، وكذلك سائرُ الصحابة كانوا في ذاتِ بينهم متفاضلين، فلم يكن أبو هريرة في الفقه مثلَ معاذ، ولا كان معاذ في الرواية نظيرَ أبي هريرة، وكان زيدٌ أَفْرضهم، وأُبيٌّ أقرأهم، ومعاذ أفَقهَهُم (¬2)، وكذلك أَحوالُ الخلق منْ بعدهم من السَّلفِ والخَلَفِ. وكم عاصرَ أئمة العترة -عليهم السلام- من طلاب للعلم، مجتهد في تحصيله فلم يبلغ مَبْلَغهُم، ولا قارب شأوَهم. وكذلك عاصرَ أئِمةَ الحديث والفقهِ والعربيةِ، وسائرِ العلوم: من لا يأتي عليه العدُّ، فلم يبلغ المقصود، ويتميز عن (¬3) الأقران إلا أفراد من الخلق، وخَواص مَنحهم اللهُ -تعالى- الفهمَ والفِطْنَة، وآتاهم الفقهَ والحِكْمَةَ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. وقد فاضلَ اللهُ -تعالى- بينَ الأنبياء -عليهم السلام-: قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. وقال ¬
تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] فهذا تفضيلٌ في الفهم بَيْنَ سليمان وداود -عليهما السلام-، مع الاشتراكِ في النبوة، والتفاوت ما بيْنَ الأُبوة والبنوة. وكذلك قد فَاضَلَ اللهُ بينَهم فيما دُونَ هذه المرتبة، وهي مرتبةُ البيان، ووضوحِ العبارة، مثلَ ما نصَّ عليه من إيتاءِ داود فصلَ الخطاب، ومثل قول موسى في أخيه -عليهما السلام- {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القص ص: 34]. وعمودُ التفاوتِ الذي يدورُ عليه، وميزانُهُ الذي يُعتبر به في أغلب الأحوال هو: التفاوت في صِحَّة الفَهْمِ، وصفاء الذِّهن، واعتدالِ المِزَاج، وسلامةِ الذوق، ورُجحانِ العقل، واستعمالِ الِإنصاف. فهذه الأشياء هي مبادىء المعارف، ومباني الفضائل ولأجلها يكون الرجلُ جواداً من غير إسراف، وشجاعاً من غير تَهوُّر، وغنياً من غير مال، وعزيزاً من غير عشيرة، إلى غير ذلكَ من الصفات الحميدة، وعكسها مِن الرذائل الخسيسة. ومِنْ ها هنا حَصَلَ التفاوتُ الزائد، حتى عُدَّ ألفُ بواحد، وقد أنشد الزَّمخشريُّ (¬1) -رحمه الله- في ذلك: ¬
ولم أرَ أمْثَالَ الرِّجَالِ تفاوتاً ... لَدَى المجْدِ حَتَّى عُدَّ ألفٌ بِوَاحِدِ وقال ابنُ دُريْدٍ (¬1) في المعنى: والنَّاسُ ألفٌ منْهُمُ كواحِدٍ ... وَوَاجدٌ كالألْفِ إنْ أمْرٌ عَنى وأنشدوا في هذا المعنى: يا بني البُعْد في الطِّبَا ... عِ مَعَ القُرْب في الصُّوَر وفي الآثار: " النَّاسُ كإبل مئة لا تَجدُ فيها راحِلَة " (¬2) وقالت العربُ ¬
في أمثالها: المَرْءُ بأصْغَرَيْه: قَلْبِهِ ولسَانِهِ. وفي الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " رُبَّ حامِلِ فِقْهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حَاملِ فِقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفقهُ مِنْهُ " (¬1). ¬
التنبيه الثالث: التعرض لمقادير المشاق التي في أنواع التكاليف والعبادات. يعد من السيد تنفيرا من الاجتهاد، وحثا على التقليد.
وليس كُلُّ مَن قَرأ النحو والأدب، صنَّف مثلَ " الكشاف "، ولا كُلُّ مَنْ قَرأ الأُصولَ والجدلَ، ركب بحر الدقائق الرَّجَّاف. ومَا كُلُّ دَارٍ أقْفَرتْ دَارُ عَزَّةٍ ... وَلا كُلُّ بَيْضَاءِ التَّرائِب زَيْنَبُ فإذا تقرر أن المواهب الربانيّة لا تنتهي إلى حد، والعطايا اللَّدُنيَّة لا تَقِفُ على مقدار، لم يَحْسُنْ من العاقل أن يقطع على الخلق بتعسيرِ ما اللهُ قادِرٌ على تيسيره، بل لم يلِقْ منه أن يِقطعَ بتعسير ما لم يَزَلِ الله -سبحانه- يُيسره لِكثير من خلقه، فيُقَنِّطُ لكلامه طامعاً، ويتحجَّرُ من فضل الله واسعاً، ويُفتَّرُ بتخذيله همةً ناشِطة، ويَفُلُّ بتقنيطه عزيمةً قاطعة، بل يخلِّي بينَ الناسِ وهمَمِهم وطمعِهم في فضل الله عليهم، حتى يَصِلَ كلُّ أحدٍ إلى ما قسَمَهُ الله له من الحظِّ في الفهم والعلم، وسائر أفعال الخير. وهذا مما لا يحتاج إلى حِجاج، ولا يفتقِرُ إلى لَجاج. التنبيه الثالثُ: التعرضُ لمقادير المَشَاقِّ التي في أنواعِ التكاليف والعبادات من الصلاة والزكاة والتلاوة والصيام والحج والجهادِ والعلم والفُتيا، وسائِرِ الأعمال الصالحة، ومتاجر الخير الرابحة، مما لم تجرِ عادة الأنبياءِ -عليهم السلام-، ولا الأئِمَةِ، ولا العلماءِ، ولا الوعاظِ، ولا سائرِ الدعاة إلى الله تعالى -بالحكمة والموعظة الحسنة- أن يُهوِّلوها، ويُعظِّموا التعرضَ لفعلها، وُيعسِّروا الإحاطة بشرائطها؛ من الإخلاص، وعدم العُجْب، والتحرز من الإحباط؛ فإن في الجهاد التعرضَ لفواتِ ¬
الروح، مع ما يصحَبُ المجاهد من حُبِّ الثناء. وفي الورع مِن الشُّبهات، ومحاسبة النفس في كل وقت، وذمها عن الشَّهوات، إلى غير ذلك من التكاليف المحبوبة (¬1) والمفروضة -مشاق كثيرة- قلَّ مَنْ يَصْبِرُ عليها. وللسيِّد -أيَّدهُ الله- قدوةٌ في الأنبياء والأئِمّة والعلماء: أما الأنبياء، فَدَعُوا الناس إلى محابِّ الأعمال، ومعالي الأمور، ورَغَّبُوا في الفضائل، وهَوَّنوا ما فيها من المشاق؛ بذكر الثواب في فعلها، والعقاب الحاصِل في ترك الواجب منها، ولم يعلم منهم أنَّهم خَذَّلوا طالباً لشيءٍ من الأعمال المحبوبات، ولا قصروا أحداً عن التطلع إلى رفيع الدرجات. وأما الأئمة والعلماء، فصنفوا العلمَ، وبيَّنُوا الواجبات، وذكروا شروطها؛ فذكروا شروط الصلاة، وما يجب من الطهارة وسائر الفروض والشروط، ولم يلحقوا بهذه -فصلاً- مُنَفِّراً عن العزم على أداء الصلوات في أوقاتها بخشوعها، وجميع شروطها، وسننها وهيئاتها، وحضورِ القلب فيها، وَحِل ثياب المصلي، وعدم دخول الحرام والشبهة في أثمانها، وعدم مطالبته بحقٍّ من حُقوق المخلوقين في حال تأديتها. ولا علمنا أنهم قالوا: فعل الصلاة على أفضل الوجوه وأكمل الأحوال متعسرٌ أو متعذر، فلا ينبغي من أحد أن يهتمَّ بذلك. وكذلك في الحَج والجهاد، لم يزيدوا على ذكر الشروط، فمن أحبَّ تأديةَ ذلك الفعلِ الشَّاقِّ بتلك الشروط الشاقة، فالله -تعالى- يُعينه ويَلْطُفُ به مِن دُونِ أن تُوضع رسالة إلى منْ حَدَّثَ نفسَه بالحَجِّ، يُذكر له فيها مشاق الحجَ، ويُنَفَّر عن الحجّ. وأخصُّ من هذه الأمثلة البعيدة ذكر مسألتنا بعينها، وذلك أن العلماءَ ما زالوا يذكرون شروط ¬
التنبيه الرابع: كان اللائق بالسيد أن يذكر الشرط الذي خالف فيه المصنف العلماء
الاجتهاد في مصنفاتهم وتآليفهم مجردةً عن التَّعسير له، والتَّنفير عنه، واستبعادِ إدراكه، والحثِّ على العكوف على التقليد، والإضراب عن الاجتهاد بالمرَّة، وهذه تصانيفُ العلماء -أرنَا أيُّها السَّيِّد أيَّدَك الله- مَنْ سَبقك إلى التنفير من الاجتهاد، والحث على التقليد؟!. وذلك لأن العُسْرَ واليسر أمرُهُما إلى الله تعالى، واللهُ -سبحانه- إنما أخذ على العلماء أن يُبَيِّنُوا ولا يَكتُمُوا، ولم يَأخُذْ عليهم أن يُعسِّرُوا ولا يُسَهِّلُوا، فلو أن السَّيِّد -أيَّدهُ الله- ذكرَ شروط الاجتهاد، وأودعها مُصَنفاً، أو أوقفني على ذكرها مُبيَّنةً بأدِلتِها، وحثَّ عليها، أو سكت مَن الحثِّ على الخير والتنفيرِ عنه، لكان له فيهم أُسْوَةٌ حسنة، ولكان ذلك أشبة بطرائق المتهادين للنَّصائح، وأقربَ إلى فعل السَّلَف الصَّالح. التنبيهُ الرَّابعُ: كان اللائقُ بالسَّيِّد -أيَّده الله تعالى- أن يذكر الشرط الذي خالفتُ فيه العلماءَ، فيقول: أنت قلت: إن علم العربية ليس بشرط، أو معرفةَ الأصول، أو معرفةَ الحديث، أو غيرَ ذلك، أن كان عَلِم بخلافٍ لي في ذلك، حتى يُبين لي أني قد خالفت الإجماعَ، وخرجتُ إلى حَدٍّ أسْتحِقُّ بِه الإنكار. أما إذا قلت: إن تحصيل شرائطِه المعروفة متيسرة على أهل الذَّكاء والهِمَمِ، فما وجهُ التَّرسُّلِ في هذا، والتطويل والتكثير فيه، والتهويل، وطلب البراهين القاطعات والتعرض للمعارضات والمناقضات؟! الأمرُ أهونُ مِن أنْ تلتقيَ الشفتانِ بذكره، وتجريَ الأقْلَامُ بِسطْرهِ. والذي يليق من الحليم تهوينُ العظائم، لا تعظيمُ العظائم؛ على تسليم أنَّ ذلك شرط عظيم، وعوائد الحكماء جارية بهذا، وكتبهم ناطقة به، ولهذا قيل: إذا ضيَّقْتَ أمراً زاد ضِيقاً ... وإنْ هوَّنتَ ما قَد عَزَّ هانا
التنبيه الخامس: ... لو حذر من الاجتهاد لتعفت رسوم العلم قبل هذا الزمان، وتعطلت منازله، والجواب على الاجتهاد من كتب أهل الحديث من وجهين
والسيِّد -أيَّده الله- قد رقيَ إلى مرتبة الدعاء إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظةِ الحسنة، فلهذا عِبْتُ عليه ما خالفَ طرائق الفضلاء، وباينَ عادات العلماء، وإلا فلي مُدَّةٌ طويلة صابر (¬1) على الأذى والفُحْش، الذي يتَنَزَّه -أيَّده الله- عن سماعه، دع عنك النُّطْقَ به. فلم أتكلم إلى أولئكَ، ولم أجاوبْهم بشيء؛ علماً بما في الإعراض عن الجاهلين مِن خير الدنيا والآخرة، مع التمكن مِن المجازاة في الأقوال، والمجازاة في الأفعال، لكني آثرتُ الحِلْمَ، وصبرت على الظُّلْم، وجعلت الصبرَ والكَظْمَ مكانَ النثر والنظم. فأما السيِّد -أيَّده الله- فلم أعُدَّه من الجاهلين فَأعرِضَ عنه، بل عَدَدْتُهُ من أهل الذكر، فرغِبْتُ في الجواب عليه، وبسطت إلى التصدير بما عينتُهُ إليه. التنبيه الخامس: فرعٌ مِن فروعِ الشَّجرة النبوية، وغُصْنٌ مِن أفنان الدَّوحةِ العَلَوِيَّةِ، وَنَشءٌ مِن أهل البيت -عليهم السلام- ومِن أولاد العِترة (¬2) الكِرام، ومِن أهل الذكر وبيوت العلم، تشَوَّفَ إلى الاجتهاد في العلم، وتشوَّقَ إلى مراتب الفضل، فلمَّا شِمتم بارقة جهدِهِ صَيِّبة، وَشَمِمْتُم رائحةَ سعيه طَيِّبَة، وتوسمتُم فيه للفائدة سِماتٍ، وحسِبْتُم أنَّهُ قارَب وهيهات؛ تواترت عليه الرسائل، وتواردت عليه الدلائِلُ، تُفتِّرُهُ عن عمله، وتقنِّطُه مِنْ أمَلِهِ: مَن قد سَبَقكم إلى هذا -من الأئمة الهادين-، أو العلماء الراشدين؟! وإنما بَلَغَنا أنَّ أهل العلم يفرحون بِمَن عَلَتْ هِمَّتُهُ، وَظَهرت فِطْنَتُهُ، وُيرَغِّبُونَهم بأنواع الترغيب، ويجعلون التصويبَ لهم مكانَ التثريب. وانظر أيَّدَكَ اللهُ في سِيرة الإمام " المنصور بالله " -عليه السلام- ¬
التنبيه السادس: طلب الاجتهاد من فروض الكفايات ومن جملة الواجبات، ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج، وقول الرسول: " بعثت بالحنيفية السمحة "
وكيف كانت سياستُهُ لِطلَبَةِ العلم، وكذلك سائرُ الأئمة-عليهم السلام-. وأرنَا -أيدكَ الله- مَنْ صَنَّف منهم رسالةً إلى المتعلمين في زمانه، يُحَذِّرهم مِنَ الاجتهاد، ويُلزمهم العكوفَ على التقليدِ. ولو أنَ العلماء فعلوا كما فعلت -أيدكَ اللهُ تعالى- لتَعفَّتْ رسومُ العلمِ قبلَ هذا الزمان، وتعطَّلَتْ منازلُهُ قبل هذا الأوانِ، لأنَّ الناسَ أتباعٌ لهم، خاصةً إذا دَعَوْهُمْ إلى ما هو أسْهَلُ عليهم. فإن قلتَ: إنك إنَّما نَهيتَني عن طلب الاجتهاد من كُتُبِ أهل الحديث؛ دونَ كُتُب أهلِ البيت. فالجواب مِن وجهين: أحدُهما: أني لم أترُكْ أحاديث أهلِ البيتِ -كما سيأتي بيانُهُ في موضعه- إن شاء الله تعالى. الثاني: لم تأمرْني بالاجتهاد من كتب أهل البيت قطُّ، بل صَرَفت عنه هِمَّتي على كل حال، وَصَدَّرت رسالتَكَ بالاستدلال على تَعْسيره، وتوقفتَ في إمكانه وتجويزه، وقلت تارةً: إنه كالمتعذِّر، فشبَّهت الجائز بالمُحال، وتارة: إنه متعسِّرٌ أو متعذِّرٌ، فَشكَّكْتَ في دخوله في الإمكان -كما سيأتي بيانُ ذلك-. فسَدَدت عليَّ أبوابَ المعارف، وقطعتَ عليَّ طريق الاتصال بجميع الطوائف، وَفَتَّرْت هِمَّتي جُهدَك، وبذلتَ في صَرفي عن العلم وُسْعك. التنبيه السادس: طلبُ الاجتهاد مِن فروض الكفايات، ومن جملة الواجبات، وقد أخبر اللهُ في كتابه المبين، وهو أصدقُ القائلينَ أنه: ما جعل علينا في الدين من حرج، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقال " السَّيِّدُ " في تفسيره لها: وليس معنى الوُسع: بذل المجهودِ، وأقصى الطاقةِ، والمعنى: أنَّ الذي كلَّفناهم سهْلٌ مُتَيَسِّرٌ، فلا عُذرَ لهم في تركه، وأن لا يكتسبوا به أبلغَ ما يكونُ من الخيرات، انتهى بحروفه. وهو في الردِّ عليه كافٍ شافٍ، ولكنْ عند ذوي الإنصافِ. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بُعثْتُ بالحنيفية السَّمحة " (¬1)، " والسَّيِّد " -أيَّدَهُ الله- مُقِرٌّ بأنَّ الله تعالى يريدُ منا اليُسرَ ولا يريد منا العُسْرَ، وَمُقِرٌّ أنه مريدٌ منا الاجتهاد. فقولُهُ: إنه مُتَعسِّرٌ، يُفيد أن الله يريدُ مِنَّا التَّعَسُّرَ، بل لم يقنع -أيَّدهُ الله- بقوله: إنه متعسِّر؛ حتى قال: إنَّهُ مُتعسِّر أو مُتَعَذِّر. فاستلزمَ أن اللهَ -تعالى- يريدُ المتعسِّرَ والمتعذِّرَ. فإن أرَادَ -أيَّدَهُ اللهُ- في ذلك مشقةً، فمجردُ المشقةِ لا تُسَمَّى عُسراً في العُرف العرَبي، فإنَّ المشقةَ مُلازِمَةٌ لأكثرِ الأعمال الدنيويةِ والأُخرويةِ، وقد يَشُقُّ على الإنسان قيامُهُ من مجلسه إلى بيته، وخروجُهُ من بيتِهِ لقضاءِ حاجتِهِ. والعُسْرُ في عُرْف اللِّسان العربي يُستعملُ في الأمورِ العِظام، لا في كل أمر فيه مشقةٌ؛ فإذا قيل: فلانٌ في عُسْر؛ أفادَ أنَّهُ في شِدَّةٍ عظيمةٍ مِن مرَضٍ أو خوفٍ أو فَقرٍ شديدٍ، أو غَيْر ذلك. وقد يُطلَقُ على ما هو دونَ ذلك -مع القرينة- فأما إذا تجرُّد الكلامُ عن القرينة وقيل: إن فلاناً في عُسْرٍ، وأريدَ العُسْرُ المعروفُ السابق إلى الأفْهَام، لم يَسْبِق إلى الفهم أن معنى قولنا: فلانٌ في عسْر؛ أنَّهُ في قراءةٍ دارَّةٍ، ورغبةٍ في العلمِ عظيمةٍ، ومطالعةٍ للكتُب، وتعليقٍ للفوائدِ، ولا أحدَ يسمِّي هذا عُسْراً. ¬
ولو كان هذا عُسراً في العُرف العربي، لكان الجهادُ عُسْراً، والصلاة عُسْراً، والورعُ الشَّحيح عُسْرَيْنِ اثنين، وعبادة اللهِ كأنَّك تراه، والصلاةُ كأنَّها صلاة مُوَدِّعٍ أعْسَرَ وأعْسَر، ولكانت الشريعةُ أو كثير منها تشديداً وتعسيراً وتحريجاً وتغليظاً. وما بهذا نَطَق القرآنُ، ولا به جاء صاحبُ بيعةِ الرضوان، بل نفى اللهُ الحرجَ، ووصفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شريعته: بالسماحةِ والسهولةِ. وإنما الحرجُ في الصدور، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. وانظُرْ في أحوال الناس، تجدْ قاطِع الصلاةِ في غايةِ الاسْتِعسار لها؛ وليسَ كذلك المؤمنُ، قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِين} [البقرة: 45] فنصَّ اللهُ تعالى على هذا المعنى الذي ذَكرتُ لك هو أن الشيءَ المُعيَّنَ يكونُ عسِيرَاً عَلى هذا، سَهْلاً على هذا، فَلَوْ كانَ عَسِيرَاً في نَفْسِهِ، لَكَانَ عَسيراً عليهما، ولكنه يسيرٌ في نفسه، وإنما يتعسَّرُ بحرجِ الصُّدور، والكسَلِ، وقلَّةِ الدَّواعي، وَيَتَسهَّلُ بنقيض ذلك. ولهذا لو وُهِبَ لقاطِعِ الصلاةِ دِرْهمٌ -في عمل أشقَّ من الصلاة- لقامَ إليه سريعاً، ووثبَ إليه نَشيطاً. وكذلك سائرُ التكاليفِ الشرعية؛ إنما العُسرُ فيها من قبيل قِلَّةِ اليقين، وعدم الرياضة، وقساوةِ القلب، وكثرةِ الذنوب، ألا ترى إلى ما في قيامِ الليل مِن المشقة على النفوس متى طلبت لإحيائه بالصلاة والقراءة، وهو يَتَسهَّلُ عليها سَهرُةُ في كثيرٍ من الأحوال من العُرُسَاتِ والأسمار، والسَّرَوات في الأسفار. فإذا عَرَفت هذا فاعلم أن من النَّاس من يحصل له من شِدَّةِ الرغبةِ إلى
أعمال الآخرةِ، ونيل الفضائل ما يُسَهِّلُ عليه عزيزَها، وَيُقرِّب إليه بَعيدَها. فلا معنى للمبالغةِ في تعسير الشيء الشرعي في نفسه، لأنَّ ذلك يخالف كلامَ الله تعالى، وكلامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أنَّ من العُقوقِ لومَ الخليِّ المَشُوق، وفي هذا يقول أبو الطيب: لا تَعْذُلِ المُشْتاقَ عن أشْواقِهِ ... حتَّى يَكُونَ حشَاكَ في أحْشَائهِ (¬1) واعلم أن حُبَّ المعالي يُرخِصُ الأمور الغَوالي، ويقوِّي ضعف الصُّدُور على الصبرِ للعوالي، وربما بُذِلَتِ الأرواحُ لما هو أنفسُ منها من الأرباح، قال: بذلتُ لهُ رُوحِي لرَاحَة قُرْبِهِ ... وغيْرُ عَجِيبٍ بذْليَ الغالِ بالغَالِ (¬2) وفي كلام العلاَّمة (¬3) -رحمه الله-: عِزَّةُ النفسِ وبُعْدُ الهِمَّة: الموتُ الأحمر، والخطوبُ المُدْلَهمَّة، ولكن مَنْ عرَفَ منهل الذُّلِّ فعافهُ، استعذبَ نقيعَ العِزِّ وَزُعَافَهُ (¬4). وقد أجادَ وأبدعَ منْ قال - في هذا المعنى: ¬
التنبيه السابع: لو فرضنا المتعسر في الواجبات ... لم يحسن من العامة أن يتصدروا لتعسيره
صَحِبَ اللهُ راكِبينَ إلى العزِّ ... طريقاً مِن المَخَافة وَعْرا شَرِبُوا المَوْتَ في الكرِيهَةِ حُلواً ... خوفَ أن يشْرَبُوا من الضيمِ مُرَّا هذا وإنَّ الدواعي تُحرِّك القُوى، وإن القلوب ليست بِسَوا (¬1). إن الإبلَ إذا كَلَّت قُواها، وَنَفخَتْ في بُراها (¬2)، أطربها السائقُ بحُداها، فَنَفَختْ (¬3) في سُراها، فعلَّلُوها بحديث حاجِرٍ (¬4)، وَلتصنع الفلاةُ ما بدا لها. هذا وهي غليظةُ الطبعِ بهيميةٌ، فكيف بأهلِ القلوبِ الروحانية. فإياك والاستبعادَ لِكل ما غزَّ عليك، والاستنكارَ لما خَرَجَ من يديك، طالبُ المعالى لا يعنو كَمَداً، ولا يهدأ أبداً، وكلما قيل له: قِفْ تسْترِحْ، جُزتَ المَدَا، قال: وهل نِلْتُ المدا؟! التنبيهُ السابع: لو فَرَضنا أن في الواجبات والأعمال الصالحاتِ ما هو متعسّرٌ في نفسه، لم يَحْسُنْ من أحدٍ من العامَّة، فضلاً عن الخاصة أن يتصدَّر لتعسيره، وتخذيلِ الراغب فيهِ عن نهوضه في طلبه وتشميره بذكر ما فيه من الحَرَجِ، وتهويلِ ما في طلبه من النَّصَبِ، بل السُّنةُ النبوية تيسِيرُ الأمورِ على من عَسُرَتْ عليه، وتذكيرُ القلوبِ الغافلةِ، وتنشيطُ النفوس الفاتِرة. ولهذا شُرِعتِ الخطب، وصنَّفَ الوعاظُ كُتُبَ المواعظ، وَدَوَّن ¬
الإنكار والاختلاف وحقيقتهما
الحفاظُ أحاديثَ الرقائق، لتسهيل ما يصْعُبُ على النفوس، وتقريبِ ما تباعد على أهلِ القُصور. وقد تكاثرتِ الأحاديثُ النبوية في الحثِّ على ذلك، فكان -عليه السلام- إذا بَعَثَ سرِّيةً قال: " يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّروا ولا تُنَفِّروا " (¬1). وقال -عليه السلام-: " قارِبُوا وَسَدِّدُوا وأبْشِرُوا ". هكذا في الصحيح (¬2). ولَمَّا أخبروه: أن عمرَو بن العاص صلَّى بهم وهو جنابة، ولم يغتسل من شدَّة بردِ الماء. سأله -عليه السلام- عن ذلك. فقال: إني سمعتُ الله يقول: {لا تَقْتلُوا أنْفسَكُم} [النساء: 29]. فضحك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وهذا اجتهادٌ من عمروٍ، وعملٌ بالعموم. فلم يُعَنِّفْهُ -عليه السلامُ- ¬
ويقل له: إنه لا يحِلُّ لكَ العملُ بالعموم، حتى يظنَّ أنه لا مخصِّصَ له. وليس يَحْصُلُ هذا الظنُّ إلا لِمن اجتهد في حفظ النصوص، وأمعنَ النظرَ في العموم والخصوص. وأيضاً لا بُدَّ لكَ من معرفة عدمِ المعارض، وأعسرُ مِن هذا معرفتُك لِعدم الناسخ. وكذلك: لما جاء الأعرابيان وأخبراه أنهما تيمما، ثم وَجدا الماءَ -في الوقت-، فتوضأ أحدُهُما وأعادَ الصَّلاة، واجتزأ أحدُهما بتيممه وصلاتِهِ الأولى. فقال -للذي لم يُعِدْ-: " أصبت السُّنة، واجزأتْكَ صلَاتُك " وقال للذي أعاد: " لكَ الأجرُ مرتين " (¬1). فهذا اجتهاد منهما، ¬
ولما أخبراه به، لم يُعَنِّفْهُما ويُلزمهما الاحتياطَ حتى يستيقنا. وكذلك لَمَّا أمَرَ -عليه السلامُ-: جماعةً من أصحابه أن لا يُصلوا العصرَ إلا في بني قرَيْظَةَ (¬1) -وكادت الشمس تَغيبُ- اختلفوا في مراده -عليه السلام- بقوله: " لا تصلوا العصر إلا في بني قُريظة " فمنهم من قال: إنما أراد أن يكونَ وقتُ الصلاة ونحنُ معه، فنُصليها في وقتها معه، فصلى قبلَ الغروب، وقيَّد إطلاقَه -عليه السلام- بالقرينة، ومنهم من بقيَ على الظاهر، وأخرها إلى بعدِ العشاء، وصلاها في بني قُريظة بعدَ خروج وقتها، وَعَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - فلم يُعنِّفِ أحداً من الطائفتين. ولمَّا أخبره معاذٌ أنه يحكم في اليمن باجتهاده، قال -عليه السلام-: " الحمدُ لله الذي وفَّقَ رسُولَ رسولِ الله " (¬2) ولم يُشدِّد عليه، ويعقِدْ له مجلساً للاختبار والمناظرة. ¬
وكذلك أبو موسى الأشعري، بَعَثهُ -عليه السلام- إلى اليمن والياً وقاضياً (¬1). وسيأتي -لهذه الجملةِ- مزيدُ بيان، إن شاء الله تعالى؛ عند ذكر بعض شروط الاجتهاد، فإن ذلكَ موضعها. وإنما ذكرت ها هنا لبيان تيسيره -عليه السلام- في الأمور -صغيرِها وكبيرِها- مِن غير ترخيصٍ في حرامٍ، ولا تضييعٍ لواجب. ومن ذلك: أنه -عليه السلام- نهي أصحابَهُ عن انتهار الأعرابي الذي بال في طائفةِ المسجد، وقال: " إنَّ منكم مُنَفِّرين " (¬2). وتَغيَّظَ -عليه السلامُ- على معاذٍ واشْتَدَّ تغيُّظه عليه، وقال: " أفَتَّانٌ أنتَ يا معاذ " (¬3)؟ لَمَّا طوَّلَ الصلاة بقومهِ حتى شكى عليه رجلٌ منهم. ¬
ولَمَّا وَقعَ الأعرابيُّ على زوجته في رمضانَ، شدَّدَ عليه قومُهُ وعَنَّفُوه، وعَظَّموا الأمر ولاموه، فَقَدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يزِدْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أن أخبره بما يجبُ عليه (¬1)، من غير لومٍ ولا تعنيفٍ ولا شراسةٍ، ولا تعبيس ولا تجريح ولا تشديد، مع أنه قد ارتكب عظيماً. وكذلك الرجلُ الذي قالَ لهُ: يا رسولَ اللهِ، إني وجدتُ أمرأةً ما تركتُ منها شيئاً -مما يفعلُه الرجالُ بالنساء- إلا فعلتُهُ، إلا أني ما جامعتُها (¬2). وكذلك المُقِرونَ بالزِّنى؛ الذين حدَّهُمْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن رجالٍ ونساءٍ (¬3)، ¬
ولم يلْعَنْ أحداً ولا شَتَمَهُ (¬1) ولا عبس عليه، ولا انتهره، إيناساً للقلوب وتأليفاً، وتنشيطاً للنفوسِ وترغيباً. وما زال -عليه السلام- آمراً بتركِ الغُلُو والتَّشْدِيد. وقالت عائشة: " ما خُيِّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمريْنِ إلا اختارَ أيْسَرَهما؛ ما لم يَكن فِيهِ إثمٌ أو قَطِيعَةُ رَحِمٍ " (¬2). وَلَمَّا جاءَ اليهودُ فقالوا له -عليه السلام-: السَّام عليكم -والسَّامُ: هو الموت- قال: " وعليكم ". هكذا -بالواو- في أكثر الروايات. فسمعتهم عائشة، فقالت: السَّام واللَّعْنةُ يا إخوان القردة والخنازير. فلَمَّا خرجوا منْ عنده -عليه السلام- قال لها: لمَ قُلْتِ لهم ما قُلْتِ؟! قالت: أَلم تَسْمَعْ إلى ما قالوا؟ قال: " بلى، وقد قلتُ: وعليكم ". ثم قال لها: " إن الرِّفْقَ مَا دَخَلَ في شيءٍ إلا زَانَهُ " (¬3). ¬
التنبيه الثامن: أن السيد يعلم أن الاجتهاد من فروض الكفايات ... ، فلم اختار الصد عنه؟
وكذلك كانت اليهُودُ يتعاطَسُونَ عند رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لعلَّه يقول: يَرْحَمُكمُ اللهُ. فيقول: " يَهْدِيكُمُ الله ويُصْلحُ بَالَكُم " (¬1). وهذا منه -عليه السلام- حِرْصٌ على رِعايةِ ما آتاهُ اللهُ من الخُلُقِ العظيمِ، لَما حُرِّمَ عليه لفظُ التَّشميت المعتاد، وكان الدعاء للعاطس معتاداً، لم يستحسِنْ ترك الدُّعاء لهم في الموضعِ الذي يُعْتَادُ فيه الدُّعاء. فاحتال -عليه السلام- فَعَدَل إلى دعاء آخر يَجْبُرُ بذلك قلوبَ أشدَّ النَّاس عداوةً له وللمؤمنين، ويُخالِقُ مَنْ يَكتُمُ ما عنده في التوراة من ذكره، ومن يَسْخَرُ منه ويستهزيءُ به. هذا -والله- هو الخُلُقُ العظيم، فنسألُ الله أن يهدينا لاتباعه، والتأسي به في أحواله. فجديرٌ بمَنِ انتصب في مَنْصِب الفُتيا، أو تَرَقَّى إلى مرتبة التدريس، وتَمكَّن في دَسْت التَّعليم، وتهيأ للرد على الجاهلين، والدُّعاء إلى سبيل ربِّ العالمين: أن يكون مقتفياً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عامِلاً بما قال الله -تعالى- من الدُّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة. وكان يُمْكِنُ للسَّيِّد -أيَّدهُ الله- أن يجعل عوَضَ التنفير عن الاجتهاد غاية التنفير، والتعسير لمناهجه والتَّوعير: أن يحُثَّ على الصبر على طلب فوائدِه، وتَقْييدِ شواردِهِ. التنبيه الثامن: أن " السَّيِّد " -أيَّده الله- يعلمُ أن الاجتهاد مِن فروض الكفايات، وأن الفَرض لا بُدَّ أن يكون من المقدورات، وأن الصدَّ عن ¬
التنبيه التاسع: أن السيد بالغ في استبعاد وجود الاجتهاد في هذه الأزمان حتى شك في إمكانه
أدائه مِن أعظم المكروهات المحرمات، وأن الأمرَ بهِ، والترغيب فيه من أعظم الطاعات. فليتَ شِعري، لمَ اختارَ الصَّدَّ عنه والتنفير على الحث عليه والترغيب؟! التنبيه التاسع: أن السَّيِّد -أيَّده الله- بالغ في الاستبعاد لوجود الاجتهاد في هذِهِ الأزمان حتى شكَّ في إمكانه، وقال: إنَّهُ مُتَعذِّر، أو مُتَعَسِّر. وهذا يقتضي أنه يعتقد خُلوَّ الزَّمانِ عن المجتهدين، لأنَّه لو كان في الزمان مجتهد، لزال الشكُّ في التعذر، ووجبَ القطعُ بالإمكان. وكلماتُهُ -أيَّده الله- بائحةٌ بخُلُوِّ الزمان من المجتهدين، وقد غَفَل -أيَّده الله- عما يلزم من هذا، فإنه يلْزمُ مِن هذا: أن يكونَ طلبُ الاجتهاد فرضَ عَينٍ عليه، وعلينا مَعاً، لأن هذا حكمُ فرضِ الكفاية إذا لم يقم به. فكان الواجبُ من السَّيِّد -أيَّده الله تعالى- على مقتضى تعسيره أن يقول: إن الزَّمان خالٍ عن الاجتهاد، وإنه يَتعيَّنُ علينا القيامُ لما يجب مِن فريضته، فنتعاون على ذلك. هذا كلامُ العلماءِ العاملين بمقتضى ما علمهم اللهُ تعالى. وأمَّا أنا نقِرُّ أنَّا لا نعلم مجتهداً، وَنُقِرُّ أنَّه فَرض كفاية، ونتركُ القيامَ بما أوجبَ اللهُ علينا من طلبهِ، بل نَترَسَّل على منِ اتهمنا أنه يَهِمُ بأداءِ ما افترض الله علينا من القيام به. فهذا ما لا أرضاه للسَّيد -أيَّده الله تعالى-. التنبيه العاشر: أفْرطَ السيد -أيَّده الله- في تعسير الاجتهاد؛ حتى قال في غير موضع: إنه مُتعَذِّر أو متعسِّر -على الشك- ولم يمكنْهُ القطعُ بأنَّه متعسِّر!
التنبيه الحادي عشر: أن السيد كان يقول بإمامة الناصر، وقد ذكر في رسالته: أن الاجتهاد شرط في صحة الإمامة، فوقع في التناقض، وقد نسب إلى كثير من الأئمة مخالفة جماهيرهم فيما انفردوا به
وقد ثبت أنه من الفروض، فيجب أن لا يكون متعذراً على القطع، لأن المتعذر غيرُ مطاق، والاجتهاد مفروض، فلو أوجبهُ الله -وهو مُتعَذِّر- لكان هذا يستلزِمُ القولَ بجواز تكليف ما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً. فانظر إلى هذا الغلو العظيم في التَّعسير، والبلوغِ إلى الغايةِ التي لا وراءها. حتى ما رضي -أيَّده الله- أن يقطع بدخوله في جملة المقدورات البشرية، تهويلاً لشأنِهِ، وتبعيداً لِشَأوه، والغلوُّ لا يأتي بخير، وخيرُ الأمور أوساطُها، لا تَفْرِيطُها ولا إفراطُها. التنبيه الحادى عشر: أن السَيِّد -أيَّده الله- كان يقول بإمامة الإمام النَّاصر -عليه السلام-، وقد ذكر في رسالته: أن الاجتهادَ شَرْطٌ في صحة الإمامة. فأين هذا التشكيك العظيمُ في استحالة الاجتهاد وَتَعذُّره، فإنما كان ممكناً في زمان الإمام الناصر -عليه السلام-، كيف جَوَّزْتَ أن ينقلِبَ مُتَعذِّراً بعد بضعةَ عشر عاماً من تاريخ وفاته -سلام الله عليه-. وقد قال السُّيد -أيَّدهُ الله- بإمامةِ الإمام الناصر وتولَّى منه، وأجرى في ولايته أحكاماً عِظاماً لا تجوزُ إلا بولايةٍ صحيحة. وهو -أيَّده الله تعالى- محمولٌ على السَّلامة في جميعِ ذلك؛ ولكن ما علمنا أنه نَصَح الإمامَ النَّاصر مثل ما نَصَحَنَا. وفي الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " الدين النصيحة " (¬1). قالوا: لمن يا رسولَ الله، قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئَّمَّةِ المُسْلمين، ولِعامَّتِهم " (¬2). ¬
وعانت العنايةُ بنصيحة الإمام -عليه السلام- أحقَّ وأولى، لِما في الإمامة من الأخطار، ولِما كان في ولاية السَّيِّد -أيَّده الله- من ذلك. وأما اجتهادي، فهو في وضع اليمنى على اليسرى، والتأمين. ولم يقل أحدٌ من خلق الله أجمعين: إنَّ ذلك يُوجب العذاب الأُخروي، ويُخافُ منه العقابُ السَّرمدي. وكذلك لم يبْلُغْنَا أن السَّيِّد -أيده الله تعالى- تشدَّد في اختيارِ الإمام النَّاصر مثل ما تشدَّدَ في رسالته، فسأله عن طُرُقِ الجرح والتعديل، وسلك معه مثلَ مسلكِه مع محمد بن إبراهيم (¬1)؛ من التفصيل والتعليل، وسأل الإمامَ من أينَ حَصَلتْ له عدالةُ الرواة؟ ومَن عَدَّلهم له؟ ومَن عَدَّل المُعَدِّل؟ حتى ينتهي إلى وقته، ولا أوجبَ عليه في الاجتهاد أن يحفظ علومه عن ظهرِ قلبه مثل ما نصَّ على ذلك في رسالة محمد بن إبراهيم. وكذلك لم يحذر الإمام عن القراءة في كتب الحديث النبوي التي صنفها الفقهاء، فإنه -عليه السلام- هو الذي نشر محاسنها، وجمع نفائِسها، وعَرفَ غرائبها، ولم يشتهر الدرسُ فيها والتدريسُ في ديار الزيدية اليمنية مثل ما اشتهر في زمانه -عليه السلام-. وأيضاً فاختيارُ الإمام واجب، والإمامة من المسائل القطعيات، واختيار محمد بن إبراهيم غيرُ واجب، فأين رسالة السَّيِّد -أيده الله- إلى الإمام الناصر وما بال اجتهاده كان ميسراً، غير متعذر ولا متعسر. مع كثرة اشتغاله بأُمور العامة، وسَدَّ الثُّغُور، وتجنيد الجنود، وتجهيز الغزوات. ولو لم يكن إلا مواجهة الناس، واستماع كلامهم، وجواب مكاتباتهم. ¬
تفسير قوله تعالى: {قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى}
وقد رأينا طالب العلم يتكدر بأدنى مُكدِّر، فكيف يَسْهُلُ الاجتهادُ عليه، ثُمَّ يَعْسُرُ على الناسِ أجمعين. وكذلك قد بالغ السَّيِّد -أيده الله- في التسميع بمحمد بن إبراهيم، وأنه قد خالف جماهيرَ العِترة، وأن هذا عملُ مَنْ ليس بمعظمٍ لهم. قال -أَيَّده الله تعالى-: لأن المعظِّمَ لهم لا يُخالِف قولَ جماهيرِهم. فنقول له: ما أنكرت على الإمام الناصِر المِزْمارَ ولا لباسَ المجاهدين للحرير في غيرِ وقت الحرب، وهذان يُخالفان مذاهبَ جماهيرِ العِترة، فلم يُعاتبه السيد -أَيده الله- ويستخرج له أنه غيرُ معظم للعِترة -عليه السلام- كما استخرج ذلك في حق محمد بن إبراهيم. والإمام الناصر -عليه السلام- محمولٌ على السلامة في جميعِ ذلك، وإنما الكلامُ في اختصاص محمد بن إبراهيم بالإنكار والتعنت، والتعسير والتَّعسف في أمرٍ هَيِّن لم يقع مِن السَّيِّد -أيده الله- العنايةُ بأهمَّ منه، ولا بما هو أخصُّ منه، وليس تُعابُ هذه الأمورُ إلا على مَنْ مِثْل السَّيِّد -أيده الله- لأنه من عيون السادة، وعلماء العِترة، فينبغي منه حِراسةُ نفسه مما لا يَليق بمنصبه الشريف، ومحلِّه المنيف. وقد نُسِبَ إلى كثير من الأئمة -عليهم السلام- مخالفةُ جماهيرهم فيما انفردُوا به، ولم يُستنبط لهم من ذلك كراهةُ مَن خالفوه، بل قد ذكر السيد في تجريده للكشاف المزيد فيه النكت اللطاف أقوالاً مخالفةً لإجماع العِترة، أو لجماهيرهم، مقرراً لها، غيرَ منكرٍ على قائلها؛ مع أنها متضمنة للقدح، وفي أدلة أهلِ البيت، وذلك أنه قال في تفسير قوله: {قل لا أسئلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلا المَودَّةَ في القُرْبى} [الشورى: 23]:
" اختُلِفَ في معنى الآية على أقوال (¬1): أحدها: أن المراد أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم. قال ابنُ عباس: لم يكن بطنٌ مِن بطون قريش إلا ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قرابة (¬2). الثاني: إلا أن تودوا قرابتي، قاله علي بن الحسين، وسعيد بن جُبير، والسُّدي، وغيرهم. ثم بالمراد بقرابته - صلى الله عليه وسلم - قولان: أحدهما: أنهم عليٌّ وفاطمةٌ والحسنُ والحسينُ، وقد رويَ مرفوعاً (¬3) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
وثانيها: أنهم الذين تحرم عليهم الصَّدقة. والثالث: أن المعنى: إلا أن توددوا إلى الله فيما يُقرِّبُكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن وقتادة. الرابع: إلا أن تودوا قرابتكم، وتَصِلُوا أرحامكم. حكاه الماوردي. ثم حكى عن ابن عباس: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم} [سبأ: 47]، وعن الثعلبي والواحدي: أن القول بالنسخ غلط مبني على أن الاستثناء متصل، وهو منقطع (¬1) ". انتهى ما حكاه وفي آخره اختصار. فالعجبُ كيف لم يَنْصُرْ لفظَ العِتره بلفظةٍ واحدة في مثل هذا الأصل ¬
التنبيه الثاني عشر: أن جماعة من أهل البيت قد ادعوا الاجتهاد في زمن المؤلف، وطلبوا المناظرة لمن أراد الانتقاد
الكبير، ولا بدأ به (¬1)، مع احتجاجهم بالآية على الناس في دعواتِهم ومراسلاتِهم ومخاطباتهم. وقد بالغ في رسالته في توعيرِ التفسير وتعسيره، وتعظيم خطره، وفي تحريمِ مخالفة أهل البيت، فكيف حَسُنَ منه مخالفةُ ما أَمَرَ به في هذين الأمرين. ووجد لنفسه محملاً حسناً ولم يجد لغيره محملاً حسناً فيما هو دونَ ذلك!! وليس القصدُ إساءةَ الظَّنِّ به مِني، إنما القصدُ حُسْنُ الظنِ بي منه، لكني توصلتُ إلى ذلك بما يُوقظه من الغفلة. جعلنا الله جميعاً ممن تنفعُه الذَكرى، وجمع كلمتَنا على ما يُحمد في الأخرى. التنبيه الثاني عشر: أن في زماننا جماعةً من أهل البيت قد ادَّعوا الاجتهادَ، وطلبوا المناظرةَ لمن أراد الانتقاد، وكلُّ منهم قد ادَّعى الإمامة الكبرى، ودعى إلى الاختيار جهراً، ولم يُعْلَمْ أن السَّيِّدَ -أيده الله- تَرسَّلَ على أحد منهم، ومَحَضَه النُّصْحَ، وقال له مِثْلَ ما قال لمحمد بن إبراهيم: إن الاجتهاد متعذِّر أو متعسِّر، وأورد عليه تلك الفصولَ، وبَعَّدَ عليه البلوغَ إلى تلك المرتبة والوصول. وهم كانُوا أحقَّ بالنُّصحِ مني وأولى، لِما تعرَّضوا له مِن سفكِ الدِّماء، وأخذِ الأموال، وسائرِ ما يتعلَّق بالإمامة من الأعمال. فينبغي أن السَّيِّد -أيَّده الله- يُساوي بيننا في نصيحته، وَيَعُمُّنا بشفقته، ويترسَّلُ على هؤلاء السادة كما ترسَّلَ على محمد بن إبراهيم. فهداية جماعة أفضلُ من هداية واحدٍ، كما لا يخفي على السَّيِّد -أيده الله-. التنبيه الثالث عشر: أني ادعيتُ الاجتهاد في مسائلَ يسيرة فروعية، ¬
عملية، ظنية من مسائل الصلاة. فأنكرتُم هذا وأنتم مدَّعون لأكبر منه. فإنَّكم متصدِّرُونَ للتدريس في العلوم عَقْلِيها وَسَمْعِيِّها، وكثيرٌ منها لا يَصِحُّ التدريس فيه على جهة التقليدِ كالعربية، والأصولَيْن (¬1)، والمَنْطقِ، والمعاني، والبيان. فدرسُكم في هذه الفنون فرعٌ على دعوى المعرفة لها، فما علمنا أن أحداً أنكرَ عليكم دعوى العلم بالعربية، وهي تشتمل على معرفة أُلوف من المسائل. وكذلك ما علمنا أنكم أنكرتم على أحدٍ دعوى يدَّعيها في المعرفة بمسألة نحوية، أو معنوية (¬2)، أو أُصولية، أو منطقية، بل ما أنكرتُم على من ادعى معرفة فنٍّ مِن هذه الفنون اشتمل على أُلوفٍ من المسائل، ولا مَن ادعى معرفة فَنين، ولا أكثر، حتى جاء محمد ابن إبراهيم فادعى أنه عرف دليلَ وضعِ اليُمنى على اليُسرى (¬3)، فتقحَّمْتم ¬
التنبيه الرابع عشر: أنكم أوجبتم على كل مكلف معرفة الله والصفات
في الإنكار عليه الطريقة العُسرى، كأنما اغتصبَ أموالَكم قَسْراً، أو ادعى نظير معجزة الإسرا. التنبيه الرابع عشر: أنكم أوجبتم على كلِّ مكلف -من حر وعبد وذكر وأُنثى، وبليد وفطين، وقاريءٍ وأُمي- أن يَعْرِف الله، وصفاتِه، وسائرَ مسائل الاعتقادِ المعروفة بالدليل الصحيح المحرَّر معناه في علم الكلام مِن غير تقليد للمتكلمين في ذلك الدليل، وإن لم يَعْرفْ عبارتهم بعد أن عرف معناها. ولسنا نُنْكِرُ إيجابَ المعرفة لله -تعالى- فنحن نقول به، ولكن نكرر عليك أنك اعتقدت أن معرفة تلك الأدلة مُتَسَهِّلة على العامَّةِ، والنساء والإماء والعبيد، والفلاحين، وجميع أهل البَلادَة والغباوة، وَقطَعْت أن ذلك غيرُ متعذِّر عليهم. وأما معرفة محمد بن إبراهيم لمسائل يسيرة فروعية؛ فلم يُمكنك القطعُ بأنها متعسرة، بل شَكَكْت أنها متعذرة أو متعسِّرة، مع أن تلك المسائل التي لم يُرخَّصْ لأحدٍ التقليدُ فيها، هي (¬1) محارَاتُ الأذكياء، ومواقفُ الفُطنَاء، ومداحِضُ الأقدام، ومهاوي الأفهام، وفيها مسائلُ الوعدِ والوعيد، والولاءِ والبَراء والأسماء والإمامات، وهذه هي سمعيات محضة، ولا يسْلَمُ الخائضُ فيها من التقليد ما لم يعرف ما يتعلَّق بها من العربية، وعدم المُعارض والمُخَصِّصِ، وفي الولاء والبراء والإمامات. ولا بُدَّ مع ذلك مِن معرفة عدم النسخ، وذلك لا يَصِحُّ إلا بَعْدَ البحث الكثير. فما بالُ هذا أمكنَ جميع المكلفين، ولم يتعذَّرْ عليهم، وأما محمد بن إبراهيم، فتعذَّرَ عليه ما هو أهونُ مِن هذا مع اشتغاله بالعلم منذ عَرَف يمينَهُ من شمالِهِ. ¬
التنبيه الخامس عشر: القول بسهولة الاجتهاد وقد قال به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أهل المذهب الزيدي وغيرهم
فإنه قلت: لأن تلكَ مسائل علمية عليها أدلة قطعية. قلت: وليس كُلُّ علمٍ تحصيلُه أسهلُ من تحصيل الظَّنِّ، فإن كلامَنا في السُّهولة والصعوبة؛ ولعله لا يَخفي عليك أن تحصيل أدلة التأْمين، ووضع اليمنى على اليُسرى أسهل من معرفة أدلة العلم الكلامي على الوجهِ الصحيح من غيرِ تقليد ألبتة، ولو كان الظن أعسَر مِن العلم مطلقاً؛ كان ظنُّ إصابة جهةِ القبلة أعسرَ مِن العلم بدليل الأكوان، بل أعسرَ مِن علم المنطق والكلام، وهذا ما لا يليق التطويلُ فيه. التنبيه الخامس عشر: القول بسهولة الاجتهاد قد قال به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أهل المذهب، وغيرهم من أهل العصر، ومن تَقَدَّمهم. حدثني حي الفقيه العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير (¬1) أن الشيخ أبا الحسين لم يكن يشترط في الاجتهاد إلا أُصولَ الفقه -يعني بعدَ معرفةِ الكتاب والسُّنة-، قال: ولم يُرِدْ إن العربيةَ ليست بشرطٍ، وإنما أراد أن المحتاج إليه منها قد صار في أُصول الفقه، وبقيتُها إنما يتعلَّق بإعراب الألفاظ. وهذا القولُ لستُ أقولُ به، ولا أرتضيه، وإنما القصدُ الحكايةُ عن العارف الثقة. وقد تكلَّم الفقيهُ عبد الله بن زيد (¬2) في الاجتهاد، ورخَّص فيه، ¬
وكذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدَّواري (¬1) -رحمه الله- كان يُقَرِّبُهُ كثيراً. وكذلك حي الفقيه العلامة علي بن عبد الله -رحمه الله- قال لي: إن الاجتهاد عنده أسهلُ مِن معرفة الفروعِ. والسَّيِّد -أيده الله- قد حكى ذلك عن الغزالي (¬2) وغيره. قال السَّيِّد -أيده الله-، في رسالته: إن الغزالي وغيرَه ذكروا أنه يكفي المجتهدَ أن يَعْرِفَ في كلِّ فَنٍّ مختصراً، ولا يلزمُه حِفظُه عن ظهر قلبه، بل يكفيه معرفتُه نظراً. هذا لفظ السَّيِّد -أيده الله-، لكنه تأوَّل كلامَ الغزالي وغيرِه بما لا يُوجبُ التأويل، كما سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-. وكذلك تاجُ الدِّين السُّبكي قد وسَّطَ الأمرَ فيه ونصَّ: على أنه لا يجبُ عليه حفظُ المتون، ذكره في كتابه " جمع الجوامع " (¬3). ولم يذكر فيه خلافاً مع توسُّعِهِ في النقل. وأنا -بحمد الله- لم أَقلْ كما قالوا، وأعوذ بالله من أن أعتقِدَ أنه يكفي في كل فَنٍّ مختصرُه -هكذا على الإطلاق-، هذا قولٌ نازلٌ جدًّا وسيأتي الكلامُ على فساده لا على تأويله -إن شاء الله تعالى-، وإنما القصدُ بيانُ أن تسهيلَ الاجتهاد قولُ لم يزل في الناس مَنْ يقولُه في قديم الزمان وحديثه، ولم يُعلم أن أَحداً ترسَّلَ على أحد في ذلك. وقد أشار ¬
التنبيه السادس عشر: أن السيد يملي على تلاميذه الخلاف في الفروع، ويروي عن كثير ممن لا يعلم أنه مجتهد
إلى سهولته غيرُ واحدٍ؛ كالإمام يحيي بن حمزة (¬1)، والفقيه علي بن يحيى الوشلي (¬2) -رحمه الله-، وغيرهم. وسيأتي لهذا مزيدُ بيان - إن شاء الله تعالى. التنبيه السادس عشر: أنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- يُملي على تلاميذه الخلاف في الفروع، ويروي عن كثير ممن لا يعلم أنه مجتهد بنقل ثقة معلوم العدالة بتعديل ثقة، وذلك الثقة الذي عدَّلَه مُعدِّل، وَهَلُمَّ جراً حتى ينتهي إلى زمانه. ولا السَّيِّد -أيَّده الله- يعلمُ نزاهتهم عن معاصي التَّأويل بمثل هذه الطريقة التي ألزمنيها، فهو على شك في اجتهادهم، وفي عدالتهم. أما الاجتهاد، فلأنه قد نَسَبَ مالكَ بن أنس إلى البَلَهِ، وحكى أن أبا حنيفة لا يَعْرِفُ العربية ولا الحديث. أما الاعتقاد، فلأنه قد قَطَعَ بكُفْرِ أحمد بنِ حنبل، وشكَّكَ في إسلامِ الشافعي، ومالك، أمَّا الشافعي، فقال: قد رُويت عنه الرُّؤية، وهذا يحتمل أن يكون بِكَيفٍ وهذا تجسيم، وأما مالك؛ فإنه توقف في تفسير الاستواء، وهذا يحتمل أنه تجويز للتجسيم. فإذا كان هذا في الأئمةِ الأربعة الذين طُرِّزَت بأقاويلهم كُتُبُ ¬
التنبيه السابع عشر: الظاهر من أحوال السيد أنه لا يقطع بتضليل الأئمة المتأخرين .. فإن كلام السيد يجوز أنهم اجتهدوا، فليترك الناس يطلبون ما طلبوا
الزيدية، ورسَخَتْ بمذاهبهم تصانيفُ العِترةِ الزكيةِ، وعُطِّرَتْ بذكرهم حِلَقُ الذِّكر بُكرةً وعشية؛ فما ظنُّك بالليثِ بنِ سعد المصري، وأشهب، والمُزَنِي، والإصطَخْرِي، وأبي ثورٍ، وداودَ، والقفالِ، والشَّاشِي، والمروزي، والقاشاني، وبعض أصحاب الشافعي، هكذا على الإجمال من غير تعيين. فروايةُ الخلافِ فرعٌ على معرفة الإسلام أولاًً، ثم معرفةِ العدالة التامة من جهة التصريح إجماعاً، ومن جهةِ التأويل على قولك -أيَّدك اللهُ- في ذلك بطريق صحيحةٍ، متسلسلة بالعُدولِ المعروفين منهم إلى " السَّيِّد ". مثل ما ألزمني في معرفة عدالتهم، وقال: لا تَحِلُّ الرواية عنهم إلا بعدَ معرفة العدالة في التصريح والتأويل، ومعرفةُ العدالة متَعسِّرةٌ أو متعذِّرة. فكذلك أنتَ لا يَحِلُّ لك رواية خلافهم إلا بعد ذلك. فمِن أين حصل لك، وتيسَّر، وتَسَهَّل أنهم عدولُ، بل أنهم مجتهدون في العلم مع العدالة؟! وأما أنا، فما تيسَّر لي معرفةُ العدالة وحدَها مِن دون معرفة الاجتهاد، مع أن التحري في النقل عنهم مما يلزمُكَ ويخُصُّك، وليس اجتهادي مما عليك فيه تكليفٌ. فتركت التَّحري فيما يخُصُّك، وتفرغت لتسيير الرسائلِ إليَّ مِن غير مُوجب مني لِذلك. التنبيه السابع عشر: الظاهر من أحوال السَّيِّد -أيده الله- أنه لا يقطعُ بتضليل الأئمة المتأخرين مِن بعد الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام-، كالإمام المنصور الحسن بن محمد (¬1)، والإمام إبراهيم بن تاج الدين، والإمام المطهر بن يحيى (¬2)، وولده محمد بن المطهر (¬3)، ¬
التنبيه الثامن عشر: أن السيد ذكر أن الاجتهاد ينبني على معرفة تفسير المحتاج إليه من القرآن، وذكر أنه صعب شديد، ثم صنف تفسيرا ... وتعرض لذلك الذي عسره بعينه .. فإن تيسر هذا له، فلعله يتيسر لغيره
وحفيده الواثق (¬1)، والإمام يحيي بن حمزة (¬2)، والإمام علي بن محمد (¬3)، والإمام علي بن صلاح بن تاج الدين، والإمام أحمد بن علي بن أبي الفتح -عليهم السلام- وحي والدك السَّيِّد العلامة محمد بن أبي القاسم -رحمه الله-، وهؤلاء الأئمة قد ادَّعَوا الاجتهادَ، وطريقهم في تصحيح الأخبار لم تُرفع ولم تعذر، لأنه ليس بيننَا وبينَهم قرونٌ عديدة، ولا أعصارٌ بعيدة. فإن كان السَّيِّد يجوِّزُ أنهم اجتهدوا، فَخَلِّ الناس يطلبون ما طلبوا، ولعلَّ الذي فَتَحَ على أُولئك يفْتَحُ على غيرهم، فإنه -سبحانه- باقٍ، وقدرتُ باقية، ولا معنى للتخذيل من طَلَب المقدورات. وليس المرادُ أني مثلُهم، ولا مِثل الإمام النَّاصر (¬4)، لأن كلامي ليس هو في نفسي، إنما هو في الاجتهاد، فإنَّ السَّيِّد بَعَّدَه وعَسَّره، وشَكَّ في دخوله في جملة المقدورات، ولم يُفرق في ذلك بيني وبينَ غيري. والقصد الكلام أن الاجتهاد إذا كان ممكناً في زمان هؤلاء الأئمة، وإليه طريق معروفة، فالعهد قريب. والظاهر أن تلك الطريق ما تَعَفَّت في هذه المدة اليسيرة. والله أعلم. التنبيه الثامن عشر: أنَّ السَّيِّد -أيده الله- ذكر أن الاجتهاد ينبني على معرفةِ تفسير المحتاج إليه من القرآن، وذكر أن ذلك صعبٌ شديدٌ، مَدركُه بعيد. ثم إنّا رأينا السَّيِّد -أيده الله- صَنَّف تفسيراً للقرآن الكريم، محكمِه ومتشابِهه من أوَّلِه إلى آخره، وذكر جميع ما فيه من دقيق وجليل، ¬
التنبيه التاسع عشر: أن السيد ألزمنا معرفة معنى الآيات، ولم يرخص لنا في التوقف في التأويل
فعسَّر علينا معرفة تفسير المحتاج إليه، وهو شيءٌ يسير، وتعرض لذلك الذي عَسَّره بعينه، ولِأكثرَ منه بأضعافٍ مضاعَفةٍ. فإن كان ذلك تيسر للسَّيِّد -أيده الله- فلعل الله يُيسرهُ لغيره، وإن كان لم يتيسر له فهو أجلُّ من أن يقولَ على الله في كتابه بما لا يعلم، وقد روي في التفسير وعيدٌ شديدٌ. وسيأتي -إن شاء الله- لهذا مزيدُ بيان. ومن العجب أنه أكثر في تفسيره " تجريد الكشاف " مع زيادة " النُّكت اللِّطاف " من الرواية لتفسير كتاب الله -تعالى- من طريق الرازي، وابن الجوزي -من مشاهير المخالفين- الذين (¬1) يأتي تصريح السيد أنهم عنده كفَّارُ عمدٍ وتصريحٍ لا خطأ وتأويل. وكيف جاز له مثلُ ذلك؛ مع قَدحه على المحدثين بالرواية عن مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري، فكيف تجاسر -مع المنع عن الرواية عن مثل هؤلاء- على رواية فضائل السُّور الموضوعة باتفاق العارفين بعلوم الأثر مع معرفته لدلك في كتاب ابن الصلاح في " علوم الحديث ". وهلاَّ تورَّعَ من ذلك للخروج من الاختلاف، وكيف تجاسرَ على ذلك مع منعه من رواية الحديث المتفق على صحته بين علماء الأثر، فالله المستعان. التنبيه التاسعَ عشَرَ: أن السَّيد -أيده الله- ألزمنا معرفةَ معنى الآيات المتشابهة على التفصيل؛ سواء كُنّا مجتهدين أو مقلدين. ولم يُرَخص لنا في التوقف في التأويل، وجعل معرفة المتشابه مما يمكن كلَّ مكلف مِن عالم وعامِّي، وقارىء وأمِّي على مقتضى كلامه -كما سيأتي- إن شاء الله تعالى. ثم عَسرَ علينا معرفةَ الآياتِ المحكمةِ النازلةِ في تحريم الرِّبا، ¬
التنبيه العشرون: إما أن يكون يعتقد في نفسه أنه مجتهد أو لا
والزِّني، وإفطار رمضان، وإتيانِ الحائض، وفي مواريث الأولاد مثل قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة: 222] وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، ومثلُ قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} [البقرة: 187]. وأمثال ذلك من الآيات الكريمةِ في تحريم الفواحش، وإقامة الحدود، وجواز البيع، وتعليم النَّاس معالم الخير، وإرشادهم إلى أعمال البِرِّ من الخشوع في الصلوات، والمسابقة إلى الخيرات، وإخبات القُلُوب، والوَجَل من الذنوب. فما أصعبَ ما سَهَّلَ السَّيِّد -أيده الله- من معرفة المتشابه جميعِه، وما أقربَ ما عسَّرَه من معرفة بعضِ آيات الأحكام. فإن قلت: إنما عسرت آيات الأحكام لتوقُّف العمل بها على فقد النَّسْخ، والمعارضة، والتخصيص. قلت: ذلك أمرٌ آخر أفردتُ الكلامَ فيه كما سيأتي كلامُك، وجوابُهُ: بل عَسَّرْتَ مجرَّدَ التعسيرِ (¬1) المتعلِّق بالنحو واللغة، وفي تفسير معرفة معنى المحكم، وتسهيلُ معرفة معنى المتشابه تَعَسُّفٌ كثير، فالله المستعان. التنبيه العشرون: أنَّهُ -أيده الله- إما أن يكون يعتقِدُ في نفسه أنه مجتهد، أو لا، أن كان يعتقِدُ ذلك في نفسه، فقد زالَ تعذُّرُ الاجتهاد، ¬
التنبيه الحادي والعشرون: أن السيد عظم الكلام في معرفة الجرح والتعديل، ولم ينبه على أن فيه خلافا ألبتة
ونُفِيَ تعسُّره، ولعلَّ الذي يَسَّره له، أو صَبَّرَهُ على طلبه حتى ناله يَهَبُ لِغيره ما وَهَبَ {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. وإن لم يكن مجتهداً فهو لا يَعْرِفُ الاجتهادَ، فلا يَصِحُّ منه الحكمُ عليه بتعذرٍ ولا تعسُّر، ولا سُهولةٍ ولا تيسُّر، ولا نفيٍ ولا إثبات. وفي هذا مباحثُ طويلة، قد جمعتُها في رسالةٍ مفردَةٍ، وبعضُها أو كلُّها لا يخفي على الذكِيِّ مع التَّأمُّلِ. التنبيه الحادي والعِشرين: أنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- عَظَّمَ الكلام في معرفة الجرح والتعديل، وعَوَّل عليه في التَّعسير كُلَّ التعويل، وهو عمودُ تعسيره الدي يدور عليه، وأصلُه الذي يعود عليه، ولم يُنبِّهِ السَّيِّد -أيده الله- على أن فيه خلافاً ألبتة، كأنه لا يَعْرِفُ فيه لأحدٍ قولاً، والقولُ بتركِ البحث عنه، وبأنَّه غيرُ واجب، هو القولُ المشهور المستفيض بينَ علماء الزَّيدية والمعتزلة، وهو قولُ المالكية، والحنفية. وادعى ابن جرير الطَّبري. أنه إجماعُ التابعين، وهو قول الشافعي في بعض المراسيل، وهو الذي عليه عَمَلُ النَّاسِ في بلاد الزَّيدية، وليس يُوجد في خزائنِ الأئمة كتاب في الجرح والتعديل بخلاف سائر العلوم. فليت شعري ما سببُ الإضراب عن ذكرِ هذا؟! ومن أين للسَّيِّد -أيده الله- أني أشترط معرفة الجرح والتعديل؟ وما أمِنَهُ أني أقبلُ المرسل من الثقة، فإن كان يُنْكِرُ على مَنْ لم يشترط ذلك، فليُنْكِرْ على غيري من جماهير العلماء، وما خَصَّني بالنكير، وإن كان لا يُنكرُ ذلك؛ فما باله عَسَّر وشدد، وهَوَّلَ وحَرَّجَ في أمرٍ الخلافُ فيه أظهرُ من الشمس عند مَنْ لَهُ أدنى معرفة بالأصول، وَهَلاَّ وقف التَّعسير على القول بإيجابِ معرفة ذلك، ولكنَّ كتابه -أيَّده الله- مبنيٌّ على الميلِ إلى التغليظ في الأمور والتحريج،
تعسير معرفة صحيح الأخبار، والجواب عليه من وجوه:
وترك ما لا يَخفي -على مثله- من التسهيل، بحيث إنه لا يترك شيئاً من الأمور المعسرة، ولا يخفي عليه وإن دقَّ، ولا يلتفت إلى شيءٍ مما فيه شهولة ويُسر، وان جلَّ وتجلى وما هذا عملَ الإنصاف. وقد اقتصرتُ على هذه التنبيهات الإحدى والعشرين وإن كان يُمكن الزيادة فيها، لكن مما أخاف أن ذِكْرَه يُوحِش السَّيِّد -أيَّده الله-. قال " أما معرفةُ صحيح الأخبار، فمبنيٌّ على معرفةِ عدالة الرواة، ومعرفةُ عدالَتهم في هذا الزمان مع كثرة الوسائط كالمتعذر. ذكرَ هذا كثيرٌ مِن العلماء، ومنهم الغزالي والرَّازي. فإذا كان ذلك في زمانهم؛ فهو في زماننا أصْعبُ، وعلى طالبهِ أتعبُ، لازدياد الوسائط كثرةً، والعلوم دروساً وفَتْرَة ". أقول: قد تقدَّم الكلام على تعسير الاجتهاد على الإطلاق. وقد شرع السَّيِّد يتكلم على تعسيرِ (¬1) كلِّ شرط من شروط الاجتهاد. فبدأ بمعرفة صحيح الأخبار فتكلم على تعسيرها، والجوابُ عليه مِن وجوه: الوجه الأولُ: أنَّ ظاهر كلامِهِ يقتضي إيجابَ الإحاطةِ بمعرفة الصحيح مِن الأخبار، وهذا الشرطُ لم أعلم أحداً اشترطَهُ، ولا دليلَ على اشتراطه، وإنَّما اختلفوا في الأخبار الآحادية الصِّحاح، هل يجبُ العلمُ بشيء منها؟ بل هل يجوزُ العملُ بشيء منها؟، فالجمهور على الوجوب. وقال السَّيِّد أبو طالب -عليه السلام- ما لفظه: وذهب كثيرٌ من شيوخ ¬
الفائدة الأولى: لا يشترط الإحاطة بالأخبار، والدليل من وجوه.
المتكلمين، من البصريين، والبغداديين: إلى أن التعبد بخبر الواحد لا يجوز عقلاً، ثمَّ قال بعد هذه المسألة: قد بَيَّنا فسادَ قول مَنْ منع منه مِن جهة العقل. فأما القائلون بجواز العمل بمقتضاه، فقد ذهب بعضُهم إلى المنع مِن العمل به، لأن العادة لم تَرِدْ بذلك. قالوا: وقد ورد السمعُ أيضاًً بالمنع، وهو قولُ نفرٍ من المتكلمين، وبعضُ أصحاب الظاهر كالقاشاني وغيره. فإذا عرفت هذا، فلنتكلم على فوائد: الفائدة الأولى: أنه لا يشترط الإحاطة بالأخبار، والدليل عليه وجوه: الحجة الأولى: إنه لو وجبَ معرفةُ جميع الأخبار الصِّحاح، لبطل التكليف بالاجتهاد، لكنَّ التكليفَ به معلوم، فما أدى إلى بطلانه، فهو باطل. وبيانُ الملازمة أنه لا طريق للمكلف إلا بالعلم بأنَّه لم يبق حديثُ واحد عند أحد من أهل العلم في جميع أقطار الإسلام إلا وقد أحاط به علماً، والذي يدلُّ عليه أنه لا طريق له إلى العلم بذلك أن نهاية الأمر أن يطلبَ فلا يَجِدُ، ولكن ليس عدم الوُجدانِ يدُلُّ على عدمِ الوجود. الحجة الثانية: حديثُ معاذ -رضي الله عنه- وفيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لَمَّا أراد بَعْثَهُ إلى اليمن والياً وقاضياً -قال له- عليه السلام-: " بمَ تحكم؟ " قال: بكتاب اللهِ. قال: " فإن لم تجد؟ " قال: فَبسُنَّةِ رسولِ اللهِ. قال: " فإن لم تجد؟ " قال: اجتهدت رَأَيي. فقال -عليه السلام-: " الحمد لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسول الله لما وَفَّقَ له رسوله " (¬1). ¬
الأول: له شواهد كثيرة من طرق متعددة
وهو حديث مَشهور مُتَلقّى بالقبول، وقد خالف بعضُ أهلِ الحديث في صحَّتهِ على وفق شروطهم، وَطَعنَ فيه بأنه مَرويٌّ عن ناسٍ من أهلِ حِمْص من أصحاب معاذ عن معاذ -رضي الله عنه-. وأجيبُ عن هذا بوجوه: الأول: أن له شواهد كثيرة من طُرقٍ متعددة، فقد قال الحافظ ابنُ كثير البصروي (¬1): هو حديثٌ حسنٌ مشهورٌ اعتمد عليه أئمةُ الإسلام في إثباتِ أصل القياسِ، وقد ذكرتُ له طرُقًا وشواهدَ في " جزءٍ مفرد " فلله الحمد. انتهى. الثاني: أنَّ كونَهم جماعة، يُقَوِّيهِ، وكونهم مِن أصحاب معاذ يُعَرِّفُهم بعض التَّعريف، فالظاهر مِن أصحاب معاذ أنَّهم من أهلِ الخير. الثالث: أنَّ كتب الأئمةِ والأصوليين وأهل العدل متضمنةٌ للاحتجاج به، قاضية بصحته، فقد احتج به السَّيِّد الإمام أبو طالب في آخر كتاب " المجزىء " فقال -ما لفظه-: وهذا الخبرُ قَد تلقَّاه العلماءُ بالقبُولِ، وقد احتجَّ به الشيخُ أبو الحسين (¬2) في " المعتمد "، ورواه الترمذي وأبو داود ¬
في " سُنَنِهما " وقال الأمير الحسينُ بنُ محمد في كتاب " شفاء الأوام " (¬1): إنَّهُ حديث معلوم. وأمَّا قولُ الترمذي (¬2): لا نعرفُهُ إلا من هذا الوجه، وليس إسنادُه عندي بمُتَّصل. فلا يُعتَرَضُ به على ما ذكرناه، لأنَّ غيرَ الترمذي قد عرفه مِن غير ذلك الوجه، وَمن عرف حجةٌ على مَنْ لم يَعْرِفْ. ووجهُ الدلالة في الحديث -على ما ذكرناه-: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرَّرَه على الاجتهاد عند أن لا يجد النَّصَّ، لا عند عدمِ النَّص. ولا شكَّ أن الفرقَ بينهما ظاهر وقد نَصَّ الله تعالى على جواز التيمم عند أن لا يجدَ الماء قال اللهُ تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وفَهِمَ أهلُ اللغةِ: أن المعتبرَ في ذلك أن لا يَظُنَّ وجودَ الماء في الأماكنِ القريبة، وأجمعَ العلماءُ على ذلك، فإنَّ الماء موجودٌ في البحار معلوم أنه لم يَخْلُ من جميع الأقطار، وكذلكَ قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: " فإن لم تجد ... " فإنَّهُ يقتضي أن المعتبرَ الظَّنُّ، وأنَّهُ لا يجب على المجتهد الطلبُ للنَّصِ إلا في بلدهِ. أما أنَّ المعتبر الظَّنُّ، فلأن عدم الوجدانِ لا يدلًّ على عدم الوجود -كما تقدم- وقد يتذكرُ الإنسانُ الشيء، ويتطَّلبُهُ فلا يجده، ولا يهتدي إليه، ثمَّ يَذْكرُهُ بعدَ ذلك، وهذا معلوم. ¬
الحجة الثالثة: أنه ثبت عن أمير المؤمنين علي قبول حديث رواه له أبو بكر- رضي الله عنه، وهو دليل على أنه لم يعلم أنه أحاط بالنصوص
وأما أن المجتهد لا يَلْزمُهُ طلبُ النَّص بغير بلده، فلأنَّهُ -عليه السلام- لم يُلْزمْ معاذاً أن يَطْلُبَ النَّصَّ منه -عليه السلام- من المدينة، مع العلم بأنَّه -عليه السلام- لو سئلَ عن الحكم، لَنَصَّ على الجواب، فكيف يجب على المجتهدِ الطلبُ مع تجويزه أن لا يجدَ النَّصَّ؟ وهذا معاذٌ لم يَجبْ عليهِ الطَّلبُ مع علمهِ بأنه يجدُ النَّصَّ، وقد رويَ هذا القولُ عن أبي الحسين، والله أعلم. الحجة الثالثة: أنَّهُ قد ثبت عن أميرِ المؤمنين علي -عليه السلام- أنه قالَ: كنْتُ إذا سَمِعتُ مِن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حديثاًً نفعني اللهُ بما شاءَ أن ينفعني منه، فإذا حدثني عنه غيرُهُ حَلَّفتُهُ، فإن حلف صَدَّقتُهُ، وحَدَّثني أبو بكر، وصدقَ أبو بكر (¬1). رواه الإمام المنصور بالله في كتاب " الصفوة " بهذا اللفظ، ورواه أيضاًً الإمام أبو طالب -عليه السلام-، ورواه الحافظ ابن الذهبي في " تذكرته " (¬2) وقال: هو حديثٌ حسن، رواه مِسْعَرُ، وشريكُ، وسفيانُ، وأبو عَوانةَ، وقيسٌ، كُلُّهم عن عثمانَ بنِ المغيرة الثَّقفي، عن علي بن ربيعةَ، عن أسماء بنِ الحكم الفزاري: أنه سَمعَ عَلياً يقول ... وساقَ الحديث، وفيه بعدَ قولهِ: وصدق أبو بكر. قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مَا منْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذنباً ثُمَّ يَتَوَضَّأ ويُصَلِّي ركْعَتَيْن، ثُمَّ يسْتَغْفِرُ اللهَ إلا غَفَرَ اللهُ لَهُ " (¬3). ¬
الحجة الرابعة: ما ثبت في (الصحيحين) من الأحاديث الدالة على أن الصحابة رضوان الله عليهم
ووجهُ الدِّلالةِ من هذا الحديث: أنَّ قَبُولَه -عليه السلام- لِحديث غيره دليلٌ على أنَّهُ لم يعلم أنه قد أحاط بالنصوص، وإذا كان -عليه السلام- غيرَ محيطٍ بالنصوص حتى احتاج إلى حديث من يُتَّهَمُ، ولا تطيبُ النفسُ بحديثه إلا بعدَ اليمينِ، مع الإجماع على أنه -عليه السلام- مجتهد قبل أن يعلم بذلكَ الحديثِ الذي سَمِعَهُ، بل كان مجتهداً في زمن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فلا شَكَّ أن ذلك يدلُّ على أنَّ المجتهدَ لا يجب عليه أن يُحيطَ بالنصوص، لأنه -عليه السلام- أعلمُ هذِهِ الأمةِ على الإطلاق. وقد نصَّ المؤيد بالله (¬1) في " شرح التَّجريد " على: أنَّهُ لا يجب أن يكون عليٌّ -عليه السلام- قد عرَفَ جميعَ النصوص وأنه يجوز أن يعْرِفَ النَّصَّ، وَيشْتَبِهُ عليهِ المرادُ. ذكره في بيع أُمِّ الولد. الحجة الرابعة: ما ثبت في " الصحيحين " عن البراء بن عازب قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -يعني مِن مكة-، فَتبِِعَتْهُمُ ابْنَة حمزة، تنادي: يا عمّ، يا عمَ فتناولَها عليٌّ، فأخذها بيدها، فاختصم فيها عليٌّ وزيدُ وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أنا أحقُّ بها، وهي ابنةُ عَمِّي، وقال جعفر: ابنةُ عَمِّي، وخالتُها تحتي، وقال زيدٌ: ابنةُ أَخي. فقضى بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: " الخالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ " (¬2). ¬
الحجة الخامسة: أن العلم بجميع النصوص؟ / لوجب لترجيح القول بأن العمل بالظن حرام
فَدَلَّ هذا الحديثُ على ما قلناه أوضحَ دلالةٍ، لأنَّهم اجتهدوا مع فقد النَّص في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقرَّرَهم، ولم يُخْبرهم بتحريمِ ِذلك في حضرته، ولا في غيرها، فَدَلَّ على الجوازِ، والله أعلم. الحجة الخامسة: أنَّ العلمَ بجميع النصوص إنَّما يجب لو وجب، لترجيح القول: بأنَّ العَمَلَ بالظنِّ حرامٌ، ولو حَرُمَ العملُ بالظن، لحرم العملُ بخير الواحد، وحينئذ لا يجبُ العلمُ (¬1) بشيءٍ من أخبار الآحاد، فكان في تصحيح هذا القولِ إبطالُهُ، وفي هذا بحثٌ تركتُهُ اختصاراً، والأدلَّةُ على هذا كثيرة فلا نُطَوِّلُ بذكرها. الفائدة الثانية: في بيان ألفاظِ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا، وذلك ظاهر شائع، والتعرُّضُ لنقل ألفاظهم في ذلك يُفضي بنا إلى باب واسع، ولكن نُشير إلى نُبْذةٍ يسيرة مِنْ كلامِ بعض الأئمة والعلماء، فَمِن ذلك قولُ الإمام المنصور بالله (¬2) -عليه السلام- في " صفوة الاختيار " في صفة المجتهد: ويجب أن يكونَ عارفاً بطرَفٍ مِن الأخبار المرويِّة عن ¬
النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا نَصُّهُ -عليه السلام- كما ترى مفصحاً بأنه لا يجب إلا معرفةُ طرَفٍ مِنَ الأخبار، والمعلوم أنَّ كل الأخبار لا تُسمى طرفاً لها، بل الظاهرُ أنَّ نِصفَ الشيء لا يُسمى طرفاً له. وكذلك قال صاحب " الجوهرة " (¬1) التي هي مِدْرَسُ الزيدية في الأصول: إنه يجب أن يكونَ عارفاً بطرف من الأخبار الفقهية -بهذا اللفظ- ولم نعلم أن أحداً اعترضه في ذلك، مع كثرة الدرسِ والتدريس في هذا الكتاب، واعتناءِ النُّقاد من علماء الزيدية بتحقيقه. وقال الإمام يحيى بنُ حمزة (¬2) -عليه السلام- في كتاب " المعيار " في صفة المجتهد -ما لفظه- وأما السُّنَّة، فلا يلزم أن يكون حافظاً لها من ظاهر قلبه، بل لا بد أن يكون معتمداً على كتاب منها يكونُ مُسْتَنَداً له في فتواه. ¬
وقال الشيخ أبو الحسين في كتاب " المعتمد " (¬1) فيمن يجوز له أن يقضي بظاهر الخِطاب وعمومه: والواجبُ أن يقال: إنَّ منْ كان مِن أهل الاجتهاد، إذا لم يجد ما يَعْدِلُ بالحكم عن ظاهره، فالواجب أن يحمِلَه على ظاهره في تلك الحال، لأنه قد كُلِّفَ الاستدلالَ به، إما ليُفتيَ غيرَه وإما لِيُفتي نفسَه وغيرَه، فلا يجوز أنْ لا يُجْعَلَ له طريقُ إلى ما كُلِّفَ، سواء انتشرت السنن أو لم تنْتَشِرْ، إلا أنَّه إن لم تنتَشِرِ السُّنن، قطع المكلَّفُ أنه فرضهُ في الحال، وفرضُ مَنْ يستفتيه العملُ بظاهر ذلك الخطابِ. وجُوَّز أن يكونَ في السنن ما يعْدِلُ بالخطاب عن ظاهره، وإذا بلغه تلك السنة تغيَّر فرضُهُ. ولهذا يجبُ أن يجوز منْ عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّن غاب عنه، أن يكونَ ما يلزمُهُ مِن العبادات قد نسخه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن لم يبلغ النسخ بعدُ، وأنَّه إذا بلغه النسخ، تغيَّر فرضُه، وتغيَّر فرضُ القياس عليه. انتهى. فإن قلت: إن كلام الشيخ أبي الحسين هذا إنما هو في الحُكم قبلَ انتشار السُّنَنِ، فما الحكمُ عنده بعد انتشارها؟ قلتُ: قال أبو الحسين في " المعتمد "، قبل هذا الكلام ما لفظه: فإن كانَتْ قدِ انتشرت كعصرنا هذا، فالواجبُ أن يقضِيَ بعموم الخطاب، وثبوتِ حُكمه، لأن السنن ظهرت ظهوراً لا يخفي معه على من التمسها. ولم يختلِفْ قول أبي الحسين -أن هذا حكم المجتهد بعد انتشارِ السنن- وإنما اختلف قولُهُ في حكمه قبل الانتشار، فقال مرة: لا يجوز له أن يقضيَ بالظاهر والعموم، لِعدم معرفته بالسنن، ثم رجع عن هذا القول إلى ما قدمنا من كلامه، واحتج بحديث معاذ، إِذ هو واضح الدَّلالة في ¬
المسألة، واحتج بالنظر المقدَّم، وكلامهُ هذا في من لم يلزمه التكليفُ بما ينظُر فيه، ولا تناوله الخِطابُ، كالرجل ينظر في أحكام الحيض ونحوه مما لا يتعلق به. وأما إذا تناوله التكليفُ مثل من ينظر في أمرٍ، يختصُّ به، فإن أبا الحسين قطع القولَ فيه على أنه يجوز له العمل بالعموم والظاهر بعد أن يطلب فلا يجد. وقال في الاحتجاج على هذا ما لفظه: لأنه لا يجوزُ أن يسمعه الله خطاباً عاماً، وُيريد منه فهمَ مراده، ولا يُمكنه مِن العلم بمراده بنصب دلالةٍ يتمكَّن من الظَّفَرِ بها، فإذا فَحَصَ، فلم يُصب الدّلالة، قطع على أَن الله لم يرد الخصوص. انتهى. وقال الفقيه علي بن يحيى الوشلي (¬1) -رحمه الله- في شرح قوله في " اللمع ": وقال أبو العباس: لا تكون عالماً بما تقضي حتى تكونَ عالماًً بكتاب الله وسنة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قاله في كتاب " أدب القاضي ". قال الفقيه -رحمه الله- ما لفظه: قال الغزاليُّ: وحَدُّ ذلك أن يعلمَ من الكتاب مما يتعلَّق بالأحكام الشرعية، وهو قدر خمس مئة آية، ويكونَ بظهر الغيب بحيث إذا عرضت الحادثة، أمكنه الرجوعُ إلى موضعها. قلت: قوله " بظهر الغيب " فيه تسامح في العبارة، لأنه أراد أن يكون قريباً مِن الغيب لكثرة درسها، وأنه لا يجب غيبُها بدليل قوله: بحيث إذا عرضت الحادثة أمكنه الرجوع إلى موضعها. وبدليل أنه حاكٍ لِكلام الغزَّالي وكلام الغَّزَّالي مشهور نصّ فيه على أنه لا يجبُ الغَيْبُ، وقد حكاه " السَّيِّد " عن الغزالي في كتابه على الصَّواب. قال الفقيه علي بن يحيى الوشلي: وَمِن السُّنّة " المُوطَّأ " أو ¬
ذكر (القرآن) وبيان أن فيه تحقيقين:
" سنن أبي داود " ومِن الفروع الإجماع، وأن يكون قد قال في المسألة قائل، ومِن أصولِ الدين أن يعرفَ الله تعالى، وما يجوزُ عليه وما لا يجوز، ومِن أصولِ الفقه ما يُمكنه أن يردَّ الفروعَ إلى الأصول، وَيعْرِف المجمَلَ، والمبيَّن، والعامَّ والخاصَّ، والناسخَ والمنسوخَ، وأن يكونَ معه طرفٌ مِن النحو ليعرف الأوامرَ والنواهي، وطرفٌ من اللُّغَةِ. هذا كلام الفقيه علي بن يحيى في تعليقه على " اللمع "، الذي هو مِدْرَسُ أفاضل علماء الزيدية. فلم يزَلِ الأفاضِلُ يتدارَسُونَ هذا الكتاب، وهذا التعليقَ، ويُملون ما فيه على طلبة العلمِ في مساجد الزيدية، وحلق الذكر، ولم يُعْلَمْ أن أحداً من علماء الزيدية أنكر هذا التمثيل لسنن أبي داود، وقال: إنها لا تُحيط بالحديِث، ولا قال: إنها كتاب كافر تصريح، وإن راويها غيرُ مقبول. وقال القاضي العلاَّمة عبدُ الله بن حسن الدوّاري -رحمه الله- في " تعليق الخلاصة " (¬1) في صفة المجتهد: والعلم بأخبارِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يكفي في ذلك كتابٌ مما يشْمَلُ الأحاديثَ المتعلِّقة بالأحكام، كأصولِ الأحكام، أو أحد الكتب الصحيحة المشهورة. انتهى. وفيه ما ترى مِن نصِّ هذا العالِم الجليلِ على ما بالغ السَّيِّد في إنكاره من صِحّة هذه الكتُب، وعلى خلاف ظاهر كلامه في وجوب الإحاطة بصحيح الأخبار. وقال الفقيه العلامة عليُّ بن عبد الله بن أبي الخير -رحمه الله- في تعليقه على " الجوهرة " ما لفظُه: أما الكتابُ، ففيه تحقيقان: ¬
الأول: أنه لا يجب على المجتهد أن يعلم جميع ما يتعلق بالكتاب، وإنما الواجب أن يعلم آيات الأحكام الشرعية
أحدهما: أنه لا يجب أن يُعلم جميعُ ما يتعلق بالكتاب، وإنما الواجبُ مقدار خمس مئة آية، وهي التي تتعلَّقُ بالأحكام الشرعية. الثاني: أنه لا يجبُ علمُها، بل إذا علم بمواضعها، وتمكَّن مِن النَّظَرِ فيها عند الحادثة كفي ذلك. وأما السُّنَّة، فيكفيه منها كتاب جامع لأكثر الأخبار الشرعية كسنن أبي داود وغيره، ولا يجب أن يعلمه بالغيب -كما تقدَّم في الكتاب-. وأما الإجماع، فلا يلزمه أن يعلم جميعَ مسائله غيباً، بل يكفيه إذا وردت الحادثة أن يطلب وينظر في حكمها، فإن وجد فيها إجماعاً لم يُخالفه، وإن لم يجد فيها إجماعاً، حكم بما أدَّاه إليه اجتهادُهُ. انتهى كلامُهُ رحمه الله تعالى. وفيه ما ترى من التمثيل بسنن أبي داود، وهذا فرع على صحتها. فهؤلاء علماءُ الزيدية، وأهلُ التدريس في مساجدها، متطابقون (¬1) على خلاف ما ذكره السَّيِّد من تحريم الرجوع إلى كتب الحديث، وتحريم الاجتزاء بها، وأما غيرُهُم، فإنه أكثر ترخيصاً منهما، وقد اشتهر عن شيوخ المعتزلة البغدادية تحريمُ التقليد على العامة، وتسهيلُ الاجتهاد لهم، فإنهم زعموا أن العامي متى سَمِعَ من العالم الدليلَ في المسألة، وفهَّمَهُ الدليل مثلَ ما يُفَهِّمُهُ الفتوى، صار مجتهداً في المسألة، فجعلوا الاجتهادَ ممكناً للبُلدَاءِ من الحرّاثينَ والعبيد، والنساءِ وجميعِ المكلفينَ، كما جعلتِ المعتزلةُ كُلُّها معرفةَ الله -عز وجل- بالبراهين الصحيحةِ واجبةً ممكنةٌ لأولئك أجمعين. ¬
أخبار عن رجوع بعض الصحابة عن شيء مما ثبت لهم عكس ما قالوه
وبهذا يظهر أن الاجتهاد أمرٌ خفي، غيرُ ضروري ولا قطعيٌّ، وأنَّ كُلٍّ مجتهدٍ في تفسيره واعتبارِ شروطه مصيب لِعدم النص الجليِّ المتواتر في تفسيره ولله الحمد. وقد ذكر العلماءُ قديماً وحديثاً حُكْمَ القاضي والمجتهد إِذا خالفا النَّص، ثم وجداه، وهذه مسألة مشهورة. وقد رَجَع كثيرُ من العلماء عن أقوالهم، ورجع عليٌّ -عليه السلام- عن قولِه في أمِّ الولد، وكان يقول: إنَّ بيعها حرام، ورَجَعَ إلى القول بجواز بيعها، وقال لَهُ عَبيدَة السَّلماني: رأيُك مع الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدَك (¬1). وقد يكونُ رجوعُ العالِم للوقوفِ على النص، ولغير ذلك من انكشاف ضعف دليله المتقدم. وقد رجع عُمَرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه- عن رأيه في دِيَةِ الأصابِعِ، وعن المنعِ من توريث المرأةِ مِن دِيَةِ زوجها (¬2). واحتجَّ بذلِكَ الإمامُ المنصورُ بالله -عليه السلام- في " الصفوة " فقال -ما لفظه-: وما كان يذهبُ إليه من التفضيل في دية الأصابع فإنه كان يجعل في الإِبهام خَمْسَ عشرةَ، وفي البِنصِر تسعاً، وفي الخِنْصَر ستاً، وفي الباقيتين في كُلِّ ¬
واحدةٍ عشراً، فرجع عن ذلك لكتاب عمرو بن حزم (¬1). وكان لا يُورِّثُ المرأةَ مِن دِية زوجِها، فورَّثها لرواية الضَّحّاكِ بنِ سفيان عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - توريثَهَا (¬2). ¬
وكاد يُهْدِرُ الجنينَ لولا خبرُ حمَلِ بني مالكٍ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أوجبَ فيه الغُرَّة عبداً أو أمة (¬1). وقال -عليه السلام- قبلَ هذا -ما لفظُه-: وطلب أبو بكر حُكْمَ الجَدَّةِ وكان يرى فيه برأيه حتى أخبره المُغيرةُ ومحمدُ بنُ مسلمة أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَضَ لها السُّدُسَ (¬2). ¬
ورجع عن قضيته بخبر رواه له بلال (¬1) انتهي كلامُهُ عليه السَّلامُ. وروى أبو داود في السنن عن ابنِ مسعودٍ أنه أفتى في مسألة بالرأي، ثم وَجَدَ النَّصَّ (¬2). وأفتى ابنُ عباس أنه لا رِبا إلاَّ في النَّسِيئَة، ثم وجَدَ النَّصَّ، كما ذلك مشهورٌ عنه (¬3). ¬
نص المنصور على أنه قد يخفى على المجتهد بعض النصوص، وقد توقف الشافعي في أحاديث كثيرة
وقد نص المنصورُ على أنه قد يخفي على المجتهد بعضُ النُّصوصِ، ولا يَقْدَحُ ذلك في الاجتهاد، وكذلك أبو الحسين وغيرُهُما مِن الأصوليين. وقد نصَّ الهادي -عليه السلام- في غير حديثٍ في الأحكام أنه لا يدري: أهو صحيحٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ وذلك يقتضي اعترافَهُ بأنه لم يُحِطْ بمعرفةِ الصَّحيحِ، ولو كان محيطاً به، لقطع بأنَّ ذلك الحديثَ غيرُ صحيح، مستدلاً بأنه لو كان صحيحاً، لوجب أن يكونَ فيما قد عرفه. وكذلك الشافعيُّ قد توقَّف في أحاديثَ كثيرة، ووقَّف القولَ على صحةِ بعضِ الأخبار، وقد اشتهر عن البغدادية القولُ بوجوب الاجتهادِ على كُلِّ مكلَّف. حكاه عنهم الحاكم (¬1) في " شرح العيون ". وقال المنصور (¬2) في " الصفوة ": هو مذهب الجعفريين ومن طابقهما مِن متعلمِّي البغدادية. وقال أبو الحسين في " المعتمد " (¬3) ما لفظه: منع قومٌ من شيوخنا البغدايين -رحمهم الله- من تقَليد العامي في فروع الشريعة. وقال الإمام أبو طالب في كتاب " المجزى ": ذهب جعفرُ بنُ ¬
حرب، وجعفر بن مبشِّر ومن تابعهما مِن أصحابنا البغداديين إلى أن العاميَّ لا يجوزُ له تقليدُ العالم، وإنما يلزمه الرجوعُ إليه، لِيعرفَه طريقة النظرِ فيها، وينُبهه على أصولها، فيعمل بما يُوجِبُه نظرُه فيها. وفي مذهب البغدادية هذا غايةُ التسهيل في الاجتهاد، إذ جعلوه ممكناً لِكُلِّ مكلَّفٍ من النساء والإماء والزُّرَّاع، وسائرِ أهل الغَبَاوةِ والبَلادة، ولم يزلِ العُلماءُ يذكرون مذهبَ البغدادية، ولا يذكرون في الرد عليهم تعذر الاجتهاد ولا استحالته. وقد فسَّر البغدادية كيفية اجتهاد العامي، وقالوا: إنه إذا سأل العالم عنِ الدليل، وأخبره به، جازَ له أن يعملَ به من غير طلبٍ لما يُعارضه، أو ينسخه، أو يَخُصُّه من غير ذلك العالم. ولهذا أُوجبوا على المفتي أن يبين للعاميِّ الدليلَ، لِيكون العاميُّ مجتهداً خارجاً بذلك عن التقليد، فهذا غاية الترخيص، ولم نعلم أن أحداً من العلماء أثَّمهم في ذلك، بل ولا ردَّ عليهم بأن ذلك لا يفيد العامي الاجتهاد، وإنما رد العلماء عليهم القول بوجوب الاجتهاد لا القول بتسهيله، وهذا ما وعدناه مِن الزيادة في ذكر سُهُولَةِ الاجتهاد في التنبيه الخامس عشر والمتقدِّم، وإنَّا لو قدَّرنا أنا رخَُّصنا في الاجتهاد، فإنا لم نَشِذَّ بذلك، على أنا بحمد الله لم نذهبْ إلى هذا، وإنما منعنا القولَ بتعذره باستحالته (¬1)، بل من التَّشديدِ في صعوبته وتعسُّره، لأنه من جملة التكاليفِ الشرعية. وقد أخبرنا -سبحانه وتعالى- أنه ما جعل علينا في الدين مِن حرج، ¬
الفائدة الثالثة: مذهب المؤلف المختار عدم اشتراط الإحاطة في الأخبار وأنه لم يأت غريبا أو بديعا ليستحق الإنكار
وأنه يُريد بنا اليُسْر ولا يُرِيدُ بنا العُسْر، وامتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " يسِّروا ولا تعسِّروا وبَشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا " (¬1)، وقد جمعتُ هذا المعنى في كتاب مفرد سميته: " قبولُ البُشرى بتيسير اليُسرى " (¬2). ثم إنا لا نحتاجُ إلى الاجتهاد الكاملِ في الانتفاع بمعرفة الحديثِ النبوي، بل يكفينا الاجتهادُ فيما تَمَسُّ إليه الحاجةُ في بعض المسائل، وذلك ينبني على القول بتجزي الاجتهاد، وهو مسلكٌ ظنيُّ اجتهاديٌ صحيح، قال به كثير من أهل العلم كما أوضحته في مصنف مفرد في ذلك، فليُرَاجَعْ فيه، على أن من لم يتمكَّن من ذلك، أو لم يذهب إليه يكون بقراءة الحديث مقلِّداً مرجحاً بالحديث، فتقليدُ عالمٍ محتج بحديثٍ صحيحٍ مشهورٍ أقوى عندَ أهلِ التميبز من المقلدينَ من تقليد عالمٍ محتج بقياسٍ، أو حديثٍ مشهور بالضعف عند أهل هذا الشأن. وسوف يأتي في هذا الكتاب -إن شاء اللهُ تعالى- ما أورد " السَّيِّد " على هذا والجواب عليه. الفائدة الثالثة: قد تبيَّن للناظِر في هذا أن مذهبيَ المختارَ في عدمِ اشتراط الإحاطة بالأخبار، هو مذهبُ الأئمة الأطهار، والعلماء الأخيار، وأني لم آتِ غريباً ولا قلت بديعاً، وأني لا أستحقُّ النهيَ والإنكار، لأنَّ الإنكار على منْ قال بهذا القولِ خلافُ إجماع الأئمة والأمة والخاصة والعامة. أما ما رُوي عن أحمد من التَّشديد في الإحاطَةِ بالجمِّ الكثير من ¬
الحديث، فلم يثبت ذلك عنه، وإنما رواه الحاكم قال: حدثنا أبو علي الحافظ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ المسيَّب، سمعتُ زكربا بن يحيى الضرير يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجلُ من الحديث حتَّى يكونَ مفتياً؟ يكفيه مئة ألف؟ فقال لي: لا. إلى أن قال: فيكفيه خمس مئة ألف؟ قال: أرجوه. حكاها الذهبيُّ في " النبلاء ". ولا أدري مَنْ هذا زكريا بن يحيى، ولا الراوي عنه. وفي المجروحين جماعة ممن اسمه زكريا بن يحيى، وبالجملة فهذا لا يصح القولُ به قطعاً، لأنه ليس في الموجود من أحاديث الأحكام الصحاح إلا اليسير. وقد قال الذهبي: " وقد ذُكِرَ أن محفوظَ أحمد بن حنبل كان ألفَ ألفِ حديث - ما لفظُه وكانوا يعدُّون في ذلك المكرَّر، والأثرَ، وفتوى التابعي، وما فسَّر ونحو ذلك، وإلا فالمتونُ المرفوعة القوية لا تبلُغ عشر معشار ذلك " (¬1) انتهى. وعُشر المعشارِ من ذلك عشرةُ آلاف حديث، وهذا فيما يتعلق بالأحكام، وما لا يتعلق بها مما لا يلزم المجتهدُ معرفته، ومما هو مختلَفٌ في صحته. فالذي يتعلق بالأحكامِ خاصةً، مما اتفق على صحته خمس مئة حديث مع خلاف في بعضها. وفي ترجمة مسلم من " النبلاء " (¬2)، قال ابن مندة: سمعتُ محمدَ ¬
الوجه الثاني (من الجواب على كلام السيد): أنه أبطل صحة كتب المحدثين وأهل البدع بما لا زيادة عليه وعسر على المجتهد معرفة الحديث، وهذا يتناقض فإن كلامه يقتضي السهولة، فيجوز الاجتهاد من غير معرفة الأخبار الآحادية
ابنَ يعقوبَ الأخرمِ يقول -ما معناه-: قلَّما يفوتُ البخاري ومسلماً مِن الحديث. ولما ذكر الذهبي قول أحمد بن سلمة -أن صحيح مسلم اثنا عشر ألف حديثٍ- قال: يعني بالمُكَرَّرِ بحيث إنه إذا قال: حدثنا قتيبةُ، وأخبرنا ابن رُمح يعدَّانِ حديثين اتفق لفظُهما، أو اختلفَ في كلمةٍ. قلتُ ذكر زينُ الدين في " علوم الحديث " (¬1) له عن النَّواوي: أن حديثه نحو أربعة آلاف (¬2). قلتُ: والَّذي يتعلَّق بالأحكام من ذلك يسير، فالذي اتفقا عليه فيها كتاب " العُمدة " (¬3) خمس مئة حديث. الوجه الثاني: من الجواب على كلام " السَّيِّد " -أيده الله-: أنه أبطل صحة كتب المحدثين، وأهلِ البِدَعِ بما لا زيادةَ عليه -كما سيأتي مفصلاً مواضعه- ثم إنه عسَّر على المجتهد معرفة الحديث، وهذا يتناقض. فإن كلامَه يقتضي السهولة، لأنه إما أن يمنعَ مِن معرفة حديثِ أهل البيت -عليهم السلامُ- كما هو ظاهرُ كلامه، فإنه قد منع قبولَ المراسيلِ، وأوجب معرفةَ عدالة رجالِ الأسانيد، وهذا غيرُ موجودٍ في حديثِ أهل البيت -عليهم السلام- لِقبولهم للمرسل، لا لقصورهم في العلم، فحينئذٍ تحصل السهولة العظيمة، لأن ما لا يُمْكِنُ معرفةُ صحته لا يتعلَّق التكليفُ به، فيجوز الاجتهادُ حينئذ من غير معرفة لشيءٍ من الأخبار ¬
الوجه الثالث: قول السيد: ذكر هذا كثير من العلماء، ولم يذكر حجة
الآحادية، كما حكى أبو طالب -عليه السلام- أنه مذهبُ كثيرٍ من شيوخِ البغدادية والبصرية. وإمَّا أن لا يمنعَ مِن معرفة حديثِ أهلِ البيت -عليهم السلامُ- ويُخالف هذا ظاهرَ كلامه، فحينئذٍ يسْهُلُ الأمرُ أيضاً، لأنه لا يجب علينا إلا معرفة كتابٍ واحدٍ من كُتبهم -عليهمُ السَّلامُ-: كـ " شفاء الأوام " (¬1) أو " أصول الأحكام " (¬2)، وإنما يزدادُ الأمرُ مشقةً، متى وجبت معرفة كتب المحدثين مع معرفة كُتُبِ أهلِ البيت المُطَهَّرِين -عليهم السلامُ-. فقد أراد السَّيِّد -أيَّده الله- أن يستدِلَّ على الصُّعُوبة فدلَّ على السُّهُولَة. الوجه الثالثُ: قال السَّيِّد -أيَّده اللهُ-: ذكر هذا كثيرٌ من العُلماء، ولم يذكر حُجَّةً، فلا يخلو إمَّا أن يُريدَ أن قولَ كثير من العلماء حجَّةٌ أم لا؟ إن أراد أنه حجة، فهو -أيده الله- ممَّن لا يخفى عليه فسادُ ذلك عند جميعِ الفِرَقِ، وإن لم يرِدْ أنه حجةٌ، فقد أورد الدعوى مِن غيرِ بيِّنَةٍ، وادعى الحقَّ من غير دِلالة، وليس هذا مِن عادة أهل العلم. الوجه الرابع: أنه قال: ذكر هذا كثيرٌ من العلماء منهم الغزاليُّ والرازيُّ مستأنِساً بموافقتهما، محتجاً على خصمه بذلك، وليس له ذلك، لأنه مذهبُ الرجلين، ومقصدُهما نقيضُ مذهبك ومقصدك، وإنما قصدا سُقوطَ البحثِ عن الإسناد مع بقاء التعبد بأخبار الآحاد، وأنت قصدتَ ¬
تعسيره للسنة وكتب الحديث من وجوه خمسة
تحريمَ العمل بالأخبارِ، والمنعَ مِن التمسك بالسنن والآثار، فكلاًّ منهما عليك لا لك، وهما لألسنتهما منْ مِثْلِ مقالتك أزمُّ (¬1) وأملك. مع أنك بعد هذا رويتَ عن الغزاليِّ أنه قال: يُكتفي بتعديلِ أئمة الحديثِ (¬2)، فناقضتَ قولَك، وأكذبتَ نفسَك. قال: " فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزاليُّ: إنا نكتفي بتعديل أئمة الحديث كأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعليِّ بنِ المديني، ويحيى بنِ معينٍ، ومحمد بن إسماعيل البخاريِّ، فإن هؤلاء قد تكلَّمُوا في الرواة، وبيَّنوا العدلَ مِن سِواه. قلنا: هذا لا يصِحُّ لِوجوه؛ أحدها: أنَّا إن قبِلْنَا تعديلَهم في مَنْ كان متقدماً، فما يكون فيمن بعدَهم من الرُّواة فإن اتصالَ رواية الحديثِ من وقتنا إلى مصنفي الكتب الصِّحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصحة متعسِّر أو متعذِّر لأجل العدالة، فإن من بيننا وبينَهم المشبهة والمجبرةُ والمرجئة ونحوهم مما يجرح به، وأقَلُّ الأحوال أن يكونوا مجهولين في هذا الاعتلال ". أقول: قد شرع السَّيِّدُ -أيَّده اللهُ- يُبيِّنُ وجوهَ التعسُّرِ في معرفة السُّنة، وأخذ يفْتَنُّ في أساليب التنفير عن قراءة كُتُب الحديث، وقد تمسَّك في ذلك بوجوه خمسة: الوجه الأولُ: دعوى التعذُّرِ أو التعسُّرِ في صحةِ كتبِ الحديثِ عن أهلها - دع عنكَ صحتَها عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بل أراد السَّيِّد -أيَّده الله- أن ¬
الجواب عيه من وجوه
يُحرِّم نسبةَ ما في هذه الكتب إلى أربابها، والجواب عليه في ذلك مِن وجوه: الأول: أنه لا فرقَ بين كتبِ الحديثِ وبينَ غيرها من سائر (مصنفاتِ) علماء الإسلام، بل كتبُ الحديثِ مختصَّة بصرفِ العنايةِ مِن العلماء إلى سماعها وضبطِها وتصحيحِها، وكِتابة خطوطِهم عليها شاهدٌ لمن قرأها بالسَّماع، ناطقة لمن سمِعَها بالإذن في روايتها، ولا يُوجد في شيء منْ كُتُبِ الإسلامِ مثلُ ما يُوجد فيها مِن العِنايةِ الكثيرة في هذا الشأن حتى صار كأن هذا خصيصةٌ لها دونَ غيرِها مِن العلماء -رضي الله عنهم- وتعظيمٌ لِشعارها، ورفعٌ لمنارها، ومعرفة أنها أساس العلوم الإسلامية، وركن الفنون الدينية. فلا يخلو السَّيِّد -أيَّده الله- إما أن يخُصَّها بتعفي رسومِ الإسناد إلى أربابها دونَ سائرِ المصنفات، فهذا عكسُ المعقول، لأنَّا بيَّنا أنها أقوى العلومِ أثراً في هذا الشأن، وإمَّا أن يُورِدَ هذا الإشكال على العلوم السمعية كلُّها، فهذا إشكالٌ على أهل الإسلام لأنه يلزم منه القدحُ في إسناد فقه الأئمة إليهم، وكذلك مصنفاتُ أتباعِهم، فيتعذَّرُ إسنادُ " اللمع " (¬1) إلى صاحبه وسائر مصنفات الفقهاء وحينئذٍ يتعذَّرُ الاجتهادُ والتقليد، أو يتعسَّران، وإذا كان كذلك، فما خصَّ علمَ الحديث بالترسُّلِ على مَنْ أراد معرفتَه، والتعسير لها، والتنفير عنها. وهلاَّ وضع السَّيِّد -أيده الله- رسالةً ثانيةً إلى مَنْ أراد قِراءة فِقه العلماء من الأئمة وغيرهم، وأخبر أنه لا يَصِحُّ معرفةُ قولهم، ونسبتُها إليهم حتى تعرف عدالة الرُّواةِ بينَنا وبينَهم، وأن ذلك متعسِّر أو متعذِّر. ¬
الثاني: أجمعت الأمة على جواز إسناد ما في كتب الحديث إلى أهلها ... والدليل قولهم: رواه البخاري أو مسلم
فإن قلتَ: إنك إنَّما خَصَصْتَ كُتُبَ الحديثِ لما ذكرتَ مِن أن بينَنا وبينَهم المجبرة والمشبهة والمرجئة. قلنا: سوف يأتي عند الكلامِ على هذه المسألة أنها مسألةُ خلاف بَيْنَ الخَلَف وأن قبولَهم إجماعُ السَّلَفِ، وأن الإنكارَ على المخالف فيها إجماعُ الخلف والسَّلَف، فأنت إمَّا أن تذهب إلى ما ذهبنا إليه من قبولهم أو سكت عن المنعِ مِن ذلك، ويسعُك في السُّكوتِ ما وَسَعِ أمَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ تُوفي -عليه السلامُ- إلى سنةِ تسعٍ وثماني مئة فإنه ما عُلم أحَدٌ أنكر على مَنْ ذَهَب إلى أحد المذهبين، وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة. الجواب الثاني: أجمعت الأمَّة على جواز إسناد ما في كتب الحديث إلى أهلها بعدَ قراءة مَنْ يُوثَقُ به من الشيوخ، والدليلُ على ذلك أن العلماءَ ما زالوا يقولُون في كتبهم: هذا الحديث رواه البخاري، أو رواه مسلم، أو غيرُهما من أهل الحديث مِن غير نكير في هذا على الرَّاوي مع كثرة وقوع هذا منذ صنفت هذه الكتبُ إلى هذا التَّاريخ وذلك قريبٌ مِن خمس مئة سنةٍ ما علمنا أنَّ أحداً من المسلمين حرَّم على مَنْ قرأها على العلماء أن يَنْسُبَ ما وَجَدَ فيها إلى مُصنِّفيها ولا حَرَّجَ في هذا حتى السَّيِّد -أيَّده الله- فإنه مع تحريمه لهذا روى عن البخاري ما زعم أنه يدلُّ على أنه مِن الجبرية كما سيأتي بيانُه في موضعه، وبيان الغلطِ على البخاري في ذلك المأخذ، فالاحتجاج على كفره بما يُوجد في كتابه فرعٌ على صحة كتابه عنه. والسيِّد -أيَّده الله- لا يزالُ يقرأ فيها، وَينْسُبُ الحديثَ الذي فيها إلى أربابها، ويقول في تفسيره في بعض الأحاديث: رواه مسلم، وفي بعضها: رواه البخاري بهذا اللفظ. فثبتَ بذلك انعقادُ الإجماع على جواز روايتها عن أربابها، والإجماعُ حجة مقدمة على اختيارِ السَّيِّد، وقاطعة
الثالث: أن العترة أجمعت على جواز نسبة مذاهب الفقهاء إليهم من غير ذكر إسناد وذكر عدالة رجاله
للتشغيب الذي ذكره، ومزيلة للتشويش الذي أورده. الجواب الثالث: أن العِتْرة -عليهم السلامُ- أجمعت على جواز نسبة مذاهبِ الفقهاءِ إليهم مِن غيرِ ذكر إسنادٍ، وذكْرِ عدالةِ رجاله، ومن عدل المعدل مع أن بينَنا وبيْنَ الفقهاء وغيرهم مثل ما بيننا وبين المحدثين من غير فرق، فكما يجوز إسنادُ فقه الفقهاء إليهم ولم يكنْ ذلك الاحتمالُ مانعاً منه، فكذلك يجوزُ نسبةُ ما في كتب المحدثين إليهم، ولا يكونُ الاحتمالُ مانعاً. الجواب الرابع: أن كلام السَّيِّد -أيَّده الله- مبنيٌّ على أن المرسل غيرُ مقبولٍ، وما أدري لمَ بنى كلامَه على هذا! فالظاهرُ مِن كلام الجماهير من العِترة أنه مقبولٌ، وهو الذي نصَّ عليه المنصورُ بالله في " الصَّفوة " والسَّيِّد أبو طالب في " المجزي " والإمام يحيى في " المعيار " وجميع المصنفين من شِيعهم، وهو قولُ المالكية، وروى أبو عمر بنُ عبد البرِّ في كتاب " التمهيد " (¬1) عن ابن جرير الطبري العلاَّمة أنه إجماع التابعين، وهو المختارُ على تفصيل فيه، وهو قبولُ مراسيلِ الصحابة وبعضِ التابعين والأئمةِ المعروفين بالتحرِّي في الرواية، والعلة معرفة شرط المرسل في التصحيح، أو ظهور شرطه بالنص كأئمة الحديث، وهو قوي، أو بالقرائن كمراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- (¬2). ¬
إرسال الراوي لسماع هذه الكتب المصنفة أقوى المراسيل لوجوه:
وكذلك إرسالُ الرَّاوي لسماع هذه الكتب المصنفة، بل هو أقوى المراسيل لوجوه: أحدها: أن الكتابَ معلومٌ بالضرورة على سبيل الإجمال أنه تأليف لصاحبه، فإنَّا نعلم بالضرورة أن محمدَ بن إسماعيل البخاري صنَّف كتاباً في الحديث، وأنه هذا المقروء المسموع المتداول بينَ الناس. وثانيها: أن أهلَ الكذب والتحريف قد يئسُوا من الكذب في هذه الكتب المسموعة، فكما أنه لا يُمْكِنُ أحداً أن يُدْخِلَ في " اللمع " مسألة في جواز المسح على الخُفين ويقول: إنه مذهب الهادي -عليه السلام- ويخفي ذلك على حُفَّاظ مذهبه -عليه السلام- فكذلك لا يُمْكِنُ أحداً أن يزيدَ في صحيح البخاري حديثَ " القُرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق " (¬1)، ولا حديثَ " أبو بكر خليفتي على أمتي " (¬2) ونحو ذلك من الموضوعات. وثالثها: أن النُّسَخ المختلفة كالرواة المختلفين، واتفاقُها يدل على صحة ما فيها عن البخاري قطعاً، أو ظاهراً، فإنك إذا وجدتَ الحديثَ في نسخة منه نُسِخَتْ باليمنِ، ووجدتَه في نسخةٍ نسخت بالمغرب، وفي نسخةٍ نُسِخَتْ بالشام، ونحو ذلك، ووجدتَه في شرحه الذي شرحه عالم في بعض أقطار الإسلام، ووجدتَه في الكتب المستخرجة من الصَّحاح الجامعة لما فيها، والمختصرة منها فتجده في " جامع الأصول " (¬3) لأبي ¬
الخامس: أن المختار القوي هو أن كل حامل علم معروف بالعناية فيه، فإنه مقبول في علمه
السعادات ابن الأثير، وتجده في كتاب " المنتقى في الأحكام " (¬1) لعبد السَّلام ابن تيميَّة، وتجدهُ في كتاب " الإلمام " (¬2) للشيخ تقي الدِّين محمد بن علي القُشيري، وتجده في كتاب " الجمع بين الصحيحين " (¬3) للحافظ الحُمَيْدِيّ. وتجده في كتب الفقه البسيطة التي يُشرح فيها مذاهبُ العلماء ويذكر فيها حُجَجُهُمْ. وهذه الكتبُ قد تُوجدُ كُلُّها وقد يُوجد منها كثيرٌ، ولا شكَّ أن الناظر فيها إن لم يستفِدِ العلمَ الضَّروري باستحالة تواطؤ مصنِّفيها على محضِ الكذب والمباهتة، لأنه يستحيلُ اجتماعُهم واتفاقُهم على ذلك، لِتباعد أزمانِهم وبُلدانهم، واختلافِ أغراضهم ومذاهبهم، وأقلُّ الأحوال أن ذلك يُفيدُ الظَّنَّ الغالِبَ المقارِبَ للعلم، فإذا كان الأئمةُ قد نصُّوا على قَبولِ المرسل مع خُلوِّه من هذه القرائن فكيف ينكر على من قَبِلَهُ مع هذه القرائن الكثيرة، فإذا كان المعتمد في الاجتهاد هو الظن المطلَق، فكيف يُنكر على من استند إلى مثل هذا الظنِّ القوي. الجواب الخامس: أن المختار القوي ما ذهب إليه أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ، وأبو عبد الله بن الموَّاق (¬4) وهو أنَّ كُلَّ حاملِ علمٍ معروفٍ بالعناية فيه، فإنه مقبول في علمه، محمول أبداً على السَّلامة حتى يَظْهَرَ ما ¬
والدليل على ما ذكرنا الأثر والنظر، أما الأثر:
يجرحه. وقد ذهب المنصورُ بالله -عليه السلام- إلى مثل كلام ابنِ عبدِ البر، بل إلى أوسعَ منه، فإنه قضى بقبولِ مَنْ ظاهِرُه السلامة. ذكرَ ما يقتضي ذلك في كتابه " هداية المسترشدين "، وكذلك عبدُ الله بنُ زيدٍ ذكَرَ مِثلَ ذلك في " الدرر المنظومة " وهو الذي أشار السيد أبو طالب إليه في كتاب " جوامع الأدلة " في الأصول، وتوقف فيه في " المجزي " وذكر أنه محل نظر، وحكاه المنصورُ باللهِ في " الصفوة " عن الشافعي، وهو مذهبُ الحنفية بأسرهم. والدليلُ على ما ذكرنا الأثَرُ والنَّظَرُ، أما الأثر، فقد وردت في ذلك آثار: الأثرُ الأول: ما احتج به ابنُ عبد البرِّ في هذه المسألة، وهو قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " يَحْمِلُ هذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " (¬1) وهو حديث مشهور صححه ابنُ عبد البرّ، ورُوي عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو حديثٌ صحيح. قال زينُ الدِّين (¬2): وفي كتاب " العلل " للخلاَّل أن أحمد سُئِلَ عنه، فقيل له: كأنه كلامُ موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقيل له: ممَّن سمعتَه؟. فقال: مِنْ غيرِ واحدٍ، فقيل له: من هم؟ قال: قد حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن [مُعان عن] (¬3) القاسم بنِ عبد الرحمن. ¬
قال أحمد: ومُعان لا بأس به، ووثَّقَهُ ابن المَديني أيضاً. قلت: قولُه " حدثني به مسكين " غير أنه يقول: القاسمُ بنُ عبد الرحمن - يعني أن مسكيناً تَابَعَ مُعَانَ بنَ رِفاعة إلا أنه وهم في اسم إبراهيم ابن عبد الرحمن فقال القاسم مكان إبراهيم (¬1). قال زين الدِّين: وقد ورد هذا الحديثُ مرفوعاًً مسنداً مِن حديث أبي هُريرة، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وأبي أمامة، وجابر بن سمرة، وكُلُّها ضعيفة (¬2). ¬
قال: وقال ابنُ عديٍّ: رواه الثقات عن الوليد بن مسلم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن حدثنا الثقة من أصحابنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال. وساقه. ومن علوم الحديث (¬1) للبُلقيني: قال الدَّراقطني: لا يَصِح مرفوعاًً - ¬
يعني مُسنداً- إنما هو عن إبراهيم بنِ عبد الرحمن، عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبدِ البَرِّ: رُوي عن أسامة بن زيد، وأبي هريرةَ بأسانيدَ كُلُّها مُضطرِبة غيرُ مستقيمة. قال البُلقينيّ: وقد رُوي من حديث أسامة، وأبي هريرة، وابنِ مسعود، وغيرِهم، وفي كُلِّها ضعف. وهو صحيحٌ على أصولِ أصحابنا، لأنه لم يُطعن فيه إلا بالإرسال على أنه مختلف في إرساله وإسناده، فأسنده العُقيليُّ (¬1) عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عمرو، وقال: الإسنادُ أولى. ونازعَهُ في ذلك ابن القَطَّان (¬2)، وقال: الإرْسالُ أولى. وتوقَّف في ذلك الحافظُ ابنُ النحويّ في كتابه " البدر المنير ". ورواه الأكثرون عن مُعان بن رِفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري التّابعيِّ، ومعان وثقه ابنُ المديني وليَّنه يحيى بنُ معين، ¬
ولم يتكلَّم فيه إلا بما يقتضي أن في حفظه بَعْضَ الضعف، وقد عضَّدَه الحديثُ المُسْنَدُ الذي رواه العُقيليُّ مع أن بعض الضعف في الحفظ لا يُرَدُّ بهِ حديثُ الثقة ولكن يُرجَّحُ عليه حديثُ منْ هُوَ أوثق منه عند التَّعَارُضِ. وأما إبراهيم بنُ عبدِ الرحمن العُذريُّ الذي أرسلَ هذا الحديثَ، فقال فيه الذهبي (¬1). تابعيٌّ مُقِلٌّ وما علمتُه واهياً، أرسل: " يَحْمِلُ هذَا العلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " رواه غيرُ واحد عن مُعان. وذكر ابنُ الأثير في كتاب " أسد الغابة " أنه كان من الصحابة (¬2) -والله أعلم-. وقد رُويَتْ له شَواهدُ كثيرةٌ كما قدَّمتُه مِن حكاية زينِ الدين، وضعفُها لا يَضُرُّ، لأن القصدَ التقوِّي بها، لا الاعتماد عليها مع أن الضعفَ يُعْتَبَرُ بِهِ إذا لم يكن ضعيفاً بمرة أو باطلاً، أو مردوداً، أو نحو ذلك، فهذه الوجوهُ مَعَ تصحيحِ أحمد وابنِ عبد البر، وترجيح العقيليِّ لإسناده مع أمانتهم واطلاعهم يقتضي بصحته أو حسنه -إِن شاء الله تعالى- وهو دالٌّ على المقصود من تعديل حملةِ العلم المعروفين بالعناية حتى يتبيَّن جَرْحُهم، واعترض هذه الحُجَّة زينُ الدِّين بأنَّه لو كان خبراً لما وُجِدَ في حَمَلَةِ العِلم ¬
الأثر الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "
منْ لَيسَ بعدلٍ، فوجب حملُه على الأمر (¬1). قلتُ: تخصيصُ الخبر جائز، والتخصيصُ أكثرُ مِن ورود الخبر بمعنى الأمر، وترجيحُه لما في بعض طُرُق أبي حاتم مردودٌ بضعفها وإعلالِها بمخالفةِ جميعِ الرُّواة. الأثر الثاني: قولُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: " مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " (¬2) رواه ابنُ عباس، وأبو هُريرة، ومعاويةُ ¬
الأثر الثالث: قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين
كلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديثُ ابن عباس أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ صحيح. وحديثُ أبي هريرة ذكره الترمذي تعليقاً، وحديث معاوية أخرجه البخاري وإنما ذكرتُه هنا، لئلا يَظُنَّ من وقف عليه في " صحيح البخاريِّ " أنه لم يرو الحديثَ أحدٌ سِواه. وزاد الخطيب في كتاب " الفقيهِ والمتفقه " (¬1) أنه رواه عمر، وابنهُ عبد الله، وابن مسعود، وأنس. فهذا الحديثُ دالٌّ على أن الله قد أراد بالفقهاء في الدين الخيرَ، والظاهر فيمن أراد اللهُ به الخيرَ أنه من أهله وهو مُقَوٍّ للدليل، لا معتمدٌ عليه على انفراده، وفيه بحث يتشعَّبُ تركناه اختصاراً. الأثرُ الثَّالِثُ: قصةُ الرجل الذي قَتَلَ تسعة وتسعين، وسأل عن أعبدِ أهل الأرض، فَدُلَّ عليه، فسأله فأفتاه أن لا توبة له فقتله، ثم سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ فدُلَّ عليه، فسأله، فأفتاه بأن توبته مقبولة إلى آخر الحديث وفيه أنه من أهل الخير، وفي قصته بعدَ المعرفة بالعلم أنه لم يسألْ عن العدالة. والحديث متفق عليه (¬2). الأثر الرابع: أنه لما قال الله تعالى لموسى عليه السلام: إن لنا عبداً هو أعلمُ منك -يعني الخضر عليه السلامُ- فسأل موسى لقاءه من الله تعالى ليتعلَّمَ منه، وسافر للقائه (¬3) ولم يَرِدْ أنه سأل عن عدالته بَعْدَ أن أعلمه ¬
أما الاستدلال من جهة النظر فهو:
اللهُ تعالى بعلمه، مع أنَّ من الجائز أن يكون العالمُ غيرَ عامل كَبَلْعَمَ (¬1) وغيرِه، ولكن تجويز بعيد، قليلُ الاتفاق، نادرُ الوقوع، فلم يجب الاحترازُ منه. وفي بعض هذه الآثار أثرٌ مِن ضعف وهو ينجبِرُ باجتماعها وشهادةِ القُرآن لها، وهي الحجة الثانية وهي قولُه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فأمر اللهُ تعالى بسؤالهم، وهو لا يأمر بقبيح، فَدَلَّ إطلاقُه على جواز سؤال العُلماء على العموم إلا مَنْ عُرِفَ بقلة الدِّين. وأما الاستدلالُ على ذلك مِن جهة النَّظرِ، فهو يتبيَّنُ بإيراد أنظارٍ: النَّظر الأول: أن الظاهِرَ من حملة العلم أنهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة، مجتنُبون للكبائر والمعاصي الدَّالة على الخِسَّة، معظِّمون لِحرمة الإسلام، لا يجترئون على الله بتعمُّدِ الكذب عليه، ولا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر أيضاًً فيهم قِلَّةُ الوهم بغير الاعتماد على الكِتابة، وظهور العناية بالفَن. فالمحدِّث وإن كان يَغْلطُ في العربية، والفقيهُ وإن كان يَغْلَطُ في الحديث، فليس ذلك الذي عَنيناه بالقبولِ وإنما أردنا أن المحدِّث يقبل في فنِّه، وأن الظاهر عدمُ غلطه ووهمه، وهذه الأشياءُ هي أمارة (¬2)، العدالة. النظرُ الثاني: أن الأمة أجمعت على الصلاة على مَنْ هذه صفتُه، وخلْفَ منْ هذه صفتُه، وعلى الاعتداد بأذانِه، وعلى جواز الترحم عليه، ¬
النظر الثالث: أنه قد ثبت أن العامي من .. إذا احتاج إلى فتوى ودخل مصرا فإنه يسأل من يراه منتصبا للفتوى وإن لم يتقدم له خبرة بحاله
والترضية، والاستغفار، والتعظيم، وسائر حقوق المسلمين. وأجمع على ذلك مَنْ يشترِطُ العدالةَ في هذه الأمور ومن لا يشترِط، وإنما قلنا: إنهم أجمعوا على ذلك، لأن العمل عليه في جميع أقطار الإسلام في قديم الزمان من غير نكير من أحدٍ من المسلمين. النَّظر الثالث: أنَّه قد ثبت أنَّ العاميَّ من الزُّرَّاع وغيرهم إذا احتاج إلى فتوى، ودخل مِصراً من أمصار المسلمين لِيستفتي، فإنه يسأل مَنْ يراه منتصباً للفتوى، ويرى الناسَ يأخذون عنه وإن لم يتقدم له خِبْرةٌ بحاله، ولا طولُ صحبة إلا مجرد ظنِّ عدالته المستندِ إلى كونه من أهل العلم، وأنَّ أهل العلم من أهل الدِّيانة في ظاهر الأحوالِ وغالبها، وكون الناس يستفتونه، ولو كان مِن أهل الفسوق والمعاصي ما كان بهذه المنزلة عند الناس، وهذا كافٍ للعاميِّ في معرفة عدالة المفتي. ولو أوجبنا على العاميِّ أن يُلازم المفتي أولاً، ويختبره في حَضَرِه وسفرِه ورضاه وغضبه، لخالفنا إجماعَ الأمة. قال الإمامُ المنصورُ بالله -عليه السلام- في " الصفوة ": اعلم أن شروط الاستفتاء ترجِعُ إلى أصل واحدٍ: وهو أن يغلِبَ ظنُّ المستفتي أنَّ من يستفتيه من أهل الاجتهاد والعلم، ويحصل له هذا الظنُّ بوجوه: أحدُها: أن يراه منتصباً للفتوى بمشهدٍ من أعيان الناس، وأخذِ الناس عنه، وأن يراه مِن أهل الدِّين بأن يرى سِمَاتِ الخير عليه ظاهرة، ويرى الجماعة مطبقةً على سؤاله، والأخذِ عنه، والفَزَع إليه، أو يعلمه أو يظنه من أهل الدِّين، ولكن صَرفَ الجماعةَ عن سؤاله بعضُ الصَّوارف. وكذلك الشيخُ أبو الحسين، فإنه قال في" المعتمد " (¬1): شروطُ ¬
الاستفتاء: أن يَغْلِبَ على ظنِّ المستفتي أنَّ من يستفتيه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتوى ... إلى قوله: وأن يظنَّه من أهل الدِّيِن بما يراه من اجتماعِ الجماعات على سؤاله واستفتائه، وبما يراه من سِمات السِّتر والدين انتهى. وحديثُ معاذٍ (¬1) أوضح دليلٍ على ذلك، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن مفتياً ومعلماً وقاضياً، ولا شكَّ أنه مجهولُ الحال عندَ أهل اليمن، أو عند الأكثر منهم، لكنهم يظنُّون مِن قرائنِ الأحوال أنه من أهل العلم والدِّيانة. وقد ذكر المنصور بالله -عليه السلامُ- ما هو أكثرُ ترخيصاً من هذا فقال -عليه السلام- في المستفتي: وذهب قوم أنه لا يجب عليه ذلك، بل له أن يَقْبلَ قَوْلَ المفتي مِن غير نظرٍ في حاله. قال -عليه السلام-: وما ذكرنا هو الذي كان شيخُنا -رحمه الله- يذهبُ إليه وهو الذي يختارُهُ -يعني عليه السلامُ- أنه لا يَحِلُّ الرُّجُوعُ إلى المفتي من غير نظر، بل لا بُدَّ من الظنِّ لأهليته لذلك - وهذا هو المختارُ الذي عليه الجماهيرُ، فإذا تقرَّر في العامي المستفتي أنه يجوزُ له العملُ بقول المفتي عند ظنِّ عدالته بأخف الأماراتِ الحاصلةِ في ساعةٍ واحدة من غير سابق خِبرة ولا طول صُحبة. وعلى هذا عملُ المسلمين في جميع الأقطار والأمصار من غير نهي للعامّة عن ذلك ولا إنكار، فغيرُ خافٍ على المنصف أن جميعَ المدرسين ¬
النظر الرابع: أن طلبة العلم يدخلون أمصار الإسلام للقراءة وطلب العلم، فإذا دخلوا سألوا عن العالم في الفن
في علم الحديث المأخوذِ عنهم الإجازاتِ على صفة المفتين للعامة وفي الديانة وفي معرفة ما يدرسون فيه. النظر الرابع: أن طلبة العلم ما زالوا يدخلونَ أمصارَ الإسلام للقراءة، وطلب العلم، فإذا دخلُوا سألُوا عن العالم في الفن، فإذا أُخْبِرُوا بالعالم قرؤوا عليه، وأخذوا عنه العلمَ مِن غير سابقِ خِبرةٍ ولا طُولِ صُحبة متقدمة إلا لِظنِّ علمه وديانته وتحريه للصدق بغيرِ سببٍ لذلك الظنِّ أكثر مِن كونه من أهل العِلم والانتصاب للتدريس. وهذا إجماعُ من المسلمين، لأن منهم من يفعلُهُ كالطالب للعلم، ومنهم من يسكت عنه كالعالم المفيد للطَّالب، وسائر من يعلم ذلك من العلماء، وهذا غيرُ خافٍ على العلماء ولا يخافون مِن طلبة العلم بمضرةٍ تلحقُهُم إن نصَحُوهم في ذلك، كما رُبَّما خافوا مِن جبابرة الملوك، وأهلِ التَّكَبُّرِ في الأرض إذا نصحوهم. فثبت بهذا أنَّ ظَاهِرَ العلماء العدالةُ والدِّيانةُ ما لم يظهر ما يجْرَحُهُمْ، وَيمْنَعُ العَمَلَ بالظاهر. فإذا ثبت هذا، ثبتَ أنه لا قَدْحَ في كُتُبِ الحديثِ المسموعة، فإنَّ الظاهِرَ أنَّ منْ بيننا وبَيْنَ مصنفيها كُلُّهم مِن أهل العلم، ويغلِب على ظنِّ كُلِّ منصفٍ أنَّه ليس فيهم أحدٌ مِن أهل الفسق والفواحش والتظاهر بارتكاب الكبائر، وما فيهم منْ يَتعَمَّدُ الكذبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما فيهم بحمدِ اللهِ إلا من يُظَنُّ صِدْقُه وأمانتُهُ، ومنْ لم يحْصُلْ له هذا الظنُّ، حَرُمَتْ عليه الروايةُ، وحَرُمَ عليه النَّكيرُ، وكلُّ متعبِّد بِظنِّه. النظر الخامس: أجمعت الأمةُ على قبولِ علومِ الأدب مِن اللغة والمعاني والعربية بنقل علماء الأدب من غير تعرُّضٍ إلى جرح وتعديل غالباً، وفي هذا ما يدل على صحة كلام ابن عبد البرِّ مِن قبول العلماء في
فنونهم التي ظهرت عنايتُهُم فيها حتى يتبيَّنَ جرحُهُم. فهذه الوجوهُ مما يُمْكِنُ أن يَقْوَى بها قولُ أبي عُمَرَ بن عبد البَرِّ. وقد قال ابنُ الصَّلاَح: إن في قوله اتِّساعاً غيرَ مرضيٍّ (¬1). ولا شكَّ أن المسألة محتملةٌ للنظر، وأن في أدلَّتِه قُوَّةً. فإن قلتَ: نِسبةُ هذا القولِ إلى ابنِ عبد البَرِّ وحدَهُ تدلُّ على شُذُوذه وإصْفَاقِ (¬2) العلماء على مخالفته. قلتُ: ليس كذلِكَ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى قبول المجهول مطلقاًً، سواءً كان مِن أهل العِلْمِ أو لم يكن منهم، وهو أحَدُ قَوْلي المنصور بالله -عليه السلامُ-، وجزم الفقيهُ عبدُ الله بن زيد به، وقال: هو مذهبُنا، حكاه في " الدرر المنظومة " وحكاه الإمامُ المنصورُ بالله عن الشافعيِّ (¬3) في كتاب " الصفوة " وهو مذهبُ الحنفيةِ بأسرهم (¬4). ¬
وتوقَّف السَّيِّدُ أبو طالب في قبوله في كتاب " المُجزي " ولم يقطع بردِّة، وقال: المسألة محتمِلة للنظر، ورجح السيد أبو طالب قبولَهُ في " جوامع الأدلة ". وأشار قاضي القضاة (¬1) في " العهد " إلى قبولِه. فالذاهبُ إلى ما قَالَهُ ابنُ عبد البَرِّ، لم يأت ببديعٍ، بل قولُهُ أقوى مِنْ قولِ من يقبل المجاهيلَ على الإطلاق. واعْلَمْ أني مكمِّل للكلام في هذه المسألة بذكرِ سؤالٍ وجواب: ¬
سؤال: هده الحجج على تحسين الظن بحملة العلم والقول بأن المجروح نادر فيها ... والجواب عن ذلك
أمَّا السُّؤال: فيُقال: هذه الحججُ مبنية على تحسينِ الظَّن بِحَمَلةِ العِلْمِ، والقولِ بأن المجروح نادِرٌ فيهم، وأنه إذا كان نادراً، فالحكم بالنادِرِ تقديمُ للمرجوح على الغالب الراجح، وتقديمُ المرجوح على الراجح ضروريُّ القُبْح، والتوقف أيضاً مساواة بين الراجح والمرجوح، والمساواة بينَهما على الإطلاق قبيحةٌ بالضرورة، لكن كونُ المجروحِ نادراً فيهم غيرُ مُسَلَّم، فإن وقوع الغيبة والحَسَدِ والمنافسة في الدنيا كثير فيما بينهم، والسَّالم من هذه الأشياء عَزِيْزٌ. والجواب عن ذلك: أمَّا قوله: إن المجروحَ غيرُ نادرٍ فيهم، فهو بناء على أن كُلَّ مَنْ صَدَر منه فِعلٌ قبيح، فهو مجروحٌ، ومتى سُلِّمَ له أن العدالةَ هي تركُ جميع الذنوب والمعاصي، فالسؤالُ واقع، ولكن متى فسرنا العدالَةَ بهذه عزَّ وجودُهَا في جميع المواضع التي تُشْترَطُ فيها كعقدِ النكاح، والطَّلاقِ على السُّنَّة، والشهاداتِ في البيوع والحقوقِ والحدودِ، وقد دل الشرعُ على ما تبيَّن أن العدالة مرتبةٌ دونَ هذه المرتبة. وفي الحديث عن أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مَنْ طلبَ قَضاء المُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ، ثُمَّ غلبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ، فلَهُ الجَنَّةُ، ومَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ، فَلَهُ النَّارُ " رواه أبو داود (¬1)، وقال الحافظ ابن كثير: إسناده حسن (¬2). ولأنهم يُسَمَّوْنَ مسلمينَ ومؤمنين، وقد دَلَّ السمْعُ على قبولهم كما تقدَّمَ، وقد قال بذلك أبو الحسين، لأنَّه قال في " المعتمد " (¬3) في تفسير لفظة العدْلِ -ما هذا لفظه- وتُعُورِفَ أيضاًً فيمن تُقْبَلُ روايتُهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬
وهو من اجتنب الكبائرَ والكذبَ والمُسَتَخفَّاتِ من المعاصي والمباحات، ومَثلَ للمستخفاتِ بالتطفيف بحبة، وللمباحات بالأكل على الطريق. ومما يُقَوِّيَ هذا ما ورَدَ في الحديث، وأجمعتِ عليه الأُمَّةُ من أنه لا تقبل (¬1) مَنْ بيْنَه وبينَ أخيه إحْنَةٌ (¬2) مع أنه مقبولٌ على مَنْ ليس بينَهُ وبينَه إحنة. فلم يُجْرَحِ المُسْلِمُ الثقةُ بالإحْنَة التي بينَه وبين أخيه ما لم يُسْرِفْ في العداوة إلى حدٍّ لا يتجاوزُ إليه أهلُ الدِّين، وأمَّا مجرد الإحنة، فوقوعها كثيرٌ بين أهل الخير قال الله تعالى: في صفة أهل الجنة {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] وقد حكى الله تعالى وقوعَ بعضِ المعاصي مِن أنبيائه الكرام -عليهم أفضل الصلاة رالسلام- وقد جوَّز المنصور -عليه السلام- شهادة الفسقة المصرِّحين عند الضرورة، ونظراً إلى مصلحة العامة، فكيف بقبولِ مَنْ هو مِن القائمين بأركان الإسلام، والمجتنبين للكبائر، ولمعاصي الخِسّة، ولِمَا لَمْ تَشتدَّ المِحْنَةُ بملابسته من المعاصي؟! وإنك متى تركت شهادةَ هؤلاء ورِوايَتَهُم، واعتبرتَ قولَ المنصور بالله -عليه السلام- في العدالة: إنها الخروج مِن كل شبهة، ومحاسبةُ النفس في كل طرفةٍ ونحو هذا من التشديدات، تعطَّلت المصالحُ والأحكام، وتضرَّر جميعُ أهلِ الإسلام، ولم يَكَدِ الإنسانُ يجد مَنْ يشْهَدُ ¬
قول الشافعي: لو كان العدل من لم يذنب لم تجد عدلا
على النكاح، ولا يجدُ القاضي مَنْ يَشْهَدُ في الحقوق، ولا يجد العاميُّ مَن يُفْتيه، ولا القارىء من يُقرئه، سواءً كان طالباً للاجتهاد أو للتقليد، فإن المقلد أيضاً يحتاج إلى عدالة من يُقَلِّدُهُ، وعدالة من يروي له مذهبَ العلم، وأهْلُ التَّحَرُّزِ من الغِيبة، ومِن سماعها والقائمين بما يجبُ على الحدِّ المشروعِ من إنكارها، والمتنزهين من الشُّبهَات أجْمَعَ؛ أعزُّ من الكبريت الأحمر، وإذا وجدتَهم، فلا تكادُ تجدهم إلا أهلَ العِبَادَةِ والزُّهد والاعتزال دونَ أهل التدريس والفتوى. فلو اشترطنا هذا في المفتي والمدرِّس، والشَّاهد في الحقوق، والشَّاهِدِ في النكاح، لعَظمَتِ المضَرَّةُ من غيرِ شك، وتعطَّلَتِ المصالِحُ بلا ريب. وقد قال الشافعي في العدالة قولاً استحسنه كثيرٌ من العقلاء مِن بعده، قال: لو كان العَدْلُ مَنْ لم يُذْنِبْ لم تَجِدْ عدلاً، ولو كان كُلُّ ذَنبٍ لا يمنع من العدالة لم تَجِدْ مجروحاً، ولكن مَنْ تَرَكَ الكَبَائِرَ، وكانت محاسنُهُ أكثرَ من مساوئه، فهو عَدْل. حكى معنى هذا عنه النواويُّ في " الروضة " (¬1). وقال عبدُ الله بنُ زيد في " الدُّرر" في تفسير لفظ العدل: ومعنى كونه عدلاً: أن يكون مؤدياً للواجباتِ، ومجتنباً للكبائِرِ من المستقبحات، وحديث أبي هريرة الذي قدّمناه في من غلب عدلُهُ جورَه يشهد لهذا. وما زال أهلُ الوَرَعِ الشَّحيح، والخوفِ العظيم يُقِرُّونَ بذنوبهم ويذمُّون أنفسَهم بذلك. وقد روى الأعمش عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه، قال: ¬
قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: لوْ تعْلَمُونَ ذُنُوبِي مَا وَطِىءَ عَقِبي اثْنَانِ، ولَحَثَيْتُم على رأسِي التُّرَاب، ولَوَدِدْتُ أنَّ اللهَ غَفَرَ في ذنباً من ذنوبي، وأني دُعيتُ عبدَ الله بنَ رَوْثةَ (¬1). وروى الأعمشُ، عن إبراهيم التَّيميِّ، عن الحارثِ بنِ سُوَيْدٍ، قال: أكثرُوا على عبدِ الله يَوْمًا، فقال: والله الذي لا إلهَ غَيْرُهُ لوْ تعلمون عِلْمِي، لَحَثيْتُمُ التُّرابَ على رأسي (¬2). قال الذهبي (¬3): رُوِيَ هذا مِن غير وجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه-. وقد روى علقمةُ عن أبي الدَّرداءِ أنه قال: إنَّ الله أجارَ ابن مَسعودٍ من الشيطان على لسان نبيِّه (¬4). وجاء مِنْ غير وجهٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كنْتُ ¬
مُؤَمِّرَاً أحَدَاً مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لأمَّرْتُ ابنَ أمِّ عَبْدٍ" (¬1) وقال -عليه السلام-: " رضِيتُ لأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابنُ أمِّ عَبْدٍ " (¬2) وجاء عنه -عليه السلام- أنه قال: " اهْتَدُوا بهَدْي عَمَّار، وتَمَسكوا بعَهْدِ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ " (¬3). ¬
فإذا كان مثلُ هذا الصاحِب الجليل يُقسِمُ بالله الَّذي لا إلهَ إلا هو لَوْ يَعْلَمُ الناسُ ذنوبَهُ، لَحَثَوْا على رأسه الترابَ، فكيف بمن هو دونَه من سائر المؤمنين؟!. والكلامُ في هذه الجملةِ يحتملُ التطويلَ، لتعلُّقه بالمصالح المرسلةِ وما يجوزُ منها، وما لا يجوز، وبالأقوالِ والحُجج في ذلك، وما يَرِدُ عليها، وما يُجَابُ به. وهذا بابٌ واسع، وبحر عميق، وليس القصدُ الاستيفاءَ، وإنما القصدُ التنبيهُ على مثارات الأنظار، وللناظر نظرة في مثل هذا. فهذه من المسائل الظنية، والأمرُ فيها قريبٌ إن شاء الله تعالى. فهذه مُقَوِّمَاتٌ لاعتمادنا في رواية الحديث على مرسل الثقة، وإنما يعتمد عليها في إسناد الحديث وتسميته مسنداً وترجيحِهِ على المرسل، لأن رجال المسند من أهل العلم الَّذِين دلَّت هذه الوجوهُ على قبولهم. فأما قبولُه ومعرفةُ صحته، فاعتمادُنَا فيه على قبول المرسل على الشروط التي قدمناها، كما ذلك مذهبُ الجماهير من الأئمة -عليهم السلام-، وإن قدَّرنا عدمَ صحةِ الطريق المسندة. ¬
السادس: أن كلام السيد مما يجب عليه النظر في نقضه .. هو تشكيك في القواعد الإسلامية .. فإنه شكك في صحة الأخبار النبوية .. ثم إنه شكك في قبول النحويين واللغويين على صحة الرواية عنهم
الجواب السادس: أن كلام السَّيِّد -أيَّده الله- مما يجب عليه النظر في نقضه، لأنَّه ليس مما يختصُ بمحمدِ بنِ إبراهيم، بل هو تشكيكٌ في القواعد الإسلامية، وتشكيكٌ على أهل الملَّة المحمّدية، وذلك أًنَّهم أجمعوا على حُسْنِ الرجوعِ إلى الكِتاب والسُّنة في جميع الأحوال على الإطلاق، وأجمعوا على وجوبِ ذلك على جميع المكلفين في بعض الأحوال. والسَّيِّد -أيَّده الله- بالغ في التشكيك على مَنْ أراد الرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، بحيث لو تصدَّى بعضُ الفلاسفة للتَّشكيكِ على المسلمين في الرجوع إلى كتاب ربِّهم الذي أُنزِل عليهم، والاعتمادِ على سُنَّة نبيهم الذي أُرْسِل إليهم، ما زاد على ما ذكر السَّيِّدُ، فإنه شكك في صحة الأخبار النبوية، وطعن في جميع طُرُقِها، وطرَّقَ الشك في إسلام رُواتها، وفي إسلام من استطاعَ أن يُشكِّكَ في إسلامه، حتى شَكَّكَ في إسلامِ الإمامين الكبيرين مالكٍ والشافعيِّ، فمنع من معرفة حديثِ الفقهاء، وأوجب معرفةَ رجال الأسانيد، ومعرفةَ عدالتهم وعدالة مَن عدَّلهم، وعدالة من عدَّل المعدل، وهذا غيرُ موجودٍ في حديث أهلِ البيت -عليهم السلام- لِقبولهم للمرسل، ولهذا لم يصنفوا في الجَرحِ والتعديلِ، ومعرفةِ الرجال، واختصرُوا ذِكْرَ الأسانيد، فإن ذُكِرَتْ في بعض كتبهم البسيطة التي لا تُوجد في هذه الأرض، فذكرها لا ينفع، بل ذكُرها يَضرُّ، وذلك لأن المُرْسَلَ مقبولٌ عند كثير من أهل العلم. وأما المسند فإنْ كان رجالُه معروفينَ بالعدالة، فمقبول بالإجماع، وإن كانوا غير معروفين، فمردودٌ عند من يقبل المرسلَ وعند من يشترط العدالةَ، والأسانيدُ الموجودة في كتب أهل المذهب مِن هذا القيد
بالضرورة، لأنه لا يُعرف أحوالُ رجالها إلا بالرجوع إلى كتب الفقهاء في معرفة الرجال. وأيضاً كثيرٌ من أهل البيت يقبل فُسَّاق التأويل، وقال المنصور بالله: هو الظاهِرُ مِنْ مذهبِ أصحابنا. وكثيرٌ منهم ادَّعى أن قَبولهم إجماع، ومن لا يقبلُهم، فإنه يَقْبَلُ مُرْسَلَ العدل الذي يقبلهم والذي لا يؤمن أنه يقبلهم، لأنهم نَصُّوا على قبول مرسل الثقة، ولم يشترطوا أن يكون الثقة ممن لا يقبلهم، فتطرَّف احتمالُ فسق التأويل إلى مُرْسَلِ أهلِ البيت - عليهم السلام- من يقبل المتأول ومن لا يقبل، وقد منع السَّيِّد مِن قبول كُلِّ حديث احتمل أن في رواتِه فاسِقَ تأويلٍ بمجرد الاحتمال، وقال: لا بُد من تبرِئةٍ صحيحة. وسيأتي تحقيقُ هذه النكتة في الإشكال الرابع؛ آخر الفصل الثاني من الكلام في المتأولين. فثبت بهذا أن السَّيِّد -أيَّده الله- سدَّ طريقَ معرفة السنَّة النبوية المروية مِن طريق العِترة، والمروية من طريق أهلِ الحديث، لأنَّه منع مِن قبول المرسل الذي مدارُ حديثٍ العِترة عليه، ومنع من معرفة عدالة أهل الأسانيدِ الَّتي مدارُ معرفة أهل الحديث عليها، ثم إنه شكَّك في معرفة معنى الحديث على تسليم صحته. وذكرَ صعوبةَ معرفةِ الناسخِ والمنسوخ، والخاصِّ والعامِّ، وغيرِ ذلك مما يأتي لفظُه ونَقْضُه، إن شاء الله تعالى. ثم إِنه سلك ذلك المسلكَ في معرفة تفسير القُرآن بما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، ووقوفِ العمل بالعام، والظاهر على معرفة
ما في السنة مما يُوجب تأويلَ الظاهر، وتخصيصَ العام مع تشكيكِهِ في معرفة السنة، فأشكل حينئذٍ معرفةُ معنى القرآن، ثم شكك في معرفة اللُّغة والعربية اللَّتيْنِ هما عمودُ تفسيرِ الكتاب والسنة، ثم منع صحتهما عن اللغويين والنحويّين، وصرَّح بأن اتِّصال الرواية الصحيحة بهم متعذِّرٌ. هكذا أطلق القول بهذا، وجزم به، وقطعه عن الشك والتردد، ولم يُبال بما يلزم منه مِن سدِّ باب رجوعِ المسلمين إلى كتاب ربِّهم -سبحانه وتعالى- الذي أنزله عليهم نوراً وهدىً وعِصْمَةً للمتمسك به أبداً، والقرآن الكريمُ هو عِصمةُ الأمة عند مَوْر بِحَارِ الضَّلالات إلى يوم القيامة، وليس عصمةً للقرن الأول من هذه الأمة، ولا لِلقَرن الثاني والثالث، بل هو حُجَّةُ الله العُظْمى على جميع عباده إلى يومِ يلْقَوْنَهُ. ثم إن السَّيِّد شَكَّكَ في قبول النحويِّين واللغويِّين على تسليمِ صحة الرواية عنهم، وثبوتِ اتِّصالها بهم، فقال: إن قَبولَها منهم على سبيلِ التقليدِ لهم. ومنع من التفسير بهذا الوجه، وهذا ما لم يَقُلْ به أحد. وليت شعري!! كيف الاجتهادُ في ثبوت لغة العرب؟ وهل ثَمَّة طريقٌ إليها إلا بقولِ الثقات، مثل ما أنه لا معنى للاجتهاد في ثبوت الأحاديث النبوية إلا قبول الثقات، ومتى كان قبول الثقات تقليداً عند السَّيِّد، فهل يُوجب على المجتهدين أن يُحيوا الموتى مِن العرب، ثم يسألوهم عن العربية فيأخذوها عنهم مشافهةً مِن غير تقليد؟! أو كيف السبيلُ عنده إلى معرفة اللغة العربية بعد منعه من قبول الرواة، وتعليله لذلك بكونه تقليداً لهم لا بكونهم مجروحين ولا مجهولين؟! فأما المتواتراتُ الضرورياتُ، فلا تكفي المجتهد، ولا تُسمَّى معرفتُها فقهًا ولا اجتهاداً. وقد أجمع العلماءُ مِن جميع طوائف الإسلام قديماً وحديثاًً على قبول الثقات فيما لا يدخله النظر
السابع: قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى} وقال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
والاجتهاد إلا مَنْ شَذٍّ مِن متكلمة البغدادية، وانطبق إجماع السَّلَفِ الصالح على ذلك قَبل حدوث هؤلاء المخالفين، وأصفق فضلاءُ الأمة، ونجوم الأئمة بعدَهم على ذلك، ودانوا به قَرْناً بعدَ قرنٍ ما أنْكرَ ذلك أحَدٌ، ولا شَكٍّ فيه مسلم. وقد أورد ابن الخطيب الرازي (¬1) في " محصوله " (¬2) هذه الشُّبهة بأطول من كلام السَّيِّد وأوسعَ، وهي إحدى دواهي كتابه، ولكنَّه هذَّبها على أسلوبٍ دقيقٍ يصعب على كثير من الناظِرين فيه كيفية الانفصالِ منه، لكنَّه أجاب عنها، ولم يسْكُتْ عليها كما فعل السَّيِّد -أيده الله-، والسيد منزَّه عن قصد التشكيك في الإسلام، ولكنه لما وَلِعَ بالتعنُّتِ في رسالته، لَزِمَه ذلك من غيرِ قصد، والتعنتُ والغُلُوُّ في الأمور يجر الإنسان إلى ما لم يقصد، ويجرُّ إليه ما يكره، ولهذا جاءت السنة بالاعتدال في جميع الأمور. الجواب السَّابعُ: قال الله تعالى في حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وقال اللهُ تعالى فيما أوحاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزالُ محفوظةً، وسُنَّتُه لا تبرح محروسةٌ، فكيف يكثر السَّيِّد -أيَّده الله- في تشويش قلوبِ الراغبين ¬
الثامن: وإن الصحابة عولوا على مجرد الخط العمل بما في الكتب التي كتب عليها العلماء الثقات خطوطهم بالصحة والسماع متى عرفنا أنها خطوطهم، وهي إحدى طرق الرواية وهي المسماة بالوجادة
في حفظها، ويوعِّرُ الطريق إلى معرفة معناها ولفظها. الجواب الثامنُ: أنَّ كتب الحديث وغيرَها مِن كُتُبِ الإسلام موجودةٌ بحمد الله في خزائن الأئمة والعلماء -رضي الله عنهم-، فلو قَدَّرْنا موتَ أهلِ العلم والعدالة، لجاز لنا أن نعمل بما في الكتب التي كتبت العلماءُ الثقاتُ عليها خُطُوطَهم بالصِّحة والسَّماع متى عرفنا أنها خطوطُهم، أو غلب صحةُ ذلك على ظنوننا بِالقرائن، أو أخبرنا بذلك من نثق به، وهذه إحدى طرائقِ (¬1) الرِّواية وهي المسمَّاة بالوِجَادَة (¬2)، وقد ذكرها الأصوليُّون والمحدِّثون. وقال الإمام المنصورُ بالله -عليه السلام- في " صفوة الاختيار ": فإن غلب على ظنِّه سماعُه، وعرف خطَّ شيخِه، أو خطَّ نفسه فيما يغلِبُ على ظنه أنها لا تقع إلا فيما سَمِعَه، فقد اختلفوا في ذلك، فحكى شيخُنا -رحمه الله- عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز له أن يرويه ... إلى قوله: وحكى عن أبي يوسفَ ومحمدٍ والشافعيِّ جوازَ روايته، ووجوبَ قبولِ خبره، والعمل به، وهذا غيرُ بعيد على أصلنا، بل هو الذي نختارُه، لأن أكثرّ الأخبار والشرائع منتهاها على غالب الظنِّ، والدليلُ على ¬
إحداهما: أن كثيرا من الأخبار والشرائع مبناها على الظن
صحته أن الصحابة اتَّفقوا على العمل بما هذا حالُه، وأجمعوا على ذلك، وإجماعُهم حجَّةَ، ولهذا فإنهم رجعُوا إلى كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وأخذوا كثيراً من الشريعة منه، وعوَّلُوا على مجرَّدِ الخَطِّ لما غلب على ظنهم صحتُه، وأنه بإملاء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الإمام المنصورُ باللهِ -عليه السلامُ- في " المجموع المنصوريِّ "، في الرسالة المعروفة " بالأجوبَة الرَّافِعة للإشكال الفاتحة للأقفال "، وقد أكثر من الاحتجاج بأشياء من سيرة الهادي -عليه السلامُ- ما لفظُه: فإن قيل: من أين لهم صحةُ ذلك؟ قلنا: هو مذكورٌ في سيرته، والرواية من الكتب المشهورة عندنا جائز وإن تعذَّرَ توصيلُ سماعها. فإن قيل: وَمِنْ أين يجوزُ ذلك؟ قلنا: دليلُه كتابُ عمرو بن حزم، فإنّ المسلمين رجعوا إليه وفصَّلُوا به الأحكام وبَعَّضوا القضايا، وليس معهم منه إلا مجرَّدُ الخطِّ والنِّسْبَةِ، وأجمعوا على ذلك، فلذلك قلنا: تجوز رواية الكتب المشهورة التي هي مضافة إليه وإن لم تكن سماعاً مفصَّلاً، فَتَفهَّمْ ذلِك موفَّقاً. انتهي بحروفه. وفيه ما ترى مِن التصريح بأن الصحابة عَوَّلُوا على مُجرَّدِ الخطِّ لما غَلَبَ على ظنهم صِحته. وقد احتجَ -عليه السلامُ- في كلاميه هذين بحجتين: إحداهُما: أن كثيراً من الأخبار والشرائع مبناها على الظَّنِّ. وسيأتي ¬
ثانيهما: كتاب عمرو بن حزم، وهو كتاب مشهور تلقاه أهل العلم بالقبول
تقريرُ هذا الدليلِ في الجواب التاسِعِ -إن شاء اللهُ تعالى-. وثانيهما: كتابُ عمرو بنِ حزم، وهو كتابٌ مشهورٌ مستفيض، وفيه كلامٌ كثير ذكره الحافظ ابنُ كثير (¬1)، البُصرويُّ، وقد اختصرتُه لِطوله، ولكنِّي أشيرُ إلى بعضه، فأقول: قال ابنُ كثير: قد رُوِيَ هذا الحديثُ مسنداً ومرسلاً، أمَّا المسند: فرواه جماعةٌ مِن الحفاظ، وأئمة الأثر، فرواه النسائي في " سننه "، والإمام أحمد في " مسنده " وأبو داود في كتاب " المراسيل " (¬2)، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارميّ، وأبو يعلى المَوْصلي، ويعقوب بن سفيان في " مسانيدهم "، ورواه الحسنُ بنُ سفيان الفَسوي، وعثمان بنُ سعيد الدارميُّ، وعبدُ الله بن عبدِ العزيز البغوي، وأبو زرعة الدمشقيُّ، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصُّوفي الكبير، وحامد بنُ محمد بن شُعيب البلخيُّ، والحافظ الطبرانيُّ، وأبو ¬
حاتم بنُ حِبان البُستي في " صحيحه " من طريق سليمانَ بنِ داود (¬1) الخَولانيُّ مِن أهل دمشق، وقال: هو ثقة مأمون. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتِم الرَّازِيَّان، وعثمانُ بنُ سعيد الدَّارميّ وجماعة من الحفاظ، ورأوا هذا الحديثَ موصولَ الإسناد حسناً. وأمَّا المرسلُ، فقال ابنُ كثيرِ: وقد رُوِي مرسلاً من وجوه أُخر، كما رواه يونسُ بنُ يزيد، رواه عنه النسائي وأبو داود. وكذا رواه سعيد بن عبد العزيز رواه عنه النسائي. ورواه الشافعيُّ عن مالك، عن عبدِ الله بنِ أبي بكر بنِ محمد بنِ عمرو بنِ حزم عن أبيه مرسلاً، وكذا رواه الشافعي أيضاًً، عن مسلم بن خالد، عن ابن جُريج، عن عبد الله بن أبي بكر مرسلاً. قال ابن جريج: فقلت لعبد الله بن أبي بكر: أفي شك أنت أنه كتابُ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. ورواه عثمانُ بنُ سعيد الدَّارِميُّ، فقال: حدثنا نُعيمُ بنُ حماد، عن ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن عبدِ الله بن أبي بكر بن عمرو بنِ حزم، عن أبيه، عن جدِّه، فذكره بطوله، وقد أشار إلى نحوِ هذا الطريق أبو أحمد بنُ عديّ. قلت: وذكر ابنُ كثير اختلافاً في صِحة الطريق الأوَّلِ من طُرق هذا الحديثِ وطوَّل الكلامَ في ذلك، ثم قال: وعلى كل تقدير، فهذا الكتابُ متداولٌ بَيْن أئمة الإسلام قديماً ¬
وحديثاًً، يعتمدُون عليه، ويفزعون في مُهِمَّات هذا الباب إليه، كما قال الحافظ يعقوبُ بنُ سفيان (¬1): ولا أعلم في جميعِ الكُتُبِ كتاباً أصحَّ مِن كتابِ عمرو بنِ حزمٍ، كان أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والتَّابعونَ يرجعُون إليه وَيَدَعونَ آراءهم. وقال سعيدُ بنُ المسيِّب: قضى عُمَرُ بنُ الخطَّاب في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشرٍ، وفي الوَسَطٍ بعشرة، وفي التي تلي الخِنصر بتسع، وفي الخِنصر بستٍّ، فلما وُجِدَ كتابُ عمرو بن حزم وفيه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وفي كُلِّ أصْبُعٍ مما هنالك عَشْرٌ من الإبل " صاروا إليه. رواه الشافعيُّ والنسائيُّ (¬2)، وهو صحيح إلى سعيد بن المسيِّب. فهذه هي الطريقُ الثانية المرسلة. واعلم: أنَّ المنصورَ بالله -عليه السلام- قد احتجَّ بهذا الحديثٍ، وأشار في الاحتجاج به إلى الاعتماد على الإجماع على العمل به، وذلك واضح في كلامه، وقد طابقه على ذلك الحافظُ يعقوبُ بنُ سفيان، ونسب العملَ بِهِ إلى الصحابة والتابعين، وكذلك الحافظ ابنُ كثير البُصْرويِّ، فإنه ذكر ما هو في معنى دعوى الإجماع، كما تقدم. وقد خالف جماعةٌ من الحُفَّاظِ في بعض طُرُقِ هذا الحديثِ، وذلك لا يضُرُّ بعدَ ثبوتِ الإجماع على العمل به، ولعلَّهم لم يَعْرِفُوا هذا الإجماعَ، ومن عرف حجةٌ على من لم يعرف، إلا أن يكون خِلافُهم مخصوصاً بتلك الطريق مع الاعتراف بصحة الحديث من غيرها، فلا إشكالَ حينئذٍ. فهذا الكلام انسحب مِن ¬
أقوال العلماء في الرجوع إلى الخط
كلام المنصورِ باللهِ -عليه السلامُ- لبيانِ صِحَّةِ الحديثِ الذي احتج به -عليه السلامُ-. ثم لِنَعُدْ إلى حكاية أقوالِ الأئمة والعُلماء في الرجوع إلى الخطِّ، فمن ذلك كلامُ الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-، فإنه ذكر في كتاب " المعيار " طُرُقَ الرِّواية إلى أن قال: ورابعُها أن لا يكون متذكراً لسماعه ولا لقراءته لما في الكتاب، لكنه يَظُنُّ ذلك، لما يرى مِن خَطِّه أو قرينة غير ذلك، فهذا مما قد وقع فيه خلافٌ بَيْن العلماءِ، فذهب بعضُ أئمة الزيدية أن ذلك لا يجوز، وهو رأي الحنفية، وذهب الشافعيُّ إلى جوازه، وهو رأي أبي يوسف، ومحمد، واختاره ابنُ الخطيب الرازيُّ. والمختارُ عندنا: هو جوازُ العمل على ذلك، دون الرِّواية، لأن العمل إنَّما مستنده غلبةُ الظَّنِّ، وهذا حاصل ها هنا، فأمَّا الرِّواية، فلا بد فيها من أمر وراء ذلك، وهو القطع بمستندٍ يجوز معه الرِّواية. انتهى. فانظر إلى تصريحه -عليه السلام- بأن العمل إنما مستندُه الظنُّ، وإتيانه بـ " إنما " المفيدة للحصر على سبيل المبالغة، لما كان هذا هو الغالبَ، وإلا فالعلم مستند للعمل صحيح، ولكن على سبيلِ الاتفاق، لا على سبيلِ الوجوب المتحتم، فلا يُشترط لذلك إلا الظَّنُّ، وانظر إلى قوله -عليه السلام- لما يرى من خطِّه أو قرينة غير ذلك، فأجاز العمل بأي قرينةٍ حصل معه الظَّنُّ، فانظر إلى تعليله بجواز العمل، وعدم جواز الرِّواية، فإنه واضح في بيان مقصده أنه يجوز العمل بالظَّنِّ الذي لا تَحِلُّ معه الرواية. وقال الإمامُ المهدي محمدُ بن المطهر -عليه السلام- في كتابه
أحد الطرق عند بعضهم: يجوز أن يروي عن الخط من غير قراءة
" عقود العِقيان " في تفسير قوله -عليه السلام- في القصيدة: رَوَيْنَا سَمَاعاً عَنْ عَلِيمٍ مُحقِّقٍ ... أبي القَاسِمِ الحَبْرِ المُفَسِّرِ بالفضل قال -عليه السلام- ما لفظه: إن قيل: وهل يجوز أن يروى عن الخطِّ مِن غير قراءةٍ؟. قلتُ: هو أحدُ الطُّرُقِ عند بعضهم، وهو الذي اختاره حي سيِّدي ووالدي أميرُ المؤمنين -قدَّس الله رُوحَه ونوَّر ضريحَه- والوجه في ذلك أن كتابَ عمرو بنِ حزم روى عنه الجماعةُ مِن أرباب المواهب، وليس إلا أنه أخرجه من غيرِ سندٍ. فإذا صحَّ أن الكتابَ مسموع، وعليه خطوطُ الشيوخ، صحَّ للراوي أن يرويَ عنه، كان طريقاً للسَّماع، وقد أشار إلى ذلك الإمامُ المتوكلُ على الله أحمد بنُ سليمان -سلامُ الله عليه ورضوانُه- ونحوه عن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- ذكرها في " الصفوة " وغيرها. انتهي كلامُه -عليه السلام- منقولاً من خطِّ يده المباركة. فهؤلاء خمسة من نجوم أئمة العِترة -عليهم السلامُ- أحمد بن سليمان، والإمامُ المنصور بالله -عليه السلام-، والإمامُ يحيى بنُ حمزة، والإمام المطهر بن يحيى، والإمام محمد بن المطهر -عليهم السلام- أجازوا ما ذكرناه. وقال الحاكم (¬1) في " شرح العيون ": إذا وجد في كتابه بخطِّه، وعلم أنه سمعه على الجملة، ولا يعلم أنه سمعه مفصَّلاً معيناً، فإنه يجوز له أن يَرْوِيَه، وهو قولُ أبي يوسفَ، ومحمدٍ، والشافعي، وأكثر العلماء. وثانيها: أنه إذا علم في الجملة أن ما في كتابه سَمِعَهُ، ولا يذكُرُ متى ¬
ثالثها: إذا رأى في كتابه بخطه وظن أنه سمعه، غير أنه لا يتيقن
سَمعَ، ولا كيف سَمِعَ، فإنه يجوزُ له أن يرويَ ويقبل عنه. قال القاضي: ويجب أن لا يقعَ فيه خلافٌ بينَ العلماء. وثالثها: إذا رأى في كتابه بخطه، وظن أنه سمعه، غير أنه لا يتيقن، غير أنه يظن أنه لم يثبته بخطِّه إلا وقد سمعه مع تجويز خلافه، فعند أبي حنيفة لا يجوز أن يروي وهو اختيار القاضي وأكثر المتكلمين، وعند جماعة من أصحاب الحديث يجوز أن يروي إلى قوله في الاحتجاج على العمل على الكتابة، لأنَّ الصحابة والتَّابعين كانوا يَرْوُون مِن الكتب مِن غيرِ نكير، مع علمنا أنهم كانوا لا يتذكَّرون تفصيلَ ما فيه، ولأن الصحابة كان بعضهم يعْمَلُ على كتاب بعض. ألا ترى أن عُمَرَ كان يكتُبُ إلى عُمالِه وقُضاتِه، فيعملون بذلك (¬1). وكذلك كتب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الشيخ أبو الحسين في كتاب " المعتمد " (¬2): وقد ذكرنا ما يفعل إذا علم سماعَه، وإذا لم يعلم ولا يظنُّ، ثم قال: ومنها أن لا يذكُرَ سماعَه لما في الكتاب، ولا قراءتَه له، ولكنه يَغْلِبُ على ظنه سماعُه له، أو قراءتُه، لما يراه من خطِّه، فهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ الناسُ اختلفوا فيه، فعند أبي حنيفة أنه لا يجوز له أن يرويه، ولا أن يَعْمَل به، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعيِّ يجوز له الروايةُ، ويجب العملُ عليها، لأن الصحابة كانت تعمل على كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو عملها على كتابه إلى عمرو ¬
إذا ظن أنه خطه أو خط أستاذه تقبل روايته واحتج بوجهين:
ابن حزم من غير أن يَرْوِيه لها راوٍ، بل عَمِلُوا لأجل الخطِّ، وأنه منسوبٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبدُ الله بنُ زيد في كتاب " الدرر المنظومة ": لا خلاف أنه متى عَرَفَ خطَّه أو خطَّ أستاذه، وعلم أنه لا يكتُبُ إلا ما سَمعه، قُبلَتْ روايتُه، وإنما اختلفوا إذا ظَنَّ أنه خطُّه أو خطُّ أُستاذه، فمذهبُنا أنها تُقبل روايتُه، وهو مذهبُ طائفة من العلماء، واحتج بوجهين: الأول: أن من بحث عن الأخبار، علم أنه -صلى الله عليه وآلهِ وسلم- كان يكتُبُ إلى الآفاق، ويعمل على ما يأتيه مِن الكتب بالإسلامِ وغيره. الثاني: أن الصحابة أجمعت على ذلك، فإن من عرف الأخبار، عَلِمَ ذلك عنهم، ولهذا عَمِلُوا على كتاب عمرو بن حزم مع ما فيه من الأحكام الكثِيرَة من النُّصُب والدِّياتِ وغيرِ ذلك. وقال الرازي في " المحصول ": (¬1) ورابعها: أن لا يتذكَّر سماعَه، ولا قراءَته لما فيه، لكن يَظُنُّ ذلك لما يرى مِن خطه، ثم حكى الخلاف كما تقدَّم. ثم قال: لنا الإجماع والمعقول، أمَّا الإجماع، فهو أن الصحابة كانت تعمل على كُتُبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نحو كتابه لِعمرو بنِ حَزْمٍ مِن غير أن يقال: إن راوياً رويَ ذلك الكتابَ لهم، وإنَّما عملوا لأجل الخطِّ، وأنه منسوبٌ إلى الرسول، فجاز مثله في سائر الرواة، وأما المعقولُ، فلأن الظنَّ هنا حاصل، والعمل بالظن واجب انتهى. قلتُ: أكثرُ ما احتجَّ به من تقدَّم ذكرُه حديثَ عمرو بن حزم ويمكن ¬
الاحتجاجُ ها هنا بغيره، من ذلك الحجةُ العقلية في العمل بالظنِّ، وتقريرها معروف وهي قويِّة جداً. ومنها حديثُ ابن عمر مرفوعاً: " ما حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ لَه شَيءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن إلا وَوَصِيَّتُه مَكتُوبَةٌ عِنْدَهُ " متفق على صحته (¬1). قال ابن تيميَّة عبد السلام (¬2): رواه الجماعة، واحتج به منْ يَعْمَلُ بالخَطِّ إذا عُرِفَ. قلتُ: العلة في المعرفة ظن الصحة، فالتعليلُ به أولى من المعرفة. ومنها عن ابن عباسٍ لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] قال: كان قومٌ بمكة قد أسلموا، وكانوا مستخفين بالإسلام، فلما خرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر وخرج المشركون، أخرجوهم معهم مكرهين، فأصيب بعضُهم يومَ بدرٍ مع المشركين، فقال المسلمون: أصحابنا هؤلاء كانوا مسلمين، أخرجوهم مكرهين، فاستغفِروا لهم، فنزلت، كتبوها إلى منْ بَقِيَ منهم بمكة، فخرجوا حتَّى إذا كانوا ببعض الطَّرِيقِ ظهر عليهم المشركون وعلى خروجهم، فلحقوهم، فردُّوهم، فرجعوا معهم فنزلت {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. فكتب المسلمون إليهم بذلك فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ ¬
الوجادة وحكمها
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم} [النحل: 110] فكتبوا إليهم بذلك. رواه البزَّار برجال الصحيح غير محمد بن شريك وهو ثقة. وروى البخاري بعضَه، قاله الهيثمي (¬1). وفيه عملُهم الجميع بالخطِّ بالفطرة، كما عَمِلُوا بخبر الثقة بالفطرة، وظهور ذلك من غير نكير يقتضي إجماعهم، وهو حجة شرعية. وقال الشيخُ الحافظُ ابنُ الصلاح في كتابه " علوم الحديث " (¬2) -ما لفظه-: القسم الثامِنُ: الوِجَادة، وهو مصدر أوجد يجِدُ مُوَلَّدٌ غيرُ مسموعٍ من العَرب. وروينا عن المعافى بن زكريا النَّهرواني العلاَّمة في العلوم: أن المولَّدِين فرَّعُوا قولَهم وِجَادَة فيما أُخِذَ من العلم مِن صحيفة، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة من تفريق العرب بين مصادرِ وجَد للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولَهم: وجَدَ ضالَّته وُجْدَاناً، ومطلوبه وُجوداً، وفي الغضب مَوْجِدَةً، وفي الغنى وُجْداً، وفي الحبِّ وَجْداً. ¬
مِثالُ الوِجادَة: أن تَقِف على كتاب شخص فيه أحاديثُ يرويها بخطِّه، ولم يلقه أوتقِيه، ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطِّه، ولا له منه إجازة ولا نحوها، فله أن يقول: وجدتُ بخطِّ فلان أو قرأتُ بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطه أخبرنا فلانُ بنُ فلان، ويذكر شيخه، ويسوق سائر الإسناد والمتن. هذا الذي استمر عليه العملُ قديماً وحديثًا، وهو مِن باب المنقطع والمرسلِ غير أنه أخذ شوباً من الاتِّصال بقوله: وجدتُ بخط فلان. وإذا وجد حديثاًً في تأليفِ شخص، وليس بخطِّه، فله أن يقول: ذكر فلان، أو قال فلان، وهذا منقطع لم يأخذ شوباً من الاتصال. وهذا كُلُّه إذا وَثِق بأنه خطُّ المذكور وكتابُه، فإن لم يكن كذلك، قال: بلغني عن فلان، أو وجدت عن فلان أو نحو ذلك من العبارات، ولْيُفْصِحْ في المستند فيه بأن يقول ما قاله بعضُ من تقدَّم: قرأتُ في كتاب فلان بخطه، وأخبرني فلان أنه بخطه، أو يقول: وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو في كتاب ذكر كاتبه أنه فلانُ بن فلان، وفي كتاب قيل: إنه بخطِّ فلانٍ، فإذا أراد أن يَنْقُلَ مِن كتابٍ منسوبٍ إلى مصنف، فلا يقل: قال فلان كذا وكذا، إلا إذا وَثِقَ بصحةِ النُّسخةِ بأن قابلها هو، أو ثقة غيره على أصول متعدِّدَةٍ، كما نبَّهنا عليه في آخِرِ النوع الأول. قلت: قال النواوي في " شرح مسلم " (¬1) -وقد ذكر قول ابنِ الصَّلاح هذا-: بل يكفيه أن يُقابِلَ الكتابَ على أصْلٍ واحدٍ صحيحٍ ولا يجبُ أن يُقابل على أصولٍ متعدِّدة. ¬
قلتُ: صدق النَّواوي، فإن الظَّنَّ يحصلُ بالمقابلة على أصلٍ صحيح، وإن كان واحداً. قال ابنُ الصلاح: فإذا لم يُوجَدْ ذلك ولا نَحْوُه، فليَقُلْ: بلغني عن فلان، أو وجدتُ في نسخة من الكتاب الفلاني، وما أشبه هذا من العبارات. وقد تسامَحَ أكثرُ النَّاس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحدٍّ وتثبتٍ، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معيَّن، وينقل منه عنه مِن غير أن يَثِقَ بصحة النسخة قائلاً: قال فلان كذا وكذا، أو ذكر فلانٌ كذا وكذا. والصواب ما قدَّمناه، فإن كان المطالعُ عالماً فَطِناً بحيث لا يخفي عليه في الغالب مواضِعُ الإسقاط، وما اختلَّ عن جهته رجونا أن يجوزَ له إطلاقُ اللفظ الجازم فيما يحكيه مِن ذلك. وإلى هذا فيما أحْسِبُ استروح كثيرٌ من المصنفين فيما نقلوه من كُتُبِ الناس، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى. هذا كُلُّه كلامٌ في كيفية النقل بطريق الوِجادة. وأما جوازُ العمل اعتماداً على ما يُوثَقُ به منها، فقد روينا عن بعض المالكيَّة: أن مُعظم المحدِّثين والفقهاء من المالكيِّين وغيرهم لا يَرَوْن العَمل بذلك. وحُكيَ عن الشَّافعي وطائِفةٍ من نُظَّارِ أصحابه [جواز العملِ به، قلت: قَطع بعضُ المحققين من أصحابه] (¬1) في أصول الفقه بوجوبِ العملِ به عند حصولِ الثِّقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة ¬
المحدثين لأبَوْهُ، وما قطع به هُوَ الذي لا يَتَّجِه غيرُه في الأعصارِ المتأخرةِ، فإنه لو توقَّف العملُ فيها على الرِّواية، لا نسدَّ بابُ العمل بالمنقول، لتعذَّر شرطُ الرواية فيها على ما تقدَّم في النوع الأول -والله أعلم-. انتهي كلامُ ابن الصلاح. وفي كتاب " المعتمد " (¬1) لأبي الحسين عن قاضي القُضاة ما يشهد لقوله: إنه يجوزُ لِلعالم الفَطِنِ بمواضع الأغلاطِ أن يقول فيما يَنْقُلُ: قال فلان، متى ظنَّ الصدق في ذلك، جازماً بنسبة القول إلى المصنف -وهذا لفظه في " المعتمد "- قال: وأمَّا ترجيحُ المُرْسَلِ على المسندِ، فلم يذهب إليه أكثرُ النَّاسِ، وذهب عيسى ابنُ أبان إلى الترجيح بهِ، لأن الثقة لا يُرسِلُ الحديثَ، ويقول: قال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا وقد وَثِقَ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قاله. قال قاضي القُضاة: هذا الكلامُ إنما يتوجَّهُ إذا قال الرَّاوي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا قال: عن النبيِّ، فإنه لا يتوجَّه، وأيضاً فإن قولَ الراوي: قال النبي -عليه السلام- يَحْسُنُ مع الظن، لكونه قائلاً لذلك كما يَحْسُنُ مع العِلْمِ، فَمِنْ أين أنه لم يقل: قال النبيُّ، إلا وظنُّه آكد مِن الظن الحاصِل برواية المسند المعارض. انتهى. وقد اختلف العلماءُ في جواز عمل القاضي بكتاب قاضٍ آخرَ إليه في حقوق المخلوقين مع ما فيها من التشديد الذي لم يَرِدْ في الرواية، فحكى الرَّيْمِي (¬2) في " المعاني البديعة " عن الإمام مالكٍ، والحسنِ البصري، ¬
التاسع: لو قدرنا صحة ما ذكره السيد من اختلال طريق المعرفة لهذه الشريعة لم يسقط وجوب العمل بالمظنون
وسوَّارٍ القاضي، وعبد الله بنِ الحسن العنبري، وأبي يوسف: إذا عرف المكتوبُ إليه خطَّ الكاتب، وختْمه، جاز له قبولُه والعملُ به، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، وعند أبي ثورٍ يجوزُ العَمَلُ بموجبه وقبولِهِ مِن غير شهادة عليه، ونسب مرةً ذلك إلى مالك وقال: في إحدى الروايتَيْنِ عنه. الجواب التاسعُ: لو قدَّرنا صحةَ ما ذكره السَّيِّد من اختلال طريقٍ المعرفة لهذه الشريعة -وصانها الله تعالى عن ذلك- لم يَسْقُطْ وجوبُ العمل بالمظنون، وذلك لأن الأخبارَ الواردةَ في الواجبات والمحرَّمات، إمَّا أن نَظُنَّ صِدقَها أو لا؛ إن لم نَظُنَّ صدقَها، لم نخالف السَّيِّد في عدمِ وجوب العمل بها، وإن ظننَّا صدقها، ففي مخالفتها مضرَّةٌ مظنونةٌ وهي مضرَّةُ العِقاب على ترك الواجب وارتكابِ الحرام، ودفعُ المضرةِ المظنونة عن النفس واجب عقلاً. وهذا الدليلُ عوَّل عليه السيدُ الإمام أبو طالب، والإمام المنصورُ بالله - عليهما السلام، وكذلك الشيخُ أبو الحسين -رحمه الله- وسيأتي تحقيقُه، وهو قائم في كل خَبَرٍ من أخبار المتأوِّلين، والمجاهيل، والمجروحين بجرحٍ مختلفٍ فيه أو بجرح مطلقٍ غيرِ مفسَّر، وفيما يُوجد بخطوط العلماءِ في الكتب وغيرِ ذلك متى أفاد الظنَّ، إلا ما أجمعت الأمةُ على ردِّه من أخبار الكفَّار المصرِّحين، والفساقِ المصرِّحين. الجواب العاشر: أنَّه لو صحَّ ما ذكره السَّيِّد -والعياذُ بالله- من ¬
الاستدلال بالإجماع على تقليد الموتى لا يصح بوجهين:
انطماسِ معالم العلم، وتعفي رسوم الهُدى إلا تقليد الموتى، للزِم من ذلك أن تبطل الطريق إلى جواز تقليد الموتى، لأن التقليد لهم لا يجوز إلا بدليل يستند إلى معرفة الكتاب والسنة، والاستدلالُ بالإجماع على تقليد الموتى لا يصح بوجهين: أحدُهما: أنه قد ادُّعي الإجماعُ على تحريمه. رواه المؤيَّد بالله -عليه السلام- في " الإفادة " في باب كيفية إزالة المنكر -ولفظُه-: وكثير من العلماء قالوا: إنه لا يجوز تقليدُ الميِّت، وادَّعوا الإجماعَ في ذلك. انتهي بحروفه. فالرجوع إلى الإجماع يُوجِبُ المنع منه. الثاني: سلَّمنا أنه لم يَصِحَّ الإجماعُ على تحريمه، فلا شك أن قولَ الجماهيرِ من المعتزلة والزيدية تحريمُه، فأمَّا إجماعُ العامَّة عليه في الأعصار المتأخرة، فلا يُعتبر، إذ لا عِبرة في الإجماع بالعامة منفردين بالاتفاق، وانعقادُ الإجماع بعد الخلاف الكثير الشائع متعذِّر عادة، ولو سلمنا هذا الإجماع، فهو إجماع ظنيٌّ لا تثبت صحتُه إلا اجتهاداً بالاتِّفاق، وذلك لا يصح إلا معَ صحة الرجوعِ إلى الكتاب والسُّنَّةِ والقياس، والاستدلالُ بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل: 43] يحتاج إلى معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصة ولا معارَضة، ويحتاج إلى معرفة معناها، فهذان أمرانِ: أحدهما: معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصَةٍ ولا معارَضة، والمعرفة لهذا تنبني على أن هنا سنة معروفة، وإلى معرفة ما فيها طريق مسلوكة بها يعرف أن فيها ناسخاً ومخصصاً ومعارضاً، أو وأنه ليس فيها شيءٌ من ذلك. والاستدلال بالأخبار يحتاج أيضاً إلى بقاء طريق الأخبار. وثانيهما: معرفةُ معناها، ولا بُدَّ فيه من النظر، إذ ليسَ معلوماً
بالضرورة، فاحتاج الناظرُ فيه إلى أن يكون من أهل الاجتهاد. فإن قلت: إن دلالتَها على التقليد جليةٌ لا تحتاج إلى اجتهاد. قلتُ: ليس كذلك، فإن في معناها غموضاً واختلافاً. والذي يدلُّ على ذلك: أنَّ السؤال من الأفعال التي تتعدَّى إلى مفعولين، تارةً بواسطة حرف جر مثل: سألت العالم عن الدَّليل، وتارة بغير واسطة مثل: سألت الأمير مالاً، وسألت العالمَ دليلاً. إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لا بُدَّ من مسؤول ومسؤول عنه، فالمسؤول في الآية مذكورٌ وهم أهلُ الذكر، والمسؤول عنه محذوف، فالقولُ بأن المسؤولَ عنه هو أقوالُ المجتهدين مِن هذه الأمة دعوى مجردة عن الأدلة مما لا يدل عليه دليل. وهذا المحذوف يحتمل أن يكون هو الأدلة، ويحتمل أن يكونَ هو المذاهبَ من غير أدلة. وقد قال بعضُ العلماءِ وهو السُّؤال عمَّا أنزل الله لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] فلما أُمرنا بسُؤالِ أهلِ الذِّكر، وكان الظاهرُ أنه أُمرنا بسؤالهم عما أُمرنا باتباعه مما أنزله علينا من الشرائع، وهذه الأقوال كُلُّها ضعيفة فيما يَظْهَرُ على اعتبارِ قواعد العربية، والمختار: أن المرادَ السؤالُ عن الرُّسُلِ: هل كانوا بشراً أم لا؟ لأن ذلك هو المذكورُ في أوَّل الآية، والعرفُ العربي يقضي بأنَّ ذلك هو المرادُ، والقرائن تسُوقُ الفهم إليه. فإنه تعالى لما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي (¬1) إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} [النحل: 43] كان السابقَ إلى الأفهام: فاسألوهم عن كوننا ما أرسلنا إلا رجالاً، كما لو قال القائل: واجهتُ اليومَ الخليفةَ ¬
وسأل وزراءَه، كان المفهوم: وسألهم عن كوني واجهته، وهذا الذي ذكرت أنه المحذوفُ هو الذي اختاره العلامةُ الزمخشري (¬1) -رحمه الله- لم يَذْكُرْ سواه، ولكن لم يذكرِ الوجهَ في ذلك لجلائه. وأيضاً فقوله: {إن كنتُم لا تَعْلمونَ} يفهم منه: أن الحكمة في سؤالهم الخروجُ مِن الجهل إلى العلم، أو يحتملُ ذلك، وهذا مانع مِن الاستدلال بها في التقليد. والذي يَدُلُّ على ذلك أن مَنْ قال: اشرب إن كنتَ ظامئاً، فُهِمَ منه أن المرادَ شربُ ما يُزيلُ الظمأ، فلو أن المأمورَ شَرِبَ سمناً أو عسلاً، وزعم أنه أراد امتثالَ ما أمر به، لعُدَّ أعجميَّ اللسان، أو بهيميَّ الجنان، وكذلك قولُه تعالى، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فإنَّه يُفِيدُ سؤالاً يُخْرِجُ من الجهل إلى العلم، ولا شَكَّ أن التقليدَ لا يُفيدُ العلمَ بالإجماع، ولهذا لم يَحِلَّ التقليدُ في المسائل التي يجبُ العلمُ بها، ويمكن أن يقال: إنما فهم ذلك في قوله: اشرب إن كنت ظامئاً بالقرينة، ولذا يفهم عكسُه بالقرينة في قوله: سَلِ الأغنياءَ إن كنتَ فقيراً، فلا يفهم سؤالاً يُغني ويُخرج من الفقر. وقد يتجرد الشرط عن القرائن في الجنبتين، فلا يُفيد شيئاً، كقوله: صَلِّ إن شئت، ولكن في الآية مجرد احتمال، وهو مما يمنع القطعَ في الاستدلال. فإن قيل: إنها مما ورد على سببٍ، ولا يُقصر عليه. قلنا: ليسَ كذلك، لأن شَرطَ ذلك عمومُ لفظه ومعناه، ولفظ هذه الآية فيه حذف، فهو غيرُ ظاهرٍ، ومعناها خاصٌّ غيرُ عام، والعجب أن الأصوليين استدلوا بهذه الآية على جواز التقليد، من غير بيان لوجه ¬
الدَّلالة، ولا ذكر لهذا الإشكال مع جلائه. وأما الاستدلال بالإجماع على جواز التقليد، فإنه يحتاجُ أيضاً إلى معرفةِ الكتابِ والسنةِ، لأنهما هما اللذان دلاّ على أن الإجماعَ حُجَّة، والأدلة من الكتاب على أن الإجماع حجَّة هيَ من الظواهر، ولا بدَّ من معرفة عدم النسخ والمعارض والمخصص. وأيضاًً قد منع السَّيِّد من معرفة اللغة، وقطعَ القولَ وجزمه بتعذُّرِ معرفتها، ومعاني الكتاب والسنةِ المستنبطِ منها جوازُ التقليد، وكونُ الإجماع حجَّةً مما يفتقِرُ إلى معرفة اللغة فإذا بَطَلَ معرفة تفسير القرآن، وبطلت طريق معرفة الأخبار، بطل أيضاًً ما هو فرعُ معرفة ذلك مِن جواز التقليد، فيلزم بطلانُ التكليف تقليداً واجتهاداً. فإن قلتَ: هلا جوَّزتَ أن تُقَلِّد في كون التقليد جائزاً. قلت: هذا لا يجوزُ على القول بأن أصل التقليد القبحُ إلا ما خصَّه الدليلُ، وهو قولُ المعتزلة والزيدية، وأكثرِ المتكلمين، ولا أعلم أحداً من أهل المذهب نصَّ على جوازه. ودليلُهم على أنه لا يجوز: أن العموماتِ قد دَلَّت على تحريمه، والتقليد إنَّما جاز في المسائل التي أفتى فيها الصحابةُ، ولم يذكروا الدليلَ كما قرَّره السَّيِّدُ الإمامُ أبو طالب -عليه السلام-، والصحابة إنما أفْتَوْا بمسائل الفروعِ دونَ مسائل أصولِ الفقه، وهذا الحكم مما نَظُنُّ أن السَّيِّد لا يُنازِعُ فيه، فلا حاجة إلى التطويل فيه. فثبت بهذا أنه لا بُدُّ مِن صحة الرجوعِ إلى القرآن العظيم، والسنة الشريفة، وأن الطريقَ إلى معرفتهما متى تعذَّرت، تعذَّرَ الاجتهادُ والتقليدُ.
الحادي عشر: أنه لو تعذر الاجتهاد في جميع المسائل لتعسر شروطه، لتعذر التقليد في جميع المسائل
وأما قول السَّيِّد: إنه يجوز التقليدُ في القطعيَّات والعمليَّاتِ لمن وافق الأدِلَّة القطعيَّة عملاً لا اعتقاداً دون من خالفَهَا، فهذا يحتاج إلى تمييز المقلد بين القطعيَّات والظنيّاتِ وحصرها، وهو يؤدي إلى إيجابِ الاجتهادِ عليه. وقد فَهِمَ هذا السَّيِّدُ، فأجاب بأنه مكلَّفٌ بالسؤال والبحث عن القطعيات حتى يتواتَرَ ذلك، وبعد تواترِ القطعياتَ، لا يَحِلُّ له تَقليدُ منْ خالَفَهَا، ذكره في آخر جوابه على ابن عثمان. والجواب: أن هذه غفلة عظيمة، فإن شرط المعلوم بالتواتر أن يستند في الطَّرَفِ الأول إلى الضرورة المحسوسة وهذا إجماع، ولولا ذلك لتواتر للعامة أن الله ربُّهم، واسْتغْنوْا بذلك عن غيره، فاعلم ذلك على أن في القطعيات ما يختلِفُ العلماءُ: هل هو قطعي كالقياسِ الجليِّ والتأثيم به والتفسيق والتكفير، على أن ابن الحاجب وغيرَه من المحققين منعوا مِن وجودِ القطعيِّ الشرعي غيرِ الضروري، وحكموا بأنَّه لا واسطةَ بين الظَّنِّ والضرورة في فهم المعاني، كما أنَّه لا واسِطَة بينهما في تواتر الألفاظ بالاتقاق، والحجة على إثبات هذا القطعي المتوسط بينهما غير واضحة، وإثباته مِن غير حجة ممنوعٌ، والأصلُ عَدَمُ القطعيِّ غير الضروري، والمدِّعي له مثبت، وعليه الدِّلالةُ، والله سبحانه أعلم. فإن أراد أن يتواتر الإجماعُ القاطعُ للعوام، لم يُغنهم حتى يعلموا أنَّه حُجَّةٌ، وقد تِقدَّم ما في ذلك، ثم حصولُهُ بعدَ انتشار الإسلام لمثلهم خصوصاً متعذِّر. الجواب الحادي عشر: أنه لو تعذَّرَ الاجتهادُ في جميع المسائلِ لأجل تعسُّرِ شروطه، لتعذَّرَ التقليد في جميعِ المسائل لمثل ذلك، فإن معرفةَ جميعِ نصوصِ المقلِّدِ بإسنادٍ صحيح إليه مثلُ معرفة جميعِ ما يتعلَّق
الثاني عشر: أن بطلان الاجتهاد لا يجوز أن يثبت بالضرورة العقلية ولا الشرعية ولا بالدلالة العقلية
بالأحكام مِن الحديث، بل هِيَ أكثرُ مِن الحديث في هذا المعنى، والنسخُ يُوجد فيها نظيرُهُ، وهو الرجوعُ عن القولِ القديمِ، والتعارضُ موجودٌ في القولين إذا لم يُؤرخا، والتخصيصُ موجودٌ في كلام العلماء وكلامُهُم عربيٌّ غيرُ ملحون يحتاج إلى العربيّة، وجوازُ تقليدهم ينبني على معرفةِ اللهِ، وصدقِ الرسول، وزيادة معرفة أدلة جوازِ التقليد من نصٍّ أو إجماعٍ، ومعرفةُ ذلك الدليل توقفُ على أمورٍ قد مرَّت الإشارةُ إليها. فإن قلتَ: التقليدُ يتجزأ دونَ الاجتهاد. قلنا: كلامُنا في أنَّكَ حكمتَ بتعذُّرِ الاجتهادِ العام، ولم تحكم بتعذُّر التقليدِ العام، فإن أكثرَ أهلِ الفتوى والقضاء يدَّعيه، على أن تجزي الاجتهاد هو الصحيحُ عند الجمهورِ. الجواب الثاني عشر: أن بطلانَ الاجتهادِ لا يجوزُ أن يثبت بالضَّرورة العقلية ولا الشرعية ولا بالدِّلالة العقلية، وهذا مما لا يحتاج إلى ذكر البرهان لجلائه، وبقي أن يثبت بالدلالة الشرعيَّة وهي التي زعم السَّيِّد أنها قد بطلت، فبقي أن السَّيِّد ادَّعى بطلانَ الاجتهاد لدلالة مجرَّدِ الاستبعاد وهذا لا يصلُح مستنداً -والله أعلم-. وفي هذا القدرِ كفايةٌ في الجواب على قوله المتقدم في التنفير عن الاجتهاد، والتوعير لمسالك العلم، والتشكيك في دخوله في حيِّزِ الإمكان والتشويش على من أراده مِن أهل الإسلام. قال: الثاني: أن أولئك المعدّلين معلولون بمثل هذا، أو مجهولةٌ براءتُهُم منه. أقول: قد تعرض السَّيِّدُ -أيَّده الله- تعالى في هذا الكلام للتشكيك
وفيه أربع مسائل:
في أحوال المعدِّلين لِحملة العلم النبويِّ -على صاحبه أفضلُ الصلاة والسلام- فلا يخلو إما أن يُريدَ أن جميعُ المتكلمين في الجرح والتعديل من أئمة العلم وأعلام الهدى مشكوك في إسلامهم، أو يريد أن الأئمة الذين أسلف ذكرهم كذلك دونَ من عداهم من أئمة هذا الشأن، ثم أيضاً إما أن يُريد أن حالهم في ذلك مجهولة له (¬1) -أيَّده الله- فقط، أو مجهولةٌ لجميع أهلِ العلم، فهذه أربعُ مسائل: المسألة الأولى: أن يكونَ حالُ أولئك الذين ذكرهم مجهولةً فقط دون سائرِ أهلِ العلم، ودونَ سائر أئمة هذا الشَّأْنِ. الثانية: أن يكون حالُهُم مجهولةً له، ولجميع أهلِ العلم. الثالثة: أن يكونَ جميعُ أئمة علم الرجال مجهولين له دونَ سائرِ أهلِ العلم. الرابعة: أن يكونوا مجهولين له، ولأهل العلم. فأما المسألتان الثالثة والرابعة، فلم يتعرض لذكرهما حتى يلزمَ الجوابُ عليه، وإنما نذكر ما تعرَّض له فقط خوفاً للتطويل، ولئلا نلزمه أمرأ قبيحاً مِن غير موجبٍ لذلك من قوله. فلنتكلَّم على المسألتين الأولَيَيْنِ، فنقول: إما إن يدَّعيَ " السَّيِّد " الجهلَ بأحوال أولئك على جميع أهل العلم أو لا؛ إن ادَّعى ذلك، فهي دعوى باطلة، لأنَّه لا طريق إليها إلا أحد وجهين وكل واحدٍ من الوجهين باطل، وما لا طريقَ إليه إلا الباطل، فهو باطل، وكل هذه المقدِّمات ¬
واضحة إلا انحصارَ الطريق إلى تجهيل جميع أهل العلم في وجهين، فيجب بيانها، والدليل على أنه لا طريق للسَّيِّد إلى تجهيل جميعِ العلماء بأحوال أولئك الحفاظ المشاهير: أن معرفةَ العلماء بأحوالهم وجهلهم لها مِن مكنونات الضمائر، وخفياتِ السَّرائر، وذلك مما لا طريقَ إليه إلا بالخبر، أو القياس، ولا طريقَ سِوى هذين إلى ذلك إلا علم الغيب الذي استأثر اللهُ تعالى به، وكُلُّ واحدٍ منها لا يَصِحُّ. أمّا القياسُ، فلا يصح هنا، لأنك إما أن تقيسَ على نفسك، أو على غيرك، وكلاهما لا يجوز، لأنَّه قياس على مجرد الوجود، وهو ممنوع. وأما الخبر، فلا يصح، لأنَّه لم يُوجد خبرٌ صادِقٌ عن الله، ولا عَنْ رسولِ الله يقضي بجهالَةِ العلماء لأحوال الرُّواة، فضلاً عن أحوالِ معدِّليهم، وكذلكَ أهلُ العلم لم يُخبروا عن أنفسهم بالجهل بذلك، فثبت أنه لا طريق للسَّيِّد -أيَّدَه الله- إلى القطعِ على أن جميعَ العلماء لا يعرفُونَ أحوال أولئك الَّذِينَ ذكر من معدِّلي الرّواة. وبقي القسم الثاني، وهو أن يدَّعي السَّيِّد -أيده الله- أنه يجهل أحوالَهم، فهذه دعوى صحيحة مقبولة بإجماع الأمة، لأنَّ إقرارَ المسلم على نفسه بما يدخل عليه النقضَ، ولا يكون له فيه حظ، ولا على غيره منه مضرَّةٌ إقرارٌ صحيحٌ مقبول، ولكن ليس يَحْصُلُ منه منعُ جميع طلبة العلم مِن تعرُّفِ أحوال معدِّلي الرُّواة، فربّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فقد قيل: من طلب شيئاً وجدَّ، وجَدَ، ومن دَق باباً وَلَجَّ، وَلَجَ. ثم إنا لو سلمنا للسَّيِّد -أيَّدَهُ اللهُ- جهلَ جميعِ أهل العلم بأولئك الذين ذكرهم، فإن ذلك لا يَسُدُّ بابَ الرِّوايةِ، فإنَّ اللهَ لو لم يخلق أولئك
المذكورين، ما ضاع الدِّينُ، ولا بَطَلَتْ سُنَّةُ سيدِ المرسلين وأئمة الجرح والتعديل قدرَ ألفي إمامٍ، لو شئتُ لذكرتُهُم بأسمائهم، وفيهم مَنْ هو مِن الشيعة المعتدلين في صحة الاعتقاد وَمِن غيرهم مِن أهل العدلِ والتوحيد. وقد ذكر أهلُ هذا الشأنِ في كتب الرِّجال خلقاً كثيراً من علماء الشيعة والاعتزال، وعدُّوهُمْ مِن عيون علماء الأثر، ونُقَّاد الرجال، ونسبُوا إلى كثير منهم الكلامَ في الجرح والتعديل، وعوَّلوا على كلامهم كُلَّ التعويل، وكتُب علم الرِّجال طافحةٌ بهذا. وقد روى الحاكمُ في " شرح العيون " فصلاً في من روى عنه العدلُ مِن رواة الأخبار، وقال: نذكر منهم من اشتهر بذلك. وذكر المخالفين، فذكر من أهل المدينة اثنين وعشرين رجلاً، ومن أهل مكة عشرة، ومن أهل اليمن أربعة، ومن أهل الشام سبعةَ عَشَرَ، ومن أهل البصرة اثنين وسبعين، ومن أهل الكوفة ثمانية. فهؤلاء مائةُ رجل وثلاثة وثلاثون، ذكرهم الحاكم أو أكثر منهم بيسير. وذكر أنه ذكر ما فيه كفاية، وأن استقصاء ذلك مما يطول به الكتابُ. وكان فيمن ذكر من أهل المدينة: ابنُ أبي ذئب، ومحمدُ بن عجلان، وشريكٌ القاضي، وثورُ بنُ زيد، وابنُ أبي يحيى: هو إبراهيم ابن محمد (¬1) صاحب الموطأ الكبير وشيخ الشافعي، والوليدُ بنُ كثير، ¬
وصالحُ بنُ كَيْسَان، ومحمَّدُ بنُ إسحاق صاحب السيرة وغيرها، ومحمدُ بنُ عبد الله بن مسلم الزُّهري (¬1). قال: وكان ممن خرج مع زيد بن علي، وجعفرِ بنِ محمد الصادق، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين -عليهم السلام-. ومن أهل مكة: عمرو بنُ دينار، وعبدُ الله بنُ أبي نُجيح، ومسلمُ ابن خالد الزنجي (¬2) شيخ الشافعي، وسفيانُ بنُ عيينة، وعبدُ الله بن طاووس، وعطاءُ بنُ يسار. ومِنْ أهل اليمن: وهبُ بنُ منبِّه، وأخوه همَّام. ومن أهلِ الشام: مكحولٌ، والأوزاعيُّ، وعبدُ الرحمن بن واسع. [ومن أهل البصرة]: إياسُ بن معاوية، والمباركُ بن فَضَالَةَ، وسعيدُ بن أبي عَرُوبَة، وهشامٌ الدستوائي، ومعاذ بن هشام، وأبان بن يزيد، ويحيى بن أبي كثير، وغندر، وعبد الرحمن بن مهدي، والأشعث ابن سعيد السمَّان، ومعمر، وأبو العوَّام عمران القطّان. ومُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَد، ومحمدُ بن سلام. ¬
الكلام في علي ابن المديني
ومن أهل الكوفة: الشَّعبِيُّ (¬1)، وداودُ ابن أبي هِندٍ، وسلاَّم بنُ مطيع، وأبَو شهاب الَحنَّاط (¬2)، وعمرو بن مرَّة، ومسْعَرُ بنُ كِدام، ومحمد ابنُ شُجاع، وعلي بنُ المديني. قال: أخذ المذهبٌ عن ابن أبي دُواد (¬3) -هكذا ذكره الحاكم- وبهذا نَقَمَّوا عليه في كتب الرِّجال، ومن العجائب أن " السَّيِّد " ذكر خمسةُ معينين بأسمائهم من أئمة الجرح والتعديل فما سلموا له، بل غَلِطَ على أعرفهم بهذا الشأن، وفارِسِهم في هذا الميدانِ، وهو الحافظُ الجليل علي بنُ المديني المسمَّى عند رجال هذا العلم " حَيَّة الوادي " (¬4) لتميُّزه عن الحفَّاظ بفرطِ الذَّكاءِ، وشِدَّةِ الحفظ والتَّيقُّظِ للاستدراكات الخفِيَّة، والمعارف اللطيفة، وهو شيخُ البخاري، وشيخُ شيخِ البخاري الذُّهلي (¬5)، وشيخُ أبي داود صاحب السنن، وشيخُ البغويِّ (¬6). قال أبو حاتِم: كان ابنُ المديني علماً في الناس في معرفة الحديث ¬
والعلل، وما سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل سمَّاه قطُّ، ولكنه كان يُكنيه تَبجيلاً له. وعن ابن عُيينة قال: يلومونني على حُبِّ عليِّ بن المديني، واللهِ لما أتعلَّمُ مِنه أكثرُ مما يتعلَّمُ مني. وقال أحمد بن سِنان: كان سفيانُ بن عُيينة يسمي علي بن المديني " حية الوادِي ". وقال رَوْحُ بنُ عبد المؤمن: سمعتُ عبد الرحمن بنَ مهدي يقول: عليٌّ ابن المدينيِّ أعلمُ الناس بحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة بحديث سفيان بن عُيينة. وقال القواريري (¬1): سمعتُ يحيى القطَّان يقول: أنا أتعلَّمُ مِن عليٍّ أكثرُ مما يتعلَّم مني. وقال النَّسائي: كأن عليَّ بنَ المديني خُلِقَ لهذا الشأن. وقال إبراهيمُ بن مَعْقِل: سمعت البخاريَّ يقول: ما استصغرتُ نفسي عندَ أحدٍ إلا عند علي بن المديني. وقال أبو داود: ابن المديني أعلم من أحمد بن حنبل باختلاف الحديث. وقال النواوي: لابن المديني نحو من ثمانين مصنفاً، وقال الذهبي: علي بن المديني (¬2) حافظُ العصرِ، وقدوةُ أرباب هذا الشأن، وقال فيه: مناقب هذا الإمام جمَّة (¬3). ¬
أقصى ما في الباب أن يصح ما توهمه السيد من القدح في جميع معدلي حملة العلم النبوي .. فذلك لا يقدح إلا على من قال بمسألتين:
وأقول: إني لو شئتُ، لذكرتُ تراجمَ أئمة الجرح والتعديل مِن أهل العدلِ والتوحيد في أجزاء كثيرة، ولو أورد إلا تراجم هؤلاء الذين اختصرتهُما ممّن ذكر الحاكم لطال الكلامُ، فكيف لو نذكر جميعَ من ذكر الحاكمُ بتراجمهم المطوَّلَة في كتب الرجال، فكيف لو نَضُمُّ إليهم من لم يذْكرْهُ الحاكِمُ -رحمه الله- من علماء التشيُّعِ والاعتزال، ألم يكن يتَّسعُ المجالُ، ويطول المقالُ؟ ولكن ذلك -بحمد الله تعالى- معروفٌ في مواضعه، فلا حاجة إلى نقله. وكان من اللائق أن نذكر ها هنا تراجمَ هؤلاءِ الحفاظِ الخمسة الذين ذكرهم " السِّيِّد " وشكك في إسلامهم، ونذكر جملاً مختصرةً من أخبارهم، ولكنه يطول ولا نُحِبُّ، إذ المقصودُ هو بيانُ إمكانِ معرفة السُّنَّة، وأن ذلك لم يدخل في حيِّزِ اُلمحالات، وقد حصل بيانُ ذلك من غير ذكر حالِ هؤلاء الحفاظ. وأما القدحُ على بعضهم بالتأويل في بعض المسائل، فسوف يأتي الكلامَ عليه في موضعه -إن شاء الله تعالى-. أقصى ما في الباب أن يَصِحَّ ما توهَّمَهُ السَّيِّد من القدحِ في جميع معدِّلي حملةِ العلم النبويِّ، أو تُهمتُهم بذلك، فذلك مما لا يَقْدَحُ على الإطلاق، وإنما يَقْدَحُ على من قال بمسألتين: إحداهما: ردُّ المرسل، والثانية: الجرحُ بالتأويل. لكنَّا قد قدَّمنا أن المرسَل مقبول عند الزيدية والمعتزلة والحنفية ¬
الوجه الثالث (من الوجوه الخمسة): أن اتصال الرواية بكتب الجرح والتعديل متعسرة أو متعذرة
والمالكية، وأنه قد ادُّعي إجماعُ التابعين على قبوله، وكذلك سوف يأتي إثبات إجماع الصحابة على قبول المتأولين من عشرِ طرق. قال: الثالثُ أن اتَّصالَ الرواية بكتب الجرح والتعديل متعسِّرةٌ أو متعذِّرة على وجه العدالة الصحيحة. أقول: السَّيِّد -أيَّده الله- متردِّدٌ متحيِّرٌ ما درى، أهذه الأمور مُتعسِّرةٌ أو مُتعذِّرة؟ فلا يزالُ يكرِّرُ الشكُّ في ذلك، والشاكُّ لا ينبغي له أن يعترض على من ادعى إمكان ما هو شاكٌّ في إمكانه، لأنَّ مِن شَرْطِ مَن جَوَّزَ شيئاً وشكَّ فيه أنْ لا يُكذِّبَ من ادَّعاه، فإنْ قَطَعَ السَّيدُ - أيَّده اللهُ- بتعذُّرِ ذلك سقط التكليفُ به، لأن التكليفَ لا يتعلَّق بما لا يُطاق، وإن جوَّز أنه مقدورٌ، فلا معنى لذكر تعسُّرِ المقدور متى كان واجباً أو مندوباً، كما قدَّمنا ذلك في التنبيهات المتقدمة. والجواب على ما ذكره السَّيِّد من وجوه: الأول: أن كتب الجرحِ والتعديل مثلُ سائرِ المصنَّفات، فكما إنه يُمْكِنُ سماعُ سائر المصنفات في جميع العلوم، فكذلك يُمكن سماعُ كتب الجرح والتعديل، وليس إضرابُ منْ ليس له رغبة فيها عن سماعها يَدُلُّ على ما توهمه السَّيِّدُ، فإن طلبة علم الحديث في أقطار الإسلام محافظون على سماعها ملازمون لقراءتها، وشيوخُها موجودون في اليمن ومكة ومصر والشام والعراق والغرب، وسائر الأمصار الكبار في المملكة الإسلامية، والناس لا يزالون يخنلفون إلى هذه الأقطار والأمصار لأدنى الأغراض الدنيوية، ومن كان محبّاً للعلم طلبه حيث كان وارتحل في تحصيله إلى أبعد مكان. وقد روى الحاكم في " المستدرك " (¬1) عن جابر بن عبد الله الصحابي -رضي الله عنه-: أنه سافر ¬
من شرف العلم
شهراً كاملاً لطلب حديث واحدٍ، وهو حديثُ القِصَاصِ بلغه عن عبدِ الله بن أنيْس فسافر إليه إلى مصر حتَّى سمعَه مِنْهُ. وقد ورد في صحيح مسلم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ومَنْ سَلكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهَا عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّة " (¬1) وقد ذكر العلماء فضل الرحلة، ومن أعظم ما يستدل به على فضلها قصة موسى -عليه السلام- في طلب الخضر (¬2) -عليه السلام- فإنه لما قال الله له: إن لنا عبداً هو أعلمُ مِنْكَ، ارتحل في طلبه، وسأل اللهَ لُقياه، وقال لفتاه: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]. والحقب: الدهر، وقيل: إنه ثمانون سنةً. هذا مع أنه كليمُ الرحمن، ومعلوم أنه لا يحتاج إلى الَخضِر -عليه السلام- في معرفة شيء من الحلال والحرام. فهذه رحلة في طلب الزائد على الكفاية من العلمِ وفيها دليلٌ للمستكثرينَ مِن طلب المعارف، وقد قال الله تعالى لنبيِّه -عليه السلام-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] مع ما آتاه الله تعالى من العلم العظيم. فإذا كان الأمرُ كذلك، فلا معنى للتَّخذيل من طلبِ فنٍّ من علومِ الدين وإيهام الضعفاءِ أنه مِن جملة ¬
الثاني: أن معرفة كتب الجرح والتعديل غير مشترطة في الاجتهاد عند جماهير العترة و
المحالات، فإن طلبة العلم إذا وقَفُوا على مِثْلِ كلام " السَّيِّد " مع جلالة قدره، ومع قُصور هِمَمهِمْ، كان ذلك مُفَتِّراً لعزائمهم، مضعفاً لِهِمَمهِمْ. الثاني: أن معرفة كتبِ الجرح والتعديل غيُر مشترطة في الاجتهاد عند جماهير العِترة ومنْ لا يحُصى من العلماءِ كثرة، لأنَّ أهلَ كُتُبِ الحديثِ من أهل البيت والمحدِّثين قد صَحَّحوا ما صنفوا، والعُهْدَةُ عليهم في ذلك، وهو المختارُ متى حصل الاتفاق في شروط التصحيح بين القابلِ له والمقبولِ منه، وإنما يحتاج إلى كُتُبِ الرجال عند الاختلاف في ذلك، أو في معرفة أحاديثِ المسانيد، كمسَند أحمد بن حنبل، ومسند الدَّارمي، ومسند بقي بن مَخْلَدٍ (¬1) وهو " المسند الكبير "، والمسند الكبير للحافظ الماسَرْجِسِي (¬2)، وهمُا من أكبر دواوين الإسلام، فمسند الماسرجسي فرغ في ثلاثة آلاف جُزءٍ مهذَّباً معللاً يأتي في مقدار ثلاث مئة مجلد كبار على أعظم ما يكون من التعليل، ومسند بَقِي قريبٌ منه، وغير هذه من كتب المسانيد ما لا يُحصى كثرة، وكُلُّها تحتاج إلى كُتُبِ الرجال، لأن شرط أهلِ المسانيد أن يرووا الصحيحَ والضعيف، ¬
الوجه الرابع (من الوجوه الخمسة): أن تعديل هؤلاء الأئمة يقع على سبيل الإجمال غالبا
وُيبيِّنُو رجالَ الإسناد، ويُبدو صفحتَه، وعلى مَنْ أحب أن يعرف حكمه أن يَنْظُرَ في كتب الرجال، وأما أهلُ الصحاح والسنن (¬1) وكتب الأحكام، فإنهم يُبيِّنُونَ الصحيحَ وشروطَه عندهم، وكذلك الضعيف والحسن والمنكر والغريب والمعل والناسخ والمنسوخ وغير ذلك. وقد بيَّنا نصوصَ العلماء على أن كتاباً مِن هذه الكتب يكفي منْ أرادَ الاجتهادَ (¬2)، فما الموجبُ لمعرفة كتب الجرح والتعديل على كل تقدير. ثم إنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- نسيَ طريق أهل البيت -عليهم السلام- بالمرة. فنقول له: هَبْ أن كُتبَ الجرحِ والتعديل، وجميع تواليف مَنْ ليس بعدلٍ في التأويل قد تعسَّرَتْ وتعذَّرَتْ، وهَبْ أني ممن لا يقبل أهلَ التأويل، فما لك ولتعسير الاجتهاد، والتنفير عن طلب العلم؟! وهلاَّ أمرتني بطلب الاجتهاد من كتب أهل البيت -عليهم السلام- وتركْت التخذيل عن طلب الاجتهاد الذي هو أساسُ قواعدِ الإسلام. قال: الرابع: أنَّ تعديلَ هؤلاء الأئمة مَنْ بينَهم وبينَ الرسولِ إنما يَقَعُ على سبيلِ الإجمال غالباً، والتعديلُ الإجمالي إنما يَصِحُّ مِن موافقٍ في المذهب بعد كونِه عارفاً بوجوه الجرح والتعديل، عدلاًً مَرْضِياًّ. وقيل: لا يصح وإن كان المُعدِّلُ كذلك، بل لا بد من التفصيل، وقيل: يَصِحُّ الإجمال مطلقاً وهو ضعيف. ¬
الجواب عليه من وجوه:
أقولُ: ما أدري ما حمَلَ السَّيِّد -أيده الله- على حكايةِ المذاهب في هذه المسألة من غير ذكر شيء من الأدلة، وهو ممن لا يخفي عليه ما في هذا من الشين عند أهل هذا الشأن، وإنما يجب الإيمانُ بكلام الله تعالى، وكلامِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو أنِّي عاملت السَّيِّدَ بمثلِ ما جاء به، لقلتُ: إن الذي ضعفه قويٌّ، وإنَّ ذلك ظاهر جليٌّ، فمجردُ الدعوى لا يَعْجِزُ عنها أحد، ولكن لا بد من الإشارِة إلى الدليل على قوة ما استضعفه -أيده الله- على سبيل الاختصار. فأقول: الجوابُ على ما أورده مِن وجوه: الوجه الأول: أن هذه مسألة خلاف بين الأصوليين والمحدِّثين، فقد حُكِيَ فيها خمسةُ أقوالٍ لأهل العلم: منهم مَنْ قَبِلَ الإطلاقَ في الجرح والتعديل معاً. ومنهم منْ منع ذلك فيهما معاً. ومنهم منْ فصَّلَ. واختلفوا على ثلاثة أقوال: منهم مَنْ قَبِل الإجمال في التعديل دونَ الجرح، وهو اختيارُ الشافعي وجماعة، ومنهم من عكس هذا، وقال بعضهم: إنْ كان الجارحُ أو المعدِّلُ مِن أهلِ العلمِ، قُبِلَ، وإلا لم يُقْبَل، وأفاد السَّيِّد -أيَّده اللهُ- قولاً سادساً: وهو أنه إن كان موافقاً في الاعتقاد، وكان مِن أهل العلم قُبِلَ وإلا لم يُقبل. فإذا ثبتَ هذا الخلافُ الكثيرُ في هذه المسألة، فلا معنى للترسُّل
الثاني: المختار الصحيح هو الاكتفاء في التعديل بالإطلاق، والدليل عليه من وجوه:
على مَنْ ذهب إلى أحد هذه الأقوال، فمن قويَ عنده بعضُها، فله العَمَلُ به، إذ ليس فيها ما هو مخالفٌ للإجماع القطعيِّ، ولا للنَّصِّ المتواترِ اللفظ، المعلومِ المعنى، فتعَرُّض السَّيِّد -أيده الله- للتشغيب بالكلام في هذه المسألة من جملة التَّعنتِ المنكر في كتابه، إذ لم يعهد من أهل هذا العلم إنشاءُ الرسائل إلى بعض منْ يخالِفُ في بعض مسائل أصولٍ الفقه مما الخلافُ فيه شائع بينَ الخلفِ والسَّلَفِ، لا سيما وقد أنكر السَّيِّد القولَ المشهور المعمولَ عليه عند الجمهور. الثاني -وهو المعتمد في الجواب-: أن المختارَ الصحيحَ الَّذي قامت عليه الأدلة، ومضى عليه عملُ السَّلَفِ والخلف من هذه الأمة هو الاكتفاءُ في التعديل بالإطلاق، والدليلُ عليه وجوه: أحدُها: أنَّا متى فرضنا أن المعدِّل ثقةٌ مأمون، وأخبرنا خبراً جازماً بتعديل رجلٍ آخر، فإنه يجب قبولُ قوله، لأنَّه خبر ثقة معروف بالعدالة والأمانة، فوجب قبولُ قولِه، كسائر أخبار الثقات. وثانيها، أنه إمَّا أن يترجَّحَ صدقه على كذبه، أو لا، إن لم يترجَّحْ، لم يُقبل، لكن هذا التقدير لا يقع إلا مع معارضة غيره، وكلامُنا فيه إذا تجرَّدَ عن المعارض، وإن ترجَّح صدقُه، وجَبَ الحكمُ به، وإلا لزم المساواة بين الراجح والمرجوح، وهو باطل بالضرورة. وثالثها: أن رَدَّ قَولِه تُهمة له بالكذب والخيانة، أو بالتقصير والإقدام على ما لم يَعْلَمْ، والفرض أنَّه عَدْلٌ مأمون، وتُهمةُ العدلِ المأمونِ بذلك محرَّمةٌ إلا لموجب، وما لا يَتِمُّ إلا بالمحرَّم لا يكون مشروعاً. ورابعها: أن الله -تعالى- إنما شرط في الشاهد أن يكون ذا عدلٍ،
وكذلك الراوي لم يُشترط فيه أكثرُ من العدالة، وليس حالُ المعدّل بأعظمَ مِن حال الشاهد والراوي، لأن عدالَة الراوي هي الأصلُ في اشتراط عدالة المُعدِّل، وعدالة المعدَّل هي فرع عليها، فكما أن العَدْل لا يجب عليه التفصيلُ فيما تحمَّله كذلك المعدِّل. فإن قلت: فكيف التفصيلُ في الشهادة؟ قلتُ: إذا شَهِدَ بأن المال لزيدٍ، سُئِلَ عن سبب اعتقاده بكون المال لزيد، فربَّما أسند ذلك إلى ما لا يَدُلُّ على ذلك من خبر ثقةٍ، أو غير ذلك، وهذا يجوزُ على الثقة الذي ليس من أهل الثقة والمعرفة، وكذا الشهادةُ بالزوجية، وأمثال ذلك. يزيدُه وضوحاً أنَّ كُلَّ دليل دلَّ على وجوب قبول العدول بمجرد عدالتهم، فَهُوَ بعمومه يدل على قبولهم في جميع الأحوال، هل (¬1) أخبروا بِجرحٍ أو تعديل أو بغيرهما. وخامِسُها -وهو الوجهُ المعتمدُ، وإنما هذه الوجوه المتقدمة شواهدُ له ومقوِّيات-: وهو أن اشتراطَ التفصيل في التعديل يؤدِّي إلى ذكر اجتناب المعدَّل لجميع المحرُّمات، وتأديته لجميع الواجبات على حسب مذهب المعدِّل في تفسير العدالة، فإن كان ممَّن يتشدَّدُ ذكر ذلك كُلَّه، وإن كان ممن يترخَّص ذكر اجتنابَه لجميع الكبائر، معدداً لها، ولجميع معاصي الأدنياء الدَّالة على الخِسَّة وقِلة الحياء، وقلة المبالاة بالدين، فيقول المعدِّل مثلاً: إن فلاناً ثقة عندي، لأني شاهدتُه يُقيم الصلواتِ الخمسَ، ويُحافظ عليها، ويصومُ رمضانَ، وُيؤدِّي الزَّكاةَ، ويؤدِّي فريضةَ الحجِّ إن كان ممَّن يلزمُه هاتان الفريضتان، ويذكر أنه يشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن ¬
محمداً رسولُ الله، وأن الله عالم قادر، ويُعدِّدُ سائر الصفات الذاتية والمقتضاة، وأنه يستحقها لذانه لا لمعنىً، ويذكر جميعَ ما يتعلَّقُ باعتقاده مِن مسائل الوعدِ والوعيد والإمامة والولاء والبراء (¬1) ثم يذكر محافظته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال ذلك من الواجبات مما يطولُ تعدادُه، ثم يذكرُ اجتنابَه للمقبِّحاتِ فيقول: إنه لا يقتُلُ النفس المحرَّمة، ولا يستحِلُّه، ولا يزني، ولا يلوطُ، ولا يشربُ كثيرَ الخمر ولا قليلَها، ولا يسرقُ، ولا يقذِفُ، ولا يَشْهَدُ الزُّور، ولا يَغْصِبُ أموالَ الناس، ولا يُربي، ولا يَفِرُّ من الزحف، ولا يأكُلُ الرِّبا، ولا أموالَ اليتامى، ولا يعُقُّ والديه، ولا يكذِبُ على اللهِ، ولا على رسوله، ولا على أحد، ولا يَكتُمُ الشهادَةَ بلا عذرٍ، ولا يُطفِّفُ في المكيال، ولا يبخس الميزانَ، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها لغير عذر، ولا يضرِبُ مسلماً بغير حق، ولا يُبْغِضُ أميرَ المؤمنين -عليه السلام- ولا أحداً مِن العِترة، ولا يَسُبُّ الصحابة، ولا يُبغِضُهم، ولا يأخُذُ الرشْوةَ، ولا يسعى إلى السلطان، ولا يُحرِّق الحيوان، ولا يتَّخِذُهُ غرضاً، ولا يقع في أهلِ العلم، وحَمَلَةِ القرآن، ولا يلعب بالنَّردِ، ولا بالحَمَام، ولا يكشِفُ عورَتَه في الحمَّام، ولا يتساهلُ في أكل الشبهات والحرام، ولا يَسْخَرُ، ولا يسْحَرُ، ولا ينِمُّ، ولا يُخاصِمُ بالباطل، ولا يتكبَّر من قول الحق، ولا يُرائي، ولا يُعْجَبُ بعمله، ولا يضحك في الصلاة، ولا يبولُ ويتغوَّط مستقبلَ القبلة ولا مستدبرَها، ولا يشربُ المثلث، ولا يفعل شيئاً من المختلَفِ فيه وهو يعتقدُ تحريمه، ولا يُباشر الأجنبية بغير جماع، ولا يُجامع زوجته في الحيض والنفاس -وإن كانت امرأة (¬2): أنها لا تمتنع من زوجها بغير عذر، ولا تُسافر مِن غير ¬
سادسها: أن العدل في نفسه ليس يجب أن يكون قد اختبر من عدله في جميع هذه الأمور
مَحْرَمٍ- ولا يحتكِرُ، ولا يبيع على بيع أخيه (¬1)، ولا يسوم على سومته (¬2)، ولا يخطُب على خطبته (¬3)، ولا يبيعُ لبادٍ وهو حاضر، ولا يتلَّقى الرُّكبان (¬4)، ولا يُصَرِّي (¬5)، ولا يبيعُ المعيبَ بغير بيان، ولا يدخل في شيءٍ من أنواعِ الغرر، ولا يستعملُ النجاسة في بدنه لغير حاجة، ولا يستعملُ اللهوَ بالغناء والمعازف، ونحو ذلك مما لا يكاد الإنسان يُحصيه مع التأمل الكثير. وما زال المسلمون يعدِّلُون الشهود عند القضاة، ويُعدِّلون حملَة العلم والرواة من أول الإسلام إلى يوم النَّاسِ هذا، ما نَعْلَمُ أن أحداً منهم عَدَلَ عن هذه الصَّفة، ولا ما يُقاربها، ولا ما يُدانيها، ولا نعلمُ أن أحداً طلب من المعدِّلين، ولا مقدارَ نصفه، ولا ثُلثِه ولا رُبُعِه، وعملُ القضاةِ مستمر إلى يومِ النَّاس هذا على الاكتفاء بالتعديل الإجمالي. وسادسها: أن المعدِّل في نفسه ليس يجب أن يكونَ قد اختبر من ¬
عدَّله في جميع هذه الأمور، فربَّما أن الإنسان يَصْحَبُ غيرَه السنين العديدة، ولا يَعْرِضُ له ما يُوجب خبرتَه في بعض هذه الأشياء، فإنه لا يختبره في أنه لا يكشِفُ عورَتَه في الحمام على التعيين، إلا إذا اتَّفق أنهما دخلا معاً الحمام، ورأى محافظته على ذلك، وظهرت قرائنُ أنه فعل ذلك لأجل الوجوب، لا بمجرد الحياء. وكذلك لا يختبرُه أنه يأكل أموالَ الأيتام إلا إذا وَجَدَ مال أيتامٍ، واحتاج إليه، وتركه مع الحاجة إليه وهو يُشاهد ذلك ونحوه مما يكثر تعدادُه، وَكُلُّ ذلك ليس بشرط في الاختبار، وإنما يشترط أن يرى مِن محافظته في أمور الدين ما يغلب على ظنِّه معه إنه ممن يُعَظِّمُ شعائرَ الدِّين وتَسُرُّه حسنتُه، وتسوؤه سيئته، ولا يُصرُّ على القبائح وإهمالِ الفرائض. فإن قلت: أقلُّ من هذا التفصيل يكفي؟ قلنا: إما أن يكفي الإجمال، كفى قوله: إنه ثقة، وإما أن يجبَ التفصيلُ، فلا يجوزُ الاكتفاءُ بالإجمال في كل مكان، وأمَّا أن الإجمال يجوز في موضع ويمتنع في موضع فهذا تحكم. فإن قلتَ: إنَّما اشترطنا التفصيلَ مِن فاسق التأويلِ وكافرِه، لأنه لا يُؤمن أن يعدِّل من يعتقد عدالته وهو غيرُ عدل عند مَن لا يقبلُ المتأولين. قلنا: لا معنى لهذا، لأنَّكم لا تقبلونه، سواء عدل على جهة الإجمال، أو على جهة التفصيل، ومن يقبله، فإنه لا يفرق بينَه وبينَ غيره في التعديل، لأنَّه إنما يخاف منه أن يُعدِّل المتأولين، فيجب ممَّن يقبلهم أن يقبَله، فإذاً إنما الخلاف في قبوله، وسيأتي أن القولَ بقبوله، وهو قولُ جماهيرِ أهلِ البيت، وجماهيرِ العلماء. وأما الجرحُ، فالقولُ باشتراط التعيين فيه ممكن، لأن الجارح إذا
الوجه الخامس: أن هؤلاء الأئمة في الحديث يرون عدالة الصحابة، ويرى أكثرهم أن الصحابي من رأى النبي وإن لم تطل رؤيته
قال: فلانٌ ليس بثقة، لأنَّه يتشربُ الخمر، أو يتعمد الكذبَ، كفى ذلك، ولم يلزم تعديدُ جميع المعاصي فظهر الفرق -والله سبحانه أعلم-. قال: الخامسُ: أنَّ هؤلاء الأئمةِ في الحديث يَرَوْنَ عدالةَ الصحابة جميعاًً، ويرى أكثرهُم أن الصحابيَّ مَنْ رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به وإن لم تطُلْ ولا يُلازم. وهذان المذهبان باطلان، وببطلانهما يَبْطُلُ كثيرٌ من الأخبار المخرجة في الصحاح. أمّا المذهب الأول، فلأن مَنْ حارب علياً مجروحٌ، ومَنْ قَعَدَ عن نصرته كذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ مَنْ خذَلَهُ " (¬1). ¬
وقال: " لا يُبْغِضُكَ يا عَلِيٌّ إلا مُنَافِقٌ " (¬1) وأقلُّ أحوالِ هذا أن لا تُقْبَلَ روايتُه. وأمَّا الثاني، فيلزمُهم أن يكونَ الأعرابيُّ الَّذي بالَ في مسجدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2) عدلاًً بتعديل الله، ولا يحتاجُ إلى تعديل أحد، وكذلك كثيرٌ من رواتهم الذين هم أعرابٌ، أو يَفِدُون عليه مرةً واحدةً، كما جاء في حديث وفد تميم (¬3)، وأُنْزِلَ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ ¬
اشتمال كلام السيد على مسائل:
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الحجرات: 4] وكحديث وفد عبد القيس (¬1). أقولُ: قد اشتملَ كلامُه -أيَّده الله- على مسائل: الأُولى: القدحُ على المحدِّثين بقَبولِ المجهول حالُه مِن الصحابة، وقولهم: إن المجهول حالُه مقبولٌ لا يحتاجُ إلى تعديلِ مُعدِّل، وهذا لا يقتضي القدحَ في صحة كُتُبِ الحديث لوجوه: الوجه الأوَّلُ: أن القارىء فيها أن كان ممن يرى رأيَهم، جاز له أن يعمل بذلك، لأنَّها مسألة ظنية، وللمجتهد أن يَعْمَلَ فيها برأيه، وإنما قلنا: إنها ظنية، لأن أدلتها مِن العمومات، وأخبارِ الآحاد والقياسِ ظنيَّةً، وللمجتهد أن يعمل فيها برأيه وليس فيها دليلٌ قاطِعٌ من براهين العقل، ومن ادَّعى شيئاً غيرَ ذلك، فليَدُلَّ عليه. الوجهُ الثاني: أن هذا المذهب لا يختصُّ به المحدِّثونُ، فيرميهم به، بل هو مذهب منشور مشهور، منسوب إلى أكثر طوائف الإسلام، وقد نُسب إلى الزيدية والشافعية والحنفية والمعتزلة وغيرهم من أكابر العلماء. أمَّا الزيديةُ، فنسبه إليهم علاَّمتُهُم بغير منازعةٍ الفقيهُ عبدُ اللهِ بنُ زيد في كتاب " الدُّرر ". ¬
وأمَّا الشافعيةُ، فنسبه إليهم المنصورُ بالله -عليه السلام- في كتاب " الصَّفوَة " وغيره. وأمَّا الحنفية، فمشهور عنهم. وأما المعتزلة، فذكره الحاكم، وأبو الحسين، وابنُ الحاجب. وسيأتي بيان هذه الجملة وقد مضى طرفٌ منها أيضاًً. قال الفقيه عبد الله بن زيد في كتاب " الدُّرَرِ المنظومة في أصول الفقه ": إنَّ مذهبنا قبولُ المجهول. قلتُ: هكذا على الإطلاق، سواءً كان صحابياً أو غيرَ صحابي، وهذا أكثرُ تسامحاً مِن قول المحدِّثين. قال الفقيه عبد الله بن زيد في " الدُّرر" في بيان معنى المجهول: إنه قد يُذكر، ويُراد به مجهولَ العدالةِ، وقد يُراد به مجهولَ الضبط، وقد يُراد به مَنْ لَا يُعْرَفُ بمخالطة العلماء، والأخذِ عنهم، ومجالسةِ المحدِّثين، وقد يُراد به مَنْ لا يُعرف نسبُه ولا اسمُه. قال: ومذهبنا أنه يُقْبَلُ خبرُ من هذه حالُه إلا مجهولَ الضَّبطِ، فسيأتي الكلامُ عليه، واحتج بقبول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيين في رؤية الهلال (¬1) ¬
وبغير ذلك. فأما مجهولُ الضَّبطِ، فذكر أنه إن عُرِفَ أن ضبطَه أكثرُ قبِلَ بالاتفاق، أو أقلُّ ردَّ بالاتفاق، وإن استويا، فحكى الخلافَ، وقال: مذهبُنا قبولُه إذا لم يعلم من حاله شيء من ذلك، كذا نصَّ عليه، فدلَّ على أنه مقبولُ أيضاًً، وإنما استثنيناه، لأنَّ الكلامَ عليه سيأتي منفرداً في موضع يشتمِلُ على حكاية الخلافِ، وذكر الدليل، ولأنه جهالة صفة معتبرة في الرَّاوي، فلا فرق بينَها وبينَ سائِر الصِّفات، واحتجاجُه بقبول الأعرابيين يدلُّ على ذلك -والله أعلم-. وقال: ويقبل مَن ظاهره العدالة من غير اختبار لعدالته. ومعنى كونه عدلاً: أن يكونَ مؤدياً للواجبات، مجتنباً للكبائر مِن المستقبحات. وقد ذكر المنصورُ باللهِ في أحدِ قوليه -ما لفظه-: ولسنا نعتبِرُ العدالة إلا في أربعةٍ: في الحاكم، والشَّاهِدِ، والإمامِ الأعظم، وإمامِ الصلاة. أو قال في الرابع: المفتي -الشك من قِبلي- ذكره في " هداية المسترشدين " من فتاويه -عليه السلام- في الاحتجاج على وِلاية الفَسَقَةِ ومَنْ ليس بمأمون. وهذا يقتضي مثلَ كلامِ عبدِ الله بن زيد، وقد ذكرتُ فيما تقدم أن ذلك أحدُ احتمالي أبي طالب في " المجزي "، وأرجحُ احتماليه في " جوامع الأدلة "، ولم أعْرِفْ للهادي والقاسم -عليهما السلام- نصاً في هذه المسألة، ولا ثبت أنهم نصُّوا على خِلاف كلام المنصورِ بالله، وأبي طالب والمحدِّثين، لأن كلامَهم في فاسق التأويل معروف، وليس لهم نصٌّ في مجهول الصحابة ولا مجهول غيرهم، ولا إجماعَ يقتضي وجوب النكير على مَنْ خالفه، ولم يزل الأصوليون يذكرون الخِلَاف في هذه المسألة من ¬
فائدتان في كلام الشيخ أبي الحسين البصري صاحب المعتمد
غير نكير، ولا قدح على من اختار ذلك، فما خصَّ المحدِّثين بالنكير؟ وقد صرَّح الشيخُ أبو الحسين في " المعتمد" (¬1) باختيار مذهب المحدِّثين، فقال -ما لفظه-: واعلم أنه إذا ثبت اعتبارُ العدالة وغيرِها مِن الشروط التي ذكرناها، وجب إن كان لها ظاهرٌ أن نعتمِدَ عليه، وإلا لَزِمَ اختبارُها. ولا شُبهة أن في بعض الأزمان كَزَمَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانت العدالةُ منوطة بالإسلام، وكان الظاهرُ من المسلم كونَه عدلاً. ولهذا اقتصر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قبولِ خبرِ الأعرابيِّ عن رؤيةِ الهِلال على ظاهر إسلامه، واقتصرت الصحابةُ على إسلامِ مَنْ كان يروي الأخبار من الأعراب. فأمَّا الأزمانُ التي كثرت فيها الخياناتُ ممن يعتقد الإسلام، فليس الظاهرُ من إسلامِ الإنسان كونه عدلاً، فلا بد من اختباره. وقد ذكر الفقهاء هذا التفصيل. انتهى كلامُ الشيخ. وفيه فائدتان: أحدهُما: أنه روى مذهب المحدِّثين عن الصحابة وأنهم كانوا يقبلون أحاديثَ الأعراب، بل هذا أوسع من مذهب المحدِّثين لأنهم اقتصروا على من رأى النبي مِن الأعراب. وثانيهما: روايته أن الفقهاء ذهبوا إلى ما ذهب إليه المحدثون، بل إلى قبول جميع المسلمين في وقته -عليه السلام- وإن لم يكونوا أصحابه. وقال الحاكم في " شرح العيون، -ما لفظه-: واحتجُّوا بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قبل خبر الأعرابيِّ لما أظهر الشهادتين ولم يعتبِرْ شيئاً آخر. والجواب: وَلِمَ قلتَ: إنَّه لم يعْرِفْ مِن أحواله ما اقتضى العدالة. ¬
وأيضاًً، فإن أحوال المسلمين كانت أيامَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - معلومةً، وكانت مستقيمة مستغنية عن اعتبارها، فلم يحتجْ إلى استئناف نظرٍ، وحديثُ الأعرابيِّ الذي احتجَّ به الشيخ أبو الحسين والحاكم معروف عند أهل الحديث. قال ابن حجر في كتاب الصيام من " تلخيصه ": رواه أصحابُ السُّنن الأربعة، وابن خزيمة وابن حبَّان، والدارقُطني، والبيهقي، والحاكم من حديث سماك عن عكرمة، عن ابن عباس، وروي مرسلاً عن عكرمة من غير ذكر ابن عباس، ورجحه النسائي (¬1). وذكر ابن الحاجب في " المنتهي " عن المعتزلة مثل قول المحدِّثين، إلا في من حارب علياً، ولفظه: وقالت المعتزلة: عدولٌ إلا من حارب علياً. وهذا هو الذي أنكره السَّيِّد على المحدثين، فأمَّا حربُ علي -عليهِ السلامُ- فهو فسقٌ بغيرِ شَكٍّ، ولكن ليس يجرح به في الرواية متى وقع على وجه التأويل كما يأتي بيانُه. وعن معمر البَصري عن أبي العوَّام البصريِّ قال: كتب عُمَرُ إلى أبي موسى، وساق كتابَه الطويل في القضاء، وفيه من كلام عمر: والمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُم عَلى بَعْضٍ في الشَّهَادَاتِ إلاَّ مَجْلُوداً في حَدٍّ، أو مُجرَّباً عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّور، أو ظَنِيناً في وَلاء أوْ نَسَبٍ، فإنَّ الله تَوَلَّى مِن العِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَترَ عليهم الحُدُودَ إلا بالبينات والأيمانِ، وساق بقيةَ كتابه. رواه البيهقي (¬2) هكذا، ثم قال: وهو ¬
الوجه الثالث: أن الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع آثار من السنة
كتابٌ معروف مشهور لا بُدَّ للقضاة مِن معرفته والعملِ به. انتهي كلام البيهقي. وفيه ما يَدُلُّ على مثلِ مذهب المحدِّثين من عدالة المجاهيل في ذلك العصر، وأنَّ مذهَبَهم هذا مشهور في السَّلَف والخَلَفِ غير محدث، ولا مستبعد، ولا مستنكر. وعن شقيقِ بنِ سَلَمَةَ قال: أتانا كتابُ عمر: أن الأهِلَّة بعضُها أكبرُ من بعض فإذا رأيتُم الهلالَ نهاراً، فلا تُفْطِرُوا حتى يشهدَ رجلانِ مسلمانِ أنهما أهلاه بالأمس، وفي رواية: يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمسِ، رواه الدارقطني والبيهقي (¬1) باللفظين المذكورين قال: وهو أثر صحيح ذكره ابنُ النحويِّ في " خلاصة البدرِ المنير ". الوجه الثالثُ: أن الأدلةَ قد دلَّت على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، أمَّا الكتابُ، فذلك كثيرٌ في غيرِ آيةٍ مثل قَولهِ تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وأما السُّنة، ففي ذلك آثارٌ كثيرة نذكر منها نُبذةً يسيرة: الأثر الأول: ما روى ابنُ عمر عن عُمَرَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فقال: " أُوصِيكُمْ بِأصْحَابِي ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُوا الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ ولا يُسْتحْلَفُ، ويَشْهَدُ الشَّاهِدُ ولا يُسْتشْهَدُ " الحديث (¬2) رواه أحمد والترمذي، وقد رواه عن شعبةَ أبو داود الطيالسيُّ ¬
الأثر الثاني: حديث: " .. يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا "
عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن عمر، وله طرق أخرى وهو حديث مشهور جيِّد، قال ذلك الحافظُ ابنُ كثير في " إرشاده ". وذكر أبو عمر بنُ عبد البرِّ في أول كتاب " الاستيعاب " له شواهدَ كثيرة بلفظ: " خَيْرُكُم القرْنُ الَّذين بُعِثْتُ فِيهِم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُوَنهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " (¬1) عن ابن مسعود، وعِمران بن حُصين، والنُّعمان بنِ بشير، وبُريدة الأسلميِّ، وجعدة بنِ هبيرة. وذكر المنصور بالله في " المجموع المنصوري " أنه لا يُسأل عن عدالةِ ثلاثة قُرون وأن ذلك معلوم، أو معروف لأهل الفقه. قلتُ: وفيه ما يدلُّ على أنَّ المراد بأصحابه أهلُ زمانه، بدليل قولِه: ثُمَّ الذينَ يلونهم. الأثرُ الثاني: عن ابنِ عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيتُ الهِلَال -يعني رمضانَ- فقال: أتشْهَدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنَّ محمداً رَسُولُ اللهِ؟ قال: نعم. فقال: يا بلالُ أذِّنْ في الناسِ أن يصُومُوا غداً (¬2). رواه أهلُ السُّنَنِ، وابنُ حِبَّان صاحب الصحيح (¬3)، والحاكم أبو عبد الله الشِّيعيُّ العلامة، وقال: هو حديثٌ ¬
الأثر الثالث: حديث أبي محذورة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان عقيب إسلامه واتخذه مؤذنا
صحيح، وذكره الحاكم أبو سعد في " شرح العيون "، واحتجَّ به أبو الحسين في " المعتمد "، واحتج به الفقيه عبدُ الله بن زيد. الأثرُ الثالثُ: حديثُ أبي محذورةَ، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الأذانَ عقيبَ إسلامه واتَّخذه مؤذِّناً (¬1)، وذلك يدلُّ على عدالته مِن قِبَلِ الخِبرة، لأنَّ العدالةَ معتبرة في المؤذِّن، إذ هو مخبرٌ بدخول وقت الصلاة، معتمد عليه في تأدية الفرائض وفي إجزائها. الأثرُ الرابعُ: وهو أثرٌ صحيح ثابت في جميع دواوين الإسلام، بل متواترُ النقلِ، معلومٌ بالضرورة، وهو عندىِ حُجَّة قويةٌ صالحةٌ للاعتماد عليها، وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل عليّاً -عليه السلام- ومعاذاً -رضيَ الله عنه- قاضيين أو مفتيين ومعلمين (¬2)، ولا شكَّ أن القضاءَ متركب على ¬
الأثر الخامس: أن عليا كان يستحلف بعض الرواة، فإن حلف صدقه
الشهادة، والشهادة مبنيَّة على العدالة، وهما لا يعرفانِ أهلَ اليمن، ولا يخبُرانِ عدالَتَهم، وهم بغيرِ شكٍّ لا يَجِدُونَ شهوداً على ما يجري بينَهم من الخصوماتِ إلا منهم، فلولا أنَّ الظاهِرَ العدالةُ في أهلِ الإسلام ذلك الزَّمان، وإلا ما كان إلى حكمهما بَيْنَ أهلِ اليمن على الإطلاق سبيل. الأثر الخامسُ: ما ثبت عن عليٍّ -عليه السلامُ- أنه كان يستحلِف بعضَ الرُّواة، فإن حلف صدَّقه (¬1). وقد قدَّمنا أنه رواه المنصورُ بالله محتجاً به، وكذلك الإمامُ أبو طالب. وقال الحافظ ابنُ الذهبي: وهو حديثٌ حسنٌ. والتحليفُ ليس يكون للمخبورين المأمونين، وإنما يكون لمن يُجْهَلُ حالُه، ويجب قبولُه فيقوى -عليه السلام- بيمينه طيبةً لنفسه، وزيادةً في قوة ظنه. ولو كان المستحلَفُ ممن يَحْرُمُ قبولُهُ، لم يحلَّ قبولُه بعدَ يمينه. وفي هذا أعظمُ دليل على أنه -عليه السلام- إنما اعتبر الظَّنَّ في الأخبار. الأثرُ السادسُ: حديثُ الجارية السَّوداءِ راعيةِ الغنم التي أراد -عليه السلامُ- أن يتعرَّفَ إيمانَها، ويختبِرَ إسلامها، فقال لها: منْ رَبُّكِ؟ فأشارت، أي: ربها الله، وسألها: من أنا؟ فقالت: رسولُ الله، فقال -عليه السلام-: " هي مؤمنة ". والمؤمن مقبول. وقد وصف الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتصديقه للمؤمنين في قوله تعالى في صفته: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فهذه الجارية حكم -عليه السلامُ- بإسلامها مِن غير اختبار، بل لم يَكنْ يَعْرِفُ أنَّها مسلمة إلا حينئذٍ، وحديثُها هذا حديثُ ¬
ثابتٌ خرَّجه مسلم في الصحيح (¬1)، ورواه الشافعي عن مالك. ذكره ابنُ النَّحويِّ في " البدر المنير" وله طُرُق جَمَّةٌ ذكرها ابنُ حجرٍ في " تلخيصه " (¬2) ويأتي ذكرُها في مسألة الوعيد. ¬
الأثر السابع: حديث يسلم الكافر فيرسله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومه داعيا لهم إلى الإسلام
الأثر السابع: أن الأعرابيَّ الكافِرَ كان يأتي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُسْلِمُ، فيأمرُه -عليه السلامُ- إلى قومه داعياً لهم إلى الإسلام، ومعلماً لهم ما علمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من شرائعه فلولا عدالتُه ما أقرَّه على ذلك، ولا أمره به، ولقال له: إنَّه لا يَحِلُّ لقومك أن يعملوا بشيءٍ مما علمتهم مِن شرائع الإسلام حتى يختبروك بعدَ إسلامك، وهذا كثير في السيرة النبوية، وكتب السُّنة مثل خبرِ الطُّفيل بنِ عمرو (¬1) وغيره. الأثر الثامن: حديثُ عقبة بن الحارث المتفق على صحته (¬2) وفيه أنَّه تزوَّجَ أمَّ يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قد أرْضَعْتُكُما، فَذَكَرْتُ ذلك لِلنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأعرضَ عَنِّي، قالت: فتنحيتُ، فذكرتُ ذلك له. قال: وكيفَ قد زَعَمَتْ أنْ قَدْ أرْضعَتْكُمَا؟ -هذا لفظُ ¬
الأثر التاسع: حديث المسور بن مخرمة " .. فارجعوا حتى يرفع عرفاؤكم أمركم " الحديث
البخاري ومسلم (¬1) - وفيه اعتبارٌ خبرِ هذه الأمَةِ السوداءِ، والفرقُ بَيْنَ زوجين بكلامهما، ولم يأمره بطلاقٍ، ولا أخبره أنَّ ذلك يُكره مَع الجواز. وفي رواية الترمذي (¬2): أنه زعم أنها كاذبة، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاه عنها. وهو حديث حسن صحيح. وقال ابنُ عباس: تُقْبَلُ المرأةُ الواحِدة في مِثْلِ ذلك مع يمينها. وبه قال أحمد وإسحاق. قلتُ: إنما اعتبر اليمين من أجل حقِّ المخلوقين، وكذا من خالف من أهل العِلم في هذه المسألة، فأما حقوقُ الله -تعالى- فخبرُ المرأة الواحدة فيه مقبول اتفاقاً. الأثر التاسعُ: ما رواه المِسْوَرُ بن مَخرَمَةَ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في المسلمين، فأثنى على الله، ثم قال: " أمَّا بَعْد، فإنَّ إخْوَانَكُم -يعني هَوازِنَ- قد جاؤوا تائِبينَ، وإنِّي قد رأيتُ أن أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أن يُطَيِّبَ ذلِكَ، فَلْيفْعَلْ " إلى قوله: فقال الناسُ: قد طيَّبْنَا ذلِكَ فقال: " إنا لا نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حتَّى يَرْفَعَ عُرَفَاؤُكُم أمرَكُم " الحَدِيثَ. رواه البخاري (¬3). ¬
فالظاهر عدمُ معرفةِ حالِ العُرَفَاء في العدالةِ، فهذا من الأثر. ومِنَ النَّظَرِ أن صِدقَهم مظنونٌ، وفي مخالفته مضرَّةٌ مظنونةٌ، والعملُ بالظَّنِّ من غير خوفٍ مضرَّةٍ حسنٌ عقلاً. ومع خوف المضرَّة المظنونة واجبٌ عقلاً، وإنما خصصناهم بذلك، لما علمنا من صدقهم وأمانتهم في غالب الأحوال، والنادِرُ غيرُ معتبر، إذ قد يجوزُ أن يَكْذِبَ الثِّقَةُ، ولكن ذلك تجويزٌ مرجوحٌ نادر الوقوع فلم يعتبر، والذي يدلُّ على صِحَّة ما ذكرنا: أن أخسَّ طبقات أهل الإسلامِ من يتجاسرُ على الإقدامِ على الفواحش من الزنى وغيره من الكبائر لا سيّما فاحشة الزنى، وقد علمنا أن جماعة مِن أهلِ الإسلام في زمان رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقعوا في ذلك من رجالٍ ونساءٍ، فَهُمْ فيما يظهرُ لنا أقلُّ الصحابة دِيانةً، وأخفُّهم أمانةً، ولكنهم مع ذلك فعلوا ما لا يكادُ يفعلُه أورعُ المتأخرين، ومن يَحِقُّ له منصِبُ الأمانةِ في زُمرة الأولياء والمتقين، ومَنْ بَذَلَ الروح في مرضاة اللهِ، أو المسارعة بغير إكراهٍ إلى حُكْمِ اللهِ، مثلَ المرأةِ التي زنت، فجاءت إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تُقِرُّ بذنبِها، وتسألُه أن يُقِيمَ عليها الحَدَّ، فجعل -عليه السلام- يستثبتُ في ذلك، فقالت: يا رسولَ الله إنِّي حُبلى به، فأمرها أن تُمهل حتَّى تَضَعَ، فلمَّا وَضَعَتْ، جاءت بالمولود فقالت: يا رسولَ اللهِ هو هذا قد ولدتُه. فقال: " أرضِعِيه حتى يَتِمَّ رضاعُه ". فأرضعتْهُ حتَّى أتمت مُدَّةَ الرَضاعِ، ثم جاءت به في يده كِسْرَةٌ مِن خُبْزٍ، فقالت: يا رسولَ اللهِ ها ¬
هو هذا يأكُلُ الخُبْز، فأمر بها فَرُجِمَتْ (¬1). فانظر إلى عزمها هذه المدَّة الطويلة على الموت في طلب رضا الله تعالى. وكذلك الرجلُ الذي سرق، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فطلبه أن يُقيم عليه الحدَّ، فأمر -عليه السلامُ- بقطع يده، فلمَّا قطعوها، قال السارِقُ: الحمدُ لله الذي أبعَدِك عني، أَرَدْتِ أن تُدْخِلِيني النَّارَ (¬2). ومثل ما رُوِي في حديثِ الذي وقع بأمرأته في رمضان (¬3). وحديثُ الذي أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله إنِّي أتيْتُ امرأةً، فَلَمْ أتْرُكْ شيئاً مما يفعَلُه الرِّجالُ بالنِّساءِ إلا فعلتُه، إلا أنِّي لم أُجَامِعْها (¬4). وغير ذلك مما لا (¬5) أعرفه. فأخبرني على الإنصاف: مَنْ (¬6) في زماننا من الأبْدَالِ قد سار إلى ¬
الموت نشيطاً كما فعل هؤلاءِ؟ وهل علم أنَّ أحداً في غيرِ تلك الأعصار أتى إلى أهلِ الوِلايةِ ليقتلُوه؟ وهذه الأشياءُ مما تُنبِّه الغافل، وتُقوي بصيرةَ العاقل، وإلا ففي قولِه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] كِفايةٌ مع ما عضَدَها من شهادةِ المصطفي -عليه السلام- بأنهم خيرُ القرونِ (¬1)، وبأن غيرَهم لو أنْفَقَ مِثْلَ أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَه (¬2). وقد ذكر ابنُ عبد البر في ديباجة كتاب " الاستيعاب " جملةً شافيةً مما يدُلُّ على فضل أهلِ ذلك الزمان، وأن ظاهِرَهم العدالةُ كُلّهم إلا مَنْ عُلِمَ جَرْحُهُ بطريق صحيحٍ؛ والجرْحُ جرحانِ: جرحٌ في الدِّيانة، وجرح في الرواية، فأما الجرحُ في الدِّيانة، فيثبتُ بفعل الحرام المقطوعِ بتحريمه سواءً كان فاعلُه متأولاً، أو غيرَ ذلك، مثل حربِ أميرِ المؤمنين -عليه السلام- وغيره مِن الفتن، وقد قبلت الزيديّةُ مَنْ حارب عليّاً وكفَّره من الخوارِج، صانه الله مِن ذكرِ (¬3) ذلك -كما سيأتي بيانُه- فكيف يُنْكَرُ على المحدِّثينَ قبُولُ مَنْ حاربه ولم يكفِّره، وعُذْرُ الزيديَّة في قبول الخوارجِ من كونهم متأوِّلين هو بعينه عذرُ أهلِ السنة، ومدركُ العمدِ والخطأ خفيٌّ، بل محجوبٌ لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ، ولذلك جاء في الحديث: " إنِّي لَمْ أُومَرْ أنْ أفَتِّشَ عنْ قُلُوبِ النَّاس " (¬4) فلذلك رَجَعَ أهلُ السُّنَّة فيه إلى ما ظهر من ¬
الوجه الرابع: إن الصحاح لم تصنف لمعرفة الحديث المجمع عليه لا سوى، بل وضعت لهذا ولغيره
الشخصِ، ووكلوا باطِنَه إلى اللهِ -تعالى- إلا مَنْ ظَهر نِفاقُه، أو رِدَّتُهُ، أو قامتِ القرائن الضرورية على فجوره، وتعمُّدِه وجُرأتِه. وسيأتي تحقيقُ الكلام في هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني، وفي الوهم الثالث والثلاثين. وأما الجرحُ في الرواية، فلا يثبت الجرحُ فيه بارتكاب بعضِ الحرام الذي يُمكن تأويلُه مع دعوى التأويلِ، وظهورِ الصدق. وسيأتي تفصيلُ هذه الجملة عند الكلام على المتأولين إن شاء الله، ونبينُ هناك أنَّ الذي ذهبنا إليه في هذه المسألة هو الذي ذهب إليه جمهورُ العِترة -عليهم السلام- وإنَّا لا نقبل منْ لم يقبلوا ممن ظهر منه عدمُ التأويل، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. فقد تبيَّن بهذا أنَّ السَّيِّد اعترض المحدِّثين بقبول مجهولِ الصَّحابة أو العاصي منهم على جهة التأويل. فأما المجهول، فقد بينَّا أن قبوله مذهبٌ شائعٌ بينَ العلماء من أهل البيت وأشياعهم، والمعتزلة والفقهاء، وسائر من خاض في العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأنَّ كتب الأصوليين مشحونةٌ بذكره، والخلاف فيه. وأما المتأول، فسوف نبيِّن فيه ما يشفي ويكفي -إن شاء الله تعالى- فلا معنى لِقدح السَّيِّد على المحدِّثين بذلك، ولا عَيْبَ على من قرأ كُتُبَ الحديث في ذلك، وهذا مما كنتُ أتوهَّمُ أنَّه لا يقع فيه إنكارٌ، ولا يَمُرُّ القدح به على خاطر. الوجه الرابع: أنّ قوله: إنه يَبْطُلُ بذلك كثير مما في الصحاح، كلامُ مَنْ لم يعرف ما معنى الصحاح: فإنَّ الصَّحاح لم تُصَنَّفْ لمعرفةِ الحديث المجمع عليه لا سوى، بل وُضِعَتْ لذلك، وللقسم الآخر
المسألة الثانية التي أنكرها السيد: أن الصحابي هو من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به مصدقا له، وقد تحامل السيد على المحدثين
المختلف فيه، وسيأتي بسطُ ذلك، وبيانُ اختلاف المحدِّثين في التصحيح وشروطه وأنه ظنيٌّ، وأنَّ اختلافهم فيه كاختلاف الفقهاء في الفروع. وتلخيص هذا الجواب: أن يقول ما يعني بأنّه يبطل بذلك كثير، هل عند جميع الأمَّة أو عندك وعند بعض الأمَّة؟ الأول ممنوع، والثاني مُسلَّم (¬1) كما سيأتي مبسوطاًً مبرهناً. المسألة الثانية التي أنكرها السَّيِّد، وزعم أنَّه يبطل ببطلانها كثير من حديثهم، هي قولهم: إنَّ الصحابي هو من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به مصدقاً له، وقد تحامل السَّيِّد على المحدِّثين في هذه المسألة فأطلق عليها اسمَ الباطل الَّذي لا يُطلق على أمثالها من المسائل المحتملة، وهذه المسألة مشهورة في الأصول متداولة بين أهل العلم، وقد ذكر ابنُ الحاجب أنها لفظيَّة يعني أنَّ النزاعَ فيها راجعٌ إلى إطلاق لفظيٍّ، وهو مدرك ظنيٌّ لغويٌّ (¬2) أو عرفيٌّ. وقد قال السَّيِّد أبو طالب في كتاب " المُجزي ": إنَّ الذي ذكره المحدثون يُسمَّى صحبةً في اللغة، قال -عليه السلام- ما معناه، ولكنَّه لا يسمَّى صحبةً في العُرف السابقِ إلى الأفهامِ. ولا شكَّ أنَّ المقرَّرَ عند المحققِّين تقديمُ الحقيقة العرفيَّة على الحقيقة اللغوية الوضعيَّة. وكلامه -عليه السلام- هذا جيِّد قويٌّ. وقد (¬3) خالف الفقيهُ عبدُ الله بن زيد، فقال في " الدُّرَر المنظومة ": إنَّ من رأى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخذ عنه مرةً واحدة يُسمَّى صحابيَّاً في العُرف، ولا يُسمَّى بذلك لغةً وفي الحديث ما يَدُلُّ على صحة ¬
الكلام في فصلين في هذه المسألة
كلام أبي طالب، من ذلك ما خرَّجه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيُّ من حديث أبي سعيد الخدري أنه كان بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوليد، وعبدِ الرحمن بن عوف شيءٌ، فسبَّهُ خالدٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فإنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَق مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ " (¬1) والحجةُ منه في قوله في خِطاب خالد: " فإنَّ أحدَكم " وهذا محمول على أنَّه قبلَ طولِ صحبة خالد. ومن ذلك ما رواه أحمدُ بنُ حنبل في " مسنده " عن معاوية بن قرَّة، عن أبيه قال: مَسَحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي، وفي رواية: سمعتُ أبي وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح رأسَه واستغفر له، وفي رواية: قلنا: أصحبه؟ قال: لا، ولكنَّه كان على عهده قد حلب وصر. قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬2) في مناقب قُرَّة المزنيِّ: رواه كُلَّه أحمد بأسانيدَ والبزَّار ببعضه، وأحد أسانيدهما رجالُه رجال الصحيح غَيْرَ معاوية بن قرَّة وهو ثقة. ولا بُد من الكلام في فصلين في هذه المسألة: الفصل الأول: في بيان ظهور ما استغربه السَّيِّد -أيَّدَه الله- من تسمية ذلك الذي ذكره المحدِّثون صحبة في الكتاب والسنة والإجماع. ¬
القول في الصاحب من القرآن والسنة والإجماع
ولنُقَدِّمْ قبلَ ذلك مقدِّمةً: وهي أنَّ الصحبة تُطْلَقُ كثيراً في الشيئين إذا كان بينَهُما ملابسة، سواءً كانت كثيرةً أو قليلة، حقيقيةً أو مجازيةً، وهذه المقدمة تُبَيِّن بما (¬1) ترى من ذلك في كلامِ الله ورسوله، وما أجمع العلماءُ عليه من العبارات في هذا المعنى. أمَّا القرآن، فقال (¬2) الله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من ملابسة الخطاب للتقدم (¬3)، وقد أجمعت الأمَّة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي، فلا يُسمَّى من لم يُسلم صحابيَّاً إجماعاً، وقد ثبت بالقرآن أنَّ الله سمَّى الكافر صاحباً للمسلم، فيجب أن يكون اسمُ الصحابيِّ عُرفيَّاً، وإذا كان عُرْفياً اصطلاحيّاً كان لكل طائفة إن تصطلح على اسمٍ -كما سيأتي تحقيقُه- قال تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] وهو المرافق في السَّفَرِ، ولا شك أنَّه يدخل في هذه الآية الملازم وغيره، ولو صَحِبَ الإنسان رجلاً ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفارِ، لدخل في ذلك، لأنَّه يَصْدُق أن يقول: صحبتُ فلاناً في سفري ساعة من النَّهار، ولأن من قال ذلك لم يرد عليه أهل اللغة، ويستهجنوا كلامه. وأمَّا السنَّة، فكثير غيرُ قليل، وَمِنْ أوضحها ما ورد في الحديثِ الصحيحِ مِن قوله -عليه السلام- لِعائشة رضي الله عنها: "إنَّكُنَّ ¬
صَواحِبُ يُوسُف" (¬1) فانظر أيُّها المنصف ما أبعدَ هذا السبب الذي سمَّيت به النَّساء صواحب يوسف، وكيف يستنكر مع هذا أن يُسمّى من آمن برسول الله ووصل إليه وتشرَّف برؤية غُرّته الكريمة صاحباً له، ومن أنكر على من سمَّى (¬2) هذا صاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليُنْكِرْ على رسول الله حين سمَّى النساء كُلَّهُنَّ صواحبَ يوسف. ومن ذلك الحديثُ الذي أُشيرَ فيه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل عبدَ الله بن أُبيٍّ رأسَ المنافقين فقال -عليه السلامُ-: " إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُقَال: إنَّ مُحَمَّداً يقْتُلُ أَصْحَابَه " (¬3) فسمَّاه صاحباً مع العلم بالنِّفاق للملابسة الظاهرة مع العلم بكُفرِه الذي يقتضي العداوةَ، ويمحو اسم الصحبة (¬4) في الحقيقة العرفية. ومما يَدُلُّ على التوسع الكثير في اسم الصحبة إطلاقها بين العقلاء وبين الجمادات كقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] ومثل تسمية ابنِ مسعود صاحب السِواد (¬5) وصاحب النعلين والوِسادة. وأمَّا الإجماع، فلا خلاف بينَ الناسِ أنَّه كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لاقى المشركين في الحرب فقُتِل من عسكر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ، ومِن المشركين ¬
جماعة أن يُقال: قُتِلَ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا، وبذا جرى عَمَلُ المؤرِّخين والإخباريِّين، يقولون في أيَّام صِفِّين: قُتِلَ من أصحاب عليٍّ كذا، ومن أصحاب معاوية كذا، ولا يَعْنُونَ بأصحابِ عليٍّ من لازمه، وأطال صحبتَه، بل من قائل معه شهراً، أو يوماً، أوَ ساعة. وهذا شيء ظاهر لا يستحق مَنْ قال بمثله الإنكار. ومن ذلك أصحابُ الشافعي، وأصحابُ أبي حنيفة، وأصحاب النَّصِّ، وأصحابُ الحديثِ والفقه، وأصحابُ الظاهر، يُقال هذا لمن لم ير الشافعيَّ، ولا يصحبُه قليلاً ولا كثيراً لملابسة ملازمة المذهب، ولو دخل في مذهب الشافعيِّ في وقتٍ، لقيل له في ذلك الوقت: قد صار مِن أصحابه، من غير إطالة ولا ملازمة للقول بمذهبه، وكذا (¬1) تسميتُه -عليه السلامُ- صاحبَ الشفاعةِ قبل أن يَشْفَعَ هذه ملابسة بعيدة، وكذا أصحابُ الجنة قبلَ دخولها، وأمثال ذلك. وكذلك سائرُ هذه الأشياء مما أُجْمعَ على صحته. كُلُّ هذا دليل على أنَّ اسمَ الصحبة يُطلق كثيراً مع أدنى ملابسة، والأمرُ في هذا واسع، وهي لفظة لغوية، والاختلاف فيها على أُصولنا أهونُ من الاختلاف في الفروعِ الظنيَّة التي كُلُّ مجتهدٍ فيها مُصيب (¬2)، لأنَّ ¬
الفروع الظَّنيَّة مشتملة على التحليل والتحريم، هذه لفظة لغوية ليس تحتها ثمرة. فأمَّا عدالةُ الصحابة وعدمها، فهي مسألة ثانية بدليل منفصلٍ عن التسمية. وأما الاحتجاجُ بقول الصحابيِّ، وجواز تقليد المجتهد، فليس بصحيح عندنا حتى نُفرِّعه على هذه المسألة. وأما ترتيبُ معرفة إجماعهم على هذا، فغلط، وهَّمه عبد الله بن زيد -رحمهُ الله-، لأنَّه لا يكون إجماعاً حتى يُصْفِقَ عليه أهلُ ذلك العصر: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ لم يره، ومن رآه مرةً أو أكثر، لأن الحجَّة هي إجماعُ المؤمنين، لا إجماعُ مَن صَحِبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - منهم، وهذا واضح -والله سبحانه أعلم-. فبان لك أنَّ الأمرَ قريبٌ في هذه التسمية، وأنَّ قول السَّيِّد: إنَّ قول المحدثين باطل قول بديع، وأن المسألة أهونُ من ذلك. وقد قال غيرُ واحدٍ من العلماء بجواز إثبات اللغة بالقياس، واختاره المنصورُ بالله في " الصفوة " ولم يُنْكِرْ ذلك أحدٌ عليهم، وهو أعزبُ من ¬
الفصل الثاني: في بيان المختار، وبقية ما ذكره السيد يشتمل على مسألتين:
قول المحدثين، وأكثرُ ما في الباب أن يُضَعَّف دليلُهُم، فما شأنُ الإنكارِ على من اتّهم بدعوى الاجتهاد، والسَّيِّد ذكر ذلك في الاستدلال على الشكِّ في تعذُّرِ الاجتهاد والقطع بتعسُّره، وأين ذلك الذي قصد من اسم من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللغة وما بيْنَ هذين من الملابسة. الفصل الثاني: في بيان المختار. والمختار أنَّ ذلك أمرٌ عرفيٌّ اصطلاحيُّ يختلفُ باختلاف الأزمانِ والبُلدان، وقد يُوضَعُ في بعضِ الأزمان اصطلاح لم يكن قبلَ ذلك الزمان، مثل اسم النَّحو، فإنَّهُ اسمٌ مُوَلَّدٌ غيرُ عربي (¬1) وقد يصطَلِحُ بعضُ أهلِ الفنون في فَنِّهم ما لم يصطلح عليه غيرُهُم مثلَ الكلام، فإنَّه عند النحاة المفيد، وعند المتكلمين: ما تركَّبَ مِن حرفين فصاعداً، فإذا ثبت ذلك، لم يمتنِعْ أن يصطَلِحَ المحدِّثون على أمرٍ في تسمية الصحابة، ويصطَلِحَ الأصوليُّون على خلافه، ويكونَ المفهوم من اصطلاحِ كل فريق ما اصطَلَحُوا عليه، مثل ما يفهم من النحاة متى أطلقوا اسم الكلام أنَّه المفيد، وأنَّ الكلمة الواحدة لا تُسمَّى كلاماً. ويُفهم من المتكلمين متى أطلقوا ذلك خلافَ ما فهمنا من النحاة، ومثل هذا لا حَجْرَ فيه، ولا تضييق -والحمد لله-. ومدارُ كلام السَّيِّد في هذه الأمور كلها على إنكار مخالفة المحدِّثين لاختياره -أيده الله- في التصحيح وشرائطه، وهذه غفلة عظيمة، لأن تصحيحَ الحديثِ ظنيٌّ اجتهادي، ولذلك اشتدَّ الخلافُ في شرائطه، ألا ترى أنَّ شرط البخاري غيرُ شرطِ مسلم في الرجال والاتصال، وكذلك ¬
أحدهما: من قاتل عليا -رضي الله عنه- من البغاة والخوارج
الاختلافُ في قبول المتأولين، والفرق بينَ الداعية وغيره، وبين من بلغ الكفرَ، ومن لم يبلغه، ومع ذلك، فالخلافُ في تصحيح الحديث، كالخلاف في فروع الفقه لا يستحق النكيرَ، وقد ذكر ابنُ حجر في مقدمة شرح البخاري (¬1) مما خُولِفَ البخاريُّ في تصحيحه أكثرَ مِن مئة حديث بأعيانها غيرَ ما خُولِفَ فيه من القواعد، مثل حديث عكرمة (¬2) وقبول عنعنة المدلسين (¬3) في بعض المواضع. فالمحدثون قصدوا تدوينَ السنن على ما اختاروه في مواضع الخلاف والسَّيِّد ظن أنُّهم ادَّعوا الإجماع أو الضرورة في التصحيح، فبنى على غير أساس- وسيأتي زيادة بيان لهذا. وبقية ما ذكره السَّيِّد -أيَّده الله تعالى- يشتمل على مسألتين: أحدهما: من قاتل علياً -عليه السلام- من البُغاة والخوارج ¬
المسألة الثانية: قبول الأعراب
والموارق، والسَّيِّد ذكر هذه المسألة في هذا الموضع ذكراً مختصراً، وأعادها فيما يأتي بأطول من ذلك، فنؤخرها إلى حيث بسط القولَ فيها. والمسألة الثانية: قبولُ الأعراب، والسَّيِّد قد أعادها حيثُ بسط القولَ في هذا المعنى، وقد ذكر في هذا الموضع الأعرابي الذي بال في المسجد (¬1) ووفد بني تميم (¬2)، وما نزل فيهم، ووفد عبد القيس (¬3) ولم يُعِدْ هذه الأشياء في غيرِ الموضع فنذكرها ها هنا، فهي ثلاثُ حُجج احتج بها السَّيِّد على بُطْلانِ كثير من أخبار الصحاح. الحجة الأولى: خبرُ الأعرابيِّ الذي بال في مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قال السَّيِّد أيَّدَه الله: إنَّهُ يلزم أنَّه عدل. قلنا: الجوابُ من وجوه: الوجه الأول: أن نقول من أين صح للسَّيِّد أنه كان في عصره -عليه السلامُ- أعرابيٌّ بال في المسجد، فثبوتُ هذا مبنيٌّ على صحة طرق الحديث وقد شكَّ في تعذرها، إن صحَّت طريق هذا، بطل الشَّكُّ، إذ من البعيدِ أن يصح طريقُ هذا دون غيرهِ. الوجه الثاني: أنَّا قد ذكرنا أنَّ كل مسلم ممن عاصر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يُعْلَمُ جرحُهُ، فإنَّه عدلٌ عند الجِلَّة من علماء الإسلامِ من الزيدية، والمعتزلة، والفقهاء، والمحدثين، وأن هذه المسألة مما لا ينكر. وهذا الأعرابيُّ مِن جملة من دخلَ تحت هذا العموم فنسأل السَّيِّد: ما الموجب ¬
لتخصيصه بالذكر؟ فإن الخصم ملتزم لعدالته، ومطالب بإبداء المانع منها، فإن قال السَّيِّد: إنَّ بولَه في المسجد يمنع من العدالَة، لأنَّه محرَّم. فالجواب عليه: أن الجرحَ بذلك غيرُ صحيح، لأنَّه لا دليلَ على أنَّه فعله وهو يعلمُ بالتحريم، ويقوِّي هذا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - منع مِن قَطْعِ درَّتِهِ، ونهي من نهاه، وقال: " إنَّ منْكمْ مُنَفِّرينَ " (¬1) ولو كان في فعله متعمداً لارتكاب ما حرَّمه اللهُ -تعالى- مجترئاً معانداً لم يستحق هذا الرفق العظيم، ولكان الأشبه أن يُزجر عن الجرأة، وهذا مقوٍّ فقط. والمعتمد أنَّ الأصل جهله بالتحريم، لكنِّا تقوينا بأنه -عليه السلامُ- رَفَقَ به، ولان له لجهله بذلك -والله أعلم-. فإن قال السَّيِّد -أيده الله-: إنَّ ذلك يقدح في العدالة من أجل دِلالته على الخِسَّة وقلة الحياءِ والمروءة، إذ البولُ في حضرة الناس يَدُلُّ على ذلك، كما يقدح بأمثال ذلك من المباحات، كالأكل في الأسواق. قلنا: الجواب أنَّ هذا مما يختلِفُ بحسب العُرف، وقد كانت الأعرابُ في ذلك الزمان وفي غيره لا تستنكِرُ مثلَ ذلك في باديتها، فكل ما كان يعتادُهُ أهلُ الصيانة من المباحات في بلدٍ أو زمانٍ لم يقدح في عدالة أحدٍ من أهل ذلك الزمان، ولا مِن أهل ذلك المكان. وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في المدينة بغير ردَاءٍ، ولا نعلٍ، ولا قَلنْسُوَةٍ يعود المرضى كذلك في أقصى المدينة. ومثل هذا في غير ذلك الزمان، وفي بعضِ البُلدان مما يتكلم بعضُ أهلِ الفقه في قبولِ فاعله لعرف يختصُّ بتلك البلدة، وبذلك الزمان، ولم يكن هذا مستنكراً في زمانه -عليه السلام- ¬
فقد كانوا أقربَ إلى عرف أهل البادية. وكذلك فقد ورد عنه -عليه السلام- أنه أخذ قِطْعَةً من لحم، وجعل يلُوكُها في فيه وهو يمشي في الناس، ذكر معناه أبو داود (¬1). وقد أردت -عليه السلامُ- أمرأةً خلفه في بعض الغزوات وهي أجنبية على بعيره (¬2) وربَّما كان هذا مما يتجنَّبُه أهلُ الحياء في بعض الأزمان وبعض الأمكنة، وقد ثبت أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتجنَّبه، وقد ثبت أنَّه -عليه السلام- كان أشدَّ حَيَاءً مِن العذْرَاءِ في خِدْرِهَا (¬3) وأنَّه كان لا يُثْبِتُ بصرَه في أحدٍ حياءً منه. فلولا اختلاف العرف لم يفعل -عليه السلام- ما يُستَحيي منه في غير زمانه -عليه السلام-. وقد غَلِطَ من جرح الصُّوفيَّة بما يرتاضون عليه من هذه المباحات، مغتراً بعموم تمثيلِ الفقهاءِ، والوجهُ في الغلط في ذلك أنَّه ليس بجرح في ¬
الوجه الثالث: لو قدرنا أن هذا مما يجرح به، لكان مما يحتمل النظر والاختلاف
نفسه بالاتفاق، لأنَّه مباح لا إثم فيه، وإنَّما عد جرحاً لمن هو في حقَّه دلالة على الاستهانة بالدِّين، وعدمِ المبالاة والخَلاعة، وقِلَّةِ الحياء، فحين صدر على وجهٍ يُعرف معه أنَّه لا يدل على ذلك، بل ربَّما عرف معه أنَّ صاحبه على العكس من ذلك، فأين دلالته على الجرح؟. الوجه الثالث: لو قدرنا أنَّ هذا مما يجرح به، لكان مما يحتمل النظر والاختلاف، ولا يُعاب على من جرح به ولا على من لم يجرح به. الوجه الرابع: سلَّمنا أنه مجروح، فيجبُ من السَّيِّد -أيَّدَه اللهُ- أن يُبيِّن كم روى هذا الأعرابيُّ مِن الحديث في كتب الصحاح، ومن أين له أنَّ أهلَ الصحاح رَوَوْا عنه؟. الوجه الخامسُ: سلَّمنا أنَّهم رَووْا عنه، وأنه مجروح، فما وجهُ الاحتجاج على الشَّكِّ بتعذُّرِ (¬1) الاجتهاد بهذا، وليس يمنع هذا من إمكان الاجتهاد، بل كُلَّما كَثُرَ المجروحون، سَهُلَ الاجتهادُ، لأنه يَسْقُطُ التكليفُ بحديثهم، فَيقِلُّ التكليفُ بحفظه وبالعملِ به. والكلامُ مِن أصله إنّما هو في الاجتهاد، وأنّه متعسِّر أو متعذِّر. الحجة الثانية: وفدُ بني تميم. قال السَّيِّد -أيَّده الله-: إنَّه يلزم قبول حديثهم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الحجرات: 4]. والجوابُ من وجوه: ¬
الوجه الأول: من أين صح أن الآية {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} نزلت في بني تميم
الأول: من أينَ صَحَّ (¬1) أنَّها نزلت في بني تميم، وأنَّها نزلت في المسلين، والطريق إلى صِحة ذلك عندك مشكوك في إمكانها وتعذرها كما في سائرِ الأخبار. الثاني: أنَّ نِدَاءهم له -عليه السلام- مِن وراء الحُجُرَاتِ كان قبل إسلامِهم، وإنَّما قال الله: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون}، لأجل ندائهم، هذا هو السابقُ إلى الأفهام كما إذا قلت: إنَّ الذين يكفرون بالله لهم عذاب أليم. فإنَّ العذابَ الأليمَ مستحقٌّ بسبب الكفر، وهو تنبيه ظاهر على العلة، وقد ذكره أهلُ الأصول. قالوا: لو قال -عليه السلام- من أحدث فليتَوضَّأ، كان ذلك تنبيهاً على أنَّ الحدث هو الموجبُ للوضوء، فإذا ثبت ذلك، لم يتوجَّه عليهم بَعْدَ الإسلام الذمُّ الذي صدر على فعلهم قَبْلَه، وإنّما أنزَلَهُ اللهُ بعد إسلامهم تأديباً لهم ولغيرهم أن لا يعودوا لمثله، كما أنزل بعدَ توبةِ آدم -عليه السلام-: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] تأديباً لِغيره من الأنبياء-عليهم السلام- ولِحكمة يستأثِرُ اللهُ تعالى بعلمها، وكما قال في طائفة من الصحابة يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنيا} مع وقوله: {وَلقَدْ عَفَى عَنْكمْ} [آل عمران: 152]. ¬
الوجه الثالث: أن قوله {لا يعقلون} ليس على ظاهره لوجهين:
الوجه الثالث: أنَّ قوله: {لا يعقِلون} ليس على ظاهره لِوجهين: أحدهُما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقلُ. الثاني: أنَّه -سبحانه- أجلُّ من أن يَذُمَّ ما لا يَعْقِلُ، كما لا يَصِحُّ نزولُ آيةٍ في ذَمِّ الأنعامِ بعدم العقل، إذ من لا عقلَ له، فلا ذنب له في عدم العقل. إذا ثبت ذلك، فالمراد ذمُّهم بالجفاوة، وعدم التمييز للعوائد الحميدة، وآداب أهل الحياءِ والمروءة وهذا ليس من الجرح في شيء، فإنَّ لطفَ الأخلاق، والكيْسَ في الأمور، ليس مِن شرط الراوي. ومبنى الرِّواية على ظنِّ الصِّدق كما قَدّمناه، وأولئك الأعرابُ -لا سيَّما ذلك الزمان- كانوا من أبعدِ النَّاسِ عن الكذب، والظنُّ لصدقهم قويٌّ، لا سيَّما في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بُدَّ -إِن شاء الله- من الإشارة إلى أنه لا داعي للمسلم إلى الكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في غالب الأحوال، وقد قدمنا الأدلة على أنهم عدول بدخولهم في الإسلام ما لم يَدُلَّ دليل على الجرح. الوجه الرابع: أنَّ صدور مثلِ هذه القوارع، على جهة التأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى، أو من رسوله -عليه السلام- لا تدُلُّ على جرح منْ نزلت فيه، أو بسببه ما لم يكن فيها ما يَدُلُّ على فسقه وخروجه من ولاية الله، فقد ينزل شيءٌ من القرآن العظيم، وفيه تقريع لبعض الأنبياء -عليهم السلام- وتأديبٌ لبعض الرسل الكرام، وقد قدَّمنا كلاماً في العدالة، ودللنا عليه، وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وأنزل اللهُ أولَ سورة الممتحنة في شأن حَاطِبِ بنِ أبي
بَلْتَعَه، وَشَدَّدَ على مَنْ والى أعداءَ اللهِ ولم يكن ذلك جرحاً في حاطب، فقد عَذرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونهي عمر عنه، وقال له: " إنَّك لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍ، فقَالَ لَهُمْ: اعْملُوا ما شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " (¬1). وقد ثبت في صحيح مسلم (¬2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ حاطباً يَدْخُلُ الجنة -رضي الله عنه-. وقد نزل الوعيدُ في رفع الأصواتِ عند رسولِ الله، فأشفق (¬3) بعضُ الصحابة (¬4) من ذلك وكان جهوريَّ الصوتِ (¬5). ولم يكن ذلك جرحاً في أولئك. ¬
الوجه الخامس: سلمنا أنه جرح فيهم، فنحن نترك حديثهم، فأين تعذر الاجتهاد وتعسره إذا تركنا حديث بني تميم؟
وقد أنزل اللهُ فيه -عليه السلامُ- سورة عَبَسَ، ونزل في آدم: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]. وقال -عليه السلام- لأبي ذر -وهو الذي ما أظلَّتِ (¬1) السَّمَاءُ أصدَقَ منه-: " إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهلِيَّة " رواه البخاري (¬2) قاله -عليه السلامُ- وقد سبَّ امرأة، وقال لمن زَكَّى بعضَ الأمواتِ: " وما يُدْرِيكَ لَعَلهُ تَكَلَّمَ بِمَا لا يَعْنِيهِ أوْ بَخِلَ بِمَا لا يُغْنِيهِ " (¬3)، كما سيأتي في آخر الكتاب في أحاديث التخويف. وعن عليٍّ -عليه السلام- لابن عباس لمّا راجعه في المتعة: إنَّكَ امْرُؤٌ تَائِه (¬4). الوجه الخامسُ: سلَّمنا أنه جرح فيهم، فنحن نترُكُ حديثَهُم، فأين تعذُّرُ الاجتهادِ وتعسُّره إذا تركنا حديثَ بني تميم؟. الوجهُ السادِسُ: أنَّ هذا يُودِّي إلى جرح بني تميم كُلِّهم، وهذا ¬
الحجة الثالثة: وفد عبد القيس، ولم أعلم ما وجه تخصيصهم بالذكر والجواب على ما ذكره من وجوه
بعيد لم يُعْهَدْ مِثْلُه، إنَّما يُجرح رجل معيَّنٌ بشيء معيَّن، وأمَّا جرح قبيلة من المسلمين فلم يُعهد مثل هذا، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من أهل العلم. الحجة الثالثة: وفدُ عبدِ القيس، ولم أعلم ما وجهُ تخصيصِهم بالذكر، فإنَّهم من جملة الأعراب إلاَّ أنَّه ارتدَّ منهم من ارتدَّ بعد الإسلام. والجواب على ما ذكره من وجوه: الأول: أنّ إسلامهم يقتضي قبولَ حديثهم ما داموا مسلمين، وردَّتُهم تقتضي ردَّ حديثهم من بعد أن ارتدوا، ولا مانع مِن ورود التعبُّد بهذا في العقل، ولا في الشرع المنقول بالتواتر المعلومِ معناه، بل قد بيَّنا فيما تقدم قبولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن أسلم عقيبَ إسلامه، والدليلُ عامٌ لوفد عبدِ القيس ولغيرهم. الثاني: إمَّا أن يكون السَّيِّد أنكر قبولَهم، لأن من أسلم لا يُقْبَلُ حتى يُختبر، أو لأنهم ارتدُّوا بعد الإسلام، إن كان الأوّل، فقد بيَّنا أنَّ قبولهم مشهور منسوب إلى طوائف الإسلام من الزيدية والمعتزلة والشافعية والحنفية، وسائر الفرق، وبينا الأدلةَ على ذلك وبيَّنا أنَّ أقصى ما في الباب أن لا يترجَّح للعالم موافقة الجماهير على هذا، لكن لا يَحِلُّ له الإنكارُ عليهم وإن كان السَّيِّد يُوافق أنَّ قبولَ المسلمين في ذلك الزمان قبل الاختبار غيرُ منكر، وإنّما أنكر قبول المسلم الذي يريد أن يرتدَّ بعد إسلامه، فهذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أنَّ العلم بأنَّه يُريد أن يرتدَّ من قِبَل علم الغيب الذي استأثر الله به، وقد حكم أميرُ المؤمنين -عليه السلام- بشهادة شاهدين، ثم انكشف أنهما شهدا من غير علم فلم يلزمه من ذلك محذور.
الثالث: سلمنا أن وفد عبد القيس مجاهيل ومجاريح فما للاجتهاد؟ والتعذر أو التعسر؟
وثانيهما: أنَّ العدل المخبور إذا فَسَقَ بعد العدالة، لم يقدح ذلك في شهادته وروايته قبلَ الفسق، ولا أعلم في ذلك خلافاً. وقد ثبت أنَّ المسلمين كانوا عدولاً في زمانه -عليه السلام- عقيب إسلامهم، فإذا كفروا بعدَ العدالة، لم يقدح كفرُهُم فيهم قبل أن يكفروا، ولا قال أحد: إنَّ الكفر يقدح في الراوي قبل أن يكفر. الثالث: سلمنا أنَّ وفد عبدِ القيس مجاهيل ومجاريح فما للاجتهادِ، والتعذُّر أو التَعَسُّرِ، ولا نعلم لوفد عبد القيس حديثاًً إلا حديثاًً واحداً في دعوة نبويَّة وذلك ما رواه الإمام أحمد (¬1) عن وفد عبد القيس أنَّهم سَمِعُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اللهمَّ اجعلنا من عِبادك المنتجبين (¬2) الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، الوفدِ المتقبّلين ". قالوا: يا رسولَ الله: وما الوفدُ المتقبلون؟ قال: " وفد يَقْدَمُونَ من هذه الأمة مع نبيهم إلى ربهم -تبارك وتعالى- " أخرجه الهيثمي " في مجمع الزوائد " (¬3) وقال: فيه من لم أعرفهم. وأحاديثُ الصحابةِ الكبار هي المتداولة في كتب الحديث والفقه والتفسير، وأحاديثُ الأعراب الجُفاة غيرُ معروفة، ورجال السُّنَّة قد صنَّفوا كتباً كباراً في معرفة الصحابة، فبينوا فيها من هو معروفُ العدالة من الأصحاب، ومن لا يُعرف إلا بظاهر إسلامه من الأعراب، ومن له رواية عنه -عليه السلامُ- ومَنْ ليس له رواية، ومن أطال الصحبة، ومن لم يُطِلْها، والناظر ¬
ذكر جلة الرواة من الصحابة، رأى المؤلف أن يذكر أسماءهم ليعرف أن حديثهم هو الذي يدور عليه الفقه
في كتب الحديث متمكن من تمييز أحاديث الصحابة المعدلين وأحاديثِ الأعراب المجهولين على ندورِها وقلتها، وإنَّما يلزم الجهل لو كان أهلُ الحديث يُرسِلُون الأحاديثَ، فأين تعذُّر الاجتهاد؟ وما معنى التشويش في جميع الحديث بأنَّ بعض وفدِ عبد القيس ارتدُّوا وإذا ارتدّ وفدُ عبدِ القيس فمَهْ (¬1) أتبطُلُ السُّنَّة، ويضيعُ العلمُ، ويلزم أن لا يَصِحَّ حديثُ الثقات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلامُ المعتلُّ؟! والاستدلال المختل؟! وهذا ذكر جُلةِ الرواة من الصحابة رأيتُ أن أذكر أسماءهم لِيُعْرَفَ أنَّ حديثهم هو الذي يدور عليه الفقه، وينبني عليه العلم، وأنَّ حديث جُفاة الأعرابِ المجاهيل شيءٌ يسيرٌ نادرٌ على تقدير وقوعه، ويُعْلَمَ أنَّه لم يُبْنَ على حديث جفُاة الأعراب حكمٌ شرعيٌّ، فإن اتفق ذلك على سبيل الشذوذ، ففي نادر الأحوال ممن يستجيزُ ذلك من العلماء من غير ضرورة إلى ذلك، فإنه لو لم يستجز الرواية عنهم، كان له في القرآن وما صحَّ من السُّنَّة غُنيةٌ وكفاية. وإذا أردتَ أن تعرِفَ صدق هذا الكلام، فَأرِنَا مسألة احتج عليها المُحَدِّثون والفقهاءُ بأحاديثِ الأعراب الجُفاة، وأخبرنا بمسألة واحدة تمسَّكوا فيها بأحاديث أولئك الأعراب. وكذلك حديثُ معاوية بن أبي سفيان، فإني ما أعلم أنه قد مرَّ لي في فقه الفُقهاء، ولا مذاهب المحدثين في التحليلِ والتحريم مسألةً ليس لهم فيها حُجَّةٌ إلا حديثَ معاوية وروايتَه، وفي عدمِ ذلك، أو نُدرته ما يدّلُّكَ على ما ذكرنا من أن جلَّة الرواة هُمْ عيونُ الصحابةِ المشاهير لا جُفاةُ الأعراب المجاهيل، فدع عنك هذه الشبَه ¬
الضعيفة والمسالِكَ الوعرة. وإما أن يكون من أهل العلم المجدِّدين لما دَرَسَ من آثاره، المجتهدين في الرَّد على من أراد خفضَ ما رفع الله مِن مناره، وإلا فباللهِ أرحنا من تعفيتك لِرسومه، وتغييرك لوجهه، فحديثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ركنُ الشريعة المطهرة المحروسة إلى يوم القيامة وليس يَضُرُّ أهلَ الإسلام جهالةُ بعضِ الأعراب، فلنا عن حديثهم غُنيةٌ بما رواه عليٌّ بن أبي طالب، وأبو بكر، وعثمان، وعَمَرُ، وطلحة، والزبيرُ، وسعدُ بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بنُ الجراح، وعبدُ الرحمن بنُ عوف، وسعيدُ بنُ زيد، هؤلاء العشرةُ المشهود لهم بالجنة -رضي الله عنهم- وبعدَهم من لا يُحصى كثرةً من نبلاء المهاجرين والأنصار، والذين اتَّبَعوهم بإحْسَانٍ مثل الإماميْن الكبيريْنِ سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنة الحسنِ والحسينِ -عليهما السلام- وأمَّهما سيدةِ نساء العالمين -رضي الله عنها-، وعمّارُ بنُ ياسر، وسلمانُ الفارسي، وخزيمةُ بنُ ثابت ذو الشهادتين، وأنسُ بن مالك خادمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعائشةُ أُمُّ المؤمنين -رضي الله عنها-، وحَبْرُ الأمَّةِ عبد اللهِ بن العباس، ووالدُه العباس عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه الفضلُ -رضي الله عنهم-، وجابرُ بنُ عبد الله، وأبو سعيد الخدريُّ، وصاحبُ السِّواد (¬1) عبدُ الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والبراءُ بن عازب، وأمُّ سلمة أمُّ المؤمنين، وأبو ذر الغِفاريُّ الذي نصّ -عليه السلام- أنّه لم تُظِلَّ السَّماءُ أصْدَقَ لهجةً منه، وعبدُ الله بن عمرو الذي أَذِنَ له -عليه السلامُ- في كتابة حديثه الشريف، فكتب ما لم يكتبْه غيرُه (¬2) ¬
فاستكثر من طَيِّب، وأبو أمامة الباهليُّ، وحُذَيَفْةُ بنُ اليمان، والحافظُ الكبير أبو هريرة الدَّوسيُّ الذي قرأ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في نمِرتِه (¬1)، ثمَّ أمره، فلفَّها فلم ينسَ شيئاً مما سَمِعَه (¬2)، وأبو أيوب الأنصاريُّ، وجابرُ بن سَمُرةَ الأنصاري، وأبو بَكْرَةَ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأسامةُ بنُ زيد مولاه -عليه السلام-، وسمرةُ بن جُنْدُبٍ، وأبو مسعود (¬3) الأنصاريُّ البدري، وعبدُ الله ابن أبي أوفى، وزيدُ بن ثابت، وزيدُ بن خالد، وأسماءُ بنتُ يزيد بنِ السكن، وكعبُ بنُ مالك، ورافعُ بن خدِيج، وسلمةُ بنُ الأكوع، وميمونةُ أمُّ المؤمنين، وزيدُ بنُ أرقم، وأبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعوفُ بن مالك، وعديُّ بنُ حاتِم، وأمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، وحفصةُ أمُّ المؤمنين، وأسماءُ بنتُ عميس، وجُبيرُ بن مطعم، وأسماءُ بنتُ أبي بكر الصِّديق ذاتُ النِّطاقين، وواثِلَةُ بنُ الأسقع، وعقبةُ بن عامر الجُهني، وشَدَّادُ بنُ أوس ¬
الأنصاريُّ، وعبدُ الله بنُ زيد، والمِقدامُ أبو كريمة، وكعبُ بن عُجْرَة، وأمُّ هانىءٍ بنتُ أبي طالب، وأبو بَرْزة، وأبو جُحيفة، وبلالٌ المؤذن، وجُنْدُبُ بنُ عبد الله بن سفيان، وعبدُ الله بن مُغَفَّل، والمِقدادُ، ومعاويةُ بن حَيْدَةَ، وسهلُ بن حُنيف، وحكيم بنُ حِزام، وأبو ثعلبة الخُشَني، وأمُّ عطيَّة، وَمَعْقِلُ بنُ يسار، وفاطمةُ بنتُ قَيْسٍ، وخَبَّابُ بنُ الأرت، ومعاذُ بنُ أنس، وصُهَيبٌ، وأمُّ الفضلِ بنتُ الحارث، وعثمانُ بنُ أبي العاصي الثقفي، ويعلى بن أُميَّة، وعُتبة بن عبدٍ، وأبو أُسَيْدٍ السَّاعِديُّ، ومالكُ بنُ عبد الله بن بُحينةَ، وأبو مالك الأشعريُّ، وأبو حُميدٍ السَّاعديُّ، ويعلى ابنُ مُرّة، وعبدُ الله بن جعفر، وأبو طلحة الأنصاريُّ، وعبدُ الله بن سلَام، وسهلُ بن أبي حَثْمَة، وأبو المَليح الهُذَلِيُّ، وأبو واقدٍ الليثيُّ، ورِفاعةُ بن رافع، وعبدُ لله بن أُنيس، وأوسُ بنُ أوسٍ، وأمُّ قيس بنت مِحْصَنٍ، وعامرُ بنُ ربيعة، وقُرَّةُ (¬1)، والسّائبُ (¬2)، وسعدُ بنُ عُبَادَةَ، والرُّبَيِّعُ بنت مُعَوِّذٍ، وأبو بُردة (¬3)، وأبو شريح (¬4)، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَة، وصفوانُ ¬
ابن عسَّال، وسُراقة بن مالك، وتميمٌ الدَّاريُّ، وعمرو بنُ حُريث بن خولة الأزديُّ، وأسيدُ بنُ الحُضير، والنَّواسُ بنُ سمعان الكِلابيُّ، وعبدُ الله بن سَرْجِس، وعبدُ الله بن الحارث بن جَزْءٍ، والصَّعْبُ بن جثَّامة، وقيس بنُ سعد بن عبادة، ومحمد بن مَسْلَمة، ومالك بنُ الحويرث الليثيُّ، وأبو لُبابة بنُ عبد المنذر، وسليمانُ بنُ صُرَدٍ، وخَوْلَةُ بنتُ حكيم، وعبد الرَّحمن بن شِبْل، وثابتُ بن الضحاك، وطلقُ بن عليٍّ، وعبدُ الرحمن بن سَمُرة، والحكمُ بن عمير، وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكعبُ بن مرَّةَ، وأبو محذورة، وعروة بن مُضرِّس، ومجمّع بن جارية، ووابصة بنُ معبد الأسديّ، وأبو اليَسَرِ، وأبو ليلى الأنصاريُّ، ومعاوية بنُ الحكم، وحُذيفةُ ابن أسيد الغِفاري، وسلمانُ بن عامر، وعُروَةُ البَارِقي، وأبو بَصْرَة الغِفاريُّ، وعبدُ الرحمن بن أبزى، وعُمَرُ بنُ أبي سلمة، وسُبَيْعَةُ الأسلميَّة، وزينبُ بنتُ جحش أمُّ المؤمنين، وضُباعَةُ بنتُ الزبير بن عبد المطلب، وبُسْرَةُ بنتُ صفوان، وصفيَّةُ أمُّ المؤمنين، وأمُّ هاشم بنتُ حارثة الأنصارية، وأمُّ كلثوم، وأمُّ كُرْزٍ، وأم سُلَيْمٍ بنتُ ملحان، وأمُّ معقل الأسدِية. وضِعفُ هؤلاء، بل أكثرُ من ضعفهم ممَّن لو ذكرناهم على الاستقصاء لطال ذِكْرُهُمْ، وطاب، فطالعهم إن شئت في كتاب " الاستيعاب " (¬1) وغيرِه من كتب معرفة الأصحاب، فمعرفتُهم أحدٌ أنواعِ ¬
علوم (¬1) الحديث كما ذكره المصنِّفون في علم الحديث كابن الصَّلاح، وزين الدِّين، وغير واحد. وقد ألفوا في معرفة الصحابة كتباً كثيرةٌ منها " الصحابة " لابن حِبَّان (¬2) مختصر في مجلد، و" معرفة الصحابة " لابن منده (¬3) كتابُ جليل، ولأبي موسى المَدِيني (¬4) عليه ذيل كبير، ومنها " الصحابة " لأبي نُعيم الأصبَهاني (¬5) جليلُ القدر، ومنها " معرفة الصحابة " للعسكريِّ (¬6)، ¬
ومنها كتابُ أبي الحسن عَلِيِّ بنِ محمد بنِ الأثيرِ الجَزَرِيِّ (¬1) المسمّى بـ " أُسْدِ الغابة في معرفة الصّحابة " وهو أجمعُ كتابٍ في هذا المعنى جمع فيه بَيْنَ كتاب ابن مَندَه، وذيْلَ أبي موسى عليه، وكتاب أبي نُعيم و" الاستيعاب " وزاد مِن غيرها أسماءٌ (¬2). واختصره جماعة، منهم الحافظُ أبو عبد الله الذَّهبيُّ في مختصر لطيف (¬3)، وذيَّل عليه زينُ الدِّين بعدَّةِ أسماءٍ لم تقع له ومنهم الكاشغري (¬4). وقد ذكروهم أيضاً في تواريخ الإسلام، وكتب رجالِ ¬
تقسيم الصحابة إلى اثنتي عشرة طبقة:
الكُتب الستة، مثل كتاب عزِّ الدين بن الأثير (¬1)، وكتب الحافظ أبي عبد الله الذهبي (¬2)، وكتب الحافظ المِزِّيِّ وغيرها من المصنفات الحافلة في هذا المعنى (¬3). فانظر فيها يتميَّز لك الصحابيُّ من الأعرابيِّ، والفاضل من المفضول، والمخبور من المجهول. فقد بيَّنَ علماءُ الحديث في علوم الحديث في كتب معرفة الصحابة أن الصحابة ينقسِمون إلى اثنتي عشرة طبقة: الأولى: قُدَمَاءُ السابقين الذين أسلموا بمكة، كالخلفاءِ الأربعة. والثانية: أصحابُ دارِ النَّدوة. والثالثة: مهاجِرَةُ الحبشة. والرابعة: أصحاب العقبة الأولى. والخامسة: أصحابُ العقبة الثانية، وأكثرُهم من الأنصار. ¬
والسادسة: أوَّلُ المهاجرين الذين وصلوا إليه إلى قباء قبل أن يدخلَ المدينة. والسابعة: أهل بدر. والثامنة: الَّذِينَ هاجروا بينَ بدرٍ والحُدَيْبِبَة. والتاسعة: أهلُ بيعةِ الرضوان. والعاشرة: من هاجر بَيْنَ الحديبية وفتح مكة. والحادية عشرة: مُسْلِمَةُ الفتح. والثانية عشرة: صبيانُ وأطفال رَأَوْا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح، وفي حجة الوداع وغيرهما (¬1). قال ابن الصّلاح (¬2): ومنهم من زاد على ذلك، وأمَّا ابنُ سعد، فجعلهم خَمْسَ طبقاتٍ فقط (¬3). فخذ من حديث هؤلاء الأعلامِ ما صفى وطاب، وأجمعَ على الاعتماد عليه ذوو الألباب، ودَعْ عنك التَّشكيك في السنن والارتياب، وخلطَ نبلاءِ الصحابة بجُفَاةِ الأعراب، والتحيُّر في ثبوت الآثار والاضطراب، وليأمن خوفُك من ضَياع السنّة والكتاب، فلتَطِبْ نفسك بحفظ ما ضَمِنَ بحفظه ربُّ الأرباب. ¬
وأما الأصل الثاني وهو ادعاؤه أن معرفة تفسير ما يحتاج اليه صعب جدا، مع أنه صنف تفسيرا، اعتمد فيه على الفخر الرازي مع أنه في نظره معاند غير متأول
قال: وأما الأصلُ الثاني -وهو معرفةُ تفسيرِ ما يحتاج إليه- فصعبٌ جداً حصولُه على الوجه المعتبر. أقول: قد صنَّف السَّيِّد أيَّده الله تفسيراً للقرآن وتوسَّع في النقل حتى روى عن المخالفين عموماً، وعن الرَّازي (¬1) خصوصاًً، واعتمد تفسيره " مفاتيح الغيب " مع نصه على أنه معانِد غيرُ متأول، وعلى أنه غيرُ مُوَفَّقٍ ولا ¬
افتراض من المؤلف أن يجيب السيد عن ذلك بأنه لم يفسر وإنما روى تفسير العلماء، والجواب عليه من وجوه
محقق. فالله المستعان. فإمَّا أن يكونَ على الوجه المعتبر أو لا، إن كان على الوجه المعتبر، فما الفرقُ بَيْنَ السَّيِّد وغيرِه مِن طلبة العلم؟ فإنَّهم يطلبُون ما طَلَب، ويفهمون ما فهم، وإن كان تفسيرُه على غير الوجه المعتبر، فهو أجلُّ مِن ذلك. فإن قال: إنه لم يُفسِّر، إنّما روى تفسيرَ العلماء. قلنا: الجوابُ من وجوه: الأول: أنه لا معنى للتقليد في التفسير على أصل السَّيِّد، لأن التفسير، إمَّا أن يكون ممَّا تُعبَّدنا فيه بالعمل، فليس لأحد أن يَعْمَل به، ولا يعتقده إلا المجتهد، وإن كان التفسيرُ مما تُعُبِّدْنا فيه بالاعتقاد دونَ العمل، فذلك أبعدُ على أصول أهل المذهب، لأن المقرر عندهم أنّه لا يجوزُ أن يتعبدنا اللهُ بالظَّنِّ في باب الاعتقادات ولم يبق إلا تفسيرُ ما هو معلومُ المعنى لكل مكلفٍ مثل تفسيرِ لا إله إلا الله، ونحْوُ ذلكَ مستغنٍ عن التفسير. الثاني: أنّه قد قال: إن اتِّصال الرواية لهم على وجه الصِّحةِ صعبٌ أو متعذِّر، فشك في تعذُّرها، فدلَّ على أنَّه لم يحصل له روايةٌ صحيحة عنهم، لأنها لو حَصَلَتْ له، لوجب القطعُ، وزال الشَّكُّ في التعذُّرِ. الثالث: إمّا أن تكون الرِّواية تفيد التفسير أوْ لا؟ إن لم تكن مفيدة، فالتصنيف عبثٌ، والقراءةُ فيه عبث، والاستماعُ له كذلك. وإن كانت تُفيد، لزم السؤال. ثم إن السَّيِّد في هذا الكلام لم يَزِدْ على أنَّه صعَّب، ولم يقطع بأنَّه محال، فأخبرنا إذا كان العلمُ بمعاني كتاب الله صعباً هل هو من الدِّين أم لا؟ إن قلتَ: ليس من الدِّين، خالفتَ الإجماع، وإن
قول السيد: "نقل التفسير عن الرسول لا يكاد يوجد إلا في مواضع قليلة"، ويرد هنا أسئلة:
قلتَ: هو من الدِّين، فأخبرنا: كيف أمر الله فيما يَصْعُبُ (¬1) من الدِّين، هل أوصى بالصبر، أو أوصى بالترك، وكيف مدح الله المؤمنين؟ هل مدحهم بالتَّواصي بالصَّبْرِ حيث قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]. أو مدحهم بالترك بإجابة داعي الدَّعةِ، فقال: وتواصوا بالسَّهل وتواصَوْا بالترك، أو قال ما هو في معنى هذا. فكان اللائق أنَّ السَّيِّد يُوصينا بالصبر على هذا (¬2) الأمر الشاق، ويقوِّي عزائِمنَا على ذلك بما ورد في القرآن الكريم في نحو قَولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} [البقرة: 153]. وقد ذكر بعضُ العارفين أن الله تعالى ذكر الصبرَ في نيِّفٍ وتسعين موضعاً، فلولا حُسْنُ التعرض للمشاق الدِّينية ووجوبُ ذلك في كثير من المواضع، ما ذكَرَ اللهُ الصبرَ، ولا أثنى على الصَّابرين. قال: " لأن التفسيرَ إمَّا أن يكونَ مِن الرسول، أو من آحاد المفسِّرين: كابن عبَّاسٍ ومقاتلٍ ومجاهدٍ وقتادة، أو يرجع فيه العالِمُ إلى أئمة اللغَةِ والنحوِ: كأبي عُبيدة، والخليل، والأخفش، والمبرِّد (¬3)، فيأخذ معنى اللفظِ منهم ويفسر على (¬4) ما يُوافِقُ علومَ الاجتهاد التي قد أحرزها. أمَّا الأوَّلُ وهو نقلُ التفسير عن الرسول، فهو لا يكاد يُوجَدُ إلا في مواضعَ قليلة لا تفي بما يحتاج إليه مِن آياتِ الأحكام ". أقول: يَرِدُ على كلام السَّيِّد ها هنا (¬5) أسئلة: ¬
السؤال الأول: أنه ادعى أن حصوله التفسير صعب، والمفهوم من هذه العبارة أنه ممكن
السؤال الأول: أنَّه ادَّعى أن حصول التفسير صعبٌ، والمفهوم مِن هذه العبارة أنَّه ممكن، لأنه لم يَجْرِ عرفُ البلغاء ولا غيرُهم أن يَصِفُوا المحالَ بالصُّعوبة. ثم إن السَّيِّد احتج على ذلك بما يُوجب أنَّه متعذِّر محال، وذلك ظاهر في احتجاجه لمن تأمَّلَه، فإنه لم يَتْرُكْ إلى معرفة التفسير المحتاج إليه سبيلاً ألبتة. السؤال الثاني: أنَّ هذا تشكيك على أهل الإسلامِ في الرجوع إلى كتاب ربِّهم الذي أنزله عليهم نوراً وهدىً، وعصمةً لِلمتمَسِّكِ به من الرَّدى. وقد مرَّ أنَّ مثلَ هذا التشكيكِ لا يصْلُحُ إلا مِن الملاحدة والزنادقة، وسائرِ أعداء الإسلام خَذلَهُمُ اللهُ تعالى. والسَّيِّد -أيده الله- من أعيان العِترة النبوية، وأغصانِ الشجرة العلَوِيَّة، وجدير به التَّنَزُّهُ عن ذلك، والتنكبُ عن هذه المسالك. السؤال الثالث: قد امتنَّ اللهُ تعالى على هذه الأمة بحفظ كتابها، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولا هدايةَ لنا في حفظ الذكر إذا سدَّ الله علينا طُرُقَ معرفة معانيه. السؤال الرابع: أنَّ السَّيِّدَ قد شنَّعَ على مَنْ توقَّف في معاني المتشابه، وقال: إنَّ هذا يؤدِّي إلى أن يكون خِطَابُ الله تعالى لنا عبثاً، وكلام السَّيِّد يؤدِّي إلى التوقُّفِ في المُحْكمُ والمُتشابِه معاً، فجاء بأطمِّ مما جاؤوا به، وفي أشعار الحكماء: لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (¬1) ¬
السؤال الخامس: قول السيد: إن نقل التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قليل، تنبني على معرفته بالأخبار، وقد عسرها
السؤال الخامس: قول السَّيِّد: إنَّ نقل التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يُوجَدُ إلا في مواضع قليلة تنبني على معرفته بالأخبار، وقد عسَّرها وهوَّلها، أو منعها وأحالها، فلا ينبغي منه أن يدَّعي بعدَ ذلك أنه يعرفها. السؤال السادس: أنَّه لم يقل أحدٌ من خلق الله أجمعين لا العلماءِ ولا المتعلمين ولا القدماءِ ولا المتأخرين أنَّ شرط التفسير في جميع أقسامه التي أحدُها التأويلُ أن يكونَ منقولاً عن الرسول -عليه السلام-، فَقِلَّةُ نقلِ التأويل عنه -عليه السلام- غيرُ ضارٍّ قطعاً إجماعاً ضرورياً من الخَلَفِ والسَّلّفِ، يَعْرِفُ الإجماع على ذلك كُلُّ مَنْ له أدنى شمَّةٍ في العلم، دع عنك السَّيِّد -أيَّده اللهُ- وإن كان بعضُهم يُخالِفُ في التسمية، فيُسمِّي تفسيرَ غير النبي - صلى الله عليه وسلم - تأويلاً، فهو خلافٌ لفظيٌّ. قال: " وأمَّا الرجوعُ إلى آحاد المفسرين، فهو لا ينبني عليه الاجتهادُ، لأنَّه تقليدٌ لهم ". أقول: هذا الإطلاقُ غيرُ صحيح، فإنَّه يختلِفُ، فمنه ما قالوه اجتهاداً منهم، فلا ينبني عليه الاجتهادُ، ومنه ما قالوه رواية عن العرب من الصحابة وغيرهم مما يتعلَّق باللغة، فيجب قبولُه منهم كما مرَّ الدليل عليه، وكما يأتي إن شاء الله تعالى. وكذلك ما فَسَّروه مما لا طريقَ إلى العلم به بالرأي والاجتهاد، ولا يُعلم إلا بالسمع. فَمِنَ العلماء منْ ذهب إلى أنَّه في معنى المرفوع إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولِلنَّاظر في هذا نظره، ولا نكارَة على منْ ذهب إلى هذا، فقد أجاز العلماء التخريجَ وهو أضعفُ من هذا، فإذا جاز ¬
قول السيد الرجوع في التفسير إلى أئمة اللغة، وقد أبطل السيد هذه الطريق بوجوه أربعة:
العمل بما يظن أنَّ العالِمَ يقولُه وإن سكتَ عنه حملاً له على السَّلامة، وقد نصَّ كثيرٌ من العلماء على ذلك في غير موضع، فلا يَبْعُدُ أن يجوزَ العملُ على ما يظن أن العالِمَ يرفعُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحملاً له على السلامة، وإن لم ينص على الرفع ويصرح به -والله سبحانه أعلم-. قال: ولأنَّا نحتاجُ إلى معرفة عدالتهم وعلمهم ولأن اتِّصال الرواية بهم على وجه الصِّحة من العدالة صعبٌ أو متعذِّر. أقول: قد مرَّ الجوابُ على هذا حيث بَيَّنا الطريقَ إلى معرفة الأخبار، فالكلامُ فيهما سواء. ونزيد هنا أن السَّيِّد شَحَنَ تفسيرَه بالرَّواية عنهم، فإما أن تكون صحيحةً أو باطِلةً، إن كانت صحيحةً، فما بالُ الصِّحةِ مقصورةً عليه؟! وإن كانت باطلةً، فهو أجلُّ مِن أنْ يرويَ البَواطِلَ، ويخصَّ بها شهرَ رمضان الكريم، وقد قال -عليه السلام-: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ " (¬1). قال: " وأمَّا الثالثُ -وهو الرجوعُ إلى أهل اللغة- فهو أضعفُ من هذا، لأن عدالة كثيرٍ منهم غيرُ ثابتة، ولأن اتِّصال الروايةِ الصحيحةِ بهم متعذِّر، ولأن في ذلك تقليدَهم، والاجتهاد لا يَصِحُّ بناؤه على التقليد، ولأن المفسِّر بهذا الوجه يحتاج إلى علوم الاجتهاد، ومنها معرفة التفسير فيلزم الدَّورُ ". أقول: هذا الوجهُ الثالث الذي تعرض السَّيِّد لإبطاله هي الطريقُ المسلوكة إلى تفسيرِ عامة القرآن. لا يخرج منه إلا النَّادِرُ القليل مما لا ¬
الوجه الأول: عدالة كثير منهم غير ثابتة
يتعلَّق به حكمٌ، مثل قولهِ تعالى: {كهيعص} أو المجملات التي لم يعرف المجتهد أنها من الألفاظ المشتركة فيسقطُ تكليفُه بالعمل بها، وما يرد في ذلك من التفسير النبويِّ فإنَّما هو زيادةٌ في البيان، ولو لم يَرِدْ، لم يبْطُلْ فَهْمُ معاني الظَّواهِر والنصوص، فإن البيان غيرُ محتاج إليه إلا في المجمل. ومتى طلبه المجتهد ولم يجده، سَقَطَ تكليفُه في ذلك الحكم بالرجوع إلى ذلك المجمل. والدليل على ذلك ما تقدَّم في حديثِ معاذٍ وغيرِه من الأدلة القاضية بأنه لا يجبُ على المجتهد العِلمُ بِكُلِّ حديث، وأنَّه إذا لم يجد الحُكْمَ في الكتاب والسُّنَّة، جاز له أن يجتهِدَ رأيه، وإن كان يجوز أن فيهما نصاً لم يقف عليه. والعجبُ من السَّيِّد -أيَّده الله- أنّه جعل هذا الوجه الثالث أضعفَ مما قبله مع أنه لا طريقَ إلى تفسير القرآن على العموم سواه. فأمَّا الأولان قبلَه، فلا قائلَ باشتراطهما في التفسير، فكيف يكونُ ما لا قائل بخلافه أضعفَ مما لا قائل باشتراطه، وهذا عجب وقد تعرض السَّيِّد لإبطال هذه الطريق بوجوه أربعة: الوجه الأوَّل: أن عدالة كثير منهم غيرُ ثابتة. وأقول: إنَّ صدور هدا الكلامِ من مثل السَّيِّد من العجائب ومَن عاش أراه الدَّهْرُ عجباً، لأن فساد كثير منهم لا يَمْنَعُ من الرجوع إلى الثقات منهم، كما لا يلزمُ مِن فساد كثيرٍ من الناس فسادُ جميعِ الناس، ومن تحريمِ كثيرٍ من النساء، تحريمُ نكاحِ جميع النساء، ومن نجاسَة كثيرٍ من المياه تحريمُ جميع المياه، ونحو ذلك مما لا يُحصى كثرةُ. ومن العجب أن السَّيِّد -أيَّده الله- يُقرىء في المنطق، ويَعْرفُ ما يُشترط في الإتتاج من كونِ المقدمتين كليتين، فأين ثمرةُ تلك المعارف، وأين أثَرُ ذلك التحقيق.
الوجه الثاني: اتصال الرواية بهم متعذر، وأضاف المؤلف إلى ذلك أشياء
الثاني: أنَّ اتِّصال الرواية بهم متعذِّرٌ. هكذا على القطع مِن غير شك. فأقولُ: قد تقدَّم الجوابُ على هذا حيث بيَّنا فيما سلَفَ إمكانُ رواية الأخبار، وبيان طرقها ونزيد هُنا أشياء: أحدها: ما السببُ في قطع السَّيِّد بتعذُّرِ الطريق إلى الرواية ها هنا وكان متردداً فيما تقدَّم، وما أظنُّ السببَ في ذلك إلا توفُّرُ داعيةِ التنفير عن طلب العلم، فإن الغالب على الشارع في التنفير عن الشيءِ لا يزال يزدادُ ولو عابه حتى يتجاوز الحدّ. وثانيها: أنَّه -أيَّده اللهُ- قد شحن تفسيرَه للقرآن الكريم بذلك، فكيف يقطعُ هنا بأنه متعذِّر، وهذا توهم عليه أنَّه واهِمٌ لا محالة في أحد الموضعين -والله أعلم-. وثالثها: أنَّ الأمة أجمعت على أنَّه لا يجب الإسناد في علم اللغة، فإنهم ما زالو ينقلُون اللغة عن أئمتها مِن غير مطالبة لأئمتها بالإسناد إلى العرب، فإذا جاز قبول المرسَلِ من أئمة العربية في ذلك الزمان، جاز قبولُه عنهم في هذا الزَّمان، لأنَّ الأزمان لا تأثيرَ لها في وجوب الواجبات، وقبحِ المقبحات. وقد أجاز المحقِّقونَ من الأئمة -عليهم السلام- قبولَ المرسل في الأحاديث النبوية، فأولى وأحرى في اللغة العربية. وقد قدَّمنا كلام الأئمة في الوِجادة وما يجوزُ منها، وهو عام في جميعِ العلوم النقلية، فيدخل فيها علمُ العربية. الثالث: قال: ولأن في ذلك تقليدَهم. أقول: تقدم أنَّه لا سبيلَ إلى معرفة اللغة والأخبار وسائرِ ما لا يُدْرَكُ
الوجه الرابع: لزوم الدور، وهذا أعجب مما تقدم لوجهين:
بالنَّظر إلا قبولُ الرُّواةِ الثقات، وأن ذلك إجماعُ المسلمين، وأن كلام السَّيِّدِ هذا يُوجبُ على الله تعالى أن يبعثَ الموتى من العربِ للمجتهد حتى يُشافِهوه بلغتهم أو نحو ذلك من المعجزات، أو خوارقِ العادات والسَّيِّد في هذا الموضع جاوز حدَّ العُرف في التَّعنُّت، وخَلَغ عرْوَةَ المُراعاةِ لِطريق أهلِ العلم، وأتى بما لا يُوافِقُه عليه أحدٌ من العلماء والمتعلمين، ولا سبقه إليه سابقٌ مِن السَّلَفِ الصالحين. الرابع: لُزُومُ الدَّورِ وهو أعجبُ مما تَقَدَّم وأغرب، وذلك لوجهين: أحدهما: أنَّ الدَّوْرَ محالٌ عند جميع العقلاء وما أدَّى إلى الدور، لم يصح في زمان دونَ زمان، ولا مِن أحد دونَ أحد، فهذا يؤدي إلى أنَّ الرجوعَ إلى اللغة العربية لا يصح بناءُ التفسيرِ عليه، لا مِن المتقدمين، ولا مِن المتأخرين، ولا مِن المدركين للعرب، ولا مِن غير المدركين، ولا مِن الراسخين في العلم، ولا مِن غير الراسخين. ولعل أدنى مَنْ له تمييز يستحي من نسبةِ هذا القولِ إلى أحد من المتعصبين، وهذه هفوةٌ مِن السَّيِّد -أيَّده الله- لا تليقُ بمحلِّه الشريف، ومنصبِه المنيفِ. الوجه الثاني: أنَّ الدَّورَ غيرُ لازمٍ من ذلك، لأنَّه يَصِحُّ من المجتهد أن يعرِفَ علومَ الاجتهاد التي يحتاج إليها في معرفة تفسير القُرآن إلا لغة العرب. فإذا احتاج إلى معرفة معنى الآية بحث عن المعنى اللغوي، فمتى وجده فسَّر القُرآن به. ولا دَوْرَ هنا، ولا ما يُشْبِهُ الدَّور، وإنَّما الدورُ يلزمُ حيث لا يَصِحُّ أحدُ الأمرينِ إلا بَعْدَ الآخَر، ويكون كُلُّ واحد منهما مؤثراً في صاحبه. ومن ثم كان دور المعيَّة صحيحاً عند نُقَّاد هذا العلم، فأين التمانع في مسألتنا؟ وهل يقولُ عاقل: إنه لا يَصِحُّ معرفةُ شيءٍ من علوم الاجتهاد حتى يَعْرِفَ اللغة، ولا تصح معرفة اللغة حتى يعرف علومَ
الجواب عن قول السيد: إنه يحتاج إلى معرفة علوم الاجتهاد ومنها معرفة التفسير فيلزم الدور، والجواب عليه، إن كان مراد السيد أنه يحتاج إليها كلها حتى التفسير، فلا يصح هذا لوجهين:
الاجتهاد، وهذا يؤدي إلى أنَّ الاجتهاد محالٌ أبداً في قديم الزمان وحديثه، لأن المحال لا يَصِحُّ في وقت الصحابة، ولا يُمْكِنُ في عصر التابعين، ولا يتيَسَّرُ لأحدٍ من العالمين. وأمَّا قولُه: إنَّه يحتاج إلى معرفة علوم الاجتهاد ومنها معرفة التفسير، فيلزم الدور، فهذه زخرفة عظيمة، ولا يمضي مثلُها إلا على الأغمار، ولا تَنْفَقُ بضاعتها في سوق النُّظَّار. وبيان أنها مجردُ زخرفة أنا نقول: ما مرادُك بأنَّه يحتاجُ إلى علوم الاجتهادِ -ومنها معرفة التفسير-؟ هل مرادُك يحتاج إليها كُلِّها إلا تفسيرَ القُرآن باللغة فلا دورَ في هذا، لأنَّ الفرض أنه قد عَرَف اللغةَ، واحتاج إلى سائرِ الفنون، فيجبُ أن يتعلَّمَ سائرَ الفنون، فإذا تعلَّمها، وأضاف معرفتَه لها إلى معرفته باللغة فسَّر القرآن، ولا إشكال ولا دَوْرَ؟ أو مرادُك يحتاج إليها كُلِّها حتى التفسيرِ باللغة؟ فلا يصح هذا لوجهين: أحدهما: أنَّ كلامَنا فيمن عَرفَ اللغة، واحتاج إلى ما عداها، فلا يَصِحُّ أن يُجْعَلَ العارفُ للشيء محتاجاً إلى معرفته غيرَ متمكِّنٍ منها. الوجه الثاني: إذا سلَّمنا أنَّه محتاج إلى المعرفة باللغة مع سائِر علُومِ الاجتهادِ صحَّ عند كُلِّ عاقل أن يتعرَّف اللغة، ثم يتعرَّف سائرَ علوم الاجتهاد من غير تمانعٍ ولا دور. ولو جاز أن يُقَال في مثل هذا: إنَّه دور، لقلنا بمثل ذلك في معرفة السُّنَّةِ وما يتعلق بها من اللغة، وفي سائر المعارف الاجتهادية. وهذا كلامٌ نازل جداً، واستدلالٌ لا يتماسَكُ ضَعفاً، واحتجاجٌ لا تقبله الأذهانُ، ولا تُصغي إليه الآذانُ. قال: "وأمَّا الأصلُ الثالث -وهو معرفة الناسخ والمنسوخ- ففيه صعوبةٌ كلية، لأنَّا نحتاج في ذلك إلى قولِ الرسول: هذا ناسخ وهذا
منسوخ، أو ما في معنى ذلك، أو إلى إجماع أو إلى معرفة التاريخ. وهذه الأمورُ قليلٌ اتفاقها بنقل العدل عن العدل، وأمَّا قولُ الراوي: هذا ناسخ أو منسوخ، فقد ضَعَّفوه، وهو أكثرُ ما يتفق". أقول: السَّيِّدُ في هذا الأصل لَيَّن من عريكة شِدَّته، وفتَّر من سوْرَةِ حِدَّتِه، فلم يدَّعِ أنَّ معرفةَ المنسوخ متعذِّرة، ولا تشكَّكَ في ذلك، واكتفي بمجرد التعسيرِ، ودعوى الصعوبة. والجواب عليه: أنَّا نصبر على تلك الصُعوبة، ونتواصى بالصَّبر كما وصف اللهُ المؤمنين، ونسأل السَّيِّد أن يصْبِرَ على كتم ما في نفسه من التألُّم العظيمِ لنا حين تعرضَّنا لذلك، فإنَّ مِثْلَ هذا الكلام لا يُجاب إلا بمثل هذا الجواب، إذ كان الاحتجاجُ بمجرَّد الصعوبة مما أسلفنا القول في بعده عن أساليب العلماء، وخروجِه عن عادات الحكماء، ولا بُدَّ من الإشارة إلى نكتة لطيفة في الجواب، وهي أنَّ عمود الاحتجاج في هذا الفصل هو قولُه: وهذه الأمورُ قليل اتفاقُها. والجواب: أنَّه يسْهُلُ بهذا الاجتهادِ، لأنَّ طُرُق النسخ بِقلَّتها يَقلُّ النسخُ، وإذا قلَّ، سهُلَ العلم به، لأنَّ معرفة القليل أسهلُ من معرفة الكثير بالضرورة، وإنَّما قلنا: إنَّه يَقلُّ، لأن ما لا طريق إلى معرفته من المنسوخ وسائِر الأحكام لا يقع التكليفُ به. وقد قدَّمنا أنَّ تكليف المجتهد هو الطلبُ حتى لا يجد، وليس تكليفُه العلم بأنَّه لا نصَّ إلا ما أحاط به عِلْمُه، ووعاه قلبُه. ثم إنَّا نقول قد قدَّم السَّيِّد تعسيرَ النقل عن العدول بكلام عامٍّ يدخل تحته المنسوخ، ولم يكن محتاجاً إلى إعادة الكلام في المنسوخ على انفراده، وكذلك قد قدَّمنا الجوابَ عليه هنالك بما يدخل تحتَه الجوابُ
رسالة السيد مبنية على استبعاد الاجتهاد، وهذا لا ينبغي منه لوجوه:
على هذا، فلا حاجة إلى إعادته هنا. ثم إنَّا نقولُ قد بيَّن السَّيِّد المنسوخ مِن القرآن العظيم في تفسيره، فإمَّا أن يكون بنقل العدل عن العدل، فالذي سهَّل ذلك له يُسَهِّلُه لِغيره، أو يكون على غير تلك الصفة، فالسَّيِّدُ أجلُّ من ذلك، ثمَّ إن السَّيِّد ختم كلامَه بقوله: وأمَّا قول الراوي: هذا ناسخ أو منسوخ ونحو ذلك، فقد ضعُّفوه وهو أكثرُ ما يتفق. والجواب عليه: أنَّ هذه الطريق التي ذكرها مما اختلف أهلُ العلمِ فيه، فمنهم من ذهب إلى النسخ بها كالشيخ أبي عبد الله البصريِّ، وأبي الحسن الكرخيِّ (¬1)، حكاه عنهما السَّيِّدُ أبو طالب في كتابه " المجزي " وقوَّى ذلك، وأطال في الانتصار له، ومنهم من منع ذلك. فقول السَّيِّد: إنَّهم ضعَّفوه، هكذا من غير احتجاجٍ مع أنَّها مسألةُ خلاف مما لا يرتضيه أهلُ البصر بعلم المناظرة والنظر، لأنَّا نقولُ: هل قال السَّيِّد ذلك، على سبيل التقليدِ لأولئك الذين ضعَّفوه كما هو ظاهر كلامه في خلوِّ الزمان عن المجتهدين، فليس له أن يحتَجَّ بتقليده، ولا هذه المسألة من مسائل التقليد، أو قال ذلك على سبيل الاجتهاد على بعد ذلك من ملاءمة رسالته، فإنها مبنيّة على استبعاد الاجتهاد، فهذا لا ينبغي منه لوجوه: أحدها: مناقضته الكلامَ القاضيَ بعدمِ المجتهدين. وثانيها: أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف الظَّنِّية ولا معنى للترسُّلِ على من ذهب فيها إلى مذهبٍ قد سبقه إليه غيرُه من أهل العلم. وثالثها: أنَّ هذا موضع إظهار الأدِلَّة، فلا مخبأ بعدَ بوس، ولا عِطر ¬
بعْدَ عروس (¬1)، فإذا لم تستهلَّ وجوهُ الأدِلَّة في هذا المكان، فمتى يكون طلوعُ هذا البيان؟! ثم إنُّا نبيِّنُ حُجَّة من ذهب إلى هذا المذهب الذي استضعفه السَّيِّد -أيَّده الله- ليعرف الناظرُ فيه أنَّه محتمل، غيرُ مقطوع ببطلانه فنقول: لا يَخلو إمَّا أَنْ يُريدَ أنَّ ذلكَ ضَعِيفٌ، لأنَّه لا يُفيدُ العِلمَ، أَوْ لأنَّهُ لا يُفيد الظَّنَّ، الأول ممنوع (¬2)، والثاني مُسلَّم، ولا يضرُّ تسليمُه. بيانُ منع الأول أنَّه يلزم أن لا يُقبل لو أسندَ النسخَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ الطريق إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك طريقٌ ظنيّةٌ، فلم يحْصُلِ العلمُ لكن السَّيِّد مُقِرٌّ بصحة هذه الطريق الظنيَّة، فدلَّ على أنَّ العلم غيرُ مشترط إلا في نسخ المتواتر على خلافٍ في ذلك شديد، وسيأتي ذكرُه -إن شاء الله تعالى- وذكرُ أدلةِ الفريقين فيه. وبيانُ أن تسليم الثاني لا يَضُرُّ أنَّا نقول: إنَّ خبر الثقة المأمون بأنَّ هذا الحكم منسوخ، إمَّا أن لا يُفيد الظَّنَّ بصدقه لكثرة وهمه في ذلك، وحينئذٍ لا يجوز قبولُه، كمن كَثُرَ وهمُه في الحديث المرفوع، وذلك لأنَّ ¬
ذلك يقتضي الشَّكَّ المتساوي الطرفين، فالحكمُ بأحدهما ترجيحٌ لما ليس براجح من غير مرجَّح، وذلك قبيحٌ عقلاً، وإمَّا أن يُفيد الظَّنَّ الراجحَ لِصدقه، وحينئذٍ يكون القولُ بالنسخ راجحاً، والقولُ بعدمه مرجوحاً، فوجب العملُ بالراجح، لأنَّا لو لم نعمل به، لكُنَّا إمَّا أن نتوقَّفَ، أو نعمل على عدمِ النسخ، وفي الأوَّلِ المساواة بين الراجح والمرجوح، وفي الثاني ترجيحُ المرجوحِ على الراجع، وكلاهما قبيحٌ في العقل. فإن قلتَ: إنَّه يجوز أن ينبني النسخُ على الظَّنِّ والاجتهاد. فالجواب: ما ذكر أبو طالب في " المجزي " من أنَّ ذلك خلاف الظاهر، فإن ظاهر (¬1) قوله: هذا منسوخ، الخبرُ، ولهذا فإنَّه لو بيَّن مستندَه في ذلك، لم يجُزِ الرجوعُ إلى قوله: هو منسوخ، لأنَّه حين بيَّن المستندَ قد وكَل الناظرَ إلى النظر فيما أبداه من حجته، وحين أطلق القول بالنسخ ولم يُضف ذلك إلى اختياره وظنه، ولا إلى دليل معيَّن كان ظاهره الخبر. قال: وكذا إذا قال الصحابيُّ في الشيء: إنَّه حرام، ولم يُضفْ ذلك إلى نظره، ولا استدل عليه، فإنَّ ظاهره الخبرُ في طريقة شيخنا يعني أبي عبد الله البصريِّ. فإن قلت: إن خبر الثقة بأنَّ هذا منسوخ يجوز أن يبنيه على الوهم، فلا يجوزُ تقليدُه فيه، مثالُ ذلك أنَّ العالم قد يعتقِدُ أنَّ النَّصينِ متعارضان وليسا كذلك، ثم إنَّه يَطَّلعُ على أنَّ أحدهما متأخرٌ، وأحدهما متقدم، فيقضي بنسخ المتقدم لاعتقاده لتعارضهمما، وهذا هو حجة لمن ردَّ ذلك. والجواب على ذلك: أنَّه لا يلزم ذلك إلا في من كَثُرَ وَهْمُهُ حتَّى كان ¬
جواز الوهم على الراوي في تأديته للفظ الحديث النبوي، والدليل على ذلك وجهان:
وَهمُهُ وصدقُه متساويين في الرُّجحان، أو كان وهمُه راجحاً على صِدقه، وهذا مردودٌ بلا شكٍّ، سواءً كان رافعاً للنسخ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كان واقفاً له دونَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما الكلامُ في مَنْ قوِيَ في الظن، ورجح في العقل أنه صادق في قوله. فإن قلت: فرقٌ بينَ ما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين ما وقفه على نفسه، أو على غيره، وذلك لأن ما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتمل أنَّه بناه على الوهم، وإنَّما يحتمل أنَّه كَذَبَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صدق فيه، لكن احتمال الكذب بعيدٌ عن الثقات، أمَّا الوهم فكثير. قلت: ليس الأمرُ كما توهمتَ، بل قد نصَّ العلماء على جواز الوهم على الراوي في تأديته للفظ الحديث النبوي، والدليل على ذلك وجهان: أحدُهما: قوله -عليه السلام- في الأحاديث الصحيحة: " مَنْ كذَبَ علَيَّ مُتَعَمِّداً فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار " (¬1) فقوله " متعمِّداً " يَدُلُّ على أنَّه يجوز على الراوي أن يُخطِىء في النقل، لكِنَّه تجويزٌ بعيدٌ مرجوح، فلم يُعتبر، فلذلك قالت عائشة لمّا سَمِعَت ابنَ عمر يروي حديث: " إنَّ الميِّتَ ليعذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ علَيْهِ " (¬2): ما كذب ولكنَّه وَهم (¬3). ¬
الوجه الثاني: أن الجماهير من العلماء قد اجازوا الرواية بالمعنى
الوجه الثاني: أنَّ الجماهير من العلماء قد أجازوا الرواية بالمعنى، فمن الجائز أن يعتقدَ هذا الراوي في الحديث النَّبويِّ معنىً، فيعبرَ عنه قاطعاً على أنَّ المعنى واحد، وليس كذلك مثل ما جاز عليه ذلك في قوله: هذا منسوخ، أن يعتقد تعارُضَ النصوصِ فيقضي بنسخ المتقدِّم قاطعاً على تعارضها. ومِنْ ها هنا رجَّحُوا روايةَ من لا يستجيزُ الرِّواية بالمعنى على رواية مَن يروي بالمعنى، فلو كان الراوي بالمعنى لا يغْلَطُ قطعاً، لم تكن رواية من يُوجِبُ نقلَ اللفظ النبويِّ أرجحَ منه. فإن قلتَ: إنَّه يجوز أنَّ القائل بأنَّ هذا منسوخ قال ذلك اجتهاداً، واحتمالُ الاجتهاد يقدَح بخلاف احتمال الوهم. قلتُ: هذا خلافُ الظاهر، لأنَّ الاجتهادُ الصادِرَ عن القياس، والأمارات الضعيفة، ليس مِن طُرُقِ النسخ، فحملُ الراوي عليه بمنزلةِ حمل الراوي للحديث المرفوع على أنَّه بَنَى الروايةَ للحديث على اجتهاده في أنَّ ذلك هو معنى الحديث النبويِّ، فكما أن ذلك مردودٌ غيرُ مسموع مِن قائله لِبعده، فكذلك هذا. فإذا عرفت هذا، فكيف ينبغي مِن السَّيِّد إطلاقُ القولِ بضعف هذه المسألة المحتملة مِن غير استدلال، ولا توقُّفٍ، ولا نَظَرٍ، ولا تأمُّل. ولو ذهب ذاهب إلى هذا المذهب، لم يكن خارقاً لإجماع الأُمة، ولا مستحقاً للنَّكِير عند الأئمة. ثم نقول للسَّيِّد -أيَّده الله-: ما زال أهلُ العلم يتعرَّضُونَ لمعرفة المنسوخ، ويذكرون المجمعَ عليه من ذلك، والمختلفَ فيه، وقد صنَّف غيرُ واحد في معرفة المنسوخ من الأئمة وغيرهم، وحَصَرُوا ما صَحَّ نَسْخُه، وبيَّنوا الدَّلِيلَ على صحة النسخ، والدليلَ على بُطلانِ النسخ في بعض ما
جملة ما صح من النسخ وما ادعي فيه
وقع الوَهْمُ في دعوى نسخه، وانحصرَ ذلك في شيءٍ يسيرٍ، لا سيما ما يتعلَّق بالأحكام، ولعلَّ الجميعَ من المنسوخ في ذلك لا يأتي في أربع ورقاتٍ مجرداً عن الاستدلال على صحة النسخ وعدمه. فما هذا التهويلُ العظيمُ، والتعسيرُ الشديد؟!! وقد ذكر أهل العلم أنَّ النسخ في الشريعة قليلٌ جداً. وجُلُّ ما صح نسخه بالإجماع نَيِّف وعشرون حُكماً، وادُّعِي النسخ في أكثر من ذلك. وهذا جملة ما صحَّ وما ادُّعي فيه النسخ: أجمعوا على نسخ استقبالِ بيت المقدس، والكلام في الصلاة (¬1)، وحكم المسبوق (¬2)، وتركِ الصلاة في الخوف، والجمعة قبل الخطبة (¬3)، والصلاة على المنافقين، وتحريمِ زيارة القبور، وجواز الاستغفار للكفار بعد موتهم، ووجوب عاشوراء، وقيام الليل على الأمة، (¬4) والسحور بعدَ ¬
طُلوعِ الفجر إلى شروقِ الشمس على خلاف في تفسير الفجر (¬1)، ورجعة المطلقة أبداً، واعتدادِ المتوفَّى عنها حولاً، وجوازِ شرب خمر العنب، وتحريمِ الأكلِ والنكاحِ ليلاً في رمضان، والتخييرِ في صومه، أو الكفارة من غير حَبَلٍ ولا كبَرٍ، ولا رَضَاعٍ، وتحريمِ الجهاد بالسيف ولو لآمِّ البيت، والعشرِ الرضعات، وتحريم كتابةِ غير القرآن، ووجوبِ الوصيَّة للأقربين، وفرضِ الصلاة ركعتين ركعتين على القول بأن الزيادة نسخ، وتركِ الحجابِ، والتوارثِ بغيرِ القرابة، وحبسِ الزانيينِ حتَّى يموتا، وقتالِ الواحدٍ لِعشرة ولم يذكر إجماع، ولا خلاف في نسخ الأمر بالفَرَعِ (¬2)، وقتلِ الشَّارِبِ (¬3) في الرابعة، وتحريمِ الكنز بعدَ الزكاة، ¬
ووجوبِ التنفيل قبل القسْمِ، ولبسِ خواتيم الذهب (¬1)، والأمر بقتلِ الكلاب إلا الأسودَ، والمُثْلَة، والأمرِ بأذى الزَّاني. وشذَّ المخالفُ في نسخ تحريم القتال في الأشهرِ الحرم، ونسخِ الماء من الماء (¬2)، والوضوء مما مسَّتِ النَّارُ، وجوازِ لحوم الحمر الأهلية، وضرب النِّساءِ (¬3)، والتطبيقِ في الركوع، وموقفِ الإمامِ بين اثنين، وتحريمِ القتال في مكَّة، وقصرِ تحريم الربا على النسيئة، ووجوبِ الصدقات بالزكاة، والأمرِ بالعتيرة (¬4)، ومُتْعَةِ النكاح (¬5)، وتحريم الضحيَّة ¬
ما اختلف فيه
بعدَ ثلاث، وجوازِ الحرير للرجال، والرَّضاع بعدَ الحولين، وعدمِ وجوب الشياه في زكاة البقر على تفصيل فيه. واختلفوا في مُتْعَةِ الحج (¬1)، وتحرِيم استقبالِ القِبلة بالبوْل والغائِط، وفي تركِ الوضوء من مسَّ الذكر، وفي طهارةِ جلودِ الميتة بالدبغ، وابتداء الكفار بالقتال في الحرم، وفي التيمّم إلى المناكبِ، والصحيح النسخ، وفي مسحِ القدمين، وفي المسحِ على الخُفَّيْنِ، والالتفاتِ في الصلاة، وفي جواز إقامة غير المؤذن، وفي قطعِ المار للصلاة، وفي الصلاة إلى التصاوير، ووضعِ اليديْن قَبْل الركبتين، والجهرِ بالتسمية، والقنوتِ والقراءةِ خلفَ الإمام، وأفضليةِ الإسفارِ بالصبح، وصلاةِ المأموم جالساً إذا صلَّى الإمامُ جالساً (¬2)، وسجودِ السَّهوِ بعدَ السَّلام، والقيام للجنائزِ، وتكبير الجِنازة أربعاً، والنَّهي عن الجلوسِ حتى تُوضَعَ الجِنازَةُ، وفسادِ ¬
صومِ المصبح جنباً (¬1)، والحجامةِ للصائم، وإباحة الفطر في السفر بالوجوب، والانتباذ في الآنية المسرعة بالتخمير كالدُّباء والمطليِّ، والنَّهْيِ عن الرُّقى، وعن القِرانِ في التَّمر، وعن قول: ما شاء الله وشاءَ فلان، والاشتراط في الحج، وتحريم لحومِ الخيل، والمزارعة، والإذن للمتوفّى عنها في النُّقلة أيامَ عِدتها، وقتل المسلم بالذِّميِّ، والتحريقِ بالنَّار في غيرِ الحرب، واستيفاءِ القِصاص قبل اندمالِ الجرح، وجلدِ المُحْصَنِ قبلَ الرَّجْمِ، وحُكمِ الزاني بأمة أمرأته، والهجرةِ، والدعوةِ قبل القتال، وقتلِ النساء والوِلدان، والنَّهي عن الاستعانة بالمشركين، وأخذ السَّلب بغيرِ بيِّنة، والحَلفِ بغير الله، وقبولِ هدايا الكفار، والنَّهيِ عن البول قائماً، ووجوب الغسل يومَ الجمعة، وشهادةِ الكِتابيِّ للضرورة (¬2). الجملة ستَّة وتسعون حكماً، منها ستة وعشرون مجمعٌ عليها، ¬
وثمانية لم يُذكر فيها إجماع ولا خلاف، وستةَ عَشرَ شذَّ فيها الخلافُ، والبقيةُ ستة وأربعون، وقد يختلِفُ الاجتهاد فيما هو شاذٌّ أو غير شاذّ -والله أعلم-. وقد يُوجد غيرُ هذه مما ادُّعي نَسْخُهُ بغيرِ حُجَّةٍ، وفي نسخ كَثِيرٍ من هذه ضعف، فليُرَاجَعْ لها مبسوطاتُها، ومِن أحسنها كتابُ الحازِميِّ (¬1). وبالجملة فجميعُ المنسوخ مِن الكتاب والسُّنة المجمعِ عليه والمختَلف فيه إذا جُمِعَ كُلُّهُ على الاستقصاء لا يكونُ في كثرة الأحاديثِ مثل " الشِّهاب " (¬2) للقُضَاعيِّ ولا يُقارِبُه وإذا أحببتَ معرفة ذلك، فلا تَلْتفِتْ إلى كلامي، ولا إلى كلام السَّيِّد -أيَّده الله- وانظُرْ إلى كتب العلماء المُصَنَّفة في معرفة ذلك، وكم في المُصَنَّف منها عدة أحاديث منسوخة، أو آيات ¬
منسوخة، وكم بين معرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة معاني كُتُب العربية من مقدِّمتي ابنِ الحاجب الإعرابية والتصريفية (¬1) ومعرفة معاني تذكرة ابن مَتَّويْهِ، ومعرفة معاني مختصر منتهي السُّولِ (¬2) وما تَضمَّنُ من المنطق والجدل وكلام المنطقيين في عكس النقيض، وكلامِ ابن الحاجب في الاستدلال وغيرِ ذلك من العلوم العويصةِ، والعباراتِ الدقيقة التي السَّيِّد مُدَّعٍ لمعرفتها، والتبريزِ فيها، إمَّا بلسان المقال، وإمَّا بلسان الحال، فإن التَّصدر للتدريس فيها قاضٍ بدعوى معرفنها، ومنادٍ بذلك نداءٌ صريحاً. فما بال السَّيِّد يدَّعي معرفةَ الغوامضِ المتعسِّرة، وَيمْنَعُ غيرَه مِن معرفة الجليَّاتِ المتسهلة! فإن قلتَ: قد طوَّل بعضُ العلماء في التصنيف في ذلك، ووسَّع ¬
الأصل الرابع: أن يكون ماهرا فى علوم الاجتهاد، حافظا لأقوال الله ورسوله ومسائل الإجماع والجواب على ذلك
مثل الإمام محمد بن المطهر في كتابه " عقود العِقيان ". قُلتُ: ذلك التطويلُ إنَّما هو فيما لا يتعلق بعلمِ الناسخ والمنسوخ، فالتوسيعُ بذكرِ ما لا يُشترط معرفته، وبالخروج إلى غير المقصود، فنٌّ آخر، وقد صنَّف الرَّازي تفسيرَ الفاتحة في مجلَّدٍ، وصنَّف الطبريُّ كتاب الطهارة في ثلاثة آلاف ورقة (¬1) وأمثال ذلك كثيرة. قال: وأمَّا الأصلُ الرابعُ وهو أن يكون ماهراً في علوم الاجتهاد، حافظاً لأقوال اللهِ، وأقوالِ رسوله، ومسائلِ الإجماع، ففيه صعوبةٌ شديدة. أقول: قد اشتمل كلامُه هذا على اشتراط أمرين، أحدهما: أن يكون ماهراً فقط. ¬
وثانيهما: أن يكون حافظاً لثلاثة أشياء: وهي أقوالُ اللهِ، وأقوالُ رسوله، ومسائلُ الإجماع. فأقولُ: أمَّا الأمرُ الأولُ وهو كونُ المجتهد ماهراً - فهذا شرطٌ غريبُ ما سمعتُ به، ولا عرفتُ ما مرادُ السَّيِّد به، وهذا يحتمل أن يكون لِغرابته في نفس الأمر، ويحتمِلُ أن يكونَ لغرابته بالنظر إليَّ فقط، فأُحِبُّ من السَّيِّد بيانَ المرادِ به، والدليلَ على اشتراطه، فهذا السؤالُ مما يُقْبَلُ مِثْلُه وهو الاستفسارُ عند علماءِ الجدل. فإن قلتَ: هذا السؤالُ لا يُقبَلُ حتَّى تُبيَنَ أنَّ في اللفظ غرابةً، أو احتمالاً، أو إجمالاً، أو اشتراكاً فبيِّن لنا ما في لفظ المهارةِ من ذلك، فإنه ليس بغريبٍ حَوْشِيٍّ، لا يُعْرَفُ معناه في اللغة، ولا هو لفظٌ مشترك. قلتُ: فيه احتمال، لأن المهارة في أصل الوضعِ اللغويِّ هي الحِذْقُ. قال في " الضياء " (¬1) يُقال: مَهَرَ بالشيء مَهَارَةً، فهو ماهِرٌ: إذا كان حاذِقاً. وقد يكونُ في حفظ اللفظ، وشِدَّة الضبط، ومنه الحديثُ: " المَاهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ الكِرَامِ البرَرَةِ " (¬2) وقد يكون في فهمِ المعاني، والغوصِ على الدقائق. وعلى كلِّ تقدير، فما الدَّليلُ على اشتراط المهارةِ في الاجتهادِ، وهَلِ المهارةُ مقدورة للبشر مكتسبة، أم مخلوقةٌ لله تعالى لا يَقْدِرُ عليها سِواه؟ فإن كانت غيرَ مقدورة للبشر، لم يَحْسُنْ ذِكْرُها في ¬
الجواب على قوله (حافظا لأقوال الله ورسوله) يتم بفصلين
مَعْرِضِ التفسير للاجتهاد، لأنَّ مَن خلقها اللهُ له، ومنحه إيَّاها، فقد حصلت له بسهولة، ومن لم يخلُقْها له، فقد أراحه باليأس مِن نيلها وسقوطِ التكليف بالاجتهاد المنوطِ بحصولها، وإن كانت مقدورةً للعباد، فلا معنى للصَّدِّ عن التعرُّض للمقدوراتِ من الأعمال الصالحات، وقد قدَّمنا تقريرَه، ولا وجهَ لِذلك، بل هُوَ من جملة المحرَّمات أو المكروهات. وأمَّا الأمر الثاني -وهو حفظُ أقوالِ الله وحفظُ أقوالِ رسول الله، وحفظُ مسائل الإجماع- فالجواب عليه يتم بفصلين: الفصلُ الأوَّل: في أنَّه لا يجب الإحاطة بجميع ذلك على سبيلِ القطع، وأنّ المعتبر في ذلك هو الطلبُ حتى لا يَجِدَ، ولا يَظُنَّ وجودَ النصِّ والظاهرِ، ثم يجوز الحكم بالرأي والاجتهاد بعدَ ذلك. وقد مرَّ الدليل على ذلك فيما تقدَّم، وبيان القدر الواجب منه، وبيان نصوص العلماء في ذلك والدليل عليه. الفصل الثاني: في أنَّه لا يجب حفظُ ما تجبُ معرفته من ذلك عن ظهر القلب، وفيه فائدتان: إحداهما: في ذكر مَنْ نصَّ من العلماء على أنَّ ذلك لا يجب، وأنّا ما علمنا أنَّ أحداً من العلماء سبق السَّيِّد إلى النَّصِّ على وجوب ذلك من السَّلَف ولا الخلف، ولا أنكر على من نصَّ على عدم وجوبه. أمَّا مَنْ نصَّ على ذلك، فغيرُ واحد مثل الإمام يحيى بن حمزة من أئمة العترة -عليهم السلامُ- ذكره في " المعيار "، وممَّن ذكر أنَّ ذلك لا يجب: القاضي العلامةُ فخرُ الدِّين عبد الله بن حسن الدّواري -قدَّسَ الله روحه- ذكر هذه المسألة في كتبه وتعاليقه الكلاميّة والأصوليّة والفقهية وكان
يذكُرُ ذلك في إملائه على التلامذة، ويُصرِّح بأنَّه لا يجب على المجتهد حفظُ العلوم غيباً والغزاليُّ مِن علماء الفقهاء، والفقيهُ عليُّ بنُ يحيى الوشليُّ، والفقيهُ عليُّ بن عبد الله بن أبي الخير ممن ذلك ذلك (¬1). ومنهم العلامةُ أبو نصر تاج الدين السبكي ذكره في كتاب " جمع الجوامع " (¬2) ولم يذكر فيه خلافاً مع تعرُّضِه لاستيعاب الخلاف، وذكر الشواذ، هؤلاء اتَّفقَ لي الوقوفُ على كلاماتهم والظاهر من بقية العلماء المتكلمين في شروط الاجتهاد أنَّهم لا يرون وجوبَ ما ذكره السَّيِّد. والَّذي يدل على أنّ ذلك الذي قاله غيرُهم هو ظاهرُ مذهبهم، أنَّهم تعرضوا لذكر شرائط الاجتهاد، وحصر جميع ما يجب على المجتهد، ولم يذكروا ما ذكر السَّيِّد من وجوب غيب العلوم، فدلَّ على أنَّ ذلك ليس بشرطٍ عندهم، لأنه لو كان شرطاً، لكانوا غيرَ صادقين في قولهم: إن ذلك الذي ذكروه هو مجموع شرائط (¬3) الاجتهاد وهم أبرُّ وأصدَقُ. وبهذا الوجه يجوز أن يُنسب إليهم القوله بأن ذلك لا يجب، ونجعله مذهباً لهم تخريجاً، لأنَّ الأخذ من العموم المطلق أقوى طرق التخريج. وما زال العلماء من الأئمة -عليهم السلامُ- وسائر الأصوليين وغيرهم يذكرون ما يجب على المجتهد، ما نعلمُ أحداً سبق السَّيِّد إِلى التنصيص على وجوب غيب العلوم، وإنّما نصَّ بعضُهم على عكس ذلك، ودلَّ كلام بقيتهم أيضاً على عكسه كما قدَّمنا. ومن أحب معرفة صدق كلامي، فليطالع مصنفاتِ العلماء في الأصول وغيره -والله سبحانه أعلم-. ¬
الفائدة الثانية: الدليل على عدم وجوب ذلك من إحدى عشرة حجة:
الفائدة الثانية: وهي الدليل على عدم وجوب ذلك، فالدليل عليه إحدى عشرة حجة: الحجة الأولى: أنَّ الرجوع إلى الكتاب يُفيد ما يفيده الحفظ مِن ظن صحة الدليل المعوَّل عليه في الاجتهاديّات. فإن قلتَ: إنَّ الحِفظَ يُفيدُ العلمَ، فيأمنُ الحافظ بحفظه مِن الخطأ، والرجوعُ إلى الكتاب يُفيد الظن. قلت: هذا ممنوع لوجهين: أحدهما: أن الحافظ لأدلة الاجتهاد، وإن علم أنَّه حافظ لها، فثبوتُها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مظنونٌ، وثبوت معاني الظواهر من القرآن وسائر المتواترات مظنون. أمَّا ما كان لفظُهُ معلوماً ومعناه معلوماً، فليس من الاجتهاد في شيء، ذاك بابٌ آخر لم يتكلم فيه، فإذا كان الأصلُ مظنوناً، فلا معنى لاشتراط العلم في صفة نقله، فإنَّ وجوب حفظه فرعٌ على كونه من كلام النبي -عليه السلام- ولم يجب العلم في الأصل، فإيجابه في الفرع يُؤدي إلى أن يكون الفرعُ أقوى من أصله، وهذا ظاهر السقوط. وثانيهما: أن نقول: ما مُرادُك بأنَّ الحافظ يأمنُ الخطأ بحفظه؟ هل مُرَادك أن أمانه للخطأ دائم أو أكثري؟ الأول ممنوع، والثاني مسلَّم ولا يضر تسليمُهُ، إنّما كان الأول ممنوعاً، لأنَّا نعلم بالضرورة التجريبية أنَّ الحافظ قد يَغْلَطُ في حفظه، وقد صَحَّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يتلو آية فقال- عليه السلامُ-: " رَحِمَكَ اللهُ لَقَدْ أذكَرْتَنِي آيةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا " (¬1). ¬
فهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيرِهِ؟!. وصح عنه -عليه السلام- أنَّه نهي أن يقول الرجل: نَسِيتُ آيةَ كَذَا وَلْيَقُلْ: أُنْسِيتُ (¬1) وروي عن عليٍّ -عليه السلام- أنَّه شكى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَفَلُّت القرآن عليه، فَعَلَّمه أنْ يَدْعُو بدُعَاءٍ. ذكره الترمذي (¬2). وروى أبو العباس الحسنيُّ -عليه السلام- في كتاب " التلفيق ": أنّ القاسم -عليه السلام- أفتى رجلاً في مسألة، فلمَّا ذهب قال: عليَّ بالرجل، فلما أقبل، قال له: سبحانَ مَنْ لا يَسهو، إنِّي سهوتُ، وإن الصوابَ كذا وكذا. وروى المؤيَّد بالله في " الزيادات ": أنَّ أبا يوسف أفتى في مسألة، ثم تبيَّن له خلافُ ما أفتى، فبذل مالاً كثيراً في استدراك السائل. ¬
فائدة نحوية في قوله تعالى {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم}
ولمَّا قال المؤَيَّد باللهِ: إنَّ الواجبَ على مَن معه عشرةُ أثواب فيها ثوبٌ نجس ملتبس أن يُصّلِّي عشرَ صلواتٍ في كُلِّ ثوب صلاة، حملوه على السهو، وأنَّهُ توهَّم أنَّ فيها ثوباً طاهراً والباقي نجس. ولمَّا قال الزمخشريُّ (¬1) في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4]: إنَّ الجملة وصفيّة، وإن الواو دخلت فيها، لشبهها بالحال، أنكر ذلك السَّكَاكيُّ (¬2) وقال: وأمّا نحوُ قولِهِ عزَّ اسمُه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} فالوجه فيه عندي: هو أنَّ " ولها كتاب معلوم " حالٌ لقرية، لكونها في حكم الموصوفة نازلة منزلة: وما أهلكنا من قرية من القرى، لا وصفٌ، وحملهُ على الوصف سهو لا خطأ. ولا عيب في السَّهو للإنسان، والسَّهْوُ ما يتنبه صاحبُهُ بأدنى تنبيه، والخطأُ ما لا يتنبَّه صاحبُهُ أو يتنبه، ولكن بعدَ إتعاب. انتهى. ولا يحتاح إلى توجيه السَّكَاكيِّ أنَّ " قرية " في حكم الموصوفة، لأنَّ ابنَ مالك ذكر من المواضع التي يكثر فيها تنكيرُ صاحب الحال مقدّماً أن يكونَ الحالُ جملةً مقرونة بالواو، ومثَّل ذلك أبو حيّان بهذه الآية، وبقول الشاعر: مَضَى زَمَنٌ والنَّاسُ يسْتَشْفِعُونَ بِي ... فَهَلْ لِي إلَى لَيْلَى الغَدَاةَ شفِيعُ (¬3) ¬
الحجة الثانية: الرجوع إلى الكتاب أقوى من الحفظ .. وذلك من وجهين
وأمَّا أن تسليم الثاني لا يضرُّ، فلأنَّ الأمان الأكثريَّ حاصل بالرجوع إلى الكتاب. الحجة الثانية: أنَّ الرجوعَ إلى الكتاب أقوى من الحفظ، فوجب أن يكون معتبراً كافياً، وإنَّما قلنا: إنَّه اقوى من الحفظ لوجهين: أحدهما: أنَّه يجوزُ أن يكون الكتابُ أصل الحفظ، فإن الحافظ يجوزُ له أن يحفظَ مِن الكتاب وهذا هو الأكثرُ، وقَل مَنْ يَحْفظ القرآنَ والسُّنَّة وغيرهما من العلوم مِن أفواه الرجال، على أنَّ الحفظ من أفواه الرجال، ليس يُفيدُ العِلْمَ، فكان الحفظُ مِن الكتاب مساوياً للحفظ من أفواه الرِّجال في إفادة الظن: فإذا ثبت أنَّ الكِتَابَ أصلُ الحفظ في كثير من الأحوال، وأنه يجوز أن يكون أصلُه في جميع الأحوال، ثبت أنّه أقوى منه، لأن الأصل أقوى مِن الفرع، ولأن غاية الحافِظ أن يحفظ كما قرأ في الكتاب. وثانيهما: أنّا رأينا الحُفّاظ يرْجِعُونَ فيما يحفظونه إلى الكتب عند الاشتباه. الحجة الثالثة: أنَّه قد ثبت أنّ أميرَ المؤمنين عليًّا -عليه السلام- أعلمُ هذه الأمة بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وثبت أنَّه كان معه صحيفة معلّقة في ¬
سيفه كتبها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها أسنانُ الإبلِ وأنصبتها ومقَادِيرُ الدِّيات؛ رواها سفيانُ، عن الأعمش، عن إبراهيمَ التيّميِّ، عن أبيه، عن عليّ -عليه السلام (¬1) -. وهذا دليلٌ على جواز الرجوعِ إلى الكتُبِ والصحائفِ، وسواءٌ ¬
الحجة الرابعة: ما قدمنا ذكره من دعوى المنصور بالله
قلنا: إنَّه كان حافظاً لذلك عن ظهر قلبه أو لا، أمّا إن لم يكن حافظاً لذلك، فظاهر، وأمّا إن كان حافظاً له، فلأنَّه إنَّما كتبها، وعلَّقها مع سيفِه ليرجِعَ إليها عند الالتباس، لأن ذِكْر أسنانِ الإبل، ونصابَ زكاتها، ومقادِيرَ الدِّيات لا يصْلُحُ أن يكون تعلَّقه تميمة، ولا اتخذه عُوذةً، فلا وجه لإيجاب الحفظِ. الحجة الرابعة: ما قَدَّمنا ذكرَه مِن دعوى المنصور بالله، والحافِظِ يعقوب بن سفيان، والحافظ ابن كثير للإجماع على رجوعِ الصحابة إلى كتاب عمرو بن حزم، ورجوع عمر إليه في دية الأصابع، وكذلك كتابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في الصدقات لأبي بكر وكذلك سائرُ الكتب النبوية التي كتبها -عليه السلامُ- للمسلمين إلى سائر آفاق الإسلام، لم يُنْقَلْ أنّه -عليه السلام- أمر أحداً ممَّن كتبت له بحفظها عن ظهر قلبه، وأوجب ذلك على من أراد العملَ بها وهو -عليه السلام- المُبَيِّن للأمة، الناصح للخلق، الأمينُ على الوحي، فلا هُدَى أوضحُ من هداه، ولا اقتداء بأحدٍ أفضلُ مِمَّن اختاره اللهُ واصطفاه. الحجة الخامسة: أن الصحابة أجمعت أنَّه لا يجب حفظُ النَّصِّ على المجتهد، وإنَّما يجب عليه البحثُ عند حدوث الحادثة، وذلِكَ ظاهر، فإن أبا بكر حين سألته الجَدَّةُ نصيبَها قال لها: ما لَكِ في كتابِ اللهِ من شيءٍ وما علمتُ لَكِ في سُنَّة رسولِ الله من شيء، ثم سأل الناسَ، فأخبره المغيرةُ، ومحمدُ بن مسلمة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض لها السُّدُسَ فأمضاه لها (¬1). فلم يكن حافظاً للنص قبلَ حدوث هذه ¬
المسألة. وكذلك قِصَّةُ عُمَرَ في حُكْم المجوسِ (¬1) وسؤاله للناس عند احتياجه إلى ذلك، وكذلك قصَّتُهُ في حديثٍ الطَّاعونِ (¬2). وكذلك أميرُ المؤمنين -عليه السلامُ- قد صحَّ عنه أنَّه كان يغتسِلُ من المذي، ولا يدري ما حُكمُهُ، وأنَّهُ استحى مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لمكان ابنته منه، وما زال يغتسِلُ منه حتَّى تشَقَّقَ ظهرُهُ، ثم أمر المِقْدَادِ بنَ الأسود يسأل له النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (¬3). والظاهر أنَّ علياً -عليه السلامُ- كان مجتهداً في العلم حين لم يكن يحْفَظُ ذلك الحكمَ، فلو وجبَ في حق المجتهد حفظُ النصوص على الحوادث، لدَلَّ ذلك على أنَّه في تلك الحال يُسمَّى عامِّياً غيرَ مجتهد. وأيضاًً فإنَّه قد ثبت عنه -عليه السلام- أنَّه احتاج إلى حديث غيره، وكان يستحلفُ بعضَ الرُّواة ويُصدِّق منْ حلف له، كما رواه المنصور بالله، وأبو طالب -عليه السلام- ولو كان حافظاً للنُّصُوص عن ظهر قلبه لم يَحْتَج إلى ذلك. ففي هذا أنَّهم لم يتعرَّضوا لجمع النصوص ¬
فإن قلت إنهم كانوا إذا سمعوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا حفظوه بالمعنى فالجواب من وجهين:
وحفظها، بل كانوا لا يبحثون عن المسألة حتى تُعْرضَ، فإن عَرضت وهم يحفظون فيها شيئاً، حكموا به، وإن لم يكونوا يحفظون فيها شيئاً، سألوا عنه. وتلخيص هذه الحجة أنْ نقول: إنّا نعلم بالضرورة من أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- أنّهم ما كانوا يعتنونَ بجمعِ الحديث النبويِّ وحفظه ودرسه عن ظُهورِ قلوبهم، فإذا لم يجب حفطُهُ ودرسُه قبلَ تقييده بالكتابة، فكيف يجبُ بَعْدَ تقييده في الكتب، والأمان من ضيَاعه، والثقة بوجوده، وإنَّما كانوا يحفظون بعضَ القرآن، ويَدْرسونَه، والقليلُ منهم يحفظه كُلَّه. فإن قلتَ: إنَّهم كانوا إذا سَمِعُوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً حفظوه بالمعنى. فالجوابُ عن هذا من وجهين: أحدهما: أنَّ محفوظ الواحد منهم كان لا يكفيه في الاجتهاد بحيثِ لا يجبُ عليه طلبُ غيره، وهذا القدرُ محفوظ لِكل مجتهد بعدَهم، وإنما كلامُنا في حفظ كتابٍ حافلٍ في أحاديثِ الأحكامِ يَغْلِبُ على ظنِّ الحافظ له أنَّه لا يُوجَدُ نصٌّ صحيح إلا وقد أحاطَ به، بحيث إذا وَرَدَتْ عليه الحادثة لم يجبْ عليه أن يَطْلُبَ مِن غيره المعارضَ ولا الناسخَ ولا المخصِّصَ، وإنَّمَا قلنا: إنّ الواحد منهم كان لا يحفظُ ما يكفيه، لأنّ ذلك هو الظاهرُ مِن أحوالهم، فإنَّهم كانوا يفزعونَ إلى السُّؤال عند حدوثِ الحوادِثِ مثل ما قَدَّمنا مِن قِصَّة أبي بكر مع الجَدَّةِ، وقصة عمر مع المجوس وأمثال ذلك، فإذا كان هذا أمير المؤمنين -عليه السلام- احتاجَ إلى حديثِ غيره، بل احتاج إلى حديث المتَّهَمِينَ الذين
ثانيهما: كانوا يسمعون النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ينسونه، وذلك ظاهر لوجهين
لا يُصدقهم إلا بعدَ الاستحلاف، فما حالُ غيره؟ وأمَّا معاذ، فإنَّما لم يلزمه سؤالُ غيرِهِ حيث لم يَجِد النُّصوصَ لبُعْده عنهم، وغيبتهم عنه، كما لم يلزمه الرجوع إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فلا شك أنّ الحكم بالرأي في بلدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن غير سؤال لا يجوزُ، لأنَّ الحاكم به واجد للنصِّ كالمتيمِّم، والماءُ معه في البلد لا يجزيه، لأن الماءَ معه. وثانيهما: أنَّهم كانوا يسمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيءَ ثم ينسونه، وذلك ظاهر لوجهين: أحدهما: أنَّ مثل ذلك معلوم من أحوال البشر، فإنَّ منْ سَمِعَ الشيءَ، ولم يُلَاحِظْهُ بالدرس والمعاهدة يَعْرِضُ له النسيانُ، وتَطَرَّق إليه الشَّكُّ. وثانيهما: أنَّه قد ثبت عنهم ذلك، فعن طلحة أنَّه سُئل عن السبب في قِلة روايته، فقال ما معناه: إنّي قد جالستُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كما جالسوه، وسمعتُ منه كما سمعوا منه، ولكنِّي سمعتُهُ يقول: " منْ كَذبَ عَلَيَّ مُتعَمِّداً فَلْيتَبوَّأ مقْعَدَهُ منَ النَّارِ " (¬1). وعن أبي عمرو الشَّيباني، قال: كنتُ أجلِسُ إلى ابن مسعود حولاً لا يقولُ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقلَّته الرِّعدةُ، وقال: هكذا، أو نحو ذا، أو قريب من ذا، أو قلت. يعني ¬
الحجة السادسة: أنها قد اشتهرت الفتيا في عصر الصحابة عمن ليس بحافظ لأقوال الله
يتحرَّجُ مِن أجل حفظ اللفظ مع طُول العهدِ، فإذا روى بعبارة تُوهِمُ أنَّه حكى لفظ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - استقلَّته الرِّعدة، وإنَّما كان عامّة روايته بلفظٍ يفهم منه السامعُ أنّه روى بالمعنى، ولهذا قال أبو هريرة: ما غلبني أحدٌ إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولم أكتب (¬1). وأعجبُ مِنْ هذا كله نسيانُ عُمَرَ لِحَدِيثِ التَّيَمُّمِ الذي رواه عمَّارٌ مع أنَّه من الوقائع التي لا يُنسى مثلُها في العادة، فإنّ عَمّاراً روى أنّه أصابته وعُمَرَ جنابَةٌ. قال: فأمَّا أنا فتمرَّغتُ في التراب كما تمرَّغُ الدَّابَّةُ، وأما عُمَرُ، فترك الصَّلاة، فلما أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - سألناه فقال: " إنَّما كانَ يَكْفيك ... " وساق الحدِيثَ في صِفَةِ التيمُّمِ. فلما سمع عُمرُ هذا مِن عمَّار، أنكره وقال: اتَّقِ الله يا عمَّار، فقال عمَّار: إن أحببتَ، لم أذكره فقال عمر: بل قد وليناك ما توليت (¬2). أو كما قالا. وأمثالُ هذا كثيرة. فإذا لم يَجِبْ على الصحابة التعرُّضُ لمعرفة ما في الحوادث المقدرة من النصوص، وذلك قبلَ حفظِ السُّنن وتدوينها، فأولى وأحرى أن لا يَجِبَ ذلك بعدَ حفظها وتدوينها، والأمانِ من ضَيَاعها، والمعرفةِ بموضعها عند الحاجة إلى البحث عنها، وهي حُجَّةٌ قَوِيَّة إجماعية. الحجة السادسة: أنها قد اشتهرت الفُتيا في عصر الصحابة عمَّن ¬
الحجة السابعة: في الآية في الدين والشهادة .. فبين أن الكتابة هى الغاية القصوى في الاحتراز من الشك والبعد من الريب
ليس بحافظٍ لأقوال الله، دَعْ عنك أقوالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُنْكِرْ ذلك أحدٌ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المفتي ولا على المستفتي، فقد نقلت الفتيا عن خلقٍ كثير من الصَّحابة عدتهم مئة واثنان وأربعون رجلاً وعشرون امرأة وهم معروفون بأسمائهم لولا خشيةُ التطويل، لذكرتُهُم بأسمائهم (¬1)، ولم يكن يحفظُ القُرآن منهم إلاَّ أربعةُ رجال فيما قاله بعضُ الصَّحابة (¬2)، أو قريبٌ من ذلك. وقد أفتى أبو بكرٍ وعُمَرُ؛ ولم يكن منهما منْ يَحْفَظُ أقوال اللهِ عن ظهر قلبه كما ذكره السَّيِّد، ولم يُنْكِرْ عليهم أخذ من الصَّحابة، ولا أنكر على من استفتاهم، ولا علم أنَّ أحداً منهم جمع آيات الأحكام مفردةً، كما فعله بعضُ المتأخرين وحفظها، ولا توقَّفُوا في العمل باجتهاد الخليفة، والقاضي، والمفتي على البحث عن ذلك واختياره فيه، فدلَّ على أنَّه لا يجب. الحجة السابعة: أنَّ الله تعالى قال في الدِّين والشهادة عليه: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] فالله -سبحانه ¬
الحجة الثامنة: أن الجماهير قد أجازوا رواية لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى
وتعالى- في هذه الآية رفع الإشكال، وبيَّن أنّ الكتابة هي الغايةُ القصوى في الاحتراز من الشَّكِّ والبعد من الرَّيْب، ونصَّ على أنَّها أقسطُ وأقومُ، وجاء بأفعلِ التفضيل، وحذف المفضَّل عليه تعميماً لتفضيل الكتابة على سائر الوجوه المبعدة من الريب، المقربة من اليقين، كما في قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وفي قول المصلي. وهذا في الشَّهادة المبنيَّة على العلم، فكيف في الاجتهاد المبنيِّ على الظنِّ، وهذا في حقوق المخلوقين المبنيَّةِ على المبالغة في الاحتراز بحيث إنَّه لا يُقبل فيها قولُ العدلِ الواحد، ولا قولُ جماعةِ العدولِ فيما يدَّعونَهُ لنفوسهم ونحو ذلك من الخصائص، فكيف في حقوق الله التي لم يُشترط فيها شيءٌ مِن ذلك. وهذه الآية حجة لمن يُجِيز الشهادة على الخطِّ المعروفِ، وهي على أصله أظهرُ في المقصود هنا، وإن كانت حُجَّة على كلا المذهبين، لأن مَنْ لا يُجِيزُ الشهادة على الخطِّ يتأوَّلُها بأنَّ الخط مذكِّرٌ لمن نسي تذكيراً يعودُ معه العلمُ الضروريُّ، فثبت أنَّ الشاهدَ لا يجب أن يكونَ حافظاً حتَّى يشهدَ، ويجوزُ أن ينسى، ثم يتذكرَ، فالمجتهدُ أولى بذلك. الحجة الثامنة: أنَّ الجماهير قد أجازوا روايةَ لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، ولم يُوجِبُوا حفظَه بلفظه، واحتجُّوا على ذلك بحجج أقواها رواية الحديث للعجم بلسان العجم، ومنها إجماعُ الصَّحابة على جوازِه حيثُ يروون الحديثَ الواحِد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة بينهم. فإذا تقرر هذا الذي ذهب إليه الجمهورُ، والذي قامت عليه الأدِلَّةُ أنَّه لا يجبُ حِفْظُ لفظِ حديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على من سمعه منه -عليه السلام- بغير واسطة، فكيف يجب على من بلغه حديث
الحجة التاسعة: أجمعت جماهير العترة على اختيار الإمام في الاجتهاد .. فلم نعلم أحدا منهم اختبر أحدا من الأئمة في الحفظ
بوسائط كثيرة أن يحفظ ألفاظَهم التي لا يدري: أهي لفظُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أم (¬1) معنى لفظه؟ الحجة التاسعة: أجمعت جماهيرُ العِترة الطاهرة -عليهم السلام- على اختيار الإمام في الاجتهاد ولم يزل الأعيان من سادات أهلِ البيتِ والعلماء من شيعتهم يختبرون كُلَّ مَنْ دعا إلى الإمامة منذ عصورٍ كثيرة، وقرونٍ عديدة، فلم نعلم أنَّ أحداً منهم اختبر أحداً من الأئمة في حِفْظِ أقوالِ اللهِ وأقوالِ رسوله ومسائلِ الإجماع عن ظهر قلبه مع تعرُّضهم لامتحان الأئمة في جميع شرائط الاجتهاد ومع تعنُّتِ كثيرٍ منهم في الاختبار. وكذلك الأئمةُ لم يختبروا القضاةَ في ذلك، وكذلك من اعتقد اجتهاد عالم من المتقدِّمين، وأراد تقليده، وكان ممن يستجيز ذلك، فإنه لم ينقل عن أحد أنَّه يلزمه أن يبحثَ حتَّى يظن أنَّه كان يحفظ أقوال اللهِ، وأقوالَ رسوله، ومسائلَ الإجماع عن ظهر قلبه، وهذا يُفيد ظهور الإجماع على عدم وجوب ذلك. الحجة العاشرة: ثبت عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فلا تُضَيِّعُوهَا، وَحدَّ حُدُوداً فَلا تعْتَدُوهَا، وَسكَتَ عنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فلا تَتَعرَّضُوا لَهَا" رواه النَّواوي في " الأربعين " (¬2) المسمّاة بـ " مباني الإسلام " وقال: هو حديث حسن، ¬
ويشهد له ما ثبت في " الصحيحين " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ومَا أمَرْتُكُم بِهِ فأتُوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُمْ، فَإنَّما أهْلَكَ: مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهمْ واختلافُهُم على أنْبِيَائِهِمْ " (¬1). وهذا مِن جملةِ ما سَكَتَ الله عنه ورسولُه، ولم يَحْصُلْ فيه قياسٌ صحيحٌ يقْوَى على تخصيصِ هذه العموماتِ، وَقَدْ أذِنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لجماعةٍ منْ أصْحَابِهِ بالقضاءِ والفُتيا، وَسَكَتَ عن هذَا ولم يُبَيِّن لهم أنَّه شرطٌ في ذلك. وقد ثبت بالإجماع أنَّ علينا أن نَقْضِيَ بكتاب اللهِ، ثم بِسُنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه سنةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دلَّت على أن الله سَكَتَ عن إيجابِ حفظِ أقوالِهِ وأقوالِ رسولِهِ رحمةٌ لنا مِنْ غيرِ نسْيَانِ، فَقَبِلْنَا رحمَة اللهِ تعالى لنا، وَشَكَرْنَا نعمته سبحانَه علينا، ولم نَتعَرَّضْ لِمَا لم نُؤْمرْ به في كتابِ ربِّنا ولا في سُنَّةِ نَبِيِّنا، ولم نَكُنْ مِن الَّذِينَ قَال الله تعالى فيهم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (¬2) [النساء: 66]. ¬
الحجة الحادية عشر: نقل الإجماع على أن حفظ شيء من القرآن واجب، وعلى أن من حفظ الفاتحة مع البسملة، وسورة أخرى معها، فقد أدى فرض الحفظ وأنه لا يلزمه حفظ أكثر من ذلك
الحُجَّة الحادية عشرة: قالَ صاحبُ كتابِ " الإجماع " في آخره: أجْمَعوا على أنَّ حِفْظ شيء مِن القرآن واجبٌ، وعلى أنَّ من حَفِظَ الفاتحَةَ مع البسملَةِ قَبْلَهَا، وسورةً أخرى معها، فقد أدَّى فرضَ الحفظ، وأنَّه لا يلزمُهُ حِفظٌ أكثرُ من ذلك (¬2). انتهي من كتاب الرَّيمِيِّ (¬3) الجامِعِ لكتب ابن حزم وابن المنذر (¬1) وابنِ هُبيْرَةَ (¬2) في الإجماعِ. وفي هذه الحُجَجِ كفايةٌ إن شاء اللهُ تعالى، ثُمَّ بعدَها نذكر حُجَجَ ¬
الرد على السيد حيث استدل ببيت من الشعر على نقض قول الإمام الغزالي أن المجتهد يكفيه حفظ متن مختصر في كل فن، ولا يلزمه حفظه عن ظهر قلبه بل يكفيه أن يعرفه نظرا
" السَّيِّدِ " التي احتَجَّ بها على أنَّه يجبُ حفظ أقوالِ اللهِ، وأقوالِ رسوله، وأقوالِ الأمَّةِ عن ظهرِ قَلْبٍ. قال: ولا يغرَّنَّكَ قولُ الغزاليِّ (¬3) أو غيرِه: يكفيهِ أن يحْفَظَ في كُلِّ فَنٍّ مختصراً، ولا يلزَمُهُ حفظُهُ عن ظهرِ قلبِهِ، بل يكفيهِ أن يعْرِفَه نَظَراً، فإنَّ ذلِكَ غيرُ صحيحٍ ألا ترى إلى قولِه: مَا العِلْمُ إِلاَّ مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ ... لَيْسَ بِعلْمٍ مَا يَعِي القِمطْرُ (¬4) أقولُ: قد احتَجَّ " السَّيِّد " بثلاثِ حُجَجٍ هذه أُولاها وما أدري مما عُذْرُ " السَّيِّدِ " في تصديرِ الاحتِجَاجِ بقولِ الشاعر في مسألة مِن قوعِدِ الدِّين التي يَنْبنِي عليها كثيرٌ مِن مسائل الإسلامِ من الإمامَةِ العُظْمَى، ومرتبتي ¬
القضاءِ والفتيا، وهذه الأمور هي التي تَدُورُ عليها رَحَا المصالِحِ الإسلاميةِ وَترْجِعُ إليها أمهاتُ القواعِد الدينيّةِ، وهذا شيءٌ لم يَسْبِقْ إليهِ أحدٌ من العلماءِ، ولو كان قولُ الشاعِرِ حُجَّةً في الحلالِ والحرام، ومهمَّات قواعِدِ الإسلام، لم يَعْجِزْ أحدٌ عن الاحتجاجِ على كُلِّ ما أراد، فإنَّ في كُلِّ طائفةٍ شعرَاءَ، وفي كُلِّ فرقةٍ بُلغاءَ، يُجيدُونَ الأشعارَ وُيحَبِّرون القصائدَ. تم بعونه تعالى الجزء الأول من العواصم والقواصم ويليه الجزء الثاني وأوله قال: ويروى عن الشافعي أنه ...
الجزء الثاني
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء الثاني مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 2
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال السيد: ويروى عن الشافعي أنه قال: لا علم إلا ما يدخل به الحمام
قال: وُيروى عن الشَّافعي أنَّه قال: لا عِلْمَ إلاَّ ما يَدْخُلُ بِهِ الحمّام. أقولُ: هذه الحجةُ الثانيةُ من حُججِ السَّيِّد في هذه المسألةِ، والجوابُ عليه من وجوه: الأوَّلُ: مِن أينَ صحَّ لك هذا عن الشافعيِّ -رضي اللهُ عنه- فهو إمامٌ جليلٌ، ومذاهبُه محفوظةٌ، وأقوالُه مُدَوَّنَة، وهذه المسألةُ من أكبرِ قواعدِ الإسلامِ، والكلامُ في شرائِطِها أساسُ معرفةِ الحلالِ والحرامِ، ونسبةُ مذهبٍ إلى الشافعيِّ في هذه المسألةِ الكبيرةِ مِن غيرِ طريقٍ صحيحةٍ، لا يجوزُ، فيجبُ مِنَ السَّيِّد -أيَّدَهُ اللهُ- أن يُرِينَا مِن أينَ نقل هذا القولَ عن هذا الإمامِ، أمن " التنبيه "؟ (¬1) أم من " المهذَّبِ "؟ أم من ¬
الثاني أن المنقول في كتب الشافعية نقيض ما ذكرته
" الروضة "؟ أم من " المنهاجِ "؟ أم من " فتح العَزِيزِ "؟ أم من كتاب " الأمِّ "؟ أم من كتاب " المحصولِ " للرازيِّ، أم " المستصفي " للغزاليِّ؟ أم " البُرهانِ " للجُويني؟ أم من أيِّ مصنفاتِهِ؟ فهي منتشرةٌ في البلاد، سائرةٌ في الأغوارِ والأنجادِ. وقد شدَّد السَّيِّد في نِسبة الصِّحاحِ المسموعةِ إلى أربابِها مع عِنايةِ أهلِ هذا الشأنِ بها، فكيف بِنسْبَةِ هذا المذهبِ الغريبِ إلى هذا الإمامِ الجليلِ؟!. الثاني: أنَّ المنقولَ في كتبِ الشافعيةِ نقيضُ ما ذكرتَه من غيرِ ذكرٍ لخلافٍ فيه، لا عن الشافعيِّ، ولا عن سِواهُ، فهذا إمامُ الشافعية تاجُ الدِّين أبو نصرٍ السُّبْكيُّ (¬1) في كتابهِ " جَمْعِ الجَوامعِ " في الكِتَاب السابعِ ¬
الثالث: أن نقول: ما سبب الاحتجاج بقول الشافعي- رضي الله تعالى عنه -
منه يقولُ: إنَّ حِفْظَ المتونِ لَا يَجِبُ على المجتهدِ (¬1) مع توسُّعِه في نقلِ الخلافِ، فلم يَذْكُرْ خلافاً قطُّ. فدلَّ على براءَةِ الشَّافِعيِّ مما ذَكَرَهُ، على أنَّه قد نَقَلَ عن الغزاليِّ مثلَ ذلك، وهو مِن أئمة الشافعيةِ، فيَجبُ منه أن يُبَيِّنَ لنا نقلَه عن أيِّ ثقةٍ، أو مِن أيِّ كتابٍ، كما فعلنا، فإنَّه أبعدُ له عن التُّهْمَةِ، وأنفي عن صِمَةِ (¬2) الرِّيبَةِ. الوجهُ الثالثُ: أن نقولَ: ما سببُ الاحتجَاجِ بقول الشافعيِّ وما تُرِيدُ بذلك؟ فإن أردتَ أن كلامَه حُجَّةٌ في الحلالِ والحرام، وقواعِدِ الإسلامِ، فهذا خِلافُ الإجماعِ، وإن أردتَ أن تُرَجِّحَ لنا تقْلِيْدَهُ في هذه المسألةِ، فما أَبْعَدَ مَا قَصَدْتَ في هذا المقالِ، فإنما وضعتَ رسالتَك لتحذيري مِن تقليدِ الفقهاءِ في فروعِهِم، والقدحِ عليهم في حديثِهم وعقائدِهم حتَّى شَكَّكتَ في اجتهادِ أبي حنيفةَ، وفي إسلامِ الشافعيِّ ومالكٍ، وقطعتَ بِكُفْرِ أحمدَ بنِ حنبلٍ جُراءةً وغُلُوّاً في التنفير عنهم، ثم أردتَ أن تحتجَّ علينا بما لم يَصِحَّ عنهم، كما تحتجُّ بكتابِ اللهِ حيثُ احتجْتَ إلى ذلك، فَدَارَ اختيارُك مع الهوى، ونسيتَ ما يمْنَعُ مِنْهُ الحَيَا والحِجا، وكان اللائقُ من السَّيِّد -أيَّده اللهُ- إذا لم يجِدْ حُجةً تَدُلُّ على ما اختاره مِن هذا القولِ أن لا يذهب إليه، فليس ثَمَّةَ ضرورةٌ تُلْجِئُهُ إلى اختيارِ هذا القولِ المهجورِ، ومخالفةِ المذهبِ المشهورِ المُصَحَّحِ المَنْصُورِ الذي نصَّ عليه العلماءُ، وَقَوَّاه الجمهورُ، والعدولِ عن ذلك ¬
قال السيد: وكيف يكون حال هذا المجتهد الذي يحتاج إلى كتبه في عيون المسائل إذا اغتصبت هل يبطل اجتهاده
إلى الاحتجاج بالمنظومِ والمنثورِ. قالَ: وكيفَ يكونُ حالُ هذا المجتهدِ الذي يَحْتاجُ إلى كُتُبِهِ في عيونِ المسائلِ إذا اغْتُصِبَتْ كُتُبُه، أو سُرِقَتْ: هل يَبْطُلُ إجتهادُه، أو يقال: سُرِقَ عِلْمُهُ أو اغتُصِبَ ومُنِعَ منه ونُهِبَ؟!. أقول: هذه الحجةُ الثالثةُ مِن حُجَجِ السيِّدِ -أيَّده اللهُ- في هذه المسألةِ، وما هي إلاَّ قَعْقَعَةٌ في العِبارةِ، وتهويلٌ لَيْسَ تحتَه مِن العِلْمِ أَثَارَةٌ، ولستُ بحمدِ اللهِ مِمَّن تَهُولُهُ القَعْقَعَةُ، ولا تَسْتَغْلِطُهُ الألْفاظُ المسَجَّعَةُ، وَمَا أنَا مِن جِمَالِ بني أقَيْشٍ يُقَعْقَع خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنٍّ (¬1) وبيانٌ ما ذكرتُهُ يَظْهَرُ بالكلامِ في عَشْرةِ أنظارٍ: معارضَاتٍ وتحقيقاتٍ: النظرُ الأوَّلُ: مِن قَبِيلِ المعارضاتِ وهو أن نقولَ: إيرادُ مثلِ هذا الكلامِ مُمْكِنٌ في المجتهد والمقلد والقارىء في أيِّ فنٍّ مِن الفنونِ السَّمعيَّةِ، والمعتمدِ على الكتبِ في جميعِ المعارفِ النَّقْلِيَّةِ، فَيَلْزَمُ السَّيِّدَ -أيَّده الله- أن يُوجِبَ على نفسهِ وعلى غيرهِ من المقلِّدينَ لأمواتِ العلماءَ ¬
النظر الثاني من قبيل المعارضة أيضا، وذلك أن الأمة أجمعت على أنه يجب على المجتهد أن يرجع في طلب الأدلة عند حدوث الحادث إلى من في بلده من العلماء
المعتمدينَ على ما يَدْرُسُونهُ من أقوالِهم في العملِ والفتوى أن يَحْفَظُوا كُتُبَ الفروعِ عن ظهورِ قلوبِهم، ولا يَحِلُّ لهم أن يَعْتَمِدُوا في العملِ والفُتيَا على الرُّجُوعِ إلى كُتُبِهِم، لأنّهُ إذا ضَاعَ على أحدِهم كتابُهُ أو سُرِقَ أو نُهبَ أو اغتُصِبَ، لَزِمَ أَنْ يُقالَ: إنَّهُ ضاعَ عليهِ تقليدُه، ونُهِبَ فتواهُ، واغتُصِبَ عليهِ عِلْمُ إمامهِ الذي اختارَهُ للتقليدِ وارتضاهُ، فأصبحَ مسلوبَ التقليدِ، عديمَ الاجتهادِ، يَسْألُ عن ضالَّةِ تَقليدِهِ كُلَّ حاضرٍ وبادٍ. فإن قلت: إنَّه يُقالُ: سُرِقَ عليه كتابٌ، كما يقولُ ذوو الألبابِ، وعليه أن يَرْجِعَ إلى سائرِ الكتبِ المُصَحّحاتِ، وإلى سائرِ العلماءِ الثقاتِ. قُلنا: ولنا إن نجيبَ بمثلِ هذا الجوابِ، فَدَعْ عنكَ التَّهويلَ بذكرِ السَّرِقَةِ والاغتصابِ. وكذلك لو صحَّ الاستدلالُ على وجوبِ الواجباتِ بِمُجَرَّدِ التَّجَوُّزِ في العباراتِ، وجبَ غيبُ القرآنِ والسُّنَّة والنحوِ والأدبِ وسائرِ الفنونِ السَّمْعِيَّةِ والعلوم النَّقْلِيَّةِ، لئلا يُقالَ للقارىء في شيءٍ منها إذا سُرِقَ كتابُه أو نُهِبَ أو ضَلَّ أو غُصِبَ: إنَّه سُرِقَ على فلانٍ قراءتُه، وغُصِبَتْ عليه سُنَّتُه، وَنُهِبَ على فلانٍ عِلْمُ النحوِ والأدب، وظُلِمَ نوادر أشعارِ العربِ، ونفائِس الرَّسائلِ والخطب. النظرُ الثاني: مِن قَبيلِ المعارضةِ أيضاًً، وذلك أنَّ الأمَّة أَجْمَعَت على أنَّه يجبُ على المُجتهدِ أن يَرْجِعَ في طلب الأدلةِ عند حدوثِ الحادثةِ إلى مَنْ في بلدِهِ مِن العلماءِ، فقد قدَّمنا روايةَ المنصورِ باللهِ، وأبي طالبٍ -عليهما السلامُ- عن عليٍّ -عليه السلامُ- أنَّه كانَ يَسْألُ عَمّا لم يَسْمَعْ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ويَسْتَخْلِفُ مَن يتَّهِم (¬1). ¬
النظر الثالث أيضا من قبيل المعارضة، ذلك أنه قد ثبت أن العالم يسمى في الحقيقة العرفية عالما ومجتهدا في حال نومه وغفلته
وصَحَّ عن أبي بكرٍ أنَّه سَأَلَ عن سَهْمِ الجَدَّةِ حين جاءت تَسْأَلُهُ عن نصيبِها (¬1). وصحَّ أيضاًً عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عن حُكمِ المجوسِ حين قَدِمَ أرضَهم (¬2)، وغيرُ ذلك. وهذا إجماعٌ فلا نُطَوِّلُ بذكرِهِ. فلو كان مُجَرَّدُ التَّجَوُّزِ في الكلامِ يُحرِّمُ الحلالَ، ويُحِلُّ الحرامَ، لَوجَبَ أن يكونَ ذلك الواجبُ المُجْمَعُ على وجوبهِ حَراماً مجمعاً على تحريمهِ، لأنَّهُ يجوزُ على ذلك العالمِ المسؤولِ عن الحادثةِ، المرجوعِ إليهِ في معرفةِ المسألةِ أن يُقْتَلَ أو يَمُوتَ أو يُغَيَّبَ، فيُقَالُ في المجتهدِ الراجعِ إليهِ، المُعْتَمِدِ في البحثِ عن الحكمِ عليهِ: إنَّه قد ماتَ عِلْمُهُ، أو قُتِلَ: أو أُسِرَ اجتهادُه وكُبِّل، أو أَصَابَهُ الطاعونُ، أو اغتالَهُ الطاغُونُ. فإن قلتَ: الجوابُ: أنَّه يُرْجَعُ إلى غيرِ ذلك المأسورِ، وهذا الجوابُ ظاهِرٌ غيرُ مستورٍ. قلنا: وكذلك نقولُ: يُرجع إلى غيرِ ذلك الكتابِ المَغْضوبِ وهذا جوابٌ واضحٌ غَيْرُ محجوبٍ. النظرُ الثالثُ: أيضاًً مِن قَبيلِ المعارضةِ، وذلك أنَّه قد ثَبَتَ أَنَّ العالِمَ يُسمَّى في الحقيقة العرْفِيَّة عالماً ومجتهداً في حالِ نومِهِ وغفلتهِ ونِسيانِهِ وتوقُّفهِ، بل بعْدَ موتهِ وفنائهِ، ولذلك وصفَ اللهُ الأنبياءَ -عليهمُ ¬
النظر الرابع من قبيل المعارضة أيضا، وذلك أن الأمة أجمعت على جوز نسيان المجتهد
السلامُ- في كتابهِ الكريمِ بالنُّبُوَّةِ والعلمِ والفضل، وسائرِ الصِّفاتِ الحميدة، والنعوتِ الجميلةِ، وكذلك نَصِفُ عليّاً -عليهِ السلامُ- بعدَ موتِه بالعلمِ والشَّجاعةِ، وكذلك سائرُ أئمةِ الهُدى وسائرُ العلماءِ والفضلاءِ، وليسَ لأحدٍ أن يقولَ: إن عليّاً -عليه السلام- اليومَ جاهِلٌ غيرُ عالم ولا فاضِلٍ، محتجاً بأنَّ الحقيقة اللغويةَ تقْتَضي أنَّ الميتَ لا علمَ له، ولا عقلَ، ولا فضيلةَ له، ولا فضلَ، وذلك لأنَّ الحقيقةَ العُرفيةَ هي المقدَّمةُ السابقةُ إلى الأفهامِ، فلا يجوزُ العُدُولُ إليها حيث تُوهِمُ خلافَ الصوابِ بغيرِ قَرِينَةٍ وبغير حاجةٍ إلَّا مجردَ المجونِ أو اللَّجاجةِ. وكذلك يُسَمَّى الرجلُ مؤمناً ومسلماً في حالِ نومهِ، بل في حالِ موتهِ لمثلِ ذلك. فإذا ثَبَتَ هذا سألنا السيِّد -أيَّده الله- هل هو يُقِرُّ بذلك أو يُنْكِرُه؟ فإن أقر بذلك، قلنا: لنا أن نُسمِّيَ العالِمَ حينَ ضَاعَتْ كتُبُهُ عالماً مجتهداً، لأنهُ متمكِّنٌ من العلمِ، واجدٌ لِلطرِيق إلى الاجتهادِ كما سمَّينا الميِّتَ بذلك، لأنَّه كان كذلك، بل هذا أولى، لأنَّ التمكنَ مِن الاجتهادِ أقوى في سَبَبِ التسميةِ مِن كونهِ كان مِن أهلِ الاجتهادِ. وبَعْدُ، فهذا تعويلٌ على مجردِ العباراتِ، وما يَصِحُّ من الاشتقاقاتِ، وهذه الأمورُ ليست من أساليبِ الرجالِ في ميادينِ الحجاج، ومضايقِ الجدالِ، ولولا أَحْوَجَ السَّيِّد إليها، ما رَضِيتُ لقلمي أن يجريَ بِسَطْرِها، ولا لِفمي أن يتفوَّه بذكرِها. النظر الرابع: من قبيل المعارضة أيضاًً وذلك أنَّ الأمة أجمعت على جوازِ نسيان المجتهد لبعض ما حَفِظَهُ عن ظهر قلبه، فيلزم السَّيِّد أن لا يصحَّ هذا الإجماعُ، لئلا يقال فيما نسي العالمُ: إنَّه ضلَّ بعضُ علمه،
النظر الخامس من هذا القبيل أيضأ وهو أن الله تعالى شرع الكتابة في الدين والشهادة، وعلل ذلك بأنه أقوم للشهادة
وضاع، أو أَبَق إلى بعض النواحي والبقاع، ونحو ذلك من الأسجاع الثقيلة على الطباعِ، الكريهةِ في الأسماع. النظر الخامس: مِن هذا القبيل أيضاًً وهو أن الله -تعالى- شرع الكتابةَ في الدَّيْن والشهادة، وعَلَّلَ ذلك بأنَّه أقومُ للشهادة وأدنى ألا يَقَعَ الشَّكُّ والرِّيبَةُ، وكتابُ الله لا يَرِدُ بالعَبَثِ، ولا يأتيه الباطِلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، فلو صَحَّ التعلُّقُ بمثل ما ذكره السَّيِّد للزم أن لا يَرِدَ الشَّرْعُ بذلك، لأنَّه قد يضيعُ الكتابُ ويُسرق، أو يَعْطَبُ وُينهبُ، وَيَنْسَى الشهودُ الشهادَةَ ما لم يَرَوْا خُطُوطَهُم، فيكون سبباً لذكرهم على القول بأنَّ الشهادة على الخطِّ لا تَصِحُّ، أو تكون موجبةً للشهادة بنفس معرفتها على القول الآخر، وعلى كلا التقديرين كان يلزم نسخُ هذه الشريعة، ومحوُ هذه الآية، لئلا يُقَالَ: سُرِقَ علمُ الشهود، واغتصبت شهادتُهم. النظر السادس: أنَّ " السَّيِّد " قد حام على اختيار مذهب الأشعرية في أنَّه لا يشتق اسمُ الفاعل مِن شيء إلاَّ وذلك الشيء قائمٌ بالفاعل، وهذه المسألة معروفةٌ في الأصول، وفيها أنظار دقيقة، وتحتها إلزامات جليلة، ولستُ أُكْثِرُ بإيراد المعروف، ولا أتعرض لمجرد النقل إِلَّا فيما أخاف المنازعة في ثبوته، وأن أُعْزَى إلى الابتداع في القول به كما صنعتُ في نقل كلام الأئمة في الوِجَادَةِ، وكما سيأتي في نقل ألفاظهم في قبول المتأوِّلين، ونحو ذلك. فلهذا تركتُ نقلَ كلام الفريقين في هذه المسألة وما يلزم السَّيِّد من الإلزامات المنكرة إن كان قد اختارَ مذهبَ الأشاعرة، وما أَظُنُّ فِكْرَهُ في هذه المسألة قد بلغ إلى هذه الغاية، ولا تَغَلْغَلَ إلى هذا الشأوِ. فنقول: لا شك أنَّ اسم الفاعل اللغوي قد يُشْتَقُّ للفاعل لمناسبات
بعيدة، وتعلُّقات نائية، ولهذا يُسمَّى الرجل لابِناً وتامِراً: إذا كان ذا تَمْرٍ وَلَبَنٍ (¬1). قال الخُطيْئة: وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنـ ... ـكَ لَابِنٌ في الصَّيْفِ تَامِرْ (¬2) فلم يلزم أنَّ هذا الاشتقاقَ غيرُ صحيح، لأنَّه إذا سرق التمر، أو اغتُصِبَ اللبنُ، فقد سُرِقَ اسمُ الفاعل، واغتُصِبَ، وأُخِذَ الاشتقاقُ، ونُهِبَ، فلما لم يلزم ذلك في لغة العرب عندَ جميعِ أهلِ الأدب، فكذلك في مسألتنا يَصِحُّ أن يكونَ الرجلُ عالماً مجتهداً وعلى الحفظ والكتب معتمداً، إذ لا يُوجَدُ مَنْ يَعْتَمِدُ على أحدهما سرمداً، ولا مَنْ لا حظَّ له في أحدهما أبداً. ولا يلزم أن يُسرق علمه، ولا يَصِحُّ أن يغتصب اجتهادُه، وكذلك يُسمَّى زيدٌ مدنياً وعمرو يمنيّاً، ولا يلزمُ زيداً إذا خَرِبَتِ المدينةُ أن تَخْرَبَ تسميتُه، ولا يلزمُ عمراً إذا خُسِف باليمن أن تُخْسَفَ نسبته. ¬
النظر السابع وهو أول الجواب بطريق التحقيق وذلك الحبر البراق لا يسمى علما، ولا المجلدات والأوراق يسمى اجتهادا
النظر السابع: وهو أوَّلُ الجوابِ بطريق التحقيق دونَ مُجَرَّدِ المعارضة، وذلك أن نقول: ليس الحِبْرُ البرَّاق يُسمَّى علماً، ولا المجلداتُ والأوراق تُسمَّى اجتهاداً، وإنما العلمُ الذي في الصدور، لا الذي في المسطور، ومحلُّ الاجتهادِ في القلوب لا في الكاغَدِ المكتوب، فكيف يلزم أن يُقال -إذا سُرِقَتْ كُتُبُ العالِم-: إنَّه سُرِقَ عِلْمُهُ، واغتُصِبَ، ومُنِعَ منه، ونُهِبَ؟. ومتى صح أن علم المجتهد هو مجموع العفص (¬1) والزاج، والجلود والأوراق حتى إذا سُرِقَتْ، لزم أن يُسْرَقَ علمه، وإذا اغتُصِبَتْ، وَجَبَ أَن يُغْتَصَبَ اجتهادُه، فإن كان السيدُ ادَّعى أنه ما درى كيف يُقال، ولا عَرَفَ ما العبارةُ في تلك الحالِ، فهذا تعنُّتٌ شديدٌ، ونزوح عن الإنصاف إلى مكان بعيد. وأظرف السوقة يعرف أنَّه يقال: سُرِقَتْ كُتُبُه، واغتصبت منه ونُهِبَت. وهذه العبارة كافية في هذه الواقعة متى وقعت، ولم يَزَلِ الناسُ يعَبِّرُونَ بها، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً من أهل اللغة العربية ولا مَنْ قبلَهم، ولا مَنْ بعدهم مِن جميع الملل والنحل والمذاهب والفِرَقِ في قديم الزمان وحديثِه إذا ضاع لَهُ كِتَابٌ، قال: مَنْ وَجَدَ عِلمي، فإنه ضلَّ عنِّي، ولا إِذا اغتُصِبَ عليه كتاباً يقول: فلان اغْتَصَبَ اجتهادي، ولا انتهب فنّي. وكذلك مَنْ وجد كتاباً ضائعاً، وأراد التعريفَ به، فإنه يقول: مَنْ ضاعَ له كتاب ونحو ذلك مِن معروف الخطاب، ولا يقول: من ضاع له علم، ولا مَنْ سَقَطَ عليه اجتهاد. وهذه التعسُّفَاتُ في العبارات والأساليب المبتدعات لا تُفيد العلم لمن نظر فيها طالباً للهدى متثبتاً، ولا يأتي بخير ¬
النظر الثامن أن نقول: المجتهد هو المتمكن من معرفة الأحكام الشرعية
لمن تكلم بها لاهجاً بالمراء متعنتاً، وما أحْسَنَ قولَ أبي محمد علي بن أحمد الفارسيِّ (¬1): وخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الهُدَى ... وَشَرُّ الأُمُورِ المُحْدَثَاتُ البَدَائِعُ النظرُ الثَّامِنُ: أن نقولَ: المجتهدُ: هو المتمكِّنُ مِن معرفة الأحكام الشرعية بالبحث، والنَّظَرِ، ولم يقل أحد: إنه يجب أن يكونَ المجتهدُ عالماًً بأحكامِ الحوادثِ بحيثُ إذا سُئل عن المسألة، أجابَ السائِلَ في الوقت على الفور مِن غير نظرٍ، ولا طَلَبٍ، وهذا مشهور في كتب الأصول. ولما ذَكَرَ ابنُ الحاجب (¬2) في " مختصر منتهي السُّول ": أن الفقيه: هو العالمُ بالأحكام. أورد على هذا الحدِّ إشكالاً، وهو أنَّه لا يَطَّرِدُ لثبوت: لا أدري. وأجاب عنه: بأن المرادَ تَهَيُّؤُه لِلعلم بالجميع. والسَّيِّد -أيَّده الله- يَعْرِفُ هذا، ويُقرئهُ كُلَّ عامٍ في غالب الأحوال، وأنا مِمن قرأه عليه، فقرَّرَه ولم يُنْكِرْه. فإذا ثَبَتَ ذلك، فالعالمُ في حال سرقةِ كتبه باقٍ على أهلية الاجتهاد، لأنَّه متمكن منه بعدَ سرقتها بالبحث في كُتُبِ العلماء ومراجعتهم وسؤالهم عما لا يَعْرِفُه، كما سأل عليٌّ -عليه السلام- وأبو بكر وعمَرُ -رضي الله عنهما- والعالم في حال غَيْبَةِ كتبه عنه مِثْلُه في حال جهله بالمسألة، فإن السَّيِّد إنما استعظم أن يكونَ العالمُ جاهلاً بالمسألة في بعض الأحوال، وهذا أَمْر لازم لا بُدَّ للمجتهد ¬
منه. ولهذا نصَّ العلماءُ على أنَّه إذا أفتى في المسألة مرةً، ثم سُئِلَ عنها مرة ثانية، فلا يخلو إمَّا أن يكونَ ذاكراً لطريقة الاجتهاد، جاز له أن يُفتي بفتواه الأولى أو ناسياً لها، لم يجز له أن يُفتي حتَّى يُجدِّد النظر، فدلَّ على أنهم يُجيزون أن تَرِدَ المسألة عليه، وهو لا يدري ما حكمُها هذا في المسألة التي قد نظر فيها وأفتى، فكيف بالمسألة التي لم يَسْمَعْ بها قطُّ. وهذا مشهورٌ عندَ أهلِ العلم، وقد سُئِلَ ابنُ مسعودٍ عن مسألة، فما زال يَنْظُرُ فيها شهراً، ثم أجاب بعدَ شهرٍ كامل. وقد يموتُ العالِمُ وهو متوقِّفٌ في المسألة، فقد بيَّض السيدُ الإِمام أبو طالب -عليه السلامُ- بعضَ المسائل في " شرح التحرير "، وكثيرٌ من العلماء المصَّنفين يموتُ وهو مبيِّضٌ في تصنيفه لمسائل. فقد رأيتُُ السَّيِّد أبا طالب يتوقَّفُ في غيرِ مسألة في كتاب " المجزي " ويمضي على التوقف المحض. وهذا بناءً على القول المنصور في الأصول: إِن التوقف في الحكم هو حكمُ المجتهد عند تعادُلِ الأمارات، وبناءً على جواز تعادل الأمارات في حقه. فلو كان التشنيعُ لمجرد العبارات مبطلاً للأحكام، لَبَطَل كثير من شرائع الإسلام، فكانَ لَا يَصِحُّ توقفُ المجتهد في الحادثة عندَ سؤاله عنها، لأنَّا في تلك الحال لا ندري كيف يُقال: هل يقولُ المجتهدُ للسائل: أمهلني أياماً قلائِل، فإن اجتهادي لَمَّا سَمِعَ بسؤالِكَ، أَبَقَ وأبى، وامتلأ غضباً، وأمعن هرباً، أو يقول: إن علمي بالحادثةِ ضاع منِّي وضلَّ، وخرج من يَدَيَّ وزلَّ، فما أدري أين ضلَّ، ولا أعْرِفُ أين نزل. وهذا وأمثالُه إنما يليقُ ذكره في كتاب " سُلْوَانِ المُطَاعِ " (¬1) وكتاب ¬
" الصَّادِح والبَاغِم " (¬1) وكتاب " كليلة ودِمنة " وأمثاله. ومِن هذا القبيلِ قولُ الشَّافعية: ما أحذقَ دَلْوَ أبي حنيفة يَعْرِفُ النجس من الطاهر، قالوا ذلك تشنيعاً على أبي حنيفة، لمَّا قال أبو حنيفة: إنَّ ماءَ البِئْرِ المتنجس يَطْهُرُ بالنزح منه على حسب النجاسة في كثرتها وقلتها على ما هو مفصَّل في كتب الفروع (¬2). وكذلك لما قال الشافعيُّ في القُرعة (¬3) في كثير من المسائل، قالت الحنفيةُ: ما أَكْيَسَ قُرْعَةَ الشافعيِّ: تَعْرِفُ المُحِقَّ من المبطل. ¬
النظر التاسع: أن الاجتهاد وشرائطه من قواعد الإسلام
ومِن ذلك قولُ الأعمى (¬1) الذي قضى عليه عمر الدِّية حين سَقَط هو وقائدُه في حفرة، فوقع فوق قائده فقتله، وسَلِمَ، فلمَّا قَضَى عليه عمر بالدِّيةِ، جعل يطوفُ وهو يقول: يا أيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَاً ... هلْ يَعْقِلُ الأعْمى الصَّحِيح المُبْصِرَا خَرَّا مَعاً كِلاهُما تَكَسَّرا فهذه وأمثالُها لم يعتمدوها أدلةً على الأحكام، ولا يتوهَّمُ ذلك أحدٌ مِن أولي الأفهامِ، فإنما هي مُلَحٌ سَمَرِيَّة لا حُجَحٌ نَظَرِيَّة. فإن كان السَيِّدُ -أيَّدَه الله- إِنما أراد ما أرادُوا مِن الإحْمَاضِ (¬2) ولم يَقْصِدْ بذلِكَ الكلامِ النقضَ والاعتراضَ، فكان يجبُ عليه أن لا يُورِدَ ذلك إلا بعدَ إيراد الأدِلَّةِ السَّاطِعَة، أو البراهينِ القاطعة. النظرُ التاسِعُ: أن الاجتهادَ وشرائِطَه مِن قواعدِ الإسلامِ التي ينبني عليها عندَ الجماهيرِ صِحَّةُ الإمامةِ والقضاءِ والفُتيا، فينبغي التَّثَبُّتُ في الدليل على شروطها مِنْ نفيٍ وإثباتٍ، والسَّيِّدُ قد زاد في شروطِها شرطاً لم يَسْبِقْهُ غيرُه إليه واستدلَّ عليه بمجرَّدِ الشَّكِّ والتَّحيُّرِ في كيفية العبارة إذا سُرِقَتْ كُتُبُ العالم، أو غُصبت: هل يُقَالُ: سُرِقَ علمه، أو اغتُصِبَ، أو كيف يُقَالُ؟. فنقول للسيد: هذه حُجَّةٌ غريبةٌ ما عرفناها، فَبَيِّنْ لنا مِن أيِّ أنواعِ ¬
الحجج هي؟! فهي معروفةٌ محصورة، ومن أيِّ أجناسِ الأدِلّة؟! فهي مذكورة مشهورة، وهي: العقلُ والكتابُ والسُّنة والإجماعُ، والقياسُ، والاستدلال، فأخبرنا عن هذه الحجةِ المسجوعةِ أَمِنَ الحُجَجِ المعقولةِ أم مِنَ الحُجَجِ المسموعةِ؟ وإن كانت من المعقولات، فَبيِّن لنا كيفَ يأتي تركيبُها في البُرهان؟! وَزِنها لنا بذلك الميزان، وبيِّن لنا المحمولَ والموضوعَ (¬1) والمقدمتين الصغرى والكبرى، والحدَّين الأصغر والأكبر، ووسط البُرهان المُسمّى بالحد المتكرر، واجتماع شرائط الإنتاج من إيجاب الصغرى، وكُلية الكبرى، وجوازِ سلب الكبرى، ومنع جزئيتها (¬2). وإن كانت مِن الحُجَجِ السَّمعِيَّةِ، فَمِنَ المعلومِ أنها ليست مِنَ النصوصِ القرآنية، ولا من الأخبار النبوية، ولا مِن المسائل الإجماعية، ولا مِن المسَالِكِ الاستدلالية، ولم يبق إلا أن تكونَ مِن المسائل القياسية، فيجبُ مِن السَّيِّد -أيَّدَه اللهُ- أن يُبَيِّنَ لنا الأصلَ المقيسَ عليه، والعلةَ الجامعةَ بينَهما، ووجودَ العِلَّةِ في الفرع، وبيانَ الطريقِ إلى صِحة عِلِّيَّتها: هَلْ مِنْ قبيلِ المناسباتِ العقلية، أو النصوص الجلية، أو الإشارات الخفية إلى غير ذلك من ¬
النظر العاشر: سلمنا تسليم جدل أن هذه الحجة حجة صحيحة، لكن بقي لنا سؤال
شرائط القياس التي هي لِصحته أساسٌ، فحينئذٍ نتمكَّنُ من الجواب عليه، إما بمعارضته بقياسٍ مثلِ قياسِه، أو بمنعِ القياس بنصٍ أو ظاهرٍ، أو نُسَلّم له ما ذكره فليس بينَ المُكلَّفِ وبينَ الحقِّ عداوةٌ. وأمَّا حين أورد هذه الحجةَ مبرقعةَ الوجهِ، معفَّاةَ الرَّسْم، مُعَمَّاة النَّهْجِ، فإنه لا سبيل لنا إلى نقضِها، ولا طريقَ إلى حلِّها، وذلك لأن نقض الشيء إنما يَصِحُّ بعدَ بنائه، وهذه (¬1) أركانُها مهدومة (¬2)، وَحَلُّ الأمرِ لا يُمكن إلاَّ بَعْدَ عقدِه، وهذه أزرارُها محلولَةٌ. النظر العاشِرُ: سلَّمنا تسليمَ جدلٍ أنَّ هذه الحُجَّةَ حجَّةٌ صحيحة، ودِلالةٌ صريحة، لكن بقي لنا سؤالٌ لا أقلَّ لنا منه، وعليك جوابُه لا محيصَ لَكَ عنه، وذلك أنَّا نسألُك: هَلْ هذه المسألةُ مِن المسائل القَطْعِيَّةِ، أو مِنَ المسائِلِ الظنية؟. فإن قال: هِي من المسائل الظَّنِّيِّة فما الدَّاعي إلى التشنيع على من قال بها وهو مصيبٌ، وآخذ مِن الحق بنصيب، وما معنى التسميع بالذَّاهِبِ إلى ذلك بذكر السَّرِقَةِ والاغتصاب؟! وهُوَ من السالكينَ لِمناهج الصَّواب، وَهَلْ يأذَنُ اللهُ في أمرٍ، ويشرعُه للمسلمين، وُيرِيدُه منهم، ويُثيبُهم عليه، ثم يُجَوِّزُ لمسلم أن يُشَنِّعَ عَلَى مَنْ فعله، معظماً لشعائرِ شرائع الله، متحرياً لما أراد اللهُ، وُيورد جنسَ كلامِ المستهزئين بعبادِ الله المجتهدين في تَعَلُّمِ مرادِ الله، تنفيراً للعباد عما شَرَعَهُ اللهُ منه، وصدّاً لهم عما أذِنَ الله فيه، وأين هذا من كلام العلماء العاملينَ القاصدينَ لنصيحة المسلمين؟!. وإن كان السَّيِّد يقول: إنَّ المسألة قطعيَّةٌ، وإنَّ الحقَّ فيها مقصورٌ عليه، والصوابَ فيها لا يخرج عِن يديه، فيجب منه بيانُ الأدلةِ القاطعة مِن النصوص ¬
قوله: قال: وربما تريدون بالرجوع إلى كتبه في شيء يسير
المتواتر لفظُها، المعلومِ معناها، أو الإِجماع الضروريِّ اللفظيِّ المنقولِ بالتواتر عن لفظِ كُلِّ مجتهدٍ من أهل عصرٍ مِنْ علماءِ الإسلام، ومرحباً بالوِفاق. فأما إن السَّيِّدَ يدَّعي أنَّها قطعيَّة، ويحتجُّ بقول الشاعر، ثم بما رُوِيَ عن الشافعي، ثم بأنَّه ما درى كيفَ يقولُ إذا سُرِقَتِ الكُتُبُ، فما هذا ينبغي مِن مثله، ولا يليقُ بعلمه وفضله. قال: وربَّما يُرِيدُونَ بالرجوع إلى كتبه في شيء يسير كتصحيحِ لفظِ خبرٍ، أو إسنادٍ، أو نحوِ ذلك. أقول: ثم إنَّ السَّيِّدَ حام على دعوى الإجماع على ما اختاره، ولما يَقْطَعْ، فشرع يَتَرَجَّى لِمن خالفه القربَ من مخالفته، ويتأولُ لهم نصوصَهم القاطِعة بمخالفته. فنقول له: إن كانُوا نصُّوا على خلاف ما ذَهَبْتَ إليه، فما الموجبُ للتأويل؟ فإنَّ دعواك على العالِم أنَّه أرادَ غيرَ الظاهر مِن كلامه يحتاج إلى بيان، وإنما جاز تأويل كلام الله تعالى ورسوله -عليه السّلام- فيما يُعْلَمُ قطعاً أن ظاهِرَه قبيحٌ، لما دلَّ الدليلُ القاطِعُ على أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يُرِيدَ إلَّا المعنى الصحيحَ، وكذلك رسولُه - صلى الله عليه وسلم - ولو جاز مِثْلُ هذا، لأمكن كُلَّ أحد مثلُ هذه الدعوى لِموافقة العلماء له على مذهبه، وهذا ما لا يَعْجِزُ عنه أحد، ثم إنَّ السَّيِّد -أيّدَة الله- صدَّر التأويلَ لِكلامهم بـ " رُبَّما "، وغيرُ خافٍ عليه -أيَّدَهُ الله- أنَّ " رُبَّمَا " و" لعل " و" ليت " و" عسى " ونحوَهَا مِن ألفاظ التردد والترجِّي والتأهُّلِ والتمنّي لا يصلُح إيرادُها في المناظراتِ الجدلية، ولا يليقُ ذِكْرُها في المسائِل العلمية. قال: ومن تأمَّلَ كلامَ الغزاليِّ قبلَ هذا وبعدَه، وفي غيرِه مِن كتبه، علم
أقول: شرع السيد الأن في بيان الدليل الذي أوجب تأويل كلام الغزالي وتمسك في تأويله لكلامه بدعوى وحجتين، والكلام في ضعف هاتين الحجتين يظهر بذكر مباحث
أنه لا يَجْعَلُ ارتقاءَ مرتبةِ الاجتهاد سهلاً ومِن ها هنا قال: بجواز كونِ الإمام مقلداً، وصنف كتاباً للمستظهر (¬1) في ذلك، فلو كان عندَه سهلاً، لقال: يكفيه أن يَسْمَعَ مختصراً مختصراً في كُلِّ فنٍّ مِن علوم الاجتهاد (¬2) في أيَّامٍ يسيرة، ويرجع إلى أصلِه الذي قد صَحَّحَهُ. أقول: شَرَعَ السَّيِّدُ الآنَ في بيان الدليل الذي أوجب تأويلَ كلامِ الغزاليِّ، وقد تمسَّك في تأويله لكلامه بدعوى وحجتين. أما الدَّعوى، فادَّعَى على الخلقِ أجمعين أَنَّ مَنْ تأمّلَ كلامَه منهم، عَلِمَ قطعاً أنَّ الغزالِيَّ لا يجعل ارتقاءَ مرتبةِ الاجتهاد سهلاً، وهذه دعوى على الناسِ مجردةٌ عن الدليل، فإنه لا يدري لو نظروا في كلامِ الغزاليِّ هَلْ يفهمون كما فَهِمَ، أو يَرُدُّونَ عليه مَا فَهِمَ، فما الدليلُ على رفعِ هذا الاحتمالِ؟ ثم إنَّه قد كان قدم كلام الغزالي في تسهيل الاجتهادِ وهو صريحٌ في التسهيل لا يحتملُ التأويلَ، ثم ادَّعى عليه التعسيرَ للاجتهاد، وإن ذلك يظهر مِن كلامه ظهوراً يُفيدُ العلمَ والاعتقاد، وهذه دعوى للمناقضة على الغزالي، وليس يلزمُنا منها شيء، فنتعرَّضَ لردها، ولكنا نُنَبِّهُ السَّيِّد -أيَّدَه اللهُ- أنَّه لا يليقُ من الإنسان أن يَدَّعِيَ المناقضات على الأمواتِ، ولا يتعرَّضَ لِنسبة الأمورِ المستضعفاتِ إلى العِظَامِ الرُّفاتِ، فإنَّهم لو كانوا في الحياة، لذبُّوا عن أنفسهم ذبَّ الرجال، ¬
البحث الأول لو طرد السيد القياس في هذا التخريج لادعى على الأمة بأسرها ما ادعى على الغزالي من تعسير الاجتهاد
وحامَوْا عليها محاماةَ الأُسودِ على الأشبال، وقد أجاد في هذا المعنى مَنْ قال: نَقَمْتُ عَلَى المُبَرِّدِ ألْفَ بَيْتٍ ... كَذاكَ الحَيُّ يَغْلِبُ ألْفَ مَيْتِ فهذا الكلامُ في الدعوى التي تمسَّك بها. وأما الحُجَّتَانِ فإحداهما: أنَّه قال: يجوزُ أن يكونَ الإمامُ مُقَلِّداً، والأخرى: أنَّه صنف كتاباًً للمستظهرِ، والكلامُ في ضعف هَاتَيْن الحُجَّتَيْنِ يظهر بذكر مباحِثَ. البحث الأول: لو طَرَّدَ السَّيِّدُ القياسَ في هذا التحريج، لادَّعى على الأمَّةِ بأسرها ما ادَّعى على الغزالي مِن تعسيرِ الاجتهاد حين أجاز التقليدَ للإمامِ مع نَصَّه الصَّريحِ على تسهيل الاجتهاد، وذلك لأن الأمة قد أجازت التقليدَ للعوام، فلو صحَّ كلامُ السَّيِّد في حقِّ الغزالي، لصح أيضاًً أن يقولَ: لو كان الاجتهادُ سهلاً عند الأمة، لأوجبوه على كُلِّ مُكَلَّفٍ، ولقالوا: إنه يكفيه أن يَقْرَأ مختصراً مختصراً في كُلِّ فن إلى آخر استدلاله، فإنه يصح الاستدلالُ به في حقِّ الأمة مثل ما يَصِحُّ مثلُه في حقِّ الغزالي. البحث الثاني: هذا تجريحٌ مِن السَّيِّدِ للغزالي، والتجريحُ له شرائطُ معروفة، وهو ينقسِم إلى أقسامٍ محصورة، فيتأمل السَّيِّدُ كلامَه مِن أيِّ أقسامِ التجريح الصحيحة. البحث الثالث: سلَّمنا أنَّه تجريحٌ صحيحٌ، لكنه مخالِفٌ لنص الغزالي الصريحِ الذي حكاه السَّيِّدُ، ولا معنى للتجريح مع وجودِ النص، لأنَّه إن لم يعمل به، فلا معنى للاشتغال به، وإن عَمِلَ به، فإما أن يُقال: هو أرجحُ مِن النص، فهذا عنادٌ، أو يُقَال: النصُّ أرجَحُ، فالاشتغالُ بالمرجوح، وتركُ الراجح قبيح.
البحث الرابع: احتج السيد على أن الغزالي يعسر الاجتهاد
البحث الرابع: احتج السَّيِّدُ على أن الغزالي يُعَسِّرُ الاجتهادَ بتجويزه لتقليدِ الإمامِ، وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّه ليس بَيْنَ السُّهُولَةِ والوجوب على الإِمام رابطةٌ عقلية، ولا سمعية، فلو كان قد تقرَّرَ في العقل أو الشرع أنَّ كُلَّ سهل فإنه واجب على الإِمامِ، كان كلامُ السَّيِّد يتمشَّى على ذلك، وما المانعُ من أن يقول الغزاليُّ: الاجتهادُ سَهْلٌ، وليس بواجب على الإِمام، مثل ما قد نصَّ على الجمعِ بينهما حي السيدُ الإِمامُ شيبةُ العِترةِ داودُ بن يحيى (¬1) رحمه الله، والإِمامُ المؤيَّدُ بالله يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ، وحي القاضي العلامة عبدُ الله بنُ حسن الدواري رحمه الله، وغيرُهم من العلماء، فإنَّهم جمعوا بينَ تسهيلِ الاجتهاد، وتجويزِ التقليد للإمامِ الأعظم. وأما الحُجَّة الثانيةُ، وهو أنه صنف كتاباًً للمستظهر، فلم يَظْهَرْ لي أنَّ فيها حُجَّة، ولا شبهةً، فأتعرَّضَ لجوابها، فإنَّه لا مناسبة بينَ تصنيفِ الغزالي كتاباً للمستظهر، وبينَ تعسيرِ الاجتهاد ألبتة. قال: وقد قالَ الغزاليُّ: لم يكن في الصحابة مِن المجتهدين إلاَّ قليلٌ وهُمُ الخلفاءُ الأربعةُ، والعبادِلَة، وزيدُ بنُ ثابت، ومعاذُ بنُ جبل، ومَنْ عُرِفَ منهم الرجوعُ إليه مِن غيرِ نكيرٍ وأراد بالرجوعِ إليه في الفتيا، لا في الرواية. أقول: غَرَضُ السَّيِّد بهذا الكلام الاستدلالُ على تعسير الاجتهاد، لأنه إذا ثبت قِلَّةُ المجتهدين في الصحابة فما ذلك إلاَّ لصعوبته، فلنتنزَّل معه في الجواب في مراتب. المرتبة الأولى: المنازعة في قِلَّة المجتهدين، ولنا فيها طرق: ¬
الطريق الأولى: من أين للسيد ثبوت هذه الرواية عن الغزالي
الطريق الأولى: مِنْ أينَ للسَّيِّدِ ثبوتُ هذه الروايةِ عن الغزالي، وقد مَنع من تصحيحِ كتاب البخاري عن مصنِّفِهِ ونحوِه من كُتُبِ السُّنَّةِ مع اشتغالِ الخلق بسماعها، وإسنادِها إلى مصنفها في جميعِ أقطارِ الإِسلامِ. الطريقُ الثانية: سلمنا صِحَّتَها عنه، فكيف استندَ السَّيِّدُ إلى تصديقِه في كلامه، وأراد مِنَّا أن نُصَدِّقَه، وقد قال: إنَّه كافرٌ مصرح، وإن تصديقَه مِن الرُّكونِ إلى الظالمين، الموجبِ للخلود في النار. الطريق الثالثة: سلمنا أنَّه عَدْلٌ، ولكن مِن المعلوم أن الغزالي ما أدركهم، فهذا مرسل، والسَّيِّدُ قد مَنَعَ مِن المرسل وقال: لا بُدَّ في نسبةِ كُتبِ الحديث إلى أهلها مِن معرفةِ رجال الإسناد، وعدالتِهم، وعدالةِ المُعَدِّل لهم، فلا نقبلُ أيضاًً قولَ الغزالي على الصحابة إِلَّا بمثلِ ذلك. الطريق الرابعة: أن الغزالي تُوفِّي على رأس خمس المئة مِن الهجرة، ومَنْ بَيْنَه وبَيْنَ غيرِهِ خمسُ مئة سنة إلاَّ اليسير فَمِنَ المعلومِ أنَّه لا يُعْرَفُ حالُه بطريق الخِبرة، وإنما يُعرف حالُه بطريق النقلِ الصحيحة، إما عن الصحابي أنه أقرَّ أنَّه ليس بمُجتهدٍ، وإما عَنْ عالمٍ مجتهد اختبر الصحابيَّ، فلم يجده مجتهداً، ولا طريقَ صحيحة إلى المعرفة بعدم اجتهاد الصحابي سوى هاتين، لكن الظاهر أنهما مفقودتانِ، فَبَطَلَتْ دعوى الغزالي. الطريقُ الخامسة: أنا نُعارِضُ كلامَ الغزالي بما رواه مَنْ هُوَ أَرْجَحُ منه في ذلك، وهو الحافظُ الكبيرُ أبو محمد عليُّ بنُ أحمد الفارسي (¬1)، فإنه ذكر أن الفُتْيَا نُقِلَتْ عن مئة واثنين وأربعينَ رجلاً من الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم، وعن ¬
الطريق السادسة: أن نقول ليس قلة من فيهم من المجتهدين، يدل على صعوبة الاجتهاد
عشرينَ امرأة منهم. وكذلك الشيخ أحمدُ بن محمد بن الحسن الرَّصاص، فإنه ذكر في كتاب " الشجرة " في الفقه قريباً من ذلك من المجتهدين، وعدَّهم بأعيانهم، وهذه الرواية أولى من رواية الغزالي لوجوه. الوجه الأول: أنها مُثْبِتَةٌ، وروايةُ الغزالي نافية. الثاني: أن هذا الحافظ مِن أهل المعرفة بالحديث والدِّرية بكتُب الرِّجال، والعنايةِ التامةِ بمعرفة أحوالِ الصَّحَابة، وعلمِ التاريخ، والغزاليُّ بالعكس في ذلك، وهذا الوَجْهُ مجمعٌ على الترجيحِ به، ومن أراد معرفةَ ذلك، طالع تراجمَهُما في كتب معرفةِ الرجال. الثالث: أنَّ تصديقَ الغزالي في ذلك يُؤدي إلى جرحِ عددٍ كبيرٍ من الصحابة، وأنهم أَفْتَوْا بغيرِ علم، وهذه معصية ظاهرة، ونحن نَعْلَم أنَّه لا طريقَ للغزالي إِلى القطع بأن ذلك الصحابي المُقْدِمَ على الفتوى أفتى بمحضِ الجهلِ، لأنه يجوزُ أن يكونَ مجتهداً، ولم يشتهِرْ اجتهادُه إذ لا يَجِبُ عليه أن يظْهِرَ إجتهادَه، وفي الصحابة مَنْ هو أعلمُ منه، ولا يجب على غيره أن يتعرَّف اجتهادَه أيضاًً، وفي الصحابة من يُغني عنه، فجاز أن يكون مجتهداً غيرَ معلوم باجتهاده، أقصى ما في الباب أن يكونَ مجتهداً في تلك المسألة، وقد أمرنا بالحمل على السَّلامَةِ لجميع المسلمين، فَكَيْفَ بخير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ بنصِّ القرآن، وَخَيْرِ القُرُونِ بنصِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ الطريق السادسة: أن نقولَ ليس قِلَّة مَنْ فيهم من المجتهدين على تقديرِ تسليم ذلك يَدُلُّ على صعوبة الاجتهاد فقد كان حُفَّاظُ القرآن فيهم أقلَّ مِن المجتهدين، فَرُوِيَ أنه لم يكن يَحْفَظُ القرآنَ إلاَّ أربعةٌ منهم قاله بعضُ
الطريق السابعة: أن اجتهاد أولئك الذين ذكرهم السيد يدل على سهولة الاجتهاد
الصحابة (¬1)، وربما زادوا على ذلك، لكن بيسيرٍ، وذلك لِشُغلِهِم بالجهاد، وطلبِ القُوت، فقد كانُوا في شِدَّةٍ عظيمةٍ لا يعرِفُها إلَّا مَنْ طالع كُتُبَ معرفةِ الصحابة، ولأنه لم يشتهر في زمانهم الانقطاعُ لِطلب العلم على عادة المتأخرين. الطريق السابعة: أن اجتهادَ أولئك الذينَ ذكرهم السَّيِّدُ يَدُلُّ على سُهولَةِ الاجتهاد، لأن الظاهِرَ من أحوالهم أنَّهم ما اشتغلوا بالعلم مِثْلَ اشتغال المتأخرين، ولا قريباً منه، وكان الواحدُ منهم يَحْفَظُ مِنَ السُّنة ما اتفق أنَّه سَمِعَه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن غيرِ درس لِما سَمِعَهُ، ولا تعليقٍ ولا مبالغةٍ في طلب النصوص مِن سائر أصحابه، وإنما كانوا يبحثون عندَ حدوثِ الحادثة عن الأدلة، فهذا أبو بكرٍ ما درى كَمْ نَصِيبُ الجَدَّةِ من الميراث، وأدنى طلبةِ العلمِ في زماننا لا يخفي عليه أنَّ لَهَا السُّدُسَ حتى قامَ فيهم وسألهم (¬2) ولو أن رجلاً ممن يَدَّعي الاجتهادَ في زماننا ما عَرَفَ نصيبَ الجدة، لكثَّر عليه أهلُ التعسير للاجتهاد، وعَظَّمُوا هذا عليه. وكذلك عُمَر ما كان يَعْرِفُ النصوصَ في دِيَةِ الأصابع، وتوريثِ المرأه من دِية زوجها (¬3). ¬
وكذلك ابنُ عباس قال: لا ربا إِلاُّ في النَّسيئة حتى بلغه النص، وكذلك ما عَرَفَ أن المُتْعَةَ منسوخةٌ (¬1). وذكر الزمخشري (¬2) في تفسيرِ قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن الأب، فقال: أيُّ سماءٍ تُظِلُّني، وأيُّ أَرْضٍ تُقِلُّني إذا قلتُ في كتابِ الله ما لا أعلمُ به (¬3)؟ وعن عُمَرَ رضي الله عنه أنَّه قرأ هذه الآية فقال: كُلُّ هذا قد عَرفْنَا فما الأبُّ؟ ثُمَّ رَفضَ عصاً كانَتْ بِيَدِه، وقال: هذا لَعَمْرُ اللهِ التكلفُ، وما عليك يا ابن أُمِّ عُمَرَ أن لا تدري ما الأبُّ، ثم قال: اتَّبِعُوا ما تَبَيَّنَ لَكُم مِنْ هذا الكتَابِ، وَمَا لا فدَعُوهُ (¬4). قال الزمخشريُّ رحمه الله: فإن قلتَ: فهذا يُشْبهُ النهيَ عن تتبعِ معاني القرآن، والبحث عن مشكلاته. ¬
قلتُ: لم يذهبْ إلى ذلكَ، ولكنَّ القومَ كان أكثرُ هِمَمِهِم (¬1) عاكفة على العملِ، وكان التشاغلُ بشيءٍ من العلم لا يُعمَلُ به تكلفاً (¬2) عندهم، لأنَّ الآية مسوقةٌ في الامتنان على الإنسان بمطعمِهِ، واستدعاءِ شكره، وقد عُلِمَ مِن فحوى الآية أن " الأبَّ " بعضُ ما أنبتَه الله للإنسانِ متاعاً له ولأنعامه، فعليكَ بما هُوَ أهَمُّ مِن النهوضِ بالشُّكرِ لله تعالى على ما يتبين لك، ولم يُشْكِلْ مما عدَّدَ مِنْ نِعَمِه، ولا تتشاغَلْ عنه بطلبِ معنى " الأبِّ " ومعرفةِ النبات الخاص الذي هو اسمٌ له، وَاكْتَفِ بالمعرفة بجملته إلى أن يتبيَّنَ لكَ في غير هذا الوقت، ثم وصَّى الناسَ بأن يُجْرُوا على هذا السَّنَنِ في ما اشتبه ذلِكَ مِن مشكلاتِ القرآن. انتهي كلام العلامة رحمه الله. وفيه شهادة لما ذكرتُ مِن مفارقتهم لما عليه الناسُ في هذا الزمانِ من رسوم القُرَّاءِ، وَعَوَائِدِ العلماء، وعدمِ الحِرْصِ على حفظ كثيرٍ من العلم قَبْلَ مسيسِ الحاجةِ إلى معرفته، والاكتفاء بالقليل فيما يُحتاجُ إليه، وهذا معاذُ بنُ جبل اجتهد في أوَّلِ الإِسلامِ قبل أن يشتهِرَ عنه أنَّه تعرَّض لجمعِ أحاديثِ الأحكام، ومن المعلوم أن معاذاً لم يكن يَحْفَظُ في تلك المُدَّةِ من أحاديث الأحكام مثلَ ما في كتابٍ من هذه الكُتُبِ التي يَشْتَمِلُ الواحدُ منها على أزيدَ من عشرة آلاف حديثٍ، فقد عاش معاذُ بعدَ أن أَذِنَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الاجتهاد والقضاء زماناً في حياة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعدَ وفاتِه وهو في خلال ذلك يَحْكُمُ ويُفتي ويروي، فقد كان أفقهَ الصحابة بالنصِّ النبوي (¬3)، ومع ذلك فلم تزد مروياتُه على مئة وسبعة وخمسين حديثاًً (¬4). ¬
قوله: فإن قلت لم يكونوا يفتون قومهم، إنما كانوا يروون إليهم
ولم يَكنِ اجتهادُهم في ذلِكَ العصرِ إِلا بملازمة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقط، مع سماعِ جُمْلَةٍ من حديثِه ومعاينةِ كثيرٍ من أفعالِهِ، وإن لم تَطُلْ تلك الملازمة طُولاً كثيراً، ولهذا قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وهذا النفيرُ الذي نَدَب اللهُ إليه في هذه الآيةِ هو النفيرُ للجهاد (¬1)، فجعلَ المجاهدينَ فقهاءَ في الدِّين، وسمَّى الجهادَ تفقهاً لِمَا يَصْحَبُهُ مِن رؤيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كيف يُصلي، وبما يأمُرُ المجاهدين مِنْ أحكامِ الجهاد، ففي مدة إقامتهم معه في الغزوات سمَّاهم متفقهين، وأباحَ لهم أن يُفتوا قومَهم بما رأوا من أفعالِه عليه السلام، وبما سَمِعُوا من أقواله، ولكِنَّهم لا يكونون مُجتهدين فيما لم يَرَوْا ولم يَسْمَعُوا، وهذا اجتهادٌ خاص، وهو أحدُ الأدلة على تجزُّؤ الاجتهاد (¬2). فإن قلت: لم يكونوا يُفتون قومَهم إذا رجعوا إليهم، إنما كانوا يَرْوونَ لهم. ¬
قلت: هذا أكلثر ترخيصا، لأن فيه جواز الاجتهاد لقومهم
قلتُ: وهذا أكثرُ ترخيصاً، لأنَّ فيه جوازَ الاجتهادِ لقومهم، مع أنهم أقلُّ عِلماً منهم، وذلك لأن العملَ بالحديث المسموع مِن الراوي عن النبي عليه السلام هو شأنُ المجتهد. فإن قلتَ: إن سببَ سهولةِ الاجتهاد في عصر الصحابة أنهم كانوا يفهمونَ كلامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونحن لا نعرِفُ معناه إِلَّا بقراءة العربية، وفي مجموعها صعوبةٌ كلية. قلت: هذا يندفِعُ بوجهين: أحدهما: أنا لم نقل: إن الاجتهاد في زماننا في السُّهولة مثلُ ما كان في زمانهم، بل نحن نُسَلِّمُ أنَّه كان أسهلَ عليهم، لكن لما احتججتَ على تعسُّره بهم، بَيَّنَّا لك أنَّه لم يكن عسيراً عليهم حتى يَصْلحَ عُسْرُه عليهم حُجَّةً على تعسُّره علينا، وبيَّنا أنَّه كان سهلاً عليهم، ولا يخفي عليك أن سهولتَه عليهم لا تصلُح حجةً على عُسره علينا، ولا على المساواة في السُّهولة بيننا وبينَهم مِن غير فَرْقٍ. وثانيهما: أنا نبَيِّنُ أن افتراقَنا في معرفة العربية ليس يقتضي تعسيرَ الاجتهاد على الإِطلاق لوجهين: أحدُهما: أن أكثر آيات الأحكام، وأحاديثه لا تحتاج إلى قراءة العربية في فهم معناها، والدليل على ذلك حُجتانِ: الحجة الأولى: أنها لو احتاجت إلى ذلك، لوجب أن تكونَ العلة أن كلامَ الله وكلامَ رسوله عربيان، لكن معنى العربي هو ما ليس فيه لَحْنٌ ولا تصحيفٌ. إذا تقرر هذا فتصانيفُ علماء العربية والفقه والحديث والتفسير، وكتب الفضائل، وكتب السِّير وسائر الفنون عربية، لأن العلماءَ المصنفين لها
الحجة الثانية: على أنه لا يقتضي الافتراق في العربية تعسير الاجتهاد
كانوا من أهل العربية، وصنفوا على قانون لسانِ العريب، وقد علمنا أن من قرأ في الفقه، عَلِمَ مُرادَ الأئمة في التحليل والتحريم، والصلاة والبيوع وسائر علم الفروع، وإن لم يكن يَعْرِفُ العربيةَ إلاَّ النادر القليل بما يتعلق بالدقيق مِن علم العربية مثل بعضِ مسائل الطلاق، وذكر المصادر، وتعليقِ الشرط على الشرط ونحو ذلك، وهذه النوادرُ مَنْ بَحَثَ عنها، وتعلمها من علماء العربية، وفهَّموه إيَّاها فَهِمَها، وإن لم يعلم بقيَّةَ عِلْمِ العربية، إن كان من أهل الذكاء، وإن لم يكن من أهل الذكاء، فلن ينفعه، وإن قرأ العربية بأسرها. وكذلك الكلامُ فيما يتعلق بالتحليل والتحريم من الكتاب والسنة أكثرُه جليٌّ إلاَّ النادِرَ، ولأجل ذلك النادر اشْتُرِطَ تَعَلُّمُ العربيةِ على المجتهد في العلم على الإطلاق دونَ المجتهد في بعض المسائل، ويؤيد ما ذكرتُه لك أن العامَيَّ إذا استفتى العالمَ، وأفتاه العالمُ بكلام مُعْرَبٍ غيرِ ملحونٍ، جاز لِلعَامِّي أن يعمل بما فهِمَ مِن كلام العالم، وإن لم يعلم العربيةَ، وكذا في مسألتنا. الحجة الثانية: على أنَّه لا يقتضي الافتراقُ في العربية تعسيرَ الاجتهاد على الإطلاق أنا نظرنا إلى الأحاديثِ التي عَمِلَتْ بها الصحابةُ في الأحكام، فعلمنا معنى أكثرهَا مِن غير عربية، ونظرنا إلى ما فَهِمْنَا منها: هل يُخالِفُ ما فهموه؟ فلم نجده يُخالِفُه، ألا ترى أنا نفهم من قول المغيرةِ، ومحمدِ بنِ مسلمة أن الرسول عليه السلام فرض للجَدَّةِ السدس (¬1) مثل ما فَهِمَ أبو بكر من هذا حينَ أخبراه به، وأمثال هذا ما لا يُحصى كثرة. فإذا عرفتَ هذا فنقول: المجتهد إما أن يكونَ مجتهداً على الإطلاق، فهذا يجبُ أن يعرِفَ العربيةَ، وإما أن يكون مجتهداً في مسألة معيَّنة، فتلك ¬
المسألةُ تختلِفُ، فإن كانت تلك المسألة واضحةً جليةً لا تحتاج إلى عربية، جاز له ذلك، وإن كان مما يتعلق بالعربية، لم يجز. فإنْ قلتَ: إنَّه يُمكن أن يخطىءَ مَن فعل ذلك، فيتوهم أن الكلامَ جليٌّ المعنى، وليس كذلك. قلتُ: هذا من أهل التمييز والدِّرية في العلم نادر، والاحتراز من الخطأ النادر لا يجبُ، والتبحُّر في العلم لا يَعْصِمُ منه، وقد خطؤوا الزمخشريَ رضيَ الله عنه في بعض المسائل النحوية كما تقدَّم في جواب الأصل الرابع، وفي بعضِ المسائل اللغوية مما ذكره في " الكشاف " كما ذكروه في تخطئته قي تفسير (¬1) قوله: {بَاخعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] مع أنَّه في هذين الفنين ممن لا يشَقُّ له غبارٌ، ولا يُقاس به الأئمة الكبار، ولم يزل علماءُ العربية يُخطِّىءُ بعضُهم بعضاً، بل قد يَغْلَطُ العربي في عربيته، وفي " الكشاف " (¬2) وفي سائر الصحاح أن عدي بن حاتم الصحابي، وهو عربيٌّ محض غَلِطَ في معنى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فظن أنَّه على ظاهره (¬3). وقد اختلف الصحابةُ في الأخوين هل يسميان إخوة (¬4)، وفي غير ذلك ¬
مِن معاني كتاب الله تعالى. فإن قلتَ: فكم القدرُ الواجبُ مِن العربية، وهل هو متعسِّرٌ أو متعذِّر؟. قلتُ: ذلك لا يتقدَّرُ بمقدار، ولا يستمِرُّ الحالُ فيه لاختلاف الفِطَنِ، وتفاوتِ الأفهامِ، وفي الناس مَنْ يكفيه القليلُ، وفيهم مَنْ لا يكفيه الكثيرُ، ولا بُدَّ مِن القراءة في الفنِّ حتى يتمكن من معرفة مسائل الفن جَلِيِّها ودقيقِها غالباً، وإنما قلت: يتمكن لما قدمنا ذكرَه من أنه لا يجبُ حفظُ سائر الفنون غيباً وكذلك حفظُ العربية، وإنما الواجبُ أن يقرأ فيها حتى تكونَ له ملَكةٌ ثابتةٌ يَصْلُحُ معها لمطالعةِ الكُتُبِ البسيطةِ، وفهم عبارات النحاة، والخوض مع المحققين في لطائف المعارف عند الحاجة إلى ذلك، وقد تقدَّم الدليلُ على عدمِ وجوبِ الحفظ على المجتهد، وأن الواجبَ أن يكون متهيئاً للمعرفة، متمكناً منها، لا حاصلاً عليها في الحالِ، ولا حاجةَ إلى إعادةِ ذلك. وإنما قلت: غالباً لما يعرِفُهُ النقادُ من أن التحقيق لا يَعْصِمُ المحقق من التعثُّرِ في بعض الدقائق، والتحيُّرِ في بعض المضايق، وأما سهولةُ ذلك وصعوبتُه، فتختلِفُ على حسب اختلاف الهِمَمِ والأفهام كما ذلك مُجربٌ معلوم. ¬
قال السيد: وأبو هريرة لم يكن مجتهدا، وإنما كان من الرواة
وقد اجتهد الإمام المنصور بالله عليه السلام في مدة قريبة لا يحقق كثيرٌ في مثلها فناً واحداً. فأما مرتبةُ الإمامة في علم العربية والتبريزُ على الأقران، فذلك لا يجب وإن كان من أشرفِ المراتب، وأرفع المناصب، فإن المجتهدين من علماء هذه الأمة من الأئمة عليهم السَّلامُ، ومن سائر فقهاء الأئمة الأربعة لم يشتهروا بالإمامة في العربية، ولا نُقلَتْ اختياراتُهم واختلافاتُهم فيها، كما نقِلَتْ أقوالُ النحاة، ولو اشتغلوا بالإقراء فيها، والنظر في حقائقها، والفحص عن دقائقها، لوجب أن يُنقل ذلك عنهم مثل ما نُقِلَ عنهم اشتغالُهم بعلم الفقه والأثر. واعلم أن الاشتغال بالتحقيق الكثير لجميع ما يتعلق بالفن مما يحتاج إليه، ومما لا يُحتاج إليه، والتعرُّضُ لحفظه عن ظهر القلب مما يستغرِقُ العمر، لهذا فإن أئمة العربية مثل الخليل وسيبويه وغيرهما لم ينقل عنهم الكلامُ إلا في فنِّهم غالباً، وكذلك سائرُ المبالغين في سائر الفنون مِن شيوخ الكلام، وحُفَّاظ الأثار، والكلام في هذه النكتة يَحْتَمِلُ البسط، وفي هذا كفاية على قدر هذا الجواب. قال: وأبو هريرة: لم يكن مجتهداً، وإنما كان من الرواة. أقول: الجوابُ على ما ذكره من تجهيل هذا الصاحب الجليل من وجوه: الوجه الأول: أنَّا قد بيَّنا أنه لا طريقة لنا إلى العلم بجهل الصحابي إلاَّ إقراره بذلك، أو أن يختبره مجتهد، فيجده قاصراً، ويُخبر بقصوره، وكُلُّ من هذين الطريقين غيرُ حاصل، ولا مانع في العقل، ولا في السمع من أن يكون
الوجه الثاني: أن الظاهر خلاف ما ذكر
مجتهداً، ولا يشتهر اجتهادُه إمَّا لخموله واعتمادِ الناسِ على أشهر منه، وعدمِ حاجتهم إليه، وإما لرغبته في الخمول وكراهته للفتيا. الوجه الثاني: أن الظاهرَ خلاف ما ذكر، لأن شرائطَ الاجتهاد كانت مجتمعة في أبي هريرة رضي الله عنه، وقد كان أحفظَ الصحابة على الإطلاق، وأكثَرَهم حديثاًً (¬1)، وقد ذكر البخاريُّ وغيره أن الرُّواةَ عن أبي هريرة كانوا ثمان مئةِ رجلٍ، وقد ذكرهم علماء الرجال، وذكر المزي في " تهذيبه " (¬2) منهم مَنْ روى عنه في الكتب الستة: الصحيحين، والسنن الأربع، فذكر خلقاً كثيراً، وقد بيَّنا أنَّه لم يكن شرطُ الاجتهاد في زمن الصحابة إلاَّ معرفةَ النصوص، لأن المرجع بالعربية، وأصولِ الفقه إلى لسانهم التي فطروا عليها فما الفرق بينَه وبينَ معاذ، وأبي موسى الأشعري، فقد ولاهُما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القضاءَ في اليمن (¬3)، وقد روى مالك في " الموطأ " (¬4) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال لإِنسان: إنَّك في زمان كثيرٍ فقهاؤه قليل قُرَّاؤُه، تُحفَظُ فيه حدودُ القرآن، وتُضيَّعُ حروفُه، قليل مَنْ يسألُ، كثير من يُعطِي، يُطيلُونَ فيه الصلاةَ، ويَقْصُرونَ فيه الخطبة، يُبْدُونَ أعمالَهم قبلَ أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه، كثير قراؤه ... وساق نقيضَ ما تقدم. فدل على ما ذكرته لك، بل على أكثر منه، فإن كثرةَ الفقهاء مع قِلَّةِ القُرَّاء تستلزم بالضرورة فِقه مَنْ لم يقرأ مِن أهل ذلك الزمان لتوفُّر حظِّهم مِن الفهم للمعاني، وسلامةِ فِطَرِههم الصحيحة من تعبيرات المبتدعة، ووضع القوانين الفاسدة. فإذا فَقُهَ مَنْ لم يقرأ منهم فما ظنُّك بأبي هُريرة جليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملازم له؟! وما ¬
الوجه الثالث: أنه ممن نقلت عنه الفتيا من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -
أَمنك أنَّك من قراء آخر الزمان الذين لا فِقْهَ لهم، وأنَّك لِهذه العِلَّةِ نسبت أبا هُريرة الفقيهَ إلى صِفَتِك لِقُصورك أنتَ لا هُوَ. الوجه الثالث: أنه ممن نُقِلَتْ عنه الفتيا من الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه الحافظ أبو محمد أحمد بن علي الفارسي، والشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرّصاص، وذلك يُفيدُ أنَّه مجتهد، لأن مَنْ أفتى من أهل العدالة، وادَّعى الاجتهادَ، وذلك مُجوّز فيه غيرُ مقطوع ببطلانه، قُبِلَتْ فتواه بلا خلافٍ يُعْلَمُ في ذلك، واختلف العلماءُ في قبول الفتيا ممن لم يُعرف بالعدالة ذكره المنصور بالله عليه السلام، بل ذكر الذهبي في " طبقات القراء " بسنده أن ابن عباس، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد، وجابراً وَغيرهم كانوا يُفتون في المدينة، وُيحدِّثون منذ توفي عثمانُ إلى أن تفرقوا، وإلى هؤلاء الخمسة صارت الفتوى انتهى. وهذه حجة واضحة على اجتهاده لتقريرِ أهل ذلك العصر له على الفتوى وهم مِن خيرِ القُرون أو خيرُها بالنص ذكره في ترجمة أبي هريرة (¬1). الوجه الرابع: معارضة الغزالي بقول من هو أرجحُ منه في ذلك، وهو الحافظُ المؤرخ الذَّهبي، فإنه قال في وصف أبي هريرة: الفقيه المجتهد بهذا اللفظ. فنصَّ على اجتهاده وفقهه ذكره في " النبلاء " (¬2). ¬
وذكر في " الميزان " في ترجمة إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي (¬1) أنهم قَدَحُوا عليه بكونِه قال: إن أبا هريرة ليس بمجتهدٍ (¬2)، فَجَعلَ العلماءُ هذا قدحاً وعيباً في مَنْ قاله. وإنما كان أرجحَ لوجوه: منها أنَّه مثبت والغزالي نافٍ. ومنها أنَّه أعرفُ بعلمِ الرِّجال، وأكثرُ تصرفاً في هذه المحال. ومنها أنَّه في ترجيح كلامه حملاً لأبي هريرة رضي الله عنه على السلامة، لأن خلاف ذلك يُؤدِّي إلى القول بأنه أفتى بغير علم، وتأهَّل لما ليسَ مِن أهله، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في العقوبة. وقال الحافظ ابن حجر في " التلخيص ": روى ابنُ أبي شيبة من طريق الأعمش عن المسيَّب بن رافع، عن ابن عباس أنَّه أرسل إلى أبي هُريرة، وعائشةَ وغيرِهما، يعني يستفتيهم في قصة مداواته لعينيه، فلم يُرخِّصُوا له فترك ذلك. ¬
الوجه الخامس: أن كلام السيد إنما هو في تعسير الاجتهاد ويلتحق بهذا فائدتان
قال ابنُ حجر: وفي هذا إنكارٌ على النواوي في إنكاره على الغزالي ذكر أبي هريرة في هذا. قلتُ: فيه أنَّ أبا هريرة مجتهد عندَ ابن عباس، وذكر هذه القصة ابنُ حجر في موضع آخر، ونسب ذكر أبي هُريرة فيها إلى ابن المنذر. الوجه الخامس: أن كلامَ السَّيِّد إنما هو في تعسيرِ الاجتهاد، فلو صحّ ما لا طريق إليه من تجهيل هذا الصاحبِ رضي الله عنه لم يلزم من ذلك القولُ بتعسير الاجتهاد، فإنَّه يمكن قطعاً أن يكون الاجتهادُ سهلاً، ويكون أبو هريرة غيرَ مجتهد، لأنَّه ليس في العقل، ولا في الشرع رابطةٌ قطعية بينَ سهولةِ الاجتِهاد، وأبي هُريرة رضي الله عنه. ويلتحِق بهذا فائدتان: الفائدة الأولى: أن أبا هُريرة رضي الله عنه ثقة مقبول لا مطعنَ في قبول روايته عندَ أهلِ التحقيق، وقد أشار الإمامُ المنصورُ بالله عليه السلام إلى ذلك، وقد كان عابداً صوَّاماً قوَّاماً قانتاً لله، خاشعاً متواضعاً، حسنَ الأخلاق، رفيقاً، كان لا ينامُ حتى يُسَبِّحَ ألف تسبيحة، وكان يقوم ثُلُثَ الليل، ثم كان يقوم ثلثيه، ثم كان يقومُ اللَّيْلَ كُلَّه، وكان أميراً في المدينة، وكان في أيام إمارته يحمل الحطب على ظهره، ويمضي في السوق، ويقول: الطريقَ مِن الأمير، الطريقَ من الأمير، وكان ممن يسقط مغشياً عليه مِن خوفِ الله جلَّ جلالُه، وكان مِن نبلاء المهاجرين، ومِن الصابرين على الشِّدَّةِ مع سيِّد المرسلين، كان رضي الله عنه يُصْرَعُ بَيْنَ الروضة والمنبرِ من الجوع، وربما يُظن أنه مجنون، فيأتي الرجل، فيجلس على صدره، فيُشيرُ إليه: ليس هو ما تظن إنما هو الجوعُ، ومع ذلك لم يتضجَّرْ من الإسلام، ولا تكلم في أحد من أهل الغِنَى من الصحابة رضي اللهُ عنهم، كما هو عادةُ كثيرٍ من الفقهاء
المتساهلين، وقد اشتد فرَحُهُ بالإِسلام، ولما رأى الوجهَ الكريم النبوي عليه السلام، عَظُمَت مسرَّتُهُ بذلك، فأعتق عبداً له لم يكن يملِكُ سِواه. وقد روى الذهبيُّ أن رجلين اختلفا في مسألة، فاحتج أحدُهما بحديثِ أبي هُريرة، فقال الآخر ما معناه: إنَّه لا يحتج بحديث أبي هريرة، فخرجت عليه حيَّةٌ عظيمة، فهرب منها، وهي تتبعُه فقالت له الجماعة: اسْتَغْفِر اللهَ وتُب إليه، فاستغفر الله من كلامه في أبي هريرة، فانْصَرَفَتْ عنه. إسنادها أئمة (¬1)، وهذا معنى لفظِه، ولم يَحْضُرْنِي كتابُه، فأنقلَ لفظه إلى ذلك. قال الذهبي: وقد اعتمدَتِ الصحابةُ على حديث أبي هُريرة في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها (¬2). قلتُ: من أراد معرفة هذا الصاحب فلُيطالع سيرته في كتاب " النبلاءِ " (¬3) وغيره من كتب الصحابة التي قدمت ذكرَها، وإنما ذكرتُ هذه النكتة، لأنَّه قد ذكر في ذلك خلافٌ لا يلتفت إليه، ولا يُعَوَّلُ عليه. فإن قيل: قد اتُّهِم أبو هريرة بكثرة الرواية حتى قال له عمر: لئن لم تُقْلِلْ مِن الرِّوايةِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لألْحِقَنَّك بجبالِ دوسٍ. قلنا: هذا لا يصح (¬4)، ولو صح لم يكن فيه حُجَّةٌ على جرح أبي ¬
هريرة، لأنُّه سوء ظن مستندُه إكثارُ أبي هريرة مِن الرواية، والإكثارُ دليلُ الحفظ لا دليلُ الكذب، وقد قال أبو هريرة: وما ذنبي إن حفظتُ ونَسُوا (¬1). وقد طوَّل الحاكم في " المستدرك " (¬2) في الردِّ على من ضعف حديث أبي هريرة، وجوَّدَ الذهبي في " النبلاء " ترجمته رضي الله عنه، وخرج الحاكم في " المستدرك "، ومسلم في " صحيحه " (¬3) دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة وأمه حين أسلمت أن يُحبِّبَهما الله تعالى إلى المؤمنين، ويحبب المؤمنين إليهما. فما على وجه الأرض مؤمن إلاَّ وهو يُحِبُّ أبا هريرة. ذكره الحاكم في معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآيات نبوته، ومسلمٌ في الفضائل، فأرجو أن يكونَ حُبِّي له، وللذَّب عنه من ذلك إن شاء الله تعالى. وقد كانت لإكثار أبي هريرة مِن الرواية أسبابٌ واضحة قد أجاب بها على من اعترضه في إكثاره. ¬
أحدها: أنَّه كان فقيراً لا مالَ له، ولا أهلَ، وكان يُلازِم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدوام، ولا يَشْغلُه عنه شاغِلٌ مِن مال ولا أهل ولا تجارة، وربما لازمه لِيأكل معه مما أكل، ولغير ذلك من خدمته ونحوها. وثانيها: أنَّه طال عُمُرُه، فإنه تُوفي سنةَ تسع وخمسين في قول جماعة، وأقلُّ ما قيل: إنَّه تُوفي سنة سبع وخمسين، وقد كانت تَقِلُّ الرواية وتكثر بحسب طُولِ المدة بَعْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كانت روايةُ عمر أكثرَ مِن رواية أبي بكر. وثالثُها: أنَّه كان فارغاً لطلب العلم، قريباً لطيفاً، حسن الأخلاق غيرَ مهيب ولا بعيد. ورابعها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالحفظ وأمره أن يبسطَ رداءه فقرأ له فيه، وأمره أن يلفَّه عليه، ففعل، فما نسي شيئاً بَعْدُ (¬1) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي من حديث أبي هريرة. وروى النسائي، والحاكم (¬2) نحوه من حديث زيد بن ثابت ذكره صاحبُ كتاب " سلاح المؤمن " (¬3) في آداب الدعاء. فلم يبق في صحته شبهة والله أعلم. ¬
وذكر المحققون أنَّ الكذبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ في زمنِ الصحابة، ولا في زمنِ التابعين، لا مِن بَرِّهم، ولا مِنْ فاجرهم، وإنما كان ذلك في أيامِ بني العباسِ، وَمَنْ نظر فيما رواه أهلُ المعاصي في هذا الوقتِ القديم، عَرفَ صحةَ قولِ المحققين. فأما أبو هريرة، فإليه المنتهي في مراقبة الله وخوفه، وقد كان ممن يُغْشَى عليه من خوف الله تعالى، ثبت ذلك في صحيح مسلم (¬1) في حديث رواه في الرياء بالمثناة مِن تحتُ، وله شاهد في ترجمة سمرة. ثم إني وجدتُ في " شرح النهج " (¬2) للشيخ العلامة عبدِ الحميد بن أبي الحديد كلاماً في جماعة من السَّلَف لا يليقُ بمنصبه المنيف في العلم، والإنصاف، وحمله على السلامة يُوجبُ تنزيهه عنه، والقول بأن بعضُ أعدائه زاده في كتابه، فإنُّه ينبغي من العاقل العملُ بالقرائنِ القوية في تصحيح الأخبار، وتزييفها، ألا ترى أن فيه نسبة أبي هُريرة إلى بُغْضِ علي وتعمُّدِ ¬
الجواب عما نسب إلى أبي هريرة وأمثاله من أفاضل السلف المتواتر فضلهم وعلو مراتبهم من وجوه
الكذب عليه، ووضع الأحاديث الباطلة عمداً في مثَالِبِه، بل فيه عن علي عليه السلام أنَّه قال: ألا إنَّ أَكْذَبَ الناسِ، أو أكذَب الأحياء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة، فهذا ما يقطعُ العَارِفُ ببطلانه عن علي عليه السلامُ، وأرجو ألا تَصِحَّ حِكايتُه وتقريرُه عن ابنِ أبي الحديد. والجوابُ عما نسب إلى أبي هريرة وأمثاله من أفاضل السلف المتواتر فضلُهم، وعلو مراتبهم مِن وجوه. الوجه الأول: أن تعمُّدَ الكذبِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثالبِ عليٍّ عليه السلام ما لا يَفْعَلُهُ عاقل لا كافِرٌ ولا منافق، ولذلك لم يَصْدُرْ ذلك مِن أعداء علي عليه السلام، فإنَّ حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ وتعظيمَه وتكريمَه، وتشهيرَ مناقبه، والدوامَ على إظهار فضائله كان معلوماً بالضرورة خصوصاًً لأهل ذلك العصر، فالمعارِضُ لذلك لا يريدُ على حمل السامعين على خساسته ونُقصانِ عقله، وسقوطِ منزلته، ولا فرق بينَ أن يقدح في فضلِ علي، وحُبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وبين أن يَقْدحَ في نسب علي، وأنه ليس مِن بني هاشم، وأنه لم يسْبِقْ إلى الإِسلام، وأنه نَصَبَ الحربَ والعداوةَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامِ الفتح، وأسلم قهراً كما أسلم أبو سفيان حين أسلم، وأنه لم يشهد بدراً ولا أُحُداً، ولا أبلى في المشاهد. فهل ترى يَصِحُّ في عقل عاقل، أن أحداً في ذلك العصر يستطيعُ أن يكذب مثلَ هذه الأشياء على أمير المؤمنين ولو كان أكفرَ الكافرين، وأبغضَ البُغضاء، والمنافقين. ومن جَوَّزَ وقوعَ مثل هِذا في ذلك العصر من أعداء علي عليه السلامُ، لم يَزِدْ على أن يبين للعقلاء أنه ناقصُ العقلِ، عديمُ المعرفة، بهيمي الفِطنة، حِمَارِيُّ القلب. فإذا تقرَّرَ هذا، فلا فرق بينَ هذه الأشياء، وبينَ رواية مثالب فاحشة في أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك العصرِ للمهاجرين والأنصار أهلِ العقول الراجحة، والبصائرِ النافذة، والأفهامِ الثاقبة، ولذلك
اعترف أبو سفيان أنَّه لم يتمكَّن من الكَذِبِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هِرَقل (¬1)، وعَرَفَ بعقله مع كفره وعداوته أن الكذب لا يمضي له. ولو قدرنا صدورَ مثل هذا من قليل عقل، لوقع منهم من التنكيلِ به، والذَّمِّ له، وضربِ الأمثال بكذبه، والمناداة عليه في المحافِلِ والمجامعِ ما يُوجِبُ تَواتُرَ ذلك عنهم فيه، ولَمَا كفي أمير المؤمنين أن يقول ذلك مرةً ولا ثنتين ولا ثلاثاً حتى يتواتَر. وفي أخبار عمر رضي الله عنه أنَّه قال: كيف وجدتموني؟ قالوا: وجدناك مستقيماً، ولو زُغْتَ، لقوَّمناكَ، فقال: الحمد لله الذي جعلني في قومٍ إذا زُغْت، قوَّموني، وَدَعْ عنك الكثير الطَّيِّبَ مِن أخبارهم في ذلك، فقد قال الله تعالى في مُحْكَمِ كتابه الكريمِ في خِطابهم ووصفهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فكيف يُمكِنُ ظهورُ كذاب على الله ورسوله مستور بينَهم، ثم لا يَهْتِكونَ سَتْرَه، ¬
الوجه الثاني: أنه قد تواتر عن أبي هريرة أنه كان أرفع حالا من هذه المنزلة
ويُشهِرُونَ فضائحَهَ حتى يتواترَ ذلك، والعادات جاريةٌ مستمرة بمثل هذا في كل زمان، ولو جوَّزنا أن أحداً يُظْهِرُ في زمانهم مثلَ هذه الأكاذيب على الله، وعلى رسوله ولا يتواتر عنهم مقابلتُه بما يستحقه مِن التنكيل والتكذيب، لجوزنا أنَّه قد كان مِن غير أبي هريرة مثلُ ذلك من المستورين المقبولين، ولم يُقَابلْ ذلك بشيء منهم ألبتة حتى خَفِيَ حالُهم على أهل الإسلام وإنما يُمْكِنُ وضعُ المثالب فيه، وفي أمثاله بعدَ تطاولِ الزمان، وتدريبِ مَنْ لم يعرف مناقبه قطُّ على بُغضه ونسبه، ولذلك حَكَمَ نُقَّادُ علم هذا الشأن أن تعمُّدَ الوضعِ ما ظَهَرَ وَكَثُرَ إلاَّ في أيام بني العباس، وذلك حين كَثُرَ الجَهْلُ، وأمكن الغرورُ، ثم أفادني مولانا الإمامُ المنصور بالله عليه السلام فائدةً جليلة، وهو أنَّه عليه السلام وقف على معارضةٍ لما نقله الإسكافي (¬1) -إن صحَّ عنه ما تقدمَ- عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلامُ أنَّه أثنى على أبي هُريرة بالصدْقِ في الحديث، ودفعَ عنه أو نحو ذلك، وَقَفَ عليه مولانا عليه السلامُ في بعضِ كُتُبِ الرِّجال والتواريخ، وإليه المنتهى سلامُ الله عليه في سَعَةِ الاطلاع، والورعِ في الرواية، والتثبت في النقل، فالحمد لله رب العالمين. الوجه الثاني: أنَّهُ قد تواتر عن أبي هُريرة أنَّه كان أرفعَ حالاً من هذه المنزله الخسيسةِ التي لا أَسْقَطَ منها، فإِنَّه لو كان لوطيّاً، أو مجمعاً للفساد وأهلِه، لكان خيراً له من مرتبة الزندقة في الإسلام، فإن تلك معصيةٌ لا تتعدى إلى غير صاحبها، والحامِلُ عليها شِدَّةُ الشهوة، والشَّبَقُ، والخِسَّةُ، وهذه ¬
معصيةٌ، الحاملُ عليها بغضُ الله ورسولهِ وأميرِ المؤمنين، ومضرتُها دائمة للإسلام والمسلمين، ولا يمْكِنُ صدورُ مثل هذا من مؤمن ألبتة، ولذلك صح " أن بُغْضَ أميرِ المؤمنين نِفاق " (¬1). فكما أنَّه لا يُصَدَّق من زعم أن أبا هُريرةَ كان لوطياً مشهوراً في محافلِ الصحابة بذلك، ولم يقتلوه، ولم ينفوه، فكذلك لا يصِحُّ أن يكون معروفاً عندهم بتعمد الكذب على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مثالب سيدِ المسلمين في عصره، ولا يقتلوه أو ينفوه، ولا يكذبوه ويُنَكِّلوا به، وقد ذهب الجُوينيُّ (¬2) وغيره إلى أن تعمُّدَ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفْرٌ وَرِدَّةٌ، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32] مع قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وقولهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ولذلك نزه أهلُ البيتِ الخوارِجَ النواصِبَ مِن تعمُّد الكذب، وقَبِلُوا حديثهم وهُمْ كِلاب النَّار (¬3). فإن قلت: لم يكن مشهوراً بالكذب وتعمُّدهِ على عصرهم، وإنما بَانَ هذا بَعْدَ مُدَّةٍ. ¬
قلتُ: هذا مِنْ خيالاتِ قليلي العُقول، فإنَّ تعمدَ كذبِ الكاذبين إنما يظْهَرُ في أعصارهم لما يَصْحَبُهُ مِنْ معرفة مَنْ جاورهم وخالطهم وسامرَهم مِن قرائنِ أحوالهم، ومخايل كذبهم وتلوّنهم وحكاياتِهم، ومناقضاتِهم، ونسيانهم لما قالوه، كما قالت العرب: وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خلِيْقَةٍ ... وإن خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ (¬1) بل كما قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وكما شاهدنا هذا في معرفتنا لِلكاذبين المعاصرين لنا، فأما لو استتر حالُه حتى مات، ومات المعاصرون له، فإنها تنسَدُّ أبوابُ المعرفة لحاله على المستأخرين عن مُعاصريه إِلاَّ بِعلمِ الغيب، فمن أين جاء ذلك للإسكافي لو صحَّ عنه، وحاشاه منه بَعْدَ تفاني القُرون، وأبو هريرة محتجٌّ بحديثه بينَ الصحابة والتابعين، وفُقهاءِ الإسلام، وأهلِ العلم التام بتواريخِ الرجال، وأخبارِ الناس، وَمَنْ قَبِلَ مثلَ هذا في أبي هريرة ممن لا يُعْرَفُ مع ثبوتِ إيمان أبي هُريرة، وعدالتِه على عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُؤْمَنُ عليه، ولا يُسْتَبْعَد منه أن يُصدق من ذوي المثالب في علي عليه السلام أو في مَنْ هو دُونَه بيسيرٍ من أهل الفضلِ الشهيرِ، والمحلِّ الكبير. وقد ذكرتُ فيما تقدم أن أهل ذلك العصرِ كانوا خيرَ أهلِ الأعصار، وأن أشرارهم أصدقُ الأشرار حتى إنَّه ثبت عن اليهودي ابنِ صياد اللَّعين المُدَّعي للنبوة في عصره عليه السلامُ لما سألَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خصمُه ما يأتيه قال: يأتيني صادِقٌ وكاذب (¬2)، فاعترف بكذب بعضِ ما يأتيه بُعداً من ¬
الوجه الثالث: أنه لا خلاف أن طريقة أبى هريرة كانت مستقيمة
الكذب فيما يدعيه، ووثق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بدليله (¬1) يومَ هاجر، وكان كافراً، وبذمَةِ سُراقة (¬2) حين دعا له مع كفره، وشِدَّةِ عداوته، وكذا أَمِنَ كفارَ قريشٍ في عُمرة القضاءِ، ووضع جل السلاح. الوجه الثالث: أنَّه لا خلافَ أن طريقة أبي هُريرة على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مستقيمةً، وأنَّه كان يختصُّ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وُيلازِمُه ويأخُذُ عنه، ولم يكن منه في عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرةٌ، ولا حُدَّ في معصية، ولا اتُّهِمَ بنفاق، ولا كانَ مِن أهل الإفك، وكان مِن العُدول في ذلك العصر على كلِّ مذهبٍ، ومن الصحابة المثنى عليهم على كُلِّ قولٍ، وعند كُلِّ طائفةٍ. فالعجبُ ممن يقبل جرحه ممن لا يُعْرَفُ ولا يُدْرَى مَنْ هُوَ بغير إسناد ولا نظرٍ في رجال الحديث، بل يقبلُه مقطوعاً ممن لا يُدرى مَنْ هو، ولا يُساوي أدنى أدنى أدنى مرتبةٍ من مراتب أصحابِ أبي هريرة من التابعين الرُّواة عنه، المُوثِّقين له، الذين زادُوا على ثماني مئة، ولو صَحَّ طرحُ مِثْلِ هذه الفواحش والخبائث على مثل أبي هريرة من أئمة الإسلام، وأعلامِ الهُدى، لأمكن الزنادِقَةَ لَطْخُ أكثرِ العِترة والفقهاء بمثل ذلك. وليتَ شعري أيُّ فرقٍ يجده المميزُ الحازم بينَ أبي هريرة، وأبي الدرداءِ، ومُعَاذٍ، وكثيرٍ من المهاجرين، والأنصار، ثم يعلم المميز أنَّه لو كذب مثلَ ذلك على الصَّادِقِ والباقر ومالك والشافعي أو منْ دونهم من فُضلاء عصره، وأعيانِ أهل زمانه، لكان الحملُ لهم على السلامة أرجحَ، والتغليب لِنزاهتهم عما قيل ¬
الوجه الرابع: أن قواعد العلم المتفق عليها ما يقتضي أنه لا يقبل المتعارضان معا
فيهم أوضح، فكذلك هُنالك. الوجه الرابع: أن قواعدَ العلم المتفق عليها تقتضي أن لا يُقبل المتعارضان معاً، ولا يَصِحُّ ذلك، وقد تعارض الثناء على أبي هريرة والذَّمُّ له، أما الثناءُ عليه، فإنه قد دخل في الثناء مِنَ الله عزَّ وجلَّ على الصحابة، وأثنى عليه غيرُ واحد مِن السَّلَف والخلف كما تبين في ترجمته من كتب الرِّجال بالأسانيد المعروفة حتى أثنى عليه أئمةُ علمِ الرجال في الحديث مِن الشيعة كالحاكِمِ والنسائي، وابنِ عُقدة وغيرهم، وصححوا أحاديثَهم ودوَّنوها في كتبهم، وكذلك مَنِ احتجَّ بحديثِه مِن أهل البيتِ عليهم السلامُ والفقهاء كما يَعْرِفُ ذلك مَنْ طالع فِقْهَهُمْ، وأدِلَّتهم فيها، ويأتي قريباً التنبيهُ على ذلك بذكر طرفٍ منه يسير. وأما المعارضُ لهذا، فجاء مقطوعاً كولدِ الزِّنى الذي لا يُعْرَفُ له أب مِن طريق غيرِ وافية بشروط الصحة عن الإسكافي، وكان بغداديّاً لا يقولُ بأخبار الثقات دَعْ عنك غيرَها، ومَقْصِدُه في كلامه القدحُ في الأخبار بالجملة، وسدُّ باب الرواية لو صح ذلك عنه، فلا بُدَّ على الإنصافِ مِنْ معرفة رواة جرح أبي هريرة والموازنة بين كل واحد منهم وبين أبي هريرة، فإن كان فيهم واحد دون أبي هريرة في فضله ونُبله لم يُصَدَّقْ على مَنْ هو خيرٌ منه، وإلا لَزِمَ فيه ترجيحُ المرجوحِ على الراجح، وهو على خلاف المعقولِ والمنقول. فقِسِ القَدْحَ في الأكابرِ على هذا، وقد أشرتُ إلى هذه النُكتة في علوم الحديث، وأوضحتها فخذها من هنالك (¬1). وقد قَدَح الإمامُ المؤيَّدُ باللهِ عليه السلامُ بعدمِ الإسنادِ في كتاب "إثبات ¬
الوجه الخامس: أن أبا هريرة قد روى مناقب علي - رضي الله تعالى عنه - في الصحاح
النبوات"، وَبَيَّنَ أنَّه نَقَل كِتابَه عن السلفِ رحمهم الله تعالى، فدلَّ على اعتبار مثل ذلك حيث يُحتاج إليه، وتَقعُ التهمةُ بالإِجماعِ، ذكره حيثُ ذكر ما رُوي مِن أشعار الجن في الكلام على أنَّه لا يجوزُ أن يكونَ القرآن مِنْ كلامِ الجن. الوجه الخامس: أن أبا هريرة قد روى مناقِبَ علي عليه السَّلامُ في الصحاح، ومِنْ أشهرهَا روايته لحديث خيبر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعلي عليه السلام: " إنَّه يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَه، ويُحِبُّه الله وَرَسُولُهُ " (¬1) فثبت ذلك عنه في صحيح مسلم، فكيف لم ينفعْهُ ذلك مع صِحته عنه، وَيضُرّه ما رُويَ عنه من غير طريق صحيحة مِن نقيضِ ذلك. الوجه السادس: أن جميعَ الأكاذيب المروَيَّة أسندها الكذَّابُونَ إلى الصحابة، والمُحَدِّثُون عَرَفُوا الكَذَّابين، وحملُوا أكاذيبهم عليهم، والحَمْقَى (¬2) من أهل الكلام نَزَّهُوا أولئك الذين جَهلُوا أحوالَهم، وحملُوا أكاذيبهم على المعروفين بالإيمان والإسلام، والصُّحبة، والعدالةِ، والنبالة، وعكسوا ما يجبُ، ألا ترى أن صاحبَ هذا الكلام الذي في " شرح النهج " قَدَحَ في أبي هريرة بروايته لخطبة علي عليه السلامُ بنتَ أبي جهْل وطوَّل في ذلك، ثم نقل عن السيد المرتضى أن الراوي لذلك عن أبي هريرة هو الكرابيسي، وأن الحمل في ذلك عليه. ثم إنَّه تأوَّل ذلك على تقديرِ صحته بتأويل حسنٍ لا يبقى معه قَدْحٌ في رواته، ومع ذلك لم يَذُبَّ عن أبي هُريرة، وتركه مقدوحاً فيه بذلك، وجهل أيضاًً أن ذلك غير مروي عن أبي هريرة في الصَّحاح، ولا أشار إليه الترمذي كعادته، ¬
ولا رواه عنه أحمد في " مسنده " مع جمعه لحديثه، بل روي في الصحاح مِن غير طريق أبي هريرة، وأنهم إنما رَوَوْه من طريق علي بن الحسين سَيِّدِ العابدين عن المسْورِ بن مَخْرَمَة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فما أبعدَ ابنَ أبي الحديد عن مثل هذا، دل قد روى حديث الخِطبة على فاطمةَ عليها السَّلامُ الحاكمُ في " المستدرك " (¬2) على تشيعه، وصحح مجيئَه مِنْ طُرُقٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكم بصحتها، منها عن سُويد بن غَفَلَةَ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السِّياقة (¬3). ومنها عن عبد الله بن الزبير وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الترمذي (¬4) أيضاًً. ومنها عن أبي حنظلةَ رجلٍ من أهل مكة. وإنما ذكر هذه الطرق لتصحيح هذه الفضيلة لفاطمة عليها السلامُ، ولذلك ذكر ذلك في مناقبها مع أنَّه لا شيء في ذلك على أمير المؤمنين عليه السلامُ كما ذكره في حديث سُوَيْدِ بنِ غفَلَةَ، فإنه ذكر فيه أن عليّاً استشار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال له: " أعَنْ حَسَبِهَا تسألُني؟ " قال: قد أعلمُ حسبَها، ولكن أتأمُرُني بها، فقال: " لا، فاطمةُ بَضْعةٌ مني، ولا أَحْسِبُ إلَّا أنَّهَا تَحْزَنُ أَو تَجْزَعُ " فقال علي: لا آتي شيئاً تَكْرَهُهُ. فأيُّ مقالٍ عليه في أن سأل، ثم فعَلَ ما يُحبُّهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سأل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ربَّه أن يَأْذَنَ له في الاستغفارِ لأمِّهِ، فلم يَأذَنْ له (¬5) فأطاعه، فهذا مثلُ ذلك. ¬
ويدل على بُطلانِ ذلك الكلام على ابنِ أبي الحديد أن صاحبَه روى عن أبي حنيفةَ جَرْح جَمَاعةٍ مِن الصحابة كأبي هريرة، ونحن نرى أبا حنيفة يحتجُّ بأحاديثهم (¬1) كما هو معروف في " مسنده " وكُتُبِ فقهه، وفِقه أصحابه. ؤكذلك حديثُ أبي هُريرة متلقى بالقبولِ بينَ فِرَقِ الأمَّةِ. أما الفقهاء وأهلُ الحديث، فمعلومٌ ذلك عنهم ضرورةً، وكذلك التابعون، فإنَّ الرواةَ عنه منهم بلغوا ثماني مئة، ولم تُنْكَرْ عليهم الرِّوايةُ عنه مع هذه الشُّهْرَةِ العظيمةِ. وأما المعتزلة، فهم راجعون إلى الفقهاء، فإنهم شافعية وحنفية، والمنقولُ عنهم عدالة الصَّحابة إِلَّا مَنْ حاربَ عليّاً عليه السَّلامُ، ومن حارب متأولاً، قَبِلُوه، وإن فسَّقوه أيضاًً، أو أكثرهم كما مضى، وكما يأتي في مسألة المتأولين مِن دعوى كثير منهم الإجماعَ على ذلك، وأبو هريرة لم يكن مِن محاربي علي عليه السلامُ بالإجماع. وأما الشيعة فهؤلاءِ مُحدِّثوهم يَرْوونَ حديثَ أبي هُريرة كالحاكم في " المستدرك "، والنسائي في " السنن "، وكُلّ مَنْ روى الحديثَ منهم حتى محمد ابن منصور المرادي (¬2) في كتابه " علوم آل محمد" خرَّج حديثَه، واحتج به فيه، ¬
بل روى محمدُ بنُ عبد الله بن الحسن (¬1)، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديثَ " إذا سَجَدَ أحَدكمْ، فَلا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الجَمَلُ " (¬2) واحتج به، وذهب إلى مقتضاه، وتابعه على ذلك كثيرٌ من أهل البيت وشيعتهم، وخرَّجه عنه أهل الحديث في كتبهم، ولم يُنْكِرْ ذلك عليه أحد مِن أهل بيته مع تَقَدُّم عصره، ولا مَنْ بَعْدَه مِن أهله وشيعته، ولا اعتذروا له عن ذلك، ولا لغيرهِ مِمَّنْ روى عنه على أنَّه لا يعلم أنَّه تفرَّد بشيءٍ منكر، وصحَّ عنه، وقد ادَّعى الإجماعَ على عمل الأمة بروايته لِحديث النَّهي عن الجمعِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها، والمرأةِ وخالتها، وأنَّ الأمَّة ما اعتمدت إلاَّ عليه مع أنَّه تخصيصٌ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] وذكر الحُفَّاظُ العارفون أنه لم يَصِحَّ شيءٌ مِن الأحاديث المرويةِ في ذلك عَنْ عليٍّ عليه السَّلامُ، وابن عباسٍ وغيرِهما، ممن ذكر ذلك البيهقي، وحكاه عن الشافعي حتى اعترضُوا ما خرَّجَهْ البُخاري (¬3) في ذلك عن عاصمٍ الأحولِ، عنِ الشَّعبِيِّ، عن جابر ¬
وقالوا: إِنَّ ذلك وَهْمٌ مِن عاصم، لأن ابنَ عونٍ، وداودَ بنَ أبي هِنْدٍ رويا هذا الحديثَ عن الشَّعبِيِّ، عن أبي هُريرة وحدَه. وعلى الجملة، فروايةُ التابعين لِحديثه، واحتجاجُهم به مِنْ غيرِ نكيرٍ معلومٌ لأهلِ العلمِ بالأخبار بالضرورة، والتَّابِعُونَ مِنْ خيرِ القرونِ بالنُّصوص النبوية، والأخبارِ بصلاحِهم المتواترة الضرورية، واللهُ يُوفِّقنا للصواب، ويُزيل عنا الشَّكَّ والارتياب. وكذلك تجدُ المعتزلة حنفيةً وشافعيةً، وأبو حنيفة والشافعي يحتجَّان ¬
بأولئك المقدوحِ فيهم مع أبي هريرة، فكيف يَنْتَسِبُون إليهما، وَيَنْتَقِصُونَ مَنْ هو حُجَّةٌ لهما، وَقُدْوَةٌ عندهما. ثم مِنْ عَدَمِ إنصاف صاحبِ ذلك الكلام المسند إلى الإسكافي، ولعله منه بريء أيضاً، فما يصلحُ إِلَّا لبعضِ أعداءِ الإسلام، فإنه ذكر القدحَ في أبي هُريرة، وغيرِه من خِيرة السَّلَفِ الصالح، وأفردَ القدحَ فيهم، ولو كان هذا من المسلمين، لأورد ما وَرد فيهم مِن جرح وتوثيق، وسمَّى مَنْ جَرحَهُمْ وَمَنْ وَثَّقهم حتى يتمكَّنَ الناظِرُ من الترجيح عند التعارض، كما هو شأنُ أهلِ كتب هذا الشأنِ من علماء الإِسلام. وأما الزنادقةُ، فتراهم -إذا ذكروا أحداً مِن أئمة الإسلام الذين تملأ محاسِنَهم الدواوينُ، وتملّ حسناتِهم الكاتبون- لم يذكورا له إلاَّ ما لم يَصِحَّ مِن المساوىء والمثالبِ والفواحشِ المفتراة والمعايبِ، وليس العجبُ ممن يقدح في الأكابرِ مِن هؤُلاءِ الأسافلِ، ولله القائل: وإذَا أتتْك مَذَمَّتِي مِنْ ناقِصٍ ... فَهي الشَّهَادَةُ لي بِأنِّي فَاضِلُ (¬1) وإنَّما العَجَبُ مِن بلادةِ مَنْ يَسْبِقُ إلى عقله صِدْقُ أخسِّ الناسِ وَمَنْ خيرُ أحواله أن يكون مجهولاً في ذَمِّ خيرِ الناس بنصِّ كتاب الله تعالى، وشهادةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَمَنْ أَدْنَى أحوالِه أن يكونَ على من جَرَحَهُ مِن الأراذِلِ مقدماً مقبولاً. واعلم أنا قد جرَّبْنَا في أنفسنا، وَمَنْ عاصَرَنَا مِن الأئمة والفُضلاءِ كَذِبَ الكذَّابينَ عليهم، وَحسَدَ الحاسدينَ لهم، وهذه عادة مستمرة للأنجاس في ¬
حسدِ خِيارِ الناس، ولذلك قيل: إنَّ العَرَانِينَ تَلَقَاهَا مُحَسَّدَة ... وَلَنْ تَرَى لِِلِئامِ النَّاسِ حُسَّادَا (¬1) والحاسدُ يفتري على المحسودِ، فلو قُبِلَ كُلُّ قَدْحٍ مِنْ غيرِ تثبُّتٍ، لبلغ الشيطانُ وجنودُه أغراضَهم في أهلِ المراتب الرفيعةِ مِن العلماءِ، والصَّالحين، وحَمَلَةِ العلم، وَنَقَلَةِ الآثار. فكيف يجوز أن يُصَدَّق على ابنِ أبي الحديد والإِسكافي أن يُجَرِّحُوا عُيُونَ السَّلَفِ الصالح برواياتٍ لم يُصحِّحُوا منها واحدة، ولا أوضحوا لها طريقاً يعلم براءتها مِن دسيسِ الملاحدة؟!. وقد ذكر شيخُ الإِسلام ابنُ تيمية (¬2) أنَّ الذي وضع هذه الأشياءَ يهوديٌّ أظهرَ الإسلامَ وافتراها، بل صَحَّ عن ابنِ مسعود: أنَّ الشَّيطانَ يتصوَّرُ في صورة الآدَمِيِّ فيحدّثُ بالأكاذيب. رواه مسلم (¬3). وله شاهد أو شواهد مرفوعة ¬
في " مجمع الزوائد " للهيثمي (¬1) ومن ها هنا أوجَبَ أهلُ الحديثِ الإِسنادَ، لأن في العدول مَنْ يَقْبلُ المجاهيلَ، فيقبلُ الكذَّابَ، أو الشيطانَ لِظنه أنه مجهول، والمجهولُ عنده مقبول، فصار قبول المرسل يُؤدِّي إلى مِثْلِ هذا مِن حيث لا يَشْعُرُ مَنْ قَبِلَهُ، لأنَّه يقبل مراسيلَ الثقاتِ، وفي الثقات من يَقْبَل المجاهيلَ كالحنفيةِ فَتُقْبَلُ مراسيلُهم، وهم يقبلُون المجاهيلَ، وجميعَ المجاريحِ، والشياطينُ قد يكونون مِن جملة المجاهيل بالنسبة إلى بعض الأشخاصِ والأحوالِ، فاللهُ المستعانُ. وينبغي مِن كُلِّ مسلمٍ صحيحِ الإِسلام أن يعتبر عن سماع هذه الأكاذيبِ بأمورٍ. أحدها: أن يَنْظُرَ: هل هو يجترىء على تَعَمُّدِ الكذبِ على اللهِ ورسوله، ثم يظن فيمن غاب عنه مثل ما يجد من نفسه. وثانيها: أن يَنْظُرَ لو يُفترى عليه مثل ذلك، وهو منه بريء كيف يكونُ ذلك العدوانُ عنده، فيحذر مِن مثلِه. وثالثها: ينظر كيفَ قال تعالى في شأن أهل الإِفك (¬2) حين قالوا، وفي مُصدقيهم حين صدَّقوه مع أنَّهم قالوا ذلك، وهم يظنُّون صِدقَهم، وحذقَهم، وَفطَانَتَهم فيما اختصُّوا بفهمه دونَ البلداء، والرميُ بالزنى أهونُ ¬
من الرمي بتعمدِ الكذب على اللهِ ورسوله كما مضى تقريرُه، نسأل اللهَ العافيةَ والسلامة. ثم إن صاحبَ ذلك الكلام تمسَّكَ في رمي جماعةٍ مِنْ خيرِ السَّلَفِ إلى بغضِ علي عليه السلامُ بأشياءَ كان يلْزَمُهُ لو طَرَّدها أن يَنْسِبَ بُغْضَ علي المستلزم لِلنِّفاق إلى طلحَة، والزبير، وعائشة لما كان منهم يومَ الجَمَلِ، بل إلى أبي بكر، وعُمَرَ، وعثمان، وجميع مَنْ قال بإمامتهم من التابعين والفقهاء والمعتزلة، لأنهم رأوا مرتبته مستأخرة عن مرتبة مَنْ تقدمه، وصنَّفوا في ذلك التصانيفَ، وجادلُوا عليه، ونقضوا أدِلَّة من خالفهم فيه، وبلغوا الغايةَ القصوى في ذلك. ومتى التزمَ ذلِكَ، وَحَكَم بنفاق جميعِ منْ ذكرنا، ونفاقٍ جميع مَنْ أحبهم، أو ذب عنهم، ولم يبرأْ منهم، وحرم الروايةَ عنهم، والتصديق لهم، سدَّ أبوابَ الروايةِ، ورفع ما تفرَّع عنها مِن علوم الإسلام تحريماً وتحليلاً وتجميلاً وتفصيلاً، لا سيما المراسيل، فإن المُرْسِلِينَ يُرْسِلُون عن بعض هؤلاء لثقتهم عندهم حتَّى يتطرق الشكُّ إلى كثيرٍ من مناقب علي عليه السلامُ ومناقب العِترة الكرام، لأن كثيراً منها لا يَسْلَمُ مِن الاستناد إلى هؤلاء، وكان يلزم تُهْمَةُ كثير من العِترة بالتحامل على أمير المؤمنين عليه السلامُ حيث بالغوا في الثناء على مَنْ تقدَّمه، وأظهروا موالاتهم، والترضيةَ عنهم، والترحُّمَ عليهم، وَمِنْ أقربِ مَنْ صَحَّ لنا ذلك عنه بالنقلِ المتواتِر، ورُؤيته بخطه المعروف - مولانا أميرُ المؤمنين الناصرُ لدين الله مُحَمَّدُ بنُ أمير المؤمنين المهدي لدين الله علي بن محمد بن علي عليهم السلام، وقبلَه الإمام الأوَّاه العلامة المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة. وأما بطريقِ الآحاد، فهو عن أميرِ المؤمنين علي عليه السلامُ، وعن
الطِّرَازِ الأولِ من أكابِرِ السادات مِن عِترته، كزيدِ بن علي، وأخيهِ الباقر، وجعفرٍ الصادقِ، ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ، ولهذا موضعُ غيرُ هذا وإنما القصدُ الإِشارةُ إلى بعض ما يُؤَدِّي إليه الغُلُوّ مِن فساد علوم الإِسلامِ، وفسادِ الظُّنون بأئمة العِترة عليهم السلام. ثم إن الناسَ قد عاصروا أئمة الجَوْرِ الذين عادَوْا أميرَ المؤمنين وحاربُوه، وحاربُوا أهلَ بيته، وقتلوهم، وتَتَبَّعُوا مُحبِّيهمْ بالحرب والقتل والإهانة، وقد رخَّصَ اللهُ ورسولُه وأميرُ المؤمنين في التَّقيَّةِ، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (¬1) [النحل: 106] وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعمارٍ: " إنْ عَادُوا لكَ فَعُدْ لَهُم " (¬2) وقد كانُوا أكرهوه على سبِّ الله عَزَّ وَجَلَّ، ولذلك قال علي عليه السلام: فأما السَّبُّ فسُبُّونِي، فإنه لي زكاةٌ، ولكم نجاة. فكيف لا يُحْمَلُ على هذا المحمل الجليِّ الواضحِ منْ صدر عنه شيءٌ مِنْ ذلك إذا كان قبل ذلك معروفَ الإسلام لو صحَّ شيءٌ من ذلك عن أحدٍ من الأعلام، وإنما الذي لا يَحِلُّ بالِإكراه هو البراءة منه التي محلُّها القلب كالبُغضِ والعداوة. وقد خَفِيَ هذا المعنى على الشيخ ابن ¬
أبي الحديد، فلمِ يجد فرقاً بَيِّناً بَيْنَ السَّبِّ المباحِ عند الإِكراه وبينَ البراءةِ عند الإِكراه حتى نَسَبَ إِلى المعتزلةِ عدمَ الفرق بينهما. وقد ذكر في شرح كلامه هذا خلقاً كثيراً مِن صالحي السَّلَفِ بالتحامل على أميرِ المؤمنين، وهذا الفرقُ الذي ذكرتُهُ هو الذي لا يُمْكنُ سواه كالبراءةِ من الله ورسولِه باللسان دون القلب ولأن من سَبَّ، ولم يتبرأ بلسانه يقع في المخوف، وقد أشار إلى هذا أميرُ المؤمنين عليه السلام في رواية الحاكم (¬1) فإنه خرج هذا في تفسير سورة النحل من طريقين، أحدهما: طريق أبي صادق الأزدي عن علي عليه السلام وفيها أنَّه عليه السلامُ تلا بعدَ كلامه هذا {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقال: صحيح الإسناد (¬2). قلت: وأبو صادق مِن رجال ابن ماجة، وثَّقه يعقوب بن أبي شيبة، وقال ابن سعد. يتكلمون فيه، وقيل: إنَّه لم يلق علياً عليه السلام، وذكر الحاكم الطريق الثاني عن الحِمَّاني عن ابن عيينة عن عبد الله بن طاووس، عن أمية، ولم يصححها أحسبه للانقطاع (¬3)، فإنه لم يذكره المزي في الرُّواة عن علي عليه السلام، فإن صح عنه وعن بعضهم ممن يَجبُ حملُه على السلامة فالوجه فيه ما ذكرنا، ولعل الشيخ قد نبه على ذلك بإيراده له في شرح قَوله عليه السلام: فأما السَّبُّ فَسُبُّوني، وأما البراءة فلا تبرؤوا ¬
ويلحق بذلك فائدة تعلق بتمام الذب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وذلك أن بعض من يتهمه في الحديث احتج على تهمته أن هذا يدل على أنه يتعمد الكذب أو يتهم بذلك والجواب من وجوه
مني، ولم يُظهر الشيخُ حملَهم على ذلك تقيةً من ابنِ العلقمي (¬1) والله أعلم. ويلحق بذلك فائدة: تَعَلَّقٌ بتمام الذبِّ عن أبي هُريرة رضي الله عنه، وذلك أن بعضُ مَنْ يَتَّهِمُه في الحديث احتج على تهمته بما روي في الصحاح (¬2) عنه أنَّه كان يُفتي بفطرِ من أصبح جنباً في رمضان قبل أن يغتسِل، ويروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما بلغه عن عائشة وأم سلمة خلافُ ذلك قال: إنَّه لم يسمعه مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما أخبره بذلك الفضلُ بنُ عباس ¬
الوجه الأول: أنه لو صح التشكيك في صدق مثل أبي هريرة - رضي الله عنه -
وهما أعلم، وفي رواية وهو أعلم، ورجع عن ذلك. وفي رواية غيرِ صحيحة أخبره بذلك أسامة بن زيد، وفي رواية أخبره بذلك مخبر غيرُ مسمى، وقد تعاطى بعضُ مَنْ يُلْتَفَتُ إليه أن هذا يَدُلُّ على أنه يتعمَّدُ الكذبَ، أو يُتَّهَمُ بذلك، والجواب من وجوه: الوجه الأول: أنَّه لو صح التشكيكُ في صدق مثلِ أبي هُريرة الذي هو أحدُ كبارِ الصحابة وحُفَّاظهم وعيونهم، ومن المشهورين في عصرهِم بالرِّواية والفتوى، وقد ثبت الثناءُ عليهم كتاباً وسنة وخبرةً وعموماً وخصوصاًً وظواهر ونصوصاً، وقد مرَّ طرفٌ من ذلك في أوَّلِ هذا الكتابِ فلو صحَّ التشكيكُ في صدقه، وصدقِ أمثالِه من الصدرِ الأول الذين على نقلِهِمْ وأمانتهم المُعَوَّلُ، لكان الشَّكُّ في القادحينَ فيهم، المتأخرينَ عنهم رتبةً وزماناً وأمانةً وإيماناً أولى وأحرى، وأقرب وأقوى، وحينئذ تبطُل هذه الواقعة وأمثالُها بما يقدح به عليه وعلى أمثالِه، لأن صِحةَ ذلك فرعٌ على صِدْقِ رواةٍ كثيرٍ متأخرين من الذين الكذبُ فيهم فاشٍ دونَ الصحابةِ وتابعيهم بشهادة الأحاديثِ المتلقاةِ بالقبولِ في تزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل عصره، والذين يلونهم، ثم يفشو الكَذِبُ منْ بَعْدُ، فكيف يُصَحَّحُ في القدحِ في أبي هُريرة حديثٌ يدور على رواة أوثَقُهُم دُونَ أبي هريرة في الشُّهرة بالإيمان والإِمامة والإِسلام والدِّيانة، وهذا دأبُ المبتدعةِ ينقلُونَ القدح في الأخبار ورواتها عمن لا يُوثَقُ به، ويقدحونَ في الآحاد الصِّحَاح بالآحادِ البواطِلِ، كناقش الشوكة بالشَّوكَةِ، وكيف يقومُ الظِّلُ والعُودُ أعْوَجُ؟ الوجه الثاني: أنَّه قد ثبت في هذا الحديثِ من الاختلاف والاضطراب شيءٌ كثيرٌ جدّاً منه في الإِسناد، ومنه في المتن، فمنهم من
يقول فيه: عن عائشة، وأمِّ سلمة معاً، ومنهم من يقول: عن عائشة وحدَها، ومنهم: عن أُمِّ سلمة وحدَها، ومنهم عن عائشة وحفصة معاً، ومنهم عن حفصة وحدَها، ومنهم عن أبي بكر بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن عائشة، ومنهم عن أبي بكر، عن عائشة، ومنهم عنه، عن أمِّ سلمة، ومنهم عنه عن أبيه عن أم سلمة، ومنهم عنه عن أبيه عن جده عنها، ذكره المزي في أطرافه في تراجمهم عن عائشة، عن أم سلمة، وذكر في ترجمة عبد الملك عن أم سلمة (¬1) أن فيه اختلافاً كثيراً على عراك. وأكثر ذلك أو كلُّه مبين في " سنن النسائي الكبرى " لا في الصغرى المسماة " بالمجتبى " فهذا اختلافهم واضطرابُهم في الإسناد. وأما في المتنِ، فمنهم مَنْ ذكر قِصَّةَ أبي هُريرة، ومنهم من لم يذكرها. ومنهم من جعل سببَ القِصَّة بلوغَ فتوى أبي هريرة إلى مروانَ، وحينئذ أرسل مروانُ عبدَ الرحمان إلى عائشة. ومنهم من جعل السببَ بلوغَ الفتوى إلى عبد الرحمان، وأنه حينئذ سأل عائشة وأم سلمة من غير علم مِن مروان، ثم أخبر مروان. ومنهم من قال: إنهم لقُوا أبا هريرة عند بابِ المسجد، فأخبروه بقولِ عائشةَ وأمِّ سلمةَ مِن غير قصدٍ. ومنهم من قال: إنَّهم قصدوه لِيخبروه، وساروا بأمرِ مروانَ إلى ¬
أرضِ أبي هُريرة إلى العقيق. ومنهم من قال: إن عبدَ الرحمان كره ما أمر به مروان مِن إخبار أبي هريرة بذلك وكَرِهَ قصدَه لِذلك، ولم يمتثل أمرَ مروان في ذلك، وقال: ثم قُدِّرَ لنا أن نجتمع بِذِي الحُلَيْفَةِ، وكانت لأبي هريرة هناك أرضٌ، فأخبره عبد الرحمان بذلك. ومنهم من قال عن أبي هُريرة: أنَّه قال: هما أعلمُ، يعني: عائشةَ وأمَّ سلمة، ورجع إلى قولهما. ومنهم من قال عنه: إنَّه قال: هو أعلم، يعني: الفضل، وبقي على قوله، ونحو هذا من الاختلاف الشديد. ومن جملة ما وقع في هذا الحديث من اختلافِ رواته اختلافُهُم في من أسند أبو هريرة الحديثَ الذي احتج به في فتواه إليه، فأما من يعرف الرجالَ والجرحَ والتعديل، ومقادير المختلفين في الحفظ، ويميزُ الروايةَ الشاذَّةَ مِن المشهورة، فإنه يُمْكِنُهُم تصحيحُ البعض من ذلك، وطرحُ البعض، والوقفُ في البعض، والحكمُ بالاضطراب في المستوى دونَ غيره. وأما جَهَلُةُ هذا الشأن، فإنه يلْزَمُهُمُ الحُكْمُ ببُطلانه، وكذلك العارفُ الذي صحَّ عنه فيه شرطُ الاضطراب، وهو استواءُ المختلفين أو تقاربُهم في الحفظ والعدالة، وإليه أشار النسائي حيث لم يُخرجه في " المجتبى " وقد ذكر ابن الأثير في ترجمة النسائي من مقدمات " جامع الأصول " أنَّه اقتصر في " المجتبى " على الصحيح من " سننه الكبرى " (¬1)، وما ترك منها إلا ¬
الوجه الثالث: أن أبا هريرة إنما روى الحديث الذي احتج به
المُعَلَّ، فيكون هذا الحديثُ عنده من المُعَلِّ الذي لم يَصِحَّ لهذه العِلة، وهي شِدَةُ الاختلاف في سنده ومتنه. فالعجَبُ ممن لا يعرِفُ الرِّجال، ولا هذا الشأنَ؛ كيف صَحَّحَ هذا الحديثَ تحكماً من غير معرفة، ونسب الاختلافَ إلى أبي هُريرة في إسنادِ الحديث إلى الفضلِ بن العباس، أو إلى أسامة بنِ زيد، ونسب سائرَ الاختلاف الذي في هذا الحديثِ إلى غير أبي هُريرة من الرُّواة، وأبو هريرة أعقلُ من أن يقولَ ذلك على كل تقدير؟! فإن الصادق يَثْبُتُ على صدقه، والكاذب يخاف التُّهمة من إكذابه لنفسه بتناقضِ رواياته، ولو كان هو المُتَلوِّنَ في ذلك، لذكره مروانُ، وعابه عليه، فقد كان مروانُ شديدَ الحرص على تقريع أبي هُريرة في ذلك، كما هو بَيِّنٌ في متن الحديث، فإنه اقسم على عبد الرحمان: لَيُقَرِّعَنَّ أبا هريرة بذلك (¬1). الوجه الثالث: أن أبا هريرة إِنما روى الحديثَ الذي احتجَّ بهِ في الابتداء مرسلاً، ثم بينَ الواسطة بعدُ، وبَيَّنَ أنَّه الفضل بن العباس، لأن عادةَ كثيرٍ من أهل العلمِ خصوصاًً أهلَ ذلك العصر هي الإرسالُ حتى يَعْرِضَ سَبَبٌ يُوجِبُ الإسنادَ. فمن ذلك أن يكون الراوي غيرَ شاكٍّ في صِحة ما عنده، لأنَّه لا يَعْرِفُ معارِضَاً، فحين يَعْرِفُ ما يُعَارِضُ روايتَه يقوى الدَّاعي إلى بيان مستنَدِه، وكذلك فعل الحَبْرُ عَبْد الله بنُ العباس رضي الله عنهما حين كان يُفتي أنَّه " لا رِبَا إلا في النَّسِيئَةٍ "، فلما أُخْبِرَ بتحريم الربا في الصَّرْفِ، قال: أخبرني بذلك أسامة بن زيد (¬2). ¬
ثم رجع إلى ما صحَّ لهُ عن غير أُسامة ممن روايتُه أخصُّ وأنصُّ في المعنى، أو متأخرةٌ في التاريخ، فقد يكونُ الرجوعُ على جهة اعتقادِ التخصيص، والبيانِ للمجملات، وقد يكون على جهة النسخ للمنصوصات، وليس يستلزِمُ كذب الراوي الأولِ على كُلِّ تقدير، روى قصة ابنِ عباس في ذلك -كما ذكرت- أحمدُ بن حنبل في مسند أسامة (¬1)، والنسائي في كتاب البيوع من " سننه " (¬2)، وابن ماجة في التجارات (¬3). رواه أحمد من طريق يحيى بن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس، ورواه النسائي، وابن ماجه من طريق أخرى، ويحيى صدوق، وبقيتهم رجالُ الجماعة. واختلفت الروايةُ عنه كأبي هريرة، فقيل: عنه كما تقدم، وقيل: عنه: إنَّه قال: إِنما كان ذلك رأياً مني. رواه ابن ماجة، والصحيح الأول كما أن الصحيح في حديث أبي هريرة أن المخبر له بالحديثِ الفضلُ بنُ العباس كما يأتي، فلم يقُلْ أحدٌ من العقلاء: إنَّ ذلك الاختلافَ في حديث ابنِ عباس منسوبٌ إليه دونَ الرُّواة عنه، وإنَّه يُوجبُ تُهْمَتَه مع أن حديثَ ابنِ عباس موضع تُهمةٍ، لأنَّه في رخصة كبيرة، وحديثُ أبي هريرة أبعدُ من التهمة، لأنَّه في الاحتياط في حُرمةِ رمضان، ومصادمة أمراء الجَوْرِ بما يكرهون، فإن مروان قد كان اشتدَّ تَكَبُّرُهُ عليه، فلم يلتفت إليه حتَّى وضح له الحقُّ، وكفي بهذا دليلاً على ورعه وتقواه، ومخالفته لهواه في الابتداء والانتهاء، وقد خرج الحاكم في الفتن عن مالك بن ظالم أنَّه سمع أبا هريرة ¬
يقول لمروان بن الحكم: أخبرني حِبِّي أبو القاسم الصَّادِقُ المصدوقُ - صلى الله عليه وسلم -: " أن فَسَادَ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ " (¬1). وقال الحاكم على تشيعه: إنَّه حديثٌ صحيحٌ الإسناد، وخرجه أحمد في " المسند " بنحوه من طريق أبي زرعة، والضحاك بن قيس، كلاهما عن أبي هريرة من غير طريق الحاكم، فثبث ذلك بلا ريبٍ، وهذا أرفعُ مراتب التقوى أن يَصْدَعَ مروانَ بالحقِّ، ولا تَأْخُذَهُ في اللهِ لومةُ لائم، وفي الحديث " أفْضَل الجِهَادِ كلِمَةُ حَقِّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " (¬2). قال العلماء: لأنَّه لا يقدر يدفع عن نفسه كما يدافع المجاهدون، وهذا الحديث الثالث عشر بعدَ المئة من جامع ابن الجوزي، وفيه أن مروان سأله أن يحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعتُه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليتمنَّينَّ أقوام وَلُوا هذا الأمْرَ أنهم خرُّوا مِن الثُّريا، وإنهم لم يلو شيئاً " (¬3). ¬
وفي البخاري ومسلم قال أبو زرعة: دخلتُ مع أبي هريرة في دارِ مروانَ، فرأى فيها تصاويرَ، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قَالَ اللهُ تَعالى: وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهبَ يَخْلُقُ خَلْقاً كَخَلْقِي، فلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أو لْيخْلُقُوا شَعِيرَةً " زاد البخاري: ثُمَّ دَعَا بِثَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَهُ (¬1). وخرج الحاكم (¬2) قبلَ هذا عن معاوية بن صالح (¬3)، عن صفوان بنِ عمروٍ أنَّه سَمِعَ أبا مريم مولى أبي هُريْرَةَ يقول: مَرَّ أبو هريرة بمروانَ وهو يبني دارَه، فقال للعُمَّال: ابنُوا شديداً، وأمِّلُوا بعيداً، وموتوا قريباً، فقال مروان: ماذا تقول لهم يا أبا هريرة؟ فقال: قلت: ابنوا شديداً، وأمِّلُوا بعيداً، وموتوا قريباً يا معشر قريش -ثَلاثَ مرات- كيْفَ. كُنْتُم أمْس، وكيف أصبحتُم اليوم تُخدَمُونَ، أرِقَّاؤُكم الْيَوْمَ فَارِسٌ والرُّوم، كُلُوا الخُبْزَ السَّمِيذ، واللَّحْم السَّمِينَ، لا يأكُلْ بعضُكُم بعضاً، ولا تَكَادَمُوا (¬4) تَكَادُمَ البَراذين، وكونُوا اليومَ صِغَاراً، تكونوا غداً كباراً، واللهِ لا يَرْتَفِعُ منكم رجلٌ درجةٌ إلا وَضَعَهُ الله يومَ القيامة. ¬
الوجه الرابع: أن الاختلاف في ذلك إنما هو على أبي بكر بن عبد الرحمن
فهذان وأمثالهُما مِن رواية ثقات الشيعة، وما تقدَّم من رواية ثقات أهلِ الحديث يدل على اتفاق ثقاتِ النَّقَلَة من الفريقين على نقل ما يَدُلُّ على ثقة أبي هُريرة، وجلالتِه، فقد صحَّ بالنَّقْلِ والعقْلِ أن كلمةَ الحقِّ عند سلاطين الجَوْرِ أفضلُ الجهاد، فاعْرِفْ ذلك. الوجه الرابع: أن الاختلافَ في ذلك إنما هو على أبي بكر بن عبد الرحمان شيخِ سُميٍّ والزُّهريِّ في الحديث كما يَعْرِفُ ذلك أهلُ هذا الشأنِ، لا على أبي هُريرة، وقد غَلِطَ مَنْ نسبه إليه غلطاً فاحشاً، وذلك مِن عَدَمِ البصرِ بعلم الأثرِ، وَمَنْ عَرَفَ صنعتَهم في جَمْعِ الطُّرُقِ لأجل معرفة مَنْ وقع منه الاختلافُ مِن الرُّواة، لم يَشُكَّ في ذلك، كما بيَّنه النسائيُّ في " سننه الكبرى " في هذا الحديثِ بخصوصه، وفي " سننه الصغرى " في غالب الأحاديث المختَلفِ فيها. بيان ذلك أنَّ مدارَ الحديث على عبدِ الرحمان بن الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي وعلى ولده أبي بكر، والرواية الصحيحة المشهورة فيه أن أبا هريرة أحالَ بذلك على الفضل بنِ العباس كذلك رواه البخاري في كتاب الصوم عن سُمَيٍّ والزهري معاً عن أبي بكر بن عبد الرحمان، وكذلك رواه مسلم فيه أيضاً عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمان أنه الفضل فهؤلاء ثلاثة نبلاء ثقاتٌ اتفق الجماعةُ على الاحتجاج بهم، قالُوا: كُلُّهُمْ عن أبي بكر أنَّه قال: إِنه الفضلُ، وُيقوي ذلك أنَّ النسائي روى ذلك مِن طريق أخرى ليس فيها اختلافٌ ولا اضطرابٌ، وهي طريقُ محمد بن عمرو، عن يحيى بنِ عبد الرحمان بن حاطب، وهو ثقةٌ رفيعُ القدر، وهذه غيرُ طريق أبي بكر ووالده عبدِ الرحمان، فصارت أربعَ طرقٍ مجتمعةً متعاضدةً على أن الواسِطَةَ الفضلُ بن العباس، وأما أسامةُ بن زيد، فلم يذكره أحدٌ قط إلا عمرُ بنُ أبي بكر بن عبد الرحمان، عن أبيه أبي بكر
الذي صح عن ثلاثة عنه أنَّه الفضلُ، وبهذا يُعرف وهمُه، فافهم ذلك، وعمر هذا لا يُوازِنُ واحداً من الثلاثة الذين خالفوه عن أبيه، منهم أخوه عبدُ الملك، وكفى به وحدَه معارضاً له راجحاً عليه، فإنه متفق على الاحتجاج به في جميع دواوين الإسلام الستة المشهورة مثل صاحبيه الموافقين له في ذلك عن أبيه أبي بكر بن عبد الرحمان مع شهادة رواية النسائي من الطريق الرابعة عن أبي هريرة، وعُمَرُ هذا ما خرج له أحدٌ من أهل الصحيح، بل ولا مِن أهل السُّنن إلا النسائي وحدَه، وإنما خَرَّجَ له، لأنَّه قصد الاستقصاء لجميعِ طُرُقِ هذا الحديث، فجمع منها ما لم يجمعه سواه، كما أوضحه المِزِّي في " أطرافه " (¬1) حتى رواه عن تسعةٍ وعشرين راوياً، ومنهم مَنْ له فيه طريقانِ، ومنهم من له فيه أكثرُ من ذلِكَ من الطرق، فجاء ذكرُ أسامة في طريق واحدةٍ من هذه الطرق الخمسة، ولم يذكره إلا النَّسائي، فجاء من لا يَعْرِفُ الحديثَ، وكيفية الترجيحِ، والطريق إليه، فظنَّ أن ذِكْرَ أُسامة في الحديث مثل ذكر الفضل سواء، وليس كذلك، فإن ذكر أُسامة في غايةِ الشُّذُوذِ، وذلك مثلُ ما جاء في طرق النسائي هذه أن الحديث عن حفصة وحدَها، أو أنَّه عنها وعن عائشة دُونَ أمِّ سلمة، وهذا شذوذٌ مردود، وإنما الحديثُ عن عائشة وأم سلمة، لم تُذْكرْ حفصةُ إلا في طريق واحدة من هذه الطرق التي استقصاها، وتفرَّد بها النسائي، ولعل سَبَبَ الوَهْمِ في ذكر أسامة مع شذوذه أن الواهِمَ فيه انتقل ذِهنُه إلى قصة ابن عباس في فتواه أنه: " لا ربا إلا في النسيئة "، وأنه لما أُخْبِرَ في ذلك بالنص المخالف لفتواه، وأحال في فتواه إلى أسامة بن زيد، لأنَّ بَيْنَ القِصتين مشابهةً والله أعلم. ¬
وأما مَنْ روى عن أبي بكر بنِ عبدِ الرحمان أن أبا هُريرة قال: أخبرنيه مخبرٌ، فليس يُناقِضُ أن ذلك المخبر هو الفضلُ، وإنما كان هذا الإجمالُ اختصاراً من مالك، لأن الإختلاف في هذه اللفظة إنما جاء عن مالك عن سُمَيٍّ، والدليلُ على أنَّه اختصار من مالك أن البخاري رواه عن عبدِ اللهِ بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن سُمَيٍّ يذكرُ الفضلَ باسمه، فدلَّ عَلى أن سُميّاً رواه كذلك، وأنَّ مالكاً في " الموطأ " أحبَّ الإجمال فيه، أو عَرَضَ له نسيان بعدَ الحفظ أنَّه سمع برواية عمر بن أبي بكر التي فيها ذكر أسامة، فأحبَّ الاحتياطَ بترك تسمية الواسِطَةِ، وبكل حالٍ فالإِجمال لا يُناقِضُ التعيينَ والنسيانَ، واختلافُ الأخبار في التسمية وتركُها جائزٌ على العلماء والثقات. وفي الحديث ما يدُلُّ على إجلال أبي بكر بن عبد الرحمان لأبي هريرة، وكراهيةِ مواجهته بذلك، وعدم المسارعة إلى ما أمره به مروان في ذلك، ولو كان أبو هريرة عندَهم كاذباً متعمداً، لاستحقَّ الإهانةَ العظمى، بل القتل عند بعضِ أهلِ العلم، فقد كَفَّرَ بعضُ العلماء مُتَعَمِّدَ الكذبِ في الدين والتغيير للشريعة، وإن لم يكن مستحلاًّ لذلك، ومن حجته قولُه تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32] وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] خرج من ذلك الكذبُ على غير الله ورسوله. وقوله عليه السلام: " إنَّ كذِبَاً عليَّ لَيْسَ ككَذِبٍ على غيري، إنَّه مَنْ كذبَ عليَّ ولَجَ النَّارَ " (¬1)، وبقي الكاذبُ على اللهِ ورسوله لم يَخْرُجْ بحُجَّةٍ ¬
واضحةٍ، وممن قال بذلك إمامُ الحرمين أبو المعالي الجويني والأمير الحسين. ثم إنَّ الوجه في حديث أبي هُريرة عنِ الفضل أن ذلك كان كذلك في ابتداء فرضِ رمضان، ثم نُسِخَ، ولم يَشْعُرِ الفضلُ، ولا أبو هريرة بالنَّسْخِ حتى بلغ إلى أبي هُريرة. ذكر ذلك ابنُ المنذِرِ مبسوطاًً، ثم الحافظُ ابنُ حَجَر في كتابه " التلخيص الحبير " (¬1) قالا: لأنَّ الصومَ كان واجباً مِن بعدِ العشاء الآخرة من الجماعِ والطعامِ والشرابِ، حتَّى شقَّ ذلك على المسلمين، ووقع منهم مَنْ وَقَع في الحرام، ونزل في ذلك قولُه تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} كما هو مبسوطٌ في كتب الحديثِ والتفسير، فنُسِخَ ذلك وتوابعُه، ولم يعلم أبو هريوة وغيرُه بالنسخ في حُكْم الجنابَةِ، كما لم يَعْلم به الفضلُ بنُ العباس، وَمَن تمسك بحديثه من علماءِ الإسلام، وكُبراء التابعين. فقد ذكر ابنُ عبد البَرِّ في " تمهيده " الذي هُو أحدُ كتب الإِسلام بقاءَ الخلاف في ذلك، ورواه عن إبراهيمَ النَّخَعي، وعُروةَ بن الزبير، وطاووسٍ اليماني، والحسنِ البصري، وسالمِ بن عبد الله بن عُمَرَ بنِ الخطاب، والحسنِ بنِ حَيٍّ. لكن إبراهيمُ النخعيُّ، وعُروَةُ، وطاووس شرطُوا في بُطلان الصومِ أن يَعْلَم بجنابته من الليل، فلا يغتسل حتى يُصْبحَ، ثُمَّ هو مفطر، وسالم، والحسنُ البصريُّ، والحسنُ بنُ حَيٍّ، قالوا: إذا أصبح جُنباً أتمَّ صومه، ثم قضاه. ¬
وذهب عبدُ الملك بن الماجَشون مِن أصحاب مالك إلى هذا المذهب في الحائض أيضاًً. وكأنَّ هؤلاء لم يبلُغْهم الحديث، أو بلَغَهم، ولم يَصِحَّ لهم، أو صحَّ لهم، فاعْتَقَدوا فيه أنَّه في غيرِ رمضانَ جمعاً بينَه وبينَ حديثِ الفَضْل، فقد قال أبو داود في " سننه ": إنما الحديثُ أنَّه كان يُصبح جُنُباً ثم يصوم، وقال: ما أقلَّ مَنْ يقولُ في الحديث: إنَّه كان يصبح جُنُباً في رمضان (¬1). قلت: اختُلِفَ في ذكر رمضانَ في الحديث على مالكٍ، فروى عنه الأذْرَميُّ ذكرَ رمضانَ في الحديث، ولم يروه الأكثرون وربما تقوَّوا على الجمع بينَ الحديثين بما عُلِمَ من قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِرَمَضَانَ، وحثِّه عليه، لكن جمعهم بذلك بينَ الحديثينِ مردودٌ بأنَّ فِعْلَ ذلك في رمضان كان هو السَّبَبَ في سؤالِ عبد الرحمانِ بن الحارث لعائشة، وأمِّ سلمة، فلا يجوزُ خروجُه عن عموم الجواب، لأن العمومَ نص في سننه كما ذلك مبينٌ في الأصول، وإِلَّا لكان الجوابُ أجنبيّاً عن السؤال. وقد دل على ذلك كتابُ الله تعالى لمن تأمل لِقوله تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فأباح الجميعَ مِن الجماع والأكلِ والشُّربِ حتى يتبيَّن الفجر، وإذا أبيح الجماعُ حتَّى يتبينَ الفجرُ، فمعلومٌ ¬
أن الغُسل لا يكونُ إلاَّ بعدَه، ولكن هذا على القولِ برجوع القيدِ ونحوه بعدَ الجُمَلِ الكثيرةِ إلى جميعها، وهو اختيارُ الشافعية (¬1)، وأما على قول الحنفية: إن القيدَ ونحوَه يرجعُ إلى الجملة الأخيرة فقط حتى يَدُلَّ دليلٌ على غيرِ ذلك، فيكون قولُه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} راجعاً (¬2) إلى الأكل والشُّربِ فقط لولا حديثُ عائشة، وأُمِّ سلمة. وأما تقويهم (¬3) بما عُلِمَ مِنْ قيام رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وحثِّه على ذلك، فلم يكن معناه قيامَ الليل كُلِّه، إنما معناه القيامُ فيه، وقد روى النسائيُّ، وابنُ ماجة ثلاثَ طرق، كُلُّها عن سعيدِ بن أبي عَروبة، عن قَتادة، عن زُرارة بن أوْفى، عن سَعْدِ بن هشام، عن عائشةَ أنها قالت: ما قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً حتى الصَّباحِ، ولا قرأ القُرآنَ كُلَّه في ليلةٍ (¬4). وكُلُّ هؤلاء الرُّواة رجالُ الجماعة كلهم. وفي " الصحيحين " (¬5) عن أبي سلمة أنَّه سأل عائشة كيف كانت صلاةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ قالت: ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدُ في رمضانَ ¬
ولا في غيرِه على إحدى عشرة ركعةً يُصلِّي أربعاً، فلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وطُولِهنَّ، ثم يُصَلِّي أربعاً، فلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وطُولهِنَّ، ثُم يُصَلِّي ثلاثاً. وفي رواية في " الصحيحين " عنها: فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذلك قَدْرَ ما يقْرَأُ أَحَدُكُم خَمْسِينَ آيَةً. وفيهما وفي " السنن " عنها: كان إذا دخل العَشْر الآواخِرُ، أَحيا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشدَّ المِئْزَرَ (¬1). فقولها: " وَشَدَّ المِئزَرَ " كناية عن اجتنابِ النساء، ذكره غيرُ واحد، فدلَّ على اختصاص تركه للنساء بالعشرِ الأواخِرِ. وقد جاء مِن حديث عائشة أيضاً ما يَدُلُّ على أنَّه إنما كان يفعل ذلك في آخِرِ اللَّيْلِ بعدَ فراغِهِ من عادته في القيامِ، فروى مسلم والنَّسائي مِن حديثِ زُهير بنِ معاوية، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن الأسودِ، عن عائشة رضي الله عنها أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان ينامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وُيحيي آخِرَه، ثم إنْ كانَ لَهُ حاجَةٌ مِن أهْلِهِ، قَضَى حَاجَتَه، ثم يَنَامُ، فإذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الأوَّلِ، وَثَبَ (¬2). فبان بهذا أن قيامَه - صلى الله عليه وسلم - لِرمضان لم يكن يمنعُه ذلك، ولا يُنافيه، كما أنه لا يمنعُه مِن الأكل والشربِ، وقضاءِ الحاجة، وأن القيامَ الذي كان يَتْرُكُ ذلكَ معه كان يختصُّ بالعشرِ الآواخِرِ. ¬
الفائدة الثانية: قد ذكر بعض أهل العلم أن أبا هريرة من المتأولين من الصحابة، وأما أن ذلك لا يقدح في ديانته ولا ولايته لوجوه
فَوَضحَتِ الحُجَّةُ في وجوبِ متابعة السُّنَّةِ التي جاءت مِن طريقِ عائشة، وأُمُّ سَلَمة، ووضحت الطريقُ إلى حمل أبي هُريرة رضي اللهُ عنه على أحسنِ المحامِل، والحمدُ لله ربِّ العالمين. الفائدة الثانية: قد ذَكرَ بَعْضُ أهلِ العلم أن أبا هريرة في المتأوِّلين من الصحابة على قولِ الشِّيعة والمعتزلة، كُلِّهم لأجل ولايته المدينةَ في بعض أيَّامِ معاوية. والذي عندي أن ذلِكَ لا يقْدَحُ على قولِ الجميع في روايته، ولا في دِيانته، أما أنَّه لا يقْدَح في روايته، فلأنَّ الرجلَ كان متديِّناً متحرِّياً لا يتعمَّدُ ارتكابَ الحرام، وأقصى ما في الباب أنَّه عصى متأوِّلاً، فذلك لا يَقْدَحُ في الرواية، ولا في الاجتهاد على ما يأتي بيانُه في موضِعه إن شاء الله تعالى، وأما أن ذلك لا يقْدَح في دِيانته وولايته فلوجوه: أولها: أن المؤيَّدَ بالله عليه السلامُ قد ذهب إلى جوازِ أخذِ الوِلاية في القضاء من أئمة الجَوْرِ، نص عليه في " الزيادات " (¬1)، وهو الجديدُ من قوليه المعمول عليه، وقد احتج على ذلك في " الزيادات " وأطال، وفي " الجامع الكافي " (¬2) في مذهب الزيدية، عن محمد بن منصور. عن أحمدَ بنِ عيسى: أنَّ الفِسْقَ يُزِيْلُ عن أئمة الجور إمامة الهُدى، ويبقى العَقْدُ الذي يثبُتُ به مِن أحكامهم ما وافق الحقَّ إلى وقتِ ما يتنحَّى قال: لو أن رجلاً لم يُبايَعْ له، ولم يُعْقدْ له، أقام الحدَّ، فمات المحدودُ كان ضامناً، والجائرُ الذي زالت عنه إمامةُ الهُدى إذا فعل مثلَ هذا لم يَضْمَنْ، فلا يتبع ¬
بشيء. انتهى. وقد قرَّره محمدُ بنُ منصورٍ، ولم يُورِدْ عن أحدٍ من أهل البيتِ خلافَه مثل عادتِه إذا اختلفوا، وكذلك مصنف " الجامع الكافي " السيدُ الإمام الحسيني لم يذكر خلافاً بينَ الصدر الأول في ذلك، وذلك هو المشهورُ عن كثير من أئمة الإسلام من الفقهاء الذين هُمْ أئمةُ المعتزلة في الفروع، وقد ثبت أنَّ يوسفَ عليه السلام تولَّى لعزيز مِصْرَ، وثبت أن شرعَ من قبلنا حُجَّةٌ في دينِنَا إذا حكاه اللهُ في كتابنا (¬1)، وفي " الصحيح " أنَّه عليه السلام احتج في القِصَاصِ بقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (¬2) وليس هي في كتاب الله إلاَّ حكايةً عن شرعِ منْ قبلَنَا، واحتجَّ بقولِه تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) وهي في خِطابِ موسى عليه السلام. فإذا ثبت ذلكَ، فمن ¬
الجائزِ أن يتولَّى أبو هُريرة على القضاءِ، والمصالحِ من الأمرِ بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر، وافتقادِ أمر العامة، فلم ينقل بطريقٍ متواترةٍ ولا آحادية أنه فَعَلَ سائِرَ المحرمات في تلك الوِلاية. يُوضحه إن ولايته إنما كانت بعد صُلْحِ الحسن عليه السلامُ، أو أن ذلك يُمْكِنُ، وقد روي عن أبي الدرْداء مثل ذلك (¬1) على إحدى الروايتين في تاريخ وفاته (¬2) مع الاتِّفاقِ على جلالة أبي الدرداء رضي الله عنه. وقد تولَّى أكابرُ الصحابةِ المجمعُ على جلالتِهم في أيَّامِ أبي بكرٍ، وعُمُرَ، وعثمانَ رضِيَ اللهُ عنهم، مثلُ سَلمانَ الفارِسي رأسِ الزهاد، وراهب الإسلام رضيَ اللهُ عنه، ومن لا يُحصى كثرةً، ولا فَرْقَ على أصولِ الشيعة بيْنَ الولاية على القضاء، وأمورِ الدين في زمانهم وزمانِ معاوية، وإنما يفترقُ الحالُ عندهم في مَنْ حَارَبَ عليّاً عليه السلامُ، واجترأ على اللهِ في سَفْكِ الدَّم الحَرامِ. وأما الوِلايةُ على نفس القضاءِ بالحقِّ، والنَّظَر في المصالحِ مع التنزُّهِ من المعاونة على المعاصي، وكراهتِها، وكراهةِ أهلها، فلا فَرْقَ في ذلك بين زمان وزمان، إذا لم تكن الوِلايةُ مأخوذةً عمن له الولاية، ويمكن أن هذه الوِلاية المأخوذة ممن لا وِلايَة له، إنما هِيَ وِلاية لغوية لا شرعية، ومعناها ¬
وثانيها: أن يكون أخذ الولاية على ذلك
أخذ إذنٍ مِن صاحب المملكةِ على القيامِ بعملٍ مِنْ أعمالِ البِرِّ والسعي في أمرٍ مِن أمور الخَيْرِ، وقد تختلِفُ أنظارُ الصالحين، ومقاصِدُ العلماء، وأهل الدين في مثل هذه الأمورِ، وسيأتي لهذا مَزِيدُ بيانٍ في موضع هو أخصُّ به إن شاءَ اللهُ تعالى. وثانيها: أن يكونَ أخذ الولاية على ذلك مِن الحسن بنِ علي عليهما السَّلامُ، فقد كان عليه السَّلام في ذلك الوقت مقيماً في المدينة، ولم يكن أبو هريرة رَضِيَ الله عنه يَجْهَلُ مكانَ الحسنِ عليهِ السَلامُ، ولا يَعْزُبُ عنه ما يجب له من المحبة والحقوق. وكان الحسنُ عليه السلامُ معروفاً بشدة الشفقة على المسلمين والرفقِ بهم، ولم يكن لِيَتْرُكَ أبا هريرة مستمرّاً على فعلٍ محرم في جواره إن وَجَدَ إلى هِدايته سبيلاً، فمع حِرْص الحسن وأبي هريرة على الخير، ومجاورتِهما كيفَ يُسْتَبْعَدُ أن يكونا قد خاضا في ذلك وعملا فيه وجهاً حسناً، ومحملاً صالحاً، وإن ثبت أنَّه تولَّى شيئاً من ذلك في عصر أمير المؤمنين علي عليه السّلامُ أمكنَ مِثْلُ ذلك، والحملُ على السَّلامَةِ متى أمكن، وجبَ لتحريم العملِ على ظنِّ السُّوءِ (¬1) بالمسلمين، ووجوب المدافعة له. فإن قلتَ: هذا خِلافُ الظَّاهِرِ. قلتُ: ليْسَ لِلأفعالِ ظاهرٌ، وإنما يكونُ الظهورُ في الأقوال، مثاله لو رُوي عن أبي هُرَيْرَةَ أنه قال: إني لم آخُذْ ولايةً من الحسن عليه السلامُ، ثم قلنا بعد ذلك: إن مِن الجائز أن يكونَ أخذ منه ولاية، وذكر ذلك تقيةً، فإن كلامَنَا حينئذٍ يكون خلافاً لِظاهر قوله. ¬
وثالثها: أن مجرد الولاية إما أن تكون ظنية أو قطعية
وثالثُها: أنَّ مجرد الولاية إما أن تكون ظنيةً أو قطعية، إن كانت ظنيةً، فله أن يعملَ فيها بمذهبه، أو بمذهب صحابي مجتهدٍ غيره، ولا اعتراضَ عليه في ذلك، وإن كانت قطعيَّةً فلا شكَّ أنها مما لا يُعْلَمُ كِبْرُهُ، ويكون حكمُ مَنْ فعلها مستحلاًّ متأوِّلاً حكمَ المعتزلة عند الزيدية، وحكمَ غيرهم من العلماء المخالفين في نحو هذا مما لا يقطع الوِلاية، ولا قائل بقدحه في الرواية. ورابعها: أنَّه قد نُقِلَ عن ابنِ عباس، وعقيل بن أبي طالب رضيَ الله عنهما ما هو قريبٌ من ذلك مما هو معروف في كتبِ التاريخ، ولم يُنْقلْ عن أحدٍ أنُّه تكلم فيهما إلاُّ بما هما أهلُه من التعظيم، والتَّرَحُّمِ، والترضية. والوجهُ عندي في ذلك ما قدمتُه من أن تلك إما مسائلُ ظنية، فكل مجتهد فيها مصيب، أو لها محامِلُ حسنة، لم نعلمْها، أو قطيعةٌ فليست من الكبائر المعلومة التي تنقطِعُ الولاية بارتكابها والله أعلم. والسيد -أيَّده الله- لم يتعرضْ للكلام في رواية أبي هُريرة، ولا في ولايته رضي الله عنه، ولكن أحببتُ ذكر ذلك خوفاً من الاعتراضِ به، ومحبةً للتقرب إلى الله تعالى، وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذكر هذا الصاحبِ، ونُصرته والقيام بحقه، جعلنا الله تعالى مِن الذين مدحهم في كتابه الكريم بقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]. قال: قال -يعني: الغَزَالي-: وتردَّدَ الشافعي في كون الحسنِ البصري مجتهداً، وزعم الغزاليُّ أن أبا حنيفة لم يكن مجتهداً، قال: لِقصوره في اللغة والحديثٍ، أما اللغةُ، فلِقوله: بأبا قُبَيسٍ (¬1)، وأما الحديثُ، فلأنَّه ¬
أقول: قد شرع السيد يشكك في علم هذين الإمامين الكبيرين، والعلمين الشهيرين - رضي الله تعالى عنهما - والجواب عليه، وأما الاستدلال على ذلك مسالك
كان يروي عن المُضَعَّفِينَ، وما ذاك إلاَّ لِقلةِ علمه بالحديث. أقول: قد شَرَعَ السيدُ -أيَّده الله- يُشَكِّكُ في علم هذين الإمامينِ الكبيرين، والعَلَمَيْنِ الشَّهيرين رضي الله عنهما، وقد استروح السيدُ -أيَّده الله- إلى إسناد ذلك إلى الغزالي، وليس له في ذلك نَفَسٌ، لأنَّه أورده محتجَّاً به، مقرراً له، ولو كان عنده باطلاً، لم يَحْسُنْ منه الاحتجاج بما يعلم أنه باطل، ولوجبَ عليه أن يُشِمَّنَا رائحةَ الاستنكار لذلِك. والجواب عليهِ -أيَّده الله- أن نقول: لا يخلُو إمَّا أن يُنكر السيدُ صدورَ الفتوى عنهما رضيَ الله عنهما، وينْكِرَ نقلَ الخلف والسلف لمذاهبهما في الفقه وخلافهما في العلم (¬1)، أو يُقرَّ بذلِكَ. إن أنكره، أنكر الضرورةَ، ولم يكن لمكالمته في ذلك صورة، وإن لم يُنكره، فهو يَدُلُّ على اجتهادِهما. ولنا في الاستدلال به على ذلك مسالك: المسلك الأول: أنَّه ثبت بالتواتُرِ فضلُهما وورعُهما وعدالتُهما وأمانتُهما، ولو أفتيا بغيرِ علم وتأهَّلا لذلك، وَلَيْسا لهُ بأهلٍ، لكان جرحاً في عدالتهما، وقدحاً في دِيانتهما، ووصماً في عقلهما ومُروءتهما، لأن تعاطيَ الإنسان لما لا يُحْسِنُه، ودعواه لما لا يعلمه مِن عادات السُّفهاء، ومَنْ لا حياءَ له، ولا مُروءةَ مِن أهل الخِسَّة والدَّناءة، ووجوه مناقبهما مصونةٌ عن ابتذالِها، وتسويدِها بهذه الوَصْمة الشنيعة. ¬
الحسلك الثاني: أنه رواية العلماء لمذاهبهما
المسلك الثاني: أنَّ رواية العُلماءِ لمذاهبهما وتدوينَها في كُتُبِ الهداية، وخزائنِ الإِسلام إلى يومنا هذا يَدُلُّ على أنهم قد عرَفُوا اجتهادَهُما، لأنَّه لا يَحِلُّ لهم روايةُ مذاهبهما إلاَّ بعدَ المعرفة لعلمهما (¬1)، لأن إيهامَ ذلك مِن غير معرفة محرم، لما يتركَّب (¬2) عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها كانخرامِ الإجماعِ بخلافهما، والمختَلَفِ فيها، كجواز تقليدهما بعدَ موتهما. المسلك الثالث: أن نقول: الإجماع منعقدٌ على اجتهادهما، فإن خالف في ذلك مخالف، فقد انعقد الإجماعُ بعدَ موته على ذلك، وإنما قلنا به، لأن أقوالَهما متداوَلَة بين العلماء الأعلام، سائرةٌ في مملكة الإسلام من الشرق والغرب واليمن والشام من عصر التابعين مِن سنة خمسين ومئة إلى يومِ الناس هذا، لا يُنْكَرُ على مَنْ يرويها، ولا على من يعتمِدُها، فالمسلمون بينَ عامل عليها، وساكتٍ عن الإنكار على مَنْ يَعْمَلُ عليها، وهذه الطريقة هي أكبرُ ما يثبتُ به الإجماع. المسلك الرابع: أنا قد قدمنا نصوصَ كثيرٍ من الأئمة العلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهادِ العالم هي (¬3) انتصابُه للفتيا، ورجوعُ المسلمين إِليه مِن غير نكيرٍ من العلماء والفُضلاء، نصَّ على ذلك المنصورُ بالله في " الصفوة " وغيره من علماء العِترة، والشيخُ أبو الحسين في " المعتمد " (¬4)، وغيره من الشيوخ، وهذا في سكوت سائرِ العلماء عن النَّكير على المفتي، فكيف بسكوتِ رُكْن الإسلام، وعصابةٍ الإيمان من نُبلاء ¬
قوله: وأبو حنيفة هو الإمام الأعظم الذي طبق مذهبه أكثر العالم
التابعين، وسادات المسلمين الذين هُمْ مِن خير القرون بنصِّ سيدِ المرسلين فقد كانا رضيَ اللهُ عنهما معاصِريْنِ لذلك الطراز الأولِ كما ستأتي الإشارةُ إليه إن شاء الله تعالى. فالعجب كُلُّه من ترجيح السَّيِّدِ لِكلام الغزّالي على غيرِه من علماء العدلِ والتوحيد، بل على ما انطبق عليه إجماعُ المسلمين، ومضى عليه عملُ المؤمنين، وقد قدح السَّيِّدُ في رواية المبتدعة، وكفَّرَ الغزّالي، ونسبه إلى تعمد الكفر، وحرم الروايةَ عنه، وعن أمثالِه، فلما بلغ إلى هذا الموضع، أنساه حُبُّ التعسيرِ للاجتهاد قواعدَه المقررة، وأدلتَه المحررة، فاحتج بكلام من ليس عنده بحجةٍ على ستْرِ ما هو أظهرُ من الشمس مِن علم الحسن، وأبي حنيفة. وأبو حنيفة هو الإمام الأعظم الذي طَبَّقَ مذهَبُهُ (¬1) أكثرَ العالم، وفي كلام الزَّمَخْشَرِيّ رحمه الله: وَتَّدَ اللهُ الأرضَ بالأعلامِ المُنيفة، كما وَطَّدَ الحنيفية بعلومِ أبي حنيفة. وفي كلامه رضي الله عنه: الجِلَّةُ الحنفية أزِمَّةُ (¬2) الملةِ الحنيفية، الجودُ والحِلم حاتمي، أَحْنَفِيّ (¬3)، والدين والعلم حنيفي وحَنَفِي. ¬
وقد عقد الحاكم (¬1) رحمه الله فصلاً في فضل أبي حنيفة وعلمِه، وذكر أنَّه حاز ثلاثةَ أرباع العلم، وشارك الناسَ في الرُّبْعِ الآخر، فينبغي من السَّيِّد -أيده الله- مطالعة كتب الرجال، والنظر في تراجم هذين البحرين الزاخرين والإمامين الكبيريِن، فقد أودع العُلَمَاءُ في كتب الرِّجال من مناقبهما ما يشفي العليلَ، وَيرْوِي الغليلَ، بل قد صنف أئمةُ هذا العلمِ كتباً مستقِلَّة مفردة لتعريف فضائلهما، وذكرِ سَعة علومهما، وسائرِ ما فيهما (¬2) مثل كتاب " شقائِقِ النعمان في مناقب النُّعمان " (¬3) وكتاب " الزخرف القصري في مناقب الحسن البصري " (¬4). ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلاً، ومن حِلْيةِ العلم عاطلاً، ما تطابقت جِبَالُ العلم من الحنفية، وشيوخِ الاعتزال كأبي عليٍّ، وأبي هاشمٍ، ومَن في طبقتهما مِن الأكابر، والقاضي أبي يوسُف، ومحمد بن الحسن الشَّيْباني، والطحاويِّ، وأبي الحسن الكَرْخيِّ، وأبي الحُسين البَصْري والعلامة الزَّمخْشَري وأمثالِهم وأضعافِهم على الاشتغال بمذهبه، والاعتزاءِ (¬5) إليه، وعدمِ الإنكار على منْ أفتى أو حكم به، فعلماءُ الطائفة الحنفية في الهند، والشَّامِ، ومِصْر، والعِرَاقيْنِ، واليمن، والجزيرة، ¬
قوله: وأما ما قدح به على الإمام أبي حنيفة من عدم العلم بالعربية
والحرمَيْنِ منذ مئةٍ وخمسين مِن الهجرة إلى هذا التاريخِ يزيد على سِتِّ مئة سنة فيهم ألوفٌ لا ينحصِرُون، وعوالم لا يُعَدُّون (¬1) من أهل العلم والفتوى والورع والتقوى، فكيف نستقرِبُ أنهم تطابَقُوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرِفُ أن الباء تجر ما بعدَها، ولا يدري ما يَخْرُجُ من رأسه من حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وأما ما قُدِحَ به على الإمام أبي حنيفة مِن عدم العِلْمِ بالعربية، فلا شَكَّ أن هذا كلامُ متحاملٍ متنكِّب عن وجوهِ المحامل، وقد كان الإمامُ أبو حنيفة رحمه الله مِن أهلِ اللسان القويمة، واللغة الفَصيحة، فقد أدركَ زمانَ العرب، وعاصرَ جريراً، والفَرَزْدَق، ورأى أنسَ بن مالك خادمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين (¬2)، وقد تُوفِّي أنسٌ رضي الله عنه سنةَ ثلاثٍ وتسعين من الهِجرة، والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه في المهد، وإنما رآه بعدَ التمييز، يَدُلُّ عليه أن أبا حنيفة كان مِن المعمَّرِينَ، وتأخرت وفاتُه إلى خمسين ومئة، والظاهر أنه جاوزَ التسعين في العمر والله أعلم. ذكره أبو طالب عليه السلام في كتاب " الأمالي "، وهذا يقتضي أنَّه بلغ الحلْمَ، وأدرك بعدَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدر الثمانين سنة، لأنَّه عليه السلام مات وقد مضى عشر من الهجرة، فهذا يدُلُّ على تقدم أبي حنيفة، وإدراكه زمانَ العرب، وهو أقدمُ الأئمة وأكبرهُم سنّاً، فهذا مالك على تقدُّمه توفي بعدَه بنحو ثلاثين سنة. ولا شكَّ أن تغير اللسانِ في ذلك الزمانِ كان يسيراً، وأنه لم يشتغِلْ ذلك الزمانَ بعلم الأدبِ أحدٌ من ¬
قوله: وأما قوله: بأبا قبيس، فالجواب عنه من وجوه
أفاضِلِ المسلمين كما حقَّقَ ذلك أبو السعادات ابنُ الأثير في ديباجة كتاب " النهاية " وكما لا يَخْفي ذلك على من له أُنْس بِعِلْمِ التاريخ. فلو أوجبنا قِرَاءةَ العربيةِ على أبي حنيفة، لزم أن لا يُحْتَجَّ بشعر جريرٍ والفَرَزْدق، ولا شكَّ أن العناية بالعربية كانت قليلةً في ذلك الزمانِ مِن علماء التابعين، وإنما اشتدت عنايةُ أهلِ العلم به بعدَ ظهور الاختلالِ الكثير، وقد قال الأمير الحسين بن محمد رضي الله عنه بأغربَ من هذا، قال: إن الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام عربيٌّ اللسان، حجازيُّ اللهجةِ من غيرِ قراءة، مع أنَّه عليه السلامُ توفي قريباً مِن رأس ثلاث مئة، فأما سنة ثمانين من الهجرة، فليس أحد من أهل المعرفة والتمييز يعتقِدُ أن أحداً من التابعين في ذلك الزمان قرأ كتاباً في النحو، ولا وَقفَ بينَ يدي شيخ كعلقَمة بنِ قَيْس، وأبي مسلم الخَوْلاني، ومسروقٍ، والأجْدعِ، وجُبيرِ بن نُفَيْرٍ، وكَعْب الأحبار ولا مَنْ بَعْدَ هؤلاء من التابعين كالحسنِ، وأبي الشَّعْثَاءِ، وزينِ العابدين، وإبراهيم التَّيْمي، والنَّخعي، وسعيدِ بنِ جبير، وطاووس وعطاء، ومجاهد، والشعبي، وأضرابِهم، فما خُصَّ أبو حنيفة بوجوب تعلُّم العربية، وفي أيِّ المصنفات يقرأ في ذلك الزمان. وأما قوله: بأبا قُبَيْسٍ، فالجوابُ عنه من وجوه: الأول: إن هذا يحتاجُ إلى طريق صحيحة، والسَّيِّدُ قد شدَّد علينا في نسبة الصِّحاحِ إلى أهلها، مع اشتهارِ سماعها والمحافظة على ضبطها، فكيف بهذه الرواية!!. الثاني: أنَّه إن ثَبَتَ بطريقٍ صحيحة، فإنه لمُ يَشْتَهِر ولم يَصِحَّ كصِحة الفتيا عنه، وتواترِ علمه، وليس يُقْدَحُ في المعلومِ بالمظنون (¬1). ¬
الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صح عنه بطريق معلومة لم يقدح به
الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صحَّ عنه بطريقٍ معلومة لم يَقْدَح به، لأنه ليس بلحنٍ، بل هو لغةٌ صحيحة حكاها الفَرّاء عن بعض العرب، وأنشد: إنَّ أبَاهَا وأبا أبَاهَا ... قَدْ بلغا في المَجْدِ غَايَتَاهَا (¬1) الرابع: سَلَّمنا أن هذا لحنٌ لا وجه له، فإن كثيراً ممن يعرِف العربية قد يتعمد اللحن، وقد يتكلم العربي بالعجمية، ولا يقدح هذا في عربيته، وهذا مشهور. وأما قدحُه عليه بالرواية عن المُضَعَّفِينَ، وقوله: إن ذلك ليس إلاَّ لقلة معرفته بالحديث، فهو وهمٌ فاحِشٌ، ولا يتكلم بهذا منصفٌ، والجوابُ عن ذلك يتبيَّن بذكرِ محامل: المحمل الأول: أنَّه قد عُلِمَ من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يقبل المجهولَ (¬2)، وإلى ذلك ذهب كثيرٌ من العلماء كما قدمناه، ولا شكُّ ¬
أنَّهم إنما يقبلونه حيثُ لا يُعارِضُه حديث الثقةِ المعلومِ العدالة، ولكنهم يَرَوْن قبولَ حديثه، حيث لا يُوجَدُ له معارِضٌ أقوى منه، ولا شَكَّ أن الغالبَ على أهل الإسلام في ذلك الزمان العدالة، ويشهد لذلك الحديثُ الثابتُ المشهور " خَيْرُكُمُ القَرْن الَّذي أَنَا فِيهم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونهُمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يلُونهُم، ثُمَّ يَفْشُو الكذبُ مِنْ بَعْدُ " (¬1) وقد تقدم. وقد كان علي عليه السلامُ يستحلِف بعضُ الرُّواةِ، فإذا حَلَفَ له، قبلَهُ (¬2). وهذا إنما يكونُ في حديثٍ منْ فيهِ لينٌ، ولهذا لم يسْتَحْلِفِ المِقْدَادَ لمَّا أخبره بحُكْمِ المَذْي (¬3)، وقد روى الحافظُ ابنُ كثير في جزء جمعه في أحاديث السباق عن أحمد بن حَنْبل إنَّه كان يقول بالعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب أصحُّ منه (¬4)، وذلك على سبيل الاحتياط، لا على سبيلِ ¬
الإيجاب، ولا على سبيلِ الجهل بضعفِ الحديث. قال الحافظ أبو عبد الله بن مَنْدة: إن أبا داود يُخْرِج الإِسناد الضعيفَ إذا لم يَجِدْ في الباب غيره، لأنَّه عنده أقوى مِن رأي الرجال. انتهى. وفي هذا شهادةٌ واضحة أن روايةَ الحديثِ الضعيف لَيْسَتْ مِن قبيل الجهلِ بضعفِ الحديث (¬1). فأحمدُ، وأبو داود من جِلَّة علماء الأثر بلا مدافعةٍ (¬2)، وهذا الحديثُ الضعيفُ الذي ذكروه ليسَ حديثَ الكذابين، ¬
المحمل الثاني: أن يكون ضعف أولئك الرواة الذين يروي عنهم مختلفا فيه، وهو يعلم وجه التضعيف، وحجة المضعف، وهذا شيء مشهور، وقد ذكر أهل العلم أولئك الضعفاء
ولا حديثَ أهلِ الكبائر، فذلك لا يستحقُّ اسمَ الضَّعْف (¬1)، إنما يُقال فيه: إنَّه باطل أو موضوع أو نحو (¬2) ذلك، وإنما الضعيفُ ما في حِفظ راويه شيء مما ينجبرُ بالشَّواهد والمتابعات على ما هو مقرَّرٌ في علوم الحديثِ، وعامةُ التضعيف إنما يكون بقلَّةِ الحفظ، وكثرة الوهم وللمحدِّثين في ذلِكَ تشديد كثير لا يُوَافقُونَ عليه، فإن المعتبرَ عند الأصوليين أن يكون وَهْمُ الراوي أكثر من إصابته على قولٍ، واختاره المنصورُ بالله عليه السلامُ، وعبدُ اللهِ بن زيد رحمه الله، أو يكون مساوياً على قول الأكثرين، وأما إذا كان وهمه أقل، فإنه يجب قبولُه عند الأصوليين، وليس كذلك مذهبُ المحدثين، فإنهم يَقْدَحُون بالوهم في قدر عشرين حديثاً مع الإصابة في مئتي حديث أو أكثر، بل منهم من يغلُو ويُشدِّدُ، فيقدح في مَنْ وَهِمَ في قدر العشرة الأحاديث مع الإصابة في ألوفٍ من الأحاديث، ولقد أخطأ بعضُ الثقات في حديث واحدٍ، فقال له شعبة: إنْ سمعْتُكَ تروي مثل هذا مرةً ثانية، تركتُ حديثك ونحو ذلك، فهذا هو أكثَرُ الحديثِ الضعيفِ، وهذا وأمثالُه مِنْ أسباب التضعيفِ لا يَقْدَحُ عند الأصوليين، والمسألة مبيَّنَةٌ في كتب علوم الحديث. فعلى هذا الوجه تكون روايةُ أبي حنيفة عن الضعفاء مذهباً واختياراً، لا جهلاً وجِزافاً. المحمل الثاني: أن يكون ضعفُ أولئك الرُّواة الذين يروي عنهم مختلَفاً فيه، وهو يعلم وجه التضعيفِ، وحجةَ المضعِّف، ويكونُ مذهبُه أن ذلك لا يقتضي الضعفَ، وقد جرى ذلك لِغيره من العُلماء والحفاظ، فهذان قُطبا علوم الزيدية الهادي، والقاسم عليهما السلامُ يرويانِ عن ¬
إسماعيل بن أبي أُوَيْس (¬1) وهو مختلَفٌ فيه، وذلك محمولٌ على أنهما اختارا ما اختاره الجماهيرُ من توثيقه، وكذلك الشافعيُّ يروي عن إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وُيوثقه، وقد خالفه الأكثرون في ذلك، وقال ابنُ عَبْدِ البر في " تمهيده ": أجمعوا على تجريح ابن أبي يحيى (¬2). قلت: أما الإجماعُ على تجريحه، فلا، فقد وافق الشافعيُّ على توثيقه أربعةٌ من الحفاظ، وهم ابنُ جُريجٍ، وحمدانُ بن محمد الأصبَهاني، وابنُ عدي، وابنُ عقدة الحافظ الكبير، ولكن تضعيفَه قولُ الجماهير بلا مِرية (¬3). وكذلك روى الشافعيُّ عن أبي خالد الزَّنْجي (¬4) المكي، وهو ¬
المحمل الثالث: أن يكون إنما روى عن أولئك، وذكر حديثهم على المتابعة والاستشهاد
مختلَف في توثيقه، وكذلك أحمدُ بن حَنْبل يروي عن عامر بن صالح بن عبد الله بن عُروة بن الزُّبيرِ بن العَوَّام (¬1)، وانفرد بتوثيقه حتى قال أبو داود: سمعتُ يحيى بن معين يقول: جُنَّ أحمدُ، يُحدِّث عن عامرِ بنِ صالح! وقال الذهبي: لعل أحمدَ ما روى عن أوهى منه، وإنما روى عنه أحمدُ، لأنه لم يكن عنده يكْذِبُ، وكان عالماً بالفقه والعلم والحديث والنسب وأيامِ العرب، وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً. وكذلك أهلُ الصَّحاح يروون عمن هو مختلَفٌ فيه، وهذا شيء مشهور، وقد ذكر أهلُ العلم أولئك الضعفاءَ المختلَفَ فيهم، واستقصَوْا الكلامَ فيهم، واستوعبوا حُجَجَ الفريقينِ بما إذا نظر فيه الطالبُ، لاح له وجهُ الصواب، وتمكَّن من الترجيح والاختيار (¬2). المحمل الثالث. أن يكونَ إنما روى عن أولئك، وذكر حديثَهم على سبيلِ المتابعة والاستشهاد، وقد اعتمد على غيرِ حديثهم من عمومٍ أو حديثٍ أو قياسٍ أو استدلالٍ، أو عملٍ بالإباحة الأصلية مثل ما صنع الهادي والقاسم عليهما السلامُ في الاحتجاج بحديث ابن أبي ضميرة (¬3)، ¬
وأبي هارون العبدي (¬1). وأهلُ الرواية مجمعون على تجريحهما. وكذلك مالك، فإنه روى عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، قال ابنُ عبد البر المالكي المجتهد في " تمهيده ": كان مجمعاً على تجريحه، ولم يرو عنه مالك إلاَّ حديثاً واحداً في وضع الأكف على الأكف (¬2) ¬
المحمل الرابع: أن يكون ذلك على طريقة الحفاظ الكبار من أئمة الأثر
وقد رواه من طريق صحيحة، فرواه في " الموطأ " (¬1) عن أبي حازم التابعي الجليل، عن سهل بن سعد الصحابي رضي الله عنه. وقد أخرج مسلم في " الصحيح " عن جماعة من الضعفاء المتوسطين على جِهَةِ المتابَعَةِ والاعتبار (¬2)، وربما اكتفى بالإِسناد إليهم إذا كان إسنادُهم عالياً، وكان الحديثُ معروفاً عند علماء الأثرِ بإسنادٍ نازلٍ من طريق الثقات، روى ذلك النَّواوي عن مسلم تنصيصاً (¬3). المحمل الرابع: أن يكونَ ذلك على طريقه الحُفَّاظِ الكبارِ من أئمة الأثر، فإنهم يحفظونَ الحديثَ الصحيحَ والضعيفَ لأجلِ التبيين والتحذيرِ من العمل بالضعيف، وذلك مشهورٌ عنهم. وفي الرواية المشهورة عن البُخاري أنَّه قال: أَحْفَظُ ثلاثَ مئة ألفٍ حديث، منها مئةُ ألفٍ صحاح، ومنها مائتا ألف غير صحاح. وقال إسحاق بنُ راهَويه: أحفظ مكانَ مئةِ ألف حديثٍ كأنِّي أنْظُرُ إليها، وأحفظُ سبعينَ ألفَ حديث صحيحة عن ظهر قلبي، وأحفظُ أربعةَ ¬
آلافِ حديث مُزَوَّرَة، فقيل له في ذلك، فقال: لأجلِ إذا مَرَّ بي حديثٌ في الأحاديث الصحيحة منها (¬1) فليتُه فلياً. إذا عرفتَ هذا، فلا ريبَ أن الإمام أبا حنيفة كان أضعف الأئمة حديثاًً (¬2)، وذلك لأمرينِ أحدُهما: قبولُه المجهول، وثانيهما: كِبَرُ سِنِّهِ فإنه ما طلب العلم إلا بعدَ أن شاب وأسن، وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا شاخ وأسنَّ، تناقص حفظه، وقلَّّ ضبطُه، فكيف ممن لم يَطْلُبِ العلمَ إلَّا بعد (¬3) مجاوزةِ حدِّ الكهولة، وهذا نقصانٌ عن مرتبة الكمالِ لا سقوطٌ إلى مراتبِ الجهال، ولا نكارةَ في ذلك، وما زال النَّاسُ متفاضِلِينَ في الحفظ والإتقان. وقد كان حديثُ الشافعي دونَ حديث مالكٍ في الصحة، ورأيُ الشافعي فوقَ رأيِ مالكٍ في القوة. وقد كان حديثُ ابن المسيِّبِ، ومحمد بن سِيرين، وإبراهيم النَّخَعِي أصحَّ وأقوى من حديثِ عطاء، والحسن، وأبي قِلابة، وأبي العالية، وكان ابن المُسيِّب أصحَّ الجماعةِ حديثاًً من غير قدح في عِلْمِ مَنْ هو دُونَه. وليس الحفظُ على انفراده يكفي في التفضيل، فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظَ الصحابة على الإِطلاق، وليس يقال: إنَّه أفقههم على الإِطلاق، والمناقبُ مواهبُ يَهَبُ اللهُ منها ما شاء لمن شاء، فبهذه الجملةِ تبين لك أنه لا حُجَّةَ على تجهيل هذا الإِمام الكبيرِ الشأنِ بروايته عن بعض الضعفاء، ولا بقوله: " بأبا قبيس ". ¬
قال السيد: وقال الرازي: إن لم نقل بجواز تقليد الميت، أشكل الأمر، لأنه ليس في زماننا مجتهد، وذكروا أن الغزالى لم يبلغ مرتبة الاجتهاد
والعجب أن السَّيِّدَ -أيَّدَه الله- مستمرٌّ على رواية الخلاف عن الحسن، وأبي حنيفة، فإن كان لا يعتقِدُ اجتهادَهما، فذلك لا يَحِلُّ مِن غير بيان، وإن كان يعتقدُ اجتهادهما، وإنما إراد أن يُوَعِّرَ مسالِك العِلْمِ، ويُشكِّكَ فيه على مَنْ أراد الاجتهاد، فهذا لا يليق بأهلِ الورع والدِّيانة، ولا يَصْلُحُ من أرباب التقوى والأمانة. قال: وقال الرَازي: إن لم نَقُلْ بجوازِ تقليدِ الميت، أشكل الأمر، لأنه ليس في زمانِنَا مجتهد، فأخرج نفسه عن رتبة الاجتهاد، وذكروا أن الغزَّاليَّ لم يبلغ مرتبةَ الاجتهاد، وممن ذكر ذلك ابنُ خَلِّكَانَ في " تاريخه " وغيرُه. أقول: كلامُ السَّيِّدِ هذا يشتملُ على الاستدلال على صعوبةِ الاجتهاد بعدم اجتهاد الرّازي والغَزّالي. والجوابُ عليه من وجوه: الألول: إلزامُ السَّيِّدِ ما يقتضيه كلامُه، وذلك إنهما عنده لم يبلغا مرتبة الإسلام فضلاً عن مرتبة الاجتهاد، فإن كان يُريد أن يُجَهِّل سائرَ علماء المسلمين قياساً على تجهيلهما، لزمه أيضاًً أن يُكفِّرَ سائِرَ علماءِ المسلمين قياساً على تكفيرهما، وإن كان يقولُ: إنَّه لا يلزم مِن كفرهما أن يكون غيرهُما كافراً، قلنا: وكذلك لا يلزمُ مِن جهلهما أن يكونَ غيرهُما جاهلاً. الثاني: أنَّه لا ملازمةَ بين دعواهما، لعدم الاجتهاد، وتعسُّرِ الاجتهاد، لأنَّه لا مانع (¬1) أن يدَّعِيَا جهلَ أدِلَّةِ الأحكام الشرعيةِ مع ¬
الثالث: أن السيد ذكر في كتابه أنهما غير محققين ولا موفقين بهذا اللفظ، ثم احتج على تعسر الاجتهاد بجهلهما
معرفتهما لها، كما أنَّهما عند السَّيِّد ادَّعيا جهلَ أدلة الإسلامِ الجلية مع معرفتهما لها، وذلك لأنهما عندَ السَّيِّد من أهل العِناد، وتعمدِ الباطل، فلا يُصدَّقان فيما قالاه، فربما قالا ذلك لِغرضٍ دنيوي، ومَقْصِدٍ غيرِ صالح على اعتقاد السَّيِّد فيهما. الثالث: إن السيدَ ذكر في كتابه أنهما غيرُ محققين، ولا مُوَفَّقَيْنِ بهذا اللفظ، ثم احتج على تعسُّرِ الاجتهاد بجهلهما، وليس يحتج على تعسُّرِ العِلْمِ بجهلِ مَنْ لَيْسَ بموفَّقٍ، ولا محقق، لأنَّه يجوزُ أنه إنما لم يجتهِدْ لعدمِ تحقيقه، وقِلَّةِ توفيقه، لا لِتعسُّرِ الاجتهاد في نفسه، كما أن قليلَ التوفيق ربما تركَ الصلاةَ، وأخلَّ بالواجبات، لقلة توفيقه، لا لمشقة ما شرعه الله سبحانَه لعباده. الرابع: وهو التحقيق -: وهو أن نقول: لا ريبَ عند كُلِّ منصفٍ ممن له معرفةٌ بتصانيفِ هذين الرجلين، وذوقٌ في معرفةِ العلوم، ودِرْيَةٌ في أساليبِ الخصومِ أنهما مِن أهلِ التمكن من الاجتهاد، والقُدرةِ على التبحُّرِ في العلوم، ومن وقف على كلاماتِهما في مصنفاتهما في الأصولِ والمنطق، ورأى غوصَهما على خفيَّاتِ المعاني لا سيما ابن الخطيب الرازي في " نهاية العقول " و" الملخص "، و" المحصل "، و" المحصول "، (¬1)، و" شرح إشارات ابن سينا " في علم المنطق، وتفسيره المسمى بـ " مفاتح الغيب " (¬2) وسائر مصنفاتهما. ثم غلب على ¬
ظنه أنهما كان يَعجِزَانِ عن معرفة حكم الماءِ إذا تغيَّر بالزعفرانِ، هل يكونُ طاهراً مطهراً أو يكون طاهراً غير مطهر، وهل الدم والقيء من نواقض الوضوء، أو ليسا مِن نواقضه؟ وهل يجبُ استقبالُ عينِ الكعبة، أو يجبُ استقبال الجِهَةِ؟ وهل الاعتدالُ بعدَ الركوع والسجود واجبٌ أو مسنون؟ وهل القصرُ في السفر واجب أو رخصة؟ ونحو ذلك من المسائل الفروعية، أو أنهما كانا لا يعرفانِ كيفيةَ الترجيح عند تعارضِ الأدِلَّةِ، ونحو ذلك من المسائل الأصولية، فهو بَهيمِيُّ الفَهْمِ بلا شك. وإذا كان الاجتهادُ متعسِّراً على صاحبِ " الملخص "، و" المحصل " و" المحصول " الذي يتلبَّد في فهم معانيه (¬1) كثيرٌ من كُبرَاء علمِ المعقول، فكيف يسهل الاجتهادُ لأبي بكر، وعمر، وعثمانَ بن عفان، وعثمان بن مظعون، والمقدادِ، وجابرِ بنِ سَمُرة، وعائشة، وأمثالهم ممن نقِلَتْ عنه الفُتيا من الصحابة الذين لم يرتاضوا على النظرِ، ولا تدرَّبوا في ترتيب الأدلة، وتمهيد القواعد، وتهذيبِ الكلام في شرائط القياس، وكيفيةِ الاستدلال؟ ومن نظر إلى كلامِ كثيرٍ من الصحابة في القياس في مسائل ¬
ويلتحق بهذا فائدة: وهي أنه لا شك أن هذين الرجلين من كبار أهل العلوم العقلية والنقلية النظرية، ورؤوس الطائفة الأشعرية
الفرائض، وتردُّدِهم في ذلك، علم أن الخوضَ في تلك الأمورِ أسهلُ على أهل الدِّرْيَةِ بعلوم النظر، والمهارة في البحث عن الغوامض. فإن قلتَ: فإذا كانا متمكنينِ من الاجتهاد، فَلِمَ تركاه واختارا التقليد؟ قلت: جوابُ هذا غيرُ متجه، لأن مَنْ ترك شيئاً من الفضائل، لم يجب القطعُ بعجزه عنه، ولا يجبُ على من ادَّعى أنَّه يظن قدرتَه على ذلك إظهارُ الدليل على الوجه في تركِ ذلك الفعل، ألا ترى أن كثيراً من الصحابة والعرب لم يكونوا مجتهدينَ مع تمكُّنِهِم من ذلك وسهولته عليهم، وهذا مما لا يحتاجُ إلى مناظرة. فأما الاحتمالاتُ، فهي كثيرة، فمنها أن يتركا ذلك، لأن التقليدَ أسهلُ، وقد رأينا من يختارُ التقليدَ لذلك، فقد حدثني الفقيه علي بنُ عبد الله بن أبي الخير -رحمه الله- أنَّه يكره النظرَ في كتب أدلةِ الأحكام، قال -رحمه الله-: لأنَّه إذا عَرَفَ الدليلَ اعتقد أنَّه يجبُ عليه العمل به، ويَحْرُمُ عليه التقليدُ، وهو يُحِبُّ أن يبقى في سَعَةٍ، ولا شكَّ أن هذَا الاختيارَ جائز عقلاً وشرعاً، وإن كان فيه قصورٌ في الهِمَّة، ومخالفة للاقتداء (¬1) بخير هذه الأمة. ويلتحق بهذا فائدة: وهي أنَّه لا شك أن هذين الرجلين مِن كبار أهلِ العلومِ العقلية النظرية (¬2)، ورؤوسِ الطائفة الأشعريَّةِ، ولهما الباعُ الطويلُ في التمكن من إيرادِ الشبه العويصة على جميعِ الطوائف حتَّى على ¬
أصحابهما الأشاعرة، ولكن بركات العِلم أدركتهما، فإنا نرجو صحة ما رُوِيَ من توبتهما، فقد صرَّح الغزالي في " المنقذ مِن الضلال " (¬1) برجوعه عن الخوض في علم الكلام إلى مثل كلام أهلِ التصوف في الإقبال على الله تعالى بالكلية، وحصولِ اليقين بذلك، وفي خطبة " المَقْصِد الأسْنى " ما يقتضي أنَّه مُتَّقٍ في إظهار الحقِّ في بعض الأمور، وروى الإمامُ المهدي محمد بن مُطْهر، والأميرُ الحسين بن محمد عن الغَزّالي أنَّه تابَ مِن مذهبه، وترحَّما عليه، وترحم عليه حميدُ المحلي، وحكى نحو ما تقدَّم من توبته. وأما الرازي، فصرحَ في وصيته بالرجوع عن (¬2) جميع ما أودعه مصنفاتِه إلا ما نطق به القرآنُ والسنةُ المُجْمَعُ على صحتها، وأنه يدينُ الله تعالى بما دانه به رسولُه (¬3) - صلى الله عليه وسلم -، وفي شعره ما يُلِمُّ بهذه العقيدة الجميلة كقوله: العِلْمُ لِلرّحْمَانِ جَلَّ جَلالُهُ ... وسِوَاهُ في جَهَلاتِهِ يَتَغَمْغَمُ (¬4) مَا لِلتُّرَابِ ولِلعُلُومِ وَإنَّمَا ... يسْعَى ليعْلَمَ أنّهُ لا يَعْلَمُ ¬
قال السيد: وذكر بعض فقهاء الشافعية تعسر الاجتهاد
وقولِه في أبياتٍ له: نِهَايَةُ إقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وَأكْثَرُ سَعْيِ العَالمينَ ضَلاَلُ (¬1) وفي معنى البيتينِ الأوَّلَيْنِ قولُ الآخر: وَكَمْ في البَرِيَّةِ مِنْ عَالِمٍ ... قَوِيِّ الجِدَالِ شَدِيدِ الكَلِمْ سَعَى في العُلُومِ فلما يُفِدْ ... سِوى عِلْمِهِ أنَّهُ ما عَلِمْ وهذا مِنْ بَرَكاتِ العِلْمِ وخاتِمَةِ الخيرِ. والله أعلم. قال: وذكر بعضُ فقهاء الشافعية تعسُّرَ الاجتهادِ حتى قال: وقد كانوا يرون أن درجة الاجتهاد في زمانهم مفقودة، يعني أصحاب الشافعي المتقدِّمين، وذكر منهم القَفَّالَ، وأبا حامدٍ الإسفَراييني، وأبا إسحاقَ الإِسفراييني، وأبا إسحاق المروزي، والجُويني قال: وقال الرافعيُّ: القومُ كالمجمعين على أنَّه لا مجتهدَ اليومَ، وحُكِيَ عن المحاملي أنَّه قال: ما أعلمُ على وجهِ الأرض مجتهداً. زادنا اللهُ هدى، وجعلنا ممن يتجنَّبُ الرَّدى، ولا يُزكِّي على الله أحداً، كما جاء في الحديث مسنداً. أقول: هذه الروايات عن بعض أصحابِ الشافعي قد جعلها السَّيدُ لِكلامه تماماً، ولاحتجاجه ختاماً، وقد استملح هذه الحكاياتِ، واستروح إلى هذه الرواياتِ حِرصاً على توعيرِ مسالك العلمِ، وسدِّ أبوابِ ¬
الاجتهاد، ولم يُبَال السَّيِّدُ بما تَحتَها من الغوائل والمناكير من تجهيل العلماء الأفاضل، والأئمة المشاهير، وما كنتُ أظُنُّ الغُلُوَّ ينتهي بالسيدِ -أيَّدَهُ الله- إلى هذه الغاية، ولا يتجاوَزُ به إلى هذا المقدار، وكيف تجاسَرَ السيدُ على إطلاقِ القول بأن أصحاب الشافعي المتقدمين قضَوْا بفقدِ مرتبة الاجتهاد، مستَرْوحاً بهذا القول المعلوم الفساد، محتجّاً به على الاستعسارِ للعلم والاستبعاد؟! فأقول: ما شاءَ اللهُ، لا قوةَ إلا بالله، إن كان ذهَبَ العلمُ بالأدلة، فأين الحياءُ من العُلماء الجِلَّة؟! أين ذهب التوقيرُ لأئمة العِترة عليهم السلام؟ إلامَ صار التعظيمُ لعلماء الإسلام؟ كأنَّك ما عرفتَ أنَّ قدماءَ أصحابِ الشافعي قبلَ الهادي، والقاسم، ولا دَرَيْتَ أن كلامك يقضي بتجهيل عوالِمَ من أولادهما الأكارِمِ، أما علمتَ أن بحارَ العلوم الإسلامية. ما تَموَّرت إلا بعدَ أصحاب الشّافعي؟ أتُرَجَّحُ تجهيلَ أقمارِ الهُدى لِروايةٍ حُكِيَتْ عن المَرْزِي، والرّافِعِي؟ ما هذه العصبية؟ إنها لَمِنْ أعظم البلية. وقبل الجواب على السيد -أيَّده الله- نذكر بحثاً حسناً في قوله: " ولا نُزكِّي على الله أحداً " كما جاء في الحديث مسنداً. فنقول: أخبرني مِن أيِن جاءَ هذا الحديثُ مسنداً؟ فإن قلت: إنه جاء مسنداً مِن طريق المحدثين، فما لك مرتكباً ما نَهَيْت عنه، وفاعلاً ما حذَّرْت منه؟! وقد قيل: لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَه ... عَارٌ عَليْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ (¬1) ¬
الوجه الأول: أن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - من قدماء العلماء، فلنذكر بعدهم معرفتين
وإن كنت تعرِفُه مسنداً من غير طريقهم، فأخبِرْنا بذلك الإسناد؟ وكيف تيسرت لك معرفتُه بعدَ الإنكارِ لها، والاستبعاد؟ وإن كنتَ لا تعْرِفُ له سنداً إلا مِن طريق رجالِ الحديث وأئمة الأثرِ، فكُفَّ عن القوم غَرْبَ لِسانِك، واجعل شُكْرَكَ لهم بدلاً عن شَنآنِكَ، وما أحسنَ قول بعضهم (¬1): أقِلُّوا عَلَيهِمْ لا أَبَا لأِبِيْكُمُ ... مِنَ اللَّوْمِ أو سُدُّوا المَكانَ الذِي سَدُّوا هذا ولا بُدَّ من التعرض لوجوه تكشف النِّقاب عن وجهِ الصواب وإن كانت هذه الشبهة مما لا تحتمِلُ الجواب. الوجه الأول: أن الشافعيَّ رَضِيَ الله عنه مِن قُدماء العلماء، ورجال المئة الثانية من الهجرة النبوبة، وعلى رأسِها توفي سنة أربع ومئتين، وقد كان القدماءُ مِن أصحابه متقدمين لِمن لا يأتي عليه العَد مِن أئمة الإِسلام من أهلِ البيت عليهم السلامُ، وسائر العلماء الأعلام، فهذا البُويطي (¬2) صاحبُ الشافعي المشهور توفي سنةَ إحدى وثلاثين ومئتين، والقاسم عليه السلام توفي سنةَ ست وأربعين ومئتين، فوفاةُ البُويطيِّ صاحب الشافعي ¬
متقدِّمةٌ على وفاة القاسم عليه السلام بخمسَ عشرة سنة، والقاسم عليه السلامُ مِن أول أئمة المذهب، وأنبلِ مَنْ في طِرَازِ الأئمة المُذْهَبِ (¬1)، وهو الذي تفجَّرت منه بحارُ العلوم إفادةً وولادة، وخضعت رقابُ الخصومِ لمناقبه من العلم والزَّهادة والمجد والإجادة، فأما الإمام الهادي يحيى بن الحسين، والناصر الحسن بن علي عليهما السلام، فالبويطي متقدِّم لهما في الوفاة بقدرِ سبعين سنة تَنْقُصُ شيئاً يسيراً، وكذلك الربيعُ (¬2) والمزنيُّ (¬3) صاحبا الشافعي، فإنهما عاصرا القاسم عليه السلام، وتقدما الهادي بكثيرٍ منَ الأعوام، وأما السيدان الإمامان الناطق بالحق أبو طالب، والمؤيَّدُ بالله ومَنْ بعدهما كالمُتوكِّلِ على اللهِ أحمدَ بنِ سليمان، والمنصور بالله عبد الله بن حَمْزَة، وسائِرِ أئمة الهُدَى، ومصابيحِ الدُّجى مِن عِترةِ المصطفي صلَّى اللهُ عليه وعلى آله، وسائِرِ علماء العِترة، وساداتهم، وكُبراءِ المسلمين وجِلَّتِهِم، فكلام السيد -أيَّدَه اللهُ- وكلامُ بعضِ أصحابِ الشافعي قاضٍ أنهم مِن جُملَةِ أهلِ الدعاوي الباطلة، مُفْصِحٌ بأنَّ وجوهَ دعاويهم للعلم عن حِلية الصِّدْقِ عاطِلَة، فحسبُك ما أدَّى إليه عِظَمُ غُلُوِّك ¬
المعرفة الأولى: ذكر جماعة من علماء سادات العترة
مِن تجهيل أئمةِ الأمة، والعِترة في مقدار ست مئة سنة، ومِن لَدُنِ القاسم بن إبراهيم عليه السلام إلى يومِ النَّاسِ هذا، على أنَّ هذه المدة قد اشتملت على أقمارِ الهُدى، وبحارِ المعارف، وجبالِ العلوم، وأئمة الإسلام، وأركان الإيمان. ولا بد من تشريف هذا الجواب بذكر جماعةٍ من عيونهم، والتماس نزولِ البركة بذكر جملة مختصرة من أسمائهم إذ التعرضُ لاستقصاء ذلك مما يفتقِرُ إلى تأليف كتابٍ، ولا يحتمِلُ أن يدخُلَ في ضمن هذا الجواب. ولما لم يكن بد من الاقتصار كان ذِكْرُ من يخفى على كثيرٍ من أهل هذه الأعصار أهَمَّ مِن ذكر مَنْ لا يخفى على أحدٍ من الأئمة الكبار، وقد ذكرنا من أئمة أهلِ البيت مَنْ لا زيادة عليه، ومن يَصْغُرُ كُلُّ كبير بالنظر إليهم، فلنذكر بعدهم معرفتين. المعرفة الأولى: في ذكر جماعة من علماء سادات العِترة عليهم السلامُ ممن لا يعرفهم كثيرٌ من أهل العصر. فمنهم الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، ذكره في " الجامع الكافي " (¬1) إمامٌ مجتهد متكلم في الفقه. ذكر محمد بن منصور أنه ممن اجتمعت عليه الفِرَقُ. ومنهم السَّيِّدُ الإمامُ العلاَّمَةُ محيي السُّنة سَيِّدُ الحفَّاظ أبو الحسن محمدُ بنُ الحسين العلوي الحسيني أحدُ أئمة الحديث، عَقَدَ مجلسَ الإملاء بعدَ الامتناع منه رغبةً في الخُمول، فكان يَحْضُرُ مجلسَه ألفُ ¬
مِحبرة. قال ابن الصَّلاح: وتوفي في شعبان سنةَ ثلاث وسبعين وثلاث مئة (¬1). " ومنهم أخوه السيدُ العلاَّمةُ أبو علي محمدُ بنُ الحسين، قال الإسنويُّ: كان من أعيانِ العُلماءِ، ولم أقِفْ على تاريخ وفاته (¬2). قلت: لكنَّهُ توفي بعدَ وفاةِ أخيه، فإنَّه الذي صلى عليه، وقد حَصَل الغَرَضُ بهذا، إذ هو ممن تُوفي بعدَ القدماء من أصحابِ الشافعي. ومنهم السيدُ أبو الحسن عليُّ بن أحمدَ بنِ محمد بن عمر العلوي الحسني الزَّيْدِي. كانَ مِن العلماء المصنِّفِينَ، وكان رأساً في الزَّهَادَةِ والصلاح، حمل عنه شيوخُه وأقرانُه تبركاً به، توفي سَنةَ خمسٍ وسبعين -أظنُّه- وثلاث مئة (¬3). ومنهم أبو القاسم عليُّ بنُ المظفر، كان مِنْ أوعيةِ العلمِ، إماماً في الفقه، والأصول، واللغة، والنحو، والمناظرة، حسنَ الخَلْقِ، والخُلُق، ¬
فصيحاً جَواداً، كثيرَ المحاسن. قال الاسْنَوِيُّ: كان قُطباً في الاجتهاد، وتوفي سنة اثنتين وثمانين (¬1) وأربع مئة. ومنهم السَّيِّدُ الكبيرُ شمسُ الدين محمدُ بنُ الحسين بنِ محمدٍ العلوِيُّ الحسيني. كان إماماً، فقيهاً، محدثاً، أصولياً، نظاراً، توفي سنةَ خمسين وست مئة (¬2). ومنهم السيِّدُ العلامة عُمَر بن إبراهيم العلوي الزَّيْدِي الكوفي الشيعيُّ المعتزليُّ، هكذا نسبَه إلى التشيع والاعتزال الذهبي في " الميزان "، وقال: وُلدَ سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة، وتوفي سنةَ تسعٍ وثلاثين وخمس مئة عن سبع وثمانين سنة. أجاز له محمد بن علي بن عبد الرحمان العلوي، وسمع أبا القاسم بن المِسْوَرِ الجُهني، وأبا بكر الخطيب، وجماعة، وسكن الشامَ في شبيبَتِهِ مدةً، وبرع في العربيةِ، والفضائل، وكان مشاركاً في علومٍ، وهو فقيرٌ متقنِّع خيِّرٌ دين [على بدعته]، وهو مفتي الكوفة، كان يقول: أفتي بمذهب أبي حنيفة ظاهراً، وبمذهبِ زيد تديُّناً. روى عنه: ابنُ السمعاني، وابنُ عساكر، وأبو موسى المديني، ¬
ذكر ذلك كُلَّه الذهبيُّ (¬1). قلتُ: وهو الذي روى عنه حُفَّاظُ الإسلامِ في عصرهم. ومنهم أبو السَّعَادَاتِ هِبةُ الله عليُّ بنُ محمد بن حمزة العلوي الحسني (¬2) المعروف بابنِ الشَّجري البغدادي. قال الذهبي في كتاب " المشتبه " (¬3): نحويُّ العِرَاق. وقال ابنُ خَلِّكَانَ في حرف الهاءِ في " تاريخه " (¬4): كان كامِلَ الفضائِل، متضلِّعاً من الآداب، صنَّف عدةَ تصانيف منها كتاب " الأمالي " (¬5) وهو أكبرُ تواليفه، وأكثرُها إفادةً، أملاه في أربعة وثمانين مجلساً، وهو مِن الكُتُُُبِ الممتعة، ولما فَرَغَ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبدُ الله بن أحمد بن راجح بن أحمد المعروف بابنِ الخشَّاب، والتمسَ منه سماعَه، فلم يُجِبْهُ، فعاداه، وردَّ عليه في مواضِعَ مِن الكتاب، فوقَفَ عليه، فردَّ عليه في رده، وبَيَّنَ وجوهَ غَلَطِه، وجمعه كتاباً سماه " الانتصار "، وهو مع صِغَر حجمه مفيدٌ جدّاً، وسمعه عليه الناسُ، وجمع أيضاًً كتاباً سماه " الحماسة " (¬6) ضاهى به حماسةَ أبي تمام الطائي، وهو كتابٌ مليح غريبٌ أحْسَنَ فيه، وله في النحوِ عِدَّةُ تصانيف. ¬
ولما قَدِمَ الزمَخْشَرِيُّ بغدادَ حاجّاً قَصَدَهُ للزيارة، فلما اجتمع به، أنشد أبو السعادات قولَ المتنبي: وأسْتَكْبِرُ الأخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ ... فَلمّا الْتَقَيْنَا صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ (¬1) فقال الزمَخْشَريُّ: رُوي عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لما قَدِمَ عليه زيدُ الخيل، قال له: يا زيدُ ما وُصِفَ لي أحدٌ في الجاهلية فرأيتُه في الإسلام إلا رأيتُه دونَ ما وُصِفَ لي غيرك (¬2). انتهي بألفاظ ابن خلكان. توفي سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة عن اثنتين وتسعين سنة. ومنهم السَّيِّدُ العلامةُ برهانُ الدين عُبيد الله الحسيني (¬3) المعروف بالعِبْرِي، كان أحدَ الأعلام في عِلْمِ الكلامِ والمعقولاتِ، ذا حظٍّ وافِرٍ من باقي العلوم، وله التصانيف المشهورة، منها كتابُ " شرح المنهاج "، وكتابُ " المصباح "، وكتابُ " الطوالع "، وَكُتُبُه الغايةُ القصوى في الفقه. توفي ثالث عشر رجب سنةَ ثلاث وأربعين وسبع مئة، وخلَّف ولداً فصيحاً فاضلاً في العُلُوم العقليةِ. ¬
ومنهم السيِّدُ العالم أبو القاسم منصورُ بنُ محمد العلوي الفقيه، تُوفِّيَ سنةَ أربعٍ وأربعينَ وأربعِ مئة. ومنهم العَلاَّمة المُحَدِّث المرتضى محمَّدُ بن محمد بن الإمام زيدِ بن علي، عليهما السلامُ صاحبُ التصانيف النافعة، توفي سنةَ ثمانين وأربع مئة (¬1). والسَّيِّد النسيبُ العلامةُ المحدِّث المصنِّفُ، توفي سنة ثمان وخمس مئة (¬2). والسيِّدُ الإمامُ العلامةُ شيخُ الشيعة محي الدين بن عدنان الحُسَيْني، توفي بعدَ سبع المئة. ومنهم جماعةٌ وافِرة، أئمة دُعاة، وسادةٌ علماء ممن سكن الغربَ لا يُعرفونَ، ذكرهم ابن حَزْم في كتابه " جَمْهَرَة النّسب ". ومنهم جماعة علماء، ورواة ذكرهم المِزِّيُّ في " تهذيبه "، وغيرُه ممن جَمَع رجالَ الكُتُبِ الستة: البخاري، ومسلم، والأربعة. ولنذكر جماعة ممن ذكر ابنُ حزم في " جمهرته " فنقول: قال ابنُ حَزْم في ذكر عيونِ أولادِ الحسنِ بنِ علي عليهم السَّلامُ. ¬
منهم الحسنُ بنُ زيدِ (¬1) بنِ الحسن بنِ علي عليه السلامُ أمير المدينة للمنصور، ولدُه ثمانية، منهم إبراهيمُ، ولإبراهيم هذا محمدٌ، ومِنْ وَلَدِ محمد هذا حفيدُه محمدُ بنُ الحسن بنِ محمدٍ القائم بالمدينة، والنقيبُ محمدُ بنُ الحسن الملقب بالدَّاعي الصغير القائم بالري، وطَبَرِسْتَان، وكان بينه وبين الأُطْرُوشِ الحسيني (¬2) حروبٌ، والحسنُ ومحمدٌ ابنا زيدٍ الداعيانِ، وعقب محمد منهما إسماعيل بن المهدي بن زيد بنِ محمد المذكور، وعمُّهُما أحمد بن محمد القائم بالحجاز، المحاربُ لبني جعفر بن أبي طالب، ومِن وَلَدِ الحسنِ بنِ زيد: أميركا، وكباكي ابنا طاهر بن أحمد بنِ محمد بن جعفر الشَّجَوي (¬3)، وابن أخيه سراهيك (¬4) بنُ أحمد بن الحسن بن محمد بن جعفر تَسَمَّوْا بأسماءِ الدَّيْلَمِ لمداخلتهم. ومحمدُ بنُ علي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن الحسن قام بخُراسان فقتل أيامَ المهدي، ومحمدُ بنُ سليمان بنِ داود بنِ الحسن بن الحسن بنِ علي عليه السلام القائم بالمدينة [وله عقب] (¬5) عظيم جدّاً يتجاوزُ المئتين، ولهم بالحجاز ثورة (¬6) وجموع، ومحمدُ بنُ إِبراهيم أخو القاسم قامَ مَعَ أبي السَّرايا، وللقاسِم أولادٌ منهم النقيبانِ أحمدُ، وإبراهيمُ ابنا محمدٍ النقيب بن إسماعيل بن القاسم. ¬
ومنهم القائمون بصَعْدَة، منهم جعفر الملقب بالرشيد، والحسن المنتخب، والقاسم المختار، ومحمد المهتدي بنو أحمد الناصر، ولهم أخٌ يُسَمَّى عبدَ الله، لكن أُمَّه أمُّ ولد وهو اليماني القائم بماردة المقتول يومَ البركة بالزهراء سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة، ولهم إخوة منهم سليمانُ، ويحيى، وإبراهيمُ، وهارونُ، وداودُ الساكن بمصر، وحمزة، وعبد الله، وأبو الغَطَمس (¬1)، وأبو الجحَّاف، وطارق بنو أحمد الناصر، ولداودَ منهم الساكِنِ بمصر ابنُ يُسَمَّى هاشماً. ومنهم الشاعر الأصبَهَاني محمد بنُ أحمدَ بنِ محمد بن إبراهيم بن طَبَاطَبَا، ولهذا الشاعِرِ ابنانِ عليٌّ والحَسَنُ، ومن أولاد الحسن بن جعفر بن الحسن جماعة عجم بناحية متيجة (¬2) وسوق حمزة، ومنهم زهيرٌ، وعليٌّ ابنا محمدِ بنِ جعفر، كانت لهما أعمالٌ بالغربِ في جهة سُوقِ حمزة. وأولاد عبد الله بن الحسن محمد القائم بالمدينة، وإبراهيم القائم بالبصرة، ويحيى القائم بالدَّيْلَمِ، وإدريسُ الأصغرُ القائمُ بالغرب، وسليمانُ وموسى، وعقب هؤلاء الثلاثة كثيرٌ جدّاً. وَلمُحمد بنِ عبدِ اللهِ -ويلقب الأرْقَطَ- عبدَ اللهِ الأشتر قُتِلَ بَكابُل، وله ولدٌ يُسَمَّى محمداً، والعقبُ فيه، وللأشترِ عَقِبٌ ببغداد وغيرها يُعْرَفُون ببني الأشتر. ¬
ومحمدُ بنُ إبراهيم بنِ موسى بنِ عبد الله بنِ الحسن صاحبُ اليمامة القائم بها، وهم باليمامة ودارُ ملكهم بها، وهم بها قائمٌ بَعْدَ قائمٍ، وعبدُ الرحمان بنُ الفاتك عبدِ الله بنِ داود بنِ سُليمانَ بنِ عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن له اثنان وعشرون ذكراً بالغون سكنوا كلُُّهُم أذَنَةَ (¬1) إِلا ثلاثة منهم سكنوا أمَجَ بقرب مكة (¬2). ومنهم جعفرُ بنُ محمدٍ غَلَب على مكةَ أيامَ الإخْشِيدِيَةِ وولدُه إِلى اليومِ ولاةُ مكة، وهو ابنُ محمدِ بنِ الحسن بنِ محمد بنِ موسى بنِ عبد الله بنِ موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه (¬3) السلام، ولسليمانَ بنِ عبد الله بن الحسن وَلَدٌ -وهو محمد القائمُ بالمغرب- وله عَقِبٌ، منهم أبو العيش عيسى بن إدريس صاحب جُراوة (¬4)، وابنُه الحسن سكن قُرْطُبَةَ، وإدريسُ بنُ إبراهيم صاحبُ ¬
آرسقُول (¬1)، وكان منقطعاً إلى الناصِرِ صاحِبِ الأندلس، وأحمدُ بنُ عيسى صاحبُ سوق إبراهيم، والحَكَم، وعبدُ الرحمان ابنا عليِّ بنِ يحيى سكنا قُرطبة، وأعقبا بها، وأولادُ يحيى بنِ محمد بن إبراهيم كُلّهم، وكان سليمانُ منهم رئيساً في تلك الناحيةِ. ومنهم القاسمُ بن محمد صاحب تِلِمْسَان. ومنهم بطُوس بنُ حنابش (¬2) بنِ الحسنِ بنِ محمد بن سليمان وهم بالمغرب كثيرٌ جداً، وكانت لهم بها ممالك عده. ومنهم جُنُون (¬3) أحمد، ومحمد ابنا أبي العيش عيسى بن جُنُّون كانا ملكين بالمغرب، وإبراهيم لقبه أبو غبرة، كان [أيضاًً] ملكاً بالمغرب وكان لجنون منهم عشرون ذكراً، منهم القاسم الأصغر جُنُّون بن جُنُّون القائم بالمغرب، وأخوه علي الأصغر القائم بعده، ومحمدُ بنُ جُنُّون القائم على أبيه بالبصرة. ومنهم الحسنُ بنُ محمد بنِ القاسِمِ الحجَّام سُمِّي بذلك لكثرة سفكهِ للدِّماء، ومِن ولدِه القاسمُ بنُ محمد بن الحسن الفقيه الشافعي بالقيروان المعروف بابن بنت الزبدي (¬4). ومنهم إبراهيمُ بنُ القاسم صاحبُ البَصْرَةِ، كان عُمَرُ بنُ حفصون يَخْطُبُ له. ¬
ومنهم المسمَّى بالمأمون، وعلي المسمَّى بالناصر تسمَّيا بالخِلافة بالأندلس، ومحمدُ بنُ القاسم صاحبُ الجزيرة (¬1) تسمَّى بالخلافة، وولي الجزيرة بعدَه ابنُه (¬2) القاسم، ولم يَتَسمَّ بالخلافةِ، وكان حصوراً لا يَقْرَبُ النساءَ، وأخوه الحسن تَنَسَّكَ، وَلَبِسَ الصوفَ، وحج، وولد الناصر يحيى وإدريس تسمَّيا بالخِلافة بالأندلس، ومحمدُ بنُ إدريس خليفة تسمَّى بالمهدي، وحاربَ ابنَ عمه إِدريسَ بنَ يحيى، وكلاهما تَسَمَّى بالخِلافة، وكان بَدْءُ أمرهم سنةَ أربع مئة، وبقي أمرُهم ثمانيةً وأربعين، ومنهم صاحبُ تَامْدُلْتَ (¬3)، وصاحبُ صنهاجة الرِّمال، وصاحبُ مِكْنَاسَةَ. ومِن أولادِ الحُسين عليه السلامُ عبدُ الله بن علي بن الحسين الأرْقَط، له ولدانِ: إسحاقُ، ومحمدٌ، لهما عَقِبٌ كثير، منهم الكَوْكَبِيُّ اسمُه الحسين، وأحمد بنُ محمد بن إسماعيل كان مِن قُوَّاد الحسن بن زيد بِطَبَرِسْتَان، ومن أولادِ عمر بنِ علي بنِ الحسين محمدُ بنُ القاسم بن علي بنِ عمر، وكان فاضلاً في دينه يميلُ إلى الاعتزال، قام بالطَّالَقَانِ (¬4)، فلما رأى الأمرَ لا يَتِمُّ له إلا بسفك الدماء، هَرَبَ، واستتر إلى أن مات. ومنهم زيدٌ، وجعفر، ومحمدُ بنو الحسن الأطروش الذي أسلمَ الدَّيْلَمُ على يديه، وهو ابنُ علي بنِ الحسن بنِ علي بن عمر (¬5)، وكان ¬
للحسن الأُطروش من الإِخوة جعفرٌ، ومحمدٌ، وأحمدُ المكنى بأبي هاشم وهو المعروفُ بالصوفي، والحسينُ المحدث يروي عنه ابنُ الأحمر وغيرُه، وكان هذا الأُطروش فاضلاً، حسنَ المذهب، عدلاً في أحكامه، وكان الحسن بنُ محمد بنِ علي -وهو ابن أخي الأُطروش- قد قام بطبَرِستَان، وقتله جيوش بها سنةَ ستَّ عشرةَ وثلاث مئة. أولادُ الحسين بن علي بن الحسين ستة كُلُّهم أعقب عَقِبَاً عظيماً، منهم عبدُ الله يعرف بالعَقِيْقِيِّ، ومِنْ ولده الذي قتلهُ الحسنُ بنُ زيد صاحب طَبَرِستَانَ، ومنهم جعفرُ بن عُبيد الله بن الحسين بن علي بن علي بن الحسين كانت له شِيعةٌ يُسَمُّونَه حُجَّةَ الله. ومنهم حمزةُ بنُ الحسن مَلَكَ هان (¬1) في المغرب، وملك قطيعاً مِن صنهاجة، وإليه يُنسب سوقُ حمزة وَوَلَدُه بها كثيرٌ، وكذلك ولد إخوته في تلك الجهة، وكان عمُّه الحسينُ بنُ سليمان مِن قواد الحسنِ بنِ زيد، وهو الذي غزا له الرَّيَّ، وكان شاعراً. ومنهم المحدثُ المشهور بمصر، وهو ميمونُ بنُ حمزة بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن حمزة. ومنهم المُلَقَّبُ بمسلم أبو مسلم الذي كان يُرِيدُ مصر أيامَ كافور، واسمُهُ محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدث، وابنُ عمه طاهر ابن الحسين الدي مدحه المتنبي بقوله: أعيدُوا صَبَاحِي فَهْوَ عِنْدَ الكَوَاعِبِ (¬2). ¬
وأبو مسلم هذا قام بالشَّام بعدَ كافور، وتسمَّى بالمهدي، واستنصر بالقرامِطَةِ، والحسنُ بنُ محمد بن يحيى المحدث المذكور تجاوز تسعينَ، وكان بالكوفة حُمِلَ عنه العِلْمُ. ومنهم محمدُ بن عبيد الله [كان له قدر] بالكوفة ومَنْزِلَةٌ بالدَّيالِمَةِ (¬1) يُعارض بها منزلةَ بني عمر العلويينَ بالكُوفة، وهو الذي مدحه المُتَنَبّي بقوله: أهْلاً بِدَارٍ سَبَاك أغْيَدُهَا (¬2) ومنهم عليُّ بن إبراهيم كان مِن العُبَّادِ بالكوفة حُمِلَ عنه العِلْمُ، كان عالماً بالنسب. انتهي المختارُ نقلُه من بني الحسن والحسين ولله الحمد (¬3). وغيرُ هؤلاء ممن لا يأتي عليه العَدُّ مِن سادات العِترَة الطاهرةِ ممن كان في مرتبة الإمامة في علم الحديثِ وغيرِه من علومِ الاجتهاد، ولو حضرني كتابُ مِن كُتُبِ الرجال وقت كتابة هذا الجواب (¬4)، لاستكثرتُ من ذِكرهم، فمن استكثر منه، فقد استكثرَ مِن طيِّب، وإنما رغبتُ إلى ذكرهم لجهلِ كثيرٍ من الناسِ لهم، واعتقادِهم أنَّه ليس في أهل البيت عليهم ¬
السلامُ أحدٌ مِن أهلِ العلمِ إلا هؤلاءِ الأئمة المشاهير في اليمن والحجاز، والجبل، والكوفة عليهم السلامُ. فلقد قلَّلُوا كثيراً، وجَهِلُوا كبيراً، وأهلُ البيت عليهم السلامُ في جميع أقطارِ الإِسلام، وإمصارِه، وأعصارِه، هُمْ سُفُنُ العلم وبحورُه، وشموسُ الهدى وبدورُه، وكلامُ بعضِ أصحاب الشافعيِّ إِذا اقتضى تجهيلَ هؤلاء السادةِ، والدعاة الأئمة من العِترة الطاهرة، وأضعافهم ممن لم يُذكر وأكثر منهم مِن الأئمة السابقين ضربنا به وَجْهَ قائِلِه، وقلنا كما قال أبو الطيب: وَهَبْك تَقُولُ هذا الصُّبْحُ لَيْلٌ ... أيَعْمَى العَالِمونَ عَنِ الضِّيَاءِ (¬1) وما أقربَ هذا القولَ من قول من زعم أنَّ أهلَ البيتِ عليهم السلامُ قد ماتوا، ولم يبقَ منهم أحدٌ، بل هذا القولُ أقبحُ، لأنَّ ذلك نَسَب إليهم الموت الذي يجوز على الملائكةِ والأنبياء، والعلماءِ، وهو خروجُ الأرواح من الأبدانِ الذي لا نقصَ فيه على أحد، ولا غضاضةَ فيه على مخلوق، وهذا نسب إليهم الموت الذي هو موْتُ المعارفِ دونَ الأبدان، وعمى البصائر دونَ الأبصار، وكفي شاهداً على أنَّ موتَ الجهلِ أقبحُ من موت الأبدانِ، وعمى البصائر أقبحُ مِن عمى الأبصارِ، قولُ الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فكيف تجاسر السيدُ -أيَّدَهُ الله- على نسبة الجهلِ إِلى جميع العِترة الطاهرة، ونجوم العلم الزاهرة؟. واحتجَّ على ذلِكَ بما لَعلَّهُ لا يَصِحُّ عن بعضِ ¬
المعرفة الثانية: في ذكر بعض من كان بعد المتقدمين من أصحاب الشافعي
أصحاب الشافعيِّ، وقد أجمع أئمة العِترة عليهم السلامُ وشيعتُهم على أنه لا يجوز خُلُوُّ عصرٍ من الأعصارِ إلى يومِ القيامة من عالمٍ مجتهدٍ مِن أهل البيت عليهم السَّلامُ، فكيف يسوغُ القولُ بخلوِّ هذه الأعصارِ كُلِّها عن ذلك، من رأسِ مئتي سنةٍ إلى هذه الساعة، بل إلى قيامِ الساعة، وما المُوجِبُ لهذا القولِ؟ وما المُلْجِىء إلى هذا الاختيار؟ كل هذا حتى لا يُسَلَّمَ لمحمدِ بنِ إبراهيم أنَّه قد عرف أدِلَّةَ التأمينِ، وإمساك الشمالِ باليمين، وكأنَّ توجيه التجهيل إلى محمد بن إبراهيم بالنصِّ دونَ التلويح أقل ذنباً وأحمدُ عُقبى من نسبة الجهلِ إلى جميع ذوي القربى. المعرفة الثانية: في ذكر بعض مَنْ كان بعدَ المتقدمين من أصحابِ الشافعي من العلماء الجِلّة، وكان أئمةُ الملة من غير أهلِ البيت عليهم السَّلامُ مثل عبدِ الملك بن حبيب، وقتيبة، وسُحنونَ، وأبي ثور، وأحمدَ، وإسحاق، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والزعْفَراني، ومسلمِ بنِ الحجاج القُشيْرِيِّ، وداودَ بنِ علي الفقيه، وبقيِّ بن مَخْلَدٍ الكبير العلامة صاحب المسند، والتفسيرِ اللذَيْنِ لم يُصَنَّفْ مثلُهما، وأبي قِلابَةَ، والتِّرْمذيِّ، وأبي القاسم عثمانَ بن سعد بن سيّار (¬1) الفقيه، ومن لا يُحصى مِن أهل هذه الطبقة، وبعدَهم في الطبقة الثانية خلائق أيضاً لا يأتي عليهم العَدُّ بذكر اليسير مِن عيونهم على جهة التمثيل دون التفصيل مثل الشيخ أبي علي الجُبائي شيخ الاعتزال، وابن سُرَيْج، وابن سفيان (¬2) الفقيه، ومحمدِ بن جريرٍ الطبَرِيّ العلامة، وإمامِ الأئمة ابنِ خُزَيْمة، وإمامِ الحنفية الطحاوي، وإمامِ الكلام أبي هاشم بن أبي علي، والفقيه ¬
أبي إسحاق المرْوَزِي، والعلامة قاسم بن أصبغ، وشيخ الحنفية أبي الحسن الكَرْخي، وأبي علي بنِ أبي هُريرهَ الفقيه، وأبي بكر عبد العزيز الفقيه، وأبي الحسن محمد بن علي الماسَرْجِسي الفقيه، والحافظِ الدارقطني، والعلامة أبي سليمان الخطابي، وعلي بن عمر بن القَصار المالِكي. ثم بعدَ أربع المئة أبو بكر محمد بن موسى الخُوارزْمي شيخ الحنفية، وأبو حامد شيخ الحنابلة، وأبو علي الدقاقُ، وعبدُ الغني الحافظ، والعلامة قاضي القضاة عبدُ الجبار، والعلامةُ شيخُ الاعتزال أبو الحسين البَصري، وأبو محمد علي بنُ أحمد الفارسي المعروف بابن حَزْم، والحافظ البيهقي، وأبو القاسم بن فُوران (¬1) الفقيه، والحافظ أبو بكر الخطيب، وأبو نصر بن الصَّباغ، وأبو علي بن الوليد المغربي، وشيخ الإسلام أبو إسماعيلَ، وأبو بكر محمد بن علي الشاشي الفقيه، وشيخ الإسلام أبو الحسن الهَكَّاري، والحافظُ الكبير الحُمَيْدي، ونصرٌ الفقيه، ومَنْ لا يأتي عليه العدُّ مِن أهل هذه الطبقة. ثم بعد خمس المئة العلامةُ البحر شيخُ الحنابلة أولاً، ثم شيخُ الاعتزال (¬2) آخراً ابنُ عَقيلٍ المعتزلي صاحب كتاب " الفنون " الذي يأتي في ¬
أزيدَ من أربع مئة مجلد كبار، ومحيي السنة البغَوِي، والعلامةُ الزمَخشري، والعلامةُ عِياضُ اليَحْصُبي القاضي المالكي، وأبو بكر بن العربي، وأبو سعد محمد بن يحيى الفقيه، وطبقتهم. ثم بعدَ الخمسين وخمسِ المئة العلامة ابنُ ناصر (¬1)، وأبو الحسنُ الفقيه العلامة، وأبو سعد السمعانِي، والحافظُ الكبير ابنُ عساكر، والحافظُ السلَفي، والفقيهُ يونسُ بنُ محمد، والحافظ أبو موسى المدِيني، والحافظُ النقَاد أبو بكر الحازمي، والعلامةُ ابنُ الجوْزي، وطبقتهُم. ثم بعدَ ست المئةِ الحافظ عبد الغني، والعلامةُ عبد الحق (¬2)، وعالم الشام ابنُ الصَّلاح. ثم بعدَ خمسينَ وست المئة العلامةُ ابن تَيمية (¬3)، وأبو بكر ابنُ سيد الناس (¬4)، وابنُ عبد السلام، والعلامة النواوِيْ، والمحبُّ الطبَريْ وطبقتُهم. ¬
ثم بعدَ سبع المئة الشيْخُ العلامة أبو الفتح محمدُ بن علي بن وهب القُشيري إمامُ المعقول والمنقول، وشمسُ الدين السُروجي عالم الحنفية، وأبو الوليد (¬1) إمام المالكية، وشيخ الحِلَّة العلامةُ الكبيرُ جمال الدين حسنُ ابن المطهر (¬2) المعتزِلي، وشيخُ الشافعية برهان الدين ابن التاج (¬3)، وشيخا الحنابلة مجدُ الدين (¬4)، وتقي الدين (¬5)، وشيخ بلد الخليل البرهان الجعبْري المقرىء (¬6)، وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الكناني (¬7)، والعلامةُ الحافظُ ابن سيدِ الناس، والعلامةُ زينُ الدين عمر الكتاني (¬8) ¬
وطبقتهم. وبعدَ هؤلاءِ على رأسِ ثماني مئة سنة شيخُ الإسلام البلقيني، والعلامة سِراج الدين ابنُ النحوي الأنصاري، وحافظُ العصرِ زينُ الدينِ العراقي العلامة، وطبقتُهم. فهؤلاءِ وأضعافُهم مِن أهل هذه الطبقاتِ، ومنْ هو أَجَلُّ منهم ممن لم نذْكُرْهُ مِن الأئمة والسادات كُلُّهُمَ قد غَمَصهُمْ السَيدُ -أيدَهُ اللهُ- تصديقاً لبعض الشافعية، وحرصاً على توعير المسالك العلمية. والعجبُ أنَّ السَّيِّدَ منع الاجتهاد بعدَ مئتي سنةٍ من الهِجرة، وإنما تمهدَت قواعد الاجتهاد، واشتهر التحقيقُ والانتقادُ بعدَ هذا التاريخ، فإنها تمكنتْ بعدَ ذلك مملكة الإسلام، ونشأ فيها العلماءُ الأعلام حتى كان المجلسُ الواحدُ بعدَ خمسين ومئتين من الهجرة يَجتَمِع فيه قدرُ مئتي إمام قد بَرَزوا، وتأهلُوا للفُتيا، هكذا نقلَه أهلُ المعرفة بعلم الرِّجال والدِّرية في التاريخ، ولقد صنَّفَ الحافظُ المِزِّي كتابه " تهذيب الكمال " في مئتي جزء، وخمسين جزءاً (¬1)، وصنَّفَ الفَلَكِيُّ (¬2) في هذا العلم ألف جزءٍ، وصنف غير واحد من الحفاظ ما لا يأتي عليه العَد من المصنفاتِ البسيطةِ والمختصرة في نقدِ الرجال، والتعريفِ بأحوالهم، وتفاوتهم في مراتب العلم، والفضل، لئلا يلتبِسَ الفاضلُ بالمفضول، ويختلِطَ الخبيثُ ¬
الوجه الثاني: من الجواب على توعير السيد لمسالك العلم
بالطيب، والذُّنابى بالقَوادمِ، والأئمة بالعامة. فمن طالع كُتُبَ الانتقاد، وَأنِسَ بعلم الرجالِ، عَلِمَ أن الله تعالى لم يُخْلِ العبادَ والبلاد من حُجَةٍ لله تعالى من العِترة الطاهرةِ، وأشياعِهم نجوم العلم الزاهرة، وسائر العلماء الأعلام في جميع مملكة الإسلام. الوجه الثاني: مِن الجواب على توعير السيد -أيَّدهُ الله- لمسالك العلم بقول بعض أصحاب الشافعي أن نقول: إما أن يكونَ الذي حمل هؤلاء على هذا القول هو أنَّهم نظروا إلى ما اختُص به الإمامُ الشافعي من التبحُّر في الفقه، والتضلُّع في العلم، وسائر ما وهب الله له مِن الكثيرِ الطيب من المناقبِ العزيزةِ، والمعارف الغزيرة، وهذا مُسلَّم لهم، فإنَّ الشافعي رحمه الله إمامُ الإسلام بلا مُدافعةٍ، وَحَبْر الأمة بلا منازعةٍ، لكنهم لما رأوْا كثيراً ممن بعدَه مِن الفقهاء، أو ظنُوا أن جميعُ منْ بعده من العلماء لا يلحقون بشأوه في سَعَة العلم، وحُسن الفهم، قضَوْا بتعذُّرِ الاجتهاد بعده ظناً منهم أن من لم يَكُنْ مثلَه رحمه الله، فليس بمجتهد، فهذا غلطٌ عظيم، ووَهْمٌ فاحش، فإنه لا يلزمُ -إذا فضل اللهُ الشافعي على كثير من خلقه، وأعطاه من العلم أكثر من القدر الواجب في حقِّ المجتهد- أن يُحَرم الاجتهادُ على العلماء من بعده، ألا ترى أنا نقول: إنَّ عليّاً عليه السلامُ أعلمُ الأمة على الإِطلاق، ولم يلزم أنَّه لا مجتهدَ بعده. وتلخيصُ هذا الوجه: أن للعلم شروطاً محصورةً، ورسوماً معروفة، من جمعها كان عالماً، ومن حازها، صار مجتهداً، وإن كان علي عليه السلام، والهادي عليه السلام، والقاسم أعلم منه، والشافعي، ومالكٌ، وأبو حنيفه أفقه منه. وإنما يَصحُّ كلامُهم لو قد ورد نص شرعي، أو إجماعٌ قطعي أن شرط الاجتهاد أن يكونَ المجتهدُ مثل
الشافعي في علمه وفِطنته، ونظيرَه في مهارته، وبراعته، وهذا ما لا يقولُ به منصِفٌ، ولا يَرْتَضي عاقلٌ أن يُنْسَبَ إِليه، وقد أجاد من قال في هذا المعنى: كُنْ عَيْنَ عَصْرِكَ أَو كُنْ مِنْ عُيُونِهُم ... وَعَدِّ عَنْ زَمَنٍ بالأمْسِ مَطْمُوسِ وَمَا عَلَيْكَ إِذَا لَمْ تَرْقَ مَرْتَبتَيْ ... أَبي حنيفة والحبر ابنِ إدرِيْس وأما إن قالوا: إن ذلك متعذِّر لمثل ما قاله السَّيِّد مِن تهويل شأنِ الاجتهاد، والاستنكارِ لحصوله، والاستبعادِ، فإنا نقول لهم: بَيَنُوا لنا هذا الأمرَ العظيمَ الذي تعذَّرَ بعدَ الشافعي على جميع أمةِ الرسول عليه السلامُ مِن جميع طوائف الإسلام من العلماءِ الأعلام، وشُعَلِ الذكاءِ المتَّقدة، وَنُقَّادِ النظار مِن كل فِرقة في مقدارِ ستة قرون، وهل شرائط الاجتهادِ بعدَ صِحة الإسلام إلاّ قراءة ثلاثةِ فنون: اللغة العربية لفظاً وإعراباً ومعانيَ، والأصولِ، والحديثِ، وجمعُ قدرِ مئتي آية، ومسائلِ الإجماع في كُرّاس أو اثنتين، فإن عَرَضَتْ مسألةٌ دقيقة، وحادثةٌ عويصة راجع المجتهدُ فيها المبرِّزينَ من العلماء، والكُتُبَ الحافِلة من المصنَّفات، كما لم يَزَلْ أهل العلم يفعلون، فإن عَرَفَها، وإلا توقَّفَ فيها كما توقَّف خلق من العلماء (¬1) في كثيرٍ من المسائل، ولا بُد مِن قراءةِ كتابٍ حافل في كُلِّ فَنٍ من هذه الفنونِ قراءةَ بحثٍ وإتقانٍ، وأصعبُها علمُ العربية، وقد تقدَّمَ بيانُ المحتاج إليه منه، والاستدلالُ على ذلك، وبقيةُ الفنون بعدَه في غاية السُّهُولَةِ على أهل الفِطنة والرغبة، وما أعلم أنَّ أحداً مِن جماهير العلماء نصَّ على أكثر من هذا في شرائط الاجتهاد، لا مِن المتقدمين، ولا مِن المتأخرين، ولا مِن المُيَسيرينَ، ولا مِن المعسِّرينَ. وهذه مصنفاتُ ¬
الوجه الثالث: إذا ادعى جماعة من أصحاب الشافعي جهل الأمة
العلماء موجودةٌ بِحَمْدِ اللهِ، من ادَّعى أنهم نصُوا على أكثرَ من هذا، فليُوقِفْنَا عليه، وأما ما يُطوِّلُونَ بذكره من معرفةِ الناسخِ والمنسوخ، والعمومِ والخصوصِ، ونحو ذلك، فذلك كُلُّه داخلٌ فيما ذكرتُه مِن قراءة تلك الكتب. الوجه الثالث: إذا ادَّعى جماعةٌ من أصحابِ الشافعي جهلَ الأمَّة والعِترة، فقد ادَّعى العلمَ غيرُهم من أئمة العِترة وعلماء الأمة، فتعارضَ كلامُهم، فنظرنا في الترجيح، فوجدنا تصديقَ أئمةِ العِترة، وعلماء الأمة أرجحَ لوجهين: الأول: أن هؤلاء الأئمة ادَّعوا العلمَ، وقولُ العدل المرضي: إنه مجتهدٌ مقبول إجماعاً، وهو أحدُ الطرق إلى معرفة اجتهادِ العالم. وأما دعوى بعضِ الناسِ لجهل العلماء مع إنكارِ العلماء لذلك، فلا يُقْبَلُ إِجماعاً، لأنَّه ليس لنا أن نُصدِّق من ادعى على مسلم ما يُدخِل عليه النقص مِن غير بينة ولا حجة، وذلك المسلم منكرٌ لتلك الدعوى، سواء كان المدعي عدلاً أو مجروحاً، معروفاً أو مجهولاً، وهذا إجماع. الثاني: أن بعضَ أصحاب الشافعي نَفَوْا الاجتهاد، وأئمة العِترة وعلماء الأمة أثْبَتُوه، والمثبت أولى من النافي، وهذا واضح على أن في أصحابِ الشافعي رحمهم الله من ردَّ على هؤلاء المتشددين مثل الإمام يحيى بن أبي الخير العمْراني (¬1)، فإنَّه حكى ما قالُوا، وردَّ ذلك بسهولة العلم بعدَ تدوينه في الكتب. الوجه الرابع: الدليلُ قائم على غَلَطِ منْ قال بذلك ووهمه، والسيدُ أيده الله لا يزالُ يُقرىء أنَّه لا يجوز خُلُوُّ الزمان مِن مجتهد يَصْلُح للإمامة، ¬
الوجه الخامس: قد ثبت أن الأمة معصومة، وأن إجماعها حجة
فكيف يُصدِّقُ بعضَ أصحاب الشافعي، وهُو لا يزالُ يُقرِىء (¬1) ما يقتضي بطلانَ قولهم عنده، أيدَه اللهُ. الوجه الخامس: قد ثَبَث أنَّ الأمةَ معصومةٌ، وأن إجماعَها حُجَّةٌ إلى يومِ القيامة، وأن المعتبر في الإجماع هُمُ العلماء، وهذه دعوى لجهلِ الأمة تَقْتَضي عدمَ العِصمة، وبطلانَ كونِ الإجماع حجة، وذلك لأنَّه لو لم يكن فيهم مجتهدٌ، وَحَدَثَتْ حادثة ليس فيها ما يَصِحُّ رجوعُهم إليه مِن دون الاجتهاد، فإما أن يُجْمِعُوا أو يختلِفُوا، وعلى كلا الطريقين يلزمُ إما اجتماعُهم على الضلالة، أو خَبْطُهم عند الاختلاف في الجهالة، وذلك لأنَّ كلامهم إما أن يكون بالجُزاف (¬2) والتَّبخيت، وهذا لا يجوز، أو بالاستدلال وهو لا يجوز أيضاًً بعدَ فرضِ جهلهم - صانهم اللهُ عن ذلك. الوجه السادس: أنا نعلمُ أنَّ المدعي لجهل الأمةِ والأئمةِ متهوِّرٌ مجازِف، وذلك لأنَّه لا سبيلَ له إلى المعرفةِ بجهل الأمة والأئمة مع كثرة العلماءِ والمتعلمينَ في جميع الأوساطِ والأطرافِ من المملكة الإسلامية في الشام ومصر والغرب، والعراقَيْنِ، واليمن، والجزيرة. ومنتهي الأمرِ أنَّه طلب فلم يَجِدْ، فعَدَمُ الوِجدانِ لا يَدُلُّ على عدمِ الوجود، والعجبُ من الرَّازِي أنَّه ادَّعى ذلك مع أنَّه لا يزال يستدِلُّ بهذا الدليل. والعجبُ منه أيضاًً أنَّه قال: العلم بإجماع المتأخرين محالٌ مع فُشُوِّ ¬
الإسلام، وتباعُدِ أقطاره، وكثرة أمصاره، وتفرقِ العلماء في أنجاده وأغوارِه، وادَّعى أن العلمَ بأعيانهم محالٌ، ومعرفة أقوالهم فرعٌ على معرفة أعيانهم، وفرعُ المحالِ محال، فنقول له: وكذلك معرفةُ أعيانِ الأمة أكثرُ إحالةً من معرفة أعيان علمائهم، والحكم عليهم بالجهل فرعٌ على معرفة أعيانهم، وفرعُ المحال محالٌ. الوجه السابع: أن في الحديثِ الصحيحِ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الكِبْر، فقال: " هو بَطرُ الحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاس " (¬1) والقولُ بتجهيل أكثر الناسِ، وتكذيبهم في دعواهم للاجتهاد مِن غَمْصِ الناس، فثبت أنَّه حرام، وما ثبت أنَّه حرامٌ، بَطَلَ أن يكونَ حجة. الوجه الثامن: أن هؤلاء الذين ادعوا أن لا مجتهدَ قد أقرُّوا على أنفسهم بالجهلِ، فلا طريق لهم إلى نفيِ وجود العلماء، لأنَّه لا يَعْرِفُ العلماءَ إلاَّ مَنْ هو منهم، وكذلك لا يَعْرِفُ الفضل لأهل الفضل إلاَّ ذوو الفضلِ، والمرءُ عدوُّ ما جَهِله، فربما أنهم لجهلهم بالعلم والعلماء اعتقدوا في أهل العلم أنهم من أهل الجهل، وآفةُ التِّبْرِ ضعْفُ منتقدِه، وما أحسنَ، قولَ شيخ المعرة: ¬
قال السيد: المسألة الثالثة في رواية كفار التأويل وفساقه
والنجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصَارُ رُؤْيَتَهُ ... والذنْبُ لِلطَّرْفِ لا لِلنَّجْم في الصِّغَرِ (¬1) وليسَ هذا الاعتقادُ بضائرٍ لعلماء الأُمَّة، فالدُّرُّ دُرٌّ برغم من جهِلَه. وبتمامِ هذا الوجه، تمَّ الكلام على المسألة الأولى، وهي الكلامُ على سُهُولَةِ ترقِّي مرتبة الاجتهاد. ثم إنَّ السَّيِّدَ أيَّده الله أردفها بالمسألة الثانية في القَدْحِ في كتب الحديثِ المشهورة. ولما أردتُ الجوابَ عليه، تأمّلْتُ كلامَه، فإذا أكثرُه مبني على الِقدح بالتأويل، ومتركّب عليه في الإجمالِ والتفصيل. فرأيتُ تقديمَ الكلام على هذه المسألة الثالثة صالحاً، وتمهيد هذه القاعدة قبل التفريع عليها راجِحاً، وذلك، لأنَّ السَّيِّد خَلّل ذِكْرَ هذه المسألة في غُضون كلامه، وهي مسألة كبيرة لا يُمكِنُ التعرض لها في ضِمنِ غيرها، ولا بُدَّ من إفرادها، والسيدُ قد أفردها في رسالته، ولكنه أخَّرها، وما يليق تأخيرها، لأنها أساسُ المسألة الثانية، والذي يليقُ في الترتيب تقديمُ الأساسِ، والقواعدِ على ما يتفرع عليها من الفوائد، فلنذكر كلامَ السيد أيَّده الله بلفظه، ثم نتبعه الجوابَ كما قدمنا. قال: المسألة الثالثة: في رواية كُفَّارِ التأويل وفسَّاقه وقد قدمنا أن قاضي القضاة روى الإجماعَ على ردِّ رواتهم، وتأول كلامَ الفقهاء. أقول: الكلام في هذه المسألة يَتِمُّ -إن شاء اللهُ تعالى- في ¬
الفصل الأول: واعلم أنه يرد على كلامه إشكالات
فصلين، أحدُهما: في تَتَبُّعِ كلامِ السيد، وذكر ما يَرِدُ عليه من الإشكالات، والثاني: في ذكر الأدلةِ على قَبول المتأوِّلين. أما الفصل الأول: فاعلم أنَّه يَرِدُ على كلامه إشكالات كثيرة جداً تبلُغ مئتي إشكال، أو تزيدُ على ذلك، وسوف أُبيِّنُها مقسمة على فصولِ كلامه، فمنها على هذا الفصل المقدم عشرةُ إشكالات: الإشكال الأول: أن السَّيِّد قال: قد قمنا أن قاضي القضاة روى الإجماعَ على ردَّ روايتهم، والسيد إنما قدَّم رواية قاضي القضاة (¬1) في حقِّ كُفَارِ التأويل فقط، وقد جعلها هنا في حق كفار التأويل وفُساقه، وهذا سَهْوٌ من السيد، إن شاء الله تعالى. الإشكال الثاني: أنَّ السَّيِّد قد أثبتَ قاعدة كبيرة، وهي أن كُلَّ من كذب متأوِلاً، فهو غيرُ مقبول قياساً على الخَطابِية كما سيأتي كلامُه في ذلك، وقاضي القضاة على أصل السَّيِّد من جملة منْ كذب متأولاً لخلافه في مسائل الإمامة، فما بالُ السَّيِّد نقض ما بناه مِن تلك القاعدة، وروى عن مَنْ يعتقِدُ أنَّه من الكذابين. الإشكال الثالث: أن السَّيِّد أيَّده الله قال في حق ابنِ الصلاح لما اعتقد أنه (¬2) روى الإجماع على صحة " صحيحي " البخاري ومسلم ما لفظه: وليت شعري كيف كان هذا الإجماع (¬3)؟ أكان بأن طافَ هذا السائلُ جميع البقاع، أم بأن جُمِعَ له علماء الأمة في صعيدٍ واحد؟. ¬
فنقول للسيد: ليت شعري كيف كان هذا الإجماعُ الذي رواه قاضي القضاة؟ هل بأن طافَ جميعَ البقَاع، أم بأن جُمِعَ له علماءُ الأمة في صعيدٍ واحد؟ فإنَّ السَّيِّد باعتراضه هذا على ابنِ الصلاح قد لزِمَة ألا يَصحَّ إجماع إلاَّ ممن طاف جميعَ البقاع، أو جُمِعَتْ له الأمة في صعيد واحد، وفي هذا الكلام سؤال وجواب سوف يأتيانِ -إن شاء الله- عند ذكر (¬1) كلام ابن الصلاح. الإشكالُ الرابع: أن السَّيِّد روى هذا عن أبي الحسين عن قاضي القُضاةِ مع أنَّه قد روى عن أبي الحُسين أنَّه يقبلُ كفارَ التأويلِ وفساقه، فلا يأمن أن أبا الحسين روى هذا عن أحدٍ منهم عن قاضي القضاة، وقد ألزمنا السيد فيما احتمل مثل ذلك أن لا يرويه إِلاَّ بعدَ تبرئةٍ صحيحةٍ، فكان يلزمُ السيدَ أَن يُبَيِّنَ تبرئةَ أبي الحسين عن ذلك إن كان يعلمُها وإن لم يكن يعلمُها، لزمه أن لا يرويَ عنه. الإشكال الخامس: أنَّه قال: إنَّ الرواية عن المتأوِّلين ركونٌ إليهم، وإن الله تعالى قد قال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، ثم إنَّه روى عن أبي الحسين، وقاضي القضاة مع أنَّه قد رُوِيَ عنهما أنهما يقبلان المتأوِّلين، وذلك عنده ركونٌ إلى الظالمين، واتِّباعٌ للمُفسدين، وقد توعُّد اللهُ تعالى على ذلك بالنَّارِ، ومذهبُ الزيديةِ أن كلَّ معصيةٍ توعَّد الله عليها، فإنها كبيرة، وردُّ المتأولين عند السيد قطعي لا يعذر المخالص فيه، فيلزمُك ردُّ رواية أبي الحسين، وقاضي القضاة، وتفسيقهما على مقتضى كلامِك مع البقاءِ على مذهب الزَّيْدِيّة. ¬
الإِشكال السادس: أنَّ المعتزلة بأنفسهم مِن جملة الَّذيْنَ ظلموا، لخلافهم لأهل البيت في الإِمامة، واعتقادهم أن أهلَ البيت اجتمعوا على الضلالة في مسألة قطعية، وغير ذلك. ولا شكَّ أنَّ ذلك عندَ أهل البيت معصيةٌ قطعاً، محتملة للكِبر يُطلق على صاحبها اسمُ العصيان والظلم، وأنت قد قلتَ: إنَّ الله قال لنبيه (¬1): {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وقلت: وفيها مِنَ الوعيد ما ترى، وقد قلَّلَ الركونَ بقوله: {شَيْئًا قَلِيلًا}، هذا لفظُك، وهو حجةٌ عليكَ لأنك رويتَ عنهم، وركنت إليهم على مقتضى كلامِك. فإن قلت: الإجماع دلَّ على قبول من لم تبلغ بدعتُه الكفْرَ، والفسْقَ، فيجبُ أن يُخَصُّوا مِن تلك العمومات؟. فالجوابُ من وجهين: الأول: أنَّه لا طريق لك إلى معرفة الإجماعِ، لأنك قد اشترطت أن يكون راوِيه طافَ جميع البقاع، أو جُمِعَتْ له الأمةُ في صعيدٍ واحدٍ إِلَّا أن يُقصَر هذا الشرطُ على ابن الصلاح، فأنت محتاج إلى دليل على تخصيصه بذلك. الثاني: أنَّا نُعارضُك بمثل كلامك، فنقولُ في جميع المتأولين: قد ثبت الإجماعُ على قبولِهم من طُرُقٍ لا تنحصرُ سوف نذكُرُ منها عشرَ طُرُقٍ في الفصل الثاني، إن شاءَ اللهُ تعالى. فنحن أيضاً نُخْرِجُ المتأوِّلين، ونخصُّهم من تلك العمومات، فما لك والتهويل بذكرِ العمومات المخصوصة، والظواهر الظنية؟ وهلاَّ سلكت مسالِكَ العلماء في ذكر ¬
الأشكال السابع: أنك قد حكيت عن قاضي القضاة أنه يقبل فساق التأويل
الخلافِ، والدليل مِن غير تعريض بالتأثيم والتضليل. الإشكال السابع: أنك قد حَكَيْتَ عن قاضي القضاة أنَّه يقبلُ فُسَّاقَ التأويل، ثم احتججتَ بالإجماعِ الذي رواه، فما أمنك أنَّه استند في معرفة الإجماع إلى فُسَّاقِ التأويل (¬1) فَقَبِلَ روايَتهم أو (¬2) نظر في تواريخهم ومصنفاتهم في أخبارِ الصحابة فاعتقد (¬3) ذلكِ تصديقاً لهم لا سيما وقد نصَّ القاضي على جوازِ الخبرِ بالظنِّ مع تجويز الكذب كما قدمنا في الكلام على الوِجادة. الإشكال الثامن: أنك ساويتَ بين المتعمِّدِ للمعصية والمتأوِّلِ في ردِّ حديثهما، كما قررتَ ذلك في المسألة الثانية، وللمعتزلة معاصٍ لوْ تعمَّدُوها، وتعمَّدُوا الإصرارَ عليها، قدح ذلك في عدالتهم، وأوجبَ ردَّ روايتهم، لأن مَنْ فعل الذنبَ الملتبس، وأصرَّ عليه، وامتنعَ مِن التوبة، لم يُقبل عند أهل المذهب، والسيد مقلِّد لهم، متبرئٌ من الاجتهاد، فيلزمه أن لا يقبلَ رواية المعتزلة. فإن اعتذر بالإجماع على قبولِ مَنْ لم تبلغ بدعته الكفر أو الفسق. قلنا: فدل الإجماعُ على بطلان دليلك، حيثُ ساويتَ بينَ المتعمد والمتأوِّل، والإجماع قد فرَّقَ بينهما. ثم الجوابانِ المتقدِّمان في الإشكال السادس يَرِدَانِ ها هنا. الإشكالُ التاسع: أن السَّيد قد منعَ من الرواية عن العلماء إلا بعدَ تحصيلِ إسنادٍ صحيحٍ حتى منع رواية الصحاح عن مصنفيها، فهو أيضاً ¬
الإشكال العاشر: أن رواية القاضي معارضة بأرجح منها
يحتاج في رواية هذا الإجماع إلى إسناد (¬1) صحيح رجاله عدول عدَّلَهُمْ عُدول، وثبت تعديلُ العدول لهم بإسناد صحيح كذلك، كما ألزمنا، فإن كان هذا حَصَلَ له، وتيسَّرَ، فلعل الذي يَسَّرَهُ له يُيَسِّرُهُ لنا في رواية الصحاح عن أهلها، وإن لم يكن تيسَّر له، فما يليقُ منه أن يرتكِبَ ما يعتقد أنَّه حرامٌ. الإشكال العاشر: أن رواية القاضي معارضَةٌ بأرجح منها، وذلك من وجهين، أحدهما: أن جماعة من أهلِ البيت، عليهم السلامُ قد رَووا الإجماع على قبول الكُفارِ المتأولين منهم السَيدُ المؤيَّد بالله، والإمام المنصور بالله، والإمامُ المؤيدُ بالله يحيى بنُ حمزة عليهم السلامُ، وكذلك القاضي زيدٌ، والفقيهُ عبدُ الله بنُ زيد، وسيأتي بيانُ رواياتِهم في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى. وقد قال السيد: إن روايةَ العدل المتنزه من البدع مقدمة على رواية المبتدع بالإجماع، وقاضي القضاة مبتدع عند الجميع، لمخالفته لأهل البيت عليهم السلامُ في مسائل قطعية فوجب ترجيحهم عليه، فكان يلزم السيد ذكر هذا إن كان يعرفه. وثانيهما: معارضة القاضي برواية الخلاف، فقد رواه عددٌ كثير، وجمٌّ غفير، وسوف يأتي الكلامُ على هذا في الفصل الثاني. وقد أشار السيد إلى هذا الوجه الثاني، ورجَّحَ رواية القاضي بما يأتي بيانُه، والجوابُ عليه، إن شاء الله. قال: وكذلك السَيدُ أبو طالب حكى الإجماع في كفار التأويل. ¬
أقول: يرد على هذه الدعوى إشكالات
أقول: يَرِدُ على هذه الدعوى للإجماع من طريق أبي طالب عليه السلام إشكالات: الإشكالُ الأوَّل: أن السَّيِّد قد أقرُّ في آخر كتابه في المسألهَ الثانية أنَّ الشيخَ أحمد روى عن أبي طالب قريباً من الإجماع. هكذا نصَّ السيدُ في كتابه، ثم لما وصل إلى هذا المكان جعله إجماعاً، ولا شكَّ أن بَيْنَ الشيء وبَيْن ما هو قريبٌ منه فرقاً ظاهراً، لأن الشيء غيرُ ما هو قريبٌ منه بالضرورة، فكيف استحل السيدُ أن يرويَ عن أبي طالب أنَّه روى الإجماع على الإطلاق مع إقرار السَّيِّد أنَّه ما روى إلا قريباً من الإجماع؟! وكيف لو لم يتقدم مِن كلام السيدِ ما يَشْهَد ببُطلانِ دعواه هذه، ألم يكن الواقفُ عليها يغترُّ بها، ويبني عليها حُكماً شرعياً. وليت شعري ما حدُّ مقاربة الإجماع، فهذه عبارة غريبة ما علمتُ ذكرها أحد من العلماء، ويُقوي ذلك أن السيدَ أبا طالب شَحَن كتابه " الأمالي " بالرواية عن أئمة الحديث المخالفين في الاعتقاد كالحافظِ أبي أحمد عبدِ الله بن عدي شيخِ أبي طالب روى عنه في " أماليه " مشافهةً قدرَ تسعين حديثاًً، وخرَّج فيه حديثَ أبي داود، وابنِ ماجة، وابنِ السُّني، وأحمدَ بنِ حنبل، وابنِهِ عبدِ الله بن أحمد بن حنبل، ومالكٍ، وعبدِ الرحمانِ بنِ أبي حاتِم، والحسنِ بن سفيان النَّسوي، والحارثِ بن محمد بن أبي أسامة، والأنباري وهو محمد ابن القاسم (¬1) كذا وجدته بخطي، قال ابن الأثير في " الجامع ": وهو ¬
الإشكال الثاني: أن السيد روى هذا الإجماع
محمد بن سليمان (¬1)، فلعلَّهما اثنان فيُنظر ويحيى القطان، والحسين بن إسماعيل المحامِلي، ومحمد بن يونس الكُديمي، وأحمد بن عبد الله البَرْقي، والزهري وأمثالهم بأسانيدِهم، فلو كان يعتقِدُ اعتقادَ السيد من كفر هؤلاء الأعلامِ، والقَطعِ بتحريم الرواية عنهم، ما استكثر مِن حديثهم، وقوَّلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يَقُلْهُ لأجل روايتهم، ولعل السيدَ لا يعْرِفُ مَن هولاء، ولا ما مذهبُهم. وبالجملة فالسيدُ مُظْهِرٌ لنُصرة مذهبِ الزيدية، لأنَّه معترف بالجهل، مانع من وجود من يُمكنُهُ الاجتهاد، ولا بُدَّ لمن تعصَّب لمذهبِ قوم من معرفة مذهبهم أوَّلاً، ثم العصبية ثانياً، والسيد بدأ بالعصبية قبل إتقان المذهب، وهو إلى الإشارة عليه بالبحث عن مذهب الزيدية أحوجُ منه إلى المناظرة على مذهبهم، نسأل الله الهداية. وليت السيدَ يعرفُ رجال " أمالي " أبي طالب، و" أمالي " أحمد بن عيسى، فإنه لو عرفهم، ما لام مَن اعتمد حديث البخاري ومسلم على كُلِّ مذهب، ولكنه ... ولو وقف على أسماءِ الرُّواة في كُتُب الزيدية ربَّما جوَّزَ أنهم كُلَّهم من نُقاوة الشيعة وثقاتهم، وهذا عندَ أهلِ المعرفة كالبدوي يعتقِدُ أن الأئمة أنبياء، وأن الأنبياء ليسوا مِن البشر، ومن بلغ إلى هذا المبلغ، ثم ينتفِعْ بالحُجة، ولم ينتهِج المحجَّة، لطف اللهُ بالجميع. الإشكال الثاني: أن السيد روى هذا الإجماعَ في كتابه عن الشيخ أحمد بنِ محمد الرَّصَّاص، عن أبي طالب عليه السلامُ، والشيخ أحمد باغٍ على الإمام أحمد بن الحسين، وقد حرَّم السَّيِّد الرواية عن البُغاة ¬
الإشكال الثالث: قد أصل أصلا في إلزامه لابن الصلاح
المتأولين، وعدَّها من الرُّكون إلى الظالمين، فما بالُه يستحل أن ينسِبَ إلى الإمامِ الناطق بالحقِّ دعوى كبيرة تنبني عليها مِن الشريعة أحكامٌ كثيرة، ويجعل طريقَه إلى ذلك الركون إلى الظالمين، واتباع سبيل المفسدين. الإشكال الثالث: أن السَّيد قد أصَّل أصلاً في إلزامه لابنِ الصَّلاحِ المتقدِّمِ، وهو يُوجِبُ عليه أن لا يقبلَ الإجماعَ إلا ممن طاف جميع البقاع، أو جمعت له الأمَّةُ في صعيدٍ واحدٍ كما لزِمَ ذلك ابنَ الصلاح. الإشكال الرابع: أنَّه يحتاج في إسناد هذا إلى أبي طالب إلى إسنادٍ صحيح رجاله عدول بتعديلِ عدول معدِّلين حتى ينتَهي إلى زمانه كما ألزمنا. الإشكال الخامس: لو قدرنا أن الشيخ أحمد لم يكن باغياً على الإمام أحمدَ بنِ الحسين عليه السلام، وأنه تاب وصحَّت توبتُه، فالسيد يحتاج إلى تعديله، وتعديلِ المعدل له، وإلى ثبوتِ ذلك التعديلِ عن المعدل بإسناد صحيح، رجالُه عدول كما ألزمنا، فإن مجردَ انتفاءِ البغي عنه لا يُوجِبُ كونَه عدلاً. الإشكال السادس: ما تقدَّم في الِإشكال العاشر على تقديرِ صِحة هذا عن أبي طالب، وإلا فالظاهر أن السَيدَ مُقِرٌّ بعدمِ صحته، وإنما قاله سهواً. والله أعلم. قال: وكذلك ابن الحاجب. أقول: يَرِدُ على كلامِهِ هذا إشكالات: الإشكال الأول: أنَّ السَّيِّد قد قال: إن علماءَ الأشعرية كفارُ
الإشكال الثاني: سلمنا أن ابن الحاجب
تصريح، وإن الرواية عنهم ركونٌ إليهم، فكيف يروي عن المصرحين بالكفر، ويمنعُنَا الروايةَ عن المتأولين، فإن تأوَّل في ذلك لنفسه، وتطلَّب محملاً حسناً، فهلاَّ يَطْلُبُ لغيره مثل ما يطلُبُ لنفسه، فإنَّ حمل المسلمين على السلامة مشروع، وإن منع مطلق الرواية، فقد وقع فيما منع، وارتكب ما أنكر. الإشكال الثاني: سلمنا أنَّ ابنَ الحاجب غيرُ معلومِ الكفر عنده، فِمنْ أين أنهُ عدل مأمون بتعديل عدلٍ، واتصال ذلك بإسناد صحيح كما ألزمنا. الإشكال الثالث: أن السيد قد أقر -فيما تقدم- أن ابن الحاجب لم يرو الإجماعَ على ردِّ كفار التأويل، وإنما قال ابن الحاجب ما لفظه: والمبتدع بما يتضمِّنُ التكفيرَ كالكافر عند المكفر. فأقول: ليس ينبغي مِن العالم إذا توهَّم شيئاً أو استخرجه من كلام غيره أن ينسِبَ ذلك القول الذي استخرجه إلى غيره كما لا يحل له (¬1) أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما استخرج من كلامه، وكذلك من استخرج مِن القرآن حكماً أو معنى لم يَحِلَّ له أن يقول فيما استخرجه: قال الله، والعِلةُ في ذلك أنَّه كذب لا غير، والكذب مُحَرَّمٌ على الله تعالى، وعلى رسوله، وعلى كل أحدٍ، وقد يستخرج العالم أمراً ويُخالفه غيرُه، ألا ترى أن أبا طالب والمؤيد يختلفان فيما يُخرجانه للهادي عليه السلام وكُلُ واحدٍ منهما يعلم اللفظ الذي خرَّج منه صاحبه، ولا يرتضي ذلك التخريجَ، ولا يُساعد صاحِبَه على ما فَهِمَ منه، فكذلك كان يجبُ أن يُبيِّنَ السيدُ لفظ ابنِ الحاجب، ولا يُوهم أنَّه نصَّ على ذلك. ¬
الإشكال الرابع: أنا نُبيِّن للسَّيِّد أيَّده الله ضعفَ مأخذه مِن كلام ابنِ الحاجب، فنقول: نصَّ ابنُ الحاجب على أن المبتدع بما يتضمنُ التكفيرَ كالكافر عند المُكَفرِ (¬1). ولكن المُكَفَرَ بعضُ الأمة، فلم يلزم أن تُجْمِعَ الأمَّةُ على ردِّه. فإن قلت: كلامُهُ يقتضي أن الذين لم يكفروه لو كفَّرُوه لردُّوا روايتَه. قلتُ: ليسَ كلامُه يقتضي هذا لوجهين: أحدهما: أنَّ الذي لم يُكَفِّرْ لا يُسمَّى مكفراً لا حقيقةً، ولا مجازاً، وابنُ الحاجب إنما روى عمن يكفر. فأما قولُهُم في العَازم على فعل الشيء: إنَّه يُطلق عليه اسمُ الفاعل في مثل قولنا: زيد مسافر غداً، فإنما سَمَّوْهُ بذلك لعزمه على السفر، وأجمعوا على أن هذه التسمية مجازية لا حقيقة، وأما مَنْ ليس بعازمٍ ولا في حكم العازِمِ، فلا يُسَمَّى باسمِ ما لم يَفْعَلْهُ ألبتَّةَ، فإذا ثبت أنَّه لا يُسمَّى مكفراً، وثبت أن الأمَّةَ غيرُ مجمعة على التفكير، فقد تعذَّر أن يكونَ الإجماعُ مأخوذاً مِن نَصِّ ابنِ الحاجب، ولم يبقَ إلا المفهوم، وللمفهومِ أقسامٌ معلومة، وشروطٌ مذكورة، فأخْبِرْنَا مِن أيِّ أقسام المفهوم. فإن قلتَ: هو من مفهوم الصفة، لأن المكفّر صفة. قلت: إنَّ مفهوم الصفة هو مِن مفهوم المخالفة، لا من مفهوم الموافقة، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ المفهومُ أنَّه كالكافر عند المكفر لو قدَّرْنَا أنَّه كفر، وهذا ليس مِن المفهوم في شيء. الوجه الثاني: أن زُبْدَةَ الكلامِ أن السيِّدَ توهَّم من ابن الحاجب أنَّه ¬
الإشكال الرابع: أنا نبين للسيد ضعف مأخذه من كلام ابن الحاجب الإشكال الخامس: من أين حصل للسيد إسناد صحيح إلى ابن الحاجب
قال: إن الذين لم يكفروا لو كفروا، لما قبلُوا من كفروه، وهذا ليس بدعوى للإجماعِ ألبتة، بل هذا دعوى على أهلِ الإجماع، وفرْقٌ بَينَ دعوى إجماع الأمة، وبينَ دعوى الإجماع على الأمة، فإن ابن الحاجب لو نص على هذا مَا صَدَقَ ولا صُدِّقَ، لأن هذا من قبيل علم الغيب فمن أينَ له أن الذين لم يُكفِّروا المتأولين لو كفَّروهم، لردوا روايتَهم، وما أمِنه أنهم يكفرونهم مع أنهم يقبلونهم، كما قد قال بذلك الشيخُ أبو الحسين وغيرُه. فبان بهذا أن السَّيِّد ما أصاب بنسبته لدعوى الإجماع إلى ابن الحاجب. الإشكال الخامسُ: من أين حَصل للسيد أيده الله إسناد صحيح إِلى ابن الحاجب، ولعل إسناد كِتاب (¬1) البخاري إليه أسهل مِن إسناد هذه الإجماعات التي رواها السيدُ إلى أربابها لِشدة العناية بسماع البخاري، فما بال السَّيِّد شَدَّدَ علينا في ذلك، ثم رخَّصَ لنفسه. الإشكال السادس: مثل العاشر المقدم. الإشكال السابع: مثل الإشكال الواردِ على ابن الصلاح، وقد مر تقريره. قال: ومن روى الإجماع قُبِلتْ روايته، لأنها مثبتة، وتشهد بخلاف الأصلِ، فتكون أرجحَ. أقول: لما فرغ السيدُ من دعوى الإجماع، وهو مقر بأن الخلاف مشهور في هذه المسألة، رأى ذلك متعارضاً، فأراد أن يُزيلَ التَعَارُضَ بترجيح رواية الإجماع على رواية الخلاف، ويرد على كلامه إشكالات: الإشكال الأول: قال: ومن روى الإجماعَ، قُبِلَتْ روايتُهُ، لأنها ¬
الإشكال الثاني: أن السيد توهم أن راوي الإجماع مثبت، وراوي الخلاف ناف
مثبتة، وهذا ترجيحٌ للإثبات على النفي. فنقول له: الترجيحُ إنما يَصِح بعدَ ثبوتِ الرواية، لكنا نُنازِعُك فيها مِن وجهين: أحدُهما: جملي وهو عدم الطريق الصحيحة إلى هؤلاء الذين رويتَ عنهم أنهم روَوُا الإجماع كما تقدم. ثانيهما: تفصيلي وهو القدحُ في كُلِّ طريق من طرق الإجماع كما تقدم، أما أبو طالب، فالراوي عنه بإقرارك أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، وهو فاسقُ تأويل، وأما ابنُ الحاجب، فهو عندك كافر تصريح، وأما قاضي القضاة، فهو عندك ممن استحل الكَذِبَ متأولاً، فوجب ردُّه قياساً على الخطابية، وهو ممن يَقْبَلُ فساق التأويل، فلا يؤمن أن يكون إسناده في: الإجماع إليهم. الإشكال الثاني. أن السَّيِّد توهم أن راوي الإجماع مثبت، وراوي الخلاف نافٍ، وبنى على هذا ترجيحَ رواية الإجماع على رواية الخلاف، وهذا خطأ لا يخفي مثلُه على مَنْ دونَ السَّيد، فإن راويَ الخلاف مثبت للخلاف، كما أن راوي الإجماعِ مثبت للإِجماع، ومثل هذا لا يخفى على مَنْ له أدنى ذوقٍ. فإن قال: إن راويَ الخلافِ نافٍ للإجماع. قلما: ذلك أمر آخر غير الذي أثبته، وكذلك راوي الإجماع نافٍ للخلاف، فما لك لم تجعله نافياً؟! وكذلك كُل مثبت، فإنه ناف بالنظر إلى غيرِ ما أثبته، فمن شَهِدَ بالمالِ لزيد، فقد نفاه عن عمرو، وهذه غفلةٌ عظيمة.
الإشكال الثالث: أن السيد رجح رواية الإجماع بمخالفتها للأصل
الإشكال الثالث: أن السيدَ رجح روايةَ الإجماع لمخالفتها للأصل، لأن الأصلَ الإجماع، وتوهم أن رواية الخلاف ليست كذلك، وهذا وهم أيضاً، فإن الأصلَ أن لا إجماع وأن لا خلاف، فروايةُ الخلاف أيضاًً مخالفةٌ للأصل، وهذا أيضاًً لا يخفى مثلُه. فإن قلتَ: إنِّي أرِيدُ أن الأصلَ قبولُهم في العقل، فرواية الإجماع ناقلة. قلنا: قد قررتَ في كتابك في هذه المسألة بعينها أن الأصل في العقل أن لا يقبلوا. الإشكال الرابع: أنَّه رَجَّح بمخالفة الأصل، والترجيحُ بها مختلف فيه بين العلماءِ، وهو محتجٌّ على غيرِه، وليس بمحتجِّ لنفسه، ومِنْ حق المحتج على الغير أن لا يحتج عليه بمختلَفٍ فيه مِن غير دليل، بل لا بُد من دليل يُلزمُ ذلك الغيرَ الموافقةَ، وهذا لا يخفي مثله على مَنْ لَهُ معرفة بأساليبِ الجدل والمناظرات. فنقول: بل ما وافق الأصلَ، فهو أولى لِوجهين: الوجه الأول: أن الاستصحابَ -وهو البقاء على الأصل- حُجَّةٌ عند كثيرٍ من العلماء (¬1)، ومما يَدُلُّ على ذلكَ ما ثبت عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله " إنَّ اللهَ فرض فَرَائِضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وسَكت عنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ مِن غيْر نسْيَانٍ، فلا تَتَعَرَّضوا لهَا ". رواه ابن ماجة (¬2). ¬
وقال النواوي: هو حديثٌ حسن، وله شواهد من الصحيح. واستيفاءُ الحُجَجِ في هذه المسألة مقررٌ في الأصول، وقد أخذ العلماءُ بهذا في مسائل كثيرة. منها مَنْ شَكَّ في انتقاض طهارته بقي على الأصْلِ. ومنها يومُ الشك في أول رمضان لا يجبُ صومُهُ لأن الأصلَ شعبان، ويوم الشك في آخر رمضان يجبُ صومُه، لأن الأصل رمضان، ونحو ذلك مما يكثر تعداده. ¬
الإشكال الخامس: أنه روى الإجماع على قبولهم
فإن قلتَ: كيف تحتجُّ على الخصمِ بما يُنَازِعُك في صحته مِن حديث ابن ماجة؟ قلتُ: سيأتي الدليلُ على صِحته في الفصلِ الثاني إن شاء اللهُ تعالى، والدليلُ يوجبُ على الخصم الموافقة، كما أنا نحتج بإجماع أهلِ البيت على مَنْ يَقول: إنَّه ليس بحجة بعد أن يُقيمَ الدليلَ على أنَّه حجة. إذا ثبتَ هذا فنقول: البقاءُ على الأصل حُجة، ورواية الثقة حجة، ولم يَقُلْ أحدٌ من الخلق: إن مخالفة الأصل حجة، ويجب ترجيح البقاءِ على الأصل، لأن حجتين أقوى مِن حُجة، فرواية العدل يعارضها روايةُ عدل مثلِه، ولم يُعَارِضِ الاستصحابَ شيء وهو إما حجة -كما هو رأيُ جماعة-، وإما محتمل أنَّه حجة، إذ الدليلُ على أنَّه ليس بحُجةٍ، ليسَ بقاطع، وهذا وجه ترجيح. الوجه الثاني: أن نقول: قد ثبت أن الأصلَ لا يُخَالَف إلا بحجة إجماعاً من القائلين بأن الاستصحاب حجة، والقائلين بأنه ليس بحجة، وثبت الإجماع على أن ما يخالِفُ الأصلَ، لا يُقال به إلا بحجة، والذي لا يُنْتَقلُ عنه إلا بحجة أقوى من الذي لا يُقال به إلا بحجة. الإشكال الخامس: أنَّه قد روى الإجماع على قبولهما ثلاثةٌ من أئمة الزيدية، واثنان من عُلمائهم، وهم المؤيدُ والمنصورُ، ويحيى بنُ حمزة عليهم السلامُ، والقاضي زيد، وعبدُ الله بن زيد رضي الله عنهما، وسيأتي في الفصل الثاني بيانُ روايتهم إِن شاء الله، وهُمْ أرجحُ مِن قاضي القضاة. قال: وقال آخرون: الخلافُ في كفار التأويل واقع كما هو واقع في فسَّاق التأويل.
أقول: في كلامه هذا إشكالات
وقال الرازي: لا يُعتبر كفارُ التأويل في الإجماع، وُيعتبرون في الرواية، وقد رُوي الخلافُ في فُساق التأويل عن الفقهاء قالوا: تُقْبَلُ روايتُهم، وهو مروي من أئمتنا عن المؤيدِ. أقول: في كلامِه هذا إِشكالات: الإشكال الأولُ: أن السَّيِّدَ ذكر في كتابه أنَّه لا يجوزُ للإنسان أن يُقْدِمَ على ما لا يأمَنُ كونَه كذباً، وشدَّدَ في رواية كُتُبِ الحديثِ عن مُصَنِّفِيها. فنقول: مِنْ أينَ للسَّيِّد أيده اللهُ روايةُ صحيحةٌ بإسناد رجالُه ثقات إلى الفقهاء، وإلى الرازي، وإلى المؤيَّد بالله عليه السلامُ، فإنه كما لا يجوزُ الكذِبُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسبةِ الحديثِ إليه، فكذلك لا يجوزُ الكذبُ (¬1) على العلماء في نسبة المذاهبِ إليهم إلا بعدَ ثبوتِ طريق صحيحة. الإشكال الثاني: أنَّ السيدَ قال: فهو مروي مِن أئمتنا عن المؤيَّد باللهِ موهما أنَّه ما روِيَ إلا عنه، وهذا تحاملٌ عظيمٌ، ونزوح عن الإنصاف إلى مكانٍ سحيقٍ، ولو كان خلافاً يخفى، لحملنا السَّيِّد على جهلِه، ولكنه منصوصٌ في " اللُّمَع " يُقرئه السيدُ كُلِّ عامٍ أن المؤيدَ بالله عليه السلامُ روى قبولَ كفار التأويل فضلاً عن فساقه عن جميعِ أصحابنا، وقد ذكر السيدُ في كتابه أن لفظَ أصحابنا يُفيد الإجماع، وأما الروايةُ في غير " اللمع "، فهي كثيرةٌ جداً، ولا لومَ على السَّيِّد في تركها، فلعلَّه لم يعرِفْها، وسيأتي بيانُ ذلك في الفصلِ الثاني إن شاءَ اللهُ تعالى. ¬
الأشكال الثالث: أن يقول للسيد: إذا كنت مقرا أن المؤيد بالله خالف في هذه المسألة فإما أن تقول
الإشكال الثالث: أن نقولَ للسَّيِّد أيدَهُ اللهُ: إذا كنتَ مقرّاً أنَّ المؤيَّدَ بالله عليه السَّلامُ خالف في هذه المسألة، فإما أن تقول: إن الخلافَ فيها حرام أم لا، إن قلت: إنَه حرام كنتَ قد نسبت المؤيَّدَ بالله عليه السلامُ إلى ما لا يجوزُ من غير دليل، وإن قلتَ: إن الخلافَ شائع، فما لك والترسل على محمدِ بنِ إبراهيم في أمرٍ مباحٍ أو مندوبٍ. قال: وأما الهادي عليه السلامُ، والقاسمُ عليه السلام، فروى الشيخُ أبو جعفر عنهما إنهم لا يقبلون، وقال أبو مضر عنهما: إنهم يقبلُون، وروايةُ الشيخ أبي جعفر أولى وأحرى على أصولِهما. أقول: يَرِدُ على كلامه هذا إشكالات: الإِشكالُ الأوَّلُ: أنا نقول: لما تعارضتِ الروايتانِ عن القاسم ويحيى عليهما السلام، شرع السيدُ يرفع التعارضَ بالترجيح، فرجح روايةَ أبي جعفر وهو نافٍ على روايةِ أبي مُضر وهو مثبت، وقد قدَّمَ قبل هذا بنحوٍ من أربعة أسطرٍ أو ثلاثة أن المثبت أولى من النافي حيث ظنَّ أن راويَ الإجماع مثبت، وراوي الخلاف نافٍ، وليس كذلك، بل هما مثبتانِ كما بيناه آنفاً، فلما وَصَلَ إلى النافي والمثبت على الحقيقة، قَدَّمَ النافي على المثبت، وهذا عجيبٌ، فلا أدري ما عُذْرُهُ. الإشكال الثاني: أنَّه احتج لرواية أبي جعفر بأنَّها تُوافِقُ أصولَ الهادي والقاسم عليهما السَلام، وقد قدمنا أنَّ هذا معيبٌ عند النظار، لأن خصم السيِد -أيده اللهُ- ليس ملتزماً لما ترجَّحَ للسَّيِّد على جهةِ التقليد له، إذاً لكان تابعاً لا منازعاً، فكان يجبُ عليه أن يُبيِّنَ أصولَ القاسم والهادي عليهما السلامُ هذه التي ادعى عليها أنَّها توجِبُ رد قبولِ المتأولين، فإنا نخاف أن يكون السَّيِّدُ -أيَّده الله- استخرج ذلك لهما من وجه ضعيف.
الأشكال الثالث: أنا نبين للسيد أن للهادي والقاسم أصولا توجب قبولهم
الإشكال الثالثُ: أنا نبين للسيِّدِ أيَّده الله أن للهادي والقاسم أصولاً تُوجِبُ قبولَهم، ويدل عليه وجهان: أحدهما: أن السَّيِّد المؤيَد باللهِ عليه السلامُ خرج للهادي عليه السلام أنَّه يَقْبَلُهُمْ، رواه عنه الفقيه علي بن يحيى الوشلي (¬1) في " تعليقه " بلفظ التخريج، ورواه عنه القاضي شرفُ الدين حسنُ بنُ محمد النَّحوي رحمه الله في " تذكرته " (¬2) بلفظ التحصيلِ، ولم يختلِفِ الرُّواةُ في ذلك عن المؤيَّد عليه السلامُ. وثانيهما: أن السيدَ أبا طالب نَسَبَ ذلك إلى الهادي عليه السلامُ في أحدِ تخريجَيْه رواه الفقيهُ علي بنُ يحيى الوشلي في " تعليقه " ونص في " اللمع " على ذلك فقال: قال السَّيِّد أبو طالب عليه السلامُ: وأما شهادة أهل الأهواءِ من البُغاة والخوارج، فإن جوازَ شهادَتِهم لا يمتنِعُ أن تُخرج على اعتبارِه عليه السلامُ أن تكونَ الملةُ واحدة، لأن هؤلاء كُلَّهم من أهلِ مِلةِ الإسلام، هذا لفظُه في " اللمع " فكيف رجَّحَ السيدُ روايةَ أبي جعفر لمجرَّدِ موافقتها لأصولهما موهماً أن ليسَ لهما أصولٌ تُوافِقُ روايةَ أبي مُضر، وهو يقرىء هذا في " اللمع " كُلَّ عام، فما أبعد هذا عن الإنصاف، وهذان السيدان الأخوان عليهما السلامُ هما إماما مذهبِ الهادي ¬
الإشكال الرابع: سلمنا أن تخريج القبول مساو لتخريج الرد غير راجح عليه، فالقبول أولى
عليه السلامُ، فقد تطابقا على تخريج قبولِه المتأولينَ عليه السلامُ، ولم يتطابقا على تخريج ردِّه لهم، بل انفردَ بهذا أبو طالب. فثبت بهذا ترجيحُ تخريج قبولِه لهم، لأن ما اجتمعا عليه أرجحُ مما اختلفا فيه. الإِشكالُ الرابع: سلمنا أن تخريجَ القبول مساوٍ لتخريج الرَّدِّ غيرُ راجح عليه، فالقبولُ أولى لرواية جماعةٍ من أئمة المذهب أن قبولَهم إجماعٌ، كالقاضي زيدٍ، والمنصورِ بالله، ويحيى بنِ حمزة، وعبدِ الله بن زيد، والمؤيَّدِ بالله، ولا شك أن دعوى الإِجماعِ من هولاءِ الثقات تَناولُ مذهمبَ القاسم، ويحيى عليهما السلامُ خاصةً، لأنهما عمودُ الإجماع عند هؤلاء، إذ هُمْ من المشاهير بتعظيم أقوالهما، فلا ينبغي أن يتوهَّمَ فيهم أنهم جازفوا بدعوى الإجماع قبلَ معرفة مذهبهما خصوصاًً. فاختلافُ السيدينِ في التخريج إنما هو في الشَّهادة، فأما الروايةُ فالإجماع فيها حاصل، والنقل فيها غيرُ متعارض، كما ذكره القاضي زيد في شرحه، وسيأتي إيضاحُ ذلك في الفصل الثاني إن شاء الله. الإشكالُ الخامسُ: أن القاضيَ أبا مضر من أئمةِ مذهب الزيدية الجلَّة، وقد روى عن الهادي والقاسم عليهما السَّلامُ قبول المتأولين رواية غير تخريج، ولا معارض لروايته مثبت، ولا وجْهَ على أصول الزيدية لطرحها، ولا أقل من أن تكون مرجحة للتخريج الذي تطابق عليه السيدان كما سيأتي. الإشكال السادس: أنَّ السيدَ أيده الله يحتاج في نِسبة هذا التخريِج إلى أبي جعفر إسناداً صحيحاً متصِلاً به، رجالُه معدِّلُون على الصفة التي ألزمنا، وكذلك رواية أبي مضر حتى يصحَّ له الترجيحُ بينهما، إذ هو فَرْعُ الصحة.
قال السيد: وقال الشيخان: إنهم لا يقبلون
قال: وقال الشيخانِ: أبو علي، وأبو هاشم -وهو قولُ الناصر، والسيد أبي طالب-: إنهم لا يقبلون. وقال قاضي القضاة: تُقْبَلُ روايةُ فساق التأويل، ولا تُقبلُ رواية كفارِ التأويل، والشيخ أبو الحسين، والرازي، قالا: تُقبل كقول الفقهاء. قال الشيخ أبو الحسين، والرازي: والخلافُ في مَن كان غيرَ معاند، فأما من عَرَفَ الحقَّ وعاند، فليس بمتأولٍ وهذا صحيح، فإنه إنما أظهر التأويلَ، وليس بمتأول عندَ نفسه، وفي باطن أمره. أقول: في كلامه هذا إشكالات: الإشكال الأولُ: أنَّه ذكر أنَّه لا يقبل منْ عرف أنَّه عاند، وأظهر التأويلَ، وأشار بذلك إلى ما صرَّح به في غير هذا الموضع من أنَّه قد عَرَفَ أن علماء الأشعرية كفارُ تصريح، وأنهم معانِدون، وفي رواة الحديث منهم خلق كثيرٌ، بل أئمة الحديث عنده أشعرية فسبحانَ اللهِ العظيم كيف عَسَّرَ السيد أيده الله علينا المعرفةَ بروايتهم التي نطقوا بها؟ وما زالوا يُظهرونها مُدَّةَ أعمارهم، وَيحْرِصُون على ظهورها عنهم، فلم يجعل لنا طريقاً صحيحة إلى معرفة صدورها عنهم مع التصريحِ منهم بذلك، وتكرارِه مدة الأعمارِ، ونقل الخلق لألفاظهم في ذلك، ثم إنَّه تيسَّر للسيد أيَّده اللهُ معرفةُ ما انطوت عليه ضمائرُهم، وحجبته سرائرُهم مِنْ تعمُّدِ الكفر، وقصد الكذب على الله تعالى، وعلى رسولِه عليه السلامُ مع ما ظهر عليهم مِن القرائن الدَّالةِ على خلاف ما فَهِمَ السيدُ بحيث إنَّ الذي حَمَل الأئمةَ والعلماءَ المكفرين لهم على قبولِهم مع اعتقادِ كفرِهم هو ما ظهر عليهم مِنَ الخوفِ العظيمِ من عذابِ الله، والمحافظةِ على طاعته، وتَحَمُّلِ مشاقِّ التكليفِ العظيمة مِن قيامِ الليْلِ، وصومِ النهار، والورع
عن الشبهات، وكثرةِ البُكاء مِن خوف الله حتى إن الترمِذِيَّ عَمِيَ مِن كثرة البُكاءِ في ما رُوِيَ عنه (¬1). ومن وقف على تراجمهم، عَلِمَ أنَّهم كانوا متحمِّلِينَ للمشاقِّ العظيمةِ في طلب ثواب الله، والخوفِ من عقابه بحيثُ إنَّه يعْلَمُ ذلك بالتواتُرِ عنهم، والقرائنِ القوية. فكيف تهيَّأ للسَّيِّد -أيَّده الله- أن يعلم ما في بواطنهِمِ من التَّعَمُّدِ الذي هو من أعمال القلوب، ولم يتهيأ لنا أن نَعْلَم ما ظهر منهم مِن القول المسموع بالآذان المنقولِ عنهم بِكُلِّ لسان. ثم إِنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد تعذَّر عليه معرفةُ ما في بواطن المنافقين إلا بالوحي، وفي الحديث أنَّه جاءه رجلٌ من الأنصار يُسَارُّه صلى الله عليه في قتلِ رجلٍ من المنافقين، فَجَهَرَ - صلى الله عليه وسلم - وقال: " ألَيْس يشْهدُ أنْ لَا إلهَ إِلا الله "؟ قال الأنصاري: بلى، قال: " ألَيْسَ يَشْهَدُ أنِّي رسُول اللهِ "؟ قال: بلى، قال: " أليْسَ يُقِيمُ الصلاةَ "، قال: بلى، قال: " فأولئِكَ الَّذِين نهَانِي اللهُ عَنْ قَتْلهمْ " (¬2)، قال الأنصاري: إنهُ منافق يا رَسُولَ اللهِ، ¬
تنبيه: غير خاف على أهل النظر أن أهل العلوم العقلية
فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إني لَمْ أُوْمَرْ أنْ أشُقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ". فقولُه عليه السلامُ: " إِني لم أُومَرْ أن أشُق عن قلوبِ الناس " كناية لطيفة منادية بالتنبيه على أنَّه لا طريقَ إلى العلم بالبواطنِ، وذلك أنَّه عليه السلامُ أشار إلى أن الغايةَ القُصوى في البحث عما في الصدور هو شَقُّ القلوب، وقد علمنا أنَّ شَقَّ القلب غيرُ مفيد للعلم بما كان فيه قبل أن يُشَقَّ فإذا كان هذا لا يفيدُ مع أنه الغاية القصوى في البحث عن ضمائر القلوب، وسرائرِ النفوس، فكيف بما عداه؟ وقد أجمعتِ الأمة إجماعاً ضرورياًً أنه لا يُكّفرُ أحدٌ ولا يُفَسَّقُ لمجرد الفهمِ والحَدْسِ (¬1) ولا يجري بذلك حُكْم مِن أحْكَامِ الشريعة النبوية. تنبيه: غيرُ خافٍ على أهل النظر أن أهلَ العلوم العقلية قد ذكروا في ¬
الإشكال الثاني: أن السيد أوهم أن الشيخ أبا الحسن والرازي يقولان بمثل مقالته
الأمور الوُجْدَانية أنَّا قد نعلمُها مِن الغَيْرِ (¬1) بالقرائن كجوعِ الجائِع، وفرَحِ الفرِحِ، وغمِّ المغموم، ولكن ذلك بشرطين: أحدُهما: أن يكونَ ذلك مشاهداً لنا غيرَ غائب عنا، لأنَّ القرائنَ الدالة على ذلك الباطن هي ما يُشَاهَد بالعيان مِن ضعف الجائع، وتقلُّص شفتيه، وتغيرِ لونه ونحوِ ذلك من الأمور التي يُعْلَمُ بالضرورة أنَّه لا يُمكنه التصنعُ فيها، وكذلك سائرُ مَنْ يُعلَمُ حالُه بالقرائن. ثانيهما: ألا تظهر قرائنُ تُعارِضُ تلك القرائنَ، فإن التعارض يمنع حصولَ العلم الضروري، وهؤلاء المخالفون لنا في الاعتقاداتِ قد ظهرت على عُدُولهم قرائنُ تفيدُ عدمَ التعمُّدِ للباطلِ، ولهم شُبَهٌ عويصةٌ يتبلَّدُ فيها كثيرٌ من الفُطَنَاءِ، فأينَ حصولُ العلم الضروري مع هذا!! الإشكال الثاني: أن السيِّد -أيده الله- أوهم أن الشيخ أبا الحسين، والرازي يقولان بمثل مقالته مِن الحكم بالتعمد للعناد على من أظهر التأويلَ ¬
مِن عدول المتأولين بمجرد القرائن، ولم يقولا بما يقتضي ذلك، إنما قالا: إِنَّ مَن عَرَفَ الحقَّ، وعاند فليس بمتأوِّل، وبينَ هذهِ العبارةِ التي نَصَّا عليها، وبينَ قَوْلِ القائل: من أظهر التأويلَ، ودلَّت القرائنُ على أنه متعمِّدٌ حكم عليه بالتعمد، سواء كان عدلاً في مذهبه أوْ لا، فرقٌ عظيم، وبَوْنٌ بعيد! فإن قلت: إِن (¬1) لم يقولا بهذا، لم يَبْقَ لكلامهما فائدة، ولا لِمذهبهما ثَمَرَةٌ. قلتُ: بل ثمرةُ مذهبهما تظهر في صورتين: إحداهما (¬2): في مَنْ أقرَّ من المخالفين أنَّه يعلم الحق، ويتعمَّد الباطلَ كما رُويَ هذا عن غيرِ واحد من المخالفين (¬3). والأخرى: حيث يكون المتأول غيرَ عدل في مذهبه. فإن قلت: ما الفرق بين العدلِ وغيرِ العدل؟ قلتُ: الفرقُ أن العدلَ ظهرت عليه قرائنُ تدل على عدم العمد، وهي تَحَمُّلُهُ لمشاق التكليف، وصبرُه على مجانبة المحرمات وغير ذلك من المحافظة على النوافل، وسائرِ القرائن المرجحة لِظَنٍّ تأوله بحيث لا يَصِحُّ معها العِلْمُ بعناده. الإشكال الثالث: أن العلمَ بالأمورِ الوُجدانيات المتولِّد عَن القرائنِ مما لا يصح أن يحتج به أحدٌ الخصمين على الآخر، لأن إقامةَ البراهين ¬
الإشكال الثالث: أن العلم بالأمور الوجدانيات، مما لا يصح أن يحتج به
عليه غيرُ متصوَّرة ولا معقولة، وليس مما يشتركُ فيه جميعُ العقلاء، فالسيد -أيده الله- غلط في إيراده، لأنَّه إما أن يدعي أنَّ كل عاقل يعلم عناد الأشعرية بالضرورة أو لا، إن لم يدَّع ذلك، لم يصح استدلالهُ على خصمه بأنه يعلم ذلك، لأنَّه ليسَ يَلْزمُ الخصمَ أن يعمل بعلم السَّيِّد أيده الله، فإن ادَّعى السيدُ أن العلمَ بعنادهم مما يشترك فيه العقلاءُ، فهو مردود بوجهين: الوجه الأول: أنا لا نجِدُ ذلك من أنفسنا، ولا دليلَ للسَّيِّد على ما يَدَّعيهِ علينا من وجدانه في أنفُسنا، فإذا اختلفنا نحن والسيدُ فيما حجبته ضمائرُنا، فنحنُ أعلمُ منه بذلك، وإخبارُنا عن ما في أنفسنا أرجحُ من إخبارِه بغير شك. الوجه الثاني: أن الظاهرَ من أحوال السَّيِّد أنَّه لا ينسبُ أهل البيت عليهم السلام أو الجماهير منهم إلى العِناد، وجَحْدِ الضرورة، وهم ممن لم يقل بأن الجبرية كفارُ تصريح، لأنهم ما زالوا يمثِّلونَ كفارَ التأويل بالجبرية والمشبهة مِن غير مناكرةٍ في ذلك، وقد نص على ذلك في " اللمع " (¬1) الذي هو مدْرسُ (¬2) الزيدية منذ أعصارٍ عديدة. قال في " اللمع " ما لفظه: وفي تعليق الإفادة: ومن بلغ إلى حد الكفر والفسق متأوِّلاً، فالعلماء مختلفون فيه، والأظهرُ عند أصحابنا أن شهادَته جائزة إلى قوله: وهذا كالخوارج والمجبرة. إِلى قوله: فعلى هذا ¬
الإشكال الرابع: أن العلم بتعمد الباطل والظن
تكون شهادة المجبرة والمشبهة مقبولةً عنده قَدَّسَ الله روحه وكذلك عند الهادي، والقاسم، يدل عليه أن الجبر والتشبيه من جهة التأويل والتدين، فوجب قبولُ شهادتهم. فهذا نصُّ " اللمع " كما ترى في الإفصاح بأنهم من أهل التأويل والتدين. ولم يزل هذا النص مقروءاً منذ صنف كتاب " اللمع "، بل مِن قبله بدهرٍ طويل في محافل العلماء والفضلاء، ومساجدِ الزيدية، ومدارسها، ما أنكره أحد، ولا اعترض عليه، ولا شكَّكَ فيه، ولا عُرِفَ في تأويلهم خلاف ألبتة حتى جاء السيد -أيده الله- فرَضيَ لنفسه ما لا يرضاه له صديق مِن مخالفة عادات العلماء، والغلو في التَّعنُّتِ والتشديد، وإنما خلاف المتقدمين والمتأخرين في أن الجبرية كفارُ تأويل أم لا، وفي أنهم يُقْتَلُونَ أولاً، وأما أنهم كفارُ تصريح، فما صَرَّحَ بالخلافِ في هذا أحدٌ قبل السيدِ -أيده الله- فيما نعلم، والذي جَهِلْنا أكثرُ مما علمنا بغير شك، فإن كان السيد يعرف منْ صرَّحَ مِن أهل البيت بأنهم كفار تصريح فليُفِدْنا ذلك، فغير منكر أن يعلمَ -أيده الله- ما لم نعلم، فهذا الوجه ذكرتُه، لأن القسمة العقلية تحتمِلُه، وما أظُنُّ السيدَ يقول إلا بالوجه الأول وهو أن العلمَ بعنادهم مما لا يجب اشتراكُ العقلاء فيه، لكن إذا كان مما لا يجب اشتراكُ العقلاء فيه فكيف غَفَلَ السيد، واحتج على الخصم بذلك؟ الإشكال الرابع: أن العلمَ بتعمُّد الباطل والظن لذلك مما يستندُ إلى الأمارات، والأمارات مما لا يختص بالكفار، وكذلك تَعَمُّدُ لباطِل ممكنٌ في حقِّ الكفار والمسلمين، وسواءٌ كان ذلك الباطل كفراً أو فسقاً، أو معصية ملتبسة، فيلزم السيد -أيده الله- أن يجيز الاحتجاجَ على الخصوم بالجرح المستند إلى فهم تعمد الباطل في حقِّ أهل العدل والتوحيد
وغيرهم، فيلزمه أن يُسَوِّغَ للقائل أن يقول: إن أبا حنيفة متعمِّد للباطل، لقوله: إن القياسَ مُقدَّم على الخبر (¬1)، بل لما هو أعظمُ من هذا مثل قوله: إِن النهي يقتضي الصِّحَّةَ (¬2) وغيرُ ذلك من المسائل الضعيفة، ومثل قول أبي يوسف، وأبي العباس عليه السلامُ: إن الماء المستعمل (¬3) نجس، لأن المعلومَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يَحْترِزُ مما يترشَّشُ منه كما يحترِزُ من البول، ولأنه يَبْعُدُ في النظر أن يكون الوجهُ طاهِراً، والماءُ طاهراً، فإذا التقيا كانا حَالَ الالتقاء طاهرَيْنِ، فإذا انفصلَ الماءُ الطاهر من الوجه الطاهر إلى الهواء الطاهر صارَ الماءُ كالبول وأمثال هذا. فقد رُوِيَ عن ابن مسعود ¬
أنه قال: إن التيمُّم غيرُ مشروع للجنب، ورُوجِعَ في هذا، واحْتُجَّ عليه بالحديثِ والآية، فقال: لَوْ رخَّصنا لهم في هذا لكان يوشِكُ أن يتيمم أحَدُهُم مِن بردِ الماء (¬1). فكان يلزم على كلام السَّيِّد أن يكون للمُتَعَنِّت سبيلٌ إلى جرح كثيرٍ من الثقات لمجرد سُوءِ الظن، والهجوم بغيرِ علم، وأنه يلزمنا أن نسكت لمن قال ذلك، لأنَّه أخبر عن علم ضروري أو عن ظنٍّ حَصَلَ بقرينة صحيحة، وأبو حنيفة، وأبو العباس وابنُ مسعود وغيرُهم غيرُ معصومين مِن تَعَمُّدِ الباطل، وكذلك يمكن المتعسف على أصله أن ينسب إلى المعتزلة والفقهاء تَعَمُّدَ الباطل حيث أنكروا تقديمَ علي عليه السلامُ في الإمامة، واختصاصه بها مع ما لهم مِن الذكاءِ العظيم، ومع مخالطتهم لكثيرٍ من أهل البيت، وبيان أهل البيت للأدلة، ومضي الزمان الطويل على ذلك، بل يُمكن تكلفُ تعمد الباطل لأكثر العلماء، فمن الذي لم يُنْقَدْ عليه قولٌ ضعيف، ولِهذا قيل: كُلُّ أحدٍ يؤْخَذُ من قوله وُيتْرَكُ إلا رسولَ الله ¬
قال السيد: وأما الدليل، فقد احتج القائلون
- صلى الله عليه وسلم - (¬1) وقد طوَّل السيدُ الكلامَ في هذا في المسألة الثانية (¬2)، وسيأتي هنالك مزيدُ بيانٍ لهذا الفصل، إن شاء الله تعالى. قال: وأما الدليلُ، فقد احتج القائلون بوجهين: أحدُهما: أنَّ الظن يَحْصُلُ بصدقه، لأنَّه متدين يخافُ العقابَ على كذبه، ويرجو الثوابَ على صدقه. والثاني: أن الصحابة قَبِلُوا رواية قتلة عثمان، وقَبِلَ بعضُهم روايةَ بعض بعدَ ظهور الفتن. أقولُ: كلامُ السَّيِّد هذا دالٌّ على أن القائلين ما احتجُّوا إلا بحجتين وهو مفهومٌ ظاهر، وهو المسمَّى بمفهوم العدد أحدِ أقسام المفهوم المعروفة في الأصول، وهذا لا ينبغي مِن السَّيِّد أيده الله مع كثرة اطلاعه وسَعةِ معرفته، وسوف يأتي في الفصل الثاني -إن شاء الله- ذِكْرُ بعضِ ما احتجُّوا به مما عرفت أنَّه يحتح لهم به على قِلَّة معرفتي، فقد ذكرتُ في هذا الجواب خمساً وثلاثين حُجة أضعفُها لا تَقْصُرُ عن مساواة بعضِ حجج السيدِ التي احتج بها على ردِّ المتأولين، كما سيأتي بيانُ ذلك كُلِّهِ. قال: واحتج الرادون بوجوه: الأول: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ¬
أقول: كلام السيد في الاحتجاج بهذه الآية يحتمل إيراد إشكالات كثيرة نذكر منها ما حضر
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة} [الحجرات: 6] وهذا في معنى العموم، كأنه قال: إن جاءكم فاسق، أيَّ فاسِقٍ كان، كقولك: إن جاءك رجل فأكرمه، فإنه يقتضي إكرام أيِّ رجل جاء، وإن لم يتناول مجموع الرجال، ولأنه عَلَّق الحكمَ على صفة تقتضي التعليلَ، وكأنَّه قال: إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا أن تصيبُوا قوماً لأجل فسقه، فيقتضي العمومَ مِن هذا الوجه. أقول: كلامُ السَّيِّد أيَّده الله في الاحتجاج بهذه الآية يحتمل إيرادَ إشكالات كثيرة، نذكر منها ما حَضَرَ: الإشكال الأول: أن نقول: احتجاجُ السَّيِّد بهذه الآية ينبني على أنه لم يكن يَسْبِقُ إلى الأفهام عندَ إطلاق لفظ الفاسق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على مرتكب الكبيرة تأويلاً وتصريحاً، فكان ينبغي منه أن يذكُرَ الدليل على هذا، فإنه قاعدةُ دليلِهِ، ويجب عليه أن يبين على ذلك دليلاً قاطعاً، وإلا لم يمنع خصمه من الخلاف والمنازعة وقد نسي السيدُ هذا، ولا يصِحُّ له الاستدلالُ إلا به، ونحن ننازِعُه في ذلك من طريقين: الطريق الأولى: أنَّه قد ورد في السمع ما يَدُلُّ على أن الفاسق كان في ذلك الزمان يُطلق على الكافر كثيراً، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وقولِه تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون} [البقرة: 99]، وقولِه في المنافقين: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون} [التوبة: 84]، وقولِه تعالى فيهم أيضاً: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة: 96]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ (¬1) ¬
رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون} [السجدة: 20] وقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِين} [الحشر: 5]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [الحشر: 19] وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [المنافقون: 6]، وقال تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] إلى غير ذلك مما يطولُ تعدادُه. إذا عرفتَ هذا فلا شك في أمرين: أحدهما: أن هذه الآياتِ دالةٌ على أن الفاسق في العُرف الأول يُطلق على الكافر ويَسْبِقُ إلى الفهم. وثانيهما: أن العرف المتأخِّرَ هو أنَّ الفاسق مقصورٌ على مُرتكبِ الكبيرة التي ليست بكفرٍ، ولا يَسْبِقُ إلى الفهم في هذا العُرف المتأخر إلا ذلك فاختلف العُرْفانِ، فلا يجوز أن نُفَسِّرَ القرآنَ بالعُرف المتأخر، لأن الله تعالى لا يُخاطبُ الناس إلا بما يسْبِقُ إلى أفهامهم، وهو القِسْمُ المعروف بالمبين في الأصول، أو بما لا يُفهم منه شيء ثم يُبينه وهو المُجْمَلُ. فإن قلت: هذا خلافُ مذهب أهلِ البيت عليهم السلامُ. قلتُ: ليس كذلك، لأنَّ أهل البيت لم يتكلَّمُوا على أنَّه لم يكن الكافرُ يسمَّى فاسقاً في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسبِقُ إلى الفهم عند ذكر الفاسق أنه الكافر، وإنما تكلموا على أن مرتكب الكبيرة يُسَمَّى فاسقاً، ولسنا نُنازِعُ
في ذلك، فإنا نقول: إنَّه يسَمَّى فاسقاً في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الوقت المتأخر لكنِ التسميتان مفترقتانِ فالمتقدمة في زمانه عليه السلامُ لغوية غيرُ سابقة إلى الأفهام إلا بقرينةٍ، والتسميةُ المتأخرة في زماننا عُرفية سابقة من غير قرينة، وهذا شيء لم ينصَّ أهلُ البيت على خلافه. فإن قلتَ: فقد ورد في القرآن الفسقُ لغيرِ الكفر في مثل قوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَان} [الحجرات: 11] وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} [الحجرات: 7]، وقوله: {ذَلِكُمْ فِسْق} [المائدة: 3]، وقوله: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]. فالجواب: أنا لم نَدَّع أن الفسقَ لم يرد في الكفر بل قلنا: إِنه فيه حقيقة عرفيةٌ سابقةٌ إلى الأفْهام مِن غير قرينة وهو في غيره حقيقةٌ لغوية، وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " إنَّ النِّسَاءَ كَوَافِرٌ " قَالُوا: يا رسولَ اللهِ يكفرن بالله؟ قال: " لا، يَكْفُرْنَ العَشِيرَ " (¬1)، فلم يكن هذا مانعاً مِن كون الكفر في ذلك الزمان اسماً عرفياً لما يخَالِفُ الإِسلامَ، وفي الحديث من هذا القبيل شيء كثير. فإن قلتَ: فهذا يقتضي أن الفِسقَ يَشْمَلُ الكفرَ وسائرَ الكبائر، وأن دخولها في هذه الآيةِ على السواء (¬2)، فلم قلتَ: إن إطلاقه في ذلك الزمان على الكافر كان أسبقَ إلى الأفهام؟ ¬
قلتُ: لأن القرآن قد دلَّ على اسم الفاسق والفاسقين مما يختصُّ بالكفار، كقوله تعالى. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون} [التوبة: 67] فأفاد قصرَ الفاسقين على المنافقين كما هو معروف في علم المعاني، فلو كان كما ذكرت، لكان يكون الحقيقة أن المنافقين هم بعضُ الفاسقين، وكذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّار} [السجدة: 20] إِلى قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20]، والدلالات في هذه الآيات ظاهرة، وهذا هو الأكثرُ من النصوص القرآنية، وقد جاء في القرآن ما يَدلُّ على اختصاص أهلِ الكبائر بهذا الاسم، ولكِن مجيئاً قليلاً، وذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فهذا ظاهِرُه متعارض، ولا بُدَّ من العدول عن الظاهر إما من الحقيقة العُرفية إلى اللغوية، وإما من الحقيقة إلى المجاز، وكلاهما لا يجوزُ إلا لضرورة، والتجوزُ فيما ورد قليلاً نادراً أولى مِن التجوُّز في الأكثريِّ المستمِر. فإن قلت: فقد ورد اسمُ الفسق لغير الكفر كثيراً غير نادر كما قدمناه آنفاً. قلت: على تسليم التساوي في الكثرة، فليس هذا موضع النزاع، فإنا إنما نازعنا في الفاسق والفاسقين ونحو ذلك مما ورد بصيغة فاعل، وذلك لأنَّه إذا ثبت في اسم الفاعل عُرْفٌ لم يلزم في المصدر كالدَّابة والدَّبيب، فإن الدابة في العرف للبهيمة المعروفة، والدَّبيب لا يختص بها، سلمنا أنَّه لا يكونُ التجوز في النادر أولى، فنحن نقول: أحدهما مجاز، والآخرُ حقيقة، فدل بدليل قاطع على أن المجاز هو إطلاق الفسق
الطريق الثانية: سلمنا لك أن النصوص القرآنية لم يدل على أن الفاسق يختص في عرف ذلك الزمان بالكافر
على الكفار، وإنما (¬1) اشترطنا أن يكونَ دليلُك قاطعاً، لأنَّك ادعيتَ أن المسألةَ قطعية، وحَرَّمْتَ الخلافَ على خصمك، وله أن يُنَازِعَك ما لم يكن دليلُك قاطعاً، لأن أقصى ما في الباب أن سؤالَنَا غيرُ راجح ولا ظاهر، لكنه محتمل مرجوح أو مساوٍ، فعليك دفعُ الاحتمال. الطريق الثانية: سلمنا لك أنَّ النصوص القرآنية لم تدل على أنَّ الفاسق يختصُّ في عُرف أهلِ ذلك الزمان بالكافر، لكن قد حَصَلَ لنا منها ما يقتضي القطعَ بأن العُرف في الفاسق في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ العرف في وقتنا مثل قوله تعالى في الكفار: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين} [الأعراف: 102]، وقوله تعالى في المشركين: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] ومثل قوله في اليهود: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (¬2) [المائدة: 59] وقوله فيهم: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] فَهذِهِ النصوص -كما ترى- دالةٌ على أن في الكفار المصرحين من لا يستحِقُّ أن يُسَمَّى فاسقاً، فدلَّ ذلِكَ على أن ثَمَّ عُرفاً في اسم الفاسق غيرَ هذا العرفِ الذي اصطلح عليه المتأخرون، وغير الحقيقة اللغوية. الإشكالُ الثاني: أنا نقول: قد ورد في اللغة ما يَدُلُّ على أن الفسق تعمدُ المعصية، وأن الفاسقَ المُتَعَمِّدُ، فبطل احتجاجُ السَّيِّد بالآية على المتأوِّلين، وإنما قلنا: إن ذلك قد ورد في اللغة، لأن الزمخشري قال في تفسير قولِه تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}: متمردون خُلَعَاءُ لا مُرُوءَةَ تَزَعُهُم، ولا شمائِل مَرْضِيَّة تردعهم، كما يُوجد ذلك في بعض الكفرة مِن التَّفادِي ¬
عن الكذب، والنَّكْثِ والتَّعفف عما يثْلِمُ العِرضَ، وَيَجُرُّ أُحْدُوثَةَ السوء (¬1). فهذا تصريح بتفسير الفاسقين بمن لا يتفادى عن الكذب والنَّكث، وبأنَّهم أهلُ الخلاعة الذين لا مروءة لهم ولا حياء، وهؤلاء مردودون بالإجماع، وإن لم يكن لهم معصيةٌ إلا مجرد الخلاعةِ وقلة الحياء، ولهذا عَدَّ العلماء كثيراً من المباحات التي لا يفعلُها إلا الخلعاءُ من الجرح في العدالة وإن لم يكن فاعلُها يستحقُّ العقاب، لما كانت دالة في العادة على أن فاعلها يجترىءُ على الكَذِبِ والمعاصي. وقال المؤيَّدُ بالله في " الزيادات " -وقد ذكر قولَ الهادي عليه السلام: مَنْ نكَثَ بَيْعةَ إمَامِهِ طُرِحَتْ شهَادَتُه- نقول: مَنْ أنكر إمامته لأجل الفسوق والتهتك لا لأجل النظر في أمره، والتفكر في أحواله. وقال المؤيَّد بالله مرةً: لعله -يعني الهادي عليه السلام- قال ذلك اجتهاداً، ولكنه يضعفُ عندي إذا كان مستقيمَ الطريقة في سائر أحواله، فإن عُرِفَ منه الفسوقُ بما يقوله، فإني لا أقبلها. انتهي كلامُه عليه السلام. وهو ظاهرٌ في أنَّه أراد بالفسوقِ تَعَمُّدَ المعصية، وإلا فالنَّاكث لبيعة إمامِ الحق فاسقٌ في العرف المتأخر، سواء كان متأولاً أو متعمداً. وقال عبدُ الصمد في تفسير هذه الآية: وسمَّى الله الوليدَ فاسقاً، لكذبه الذي وَقَعَ به الإغراء. وقال القرطبي في هذه الآية في تفسيره: وسُمِّي الوَلِيدُ فاسقاً، أي ¬
كاذباً. وقال العلماء (¬1): الفاسقُ: الكذَّاب. وقيل: الذي لا يستحي من الله. وقال الزمخشري في موضعٍ آخر: والمرادُ بالفسق: التمرُّدُ والعُتُوُّ. وقال في " الضياء " (¬2): العتو: هو الاستكبارُ، يقال عتا عُتُوّاً: إذا استكبر وعصى. وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فسر الكبْر بغَمْصِ الناس وَبَطرِ الحق (¬3)، ولا شكَّ أن هذا التفسير النبوي يَدُلُّ على أن بَطَرَ الحق: هو دفعُه على جهة التعمد والأنَفَةِ من القول به (¬4) لأنَّه لا مناسبة بين الكِبْرِ والجهل بالحق من غير تعمُّدٍ لدفعه، ولا أنفةٍ من قبوله، ومنه حديثُ حُذَيْفَةَ قال في قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر}: إنَّه ما بقي مِنْهُم إِلاَّ ثلاثة، ولا مِنَ المُنَافقِينَ إلا أرْبَعَة، فقال أعرابي: إنَّكُمْ -أصْحَابَ مُحَمَّدٍ- ¬
الإشكال الثالث: أن المتأولين غير موجودين في ذلك الزمان
تُخْبِرُونَنَا (¬1) فلا نَدْرِي، فما بالُ هؤلاء الذين يَبْقرونَ (¬2) بُيُوتَنَا، ويسرِقُون أعْلاقَنَا (¬3) قال: أولئِك الفساق (¬4) -أجَلْ- لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلا أربعةٌ أحدهم شيخ كبير لو شَرِبَ المَاءَ البَارِدَ لما وَجَدَ بَرْدَهُ (¬5). رواه البخاري (¬6) من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب، عن حُذيفة في تفسير قولِه تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12]. فدلَّ ذلك على أن الفسقَ في اللغة، هو التمردُ والتكبر، والأنَفَة من قبول الحق، والتعمد للباطل، وذلك لا يتناولُ المتأوِّلَ المتديِّنَ المتواضِعَ المتخَشِّعَ الذي يَغْلِبُ على الظن صدقه، أقصى ما في الباب أن هذا السؤال غيرُ راجح ولا ظاهر، لكنه محتمل، إما مساوٍ، وإما مرجوح، وعليك إبطالُ ذلك، ورفعُ الاحتمال بدليلٍ قاطع، لأنَّك ادَّعَيْتَ أن المسألة قطعية، ومنعت المنازعةَ فيها. الإِشكال الثالث: أنَّ المتأوِّلين كانوا غيرَ موجودين في ذلك الزمان، وما كان غيرَ موجودٍ لم يسبق الفهمُ إلى إرادته، وما لم يسبق الفهمُ إلى إرادته لندوره، وقلةِ حضوره في الذهن، فقد اختلف العلماءُ هل يتناولُه العمومُ مع وجوده، ومع صريحِ العموم؟ كيف، وهو في مسألتنا غيرُ ¬
موجود بالمرة، والعمومُ غيرُ صريح، فإن السَّيِّد أقر أن الآيةَ في معنى العموم. ومثالُ ذلك أن الرجلَ لو قال لغيره: وكَّلْتُكَ أن تشتري لحماً بهذه الدراهمِ، وكان العُرف السابقُ إلى الأفهام في بلدهم أن المرادَ باللحم لحمُ البقر والغنم ونحوها من الأنعام، فشرى له لحمَ حوتٍ أو صيدٍ أو طيرٍ، أو لحمَ ضَبُعٍ أو ثعلبٍ إن كانوا يَرَوْنَ جَوازَ ذلك وغير ذلك، وكذا لو وَكَّلَه أن يشتريَ له حَبّاً والعُرَف معهم في الحَبِّ للبُر والشعير، فاشترى له دُخناً أو نحوه، وكذا لو باعَ منه ثوبَه بمدٍّ أو صاع، ولم يُعين أيَّ نوع، انصرف إلى العُرف، كما في زماننا: لو أقر بزبدي (¬1) لم يكن زبدي حلبةٍ ولا ملح ولا حِلْف (¬2) ولا نحو ذلك، إذا تقرر هذا، فقد قال بعضُ العلماء: إن لفظَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك لا يتناولُ إلا الموجوداتِ المستعملاتِ، وكأن هذا ذهب إلى أن استعمالَ اللفظ في الموجود المستعمل كثيراً قد صار عرفاً، وطَرَّد الباب وهذا صحيح إذا صحت هذه القاعدة، فإنه لا خلاف أن الشيء -إذا كان له حقيقتان عُرفية ولُغوية- إن العُرفية هي المعمولُ عليها، المصروفُ إليها كلامُ الله تعالى، وكلام رسوله عليه السلام. إذا تَقرَّرَ هذا فاعلم أن المتأوِّلين في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى الفُساقِ كلحم الصيد والطيرِ بالنظر إلى اللحوم المستعملة، بل لحمُ الصيد والطير أعرفُ في زماننا، لأنَّه موجود كثير، ولكن استعمال غيره أكثرُ، فكان حملُ اللفظ على الأكثر هو الواجب، فكيف والمتأوِّل معدوم في زمانه - صلى الله عليه وسلم - وقتَ نزولِ هذه الآية؟ أليس يكونُ حملُ اللفظ على الموجود دونَ ¬
الإشكال الرابع: أنها جاءت أدلة على أن المتأول في الكبيرة التي ليست بكفر يسمى مسلما
المعدوم أولى من حمله على الأكثرِ دونَ الموجود الكثير على هذا الأصلِ؟ لا سيما وليس العموم بصريحٍ فكان يجبُ على السَّيِّد -أيَّده الله- أن يُبطل هذا القول. الإشكال الرابع: أنها جاءت أدلةٌ على أن المتأوِّل في الكبيرة التي ليست بكفرٍ يُسمَّى مسلماً بنصِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يُسَمَّى مُوَحِّداً (¬1)، ومِن أهل الملة، ومِن أهل القبلة، والمسلم مقبول. أمَّا المقدمة الأولى -وهو أنَّه يُسمَّى مسلماً وإن كان عاصياً باغياً- فكقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحسن: " إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ وسيُصْلِح اللهُ به بَيْن طائفتيْنِ عظيمتين من المُسلمين " (¬2)، وهذا حديثٌ صحيح مشهورٌ متلقىً بالقبول روته الزيديةُ، وعلماءُ الحديث، وكلُّ من تكلَّم في فضائل الحسنِ بنِ علي عليهما السلام غالباً. وقال الحافظ ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (¬3) في مناقب الحسن عليه السلام: رواه اثنا عشر صحابياً. ¬
وليس يدخل فيه من عَلِمْنَا بالقرائنِ أنَّه معاندٌ مجترىءٌ غير متأوِّل منهم، ولا مَنْ صحَّ في الحديث أنَّه منافق أو نحو ذلك، لأن حكم الواحدِ المخصوص لا يتعدَّى إلى الجماعة، ولا يلزمُ مِن خروج الخصوصِ بطلان العموم. وفي " صحيح مسلم " عن عمَرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه أن جبريلَ عليه السَّلام سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، فقال: " شهادةُ أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمَّداً رسولُ الله، وإقَام الصَلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وحجُّ البَيْتِ، وصَوْمُ رمضان " (¬1). وفي الحديثِ من هذا القبيل ما يطولُ ذكرُه، والمتأولون ممن ليس بكافر قائمون بهذه الأركان، وقد سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب معاوية مسلمين في حديث الحسن عليه السلام (¬2)، وهو خاصٌّ لا يُعَارَضُ بالعمومات، وكذلك ثبت بالتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصحابَ معاوية بُغَاة كما جاء في حديث عمار: " تقْتُلكَ يَا عَمَّارُ الفِئَة البَاغِيَةُ " (¬3) خرجه ¬
أهل الصحاح والسنن والمسانيد والتواريخ وجميع أهل البيت وأهل الحديث والشيعة، وحكم علماء الحديث بتواتره، منهم الذهبي ذكره في " النبلاء " (¬1) في ترجمة عمار رضي الله عنه، وهو مذهبُ أئمة الفقهاء، ومذهبُ أهلِ الحديث كما نقله عنهم العلامة القُرطبي في أواخر كتابه " التذكرة في التعريف بأحوالِ الآخرة " (¬2) كما سيأتي بيان ذلك مبسوطاًً في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. فلا يخلو، إما أن يُثبت أن أصحابه يسَمَّوْنَ فسقةً في ذلك الزمان بنصٍ صحيح مثل ما ثبت أنهم يُسمَّوْنَ مسلمينَ وبغاةً، أو لا، إن لم يثبت ذلك لم تَنَاوَلْهمُ الآية الكريمة، وإن ثبت ذلك، فقد تناولهم اسمُ الفسق الذي يرد أهله، واسم الإسلام الذي يقبل أهله، فتعارضَ دليلُ قبولهم، ودليلُ ردِّهم، ولم يكونوا كالذين يُسمَّوْنَ فساقاً فقط، ولا يُسمون مسلمين ألبتة. فلا تدُلُّ الآيةُ الكريمة على مقصودِ السَّيِّد حتى يرتفِعَ هذا الاحتمالُ، فإنَّه إما راجحٌ، أو مساوٍ، أو مرجوحٌ محتمل، يوضِّحُ ذلك إن التفسيرَ للآية بذلك هو المشهور في كتب أهل البيت عليهم السلامُ كما ذكره صاحب (¬3) " شفاء الأوام " وادَّعى الإجماع عليه، فإنه قال في كتاب الوصايا من " شفاء الأوام " ما لفظه: وقولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة} [الحجرات: 6] تدل على المنع من الإيصاء إلى الفاسق، وقولنا: إن الوصية لا تجوزُ إلى الفاسق نريدُ الفاسق المجاهر، فأما الفاسقُ ¬
مِن جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءته في النكاح كما تقدَّم، ونقبلُ خبره الذي نجعلُهُ أصلاً في الأحكام الشرعية لإِجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول أخبارِ البُغاة على أمير المؤمنين عليه السلام، وإجماعُهم حجة. انتهي كلامُه عليه السلامُ. فإن قلتَ: الدليلُ على أنهم لا يُسَمَّوْنَ مسلمين إجماع أهل البيت عليهم السلامُ. فالجوابُ أنَّ أهلَ البيت عليهم السلامُ لم يتكلموا في هذه المسألة، وإنما أجمعوا في صورتين لم نُخالفهم في واحدة منهما (¬1): إحداهُما: أجمعوا أن حُكْمَ الفاسق في الآخرة غيرُ حكمِ المسلمين القائمين بالواجبات، المجتنبين للمحرمات، ونحن لا نُخالفهم في هذه الصورة (¬2). الصورةُ الثانية: أجمعوا أنَّه لا يُسمى مؤمناً ولا مسلماً ولا كافراً في هذه الأعصار الأخيرة، لأنها قد صارت هذه الأسماء في هذا العرف الأخير تُفيد معانيَ مختلفةً يترتَّبُ عليها أحكام شرعية، وللعرف تأثير في تحريم إطلاقِ الألفاظ، ألا ترى أنَّه قد ورَد في الحديث تسميةُ كثير من المعاصي بالكفر (¬3)، ولا يجوز أن يُسَمَّى فاعِلُها اليوم كافراً. وتلخيصُ هذا الوجه أن ¬
المسلم والمؤمن لم يكن معلوماً أنَّه يفهم من إطلاق أهل العلم لهما في ذلك الزمان، أنهما يُفيدان عدمَ فسق التأويل، ولا ثبوتَه، وأما اليومَ، فقد صار العارفُ لا يُطْلِقُ هذه اللفظة على فاسقِ التأويل، فلو قال العارف اليوم في فاسق التأويل: إنَّه مسلم كان تزكيةً له من فسق التأويل، ولو قال ذلك قائلٌ في الصدر الأول، جاز أن لا يكون تزكيةً من فِسْقِ التأويل. ويدُلُّ على هذه التفرقة بين الأزمان في جواز إطلاق الأسماء وعدمه أن أهل البيت عليهم السلامُ لا يُجيزون أن يُسمَّى الكافِرُ فاسقاً في الزمان الأخير، لأن تسميته بذلك تُفيد أنَّه ليس بكافر وقد ثبت بالنصوص المتقدمة أنه كان يُسمى فاسقاً في الزمان الأول، وهذا دليل واضح. فإن قلت: كيف يجوز أن يُسمى مسلماً في ذلك الزمان وهو اسمُ مدح، والفاسقُ لا يستحق المدحَ؟ قلتُ: كما يجوزُ أن يسمى مُوحِّداً ومصلياً وحاجّاً، وذلك لأن هذه أسماء فاعلين، وكُل من فعل فعلاً حسناً أو قبيحاً، اشتق له منه اسم، وإذا فعَل الفاسِقُ ما يستحِق أن يُمدح به، مُدِحَ بما فعل، كما يُوصَفُ حاتِم بالكرم، وعنترةُ بالشجاعة ولا مانع من هذا، وإنما يمتنع مدحُه على فسقه أو مدحُه على الإطلاق، فإن قدرنا إنَّه منع من هذا مانعٌ، لم يمنع من مجرد التسمية، فقد تصِحُّ التسميةُ من غير مدح، ويكون الوجه أن المدح لا يستحق إلا مع عدم الإِحباط، وأما مع الإحباط، فلا يكون مدحاً ولكن ليس بلازم إذا حَبط الثواب أن يَبْطُلَ اشتقاق اسم الفاعل، ودليلُه تسميةُ الفاسق موحِّداً، وأما المقدمة الثانية -وهو أن المسلم مقبول- فسوف يأتي الدليلُ عليها في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى.
الاشكال الخامس: أن في هذه الأدلة ما يدل على أن المتأول غير الكافر
الإشكال الخامسُ: أن في هذه الأدلة ما يدل على أن المتأوِّل غيرَ الكافر كان يُسَمَّى مؤمناً في ذلك الزمان، وإن كان باغياً عاصياً إلا من عُرِفَ عنادُه أو نفاقُه كما تقدم، وكما يأتي، إن شاء الله تعالى، والمؤمن مقبول. بيان المقدمةِ الأولى من وجهين: أحَدهُما: أنَّه قد ثبت في الإشكال المقدم آنفاً أنَّه كان يُسَمَّى مسلماً، والمسلم مؤمن بإقرار الخصم. وثانيهما: قولُه تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقولُه عليه السلام في حديث جبريل وقد سأله ما الإيمانُ؟ قال: " أن تُؤمِنَ باللهِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِه، وتؤمِن بالقدر خيرِه وشرِّه " رواه مسلم (¬1). قال النواوي: القَدَرُ مِن اللهِ، ليس بإجبار خلقه على أفعالهم، ذكره في " شرح مسلم " (¬2). وكذا قال الخطابي في " معالم السنن " (¬3)، وأبو السعادات ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬4)، وأجمعَ أهلُ السنة على ذلك كما سيأتي. ومن ذلك حديثُ الأمَةِ السوداء التي سألها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأشارت أن الله ربُّها، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هِيَ مؤمنة "، ¬
الإشكال السادس: أن الاستدلال بهذه الآية الكريمة من قبيل مفهوم المخالفة
والحديث صحيح رواه مسلم (¬1) وغيره، وذكر الحافظ ابن حجر في " تلخيصه " له طرقاً كثيرة. وبيان المقدمة الثانية يأتي في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، وفي هذا الإشكال من الأسئلة له ما في الذي قبلَه، والجواب كالجواب سواء. الإشكال السادس: أن الاستدلالَ بهذه الآية الكريمة من قبيل مفهومِ المخالفة أحد قسْمَي مفهومِ الخطاب، وهو مِن مفهوم الشرط أحد أنواع مفهوم المخالفة، ولا شك أن مفهوم الشرطِ يقتضي المخالفةَ في ما بعد حرف الشرط والذي بعدَ حرف الشرط هو المجيء، لا الفسقُ فيكون مفهومُ الآية: وإن لم يأتكم فاسق فلا تبيَّنُوا، وظاهر هذا المفهوم يحتاج إلى تأويل، فإن التبين لا يكون منهيّاً عنه (¬2) في حال من الأحوال وإذا كان التبين غير منهي عنه في حال من الأحوال لم يصح التعلقُ بالمفهوم، فوجب إما الوقفُ أو التأويلُ ممن يعلمه فإنه يمكن أن يقال: إنَّه إنما ذكر الفِسْقَ ها هنا لأحد أمرين إما للسبب الذي نزلت الآية لأجله، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] نزلت في رجل لَحِقَه المسلمون، فسلم عليهم، فقتلوه ثبت ذلك في الصحيح (¬3) فلا يجوزُ أن يكونَ معنى الآية: وإن لم تضربوا في سبيل الله، فلا تَبَيَّنوا، بل يكون الوجه أن الله تعالى إنما ذكر الضربَ في الأرض وشرطه التبيُّن (¬4) لأن الذين نزلت فيهم الآيةُ كانوا ضاربين في الأرض وقتَ ¬
نزولها، وإما للذم لمن نزلت فيه الآية كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] مع أنَّه سبحانه لا يتخذ عَضُداً من المضلين ولا مِن غيرهم، وقد ذكر الزمخشري رحمه الله أن المعنى: وما كنتُ مُتخِذَهُم عضُداً، ولكن ذَكَرَ المضلين للذم (¬1) وقد حكم في " الكشاف " بمثل هذا في مواضِعَ كثيرة، فكذا يُمْكِنُ أن يكونَ وضع الفاسق في موضع ما هو أعَمُّ منه، كما لو قال: إن جاءكم أحدٌ ليفيد الذم، وتلك الفائدة حاصلة بالعام لو أتى به معروفة، أو وضع الفاسق موضع ما هو أخصُّ منه، وهو الوليدُ (¬2) ليفيدَ الذم، والفائدة أيضاًً معروفة فتأمَّل ذلك. فإن قلتَ: ما المانعُ من القول بأن المعنى: وإن لم يأتكم فاسق، فلا تَبَيُّنُوا، وهلاَّ قلت: إن هذا المعنى صحيح، ولا يمنع منه ما في ظاهره من النهي من التبين، لأنَّه لم ينه عنه لأمر يعود عليه في نفسه، ولكن نهى عن طلبه لِحصوله، كأنه قال: وإن جاءكم مسلم، فقد حصل البيان، فلا تطلبوا البيان. قلتُ: الجواب أنَّه لا يَصِحُّ القطعُ على أن هذا هو المراد لوجهين. أحدُهما: أنا بينا أن المفهومَ لا يصح أن يكونَ: وإن جاءكم مسلم، وإنما المفهوم وإن لم يأتكم فاسق. ويدل عليه وجوه. ¬
الإشكال السابع: أن الآية الكريمة نزلت في حقوق المخلوقين
أحدها: أن الله تعالى قد أمر بالتَبَيُّنِ (¬1) مع خبر المسلم في قوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] كما يأتي بيانه في الإشكال الثامن. الثاني: ما مر أن التبين (¬2) لا يكون منهيّاً عنه ظاهراً لا قاطعاً. الثالث: ما في الإشكال التاسع من أن العلة خوف الإصابة بالجهالة، فمتى حصل ما يُسَمَّى جهالةً، وجب التبين، وإن كان المخبر مسلماً، ومتى حصل انتفاء الجهالة، قبل وإن كان متأولاً. الثاني: أن الجهاتِ الموجبة للتبين كثيرة، وليست الفسقَ فقط حتى إذا انتفي الفسقُ، اتتفي التبَيُّن، فقد يجب التبينُ مع انتفاء الفسق في مواضعَ، منها في خبر المجهول، ومنها في خبرِ العدل إذا كان بينَه وبينَ مَنْ أخبر عنه إحْنَةٌ أو عداوة، ومنها خبرُ العدل الذي لا شائبة في عدالته إلا أنَّ ذلك الحكم مما يجب فيه اعتبارُ عدلين، ومنها في خبرِ العدل إذا كان خبرُه دعوى على غيره، ومنها خبرُ العدل إذا عارضه عدلٌ آخر، ومنها في خبر العدل إذا كان معروفاً بالغفلة، ومجرباً عليه كثرة الغلطِ والنسيان، وغير ذلك مما ورد الشرع بعدم قبول العدل فيه. الإشكال السابع: أن الآية الكريمة نزلت في حقوق المخلوقين، وذلك واضحٌ في قوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} وقد قال الحاكم رضي الله عنه في هذه الآية ما لفظه: والجوابُ أن هذه الآية نزلت في ¬
الوليد بن عقبة بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُصَدِّقاً (¬1) فجاء، وأخبر بالامتناع عنهم كذباً، فنزلت الآية، وإذا (¬2) كانت خاصة في هذه الآية وما يجري مجراها، لم يَصِحَّ الاستدلال بها. انتهى. ومن العجب أن السَّيِّد ذكر في تفسيره أن الفاسقَ هو الوليد بصيغة الجزم، ولم يذكر خلافاً في ذلك ذكره في " تجريد الكشاف المزيد فيه النكت اللطاف " ولم يُدخل معه المصرحين دعِ المتأولين فالله المستعان. وكلام الحاكم صحيح، فإن حقوقَ المخلوقين لا تُقاس على حقوق الله تعالى، لأنَّه يُعتبر فيها مِن قوة الظن ما لا (¬3) يُعتبر في حقوق الله تعالى، ولهذا لا يُعتبر في الإخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خبر واحد، ويجب في حقوق المخلوقين اعتبارُ شاهِدَيْنِ، وفي بعضها أربعة شهود، وفي بعضها (¬4) شاهدٌ ويمينٌ، وفي بعضِها اليمينُ مع الخبر، ولا يُقبل فيها العَدُوُّ على عدوه، ولا شهادةُ الأبِ لولده عند بعضِ العلماء، وكم بينَ ¬
الأشكال الثامن: أن الله تعالى قال: فتبينوا، ولم يقل: فلا تقبلوه
حقوقِ الله تعالى وحقوقِ المخلوقين من الفروق الواضحة، وسيأتي لهذا مزيد بيان، إن شاء الله تعالى. فإذا فَرَّقَ الشرعُ بينَ الحكمين، لم يصح القياس مع وجود هذه التفرقة المستمرة في أكثر الأحوال، أو في كثير منها، فأما العموم فقد تَبَيَّنَ بهذا الإِشكال تعذُّرُهُ، فلا تحرم روايةُ الحديث عن فاسقِ التأويل بعموم هذه الآية، لأنها خاصة بحقوق المخلوقين، فتأمل ذلك، وهذا لازم (¬1) له، لا (¬2) نقول بأن المنع من قبول المتأوِّلين من المسائل القطعية، ويستدل على ذلك بهذه الآية النازلة عن مرتبة الظن كيف القطع، فليتَ ما استدل به على القطع أثْمَرَ الظن! الإشكالُ الثامن: أن الله تعالى قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ولم يقل: فلا تقبلوه، والتبين: هو النظر فيما يدل على صدقه أو كذبه، وليس القطع على تكذيبه، والجزمُ على عدم قبوله يُسَمَّى، تبيناً في اللغة، ولا في العُرف، ولا في الشرع. والتبين: تَفعُّل من البيان وهو تطَلُّبُ البيان، وذلك لا يكون مع بيان ردِّه، ولا مع بيان قبوله، كما لا تقول بعد شروق الشمس لصاحبك: تبيَّن هل طلع الفجرُ؟ وإنما تقول ذلك لأجلِ الالتباس، ويوضِّح هذا أنَّه قد جاء التبيُّن في القرآن الكريم، وليس المراد به الردَّ والتكذيب، كما في قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} فإنَّه روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن المسلمين لحقوا رجلاً في غُنَيْمَةٍ (¬3) له فقال: السَّلام ¬
الإشكال التاسع: قال: إنه علق الحكم على صفة وهي الفسق، قلنا
عليكم. فقتلوه، وأخذوا غنيمتَه، فنزلت، رواه البخاري ومسلم (¬1)، وروي من غير طريق. فإذا ثبت أن التبين: هو طلب البيان، لا ردُّ الخبر، فإنا نقول: من جملة التبين أنا ننظر في المُخْبِرِ: أهو مِن أهل الصدق والتجنبِ لِكل ما اعتقد أنه قبيح، أم من أهل التعمُّد للمعاصي، والوقوع فيما يُعلم أنَّه قبيح؟ فنظرنا في المتأولين، فوجدناهم من أهل الصدق والتحري فيما يعتقدون قبحَه فقبلناهم، وإنما قلنا: هذا مِن التبين، لأنَّ الله تعالى أمرنا بالتَّبَيُّنِ أمراً مطلقاً، ولم يُعينه في تبيُّن مخصوصٌ، وهذا تبين في لُغة العرب، وإنما تكون الآية حجةً صريحة (¬2) فيما قصد السَّيِّد لو قال الله تعالى فيها كما قال في القاذفين: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَداً} [النور: 4]، وكما قال في خبرهم: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وكما قال تعالى في خبرهم: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]، وكقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، ونحو هذه الآيات الصريحة، فأما التَّبَيُّن، فليسَ مِن الرد والتكذيب في شيء. الإشكال التاسعُ: قالَ -أيده الله-: إنَّه علَّق الحكم على صفة وهي الفسق. ¬
قلنا: لكنه قد علَّل تعليقه للحكم على تلك الصفة بخوف الإصابة بالجهالة، وذلك واضح في الآية لقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] وهذه العلة غير حاصلة في خبر المتدين المتأوِّل، فإن خبره يُفيد الظنَّ الراجحَ، والظن الراجحُ ليس بجهالة لوجهين: أحدُهما: أنَّه قد ورد تسميتُه علماً في لسان العرب مثل ما ورد تسمية العلم ظناً، كذلك في قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب عليه السلام: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} وقد احتج بها في " شفاء الأوام " في باب الشهادات، وما ثبت أنَّه يُسمى علماً في اللغة، فلا يسبق إلى الفهم أنَّه يسمى جهالة. وثانيهما -وهو المعتمد- أنا نظرنا في الجهالة: هل المرادُ بها عدم العلم أو عدمُ الظن؟ فوجدنا (¬1) عدمَ الظن لا عدمَ العلم، وإنما قلنا: ليست عدمَ العلم، لأن العلمَ لا يَحْصُل أيضاً بخبر المسلم الثقة، وكذلك لا يَحْصُلُ بخبرِ الثقتين، فثبت أن الجهالة تنتفي بحصول الظن، والظنُّ حاصل مع خبر المتأول المتدين فوجب قبولُه، وقبولُ كل خبرٍ يُفيدُ الظنَّ إلا ما خرج بالأدلة القاطعة أو الراجحة الخاصة. وقد قال القرطبي (¬2): في هذه الآية الكريمة سبعُ مسائل. ذكرها كلها حتى قال: السابعةُ فإن قضى بما يَحْكُمُ على الظن لم يكن ذلك عملاً بجهالة كالقضاء بشاهدَيْنِ عدلينِ، وقبولِ قول عالم مجتهد. انتهى. وهذا صريح في المعنى الذي قصدتهُ ولله الحمد، أفاده النفيسُ ¬
الإشكال العاشر: أن السيد ادعى أن الآية في معنى العموم
العلوي. وللزمخشري مثلُ هذا في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]. الإشكال العاشرُ: أنَّ السَّيِّد -أيده الله- قد ادّعى أن الآيةَ في معنى العموم، لكن العموم لا يَصِحُّ الاحتجاج به إلا بعد فقدِ المعارض، والناسخ، والمُخَصِّصِ، والمعرفة بفقد هذه تحتاج إلى الاجتهاد بالاتفاق، وقد شدَّد السيدُ في التحذير منه، فما بالُه خاض في بحاره، وَعَشَا إلى ضَوْءِ ناره. الإشكال الحادي عشر: أن السَّيِّد -أيده الله- عَظَّمَ الكلامَ في تفسير القرآن العظيم، وكاد يُلحِقُه بما لا يستطاع، أو ألحقه به، ونص على أنَّه صعبٌ شديد، مدركُه بعيد، ثم إنَّه فَسَّرَ هذه الآية الكريمة، واحتج بها في هذه المسألة التي زعم أنها قطعية مع ما في هذه الآية من الإِشكالات، فإن الله تعالى سهل للسَّيِّد تفسيرَ هذه الآية، فلعله سبحانه يُسَهِّل لغيره تفسيرَ غيرها، وإن كان قال فيها بغير علم، فإن ذلك لا يليقُ بفضله. الإشكال الثاني عشر: بقي على السيد -أيده الله- بقية في الاستدلال بهذه الآية، وذلك لأنها وردت على سبب ونزلت في الوليد بن عقبة، وكان فاسقاً مصرحاً غيرَ مقبول عند المحدثين، ولا عند الزيدية -كما سيأتي بيانُه في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى- ذكر ذلك الواحدي في " أسباب نزول القرآن " (¬1)، وفي " الوسيط " في التفسير له ولم يذكر غيرَه، وكذا في " عين المعاني " (¬2) ولم يذكر غيره مع كثرة توسعه في النقل، ¬
وكذا في تفسير عبد الصمد الحنفي (¬1)، وكذا في تفسير الرازي (¬2) ولم يذكر غيره، وفي تفسير القرطبي قيل: إنَّه الوليد، ولم يذكر غيره مع كثرة اتساعه في النقل. وقال أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب " (¬3): ولا خلاف بينَ أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله تعالى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} أن الآية نزلت في الوليد بن عُقبة. والعلماء (¬4) مختلفون فيما ورد على سببٍ من العمومات هل يُقصرُ عليه، أو يُجرى على عمومه؟ والسيد لا يدري ما مذهبُ خصمه في ذلك، فبقي عليه أن يُلْزِمَ خصمَه القولَ بأن العموم لا يُقصر على سببه، ويستدِلُّ على ذلك بدليل قاطع يمنعُ الخصم من المخالفة، فإن الدليلَ الظني لا يَصْلُحُ وازعاً للخصم عن المنازعة، وإنما يَصْلُحُ مثيراً لظن المستدل به فمع (¬5) عدم الدليل القاطع للخصم أن يقولَ: هذه الآيةُ نزلت في الوليد بنِ عُقبة كما جاء ذلك من غير وجه، وهو إجماعٌ مِن المفسرين كما ذكره ابنُ عبد البر، وقد ثبت في الصحاح (¬6): أن الوليدَ كان فاسقاً يشربُ الخمر، فتُقصر الآيةُ على الفاسق المصرّح الذي نزلت فيه وهو الوليدُ بن عقبة. فإن قيسَ على المنصوص عليه، لم يَقْضِ القياسُ إلا دخولَ سائرِ الفساق المصرِّحين، وهذا مذهبٌ مشهورٌ قال به كثير من ¬
الإشكال الثالث عشر: بقي على السيد بقية، وذلك أنه قد علم أن العموم مختلف في الاحتجاج به
الكبار، منهم: علي بن أبي طالب، وابنُ عباس، وعثمانُ، لكن في وقائع مخصوصة، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه مع جلالته وما علمنا أن أحداً فسق (¬1) من قال بقصر العموم على سببه، ولا نسبه إلى الجهل وقلة التمييز، فلا بُدُّ للسَّيِّد مما ذكرناه من نصبِ الدليل القاطع على تحريم قصرِ العموم على سببه. الإِشكال الثالث عشر: بقي على السيّد -أيده الله- بقية، وذلك أنه قد عَلِمَ أن العمومَ مُختلف في الاحتجاجِ به، وفيه أقوالٌ كثيرة، فقيل: إن خص بمبيّن فهو حجة، وإلا فليس بحجة، وقيل: إن خص تخصيصاً متصلاً، فهو حجة، وإلا فلا. قاله أبو القاسم البلخي. وقال أبو الحسين البصري: إن كان العموم مُنبئاً عنه، فهو حجة، كاقتُلوا المشركين، فإنه يُنبىء عن اليهود والنصارى على أحد القولين في أنَّهم مشركون بقولهم: " عزير ابن الله " و" المسيح ابن الله " وقوله تعالى فيهم: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولقول النصارى: " إن الله ثالث ثلاثة "، قال أبو الحسين: وإن (¬2) لم يكن منبئاً عن الخصوص فليس بحجة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإن العمومَ مخصوصٌ باشتراط النصاب والحرز، وهو لا ينبىء عنهما (¬3). وقال قاضي القضاة: إن كان غير مفتقر إلى بيان كالمشركين، فهو حُجَّةٌ، وإن افتقر إلى بيان، فيس بحجة مثل: {أقيموا الصلاة} فإنهم كانوا لا يعرفون كيفيتها، فحين جاء تخصيصُ الحائض لم يبقَ في قوله: {أقيموا الصلاة} حجة، ومِنَ العلماء من قال: إنَّه يكون حجةً في أقلِّ ¬
الاشكال الرابع عشر: أن الآية وردت بلفظ الأمر
الجمع فقط، ومنهم من قال: إنَّه لا يكون حجةً على الإطلاق وهو مذهبُ أبي ثور (¬1)، وحكاه المنصورُ بالله عليه السلام في " الصفوة " عن عيسى بنِ أبان (¬2)، ومنهم من عكس (¬3). فمع هذا الاختلافِ الشديد كيف يحتج السيدُ على خصمه بالعموم المخصوصِ، ويلزمه الموافقة في المسألة ويدعي أنَّها قطعية، ولا يبينُ الدليلَ القاطع على أن العمومَ المخصوص حُجة؟ فإن قلتَ: ومن أين أن (¬4) هذا العموم مخصوص؟ قلتُ: على تسليم إنَّه عمومٌ، فهو مخصوص بالإجماع، فإن خبرَ الفاسق مقبول في مواضع بالاتفاق، سواء كان مصرحاً أو متأولاً، وذلك كخبره بطلاق زوجته، وتذكيته لذبيحته، وإسلامه، ووقفه لماله، وتوبته، ونجاسة ثوبه وطهارته، وعتقه لمملوكه، وإقراره على نفسه، وأمثال ذلك مما لا يحصى كثرة. الإِشكال الرابع عشر: أنَّ الآية وردت بلفظِ الأمر في قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا}، والسيد -أيده الله- يعرف أن بينَ العلماء خلافاً كثيراً في ¬
الإشكال الخامس عشر: أن في أهل العلم من يقول: إن ألفاظ العموم مشتركة بين العموم والخصوص
الأمر، فقد اختلفوا فيه على ثمانية أقوال (¬1): الأوَّل: أنَّه للوجوب فقط. والثاني: أنَّه للندب، وبه قال أبو هاشم. والثالث: أنَّه للرُّجحان، فيكون عامّاً فيهما. الرابع: أنَّه مشترك بينَ الوجوب والندب. الخامس: الوقف في الوجوب، والندبُ مع القطع على أنَّه ليس للإباحة. السادس: أنَّه مشترك في الوجوب والندب والإباحة. السابع: أنَّه للإِذن المشترك بينَ الوجوب والندب والإِباحة فيدخل تحتَ الإِذن دخولَ النوع تحت الجنسِ، والخاصِّ تحتَ العام. والثامن: أنَّه مشترك بينَ الوجوب والندب والإِباحة والتهديد. وفي هذه الأقوال الخالص والمزَّيف، فكيف منع السيدُ خصمَه من المخالفة في المسألة، وادَّعى أنها قطعية، واستدل بهذه الآية ودلالتها مبنية على أن الأمرَ للوجوب، وقد خالف في هذه القاعدة خلقٌ كثيرٌ من المتقدمين والمتأخرينِ من أهل العدل والتوحيد وغيرهم؟ الإِشكال الخامس عشر: أن في (¬2) أهل العلم مَنْ يقول: إن ألفاظ العموم مشتركة بينَ العموم والخصوص، لأنها أكثر ما وردت العموماتُ، ¬
الإشكال السادس عشر: أن لهذه الآية معارضات كثيرة
والمراد بها الخصوصُ، حتى قال بعضهم: ليس في القرآنِ عمومٌ إلا وهو مخصوص إلا قولَه تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] قالوا: والأصلُ في الاستعمال الحقيقةُ، وإنما أشرت إلى طرف من حجة أهل هذا القول لعدم اشتهاره، وهو قول ضعيف، ولكن لا يتم دليل السيد حتى يُبين أنَّه باطل قطعاً، ولا يكفيه أنَّه ضعيف على مقتضى الأدلة الظنية، وفي العموم أقوالٌ كثيرة قريب من الأقوال المذكورة في الأمر، فيلزم السيدَ نصبُ الدليلِ القاطع على بطلانها، وإلا لم يمنع خصمه من المنازعة، ويحرم عليه المخالفة. الإشكالُ السادسَ عشر: أنَّ لهذه الآية معارضاتٍ كثيرة يأتي بيانُها إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني، ولا يتم الاحتجاجُ بها حتى يُبيِّن (¬1) السيد رجحانَهَا على تلك المعارضات، بل مجردُ الرجحان لا يكفي في المسائل القطعيات. الإشكال السابع عشر: أن لهذه الآيةِ مخصصاً كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني، فلا يصح الاستدلالُ بها مع وجود المُخصِّصِ، فهذه واجبات كثيرة أخلَّ بها السيدُ، أوجبها عليه التعنتُ بدعواه: أن المسألة قطعية، وأن الخلاف فيها حرام. قال: ومِن ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، ومن الركون إليهم: قبول قولهم، بدليل قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74 - 75] وذلك أن ثقيفاً أرادُوا أن ¬
أقول: يرد على استدلال السيد بهذه الآية إشكالات
يُصالحوه على ألا يُعْشَروا ولا يُحْشَرُوا، القصة (¬1). فهمَّ بأن يُساعِدَهم إلى قبول قولهم، فنزلت، وفيها مِن الوعيدِ ما ترى، هذا وقد قلَّلَ الركونَ حيث قال: {شَيْئًا قَلِيلًا}. أقول يرد على استدلال السيد -أيَّدَهُ اللهُ- بهذه الآية إشكالات: الإشكالُ الأولُ: أن معنى الآية ظني، مختلَف فيه أشد الاختلاف كما ذكره السَّيِّد في تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النُّكت اللطاف " والعجبُ منه أنَّه (¬2) هنالك حكى الأقوالَ من غير تقبيحٍ لشيءٍ منها، بل حكى عن القاضي والحاكم شيخي الاعتزالِ تصحيحَ غيرِ ما ذكره هنا، وكذلك عن الرازي، ولم يعترِضْ تصحيحَهم، ولا يَحِلُّ له حكايةُ البواطِلِ في تفسيرِ كلام الله مِن غير إِنكار، وقد قال في تفسيره ما لفظه: وقيل: لا تَرْضَوْا بأعمالهم، عن أبي العالية. وقيل: لا تُدَاهِنُوا، عن السدي. وقيل: لا تلحقوا بالمشرَكين، عن قتادة. قلت: وهو من رؤوس المعتزلة القدماء. قال السيدُ: وقيل: الركونُ المنهي عنه الدخولُ معهم في ظلمهم، أو معاونتهم، أو الرضى بفعلهم، أو موالاتهم، وأما إذا دَخَلَ عليهم، أو خالطهم لدفع شرهم، أو أحسن معاشرتهم، وَرَفَق بهم في القول ليقبلوا منه ما يأمُرُهمْ به من طاعة الله، فذلك غيرُ منهي عنه، عن القاضي. قال الحاكم: وهو الصحيح، لأن الله تعالى أمر بإلاَنَةِ القولِ للكافر في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] فأولى الظالم. ¬
وقال الواحدي: الركونُ السُّكُونُ إلى الشيء، والميلُ إليه بالمحبة، قال ابنُ عباس: لا تميلوا، يريدُ في المحبة، ولين الكلام والمودة. وقال عكرمة: هو أن يطيعهم أو يودَّهم. وقال الرازي (¬1): الركونُ المنهي عنه عند المحققين: الرِّضى بما عليه الظلمةُ من الظلم، وتحسينُه لهم أو لغيرهم، وأما مداخلتهم، لدفع ضرر، أو اجتلاب منفعة عاجلة، فغيرُ داخل في الركون. انتهي تفسير السيد للركون بعدَ حكايته كلام الزمخشري وما ينَاسبه. فظهر من ذلك أن معنى الآية ظني، وذلك منافٍ لقول السيد: إن المنع من قبول المتأولين قاطع، ويدل على أن ذلك ظني مع ما ذكره السَّيِّد -أيده الله-: أن الركونَ هو الميل في أصل اللغة، ومنه: أركنت الإناءَ: إذا أصغيتَه، وأركن الرَّحْلَ: أماله، قاله الزمخشري (¬2)، وكذا قال (¬3) في قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} أي: تميل. ولا شك أن الميلَ إنما يصح إطلاقُه على الحقيقة في الأجسام، فثبت أن هذا الركون مجازٌ، والمجازُ يحتاج إلى علاقة ظاهرة، ألا ترى أنهم قالُوا: يقال للشجاع: أسد لظهور العلاقة، وهي قوة القلب، ولا يقال للأبخر: أسد لخفاء العلاقة، وهي ما فيه من البَخَرِ، فأكثر السامعين لا يفهم معنى الكلام لخفاء معنى (¬4) هذه العلاقة، ولم يبين السَّيِّد المشبِّه وهو المقصود في الآية، فأما الميلُ الحقيقي الذي هو كميل الإِناء، فليس بمحرَّم، ولا ¬
مقصود قطعاً، إذ كان المجاهدُ حين يهوي إلى الكافر ليطعنه، أو يضرِبَه، أو يقتله قد مال إليه كميل الإناء أو أشد، ولكن لمضرته، وإنما المحرم الميلُ المجازي، ولا بدَّ من مخالفته للميل الحقيقي، كما أن الأسد المجازي يُخالِفُ الأسدَ الحقيقي. وقد قال العلامة أبو حيَّان الأندلسي إمامُ اللغة والعربية والتفسير (¬1): إِن معناها: ولا تطمئِنُّوا (¬2)، فجعل المجازَ المشبه بالميلِ الحقيقي هو الطمأنينة، ولا يمنعُ منه قولُه: {شَيْئًا قَلِيلًا} لأن الطمأنينة يُوصَف قليلُها بالقلة، وكثيرُها بالكثرة، لأن القِلة والكثرةَ أمران عُرفيان إضافيان، وليسا ذَاتِييْنِ حقيقيين، يُوضِّحه أنَّه يصِحُّ أن تقول: ولا تطمئنوا إليهم شيئاً قليلاً، كما يَصِحُّ أن تقول: ولا تطمئنوا إليهم كثيراً. والتحقيق: أن الرمخشري ذكر أصلَ الركونِ في الوضع اللغوي مبالغةً في البحث والزجر، وأبا حيان ذكر المعنى العُرفي المستعمل السابق إلى الأفهام فيما نقلت إليه هذه اللفظة، ولا شَكَّ في تقدم الحقيقة العرفية على اللغوية كما ذكروه في الدابة والقارورة ولا يَشُكُّ منصفٌ أن (¬3) الركونَ اللغوي الذي ذكره الزمخشري غيرُ مراد، وأن حقيقتَه في ميل جسومنا إلى جسومهم، وأن كلام أبي حيان معروف، وأن الركونَ إلى القوم صار في العُرف بمعنى السكون إليهم، والطمأنينة بهم، وفي ترك هذا المعنى وسائر أقوال المفسرين مِن الصحابة والتابعين، والاقتصار على أصل الوضع تضييعٌ للتفسير، ومجانبةٌ للتحقيق، فتأمل ذلك. والله أعلم. ¬
إذا عرفتَ هذا، فإنا نقول: إن قبولَنا لكلام المتدين المتأوِّل الذي يغلِبُ على الظن صدقُه فيما لم يظهر لنا أن بينه وبينَ الركون الحقيقي علاقةً ظاهرةً قطعية تمنع الاختلافَ كما ادَّعى السيد، وبيانُ عدم ظهور العلاقة أنا لم نركن إليه في الحقيقة، وإنما ركنا إلى أمرين: أحدهما: الدليل الدال على وجوب قبول روايته وسيأتي بيانُه مفصلاً في الفصل الثاني، إِن شاء الله تعالى. وثانيهما: الظنُّ الراجحُ المجرب أن صِدقه دائم، أو أكثري الذي قضت العقولُ بوجوب العمل به في دفعِ المضار وحسنِ العمل به في جلب المنافع، وإنما المتأول قرينةٌ للظن، والمركون إليه هو الظنٌّ لا القرينةُ بدليل أن الظنَّ متى زال لم يستند إلى القرينة ولا يُعمل بها، ألا ترى أن من رأى السحابَ الثقال التي هِيَ قرينةُ المطرِ، فاستبشر، وأصلح سواقي زرعه لم يكن في المجاز راكناً إلى السحاب، وإنما يَكونُ في المجاز راكناً إلى ظنه الراجح، وكذلك لو أخبرك المتأوِّلُ أن في هذا الطعام سمّاً وظننتَ صدقه، قَبُحَ منك الإِقدام على أكله، لأن فيه مضرةً مظنونة، ودفعُ المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، فلو أنَّك ذهبتَ تأكلُه لئلا تركنَ إلى خبر المتأوِّل، لم يختلف العقلاء في قبحِ اختيارِك، وكذلك إذا أخبرك أنه سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذا حرامٌ يستحق فاعلُه العقابَ، فإنَّك إذا ظننتَ صدقه، قَبُحَ منك الإِقدام على ما تَظُنُّ أن الإِقدام عليه محرَّم موجبٌ لغضب الله، وشديدِ عقابه، نعوذ بالله من ذلك، ولم يكن إقدامُك على ما تظنُّ أنَّه يُدخلك النار والحرام والعمل بالمعقول فراراً من الركون إلى مَنْ أخبرك، وقد رجع المسلمون إلى أطباء الفلاسفة والنصارى في جميع أقطارِ الإسلام من غير نكير، ولم يكن ذلك ركوناً إليهم، وذلك لأنهم ظنوا صِدْقَهم في فنهم،
الأول: أجمع العقلاء من أهل الإسلام وغيرهم على أن الإنسان يرجع إلى تصديق عدوه وقبول كلامه
وجربوا حُسْنَ معرفتهم، بل أعظم من هذا أن الفقهاء بَنَوْا على أقوالهم حكماً شرعيّاً، فقالوا: من ادَّعى الطب، وليس بطبيب، فقتل أو أبطل عضواً، وجب عليه القصاصُ في ذلك أو الديةُ على حسب ما اتفق منه من العمدِ والخطأ، ومن كان يَعْرفُ الطبَّ لم يجب عليه شيء من ذلك، وهذا الطِّبُّ الذي يسقط عنه القود والدية هو معرفة ما قالت اليهودُ والنصارى وسائر علماء الطب على جهة التقليد لهم، والثقةِ بمعرفتهم وصدقهم، وقد أجمع (¬1) المسلمون على جواز (¬2) الإقدام على مداواة الأئمة والعلماء والفضلاء، وسائر المسلمين بأقوال الأطباء في كتبهم متى كان المداوي من أهل المعرفة التامة بمقاصدِ الأطباء، والعلم بما وضعوه هذا مع ما في مداواة الأئمة والعلماء من الخطرِ العظيم لجواز أن تكونَ تلك الأدوية سبباً لموتهم متى كان الواضعُ لها غيرَ صادق في كلامه ولا بصيرٍ (¬3) في علمه، ويدل على ذلك مع ما تقدم وجوه: الأول: أجمع العقلاءُ من أهل الإِسلام وغيرِهِم على أن الإنسانَ يرجِعُ إلى تصديق عدوِّه وقبولِ كلامه حيث يظن صدقه في أمور الحربِ والإصلاح، فمن ذلك أن الكفارَ إذا عقدوا الذمة بينَهم وبينَ المسلمين، جاز للمسلم أن يأمَنهم، ويَدْخلَ بلادَهم لحاجته ركوناً منه إلى ما وثق به من ظن صدقهم في أنهم يفون، ولا يَغْدِرُونَ، وإلا لوجب أن يحرمَ ذلك عليه، ويكون فاعله ملقياً بنفسه إلى التهلكة راكناً بذلك إلى الظلمة، وهذا خلافُ إجماعَ المسلمين. ¬
الثاني: أنه يجور العمل بخبر الفساق بالإجماع
الثاني: أنَّه يجوز العملُ بخبر الفساق بالإجماع في مسائلَ كثيرة قد ذكرتُها في ما تقدم، كخبرهم بطلاق نسائهم مع ما يترتَّبُ عليه من جوازِ نكاحهن لغيرهم من المسلمين، وكذلك إخبارُهم بحل أموالهم وما يترتَّبُ على ذلك من معاملاتهم، وكذلك إخبارُهم بالبيع والوقفِ والطهارةِ والنجاسةِ، وكثيرٍ من الأحكام. الثالث: أنَّه يجوزُ نكاح الفاسقة بغير الزنى عند أهل المذهب مع ما يترتب على ذلك من جواز قبولِ خبرها عن طهارتِها من الحيض، واغتسالِها منه الغسلَ التام المشروع، وما يترتب على ذلك من جواز وطئها، وما في ذلك من الميل إليها، والإيناسِ لها. فَهذا (¬1) مما لا يعلم في جوازه خلافٌ، وكذلك نكاحُ الزانية المسلمة عند الجمهور، وهو مذهبُ أئمة الفقهاء الأربعة (¬2) وأتباعهم، حكاه عن الجمهور صاحبُ " نهاية المجتهد " (¬3)، ورواه السيدُ أبو طالب في " التحرير " عن الهادي عليه السلامُ من أئمة الزيدية. وأما الآيةُ الكريمة وهي قولُه تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] فلا بُدَّ من تأويلها بالإجماع، لأن الزانية المسلمة لا يجوز لها نكاحُ المشرك، والصحيحُ قول ابن عباس: أن المراد لا يزني بها، وأن النكاح هنا: هو اللغوي لا الشرعي. رواه عنه البيهقي في "السنن ¬
الكبرى" (¬1)، والمعنى: أن الزناة لا يرغبون في الأعفَّاء، والأعفَّاء لا يرغبون في الزُّناة، والدليلُ على ذلك أن القراءة برفع " يَنْكِحُ " على أنَّه خبر عن عاداتهم، وليست بجزمه على أنَّه نهي. وقوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] أي: وحرم الزنى، أو طبعوا على النُّفرة عنه، كقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] والموجب للتأويل الإجماعُ على امتناع الظاهر في نكاح المشرك للزانية المسلمة وفي انفساخ النكاح، وتحريمه بزنى الزوج. وقال سعيد بن المسيِّب والشافعي: هي منسوخة (¬2). ¬
قلت: والناسخُ لها قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّة الوداع: " فإنْ أتَيْنَ بفاحِشَة مبيّنةٍ " الحديثَ (¬1). وحجة الجمهور حديث: " إنَّ امرأتي لا ترُدُّ يدَ لَامِسٍ " (¬2) ¬
ويضعف ما يدلُّ على التحريم من الأحاديث إما مطلقاًً، وإما بالنسبة إلى ما عارضها، أو الجمع مع تسليم الصحة، إما بإدعاءِ النسخ كما تقدَّم في الآية، أو بحمل النهي على الكراهة بدليل حديث: " إِنَّ امرأتي لا تَردُّ يَدَ لامِسٍ ". وأكثرُ من هذا ما ذهب إليه زيد بن علي عليه السلامُ، وجماهير الفقهاء، واختاره الإِمام يحيى بن حمزة، وادَّعى أنَّه إجماع الصدرِ الأول، وذلك جوازُ نكاح الذِّمِّية مِن اليهود والنصارى وهو ظاهرُ القرآن (¬1)، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] وهذه الآية أخصُّ مِن قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] والواجب حملُ العام على الخاص، لا حملُ الخاص على العام، ولذلك أجمعوا على تقديمِ قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ¬
الرابع: أنه يجوز شهادة الكافر الكتابي عند الحاجة
على قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إذ الآية الأولى خاصة بالحوامل، والثانية عامة لهنّ ولغيرهنّ، وكذلك قولُهُ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] عام في أهل الكتاب وغيرهم، وهذه الآية خاصة بالكتابيات. وإنما ذكرتُ حجةَ زيدِ بن علي عليه السلام، لأن هذا الأمرَ قد صار منكراً في هذا الزمان. وإذا ثبت هذا، فلا شك أنَّه يجوزُ على مذهب زيد بنِ علي عليه السلامُ، وعلى مذهب الجميعِ في الفاسقة غيرِ الزانية قبولُ خبرها عن طُهرها من الحيض ونحوِ ذلك. الرابع: أنَّه تجوزُ شهادةُ الكافر الكتابي عند الحاجة إليه (¬1)، لقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106]. ¬
الخامس: أن شهادة بعضهم على بعض مقبولة
الخامس: أنَّ شهادة بعضهم على بعض مقبولةٌ عند كثير من العلماءِ مِن أهل البيت وغيرِهم، فهذه الصُّوَرُ ونحوُها مما يدل على أنَّ مجردَ القبول لورود الشرع بذلك، أو لقوة الظن مع ورود الشرع به لا يكون ركوناً إليهم. الإشكال الثاني: أن الاحتجاجَ بهذه الآية لا يَصِحُّ حتى يدل. (¬1) دليل قاطع على أنَّه لم يكن وقتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُرْفٌ يَسْبقُ إلى الأفهام في معنى الذين ظلموا غيرَ الحقيقة اللغوية، وغير عرف المتأخرين، لكنا نقيم الدليلَ على أن يكون هناك عُرفٌ شرعي يدل على أن الذين ظلموا هُمُ الكفار، وذلك مِن الكتاب والسنة، أما الكتابُ، فقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وظاهر هذه الآية قصر الظالمين على الكافرين، وإلا لوجب أن يكون المرادُ: والكافرون هم بعضُ الظالمين، وذلك خلاف الظاهر، وأصلُ الاستعمال الحقيقة، ولا يُعَدَلُ عن الظاهر إلا بدليل، والخصمُ يحتاج في هذه المسألة إلى دليل قاطع في لفظه ومعناه، حتى ما ادّعى من أنها قطعية وهو يُريد إلزامَ خصمه الوفاقَ وتحريم المنازعة عليه، فيحتاج إلى دليلٍ مقطوع بمعناه، وبأنه غيرُ مخصّص ولا منسوخٍ ولا معارَض، يوضحُ ما ذكرناه أن الخبر إذا كان معرفاً باللام ثم يجز أن يكون أعمَّ من المبتدأ، فلا نقول: الإنسان هو الحيوانُ، ولا قريش هم بنو عدنان من غير تقييد (¬2) وذلك واضح. فإن قلت: قد ورد في القرآن تسميةُ المعاصي ظلماً وإن لم تكن كفراً. ¬
قلت: هذا صحيح، ونحن نقولُ به، ولا ننكره، وإنما قلنا: يجوز أنها تسَمَّى ظلماً على صور. الصورة الأولى: أن يكونَ ظلماً في الحقيقة اللغوية لا العُرفية كما سَمَّى اللهُ عز وجل الإنسان دابة في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس الإنسان يُسَمَّى دابةً في العُرف حتى لو حلف حالف: لَيَرْكبنَّ دابة، لم يُجْزهِ ركوبُ إنسان ولا غيره سوى الدابةِ المعروفة، فإذا أطلق اللفظ عن القرائن حُمِل على العرفية، وإذا جاء لغير ذلك، فمع القرائن. الصورة الثانية: أنا نسلِّمُ ذلك في المصادر والأفعال ولا نُسَلِّمُهُ في الموصولات مثل الذين ظلموا، ولا في أسماء الفاعلين كالظالمين، وقد قدمنا أنَّه لا يمنعُ ثبوت عرف في أسماء الفاعلين دون المصادر والأفعال كما ثبت ذلك في الدابة والدَّبيب، وقد تقدم بيانُه. الصورة الثالثة: أن تقول (¬1): قد ورد في الشرع ما يَدُلُّ على أن المعصية المسماةَ بالظُّلم تختصُّ بالكفر، ورُدَّ بأنها تَعُمُّ الكُفْرَ (¬2) وغيره، أصلُ الاستعمال الحقيقة، فدلَّ على أنها لفظةٌ مشتركة في الحقيقة الشرعية، وحينئذ لا يَصِحُّ القطعُ بدخول مَنْ ليس بكافر إلا بقرينةٍ، فإن كانت المسألةُ ظنية، جاز أن تكون تلك القرينةُ ظنية، وإن كانت قطعية لم يكف إلا أن تكونَ القرينةُ قطعيةً. فإن قلت: وما المانِعُ من أن يكون الظلمُ عاماً في الكفر والفسق، ولا يكون مشتركاً، لأن الأصل عَدَمُ الاشتراك. ¬
قلتُ: ظاهر قولِه تعالى: {والكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يأبى العمومَ، لأنَّ ظاهرَةُ قصرُ الظالمين على الكافرين كما تقَدَّمَ، سلمنا جوازَ أنَّ الظاهر العمومُ دونَ الاشتراك، لكن الاشتراك محتمل غيرُ راجح، فلا يَصْلُحُ الاستدلالُ بها في مسألة قطعية حتى ينتفيَ الاشتراك بقاطع. فإن قلتَ: هلا قلْتَ: إن قوله تعالى: {والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ} مجاز كقول القائل: العلماءُ هم العاملون مبالغة في أن كل عامل بغير علم فليس بعامل لما يعرض في عمله من الخطأ. قلتُ: الجوابُ من وجهين. الأول: أنَّه لا يُعْدَلُ إلى المجاز إلا بدليل، وإنما سألت عن الدليل. الثاني: أن السَّيِّد ادَّعى أن المسألة قطعية، فلا بُدَّ للسَّيِّد من الدليل القاطع على نفي هذا الاحتمال. وأما السنةُ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شقّ ذلك على أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلم؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّه لَيسَ بذَاكَ [إنَّما هُوَ الشِّركُ] ألا تسْمَعُ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " (¬1)، ¬
وروى الحاكم مثلَه عن أبي بكر الصديق موقوفاً (¬1). وقولهم: إنَّه لا يَصِحُّ أن يكونَ مع الشرك شيء من الإيمان مردودٌ لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] والتحقيق: أن الإيمانَ قسمان لغوي وشرعي، والشرعي قسمان أعلى وأدنى، والشركُ إنما ينافي الشرعي. فإن قلتَ: هذا يدل على عدم العرف، ولذلك قالوا: أيُّنا لم يَلْبِسْ إيمانَه بظلم؟!. فالجوابُ من وجهين، أحدهما: أن لبس الإيمانِ بالظُّلم قرينة يُفهم منها إنَّه ليسَ بظُلم الشرك، لأن الشِّرْكْ والإيمانَ الشرعي لا يجتمعانِ بخلاف سائر المعاصي، فإنها تجتمع مع الإيمان إلا الكبائر، وعلى قولِ الفقهاء والكبائر. وثانيهما: ما قدمنا مِن الفرق بين المصدر واسم الفاعل، وما في معناه من الموصول. وثالثها (¬2): أنِّي لم أدَّعِ أن العُرف في ذلك كان مستمرّاً من أوَّل النبوة إلى آخرها، فما المانعُ أن يكونَ ذلك العُرف بعدَ أن سَمِعُوا مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث وغيره، وبعدَ نزول قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وغيرها، بل هو الظاهرُ، لأن العُرف لا يثبت إلا بعد كثرةِ الاستعمال وطولِ المدة. ¬
الإشكال الثالث: أن الآية عامة
فإن قلتَ: كيف يَصِحُّ الاحتجاجُ بحديث البخاري على الخصم وهو يُنكره. قلتُ: لأنَّه ادَّعى أن المسألة قطعية، وحديثُ البخاري وإن لم يكن عنده صحيحاً، فهو مما يجوز ويحتمل أنَّه صحيح، إذ ليس في العقل ما يحيله، ولا في نصوص السمع المعلوم لفظها ومعناها وعدم نسخها ومعارضتها، وتخصيصها، وغير ذلك ما يُفِيدُ القطعَ بكذب هذا الحديثِ، وأيضاًً فقد رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق أبي بكر وصححه، والحاكم من علماء شيعة أهل البيت بلا نزاع والخصم إنما قدح في من توهَّمَ أنَّه منحرف عنهم عليهم السلامُ، ومع تجويز صحة هذا الحديث، والقولِ بأنه محتمل (¬1) يبطل عليه القطعُ، لأنَّه لا يأمنُ أن يكونَ لهذا الحديث إسنادٌ صحيح من غير طريق البخاري، ولا يعلم انتفاء تلك الطريق، لكن غايةُ الأمر أنَّه يطلب، فلا يجد، وليس عدمُ الوجدان دالاًّ على عدم الوجود كما ذلك مُقَرَّرٌ في موضعه من العقليات، ولأنهُ رُبما وَقَفَ على هذا الكتابِ من يعتقد صحةَ هذا الحديثِ، فينتفع به، بل الظاهر أن الأكثرين يعتقدون ذلك، ولأنا ندل على صِحَّةِ حديث البخاري كما يأتي في الفصل الثاني، وإمَّا أن يُستدل على الخصم بما يُنازِعُ فيه متى أقمنا الدليلَ على بُطلان ما ادَّعاه، وقد تقدم في الإشكالات الواردة على احتجاج السيد بالآية الأولى ما يدلُّك (¬2) على أنَّ هذا ليس بمخالفٍ لمذهب أهلِ البيت عليهم السلامُ، فخذه مِن هناك. الإشكال الثالث: أن الآية عامَّةٌ في جميع الظالمين، والاحتجاج ¬
الإشكال الرابع: قد قالل: إن معرفة التفسير المحتاج إليه من القرآن صعب شديد، مدركه بعيد
بالعموم يحتاجُ إلى المعرفة بِفَقْدِ المعارِضِ والمُخَصِّصِ والناسخ، وذلك عند السيد -أيده الله- صعبٌ شديد، مَدْرَكُهُ بعيد، وهو عمودُ الاجتهاد الذي قال: إنَّه متعذِّر أو متعسِّر، فكيف صح له الاحتجاجُ بهذه الآيةِ الكريمة. الإشكال الرابع: قد قال: إن معرفةَ تفسير المحتاج إليه من القرآن صعبٌ شديد، مَدْرَكُهُ بعيد، وأورد (¬1) الإشكالات المتقدمة في المسألة الأولى، فمن أين حصل له تفسير هذه الآية الكريمة بحيث عَلِمَ أن الله يُريد فيها أن سؤال المتأوِّلين عن الحديث من الركونِ إلى الذين ظلموا. الإشكال الخامس: بقي على السيد -أيده الله- أن يُبين أن هذه الآية وردت على سببٍ، أو لم تَرِدْ على سبب، فإن كانت واردةً على سببٍ، وجب عليه بيانُ أن العمومَ الواردَ على سبب غيرُ مقصورٍ عليه، وإن (¬2) لم تكن واردة على سبب عنده، فأين الدليلُ القاطع على أنَّها لم تَرِدْ على سبب، وعدمُ وجدان السبب لا يَدُلُّ على عدم وجوده كما تقدم، سواء وردت على سبب أو لم ترد على سبب، أما إن وردت على سببٍ، فظاهر، وأما إن لم ترد على سبب، فلأنه محتمل، ولا طريقَ إِلى القطع بعدمِ الاحتمال، والسيد يَدَّعِي القطعَ، والقطعُ يُضَادُّ الاحتمال. الإشكال السادس: أن هذا العمومَ مخصوص، لأنَّه يجبُ برُّ الوالدين، وامتثالُ بعض أوامرهما، والانتهاء عن بعض نواهيهما، والركون: هو الميل، وفي مثل (¬3) ذلك ميلٌ إليهما، وقد قال اللهُ تعالى: ¬
الإشكال السابع: أن الآية من قبيل العموم
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] هذا في المشركين كيف بالمسلمين العاصين، وكذلك قولُه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]. قال الزمخشري (¬1): معناه: لا ينهى عن مَبَّرةِ هؤلاء. وفي هذا ركون إلى الذين لم يُقاتِلُوا في الدين، وكذلك ما أسلفناه من جواز (¬2) نكاحِ المرأةِ العاصية بغير الكُفر والزنى مع ما في ذلك من الركون العظيمِ إليها إذ هُو الميل، ولا يُوجد في الطباع ميلٌ أعْظَمُ مِن الميل إلى الزوجة، وأكثرُ النساء لا تكادُ تسلَمُ مِن هذا، ولو لم يكن إلا العصيانُ بالغيبة والنُّشُوزِ والكَذِبِ، والخروج من البيت بغير إذن، ونحو ذلك مما لا يخلو عنه النساء. وإذا (¬3) تقرر هذا فالعمومُ المخصوصُ مختلف في الاحتجاج به إختلافاًً كثيراً، كما قد بيَّنّا، فكان يلزمُ السيدَ إبطال قولِ المخالف بالدليل القاطع. الإشكال السابع: أن الآيةَ مِن قبيل العموم، والسيد ذكر أن المسألةَ قطعية، ومنع الخلافَ فيها، والعمومُ ليس من الأدلة القطعية التي يمتنع مخالفةُ من استدل بها. الإشكال الثامن: أن في العلماء من قال: العمومُ مشترك، ولا يَحْصُلُ غرضُ السَّيِّد حتى يُبْطِل قولَ المخالف بدليل قاطع، لجواز أن يقول ¬
الإشكال التاسع: أن ظاهر الآية متروك بالإجماع
الخصمُ: المرادُ بهذا العموم الخصوص لقرينة دلَّتْ على ذلك إما ما قدَّمنا مِن تخصيصه أو غيرِه، أو يقول: بأن بابَ الخصوص متحقّقٌ فيه، والعمومُ يحتاج إِلى قرينة وهي مفقودةٌ، فهذا محتمل، والاحتمال يمنعُ القطعَ. الإِشكال التاسعُ: إن ظاهرَ الآية متروكٌ بالإجماع، لأنَّه لم يَقْصِدْ تحريم الركون إلى الذين ظلموا على ظاهره، لأن ظاهرَه يقتضي تحريمَ الركون إلى ذواتهم وأجسامهم، ومثال ذلك تحريمُ الأمهات، فإنه لما وُجَّهَ إلى الذواتِ، وجب تأويلُهُ، وكذا تحريمُ الميتة، لما وجه إلى ذاتها في ظاهرها وَجَبَ تأويلُهُ، وقد اختلف العلماءُ في ما ورد على هذه الصفة، فمنهم من قال: يكون مجملاً حتى يَرِدَ بيانه من القرآن أو السنة، ومنهم من قال غير ذلك كما هو مُبيَّنٌ في الأصول، فكان يجب على السَّيِّد إبطالُ القول بالإجمال في هذا الجنس بدليلٍ قاطع. الإشكال العاشر: سلمنا للسيدِ -أيَّده الله- أن القولَ بالإجمال في هذا ضعيف وفي أمثاله، لكن القول المنصور في الأصول أن التحريمَ ينصرِفُ إلى الأمير العُرفي السابق إلى الأفهام، وهو يختلِفُ، ففي تحريم الميتة يسبِقُ إِلى الفهم تحريمُ الأكل، وفي تحريم الأمَّهَاتِ يسبِقُ لنكاحُ لا النظر، وفي تحريم الأجنبيات يسبقُ النكاحُ والنظر ونحو ذلك، فنقول للسيد: لا يخلو إما أن يكونَ في تحريم الركون عُرْفٌ يَسبق إلى (¬1) الفهم كما في الميتة والأمهات أو لا، إن كان فيه عُرْفٌ لزم المصيرُ إليه، لكنا نعلم أنَّه لم يثْبت عُرْفٌ في أن الركونَ هو قبولُ قوْلِ المتأوِّل المظنون صِدقُه ¬
وتديُّنُه، وإن لم يثبت عُرف، لم يكن له في الآية حُجَّةٌ علينا ظاهرة تحرم المخالفة، فكان الظاهرُ الإجمال، لأنا إن قدَّرْنا أن المضمر المحذوف شيء معين، كان تحكُّماً، وإن قدرنا جميعَ الأمور المحتملة، كان تقديرُ ذلك لا يجوزُ، لأن إضمارَ واحدٍ يكفي، والزيادةُ من غير ضرورة محرمة، واللفظُ لا يدل على العموم في تلك المضمرات، ولأنَّ القولَ بأن الله أراد كذا وكذا فيما لم يدُلَّ عليه اللفظُ ولا العقل، قولٌ على الله بغير علم ولا ظن، وذلك محرم إجماعاً مع ما وَرَدَ من تحريم التفسير بالرأي وسيأتي في آخر الكتاب. والقويُّ أنَّه لا عُرْف في لفظة الركون على انفرادها، لكنها إذا أُضِيفَتْ إلى صفةٍ مذمومة، وتعلَّق بها التحريمُ، كان المفهومُ في العرف أن التحريم يتعلق بتلك الصفة المذمومة، فيكون المعنى: ولا تركنوا إلى الذين ظَلمُوا في ظلمهم، كما أن المعنى في قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] في إنابتهم، لا في مطاعمهم ومشارِبهم وسائرِ مباحاتهم، والعُرف شائع في نحوه، فإن سَلِمَ، بطلت الحُجَّةُ، وإن نُوزِعَ فيه، فالنزاعُ في ما عداه أشدُّ، والفهمُ لغيره أبعدُ، والله أعلم. وَيعْضُدُه ما ذكره الإمامُ محمد بن المطهّر بن يحيى أن الموالاةَ المجمع (¬1) على تحريمها إذا كانت لأجلِ الموالى عليه مِن القبيح، ومن الظن أنَّه (¬2) القدر المتحقق إرادته، والزائد عليه قول بغير علم، ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ المقيدات لإطلاق النهي عن الركون، ولو لم يرد في ذلك إلا قولُه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين} الآية، ولذلك قالت الهادوية مع تشديدهم في ذلك: إنَّه يجوز محبةُ العاصي لِخَصْلَة خيرٍ فيه. ¬
الإشكال الحادي عشر: أن المتأولين غيو موجودين وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -
وكذلك قال أبو حيان: إنها الطُّمأنينة إليهم. ويجوزُ ترجيحُ قوله لتجويده في فنه وتحقيقِه في علمه في قراءةٍ وحديث ونحوٍ وفقهٍ وعلى هذا عملُ الأمة في جميع الأمصار منذ دهور وأعصار. وسيأتي بيان (¬1) استنادِ أهلِ البيت عليهم السلامُ إلى المخالفين في الحديث ونحوِه من العلوم التي هي أساسُ فروعهم الظنية، والعجبُ ممن منع المعلومَ بالضرورة من ذلك، وأعجبُ منه مَن سلَّمه، وزَعَمَ أن تقليدَ الفقهاءِ لا يجوزُ أو يكره (¬2)، فجعل الفروع أقوى من الأصل، وهذه غفلة عظيمة. فإن قلت: في هذا الإشكال العاشر تضعيف للإجمال الذي أوردتَه في الإِشكال التاسع. قلتُ: لم أورده لذهابي إليه، ولا لابتناء دليل (¬3) السَّيِّد على بطلانه، وإنما أقولُ بتضعيفه وعرض السَّيِّد لا يَحْصُلُ حتى يدلَّ على بُطلانه قطعاً. الإِشكال الحادي عشر: أن المتأولين كانوا غيرَ موجودين وقتَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي العُلماء من قال: إنَّ العمومَ لا ينصرِفُ إلا إلى الموجودِ المعروف الذي يَسْبِقُ إلى أفهام السامعين أن المتكلم أراده، وقد مَرَّ تقريرُ حجتهم في ذلك، ولا يَصحُّ الاستدلالُ بهذه الآية من السَّيِّد الذي يُبْطِلُ هذا الاحتمالَ بدليلٍ قاطِعٍ. الإِشكال الثاني عشر: أن المتأوِّل يُسَمَّى مسلماً بالنص الخاص، والمسلم مقبولٌ، وقد مر تقريرُ ذلك جميعاً. ¬
الإشكال الثالث عشر: أن المتأول يسمى مؤمنا
الإشكال الثالث عشر: أن المتأوِّل يسَمَّى مؤمناً والمؤمن مقبول، وقد مَرَّ تقريرُهُ أيضاً. الإشكال الرابع عشر: أن الآية عامَّةٌ في جميع الذين ظلموا، والاحتجاجُ بالعموم لا يَصِحُّ مع وجود المُخَصِّصِ، وهو موجود كما سيأتي في الفصل الثاني، ونذكر هناك مَنْ روى الإجماعَ على وجوبِ قبول أخبارهم، وأن العملَ عَضَدَ تلك الرواية، وذلك العملُ هو ما الناسُ عليهِ مِن القراءة في كتب المخالفين في القراءاتِ (¬1) والحديثِ وعلومِ العربية نحواً ولغةً ومعاني وبياناً وسائر علوم الإِسلام، والسيِّدُ ادَّعى أن المسألة قطعية، وكان مِن تمام هذه الدعوى أن يَدُلَّ بدليلٍ قاطع (¬2) على أنَّ تلك المخصصات بواطل لا يَحِلُّ التخصيصُ بها قطعاً. الإشكال الخامس عشر: أن السيدَ استدل على أن قبولَ قولهم ركونٌ إليهم بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]. قال السَّيِّد -أيَّده الله-: وذلك لأنهم أرادوا أن يُصالحوه على أن لا يُعْشَرُوا ولا يُحْشَرُوا، القصةَ. فَهَمَّ أن يُساعِدَهم إلى قبول قولهم، فنزلت، هذا لفظه، أيَّده الله. فأقول: الاستدلالُ بهذا على أن قبولَ المتأوِّل المتدين المظنون صدقه يُسَمَّى ركوناً لا يَصِحُّ، وذلك لأنَّه قياس، واللغة لا تثبُتُ بالقياس، فإن كان السَّيِّد يرى ثبوتَها بالقياس كما هو رأي بعضِ العلماء، فعليه أن ¬
الإشكال السادس عشر: أنا لو سلمنا أن اللغة تثبت بالقياس، لم نسلم صحة هذا القياس
يَدلُّ على ذلك بدليلٍ قاطع، وليس علينا أن نستدِلَّ، لأنَّه هو المستدل، ونحن سائلون له عن صحة القواعِدِ التي ينبني عليها دليلُه، والسائل لا يجبُ عليه إيرادُ الدليل. الإِشكال السادس عشر: أنا لو سلَّمنا أن اللغة تثبُتُ بالقياسِ لم نسَلِّمْ صحةَ هذَا القياسِ، وذلك أنَّ (¬1) كلامَنَا في قبول مَنْ أخبر بخبر، علينا في مخالفته مَضَرَّةٌ مظنونة، ولنا في قبوله منفعة مظنونة، وذلك فيما يدخل فيه الصِّدْقُ والكَذِبُ، وقِصَّةُ ثقيف هذه ليست خبراً أخبروا به النبي- صلى الله عليه وسلم - مما (¬2) يحتمل أنهم صدقوا فيه أو كذبوا، وإنما سألوه أن يُسْقِطَ عنهم الزكاةَ والجهادَ، والسجودَ في الصلاة فلم يُساعِدْهُمْ إلى ذلك، وليس عليه مضرة مظنونة في ترك مساعدتهم، ولا له منفعةٌ مظنونة في مساعدتهم. فأين هذا من خبر المتأوِّل المتدين المظنون صدقُه إذا أخبرك أنَّه سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن شيءٍ ويُحَرِّمُه، وخَشِيتَ من ارتكاب ذلك المحرَّم غضبَ الله عليك وعقابه لك، وغلب على ظَنِّكَ أنك واقعٌ فيه إِن فعلتَ ذلك المحرم فتركتَه، ما الجامعُ بَيْن الأمرينِ وأين هذا من هذا؟! الإشكال السابع عشر: أن ثقيفاً سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تغييرَ الشريعة، وتركَ ما أنزل اللهُ عليه، واتباع أهوائهم وجهلهم وجفاوتهم، فروى الزمخشري في " الكشاف " أن ثقيفاً قالت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لا ندخُل في أمرِك حتَّى تُعْطِينا خِصالاً نفتخرُ بها على العَربِ: لا نُعْشَرُ وَلَا نُحْشَرُ ولا نجبّي (¬3) في صَلاَتِنَا، وكُلُّ رِباً لنا فهو لنا، وكَل رباً علينا، فهو موضوعٌ ¬
عنا، وأن تُمَتِّعَنَا باللاتِ سنةً، ولا نكسرها بأيدينا عند رأسِ الحولِ، وأن تَمْنَعَ مَنْ قَصَدَ وادِينا وجَّاً (¬1)، فَعَضَدَ (¬2) شَجَرَه، فإذا (¬3) سألتك العرب لم فعلت ذلك؟ فقل: إنَّ الله أمرني بذلك وجاؤوا بكتابهم، فكتب: بِسْم اللهِ الرحمن الرحيم هذا كتاب مِن محمد رسول الله لِثقيف لا يُعْشَرون ولاَ يُحْشَرونَ فقالوا: ولا يُجَبُّونَ فسكت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال الكاتبُ: اكتب ولا يُجبّون، والكاتب يَنْظُرُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام عُمَر بنُ الخطاب فَسَلَّ سيفه وقال: أسعرْتُم قَلْبَ نبينا يا مَعْشَرَ ثقيفٍ أسْعَرَ الله قلوبَكُم ناراً فقالوا: لسنا نُكلِّمُ إيَّاك إِنَّما نُكَلِّمُ محمداً فنزلت (¬4). انتهي كلامُه. رحمه الله، وقولهم: ولا نُجِبِّي في صلاتنا. يعنون (¬5): لا يركعون ولا يسجدون. فهذا الذي سألوه هو تبديلُ الشريعة وتحريفُها، فالهَمُّ بمساعدتهم إِلى هذا من قبيل الهَمِّ بالمعاصي من غير عزمٍ، كقوله تعالى في يُوسُفَ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] لأنَّه لا يجوزُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العَزْمُ على تبديلِ الشريعة بغير إذنٍ من الله تعالى، ومما يَدُلُّ على أنهم أرادوا هذا قولُه تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] فكيف يَصِحُّ أن يُقاس تحريمُ قبولِ المتأولين الصادقين في الظنِّ الراجح على مساعدة ثقيف إلى تبديلِ الشريعة، فإنّه في تصديق المتأولين العملَ بالشريعة المظنون ثبوتها، والمحافظة على أن ¬
لا يَضِيعَ شيء منها لا معلوم ولا مظنون. وكيف يَحْرُمُ قبول من ثبت في الظن الراجح أنَّه بلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله من الحق خوفاً مِن عقاب الله تعالى على كتم العلم على تحريم قبول مَنْ صَرَّحَ بأنه يُرِيدُ تبديل كلامِ الله وتحويلَ شريعةِ رسول الله وما العلةُ الجامعة بينهما؟ فأما قولُ السيد: إِنَّ الله قد سمَّى هَمَّه - صلى الله عليه وسلم - بمساعدتهم (¬1) ركوناً إليهم، فنقول له: إنما سمى ذلك ركوناً إن صحَّت هذه القِصة، لأنَّه لم يَمِلْ إليهم لظن صدقهم فيما قالوه، ولا لِخوف مضرَّةٍ مظنونة تلحقه بمخالفتهم (¬2)، وإنما هَمَّ بذلك بمجردِ الطبيعة البشرية، وما كان فيه عليه الكلامُ مِن محبة اللُّطْفِ، وتيسيرِ الأمور، وكثرةِ الرفق بالخلق، والتأليف لهم إلى إلإِسلام، فقد أثَّرَ قولُهم فيه حتى مَيَّلُوا طبعَه الكريم بمجرد السؤال، فميله (¬3) إليهم بطبعه الشريف مِن غير عزم سببٌ من أسبابِ مقاربة الركونِ إليهم، فلهذا قال تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74] فهذا همٌّ طبيعي محض ليس مما نحنُ فيه في مَرَاحٍ ولا مغْدَى، وإنما الذي يُشبه مسألتنا ما قدمناه من أمانه عليه السلام لهم في الأصلاح التي كانت بينَه وبينَهم، فلم يكن عليه السلامُ يُنْكِرُ على المسلمين دخولَهم بلادَ الكفار ثقةً بوفائهم في أمانهم وصدقهم في قولهم، وعدم غدرهم في عهدهم، وكذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه اعتمر عمْرَةَ القضاء (¬4) في الأمان الذي جرى بينه وبينَهم، ولم يكن ¬
الإشكال الثامن عشر: أن السيد تشدد في معرفة صحة الحديث
في شيء من فعله عليه السلام، ولا مِن فعل المسلمين الذي أقرَّهم عليه ركونٌ إليهم لما كان اعتماداً على الظن الصحيح الراجح الحاصلِ عن القرائن العقلية الدائمة الصِّدق أو الأكثرية (¬1)، وهذا مقتضى المعقول في المظنون إلا ما خصَّه الدليلُ. الإشكال الثامن عشر: أن السيد -أيَّده الله- تَشَدَّد (¬2) في معرفة صِحَّةِ الحديثِ، ثم روى هذا الحديثَ في قصة ثقيف مع ما فيه من الإشكالِ في أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لكاتبه أن يكتب لهم ألا يركعُوا ولا يسجُدوا مِن غير إذن من الله، لأنَّه لو أَذِنَ له في ذلك لم يُنْزِلْ عليه الوعيدَ الشديد لو فعل ذلك فإن كان هذا صَحَّ للسيد -أيَّدهُ الله- فلا يمتنِعُ أن يصِح لِغيره شيء من الحديثِ، وإن لم يكن صَحَّ له، فلا ينبغي أن يحتجَّ بما لم يَصِحَّ بل لا ينبغي أن يَرْويَه. ثم في تأويله إشكال، وفي القرآن دليلٌ على أن النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرْكَنْ إلَيْهِمْ قليلاً ولا كثيراً ولا كاد يركن ركوناً كثيراً، وإنما الذي في القرآن " شيئاً يسيراً "، فلو كان قد ساعدهم إلى تغيير الصلاةِ، وأمر كاتبه أن يكتُبَ لهم ذلك مع أنها أعظمُ أركانِ الدين، لكان قد ركن إليهم، وُيوَضِّحُ ¬
هذا ما رواه أبو داود بإسناد صحيح في كتاب الخراج عن عثمان بن أبي العاص أنَّ وفدَ ثقيف لما قَدِمُوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنزلهم المسجدَ لِيكون أرَقَّ لقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يُحْشَرُوا ولا يُعْشَرُوا ولا يُجَبُّوا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [لكم أن] لا تُعْشَرُوا ولا تُحْشَرُوا ولا خَيْرَ في دِينٍ لَيْسَ فيه ركوع " (¬1). وروى أبو داود أيضاًً عن جابر رضي الله عنه بسندٍ صحيح أيضاًً فقال: حدثنا الحسنُ بنُ صباح، حدثنا إسماعيلُ بن عبدِ الكريم، قال: حدثني إبراهيمُ بنُ عقيل بن منبه، عن أبيه، عن وهب قال: سألتُ جابِرَ بنَ عبدِ الله عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال: اشترطَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا صَدَقَةَ عَلَيْهَا، ولا جِهَاد، وأنه سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلك يقول: " سَيتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إذَا أسْلَمُوا " (¬2). قال الخطَّابي (¬3): وُيشبه أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنما سَمَح لهم بالجهادِ والصَّدَقةِ، لأنهما لم يكونا وَاجِبَيْنِ في العاجل، لأنَّ الصدقةَ إنما تجبُ بحُؤول الحَوْلِ، والجهادُ إنما يجب بحضورِ العدو، وأما الصلاةُ فهي واجبة في كلِّ يومٍ وليلة في أوقاتها المؤقَّتَةِ، فلم يجز أن يشترِطَ تركها، وقد قَدَّمنا عن جابر رضي الله عنه أنَّه سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " سَيَتَصَدَّقونَ ويُجَاهِدونَ إذَا اسْلَمُوا ". ¬
وقال البغوي (¬1) في " تفسيره ": واختلفوا في سببِ نزولها، فقال سعيدُ بن جبير: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستلِم الحجرَ الأسودَ، فمنعته قريش، وقالوا: لا نَدَعُكَ حتى تُلِمَّ بآلهتنا فَحَدَّث نفسه: ما عليَّ أن أفعلَ ذلك، والله يعلم إنِّي لها لكارِهٌ وأُحِبُّ (¬2) أن يَدَعُوني حتى أستلِمَ الحَجرَ. وقيل: طلبوا منه أن يَمَسَّ آلِهَتَهُم حتى يُسلِمُوا، ويتبعوه، فحدَّث نفسه بذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية. وقال ابنُ عباس: قَدِمَ وَفْدُ ثقيف على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالُوا: نبايعُك على أن تُعطِينَا ثلاثَ خصال، قالوا: لا نجبي في الصلاة، أي: لا ننحني، ولا نكسَر أصنامنا بأيدينا، وأن تمتعنا بالَّلاتِ سنةً من غير أن نَعْبدَها، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا خَيْرَ في دينٍ لا رُكُوعَ فيه ولا سُجُود، وأما أن لا تكسِرُوا أصنامَكم بأيديكم، فذلك لكم، وأما الطاغية -يعني اللاتَ والعُزَّى- فإني غيرُ ممتعكم بها ". فقالوا: يا رسول الله إنا نُحِبُّ أن تَسْمَعَ العربُ أنك أعطيتَنا ما لم تُعْطِ غيرَنا، فإن خَشِيتَ أن العرب تقولُ: أعطيتَهم ما لم تُعطنا، فقل: اللهُ أمرني بذلكَ، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَطَمِعَ القَوْمُ في سكوته أن يُعطِيَهُم ذلك، فأنزل اللهُ عز وجل هذه الآية. قلت: الصحيح أن الآية نزلت في وفد ثقيف، فقد ثبت ذلك بالإسناد الصحيح من طريقين في سنن أبي داود (¬3)، وكذا هو في " عين المعاني " و" تفسير الواحدي " و" تفسير عبد الصمد " وبكُلِّ حالٍ، فليس في شيءٍ من هذه الأحاديثِ والأقوالِ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَاعَدَ وَفْدَ ¬
ثقيف إلى شيء من تغيير الشريعة بغير إذنٍ من الله تعالى على وجه صريح. وإذا تطابق الرُّواةُ والحُفَّاطُ على مخالفة الثقة عَدُّوا حديثه منكراً، وإن لم يكن في لفظه، ولا في معناه نَكَارَةٌ، فكيف إذا كان كذلك، وينبغي التثبتُ الكثيرُ في رواية هذا الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره العلامة رحمه الله، فكُلُّ أحدٍ يُؤْخَذ مِن قوله وُيترك إلا مَنْ عصمه اللهُ مِن رسله وأنبيائه، والله سبحانه أعلم. فإذا صحَّ للسيدِ أن يَرْويَ هذا الحديثَ، ويتأوَّلَه ويجعلَه معارضاً لكتاب الله، جاز لِغيره أن يَرْوِيَ من الأحاديث المتشابهة ما هوَ دُونَ هذا ومثله (¬1) ويتأوَّلَه، ويقول: إنَّه غير معارضٍ للقرآنِ. فإن قلتَ: إنَّك لم تروِ الحديثَ بتمامه. قلت: قد رويت أوَّله، وأشرتَ إليه بطُوله بقولك: القصة واستكملها (¬2)، والظاهِرُ أنَّكَ لا تستحِلُّ الروايةَ عن المحدثين والرجوع إلى تفاسيرهم، فلم نحملك على أنك أردتَ أخذ رواياتِهِم التي ذكرناها، لأنَّك صرحت بأنه عليه السلامُ هَمَّ أن يُسَاعِدَهُم إلى قولهم هكذا على الإطلاق فنسبتَ إليه الهَمَّ بتغيير الشريعة، وتمتيعهم باللات، والكذبَ على الله، لأن فيما سألوه أن يقول: الله أمره بذلك ولم يأمره به، وهو عليه السلامُ مُنَزَّهٌ: من (¬3) هذا، لأن الإجماعَ منعقِدٌ على تنزيهه من معاصي ¬
الإشكال التاسع عشر: أن لهذه الآية معارضا يدل على قبول المتأولين
الخِسَّةِ، والهَمِّ بالكذب على الله تعالى، وتغيير شريعته بغير إذن (¬1) مراعاة لِرِضا ثقيف مما يَجِلُّ عنه مقامُ النُّبوة على صاحبها الصلاةُ والسلام. الإِشكال التاسع عشر: أن لِهذه الآيةِ معارضاً يَدُلُّ على قبولِ المتأولين، كما سيأتي في الفصل الثاني، ولا يَتِمُّ للسَّيِّد الاحتجاجُ حتى يُبْطِلَ المعارض. الإِشكال الموفي عشرين: أن السَّيِّد قاس قبولَ تحريم المتأوِّلين فيما بلَّغوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريمِ قبول ثقيف في تبديل شريعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقياسُ على تسليم صحته لا يجوزُ إلا لمجتهد، لأنَّه لا يَصِحُّ إلا بعدَ المعرفة بعدمِ النصوصِ والظواهر، ولا يَعْرِفُ ذلك إلا مجتهد، والسيدُ قد شَكَّ في إمكانه وقطع بتعسُّرِه. الإشكالُ الحادي والعشرون: أنَّه يَلْزَمُ من الاحتجاج بهذه الآية تفسيقُ مَنْ قَبِلَ المتأوِّلين مثل المؤيَّد بالله، والمنصور بالله، ويحيى بن حمزة عليهم السلام، وعبد الله بن زيد رحمه الله، ومن لا يُحصى كثرةً من كبار الأئمة، وعلماء الأمة، لأن الكبائر عند الزيدية هي ما وَرَدَ عليه وعيد في القرآن، وقد ورد الوعيدُ في القرآن على الركون لقوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} وليس للسيد -أيَّده اللهُ- أن يقولَ: إنهم معذورون بعدمِ تعمد المعصية، لأنَّه قد نصَّ على أنها قطعية، ولا يُعْذَرُ المخالِفُ في القطعيات، فإن خالف السيد -أيده الله- مذهبَ الزيدية في أن ما ورد عليه الوعيدُ، فهو من الكبائر، فقد لزمه على مقتضى كلامه أنَّهُ غيرُ معظم لأئمة الزيدية، لأنَّه قد ألزمني ذلك بمخالفتي في بعض المسائل الظنية الفروعية لبعضهم. ¬
قال السيد: ومن ذلك قوله تعالى {ولا تتبع} الآية
قال: ومِن ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف: 142] وهو عام، فدخل فيه قبولُ قولهم. أقول: يَرِدُ على كلام السَّيِّد بهذه الآية إشكالات: الإشكال الأول: أنَّه ترك بيان وجه الاستدلال بهذه الآية كأنه لا يحتاج إلى الذكر لوضوحه، فنقول: لا يخلو إما أن يقولَ بالمعنى السابق إلى الأفهام أو يتعنَّت ويُلاحظ ألفاظ العموم، إن كان الأول، فلا شَكَّ أنه لا يَسْبِقُ إلى الأفهام من قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لا يُقبل حديث المتأولين المتدينين الذين بلَّغوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يغْلِبُ على ظنِّك أنه صحيح، وأنَّك متى خالفته استحققتَ العقوبةَ من الله تعالى، وإنما يسبق إلى الفهم تحريمُ اتباعِ سبيل المفسدين في الفساد في الأرض الذي هو إخافةُ السبل، وسفكُ الدماء وقد ذكر أهل العلم أن هذا هو المفهومُ في مثل ذلك، فقالوا: إن القائل إذا قال لِغيره: اتبع سبيلَ الصالحين، فُهِمَ أن مرادَه في صلاحِهم، ولا يلزم أن يَتَّبِعَ سبيلَهم فيما ليس مِن قبيل الصلاحِ من سكونِ بُلدانهم التي نشأوا فيها، ولزومِ معايشهم التي اعتادوا جِنسَها ونحو ذلك، بل قال العلماءُ بذلك في حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقد أمرنا الله أن نتأسَّى به، ونقتديَ به- فقالوا: لا يلزمُ من ذلك اتباعُه في أمور الجِبِلَّةِ التي يفعلُها بداعي الطبيعة من كراهة بعض المآكل، وحُبِّ بعضِ الروائح والأزواج ما لم يَكنْ في ذلك قربةٌ ورد بها الشرعُ، وذلك لأنَّا لم نفهم أن متابعتَه في ذلك مرادةٌ بكلامِ الله تعالى، وإن كان إطلاقُ الأمرِ بالتأسي يقتضي ذلك في أصلِ الوضع اللغوي، وكذلك قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لم يُرِدِ العمومَ في كُلِّ سبيل حتى لو فعلوا بعضُ المباحات لحرمت علينا، ألا ترى أنَّ بني العباس لمَّا استعملوا القصورَ الحصينة والطبول والآلات
الملكية، وسائر الهيئات المختصة بالدول العجمية التي لم يعرفها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابةُ، لم يحرم على الأئمة المتأخرين متابعتُهم في ذلك لِما قَصَدُوا فيه من إرهاب العدو، وإعزازِ الإسلام، وكذلك، فإن أئمة الجَوْرِ أوَّلُ مَنْ سن الألقابَ مثلَ الناصرِ والمنصورِ والمهدي، ولم يكن ذلك في زمن الصحابة، ولا نَعْلَمُ لعلي عليه السلام لقباً (¬1)، ولا لسيدي شبابِ أهل الجنة، وفعل ذلك الأئمةُ الكِبارُ من أهلِ البيتِ مِن غير طائل منفعة تحتَه، ولم يكن ذلك مِن اتباع المفسدين، وقد سأل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صومِ يومِ عاشوراء، لما سَمِعَ أن اليهودَ تصومُه، ولم يكن يصومُه عليه السلام، فقالُوا: إِنَّه اليومُ الذي أنجى الله فيه موسى من البحر، فقال عليه السلامُ: " نحْنُ أحَقُّ بِموسَى مِنْهُم " وَصَامَهُ وأمَرَ بصومه (¬2). ولم يكن فيه اتباعُ المفسدين مع أنَّه استند إلى خبرهم بأنَّه اليومُ الَّذي نَجَّى اللهُ فيه موسى، لأنَّه يتعلق بفضائلِ الأعمالِ دونَ الأحكامِ، وكذا في الحديث: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم يَنْزِلْ عليه فيه شيء، وأنَّهم كانوا يَسْدِلُونَ الشَّعرَ، والمشركون يَفْرِقونَ، كَان يَسْدِلُ ثم فرَقَ [بَعْد] (¬3) فلم يكن في شيء من ذلك راكناً إلى اليهود. ¬
الإشكال الثاني: أن النهى عن اتباع سبيل المفسدين ليس نهيا عن اتباع سبيل الحقيقة
إذا ثبت هذا، فنقول لِلسيد: ما هذا الإرسالُ لهذه الآية مِن غير بيان وجه الاحتجاج؟ هل يريدُ أنا لا نَتَّبعُ سبيلَ المفسدين فيما ثبت عندنا أنه واجبٌ؟ أو فيما ثبت أنَّه مباح؟ أو في ما ثبت أنَّه حرام؟، أو في جميع ذلك؟ وكُلُّ هذا مردود عليك إلا اتباعهم فيما هو حرام، وأما في الواجب والمباح، فخلاف إجماع الأمة، لكنا نستدِلُّ على أن قبول المتأوِّلين المتديِّنين الذين يقضي الظنُّ الراجحُ بصدقهم ليس هو مِن الحرام، وإنما هو من الواجب، كما سيأتي مبيناً في الفصل الثاني إِن شاء اللهُ تعالى. الإشكال الثاني: أنَّ النهي عن اتباعِ سبيل المفسدين ليس نهياً عن اتباعِ السبيل الحقيقية إنما هو نهي عن اتباع السبيل المَجَازية، وكلُّ ما فعل الإنسان لا يُسَمَّى سبيلاً له في المجاز، لأنَّه يحتاح إلى عَلاقة ظاهرة، وقرينة معروفة، فلا يُسَمَّى فعلُ الإنسان سبيلاً له (¬1) حتَّى يُلازمه وَيلْتَجَّ به، فالفسادُ سبيلُ المفسدين، وليس الأكلُ والشربُ سبيلَهم، وإن كانوا يأكلون ويشربون، وكذلك العملُ بقول من يَغْلِبُ على الطَّنِّ صدقُه ليس سبيلَ المفسدين بل سبيلُ العقلاء. وإذا قال السَّيِّدُ -أيده الله-: إن تصديقَ المتأوِّل المظنونِ صدقُه اتباع لسبيله. قلنا له: تسمية كلامِه سبيلاً مجازٌ، والمجازُ لا بُد له من قرينة ظاهرة، كالشجاعة في الأسد والشجاع، ولا يجوز أن تكون خفية، كالبَخَرِ ¬
الإشكال الثالث: أن قوله سبيل المفسدين يقتضي العموم
في الأسَدِ والرجُل الأبْخَرِ (¬1)، فأخبرنا ما القرينة الظاهرة الجامعة بين السبيل المسلوكة الحقيقية وبَيْنَ قول المتأوِّل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا حرام أو (¬2) هذا حلال، وكيف قَطَعَ السيدُ بأن هذا مرادُ الله تعالى وقد عسرَ تفسيرَ القرآن على الظاهر في آيات الأحكام الشرعية التي هي أجلَى من هذا وأقربُ منالاً!! فإن قلتَ: سبيلُ المفسدين هي قبولُهم لا قولهم. قلنا: هذا أضعفُ من الأول، لأن القبولَ سبيل القائلين، لا سبيل المقبولين، فإنه لا يَصِحُّ وصفُهم بقبول أنفسهم، فإنَّهم إذا سَمِعُوا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من أحد الثقات من غير أهل البدع، وجب عليهم العملُ بما علموا بالإجماع، ولم يَحْرمْ عليهم قبولُ أنفسهم هذا ما لا يقولُه أحد من أهل المعرفة. الإشكال الثالث: أن قولَه: {سبيل المفسدين} يقتضي العمومَ في المفسدين كما أن قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] يقتضي العموم في المؤمنين، فلا يدل ظاهرُه على وجوب اتِّباع بعض المؤمنين، بل يجب اتباعُ جميعهم، وهكذا هذه الآية ليس فيها تحريمُ اتباع سبيل بعض المفسدين، إنما فيها اتِّباعُ جميع المفسدين، وليس قبول خبرٍ واحدٍ منهم اتباعاً لسبيلهم أجمعين. فإن قلتَ: العلةُ كونُهُم مفسدين، فلا فرق بينَ اتباع سبيل الواحد والجماعة. ¬
الإشكال الرابع: أنا إذا سمعنا خبرا وظننا أنه صادق
قلت: الجوابُ من وجهين: الأول: معَارضَة، وهي (¬1) أن نقول: وكذلك العِلَّةُ في اتِّباع سبيل المؤمنين كونُهُم مؤمنين، والإيمانُ حاصل في الواحد، فكان يلزمُ وجوبُ اتباعه. الثاني: تحقيق، وهو أن نقول: سبيل الواحد من المؤمنين لما كانت تختلِفُ، فقد تكون صالحةً، وقد تكون غيرَ صالحة، لم نُؤْمَرْ باتباعها، وأما سبيلهم معاً، فلما علم الله أنهم لا يجتمِعُونَ كُلُّهُمْ إلاَّ على صلاح، أمر باتباعِ سبيلِهم، وكذلك في هذا يمكن مثل ذلك، وهو أن الله لما علم أن فعلَ الواحد منهم قد يكونُ مفسدة، وقد لا يكون كذلك لم ينهنا عن اتباع سبيله، بل يَقِفُ ذلك على الدليل، فإن كان مباحاً، أو واجباً لم يَحْرُمْ، وإن كان حراماً حَرُمَ، وأما جماعة المفسدين، فإنَّهم إذا اعتمدوا طريقة، واختصّوا بسنة لم يُوافقهم أهلُ الإيمان عليها، فإنها لا تكونُ إلا مفسدة، وما هذه صورته فهي التي تَصِحُّ في المجاز أن يُسمى سبيلاً لهم، وأما فعلُ الواحد منهم أو قولُه، فليس يَصِحُّ أن يُسمَّى سبيلاً للمفسدين. الإِشكال الرابع: أنا إذا سَمِعْنَا خبراً، وظننا أنَّه صادق راجح، وكان علينا مَضَرَّةٌ في مجانبته مظنونةٌ، وَعَمِلْنَا بما ظننا دفعاً للمضرة عن أنفسنا، لم نُسَم متبعين لسبيل مَنْ أخبرنا به في حقيقة اللغة ولا مجازها، أما الحقيقة، فظاهر، وأما المجاز، فلأن الأصل عدمُ إطلاق هذه العبارة على فاعل هذه الصورة، وإنما نسمَّى عاملين بالظنِّ الراجحِ، وبما فُطِرَتْ عليه العقولُ ¬
الإشكال الخامس: أن العمل بما يظن الإنسان وجوبه، وترك ما يظن حرمته ليس سبيل المفسدين
من أن دفع المضرة المظنونة واجبٌ، فالمتبع هنا هو الظنُّ، ودليلُ العقل لا سبيلُ المخبر بذلك. الإشكال الخامس: أنَّ العملَ بما يظن الإِنسانُ وجوبَه، وترك ما يظن حرمتَه ليس سبيلَ المفسدين إنما هو سبيلُ التحري من المؤمنين وهذا معلوم لِكُلِّ عاقِل، فثبت أن العملَ بروايتهم فيما يُظنّ وجوبه أو حرمتُه ليس اتباعاً لِسبيلهم قطعاً، بل اتباع لسبيل أهل الاحتياط والورع والتقوى. الإشكال السادس: أنا قد بينَّا في الفصل الثاني أنه قد روي إجماعُ الأمة على جواز قبولِ المتأولين، وجاء ذلك من عشر طرق، فصارَ من اتباع سبيلِ المؤمنين، وكان الأولى أن يقال: لا يُرَدُّ حديثُهم ورواياتُهم لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. الإشكال السابع: أنَّه معلومٌ بالتواتر والضرورة على تقديرِ تسليم عدمِ الإجماع أن قبولَهم قولُ طائفة من أئمة العِترة عليهم السلامُ، ومِن سائر عيون العلماء الأعلام، فالقائلُ لهم مُتَّبعٌ لسبيل (¬1) هذه الطائفة، لا لسبيلِ المفسدين لأنَّه اتبع سبيل ص (¬2) بالله وم بالله وأمثالهما من شِيعة العِترة رحمهم الله تعالى وسبيلَ أئمة الفقهاء الأربعة المقتدى بهم في جميع آفاق الإسلام، وهؤلاء ليسوا من المفسدين في الأرض الذين قال الله تبارك اسمُه فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]. ¬
الإشكال الثامن: أن الآية حكاية لخطاب موسى لأخيه هارون عليه السلام
الإِشكال الثامن: أن الآية حكاية لخطاب موسى لأخيه هارون عليهما السلامُ قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] وفي الاحتجاج بشرعِ مَنْ قَبْلَنَا خلافٌ كثير، فكان يجب على السَّيِّد أن يَدلَّ بدليل قاطع على أنا متعبَّدُونَ بشرع مَنْ قبلَنا، فأما الاحتجاجُ على ذلك بالأدلَّةِ الظنية فلا ينفعه في هذا المقام، لأن المسألةَ عنده قطعية. الإِشكال التاسع: أن هارون عليه السلامُ نبيٌّ مرسل من الله تعالى عالمٌ بالشريعة، مبلِّغٌ لها إلى العباد، وليس يَصِحُّ أن يكونَ متعبداً بأخبار الآحاد في شريعته، لأنَّه صاحبُها المنقول عنه أخبارُها لا إليه، فإذا كان كذلك، فمن المعلومِ أن موسى ما أراد نهيه عن قبول فساقِ التأويل في إخبارهم عن شريعته، وإذا كان انتفاءُ ذلك معلوماً، لم يَصِح استنباط ما هو فرع عليه، وذلك لأن الآية ليست متناولةً لنا بلفظها، ولا بمفهومها، وإنما تناولُنَا بدليل التأسي به على تسليم أنا متعبَّدون بالتأسي بجميع مَنْ قبلنا من الأنبياء، فكل ما (¬1) علمنا أنَّه لم يَقْصِدْ في خطابه، فكيف يحرُم علينا وهو إنما حرم لكونه حَرُمَ عليه فحين لم يثبت أنَّه حَرُمَ عليه لم يثبت ما هو فرعُه من تحريمه علينا. الإشكال العاشر: أن الآية إما أن تَرِد على المعنى الذي ذكرنا مِن العُرف السَّابِق إلى الأفهام، وهو أن المرادَ تحريمُ سبيلهم في الفساد في الأرض، فذاك الذي نُرِيد، وبِهِ يَبْطُلُ مرادُ السيد، وإن كانت واردةً على معنى العمومِ الذي تَوهَّمه السيدُ، وجب أن يكونَ مفهومُها إيجابَ اتباعِ ¬
سبيلِ المؤمنين على هارونَ عليه السلام، وذلك ظاهر من مفهوم الصفة أحدِ أقسام مفهومِ المخالفة، لأن المفهومَ مِن النهي عن اتباعِ سبيلِ المفسدين إيجابُ اتباعِ سبيلِ المؤمنين، لكنه لا يجب على هارون عليه السلام أن يقتديَ بأحدٍ من المؤمنين، ولا اتباع سبيلهم. فإن قلت: كيف لا يجبُ على هارون اتباعُ سبيلِ المؤمنين مع أن من لم يَتَّبعْ سبيلَ المؤمنين فقد اتبع سبيلَ المفسدين؟ قلتُ: سبيلُ المؤمنين قسمان: أحدهما: ما ذكرناه من السبيل العُرفية السابقة إلى الأفهام، وهي الإيمان بالله ورسلِه والمحافظة على طاعته. والآخر: اتباعُهُمْ في جميع الأفعال والأقوالِ على التفصيل، فإما أن يُرِيدَ السَّيِّد أنَّه واجبٌ على هارون عليه السلامُ اتباعُهم على الوجه الأول، فذلك مسلَّمٌ لا يَضرُّ تسليمه، أو على الوجه الثاني، فذلك ممنوع، لأن المشروعَ تأسي المؤمنين بالأنبياءِ لا تأسِّي الأنبياء بالمؤمنين، فإن نازع السيدُ في هذا، فعليه أن يَدُلَّ بدليلٍ قاطع، وإنما قلنا: لا يضر تسليمُ الأول، لأن الآية متى أرِيدَ بها ذلك لم يدخل فيه قبول المتأولين بنفي ولا إثبات، لأنَّه لَمْ يَسبق إلى الأفهام عند سماع الآية أن قبولَ المتأوِّلين من سبيل المؤمنين، أو ليس مِن سبيلهم، إنما السابقُ أن سبيلَهم ما ذكره من الإيمان بالله، والمحافظةِ على طاعته. فإن قلتَ: غاية المفهوم من هذه الآية أن يُبِيحَ اتباعَ سبيل المؤمنين، فلم قلت: إن مفهومها يقتضي إيجابَ اتباع سبيل المؤمنين على هارون عليه السلامُ.
الإشكال الحادي عشر: أن الاستدلال بهذه الآية لا يصح إلا من مجتهد
قلت: لأنك ذهبتَ إلى أن المرادَ بالآية تحريمُ قبولِ المتأوِّلين، وغير ذلك، فلزم منه وجوبُ قبول المؤمنين، لأن قبول خبرِ الثقات من المؤمنين في الحلال والحرام لا يكونُ مباحاً إنما يكونُ واجباً أو محرماً، لأن الإباحة في قبوله تقتضي التخييرَ، فيكون المكلفُ مخيراً إن شاء قَبِلَهُم، فحرم ما رَوَوْا تحريمَه، وإن شاء لم يقبلْهم، فحلَّ ما رَوَوْا تحريمه، وهذا لا يجوزُ، لأنَّه يُؤدِّي إلى أن تكون الشرائعُ موقوفةً على اختيار المكلفين. سلمنا أنَّه لا يجبُ عليه ذلك من قبيل المفهوم، فإنَه يُمكن أن (¬1) يجب من حيث إِنَّ النهي عن الشيء أمرٌ بضده عند كثير مِن أهل العلم، فكان يلزمُ السَّيِّد أن يستدِلَّ بدليل قاطع ٍعلى بُطلان هذا القولِ حتى يصِحَّ له الاستدلال بهذه الآية، فإن دلالتها لا تكون قطعيةً مع قبولها لهذا الاحتمال وأمثالِه. الإشكال الحادي عشر: أن الاستدلال بهذه الآية لا يَصحُّ إِلا من مجتهدٍ، والسيد مُدَّع لعدم الاجتهاد في حقِّه، بل شاكٌّ في دخوله في الإمكان، وقد قالَ -أيّدَهُ الله- فِي كتابه: إنَّه لا يُستنتج العقيمُ، ولا يُستفتى منْ ليس بعليم. الإشكال الثاني عشر: أن السيدَ قد سَدَّ الطريقَ في كتابه إلى معرفة تفسير القرآن العظيم وشغب (¬2) فيه كما تقدم، ثم إنَه فسر هذه الآيةَ الكريمة بهذا المعنى البعيد، فكيف التلفيقُ بَيْنَ تفسيره هنا، وتشديده هُناك!! الإِشكال الثالث عشر: أن السيدَ ادَّعى أن المسألة قطعية، وهذه ¬
الإشكال الرابع عشر: أن المتأولين من هذه الأمة ما كانوا موجودين في زمان هارون عليه السلام
الآية مِن قبيل العموم، وهو إذا تناولَ العمليات ظنيٌّ بلا خلاف، والظنيُّ لا يوجبُ القطعَ بالاتفاق، ولا يُنتج اليقينَ بغير منازعة. الإشكال الرابع عشر: أن المتأوَّلين من هذه الأمة ما كانوا موجودين في زمان هارون عليه السلامُ، وقد بينا فيما تقدم أن في (¬1) العلماء من يَقْصُر العمومَ على الموجود السابق إلى الأفهام، وقد تقدَّم الدليلُ على ذلك وتقريره. الإشكال الخامس عشر: أنَّه يلزم السيد -أيَّدهُ اللهُ- أن مَنْ أجازَ قبولَ المتأوِّلين مِن أئمةِ العِترة الطاهرة، ونجومِ العلم الزاهرة، ممن اتَّبَعَ سبيلَ المفسدين، واقتفى آثارَ الظالمين مثل الإمام السَّيِّد المؤيَّد بالله، والإِمامِ المنصورِ بالله، والإِمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليهم السلام، ومثل القاضي زيد، والعلامة عبد الله بن زيد، والقاضي أبي مضر رضي الله عنهم، وغيرهم ممن يأتي ذكرُه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، بل يلزمه أنَّهم ممن (¬2) دعا إلى اتباع سبيلِ المفسدين، واعتقد وجوبَ ذلك، واحتج عليه وليس له أن يقولَ: إنهم مصيبون، وإنهم معذورون إذ هي عنده قطعية. الإِشكال السادس عشر: سيأتي في الفصل الثاني -إن شاء الله تعالى- رواية الثقات مِن الأئمة إجماعَ الصدر الأول من هذه الأمة على قبولِ المتأوِّلين، وثبوت ذلك مِن عشر طرق أو أكثر، فيلزم السيد -أيده الله- أن خيرَ أمة أُخْرِجَتْ للناس ذهبوا إلى وجوبِ اتباعِ سبيل المفسدين. ¬
الإشكال السابع عشر: أنهم كانوا يسمون مسلمين
الإِشكال السابع عشر: أنهم كانوا يُسَمَّوْنَ مسلمين، والمسلم مقبول وقد مرَّ تقريره. الإشكال الثامن عشر: إنهم في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانوا يُسَمَّوْنَ مؤمنين والمؤمن مقبول وقد مر أيضاً تقريرُه. الإِشكال التاسع عشر: أنَّه كان يلزم السيدَ إبطالُ القول بقصر العموم على سببه بدليلٍ قاطع أو (¬1) الاستدلال بدليل قاطع على أن هذه ما نزلت على سببٍ، وقد مر أيضاً تقريرُه. الإشكال الموفي عشرين: أنَّه كان يلزمُه إبطالُ القول بأن العمومَ مشترك لدعواه القطعَ، وقد مر أيضاً. الإِشكال الحادي والعشرون: أن لهذه الآية مخصصاتٍ على تقديرِ تسليم العموم وقد مر مثلَه أيضاً، وسيأتي ذكرُ المخصصات في الفصل الثاني. الإشكال الثاني والعشرون: أن هذا العمومَ مخصوصٌ والاحتجاجُ بالعموم المخصوص مختلفٌ فيه، فكان يلزم السَّيِّد إبطالُ أنَّه ليس بحجة، وبيان أنَّه مخصوص أنَّه يجوزُ اتباعُ سبيل المفسدين فيما فعلوه مِن الواجبات والمندوباتِ والمباحات، وقد مَرَّ شيءٌ منه. قال: وَمِن ذلك قولُه تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] فهذا من الدلائل القرآنية. أقول: أطلق السَّيِّد هذه الآيةَ، ولم يُبين وجهَ الاحتجاج بها كأنه ¬
ويرد عليه إشكالات
ظاهرٌ لا يخفى، وَيرِدُ عليه في ذلك إشكالات: الإِشكال الأول: أن ظاهر هذه الآيةِ الكريمة يقتضي الأمرَ (¬1) باتِّباعِ كُلِّ مَنْ أنابَ إلى الله تعالى، لأن لفظهما مِن أحد الفاظ العموم، فصارت كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنَّ العلماء أجمعوا على أنها لا تُوجب اتباعَ سبيل المؤمن الواحد، وإنما اختلفوا هل توجِبُ اتباعَ المؤمنين إذا اجتمعوا على أمرٍ، فكذلك هذه الآية لا تُوجِبُ اتباعَ سبيلِ المؤمنِ الواحد. الإشكال الثاني: أن هذه الآية نزلت على سبب فيما رواه الزمخشري في " الكشاف " واعترف بذلك السَّيِّد في تجريده للكشاف (¬2). قال الزمخشري (¬3)، وَرُوِيَ أنها نزلت في سعدِ بنِ أبي وقاص ¬
الإشكال الثالث: أن الحجة في هذه الآية من قبيل مفهوم المخالفة
رضيَ الله عنه وأُمَّه، وفي القصة أنَّها مكثت ثلاثاً لا تَطْعَمُ ولا تَشْرَب حتى شجروا فَاهَا بعود، ورُوِيَ أنَّه قال: لو كان لها سبعون نفساً ما ارتددتُ إلى الكفر. فإذا ثبت هذا، فقد عرفت الخلاف في ما نزل على سبب، وما في هذا من الإِشكال وقد مرَّ تقريرُه. الإشكال الثالث: أن الحجةَ في هذه الآيةِ من قَبِيلِ مفهومِ المخالفة أحدِ قسمي المفهوم، وفي الاحتجاج بها خلافٌ كثيرٌ، ممن أنكرها الإِمامُ أبو حنيفةَ (¬1) رضي الله عنه على جلالته، فيلزمُ السيدَ إثباتُ دليلٍ قاطعٍ (¬2) على أنَّ مفهومَ المخالفة حُجَّةٌ حيث ورد لا يكونُ له صورةٌ ظنية، ولا يكفيه أن يكونَ حُجَّةً قطعية في بعضِ المواضع. الإشكال الرابعُ: أنا بَيَّنَّا أن هذه الآيةَ نزلت لأجل ما جرى مِن سَعْدٍ رضي الله عنه وأُمِّه، وقد ذكر أهلُ الأصول أن مفهومَ المخالفة إذا وَرَدَ لأجل حادثةٍ لم يكن حجةً، فإِن كان السيد يقول بهذا، لزمه الإِشكالُ، ¬
الإشكال الخامس: أن الزمخشري ادعى أن المفهوم من هذه الآية
وإن لم يُساعد على هذا، لزمه نصبُ الدليل القاطع على أن المفهومَ الوارد على حادثة حجةٌ قطعية كلية حتى تَدْخُلَ هذه المسألةُ تحتها على القطع، بل قد اعترفَ السَّيِّد في تجريده للكشاف (¬1) بذلك وقال في معناه ما لفظُه: يُريدُ: واتبع سبيلَ المؤمنين في دِينِكَ، ولا تُطِعْهُما فيه، يعني والديه المشرِكيْنِ الداعيين له إلى الشرك كما تقدم الآن في ذكر سببِ نزول هذه الآية. الإشكال الخامس: أن الزمخشري رضي الله عنه ادَّعى أن المفهوم من هذه الآية هو (¬2): ولا تتبع سبيلَهما، يعني: الوالدين المشركين، وهو إمامُ هذا الفن بلا مدافعة، والسيدُ فَهِمَ مِن هذه الآية: ولا تقبل أحاديثَ المتأوِّلين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يَتمُّ له هذا الذي فهمه حتى يَدُلَّ بدليلٍ قاطع على أن ما فهمه الزمخشري باطل لا يصح. الإِشكال السادسُ: أن قولَه: (مَنْ أنَابَ إليَّ) من المطلقات التي لم تقَيَّدْ بكثرة ولا قِلة بإطلاقها يقتضي أن مَنْ وُجِدَتْ منه إنابةٌ قليلة أو كثيرة، فهو ممن يَتَّبعُ سبيلَه إما في إنابته على المفهومِ الصحيح، وإما في قبول خبره وسائرِ سبله على تفسير السيد، فيلزم أن يجبَ قبولُ المتأولين على تفسير السَّيِّد خاصة، لأنَّهم قد أنابوا في كثير من الأمور. الإِشكال السابع: أنَّ حجة السَّيِّد إنما تستقيم على المفهوم، لكن المفهومَ يقتضي تحريمَ اتباع من لم يُنِبْ إلى الله في شيء، وهذا غيرُ حاصل في المتأوِّلين لما ذكرناه آنفاً، وهذا غيرُ الأول، فلا يَقَعُ وَهْمٌ، فإن هذا يقتضي رفعَ تحريم القبول، وذلك يقتضي إيجابَ القبول. ¬
الإشكال الثامن: كان يجب على السيد بيان أن الأمر للوجوب
الإِشكال الثامن: كان يجب على السَّيِّدِ بيانُ أن الأمرَ للوجوب بدليلٍ قاطع كما تقدم. الإِشكال التاسع: أن المتأوِّلين كانوا غيرَ موجودين في ذلك الزمان، فيكون السابق إلى الأفهام تحريمَ قبول خبرهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقد مر تحقيقه. الإشكال العاشر والحادي عشر: أنهم كاْنوا يسمَّون مسلمين ومؤمنين في زمانه عليه السلامُ، والمسلم والمؤمن مقبولان، وقد مر أيضاًً. الإِشكال الثاني عشر: إن الاستدلالَ بهذه الآية لا يَصِحُّ إلا من مجتهد، وقد جوَّزَ السيدُ أنَّه محال، وقطع بالتعسيرِ، فلا يَصِح أن يَصْدُرَ منه ما يجوز أنه محال. الإشكال الثالث عشر: أنَّه قد حرَّجَ في تفسير القرآن العظيم ثم فسَّرَ هذِه الآية الكريمة بما لا يَسْبِقُ إلى فهم، ولا يوجَدُ في كتاب من كتب التفسير المشهورة. الإشكال الرابع عشر: إن لم يَصِح أن للمفهومِ عموماً، لم يتِمَّ للسيد حُجَّةٌ في هذه الآية، وإن صَح أن له عموماً، فهو مخصوص، لأنه لَا يَصِحُّ قبولُ مَنْ لَم يُنِبْ في مواضعَ كثيرة كما تقدَّمَ، ونزيد ها هنا صورة، وذلك أنَّه يَصِح قبولُ قولِ المشرك: إنَّه أناب من الشرك فلو لم يُقْبَلْ حتى يثبت أنَّه منيب بغير خبره، لوجب أن لا تُقبل توبة التائبين، لأنَّه لا طريق لنا إلى العلم بصدقهم، ويلزم أن لا يكونَ العدل إلا مَنْ لم يصدُرْ عنه المعصيةُ البتة، وقد مضى لهذا صورٌ كثيرة، وتقدم دورُ هذا الإشكال.
الإشكال الخامس عشر: أن العلماء اختلفوا في عموم المنطوق
الإشكال الخامس عشر: أن العلماء اختلفوا في عموم المنطوق: هل هو مشترك، وقد قدمنا ذلك، فكيف بعموم المفهوم، فكان يلزم ذكر دليلٍ قاطع على أن عمومَ المفهوم لا يجوزُ أن يُرَادَ به الخصوصُ إلا على سبيلِ التجوز. الإشكال السادس عشر: أن لِعموم مفهوهاِ هذه الآيةِ مخصصات تأتي في الفصل الثاني، إن شاء الله. الإشكال السابع عشر: أنَّه يلزم السَّيِّد أن يكون مَنْ خالفه من كبار الأئمة وخيار الأمة ممن اتبع سبيل من لم يُنِبْ إلى الله، وممن ترك اتباع سبيلِ مَن أناب، ولا عذْرَ لهم في الاجتهاد، لأنها عنده قطعيةٌ وقد سبق مثل هذا. الإشكال الثامن عشر: أنا بيَّنَّا أن مَن غلب على ظنه صدقُ الخبر بالقرائن الصحيحةِ الدائمة الصدق أو الأكثرية، وغلب على ظنه أنَّه إن لم يعمل بمقتضاها وقع في مضرةِ العقاب، فإنه يجب عليه في العقل دفعُ تلك المضرة المظنونة، فاتباعُه لسبيل العقل، لا لسبيل منْ لم يُنِبْ إلى الله تعالى. الإشكال التاسع عشر: أنَّا بَينَّا أن في قبول المتأولين دفع مضار العقاب المعلومة والمظنونة، والإتيان بالواجبات المعلومة والمظنونة ومن المعلوم أن هذه ليست سبيل من لم يُنِبْ إلى الله تعالى، بل سبيل أهل التحري والتقوى مِن فُضلاء الأمة، ومن لم يُنبْ إلى الله، فقد خلع رِبقة التحري، واجترأ على ما يعلم أو يظن أنَّه قبيحٌ، فلم يكن بينهما ملازمةٌ، ولو دفعوا عن أنفسهم مضرة العقاب المعلومة والمظنونة، لأنابوا إلى الله تعالى.
الإشكال الموفي عشرين: أن الآية دليل على وجوب قبول المتأولين
الإشكال الموفي عشرين: أن الآية دليلٌ على وجوب قبول المتأوِّلين، لأن في قبولهم العملَ بما يُعلم أو يُظن أنَّه واجب، والترك لما يُعلم أو يُظن أنَّه حرام، وهذه طريقة المنيبين، وقد أمر اللهُ تعالى باتباعها، فوجب ذلك على مقتضى تفسيرِ السَّيِّد المختار، وهذا غيرُ الأول فتأمله. الإشكال الحادي والعشرون: أن هذه الحجة لا تَصحُّ إلا بعدَ عدم المعارض، وسيأتي أن لهذا المفهوم معارضاتٍ منطوقة ومفهومة. الإشكال الثاني والعشرون: هو الإشكالُ الثاني في الآية التي قبل هذه الآية، وقد تقدم بطوله فخذه من هناك. فهده مئة إشكال، واثنان وعشرون إِشكالاً على القلب من كلام السيد في هذه المسألة، أو تزيدُ قليلاً، وقد انتهت الأدلةُ القرآنية التي تمسَّك بها السَّيِّد -أيده الله- ولم يبقَ معه إلا ما لا يحتمل أن يكونَ فيه حجة قطعية من خبر آحاد أو قياس، وقد سئمتُ من التطويل في هذا، وخشيتُ أن يكون الواقفُ (¬1) عليه أكثرَ سآمة مني، وإنما حملني على بعضِ البسط فيما تقدم دعوى السيدِ أن هذه المسألة قطعية، وتعريضه بتأثيم من خالفه فيها، ودعواه أن أدلتَه ظاهرة لا يحتمل أن يشُكَّ فيها عاقل فأحببتُ أن أستكثر من إيراد الإشكالاتِ، لعل السَّيِّد -أيده الله- يَشُكُّ في تأثيمي ولا يقطع به بل (¬2) في تأثيم مَنْ خالفه من الأئمة الكبار، والسادة الأطهار، وسائرِ العلماء الأخيار. ¬
قال السيد: الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم"
قال: الثاني قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ هذا العِلْمَ دِينٌ فَانْظُروا عَمَّن تأخُذُونَ دِينَكُمْ " (¬1). أقول: في احتجاج السَّيِّد بهذا الحديث إشكالات: الأول: أنه قد شك في تعذُّرِ معرفةِ الحديث، وقطع بالتعسُّرِ، وأطال الكلامَ في هذا، وأوسع الدائرة في استبعاد وجودِ طريق صحيحهَ لرواية الآثار، وها هو ذا سابحاً في بحارها، عاشياً إلى ضوء نارِها كما منع مِن تفسير القرآن العظيم، ثم فَسَّر منه هذه الآيات المتقدمة بما لعلَّه لا يُوجَدُ في شيءٍ من التفاسير المعتمدة، بل المهجورة، فكيف التلفيقُ بينَ تحذيرِه من الرواية للحديث، والعملِ به هناك، واعتماده على رواية الحديث، والاحتجاج به هنا. الإشكال الثاني: سلمنا أنَّ كلام السَّيِّد غيرُ متناقض، وأنه يُمكن معرفةُ الحديث، فكان يجب على السيدِ بيانُ الطريق الصحيحة لهذا الحديث حتى يُلْزِمَ خَصْمَه قبولَه، وقد شرط السَّيِّد علينا في صِحة الحديث أن يكونَ له إسناد صحيح متصل، رواته عدول بتعديل عدول معدلين، وذلك التعديل معلوم وقوعه بخبر عدل، وإسناد صحيح حتى ينتهي إلى زمننا، فإن كان هذا حاصلاً مع السَّيِّد في هذا الحديث، فليتم المِنَّةَ علينا، ¬
الإشكال الثالث: سلمنا أن الحديث صحيح لكنه آحادي ظني
وُيعرفنا به وإن لم يكن له طريقٌ صحيحة كذلك فلا يليق بفضله أن يُوجِبَ علينا ما لا يُوجِبُ على نفسه، فإن اعتذر لنفسه بعُذْرٍ، فكان ينبغي منه أن يحْمِلَنَا على مثله. الإشكالُ الثالث: سلَّمنا أن الحديثَ صحيح، لكنه آحادي ظني، والسيد قد ادَّعى أن المسألة قطعية. الإشكال الرابع: أن السَّيِّد قد عَظَّمَ القولَ في تفسير القرآن العظيم، ومنع مِن معرفة اللغة، وحذَّرَ من الاجتهاد، لأنَّه ينبني على ذلك، ولا شك أن السنة مشاركة للقرآن في الحاجة إلى التفسير وأنَّ (¬1) تعذر تفسيرِ القرآن يستلزِمُ تَعَذُّرَ تفسير السنة، والاحتجاجُ بالسنة لا يَصِحُّ إلا بعدَ معرفةِ تفسير لها (¬2)، فكيف احتج السيدُ بهذه السنة؟ فما أجاب به في هذا، فهو جوابُنا حيث أخذنا بنص الأحاديثِ، فادَّعى السيد أن ذلك من استنتاجِ العقيمِ، واستفتاء من ليس بعليم. الإشكال الخامس: أن في هذا الحديث عموماً في موضعين: أحدُهما: العلم، فإنه يُشْمَلُ العلمَ بالقطعيات والظنيات، والعلميات والعمليات. وثانيهما: قولُه: عمن تأخذون دينكم. فإنه يَشْمَلُ الثقاتِ من المتأولين، والمتنزهين عن البدع، والمصرحين بالكبائر، والمصرحين ببعض المعاصي الملتبسة، وليس بنصٍّ في واحد مِن هذه على إيراده، ¬
الإشكال السادس: أن ذلك المخصص موجود
فإذا كان كذلك، فهو محتمل لوجود مخصص لم يعلم به، وهذا الاحتمالُ يمنع من كونه حجةً قطعية. الإِشكال السادس: أن ذلك المخصصَ موجود كما سيأتي في الفصل الثاني، إن شاء اللهُ تعالى، ووجودُه يمنعُ من كون هذا العمومِ حجةً ظنية. الإشكال السابع: أن هذا العمومَ يحتمِلُ وجودَ المعارض، وذلك الاحتمال يمنعُ مِن كونه حجةً قطعية. الإشكال الثامن: أن ذلك المعارض موجودٌ كما سيأتي في الفصل الثاني، ووجودُه يمنع من كونه حجة ظنية. الإشكال التاسع: يحتمل أن يكونَ منسوخاً، وهذا الاحتمال يمنع مِن كونه حجة قطعية. الإشكال العاشر: أن هذا الحديثَ مِن العمومات الواردة في العمليات، وما كان كذلك، فهو ظني بالإجماع، والسيد ادَّعى أن هذه المسألة قطعية. الإشكال الحادي عشر: أن الاحتجاجَ بالعُموم يحتاج إلى الاجتهاد، لأنَّه لا يَصِحُّ إلا بعدَ المعرفةِ بفقدِ (¬1) المعارض والناسخ والمخصص، واستكمال شرائطِ الاجتهاد، والسيد معترِفٌ بأنه ليس بمجتهد، ويحذِّرُ من الاجتهاد. الإشكال الثاني عشر: أنَّه يحتمل أن هذا العمومَ ورد على سبب، ¬
الإشكال الثالث عشر: أن هذا العموم مخصوص
وهذا يمنعُ من القطع، وقد مرَّ تقريرُه في الآيات السابقة. الإشكال الثالث عشر: أن هذا العمومَ مخصوص بجواز الأخذ بخبر الفاسق المصرح في مواضع كثيرة، وقد قدمنا شيئاً منها، وفي العمل بالعموم المخصوص ما تقدم. الإشكال الرابع عشر: أن الحديثَ ورد بلفظ الأمر، وفي كون الأمر للوجوب منازعة، والسيد مُدَّعٍ أن المسألة قطعية، فيجب بيانُ أن الأمر للوجوب بدليل قاطع. الإشكال الخامس عشر: أنَّه لا حجة في هذا الحديث لك، بل هي عليك، وذلك أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضَ الأمرَ في النظر إلينا فقال (¬1): فانظُروا عمن تأخذون دينَكم. وقد نظرنا كما أمرنا، هل الواجبُ الأخذُ بخبر من يُفيد خبرُه العلمَ أو الظنِّ، فوجد المعتبَر الظن؟ إذ لا طريق إلى العلم، فنظرنا في أخبار المتأوِّلين هل يُفيد الظن المعتبر أم لا؟ فوجدناها تفيده كما تفيده أخبارُ الثقات، فأخذنا به احتياطاً لديننا إذ كانت مخالفته تُؤَدِّي إلى ارتكاب المحرم المظنون تحريمه وتضييع الواجب المظنون وجوبُه مع ما دَلَّ على ذلك من سائر الأدله الآتية في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى. قال: ومنه قولُه - صلى الله عليه وسلم - " يحملُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ سَلَفٍ عُدُولُهُ، ينْفُون عَنْهُ تَحرِيفَ المُبْطلينَ، وانتحالَ الغَالِينَ " (¬2). أقول: احتجاجُ السَّيِّد بهذا الحديث كاحتجاجه بالحديث الأول في ¬
الإشكال الرابع عشر وهو الأول منها: أن رواية السيد لهذا الحديث مخالفة للمشهور
الإشكال، ويردُ عليه الإشكالاتُ الثلاثة عشر الواردة على الأول، وإشكالان بعد تلك الثلاثة عشر. الإشكال الرابع عشر: وهو الأول منهما أن رواية السَّيِّد لهذا الحديث مخالفة للمشهور في كتب الحديث، فإنه قد رواه جماعة من أئمة الأثر حُفَّاظِ السنة، منهم الحافظ الكبير أبو عمر بن عبد البر، والحافظ ابن القطان، والحافظ العُقيلي، والحافظ ابن النحوي، والشيخ العلامة ابنُ الصلاح فقالوا: " يحْمِلُ هذا العِلْم منْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " ذكره في " البدر المنير " (¬1)، وفي معنى رواية السَّيِّد إشكال، لأنَّه يكون المعنى: يحْمل هذا العلمَ عن كُلِّ سلفٍ عدول ذلك السلف فيكون السلف حاملين عن السلف، والمعروف أن الخلفَ هُمُ الذين يحملون عن السلف. الإشكال الخامس عشر: أن هذا الحديث حجة عليك لا لك، وذلك لأنَّه يقضي بتعديلِ حَمَلَةِ العلم على الإطلاق، ولا شك أن الرُّواة من المتأوِّلين من جُمْلَةِ حمله العلم، وقد احتج ابنُ عبد البر بهذا الحديث على أن كل حاملِ علم معروف العناية به، فهو محمول على السلامة، مقبول في فنه ذلك حتى يظهر جرْحُهُ (¬2) ولم أدرِ ما وجهُ احتجاج السيدِ بهذا الحديث؟! فليس فيه أمر بقبول المتأولين، ولا نهي عن قبولهم، وإنما أخبر عما يكون لا ذكر لهم فيه تصريح ولا مفهوم. ¬
قال السيد: ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - "من أخذ دينه" إلخ
قال: ومنه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أخذ دينه عن أفواه الرِّجال ذهبَتْ به الرجالُ مِن يمين إلى شمال، وكان مِن دينِ الله على أعظمِ زوال " تركنا العملَ به في خبر العدل لدليل، وبقي الباقي على الأصل. أقولُ: في الاحتجاج بهذا الحديث من الإشكالات الثلاثة عشر الذي في الحديثين الأول والثاني، ويختص بإشكالين بعدَها أولُهما. الرابع عشر: وذلك أن السيد ترك بعض الحديث، وهو قوله عليه السلام: " مَنْ أخَذَ دينَه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لسُنتي، زالتِ الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، مالت به الرجالُ من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال ". رواه السَّيِّد أبو طالب في كتاب " الأمالي " (¬1). وهذا الحديثُ لا يدل على ما ذكره السيد لوجهين. أحدُهما: أن في الحديث نصاً صريحاً في وروده في منْ أخذ دينه مِنْ أفواه الرِّجال على جهة التقيد لهم، وهذا يَدُلُّ على أن المراد به ما لا يجوزُ فيه التقليدُ، والذي لا يجوز فيه التقليد لا يُقبل من المتأول ولا من غيره، وإنما يُؤخذ فيه بالأدله القاطعةِ والبراهين الساطعة، فأين هذا مما نحن فيه؟! الثاني: أنه قد ذكر عليه السلامُ أن المتدبر لسنته ممن (¬2) تزولُ ¬
الإشكال الخامس عشر: أن الحديث حجة لنا على السيد
الرواسي ولا يزول دينُه، ولا شَكَّ أن سنته عليه السلامُ مأخوذة من أفواهِ الرجال المتواتر منها والآحاد، وكذلك القرآن الكريمُ مأخوذ من أفواه الرجال، فدلَّ على أن قوله: " من أخذ دينه من أفواه الرِّجال " عموم مخصوص، والمراد به منْ أخذ دينه من أفواههم على جهة التقليدِ لهم من غير حُجة، كما نجد المخالفين في العقائد يأخذونها عن شيوخهم مِن غير حجة سمعية، ولا عقلية، ولا أثارةٍ من علم، ويكون الدليلُ على التخصيص ذكره للكتاب والسنة المأخوذينِ من أفواه الرجال، فلو لم يحمله على هذا، لكان ظاهره متناقضاً، لأنَّه قضى لمن أخذ دينه عن أفواه الرجال بالزوال، ولمن أخذ دينه عن الكتاب والسنة المأخوذين عن أفواه الرجال بعدم الزوال، فلما تناقض الظاهرُ، وجب حملُه على ما يصح. الإشكال الخامس عشر: أن الحديث حجة لنا على السيد، وذلك لأن قوله عليه السلام في الحديث: " إن من أخذ دينه عن التفهم لكتاب الله والتدبر لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عام للمعلوم منهما والمظنون، أما الكتابُ، فالمعلوم من معانيه والمظنون، وأما السنة، فالمعلوم من ألفاظها ومعانيها والمظنون منها، وأخبارُ المتأولين من جملة السنة المظنونة، فدخلت في هذا الحديث، ونحن نُخرج من هذا الحديث ما دَلَّ الدليلُ على خروجه، وهو حديثُ المجروحين بالتصريح دون التأويل، وبقى سواهم على الأصل، وسيأتي لهذه الحجة مزيد بيان. قال: الثالث: أن الأصل أن لا يُقبل خبرُ الواحد، لأنَّه إقدام على ما لا يُؤمن كونُه خطأ، وأخبارٌ بما لا يُؤمن كونهُ كذباً، دل الدليل على قبول العُدول، وبقي الكافران والفاسقانِ على الأصل. أقول: جوابُ هذا لا يخفي على من له أدنى معرفة بعلم العقليات،
وأقل درْيَةً بالمسائل النظريات، فإن الإِقدام على ما لا يُؤمن كونُه كذباً وقبيحاً إنما يَقْبُحُ متى كان مستويَ الطرَفَيْنِ من غير رُجحان، أو كان مرجوحاً غيرَ مساوٍ ولا راجح، وهذا شيء ليس بالمختلف فيه، وإنما كلامُنا في المتأوِّل الذي صِدْقُه راجح على كذبه، ولا خلافَ بين أكثر العقلاء في حسن الراجح إن لم يكن في تركه مضرة، فإن كان في تركه مضرةٌ مظنونة، فهو واجب عقلاً، بل هو إجماعي فعلي من الموافق والمخالف كما يأتي بيانُه قريباً. والعجبُ مِن السيد -أيَّده الله- كيف غَفَلَ عن هذا وهو عمدة المتكلمين في إيجاب النظر حيث لم تندفِعِ المضرةُ المظنونة إلا به ودفعُها واجب، وما لا يَتمُ الواجبُ إلا به يجب كوجوبه، فكيف أُنْسِيَ السيدُ مثلَ هذا الذي لا يزال يُدَرِّسُه، ويُلقنه طلبةَ العلم؟ وقد ذهب السيدُ الإمام أبو طالب عليه السلامُ، والإمامُ المنصور بالله عليه السلام إلى عكس ما ذهب إليه السيدُ، وذلك أن العملَ بخبر الواحد واجب عقلاً، ورواه (ص) و (ط) (¬1) عليهما السلامُ عن جمهورِ العلماء، وحكي الخلافُ فيه عن طائفةٍ من الإمامية، وطائفةٍ من البغدادية، وقومٍ من الخوارج، ثم قال: والذي يَدُلُّ على ما ذهب إليه الجمهورُ: العقل والسمعُ، وساق الأدلة وَجَوَّدهَا، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسين البصري. قال (ص) باللهِ: والذي يَدُلُّ على صحة ما قدمنا من أن العقلاء يستحسنون بعقولهم العمل على خبر الواحد إذا غَلَبَ على ظنهم صِدْقُه في ¬
جلب المنافع، ودفع المضار، ومعلومٌ أنَّ التعبد وُضِعَ لهذين الوجهين، وهما جلبُ منافع الآخرة، ودفعُ مضارِّها، ولأنا كما نعلمُ بعقولنا وجوبَ تناولِ الدواء مِن يدِ الطبيب على بعضِ الوجوه، فكذلك نعلم بعقولنا وجوبَ تناولِه من يد غلامه إذا قال: أنا أُنهيه إليكلم على يدِ هذا الغلامِ، وغَلَبَ على ظننا حصولُ أمانته وفقْدُ خيانته في أنَّه يجب علينا تناولُه في الحالين على سواء إلى آخر كلامه عليه السلامُ في كتاب " صفوة الاختيار ". وأقول: إن العمل بالخبر المظنون صدقُه ما زال معمولاً به بَيْنَ العقلاء ممن وافق في هذه المسألة، ومِمن خالف، ولو كان الخبرُ بما يُظن صدقه قبيحاً في العقل لم يخبر أحد غيرَه إلا بالضروريات التي لا يُفيد الخبرُ بها، وإنما قلنا بغير ذلك، لأن المخبر بغير الضروري إن كان غيرَ عالم بما أخبر به، قَبُحَ منه الإخبار، وإن كان عالماً، قَبُحَ من صاحبه التصديق، وإن كانا عالِمَيْنِ معاً، فلا فائدة في الخبر إِلا ما لا يكاد (¬1) يُقْصَد من تعريف الإنسان لصاحبه أنَّه عالم، فهذه الصورة، ذَكَر علماء المعاني أنها قد تكون مقصودةً للمخبر، كقول المسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أنَّكَ رسولُ الله، وهو المسمى بلازمِ فائدةِ الخبر. وهذا القسم يلزم السَّيِّد أيضاً أن لا يكون للخبرية معنى، لأن قبولَه من المخبر به يكون حراماً في العقل، وكلامُ السَّيِّد هذا يؤدي إلى القول بأن الخبرَ والاستخبارَ قبيحانِ عقلاً لولا ورودُ الشرع بجوازهما، وهذا قول لا يتماسَكُ ضعفاً، فلم يزل العقلاءُ من المسلمين والمشركين والفلاسفة ¬
والبراهمة، وجميعِ الأجناس من أهل الملَلِ والنِّحَلِ والمذاهب والفِرقِ مطبقين من أوَّلِ عُمْرِ الدنيا إلى آخره في (¬1) أقطار الأرض وجزائر العالم على حُسْنِ الخبر والاستخبار، وتطلب الإِعلام، وتعلّم العلوم من الآحاد فالمريضُ يسأل الطبيبَ عما يشفيه، ويعتمِد على ما يأمره به، وأهلُ الحروب يبعثون العيونَ، ويعملونَ على ما يقولون، ومن خاف على صاحبه بعث إليه النذير، ومن احتاج إلى حاجةٍ من صاحبه وهو غائب أرسل إليه الرسول وكتب إليه الكتاب، وكذلك سائرُ التصرفات من جميع أعمال الدنيا والآخرة مبنية على الظَنَ، وحُسْنِ العمل عليه، فالتاجر يركب البحارَ، ويتعرض للأخطار على ظن الربح والسلامة، والزَّرَّاعُ يتحمل الأعمالَ الشاقة ويكدُّ بدنه في إثارة الأرضِ، ويُخاطر بما يطرح فيها من البذرِ على ظن التمام، والبقاء إلى يوم الحصاد، والملوك يجمعون الجنودَ، ويُنفقون الأموالَ في جمعها على رجاء الفتوح بمجرد الظن من غير قطع، وعمَّالُ الآخرة يتحمَّلون مشاق العبادة والمجاهدة على ظن القبول والسلامة في مستقبل العمر من الوقوع في المعاصي المُحْبِطةِ لتلك الأعمال، وطَلَبَةُ العلم يشرعون في غَيْبِ الكتب ودرسها على ظنِّ الفائدة وبلوغ الأمل، وكذلك ما لا يُحصى من جميع أجناس أفعال العقلاء الدالة على إطبقاهم على حسن العمل بالظن، ولا شَكَّ أن خبرَ المتأوِّلين يفيد الظنَّ عند من أجازه وعند من منعه، فالقول بأنه قبيح في العقل إما تعسُّفٌ شديد، وإما نزوحٌ عن التحقيق إلى مكان بعيد. واعلم أن العالِم من يرى الواضح واضحاً، والمشكل مشكلاً، وليس بمن يتكلَّفُ التشكيكَ في الواضحات وإيضاح المشكلات، فبان ¬
قال السيد: الرابع أنا أجمعنا على أنه لا يقبل فاسق التصريح
بهذا أن السَّيِّد قصد أن يستدِلَّ بالعقل على استقباح قبولِ المتأوِّلين، فانكشف أن العقلَ يقتضي وجوبَ قبول المتأولين. قال- أيَّده الله-: الرابع: أنَّا أجمعنا على أنَّه لا يُقْبَل فاسقُ التصريح، فإِمَّا أن تكون العلةُ تهمتَه بالكذب، وإما أن تكون إهانتَه والاستخفاف به، لأن قبولَ الشهادة والرواية مَنْصِبٌ رفيع يُلزم الخلقَ أحكاماً شديدة، فيلزمونها، فأيُّ رِفعةٍ أعظمُ منها؟ والعلة هي هذه، وهي موجودة في فاسق التأويل مثلها في المصرح، لأن معه دليلاً لو تأمَّلَهُ لما ارتكب البدعة، وأما إن عللنا بتهمته بالكذب ويرى أنَّه يُعاقب عليه، ويكون عند نفسه مطيعاً لله تبارك وتعالى، فيلزمُ مِن أرباب الملَلِ الخارجة عن الإسلام أن تُقْبَلَ روايتهُم مثل رُهبان النصارى، وعباد اليهود، ومثل البراهمة، فإنهم يتحرَّزون عن الكذب أشدَّ التحرز، ويتنزهون عنه أعظمَ التنزه. أقول: لما فَرَغَ السَّيِّد من الاستدلال بالكتاب والسنة والمعقول، عطف عليه الاستدلالَ بالقياس، وَيردُ على ذلك إشكالات: الإشكال الأول: أن القياسَ لا يَصِحُّ الاستدلالُ به في المسائل القطعية إلا مع القطعِ بانتفاء النص المحرم للقياس، أما المسائلُ الظنية، فإن ظنَ عدمِ النص يكفي في تجويز القياس، لكن السَّيِّد زعم أن هذه المسألة قطعية، فيجب عليه الدليلُ القاطع على عدم النص. الإِشكال الثاني: أن الإجماعَ موجودٌ على خلافِ هذا القياسِ فلا يصِح القياسُ مع وجود الإجماع، ومن ها هنا علق أبو طالب عليه السلامُ الاحتجاجَ بالقياس في هذه المسألة على عدم صحة الإجماع، وسيأتي في الفصل الثاني ثبوتُ الإجماع، وأنه لا طريق إلى القطع بانتفائه، والفرقُ
الإشكال الثالث: لا يصح الاستدلال بالقياس في مسألة قطعية
بينَ هذا الإشكالِ وبَيْنَ الأول أن هذا منع للقياس بوجود الإِجماع، وذلك منع لكون القياس قطعيّاً باحتمال النص. الإِشكال الثالث: لا يَصِحُّ الاستدلالُ بالقياس في مسألة قطعية مع وجود الظواهر المختلف في صحة القياس معها. الإِشكال الرابع: إذا سلَّمنا صحةَ القياس، فلا يصح الاحتجاجُ به في مسألتنا هذه على جهة القطع مع احتمال تخصيصِ العلة لكن من الجائز أن تكون العلةُ مخصوصة في قبول المتأولين، فما الدليلُ القاطع على المنع من ذلك. الإِشكال الخامس: أن المخصص لتلك العلة موجودٌ على تقديرِ صحتها وتسليمِ عِلِّيتها، كما سيأتي بيانُه في الفصل الثاني. الإِشكال السادس: أنَّه لا يصح الاجتهادُ بالقياس في مسألة قطعية مع احتمال المعارض من الأقيسة، فيلزم بيانُ دليلٍ قاطعٍ على ارتفاع الاحتمال. الإشكال السابع: أن المعلوم أن هذا القياسَ بعينه قياسٌ ظني، فإما أن ينازع السيدُ في هذا أَوْ لا، إن نازع فيه، فعنادٌ واضحٌ، وإن لم يُنَازِعْ فيه، فما معنى التَّرسُّل على مَنْ خالف مثلَ هذا القياس الظني؟! الإشكال الثامن: أن شرط الاحتجاج بالقياس عدمُ النصوص والظواهر، وشرط معرفة ذلك بقاء الطريق إِلى معرفة السنن، والسيدُ قد شكَّ في إمكان ذلك، وَمَنْ شَكَّ في شيء لم يُمكنه الاستدلالُ بما هو فرعٌ عليه.
الإشكال التاسع: أن الاحتجاج بالقياس من خواص المجتهدين
الإشكال التاسع: أن الاحتجاجَ بالقياس من خواصِّ المجتهدين، والسيد قد نفي الاجتهادَ عن نفسه، وشك في تعذُّره على الخلق. الإشكال العاشر: احتج السيدُ على أن المنصب هو العلة، لعدم استحقاق المتأوِّلين له، وليس في هذا حجة، فليس كُلُّ ما لم يستحقه المتأوِّلُ يصلُح أن يكونَ علة، ألا ترى أن المتأوِّل عند السَّيِّد وعند غيره لا يستحقُّ شفاعةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا (¬1) الاستغفارَ له مع أنَّه لا يَصِحُّ التعليل بذلك، فلا يُقال: إنَّ العدل إنما قبل، لأن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يشفعُ له بدليل أن المتأوِّلَ لا يستحقُّ الشفاعة، هذا كلامٌ نازل جداً. الإشكال الحادي عشر: أن التعليل بغير هذه العلة التي ذكرها السيد أرجح من التعليل بها وهو ظنُّ الصدق، ومع وجود ما هو أولى بالتعليل لا يَصِحُّ التعلق بها، وبيان رجحانِ التعليلِ به يَحْصُلُ بالكلامِ في أمرينِ: الأول: أن قولَ السيدِ يَنْتَقِضُ ذلك برهْبَانِ النصارى، ومَنْ يُظَن صدقُه من المصرِّحين والبراهمة غير صحيح ولا قادح في التعليل بالظن، فإنَّ تخصيصَ العِلَلِ الشَّرْعِيَّة جائِزٌ بإجماعِ الأُصوليين، ليسَ بَيْنَهُمْ خلافٌ على التحقيقِ إلا في العبارة، مثال ذلك: قولُهم في العلة في القصاص: إنه قتلُ عمْدٍ عدوان، وهذه العلة قد وُجدت في قتل الوالد لولده، وتخلف الحكم، لأن الوالد لا يقتل بولده فها هنا اختلفوا: فمنهم مَنْ يقُولُ: بتخصيص العلة، وأنها قد وُجِدَت في الوالد ولم تُؤثِّر لدليل خصها. ومنهم من يقول: لا تكونُ تلك العلة، ويزيد في العلة قيداً، ويقول: العلة القتلُ العمد العُدوان من غيرِ الأب، وكذلك يقول: العلة هاهنا ¬
الحجة الأولى: قوله تعالى {إن جاءكم فاسق} الآية
الظَّنُّ إن قلنا: بتخصيص العِلَّةِ، وإن لم نقل به، قلنا: العلة الظن مِن غير المصرح بالفسق، والخارج مِن الملة، ويبطل ذلك الاشكالُ الذي ذكره السيدُ بالمرة، وقد علل الله سبحانه وتعالى كثيراً من الأحكام الشرعية بحكم غيرِ مُطَّرِدٍ (¬1) - كالفطر في السفرِ في رمضان، فإن التعليلَ بالتخفيف ظاهر في القرآن في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] عقيب ذكرِ الفطر في السفر والمرض مع أن ذلك لم يَطرِدْ، فمن وقع في أعظم من مشقةِ السفر من الزُّراع وأهلِ الأعمال الشاقة، وأهلِ الجوع والمسكنة، لَمْ يَحِلَّ له الفطرُ لمجرد المشقة، وكذلك القصرُ، فإنه أُبِيحَ للمسافر تخفيفاً ورفقاً ولا يُباح للمريض مع أنه أحوجُ إلى التخفيف. وقد اختلف الأصوليون في التعليل بالحكم، وجوَّزه غيرُ واحد من المحققين فلا معنى للاحتجاج بما ذكره السَّيِّد في مسألة زعم أنها قطعية، ومنع الخصم من المنازعة فيها، فمثلُ هذا لا يرفع الخلاف ولا يقتضي القطع. الثاني في بيانِ الأدلة على أن التعليلَ بظنِّ الصدقِ أرجحُ، والدليل على ذلك وجوه: الحجة الأولى: قولُه تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] فقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} دليل على أن العلة في التبيُّن (¬2) خوفُ الخطأ، والرغبة في تحري ¬
الحجة الثانية: قوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل} الآية
الإصابة والصدق، ولو كانت العِلَّةُ المنصب، لقال: فتبيَّنُوا أن تُعظِّموا فاسقاً بجهالة. الحجة الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] واضح في الدلالة على أن المراد الصدقُ والتحري لا رَفع المناصب. الحجة الثالثة: قولُه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] ولو كانت العلة المناصبَ، وتعظيمَ المؤمن، لم يحتج العَدْلُ في ذلك إلى مصاحبةِ عدلٍ آخر، فبان لك أن المرادَ قُوَّةُ ظَنِّ الصدق. الحجة الرابعة: قولُه تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] وفي هذه الآية وجهان: أحدُهما: أنَّ الله تعالى شَرع قبول الكفار عندَ الحاجةِ إليهم، وهُمْ لا يَسْتَحِقُّون التعظيمَ ومنصبَ التكرِمة والتبجيل. وثانيهما: إنَّه لا يجوزُ قبولُهم بعلة الكفر، وبعلَّةِ الإهانة على كلام السَّيِّدِ، وقد خَصَّصَ الله سبحانه العِلةَ هنا، فأجاز قبولَهم، ففي هذا جوازُ تخصيص العِلة الذي أنكره السيد. الحجة الخامسة: قولُه تعالى في هذه الآية: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] فقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى} تنبيهٌ ظاهر على أن المقصودَ قوةُ الظن، وما هو أقربُ إلى الصدق.
الحجة السادسة: قوله تعالى {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة} الآية
الحجة السادسة: قولُه تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وأصل الآية، وإن كان في الكِتابة، فقد دخلت معها الشهادةُ بقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}. الحجة السابعة: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ " (¬1) الحديثَ رواه البخاري ومسلم وغيرُهم، فدلَّ على أن القصدَ الاحترازُ من الكذب، وفيه بيان تخصيصِ العلة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عَلَّل بهذا، فلو لم تخصص العلة، لم يجب التنبيهُ (¬2) على العدول الذين يَغْلِبُ على الظَّنِّ صدقُهم على القولِ المختار في جواز التعليل بالحُكم. الحجة الثامنة: ورد الشرعُ بشاهدٍ ويمينٍ (¬3)، واليمينُ فيها تُهمةٌ ¬
الحجة التاسعة: الملاءمة العقلية التي تثبت بها العلل
للحالف، ولا رفع فيها لمنصبه ألبتَّة، فقامت مقامَ شاهدٍ آخر في قوة الظن، لا في التعظيم، وهذا شاهِدٌ قويٌّ على أن العِلة قوةُ الظن. الحجة التاسعة: الملاءمة العقليةُ التي يَثْبُت بها العلل، وبيانُها: أن اشتراطَ العدالة عند الخبرِ والشهادة يُفهم منه أنَّه لِأمْرٍ يرجع إلى الخبر والشهادة من تصحيحهما الراجع إلى قوة الظن، لا لأمر يرجع إلى المخبر والشاهد مِن رفع منار مناصبهما، وإظهار شعار مراتبهما، لأنَّ رفع المناصب، وإظهارَ الفضائل لو كان مقصوداً، لما اختص بوقت الحاجة إلى الروايات، ولا ترجَّح عند المنازعات والخصومات، ولكان في الأعيادِ والجمعات، وعند اجتماعِ الناس للصلوات، وفي سائِرِ المقامات المشهودات. الحجة العاشرة: أن علماءَ المذهب في جميع الأزمانِ والأقطار ما زالُوا يعلِّلون في مسائل الشهادة والرواية بقوة الظن وضعفه في الأصولِ والفروع من غير نكير في ذلك، وهذا يقتضي ترجيح التعليلِ بالظن، ولْنَذْكُرْ مِنْ ذلك مسائلَ يسيرة مما نص العلماء فيها على التعليل بالظن. المسألة الأولى: أنهم قالوا: إنَّ من سَمِعَ الحديثَ من غيرِ حجاب، فروايتُه أولى ممن سَمِعَه من وراء حجاب، ولا شكَّ أن العِلَّةَ في هذا قوةُ الظن، لا أنَّ من سَمِعَ من غير حجاب أفضلُ عند الله تعالى. المسألة الثانية: أن يكونَ أحدُ الراويين مثبتاً، والآخرُ نافياً مع أن المثبت ليس بأفضلَ مِن النافي. المسألة الثالثة: أن يكون أحدهما عالماًً بالعربية، والآخَرُ غير عالم بها، وإن كان عالماًً بما هو أفضل منها مما لا يَتَعَلَّقُ بالرواية.
المسألة الرابعة: أن يكون أحد الراويين لا يستجيز الرواية بالمعنى
المسألة الرابعة: أن يكونَ أحدُ الراويين لا يستجيز الروايةَ بالمعنى، فإن روايتَه أرجَحُ. المسألة الخامسة: أن يكون أحدُ الراويين أكثرَ ذكاءً وفِطنة، فإنه أرجحُ ممن ليس كذلك، فإن الظن لصدقه أقوى، وأمثال هذه المسائل مما لا يُحصى كثرة وهو مذكور (¬1) في كتب الأصول في الترجيح بين الأخبار، فلا نُطوِّل بنقله مِن مواضعه. المسألة السادسة: قال العلماءُ: لا يَصِحُّ أن يشهد الشاهدُ لنفسه، وكذلك الحاكمُ لا يحكُم لنفسه وإن كان عدلاًً مرضياً، ورعاً تقيّاً، وعلَّلُوا ذلك بقلة الظَّن المستفاد من العدالة لقوة الداعي الطبيعي إلى ذلك عند الحاجة والخصومة ومحبَّةِ الغلب، وغيظ الحاسد، ومسرَّةِ الصديق من الدواعي الطبيعية المضعفة لظن الصدق، ولا يبقى معها إلا ظنٌّ ضعيف لا يصح الاعتماد عليه في الحقوق، وهذه الدواعي وإن لم تكن مستمرة دائمة، فإنها كثير ما تعرض (¬2) وقد تُعلَلُ بالعلة لكثرة وقوعها، لا لدوامها ألا ترى أن قوله عليه السلاُم: " لوْ يُعطى النَّاسُ بدَعواهُم لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأمْوالهُم، ولكن البيِّنَةَ على المُدَّعِي " (¬3) فعلَّل شرعيةَ البينَة بخوف أن يدَّعي مَنْ ليس بعدل ما ليس له، فوجب في حقِّ العدل، وفي حقِّ غيره خوفاً من الوقوع في تلك الصورة، ولما كانت الداعيةُ الطبيعية قوته في شهادة الإنسان لنفسه وحكمه لنفسه، أجْمَعَ أهل العلم على المنع من ذلك. ¬
المسألة السابعة: شهادة الوالد لأولاده وأحفاده وشهادة الأولاد لآبائهم وأجدادهم
المسألة السابعة: شهادةُ الوالد لأولاده وأحفادِه وشهادة الأولاد لآبائهم وأجدادهم وهي مرتبةٌ أضعفُ من المرتبة الأولى وقد اختلف العلماءُ فيها (¬1) ولم يجمعوا على بطلانها كشهادةِ الإنسان لنفسه، لأن حُبَّهُ لنفسه أقوى، وإن توهَّم بعضُ الناس أن محبته لأولاده أقوى، فهو خيالٌ كاذب ينكشِفُ بطلانُه وقتَ الشدائد العظيمة، ولهذا أخبر اللهُ تعالى: أن الناس يودُّون يومَ القيامة أن يَفْدُوا أنفسَهم من العذاب بأولادِهم وأهليهم، ولما كان حُبُّ الإنسان لأولاده وآبائه أضعفَ مِن حُبه لنفسه، اختلف العلماءُ فيها، فقال بعضُهم: هي تُهمة شديدة قد تحمِلُ على الباطل عند فورةِ الغضب، والعصبيَّةِ في الخصومات، وشدةِ المنازعة في الحكومات، وخوف غلب القرين، وشماتة الحاسدين، فأوجبت الشَّكَّ، فوجب طرحُها قياساً على شهادة الثقة على عدوه، فإنَّها غيرُ مقبولة مع عدالته لأجل التُّهمة، فكذلك هذه، وقال آخرون: ليست تقوى على القدح في الوازع الشرعي، ¬
المسألة الثامنة: شهادة الصديق لصديقه
وتخصيصِ عمومِ الدليل السمعي، وقال بعضُهم: لا تُقْبَلُ شهادةُ الوالد لولده لِقوة محبته له، وتقبل شهادة الولد لوالده لأنها أضعف. المسألة الثامنة: شهادةُ الصَّديق لصديقه وهي دونَ هاتين المرتبتين، فإن التُّهمة بها ضعيفة لا تُؤَثِّرِ في الوازع الشرعي، ولا تمحو خوف العذاب الأخروي، ولهذا شذ المخالفُ فيها، فلم يخالف فيها إلا مالك، فإنه منع مِنْ قبولِ شهادة الصديق الملاطف. كذا رُوي عن مالك مِن غير سماع (¬1). المسألة التاسعة: شهادةُ العدو على عدوِّه، وهي قويةٌ موجبة للردِّ، فلأجل ذلك شَذَّ المخالفُ في قبولها. المسألة العاشرة: شهادةُ أحدِ الزوجين للآخر وهي دون التي قبلها في المرتبة، وضعف التهمة، ولذلك اختلف العلماءُ فيها (¬2)، فمنهم مَنْ مَنعها، ومنهم مَنْ قَبِلَها، ومنهم مَنْ قَالَ: إن شهادةَ الزوجة للزوج (¬3)، لا تَصِحُّ لوجهين: أحدهما: شدةُ محبتها له، وثانيهما: تعلُّق حقوقها بماله من الكسوة والنفقة، وأما الزوج، فتصحُّ شهادته لها لضعف التهمة في حقه. المسألة الحادية عشرهْ: حُكْمُ القاضي على غيره (¬4) بعلمه اختَلف العلماءُ فيها لأجل التُّهمة. المسألة الثانية عشرة: تهمةُ الحاكم في إقراره بالحكم والقويُّ قولُ ¬
المسألة الثالثة عشرة: حكم الحاكم لأولاده وأحفاده وعلى أعدائه
مَنْ قال: إِنَّ من ملك إنشاءَ الحكم مَلَكَ الإقرارَ. المسألة الثالثة عشرة: حُكْمُ الحاكم لأولاده وأحفاده، وعلى أعدائه، وأضداده، فإن سَمِعَ البينةَ، وفوَّض الحكم إلى غيره، ففيه خلاف، وقال بعضُ العلماء: لا يحكم لأولاده وعلى أضداده بعلمه، سواء قلنا: إنَّه يحكم بعلمه أو لا، لأن التُّهمة تقوى في حكمه لأولاده وعلى أضداده. المسألة الرابعة عشرة: طولُ العهد بالتعديل والتزكية لما كان مُضعِّفاً للظن اختلف العلماءُ فيه، فمنهم من لم يقبل شهادةَ من قَدُمَ العهدُ بتعديله، لأن العادة جرت بأن كثيراً مِن العدول يتغيرون، والصبرُ قليلٌ، والدواعي كثيرة، وما ندري لو سئل المُعَدِّلُ إعادةَ التعديل: هل يبقى عليه، فضعف الظَّنُّ واختلف هؤلاء، فقدَّره قوم بثلاثةِ أيام فصاعداً فأبعد في ذلك، وقدَّره آخرون بمدة تتغير فيها الأحوالُ في العادة، وهذا أقربُ على تقدير صحة هذا القول وإن كان الظاهر خلافَه. المسألة الخامسة عشرة: إذا شَهِدَ بطلاقِ ضَرَّةِ أمِّه، فردَّها بعضُهم، لأن محبة الأم أكثرُ من محبة الأب، وقَبِلَها بعضُهم، لأن في ذلك مضرةً على أبيه وهو يُحبُّه أيضاً، فضعف جانبُ التهمة، دليله لو شَهِدَ لأحدِ ولديه على الآخر، لأن داعي الطبيعة متعارض. المسألة السادسة عشرة: لو شهد لعدوه على أبيه أو صديقِه، قبلت، وكانت أقوى الشهادات مع أنَّه لا يُقْبَلُ لو شَهِدَ عليه، فدل على اعتبار الظن. المسألة السابعة عشرة: لو شَهِدَ الفاسقُ المستخفي بفسقه الذي
المسألة الثامنة عشرة: التائب من الفسق الصريح لا تقبل شهادته
يخاف العارَ من نسبة الفسق إليه، ومن رد الشهادة، فإذا شهد في حال فِسْقِه فَرُدَّت شهادته، ثم إِنَّه تاب، وأعاد الشهادةَ بعد التوبة، لم يقبل عند بعضِ العلماء، لأن له غرضاً طبيعيّاً في نفي تكذيبه الواقع قبلَ التوبة، وإن كان مشتهراً بالفسق فأعاد الشهادةَ بعدَ التوبة، فقد اختلف الرَّادُّون لشهادة المستخفِي في هذا، لضعف غرضه، وكذلك لو شَهدَ على عدوه، فرد، فزالت العداوة، فأعاد الشهادة، ففيه خلاف لمثل ذلك. المسألة الثامنة عشرة: التائبُ من الفسق الصريح لا تُقْبَلُ شهادتُه عند توبته حتى تمضي مدة يُظن فيها صدقُ توبتِه، وتظن عدالتُه كما تظن عدالةُ غيره، وقد قدَّرها بعضُهم بسنة، وبعضُهم بستة أشهر، والقوي أن أحوال التائبين تختلِفُ، وقد يظهر على التائب من التلهُّفِ والتأسُّف والبُكاء والجزع ما يقضي بصدقه، فدل هذا على أن العلة قوهُ الظن، ولو كانت العلةُ المنصب لاستحقَّها التائبُ عند ظهور التوبة، كما يستحق التكرمةَ والتعظيمَ، وسائر حقوق المؤمنين بالإجماع. المسألة التاسعة عشرة: أن الفاسقَ المتأوِّل إذا تاب مِن فسقه لم يختبر، وقبلت شهادته على الفور عند من لا (¬1) يقبلُها فلو كانت العلة المنصبَ لم يكن بين المتأوِّل والمصرِّح فرقٌ في ذلك. المسألة الموفية عشرين: اختلف العلماءُ في الفاسق المصرِّح إذا كان معروفاً بالصدق، مشهوراً له، عظيمَ الأنَفَةِ من الكذب والوقوع فيه بحيث إنه يخافُه ويمنعُه من شهواته كما يخاف المؤمن العذابَ ويمنعه مِن شهواته، واستمر هذا، وظهر بالقرائن القوية وطول التَّجْرِبَةِ، فروي عن ¬
المسألة الحادية والعشرون: قال العلماء: يصح إقرار المرء على نفسه
أبي حنيفة قبولُه وهو مذهبُ الإمام المنصور بالله عليه السلام في الأرض التي يَقِلُّ فيها وجودُ العدول من بوادي الأعراب ونحوها أخبرني به اليَقظُ العارف ذكره في " المهذب "، وقاسه على شهادة أهلِ الذمة عند الضرورة والسَّفَرِ، ورده الجمهور، لأن وازِعَ الحياءِ من الناس، وخوفَ العارِ، وحُبَّ المحمدةِ -وإن عظم- فإنه لا يقومُ مقامَ خَوفِ الله تعالى ووازع الشرع، لأنَّ ذلكَ يضعف في ما يخفى، ويظن صاحبُه أنَّه لا ينكشِفُ للناس، والوازعُ الأُخرويّ والحياء من الله تعالى مستوٍ في الباطن والظاهر، فلهذا شَذَّ المخالفُ في هذه المسألة وضَعُف قوله. المسألة الحادية والعشرون: قال العلماءُ يصِحُّ إقرارٌ المرء على نفسه لِزوال التهمة، بل هو أقوى من الشهادة، ولو أنها شهادةُ جماعةٍ من العدول (¬1)، لأن وازِعَهُ عن الكذب على نفسه فيما يضرُّه طبيعي، ووازع الشهودِ شرعي، والطبيعي أقوى من الشرعي، ولهذا قُدِّمَ عليه حيث يتعارضان في شهادتِه لنفسه وعلى عدوه، ونحو ذلك. المسألة الثانية والعشرون: إذا أقرَّ العبدُ بما يُوجِبُ الحدَّ أو القصاصَ، صح إقرارُه، وإن كان فيه مضرةٌ على سَيِّدِه، لأن فيه مضرةً على نفسه، فَقَوِيَ الظَّنُّ لصدقه قوةً مقاربة للعلم، ومنهم من قال: لا يُقْبلُ لأجل مضرةِ السيد، أما لو أقرَّ بما فيه مضرة على السيد، وليس فيه مضرةٌ على نفسه لم تُقبل قطعاً لضعف الظنِّ، وقُوَّةِ التُهمة. المسألة الثالثة والعشرون: إقرارُ الراهن بأن الرهن ملكٌ للغير، ¬
المسألة الرابعة والعشرون: لو شهد شاهد على بيع يوم الأحد، وشهد الثاني على ذلك البيع يوم الاثنين
وإقرارُ المحجور عليه بالفَلَسِ بعينٍ من أعيان ماله لغير غرمائه اختلفوا في صحته لأجلِ قُوَّةِ الظن وضعفه. المسألة الرابعة والعشرون: لو شَهِدَ شاهدٌ على بيع يومَ الأحد، وشَهِدَ الشاهد الثاني على ذلك البيعِ يومَ الاثنين، فقد اختلفوا في قبولهما لِضعف الظَّنِّ مع كمال نصابِ الشهادة، وردُّهما يقوى في القتل والإتلاف لتعذرِ حمل الشاهدين على تكرر ذلك بخلاف إلبيع، فإنَّه يحتمل التكرُّر وفيما لا يحتمل التكرر، الظاهرُ تكاذُبهما، أو تساهلُ أحدهما في تأدية الشهادةِ بالظن، فضعف قبولُه. المسألة الخامسة والعشرون: لما كان الظَّنُّ المستفادُ ممن يُخبر عن الواقعة عن سماعٍ أو مشاهدة أقوى مِن الظن المستفادِ ممن يُخبرُ عنه، لم تُقبل شهادةُ الفرع إلا عندَ تَعذُّرِ شهود الأصلِ، أو عند المشقةِ في حضورِهم. المسألة السادسة والعشرون: لما كان المنكر لا شهادةَ عليه لم يكتفِ بالأصلِ وهو أنَّه لا حقَّ عليه، وذلك أنَّه أمكن تأكيدُ الظَّنِّ المستفادِ من الاستصحاب باليمين، فتعيَّن العدولُ من القوي إلى الأقوى. المسألة السابعة والعشرون: تقديمُ البينة المثبتة على النافية لأجل قوة الظن. المسألة الثامنة والعشرون: إذا تعارضت البينتانِ بَطل الحكم على قول، وذلك لبطلان الظَّنِّ. فهذه المسائلُ وأضعافُها مما في كتب الأصول والفروع (¬1) مما تداولَه العلماءُ قديماً وحديثاًً في جميع الأمصار، وَمِنْ جميع ¬
قال السيد: ولأن المجبرة والمرجئة لا يرتدعون
المذاهب مناديةٌ نداءً صريحاً أنهم فهموا أن العلة في اشتراطِ العدالةِ في الشاهد والرَّاوي والحاكم: هو الظن، ولهذا لا تشترط العدالةُ حيث يكون الداعي طبيعيّاً، كالمُقِرِّ على نفسه. وقد تُخَصَّصُ العلةُ كما هو شأنُ كثيرٍ من العلل الشرعية بخلاف العلل العقلية. إذا عرفت هذه الشهرةَ العظيمةَ في التعليل بالظن، فاعلم أنَّ التعليلَ بالمنصب الذي ذهب إليه السَيِّد وقواه على هذا على العكسِ مِن ذلك في عدم الشهرة، وقِلَّةِ ذكر العلماء له، وتفريعهم عليه، فعدولُ السَّيِّد من هذا المستفيض المشهور إلى ذلك النادِرِ المغمورِ مما لا يَصِحُّ في مِثْلِه أن يدعي أن المسألة قطعيةٌ، وُيشَنِّعَ على مخالفه بذلك. قال: ولأنَّ المُجْبِرَةَ والمُرْجِئَةَ لا يرتدِعون عن الكذب وغيره من المعاصي، أمَّا المُرْجِئَة فعندَهم: أنَّهم مؤمنونَ، وأنَّ اللهَ لا يُدْخِلُ النارَ مَنْ في قلبه مثقالُ حَبَّةٍ من خردلٍ من إيمان وإنْ زنى وإن سرقَ، وإن قَتَلَ (¬1)، والكذب أخفُّ مِن ذلك. ¬
أقول: الجواب من وجوه
أقول: الجوابُ على السَّيِّد في هذا من وجوه: الوجه الأول: أن قولَ السَّيِّد إنَّهم لا يرتدِعُونَ عن الكذب وغيرِه من المعاصي، مباهتةٌ عظيمة وإنكارٌ للضرورة، فإن كلامنا إنما هو في مَنْ ¬
عُرِفَ منهم بالعبادة العظيمة، والمحافظةِ الشديدة على ما يعتقِدُ أنَّه واجب، والمعلومُ بالضرورةِ لِكل فرقة من فرق الإِسلام أن في المرجئة عُبَّاداً وزهاداً يقومون الليل، ويحيونه بالتلاوة، وينتحِبُونَ بالبكاء العظيم من خوف العذاب الأليم، ويحافظون من النوافل على ما هُوَ أشَقُّ من المفروضات بأضعاف مضاعفة، ويتركون المعاصي والمحرمات. فقولُ السيد: إنهم يرتكبون الكذبَ وسائرَ المعاصي غيرُ صحيح بالضرورة، لأنهم إما أن يُدَّعى إن ارتكابَهم للمعاصي مشاهَدٌ بالأبصار، فذلك مُبَاهَتَةٌ، وأما أن يُدَّعى أن فعلَ الطاعة، واجتنابَ المعصية غيرُ مقدور لهم لبطلان الداعي، وانتفاء الصارف، فذلك غيرُ صحيح، ولا سيما عندك لو قَدَّرْنَا بطلانَ الداعي، وانتفاء الصارف، لكنه غيرُ باطل كما سيأتي، وإما أنْ نُقِرَّ أن فعلَ الطاعة، واجتنابَ المعصية مقدور لهم، ممكن وقوعُهُ منهم في العقل والشرع، فما معنى قطعه بأنَّهم فعلُوا أحد الجائزين؟ وهلاَّ قال: إنهم يفعلونَ الطاعة، ويترُكون المعصيةَ، لأن ذلك مقدور لهم، ولهم إليه أعظمُ الدواعي من المنافسة في مراتب الآخرةِ والتعرض لنفحات رحمة (¬1) من يعتقدون أنَّه أرحمُ الراحمينَ، وأكرمُ الأكرمين، والمالك لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ، وقد قررَ السَّيدُ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يخْبِرَ بخبر يجوزُ أنه كذب، فكيف أخبر عن جميع المرجئة بارتكابِ الكذب وغيرِه من المعاصي بمجرد الجُزَافِ من غير دليل يَدُلُّ على ذلك لا مِن العقل، ولا مِن السمع؟ وليس يجوزُ مثلُ هذا الكلامِ في الفسَّاقِ المصرِّحين إلا في ما شُوهِدَ من معاصيهم، فليس لك أن تقولَ في قاطِع الصلاةِ: إنَّه يَشْرَبُ الخمرَ، ولا في شاربِ الخمر: إنَّهُ يزني، ولا في الزاني: إنَّه يُربي، ولا ¬
في السَّارق: إنَّه يقتل النفس، فكيف قلتَ في من أُرجىء، ولم يُعرف منه إلا هذه المعصية: إنَّه يفعل غيرَها من المعاصي التي يعتقد تحريمَها، وهلا قلتَ: إن قوله هذا يضعف الظن لصدقه، ويضعف الظن لاجتنابه للمعاصي كما تقول العلماءُ. فإن قلتَ: إنك إنما عَنَيْتَ بهذا فساقَ التصريح منهم. قلت: ليس كلامُنا في فساق التصريح على أنَّه لا يجوز الرجمُ بالغيب على فُسَّاق التصريح، ولا كفار التصريح، والعجبُ أن السيد -أيَّده الله- قال في البراهمة مع إنكارهم للنبوات، وما جاءت به الشرائع من عذاب النار في حقِّ الفُساقِ والكفار: إِنهم يتحرَّزُونَ عن الكذب أشدَّ التحرز، فيتنزَّهُونَ عنه أشَدَّ التنزه مع إنكارهم لعذابِ النار بالمرَّة، بل مع تكذيبهم لجميع الرسل والأنبياء، وإنكارهم لجميعِ ما جاؤوا به مما يُخالِفُ العقول من إيلام الحيوان في الدنيا والآخرة، فكيف أخبر عنهم بأنَّهم في غاية التحرز من الكذب. وأما المرجئة، معَ تصديقهم للأنبياء عليهم السلامُ، وخوفِهم من الموت على الكفر الذي لا يُغفر، وإثباتِهم للعذاب الأخروي، فقطع السيدُ بأنَّهم يكذبون، ويرتكبون سائرَ المعاصي، ولم يُمكنه العدولُ عن هذه العبارة إلى ما هو أقربُ منها إلى الصدق، وإلى ما يكفيه في (¬1) جرحهم، بل تعدى الطور في الغلو، و (¬2) جاوز الحد في التعدي حتى فضَّل البراهمَة المصرِّحين بتكذيب اللهِ ورسُلِه، القاطعين ببطلانِ العذاب، ¬
الوجه الثاني: اعلم أن الحامل على المحافظة على الخيرات
القاضينَ بتقبيحه على من آمنَ بالله وملائكتِهِ ورُسُلِهِ، وأقام أركانَ الإسلام الخمسة، واجتنب الكبائرَ المتواترة، وإنما عرضت له شُبْهةٌ في خبرٍ واحدٍ من أخبارِ الله، تعارضت عليه فيه العمومات والخصوصاتُ مع تقويه عند اعتقاده أنَّ الله صادق (¬1)، ولا يُخلِفُ الوعدَ ولا الوعيدَ. الوجه الثاني: اعْلَمْ أن الحاملَ على المحافظة على الخيرات والمجانبة للمكروهات، ليس مجردَ اعتقاد أنَّ الله يُعَاقِبُ على الذنب ولذلك لم يكن العدلُ مَن اعتقد أن الله لا يغفِرُ كبيرةً إلا بالتوبة، ولا قال أحدٌ مِن أهل (¬2) الإسلام: إنَّ هذه حقيقةُ العدل في الشرع، وإنما الحامل على العدالة شرفٌ في النفوس، وحياءٌ في القلوب عن مبارزة المنعم بجميع النعم بالمعاصي، ولهذا فإِنَّ أكثر الخلق محافظةً على الخير، ومجانبة للشر أكثرُهم حياءً من الله وتعظيماً وإجلالاً له، وأما مجرد الاعتقاد، فهو واحد لا يزيد، ولا يَنْقصُ ولهذا تجد الوعيدية مختلفين مع أن اعتقادَهم واحد، ولكن تفاضلها في شرف النفوس، وأنَفِهَا من دناءة المعاصي ومذلَّةِ الفواحش، واختلفوا في شِدَّةِ الحياءِ من ملك الملوك، وربِّ الأرباب، وتباينت مراتبهم في التعظيم والإجلال لِمَنْ بيده الخيرُ وهو على كُلِّ شيء قدير، ولهذا فإن أقربَ الخلق إلى الله أخوفهم منه، ولهذا اشتَّد خوفُ الأنبياء والأوصياء، وكانوا أرغَبَ الخلقِ إلى الطاعات، وقد كان كثيرٌ من الصَّالحين لا يرضى أن يَعْبُدَ الله خوفاً مِن العذاب ولا رغبةً في الثواب، وإنما يَعْبُدُهُ إجلالاً، ويُطيعه تعظيماً (¬3)، وكذلك قالت ¬
المعتزلة: لا تَصِحُّ العبادةُ بقصد دفعِ العقاب، وطلبِ الثواب، فكيف يقال: من لم يخف، قال الزورَ، وارتكب الفجورَ؟! هذا كلامُ مَنْ لم يتأمل، فقد علمنا بالضرورة أن في المرجئة عُبَّاداً خاشعين، ورُهباناً خائفين مشفقين حزناً، باكين صائمين قائمين، وكثيرٌ منا إذا نظرتَ أخَسُّ منهم في الأحوال لا في العقيدة وللهِ الحمد، وذلك لأن مَنْ صبر على مشاقِّ الطاعات، وتركِ الشهوات من غير خوف العذاب، فهو شريفُ النفس، حُرُّ الطبيعة، عزيزُ الهِمَّةِ، عظيمُ المروءة، كثيرُ الأنفة مِن دناءة المعاصي، شديد الحياء من الله تعالى، ومن لا يقومُ إلى الطاعة حتى ¬
يَخَافَ الخلودَ في النار، ولو كان إلى مجرد الحياءِ من الله تعالى، وإلإِجلالِ له، والقيامِ بحقه لم يرفع إلى ذلك رأساً، ولا هَمَّ به أبداً، فهذه طبيعة شرارِ العبيد، وخِساس الهِمَمِ، ولهذا قيل: والعبد لا يَرْدَعُهُ إلا العَصَا، وإن كثيراً من الصالحين المتوسطين -دَعْ عنكَ الأكابر- لو يعلمُ أنَّ الله قد غَفرَ له كُلَّ ذنب، ولكنه يكره المعصيه منه، ولا يرضاها له، ولا يأذَنُ له بها لمْ يَفْعَلْهُ لو أرِيقَ دمُه، وفارق روحَه، وقد روي في الحديث " نِعْمَ العَبْدُ صهيْبٌ لَوْ لَمْ يخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ " (¬1) بل هذه حالُ كثير من المحبين للمخلوقين فيما بينَهم، وفي ذلك يقول شاعرُهم: أهَابُكِ إجْلاَلاً ومَا بِكِ قُدْرَةٌ ... عَلَيَّ وَلكِنْ مِلءُ عيْنٍ حَبِيبُهَا (¬2) فهذا معلوم فيما بينَ المتحابين من المخلوقين والذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله. ¬
الوجه الثالث: أن نقول: ما السبب في تخصيصك المرجئة
الوجه الثالث: أن نقول: ما السببُ في تخصيصِك (¬1) للمرجئة بالذكرِ دونَ سائرِ أهلِ البدع؟ فإن كنتَ إنَّما ذكرتَهم لأجلِ بدعتهم، فقد شاركهم فيها كثيرٌ من الخوارج، وسائرُ فِرَقِ الضلال، وإن كنتَ إنما ذكرتَهم، لأنهم يُجَوِّزُونَ أن أهلَ المعاصي من أهل الإسلام يدخلون الجنة، بل يقطعونَ على ذلك في من مات على الإسلام، فلا شكَّ أن قولهم بدعة، ولكن السَّيِّد قَصَدَ أنها بدعة صارفةٌ عن الطاعة، وداعيةٌ إلى المعصية بحيث لا يظن في من اعتقدها أنَّه يأتي بواجبٍ، ولا يَرتَدِعُ عن قبيح، وقد غَلِطَ السيدُ في ذلك فإن جميعَ الفرق قد شاركت المرجئةَ في ما هو مثلُ قولهم في تقليل الداعي إلى الطاعة، وتهوينِ الصارفِ عن المعصية، وذلك أن الوعيدِيَّ يقطعُ أن الله تعالى يَقْبَلُ التوبة، فيرتكب المعاصي ثقة بالتوبة، كما أنَّ المرجىء يعتقد أنَّه يَغْفِرُها، فلا فرق بينَهما في الداعي والصارف، وإن كان المرجىء مبتدعاً، وذلك لأن كُلَّ واحد منهما يعتقد أن الله يغفرُ الذنبَ، ويجوز أنَّه مِن أهل النار والخلود فيها، وإنما اختلفا في كيفية المغفرة وسببها، فالوعيدي يقول: إن الله يغفِرُ بالتوبة على سبيل الوجوب عليه، والمرجىء يقول: إن الله يغفِرُها بالإِسلامِ على سبيل التفضُّلِ منه، وإنما قلنا: إن كُلَّ واحد منهما يجوز أنه من أهل النار، فلأن المرجىء يجوز أن يموت على غير الإِسلام، كما أن الوعيدِيَّ يجوز أن يموتَ على غير التوبة، بل على غيرِ الإسلام، بل هو أشدُّ من المرجىء في ذلك، لأنه يعتقدُ أنَّه يَجِبُ على الله قبول التوبة، والمرجىء لا يعتقِد وجوبَ العفو، لأن الوعيدي قد يعتقِدُ أنَّه يجب على الله تَبْقِيَةُ العاصي بعدَ المعصية حتى يتمكَّنَ مِن التوبة وهو قولُ أبي علي، وأبي القاسم، لأنَّه قد كلَّفه بالتوبة، ¬
والتكليفُ لا يَحْسُن إلا مَع التمكين، والشيخ أبو القاسم يقول: إن الأصلحَ واجبٌ على الله، فإذا صارَ العبدُ مؤمناً، وعَلِمَ اللهُ أنَّه يعودُ إلى الكفرِ أو الفسق، لم يَجُزْ أن يُبْقِيَهُ، فهؤلاء أشدُّ أماناً من المرجئة، فإنه يلزم من قول أبي القاسم أن مَنْ مضى له وقت يَعْلَم أنَّه قد أتى فيه بجميع ما كلَّفه اللهُ تعالى، عَلِمَ أنَّه من أهلِ الجنة، فإنه يَقْبُحُ مِن الله تعالى أن يُميتَه على حالٍ يستحق عليها العقوبةَ، وهذا أعظمُ مِن مذهب المرجئة، لأنَّه يُؤَدِّي إلى الأمانِ من العذاب على جهةِ القطع، والمرجئةُ لا يُثبتون ذلك لتجويزهم أن يموتوا كفاراً فيُعَذَّبُونَ بذنب الكُفْرِ الذي لا يُغفر لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} [الروم: 10] على أحدِ التفسيرين والاحتمالين، والثاني: أن السُّوأى هي النارُ وكأنَّه المشهورُ، وخرج الحاكم في تفسير (سورة الحشر) عن علي عليه السلامُ: أن عابداً تزيَّنَتْ له امرأة فَوَقَعَ عليها، فَحَمَلتْ، فجاءه الشيطانُ فقال: اقتُلْهَا قبل أن تفضحَك، فقتلها ثم افتضح فأخذوه، فجاءه الشيطان فقال: اسْجُدْ لي سجدةً واحِدَةً وأُنجيك فَسَجَدَ له، فنزل في ذلك قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} الآية، قال الحاكم: صحيح الإسناد (¬1)، والمرجئة تقول: المعاصي بريدُ الكفر، وليس في مذهبهم أمانٌ ¬
للتائبين لجهل الخواتِم، كيفَ المُصِرِّينَ؟ فلو كان السببُ في العِصيان هو قِلَّةَ الدواعي إلى الطاعة (¬1) وكثرةَ الصوارف عنها، ما كانت فِرقةٌ من فرق الإسلام إلا وهي مجروحة في العدالة، غيرُ مقبولة في الشهادة والرواية، ولكان العدْل من اعتقد أن الله لا يَقْبَلُ التوبةَ، ولا يُقِيلُ العَثْرَةَ، ولا يَغْفِرُ الخطيئة، لأن المعتقد لهذه العقيدة أبعدُ الناس عن المعاصي، ولكن ليس الأمر كذلك، فقد بيَّنا في الوجه الأول أن وجودَ الطاعة ليس بحسب الاعتقاد، إنما هو بحسب كرمِ النفوس، وشرفِ الطباع، ولهذا اختلف الكفار المصرَّحون في التلطخ بالرذائل، والصبر على المكارم والفضائل مع إنكارهم الجميع للمعاد الأخروي، فإنه كان فيهم من يتحمَّلُ من مشاقِّ مكارِمِ الأخلاق والمعروف ما يقومُ في المشقة مقامَ تَحَمُّلِ واجبات الشريعة، وكذلك كانوا يجتنبون المَذَامَّ وإن كانت شهيةً محبوبة؛ ولهذا قال حاتم: وإنكَ إنْ أعْطَيْت بَطْنكَ سُؤله ... وَفَرْجَكَ نالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا (¬2) ولهذا كان فيهم السيدُ والمسودُ على قدر تفاضلهم في الصبر على المكاره، واحتمال مشاقِّ المكارِم، ولهذا قيل: لَوْلَا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كلُهُمُ ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقْدام قَتَّالُ (¬3) ¬
الرجه الرابع: أنه لم يرد في الشرع أن العدل
وقالت العرب في أمثالها: تَجُوعُ الحرَّة، ولا تأْكُلُ بثَدْيَيْها (¬1). وقالت هند لِرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أوتزني الحُرَّةُ (¬2)؟ ومِنْ ثمَّ قال عليه السَّلامُ: " خَيْرُكُم في الجَاهِلِيَّةِ خَيْرُكُمْ في الإسْلَامِ " (¬3). الوجه الرابع: أنَّه لم يَرِدْ في الشرع أن العدلَ من اعتقد إن الله لَا ¬
الوجه الخامس: أن مجرد الاعتقاد أن الله تعالى يتفضل بمغفرة الذنوب
يغْفِرُ لأهل التوحيد بسَعَةِ كرمه ورحمته مِن غير تكذيب للوعيد، ولكن لما ورد في السمع مما ظاهرُه ذلك (¬1) فقال بذلك على سبيلِ الإيمان بالسمع من غير جُرأة على المعاصي، فلم يَردْ نصٌّ في كتاب الله تعالى، ولا في سُنَّةِ رسول الله أن مَنْ حافظ على الواجبات، واجتنب المحرمات، وعُرِفَ بالصِّدْقِ والأمانة، فإنه إذا اعتقد أن الله يَغْفِرُ لأهل التوحيد لشبهةٍ اعتقدها في ذلك، فإنها تُرَدُّ شهادته، ولا تُقبل روايتُه. الوجه الخامس: أن مجرَّدَ اعتقاد أن الله يتفضَّلُ بمغفرة الذنوب (¬2) من غير أن يجب عليه ذلك بالتوبةِ، وتكفير الصغائر ليس مما يدُلُّ على كذب من اعتقد ذلك. ولو أن عبداً من عبيد المخلوقين اعتقد في سيِّدِه أنه في غاية الكرم والحِلْمِ والمسامحة من غير وجوب عليه لم يدُلُّ ذلك على أن جميعَ مَا رَوَى عن سيده، فإنه كذب، وجميعُ ما أمره به سيده، فإنه يعصيه فيه، بل قد يكونُ هذا العبد في غاية الإجلال له والطاعة مع اعتقاده لحلمه وكرمه رغبةً منه في محبة سيده، واستجلاباً لخيراته أو (¬3) محبة منه لسيده، وشكراً له على نعمائه، وكذلك عَمَلُ الناس مع إخوانهم وأهل الحِلم والكرم مِن أقاربهم، فلم يكن قرابةُ الأحنفِ وعشيرته يكذِبُونَ عليه، ويَعُقُّونَ رَحِمَه لأجل حِلمه، ولو كان لأحدنا صديق في غاية الحِلم والكرم بحيث يعرف أنَّه لا يؤاخِذُنَا، لم يكذب عليه ويَعُقَّه، ويجعل ذلك عادةً مستمرة، بل قد يزيدُه حلْمُهُ وكَرَمه رغبةً في طاعته، وزيادة في محبته، وكم من مَهيبٍ يُعصى وتُحتمل عقوبته لأجل بغضه، ومساوىء ¬
أخلاقه، وكم مِن حليم يُطاع، ويُمتثل أمرُه، وتفنى الأرواح والأموالُ في طاعته، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل هذه الصِّفَةِ الشريفة، بل هو الذي بَلَغَ أعلى مراتبها، واختصَّ بأقصى مناقبها، وهي صفتُه في التوراة والفرقان، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] إلى غير ذلك. وفي تفسير السَّيِّد في قوله تعالى حكايةً عن المنافقين في عيبهم له بأنَّهُ " أُذُن " قال السيد: أي: يُصدِّقُ كلَّ مَا سمِع، وَيقْبَل قَوْلَ كُل أحد وقال في قوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] أي: نعم هو أُذُنٌ، ولكن نِعْمَ الأذنُ، إلى قوله في تفسير كونه خيرَ أذن أنَّهُ يُصدق بالله وًيقْبَلُ من المؤمنين المخلصين إلى قوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُم} [التوبة: 61] أي: أظهر الإيمان منكم أيُّها المنافقون يقبل إيمَانَكُمُ الظاهرَ، ولا يكشِف أسرارَكم، فهو أذن كما قلتم، لكنه أذُنُ خيرٍ لا أُذُنُ شرٍّ. فسلم لهم أنَّه أذن، لكنه فسَّره بما هو مدح. انتهى. فلم يكن حِلْمُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحُسْنُ خلقِهِ، وجزاؤه السيئةَ بالحسنة، حاملاً لخير أهله وأصحابه على الكذب عليه، والعقوقِ له، والتساهلِ في طاعته. وكذلك كلُّ حليم مع أصحابه وقرابته وجيرانِه، فمن أينَ للسَّيِّد أنَّ المرجئَة لما اعتقدوا أنَّ اللهَ يغفِرُ لأهل الإسلام كرماً واسعاً، وحلماً عظيماً، ورحمة لهم، واستغناءً عنهم، فقد استهانوا بجلال الله، وانهمكوا في معاصي الله، وصار دأبهم الكذبَ على الله ورسوله؟! ولقد رأيتُ مِن الصالحين مَنْ يزدادُ عملاً ونشاطاً على الرجاء، ويزدادُ نفوراً على الخوف، وهذا معروف عند أهل الذوق وأنشدوا في ذلك: لَهَا بوجْهِكَ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَمِنْ أيَاديكَ في أعقابِهَا حَادِي لَهَا أحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ المَنَامِ وتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
الوجه السادس: أن اعتقادهم لو كان حاملا لهم على الكذب لحملهم على ترك الصلاة
الوجه السادس: أن اعتقادَهم لو كان حاملاً لهم على الكذب، لحملَهم على ترك الصلاة والصومِ والحجِّ، وسائر الواجبات التي ثبت أنهم يُحافِظونَ عليها أشق من الصدقِ في الرواية، بل ليس في الصِّدق مشقة في كثيرٍ من الأحوال، وكذلك لو كان اعتقادُهم يحمِلهُم على الكذب، لحملهم على ما هو أشهي منه إلى النفوس، وعلى ما هُمْ أحوج إليه من القبائح من أكل الحرامِ والزنى والاشتغالِ بالمعازف والملاهي وسائرِ المحرمات، فإِنها أشهي من الكَذِب، بل الكذبُ غيرُ شهي في نفسه، ولا طَيِّب في ذاته، فالذي حملهم على مشاق الطاعات الواجبات والمندوبات يحملُهم على الصدق الذي هو دون الواجبات والمندوبات، وكثيرٌ من الواجبات في علو المرتبة. والذي حملهم على ترك الشهوات المحرمات والمكروهات يحملُهم على ترك الكذبِ على الله ورسوله الذي ليس بمنتظم في جملة الشهوات مع أنَّه مِن أعظم المقبحات وأغلظِ المحرمات، ولو كان قولُ السَّيِّد صحيحاً، لرأيناهم يقطعونَ الصلواتِ، ويرتكبون المحرماتِ، فلما رأيناهم على العكس من ذلك، وَثقْنَا بصدقهم، ورجحنا قبولَ قولهم. الوجه السابع: أنا قد بيَّنا أن الصالحين منهم يخافون الموتَ على الكفر، ويخافون من شؤم المعاصي المغفورة في الآخرة أن تكون سبباً في الدنيا للذنب الذي لا يُغْفَرُ، وهو ذنبُ الكفر كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] وسيأتي في أحاديث القدر عموماً، والقدر عند الخاتمة خصوصاً ما يُوجبُ خوفَ المؤمن لذلك، وفي " الصحيح " (¬1) أن رسول ¬
الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قلْبِي عَلَى دِينِكَ "، فقالوا: أو تخافُ علينا يا رسول الله؟ فذكر التخويف من ذلك. وفي كتاب الله تعالى من ذلك: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وهي بمعنى أحاديثِ القَدَرِ عندَ الخاتمة، فَهُمْ مِن خوف سوء الخاتمة في قلقٍ عظيم، وإشفاق شديد، وشُغْلٍ شاغل عن الكذب على رسول الله قد كادت قلوبهم تقَطَّعُ مِن خوف العذاب {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 28] فهم أبداً يجتهدون في التقرب إلى الله رجاءَ ما وعد به المطيعين من الزيادة في الهُدى والألطاف المقربة إلى طاعته (¬1) السابقة إلى خاتِمة الخير، والموت على الإسلام مع الرغبةِ العظيمة في نيلِ المراتب الشريفة في دار الكرامة. ¬
الوجه الثامن: أن الملائكة والأنبياء قد أمنوا من الموت على الكفر
الوجه الثامن: أن الملائكةَ والأنبياء قد أَمِنُوا مِن الموت على الكفر الدي تخافه المرجئةُ، وهم مع ذلك أخوفُ الخلق لله فدل ذلك على أنَّ الخوفَ ليس موقوفاً على ظنِّ الخائف أن الله يعذِّبُه في الآخرة، ولا على تجويزه لذلك، وقد قال تعالى في الملائكة عليهم السلام: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} [النحل: 50]، وقال: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون} [الأنبياء: 28]. الوجه التاسع: أن نقولَ: الدواعي إلى الصِّدق في الحديث خاصة أكثر، والصوارفُ عن الكذب فيه أكبر، فقد رأينا الفُسَّاقَ المصرحين يمضي عُمُر أحدِهم ولم يكذب فيه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وتقديرُ وجود الداعي الغالب لوازع الشرع الماحي لآثار الحياءِ من الله تعالى نادرُ الوقوع في الزمان، نادرُ الوقوع في الأشخاص، والنادرُ غيرُ معتبر بدليل أنَّه مرجوح، والصدق راجح، وتقديمُ الراجح على المرجوح، والمساواة بينهما على خلاف المعقول، ولا موجبَ لترك دليل المعقول من المنقول. الوجه العاشر: لو كان اعتقادُهم أن الله يغفرُ حاملاً على المعصية قطعاَّ، لوجب أن يكون اعتقادُ أنَّ الله يُعَذِّبُ مَنْ لم يتب موجباً لتركِ المعاصي قطعاً كافياً في العدالة، فيكون مَنِ اعتقد أن الله لا يغفِرُ إلا بالتوبة، فهو عدلٌ لا يحتاج إلى تعديل ولا خِبرة، ومنِ اعتقد أن الله يغفِرُ من دون توبة، فهو مجروح من غير جارح ولا خِبرة، بل بمجرَّدِ اعتقادهما يثبت لذلك العدالة ولهذا الجرح، فكما أنَّ ذلك لا يصِحُّ التعديل به في الوعيدي، فكذلك لا يَصحُّ الجرحُ به في المرجىء، فكما أنا نَجِدُ في الوعيدية عاصياً، فكذلك نَجِدُ في المرجئة مطيعاً، بل الوعيدي العاصي هو الذي وجود الذنب منه أقبح وإصرارُه عليه للجرح أصلحُ ولذلك قيل:
وأعْظَمُ مِنْ أخِي الإرْجَاءِ ذَنباً ... وعيدِي أصَرَّ عَلَى الكبَائِرْ هذا بالنظر إلى شدة جرأته، وعدمِ التفاته إلى عقيدته، وإلا فهو أصلحُ اعتقاداً وأقومُ مذهباً، وتحقيقُ هذا أن وجود الداعي من الفريقين لا يكفي في الفعلِ إلا مع عدم الصارِف الراجح، وكذلك العكسُ، هذا هو العلةُ في وجود الطاعة والمعصية مِنَ المرجىء والوعيدي مَعَ القولِ بالاختيار والإجبار، فإِن الفريقين متَفقون على وجودِ الفعل عند رُجحان الدواعي، وإنما اختلفوا في كونِ ذلك الوجود على جهةِ الاختيار والاستمرار، أم على جهة الاضطرار والإجبار، فإذا كان كذلك، فَمِنْ أينَ غَلَب على الظن أن رغبتهم في الشهوات العاجلة أعظمُ مِن رغبتهم في الدرجات الرفيعة عند الله ولا سيما في الصدق الذي لا مَشَقَّةَ فيه. فإن قلتَ: وما الدواعي التي يمْكِنُ أن تدعو المرجئة إلى فعل الطاعة، وترك المعصية. قلت: أمورٌ كثيرة. أولها: أنهم يعتقِدُونَ أن الواجباتِ مما يُحِبُّه اللهُ، ويأمر به، ويستحق العقابَ بتركه (¬1) والثوابَ بفعله، والمحرماتُ مما يكرهه اللهُ، وينهي عنه، ويستحق العقابَ بفعله. وثانيها: أنَّه يجوزُ أنهم يجوزون العقابَ في الدنيا على المعاصي بالأمراض، وضيق الأرزاق، وسائر البلاوي. وثالثها: ما ذكرناه مِن خوفهم أن تكونَ المعاصي سبباً للوقوع في ¬
الوجه الحادي عشر: أن الإرجاء ليس بكفر ولا فسق
ذنب الكفر الذي لا يُغفر. ورابعُها: المنافسة في عُلُوِّ المراتب الحاملة للوعيدي على النوافل. وخامسها: إجلالُ الله تعالى وتعظيمه والحياء منه، وقد ذكرنا بعضَ هذه الوجوه، وإنما أعدناها زيادةً في البيان. الوجه الحادي عشر: أن الإرجاء ليس بكفرٍ ولا فسقٍ عند أهل المذهب، نص عليه القاضي شرف الدين في " تذكرته " والحاكم في " شرح العيون "، وذكر معنى ذلك القاضي العلامة عبدُ الله بن حسن الدواري في تعليقه على " الخلاصة " وغيرهم، كما سيأتي، وقد ثبت أن المبتدع بما لا يتضمن كفراً ولا فسقاً مقبولُ الشهادة، نصَّ عليه في " اللمع " وأشار إلى الاتفاق عليه، وسيأتي الدليلُ على ما ذكره القاضي شرف الدين في " التذكرة " من عدم تكفيرهم وتفسيقهم في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى، وقال الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى " في الكلام في التكفير في المسألة السابعة من ذلك ما لفظه: لم يكفر شيوخُنا المرجئةَ، لأنهم يُوافقونهم في جميع قواعد الإِسلام، لكنهم قالوا: عنى الله بآياتِ الوعيد الكفرة دونَ بعض الفسقة أو (¬1) التخويف دونَ التحقيق، وأنه ليس بكفر. انتهي وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته (¬2) عند أئمة الرواية: أن الملائِكَة عليهم السلامُ اختصَمُوا في الذي قَتَلَ تسعةً وتسعينَ، ثم سأل عابداً: هَلْ لَة تَوْبَةٌ؟ فقال له: لا توبةَ له، فقتله، ثم سأل عالماً فأمره بالتوبة والهِجرة عن أرضه، فأدركه الموت في طريقه إلى الهجرة. ¬
قال السيد: وأما المجبرة فعندهم
الحديثَ، وفيه: أنَّه وقع بينَ ملائكة الرحمة والعذاب نحوُ ما وقع بينَ الوعيدية وأهل الرجاء وهو يدل على نجاة الفريقين، إن شاء الله تعالى. فهذه أحدَ عشرَ وجهاً تختص المرجئة (¬1)، وتحقيق الدلالة على قبولهم يأتي في الفصل الثاني -إِن شاء الله تعالى- عند الكلام على قبولِ المتأوِّلين. قال: وأما المجبرة، فعندهم أن الله تعالى يجوز أن يُعَاقِبَ المطيعَ، وأن يُثيبَ العاصي، فلا فائدةَ في الطاعة، وأيضاً فعندهم أن أفعالَهم مِن الله تعالى، فالإِثابة عليها، والعقابُ لا معنى له، فإن قالوا: هذا من جهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يَدْخُلُ المطيعُ الجنة، والعاصي النارَ إِلا منْ قال منهم بالإرجاء. قلنا: إنَّه إنما وَعَدَ ذلك مقروناً بمشيئته لقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] وهم لا يعلمونَ من الَّذِين يشاءُ اللهُ أن يغفِرَ لهم. أقول: الجواب على هذا من وجوه: الوجه الأول: أن السيدَ منازع في كون هذا مذهبهم، لأنَّه نسب إليهم أنهم يعتقِدُون ذلك، والمعلومُ من مذهبهم ضرورة أنهم لا يعتقدونه، ولم يقُلْ أحدٌ من جميع النّقَلَةِ لمذهبهم أنَّ ذلك مذهبهم، وإنما ألزمهم ذلك أهلُ الكلام مجردَ الزام، واختلف العلماءُ في التكفير بالإلزام مع الإجماع منهم أنَّه لا يجوزُ أن يُقال: إن الخصمَ يعتقِدُه، لأن الجميعَ يعتقدون قبحَ الكذبِ وهذا كذب، فإِن كان السيدُ قال هذا كراهيةً للجبرية، فما أصاب السنة (¬2) ولا عَمِلَ بمقتضى الشريعة، قال الله تعالى: ¬
الوجه الثاني: أن هذا الاستدلال منه بالمغالطة
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وإن كان السَّيِّد يجد ما يشَنِّعُ بِهِ عليهم مِن سائر مَذاهِبِهم القبيحةِ التي صرَّحُوا بها واعتقدوها، وله في التشنيع بها غُنية وكفاية عن هذا الذي يستفيد المتكلم به أن يسقطَ عن العيون، وأن تَسُوء به الظُّنون، وإن كان قال ذلك متوهماً أنَّه يمضي على خصمه ولا يعرِفُه، فأدنى العوام تعرف أن ليس في أهلِ الشهادتين مَنْ يعتقِدُ أنَّ الله يُعاقِبُ على الطاعة، ويُثيبُ على المعصية، بل ليس في مِلَلِ الشرك وعُبَّادِ الأوثان مَنْ يعتقد ذلك. الوجه الثاني: أن هذا الاستدلالَ منه أَيّده الله هو المعروفُ في علم المنطق بالمغالطة، قالوا: والمورد لها، إن قَابَلَ بها الحكيم، فهو سوفسطائي، وإن قابل بها الجدلي، فهو مُشاغبي، فهب أني رضيت لنفسي التبرؤ مِن مرتبة الحكمة البُرهانية، ونزهتُك عن المذاهب السُّوفسطائية، فما ينبغي منك أن ترضى لنَفْسِكَ بمرتبة المشاغِبِ، فأنت مِن أولاد العِترة الأطايبِ. وإنما قلتُ: إن ذلك من قياسات المغالطة، لأن المغالطة قياسٌ متركبٌ من مقدمات شبيهة بالحق تفسدُ صورتَه بأن لا يكون على هيئةٍ منتجةٍ لاختلال شرطٍ مُعْتَبرٍ، وهذا حاصلٌ في استدلالِ السيد، وبيانُه من وجهين: أحدُهما: قوله عندهم: أن الله يجوز أن يُعاقِبَ المطيع، ويُثيب العاصي، فهذه مقدمة باطلة تشبه الحقَّ، والحق أنَّهم لا يقولون بذلك، ولكنه يلزمُهُمُ القولُ به لو جرَوْا على قواعد مذهبهم، فإِما أن يعترِفَ السيد بهذا، فهو الظَنُّ بعلمه وعقله، أو يُصِرَّ على اللجاجة في الخصومة، ويُصمِّمَ على اللَّدَدِ في المماراة، فهاهم أولاءِ في تِهامة فليكتُبْ إليهم
كتاباً، أو يرسل إليهم، ويسألهم عن اعتقادهم، فإِن أخبرونا بالذي قال السيد، صح أني مُتَعَدٍّ عليه في كلامي، وإن أخبروا (¬1) بمثلِ ما قلتُ عنهم وصَحَّ أنَّه متعد في احتجاجه علي، فإِن قال السيد: إن الذي قاله مذهبُهم في الباطن، فعليه أن يدل بدليل قاطعٍ على أمرين: أحدهما: أنَّه يعلم ما في الضمائر. والثاني: أنَّه معصوم لا يجوزُ عليه الكذبُ، وحينئذ يجب علينا أن نُؤمِنَ بكلامه من غير منازعة، ونَرْجعَ إلى قوله من غير مراجعة، ومن أحبَّ أن يَعْرفَ صدقَ كلامي من غير سؤال لهم، فلينظر إلى كتُبِهِم الكلامية والأصولية وشروح الحديث وغيرها، وُيطالع " مناهج العابدين إلى الجنة " للغزالي، وكتاب " إحياء علوم الدين "، وكتاب رياض الصالحين " للنواوي وشرح مسلم له، وكتاب " الأذكار " له، وينظر: هل قالُوا: من أطاع الله تعالى، دخل النارَ وغَضِبَ عليه الجبار؟ ومن عصاه أدخله الجنان، ووجب له منه الرضوان؟ فالسيد أيَّده الله صادق، أو قالوا: بالعكس من ذلك، فمحمد بن إبراهيم صادق، وليُطَالِعْ مَنْ أحب معرفةَ مذهبهم في ذلك " شرح مسلم " للنواوي وينظر إلى قوله فيه: باب أن من مات مؤمناً دخل الجنة قطعاً (¬2)، ولينظر إلى كلام الغزالي في كتاب "المنقذ من ¬
الضلال والمفصح بالأحوال " وما الَّذي حمله على ترك الرئاسة، والهرب من الدنيا الواسعة، والجاهِ العريض الطويل مع ملوك الشام والعراقين هل الرغبةُ في ثوابِ الله، والطمعُ في الفوز برضوانه ومغفرته، أو اعتقاده أن الله يُعاقِبُه على الزُّهْدِ أعظمَ العقوبة، وأن الذي كان عليه في الدنيا أكرمَ مثوبة، وليُطَالِعْ تراجمَ الأبواب في كتاب " الأذكار " هل قال فيها: باب عقاب مَن قرأ القرآن وذكر الله، وباب ثواب من اغتاب المسلمين وظلمهم. فالسيدُ صادق أو العكس من ذلك، فخصمه صادق. وقد قال ابن الحاجب في الكلام في الاحتجاج على أنَّ المصيبَ في العقليات واحدٌ، وأن نافي ملة الإِسلام آثِم كافر، اجتهد أو لم يجتهد. قال ما لفظه: لنا إجماعُ المسلمين على أنَّهم من أهل النار، ولو كانوا غيرَ آثمين لما ساغ ذلك، تَمَّ بلفظه (¬1). وليطالعْ كتبَ رجالهم، وتاريخ عبادهم وعلمائهم، وينظر في صبرهم على القيام، والصيام، والتلاوة، والزهادة، والصدقة بالمال المحبوب، والصبرِ على مفارقة الشهوات المحرمة، هل فعلُوا ذلك تعرضاً (¬2) لعقابِ اللهِ الذي يعتقدون أنَّه يَحْصُلُ بسببه، أو طمعاً في ثوابه جَلَّ ¬
جلالُه الذىِ وعد به، ومن نازع في هذا، فقد نازع في أجلى من النهار، وقَرَّرَ كلامَه على شفا جُرُفٍ هَارٍ، وفي أمثال العرب مَنِ ادَّعى البَاطِلَ أنجح به (¬1). ومن أمارات العاقل إن لا يَدَّعِيَ ما لا يُمْكِنُ، ولا يقولَ ما لا يُصَدَّقُ. ثم نقول للسيد: إما أن تَدَّعِيَ أنهم لا يُصلون، ولا يصومون، ولا يحجُّون، ولا يفعلون شيئاً من الطاعات، لم تستحقَّ المكالمة، أو تُقِرَّ بأنَّهم يفعلون ذلك، فَأَخْبِرْنَا: هل يفعلون ذلك لِيعذِّبهم الله في الآخرة، أو ليثيبهم؟ فإن قلت: لِيعذِّبهم في الآخرة، لم تُخاطَبْ أيضاًً، لأن الفعل لا يُوجَدُ من غير داع، فكيف يفعل لأجل الصارف عنه، وإن قال: لِيُثيبهم، فقد أبطل قولَه، وأكذبَ روايتَه، فلو كان مذهبُهم أنَّ الله يُعذِّبُ على الطاعة ما فعلوها ليِثيبهم عليها، وما كنتُ أحسب أن السيدَ أيدَهُ الله يُحوج إلى مثل هذا الكلام. وثانيهما: أعني الوجهين الدَّالين على أن السيدَ سلك سبيلَ المغالطة في هذه الدِّلالة التي ادَّعاها قولُه: فلا فائدة في الطاعة، وذلك أن هذا الكلامَ من جملة مقدماتِ السَّيِّد الْمُنْتِجَةِ لعدم قبولهم، وليس هو النتيجةَ الحاصلَةَ مِن الدليل، بل هذا الكلامُ أحدُ أركان الدليل، ولا شكَّ أنَّه مغالطة أيضاًً، لأنَّه إمَّا أن يدعيَ أن مذهبَهم: أنَّه لا فائدةَ في الطاعة أم لا، إن لم يَدَّعِ ذلك، لم يدل على مقصوده من أنَّهم كذبة، لأنَّهم متى اعتقدوا أن الطاعةَ مفيدة، صدقوا في الحديثِ رغبةً في فائدة الطاعة، وخوفاً من عقاب المعصية، وإن كان يلزمهم أنَّه لا فائدةَ فيها، فإنَّهم لا يكذبون لأجل ¬
الوجه الثالث: أنهم لو ذهبوا
أن ذلك يلزمهم بالاتفاق، وإنما تَصِحُّ تهمتُهم بالكذب لأجل أن ذلك مذهبُهم، فإن قال السيد: إن ذلك مذهبُهم، لم يتِمَّ له ذلك لإِمور: أحدها: أنَّه معلومٌ ضرورة أنهم لا يذهبون إلى أنَّه لا فائدة في الطاعة. الثاني: ما قدمنا في الوجه الأوَّل مِن سؤالهم، والنظر في كتبهم، فنجد ذلك على خلاف ما ذكره السيد، فنعلم أن تلك الدعوى عليهم باطلة. الثالث: أنا قد علمنا بالضرورة أنَّهم يفعلون كثيراً من الطاعات الشاقة، ومذهبُ المعتزلة والأشعرية وسائر العقلاء أن من اعتقد في فعل أنه لا فائدَة فيه ولم يكن له شهوةٌ لم يفعله ألبتة، وإنما اختلف الناسُ: هل يكون تركُهُ واجباً ضرورة، أو مستمراً غير واجب؟ فالمعتزلة ذهبت إلى أنَّه مستمر، والأشعرية ذهبت إلى استحالة فعله. فحين قال السيد: إنَّهم يدهبون إلى أنه لا فائدةَ في الطاعة لا تخلو من أحد وجهين، إما أن يجمع إلى ذلك دعوى أنه لا يَصْدُرُ منهم طاعة ألبتة، وأنهم يقطعون الصلواتِ، وُيفطرون رمضان، ولا يُوجد فيهم مَنْ يصومُ، ولا يُصلي، ولا يَحُجُّ، ولا يتلو القرآنَ، فهذه سَفْسَطَةٌ محققة، وإما أن تقول: إنهم يفعلون هذه الأشياء بغيرِ داع ألبتة، فهذا خلافٌ منه لجميع العقلاءِ، ويلزمه أيضاًً أن يجوز على الله أن يفعل القبائحَ لا لداعٍ ولا لحاجةٍ، بل لأنَّه قادر على ذلك لا غير، كما يعرف أنَّ ذلك لازم من القول عند أهل المعرفة بالكلام. الوجه الثالث: أنهم لو ذهبوا إلى أنَّه يجوز على الله أن يُعَذِّبَ رسول الله وسائرَ الأنبياء والملائكة، لكان كُفْرُهُمْ معلوماً بالضرورة من
الدين، ولو كان كذلك، لكان المنكرُ له، أو الشاكُّ فيه كافراً بالضرورة من الدين، وكان يلزمه -أيَّده الله- أن يكونَ السَّيِّدُ الإِمام المؤيَّد بالله كافراً بالضرورة، ويلزمه أن يكونَ كفرُه عليه السلام -وَصَانَهُ الله عن ذلك- مثلَ كفرِ عبدة الأوثان والصُّلبان والنيران، وكذلك سائرُ مَنْ شَكَّ في كفرهم من العِترة والعلماء، وكيف يظن السيد أن المؤيَّدَ بالله شكَّ في كفر مَنْ جَوَّزَ أن يكون أبو جهل صاحبَ الشفاعة يومَ القيامة، وجوز أنَّ سيِّدَ الأولين والآخِرِين في أسفل درجات جهنم، وكيف تجاسر السيدُ [أن] يَنْسُبَ إلى الرازي، والغزالي، والنواوي وأمثالهم أنهم يُجوِّزون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يكونُ كالِحَ الوجه يومَ القيامة بِلَفَحَات الجحيم، ومُشَوَّه الخلق في دركات النار بالعذاب الأليم، أما بقي في السَّيِّد ملتفتٌ إلى الحياء بمرة، أليس يعلمُ تعظيمَهم للشعائِرِ النبوية، وحنينَهم إلى التربة المحمدية، كم باكٍ منهم شوقاً إليه، ومحبةً له، وتولهاً به، راجياً لشفاعته، وأنتَ مترفِّهٌ في بيتك ومسجدك تزعم أنَّه يجوز عندهم أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن المعذبين يومَ الدين، والمطرودين عن رحمة رب العالمين، لا والله، بل هو عندهم سيدُ المرسلين، وخيرُ خلق الله أجمعين، وشفيعُ المذنبين، فعُدْ عن الخبطِ والتخليط، وخلطِ أهل مِلَّة الإسلامِ بالمصرحين من الملاحدة الطَّغَام، وذُمَّهم إن شئتَ بمالهم مِن الضلالاتِ التي ارتكبوها، والجهالاتِ التي قالوها، ولا حَرَجَ عليك، ولا اعتراض لك. قولُه: وأيضاًً فعندهم أن أفعالهم من الله تعالى، فالإثابةُ عليها والعقابُ لا معنى له من تلك الطريقة الغِلاطية، لم يخرج منها، بل استمرَّ على التمسك بعُروتها، وأَصَرَّ على إيهام حَقِّيَّتها (¬1) وقد ترك الاستنتاجَ من ¬
هذا البرهان الغِلاطي، لأن النتيجةَ معلومة متى صَحَّت هذه المقدماتُ الموهومة، وكلامُهُ هذا يشتمِلُ على حقٍّ وباطلٍ فلم ينتج الحق، وذلك أن قولَه: إن أفعالَهم مِن اللهِ تعالى صحيحٌ، وكلامٌ صادق، لكنه لما لم ينتج له المقصود، ضمَّ إليه الباطلَ طمعاً في أنَّه ينتج له وهو قوله: فالإِثابة عليها والعقاب لا معنى له. فإنَّ هذه الزيادةَ باطلةٌ، لأنَّه إما أن يدعي أنها مذهبهم فإن ذلك لا يتم لوجوه: أحدها: أنَّ كتبهم تُكَذِّب هذه الدعوى. وثانيها: أنَّهم أنفُسَهم يُكذبونها، فهم موجودون لم يُعْدَمُوا، ومقاربون للبلاد لم يَبْعُدُوا. وثالثها: أن أفعالَهم تكذب هذه الدعوى على ما قررنا في الجواب على دليلِه الأول، لأن العاقلَ وغير العاقل لا يفعلُ الفعلَ إلا لِداعٍ، ومن المعلوم أنَّهم يفعلون الطاعَةَ، وأنه لا داعيَ لهم إلى فعلها إلا اعتقادُ أنَّ اللهَ تعالى يثيب عليها، وُيعاقِب على تركها. ورابعها: أنَّه يلزمُ مِن نسبة هذا إليهم تكفيرُ مَنْ لم يُكفرهم من الأئمهَ عليهم السلامُ وسائر علماء الإسلام. وخامسها: أنَّ بُطلانَ هذه الدعوى عليهم معلوم بالضرورة لِكل من له أدنى تمييزٍ، فلا نُطَوِّلُ في الجليات. فإن قلتَ: ما مثالُ قياس السَّيِّدِ هذا في الأقيسة الغِلاطية المنطقية؟ قلث: مثالهُ أن يكون الوسط المتكررُ مشتملاً على حقٍّ وباطل يجعلُهُما محمولاً واحداً لموضوع المقدمة الكبرى، كقولك: الإِنسان ضاحِكٌ وصاهل، وكل صاهِل فرس، لينتج أن الإِنسان فرس، ووجه الغِلاط
أنَّك إنما أتيتَ بالحق الذي هو ضاحك لِيصاحب الصاهل، فيقبل الأبلهُ الصاهِل الذي هو باطل لمصاحبة الضاحك الذي هو حق، ولو أنَّه قال: الإنسانُ صاهل كان ذلك لعله مما لا يخفى على الأبله. فإن قلتَ: وكيف مشابهةُ كلام السَّيِّد لِهذا. قلت: هو مثلُه حذو النعل بالنعل، لكنه أورده غير مركب تركيبَ البرهان، فإذا ركبتَه انكشف كذلك، فإنَّهُ يجيء في التركيب: كُلُّ جبري، فإنه يقولُ: أفعالُهُ مِن الله، ولا معنى للثواب والعقاب عليها، وكُلُّ من قال ذلك، فهو مجروح غيرُ مقبول في الرواية. فقوله: فهو يقول: أفعالُهُ من الله صادق مثل قولنا: كل إنسان ضاحك، لكنه غيرُ منتج لمقصوده، فضم إليه أن الجبري يقولُ: لا معنى للثواب والعقابِ، لينتج له مقصودُه كما ضم المغالِطُ الصاهل إلى الضاحك لينتج له مقصوده، وصاحب بينَ الحق والباطل، ليخفي الباطل في جنب الحقِّ كما صاحب ذلك بينَ الضاحك والصاهل، ولو أنَّ السَّيِّد قال: إن الجبرية يذهبون إلى أن الله لا يُثيب ولا يُعاقب من غير قوله: إنهم يقولون: أفعالُهُم من الله، لكان ذلك أقربَ إلى أن لا يلتبس بطلانهُ على الأبله عند سماعه. وفي قوله: فالإثابةُ والعقابُ عليها لا معنى له. مغالطةٌ لطيفة قَلَّ منْ يتنَبَّهُ لها، وذلك أنَّه أراد أن ينسب إليهم أن (¬1) الله لا يُثيب ولا يُعاقِبُ، فاستكبرها، لأنها تستلزِمُ أن يَنْسِبَ إليهم القولَ بأنه لا جَنَّةَ ولا نار، وأنه لا دَارَ بعدَ هذه الدار، لا للأبرارِ، ولا للفجار، فعَدَلَ عن هذا لبشاعته إلى ما يستلزم معناه، ولا يستغلطه السامعُ في عبارته، ومثل هذا الغِلاط ينكشِفُ بأدنى تأمل، ولا يخفي على مَنْ له أنس بعلوم النظر. ¬
فإن قلت: فما مثالُ قياس السَّيِّدِ الأول في الأقيسة الغِلاطية المركبة بالتراكيب المنطقية، أهو مثلُ هذا القياس الذي فرغنا منه أم هو نوع آخر؟ قلتُ: بل هو نوع آخر، وذلك أن وجهَ المغالطة في هذا الذي فرغنا منه مصاحبةُ الحق والباطل، وتقاربها في اللفظ الطارق لسمع الأبْلَهِ الغافل، وأما ذاك، فهو مِن قبيل الباطل المشابه للحق في بعض الأمور غير المصاحب للحق، وذلك أنَّه نَسَبَ إلى الجبرية أنَّهم يعتَقِدُون أنَّه يجوزُ على الله تعالى العقابُ على الحسن، والثوابُ على القبيح، ونسبة هذا إلى اعتقادهم باطلة محضة لم تُصاحب شيئاً من الحق، ولكن فيها شبه بعيدُ منه، وذلك أن هذا يلزمُهُم على بعض قواعدهم، ولما كان يلزمهم ذلك شبهة في نسبته إليهم، وذلك أنَّه يُوجب أن بينهم وبينَ هذا القول ملابسة، ومثال ذلك في الأقيسة الغِلاطية المنطقية قول القائل: كل زَرَافَةٍ فرس، وكل فَرَسٍ صاهل، لينتج أن كُلَّ زرافة صاهل، فالمقدمةُ الأولى هي قولُه: كل زرافة فرس باطل محض لم تَصْحبْ شيئاً من الحق، لكن بين الزرافة والفرس شَبَهٌ بعيدٌ يجري المغالط على الطمع في الاستنتاج مِن ذلك، وذلك الشبه هو أن رأسَ الزَّرافَةِ مثلُ رأسِ الفرس، فلما كانَ بينهما ملابسة ما كان قولُه: كلُّ زرافة فرس من الباطل الذي أَخذَ من الحق شبهاً ما، فَصَلُحَ إيرادُه في الأقيسة الغِلاطية. فهذا وأمثالُه كثيرُ الوقوع في الأقيسة والمناظرات، ونقَّادُ النظر يُمَيِّزُونَ الخالصَ من الزيف، والخبيث مِن الطيب. وقوله: فإن قالوا هذا من جِهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يدخل المطيعُ الجنةَ، والعاصي النار إلى آخره، إشارة منه إلى مذهبهم المعلوم، وتعرض لمحاولة إبطاله.
وقبل الجواب عليه نذكر مقدمة وهي أنه لا شك عند جميعِ الفرق من أهل الإنصاف، وأهل العنادِ أن الجبرية يذهبون إلى أن الله تعالى قد وَعَدَ المؤمنين المطيعين بجنته ورِضوانه، وتوعَّد على ارتكاب المعاصي والمحرمات بعذابه وبغضبه، وأن وعدَه ووعيدَه صادق لا خُلْفَ فيه، ولكنهم يعتقدون أنَّ ذلك مستند إلى الدليل السمعي دونَ العقلي، ولا شكَّ أيضاًً أن الدليلَ السمعي قد ورد بذلك، فثبت أنَّه لا خلافَ بينَنَا وبينَهم في أن الله صادقٌ في وعده ووعيده، وإنما اختلفنا في وجه الاستدلال على ذلك، فقلنا: ذلك ثابتٌ بدليل العقل القاضي بوجوبِ صدق السمع، وهم قالُوا: ذلك ثابت بدليل السمع الواجب صدقُه بدليل العقل، فالخُلْفُ في كلام الله، والتعذيبُ لأولياء الله ممنوع عندنا وعندهم، ومن قال: إن الشيء ممنوع بدليل السمع لم يلزمه أن يعتقِدَ جوازَ ذلك الشيء على الإطلاق، ألا ترى أن مذهبنَا أن نِكَاحَ الأُمهات والأخوات، وتركَ الصلوات وتركَ الزكوات جائز عقلاً، ولكنه حرام شرعاً وليس لأِحَدٍ أن يَنْسِبَ إلينا القولَ بجواز ذلك على الإطلاق، فكذلك الجبريةُ إذا قالوا: إن الله لا يُعذب المطيعينَ بدليلِ السمع لم يَحِلَّ أن يُقال: إن الله يجوز أن يعَذِّبَ المطيعين على الإِطلاق، وهذا واضح لا يخفي على المنصف. قال الغزالي في كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد ": وقد ذكر أن ثوابَ المطيعين تَفَضُّلٌ مِن الله تعالى، وليس بواجب حتى قال: إلا أن يقال: إنه يصير وعدُه كذباً وهو محال، ونحن نعتقد الوجوبَ بهذا المعنى، ولا ننكره. انتهى. ونصوصُهُم على مثل هذا واضحة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها. فإن قلتَ: إن بينَ الأمرينِ فرقاً، فإن نكاحَ الأمهاتِ والأخواتِ، ووجوبَ الصلوات والزكوات مما لا يُعْرَفُ بالعقل، وإنما يُعرف بالشرع،
وأما صدقُ الوعدِ والوعيد، فإنه مما لا يُعرف إلا بالعقل، وفرق بينَ ما لا يُعرف بالعقل وبينَ ما لا يُعرف إلا به. قلت: هل ترِيدُ أن بينَهما فرقاً (¬1) يُسوغ الكذب في أنا نَنْسُبُ إليهم القولَ بما لم يقولوه، فهذا ممنوع، أو تريدُ أن بينَهما فرقاً يُسوغ لهم أن يلزموه ذلك، فمسلم، ولا يضر تسليمُهُ، لأن كلامَه فيما يدل على صدقِ المتدين منهم، وفيما لا يدل على ذلك من اعتقادهم، وليس كلامُنا فيما يلزمهم مما لا تأثيرَ له في ظَنِّ صدقهم أو كذبهم. فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أن السيدَ لما نسب إليهم ما لم يقولوه، وعرف أن مذهبَهم المنعُ منه بالدليل السمعي، وأن ذلك لا يخفى، حاول أن يُبْطِلَ كونَ ذلك مذهبَهم فلا أدري كيف طَمِعَ في الاستدلال على بطلان ما ثبوتُه معلوم بالضرورة، وما هو إلا كما وَرَدَ في الحديث " حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي وَيُصِم " (¬2) وقد استدل السَّيِّدُ -أيَّده الله- على بُطلان كونِ ذلك مذهَبَهم بأنهم لا يعلمونَ مَن شاء اللهُ أن يَغْفِرَ له لِقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ ¬
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} [المائدة: 18] وهذا عجيبٌ كأنَّه لم ينزل من السماء إلا هذه الآية، والجواب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن هذه الآية مجملةٌ، وقد ورد بيانُها، وقد أجمع أهلُ مِلَّةِ الإِسلام على أنَّه إذا وَرَدَ المجملُ والمبيَّن أنَّه يُعمل على المبيّن، فإما أن يقولَ السيِّدُ: إنَّه لم يَرِدْ لهذه الآية بيانٌ في السمع، أو يقول: إن مذهبهم اعتقادُ المجمل، وطرح المبين، وكلاهما عِناد ومباهتة ما أظنُّه يرضاه لنفسه. الوجه الثاني: أن نقول: لو سلمنا أنَّه ليس في القرآن، ولا في السُّنَةِ بيانٌ لهذه الآية المجملة، ولا تخصيصٌ لما فيها مِن العموم، لما لزمهم ذلك لأنَّ لهم أن يقولوا: قد علم ضرورةً من الدين أنَّ الله يُدْخِل المطيعينَ الجنة، وقد علمت ضرورة من مذهب الجبرية أنَّه إذا ورد مجمل عام، وعُلِمَ من الدين بيانُه وتخصيصُه بالضرورة والتواتر أنهم يعتقدونَ ما دلّ عليه المبين الخاص المتواتر، فإن كان السَّيِّد شَكَّ في أن ذلك مذهبُهُم، فليسأل، فإنما شِفاء العِيِّ السُّؤَالُ. الوجه الثالث: لو سلمنا أنَّه لا دَلِيلَ يَدُلُّ على بيان هذه الآية من السمع، وأنه لا يدل عليها إلا دليلٌ العقل الذي لم تستند إليه الجبرية، لما لزم ذلك أيضاًً، لأنا نعلمُ بالضرورة والتواتر عنهم أنَّه (¬1) يعتقدون إثابةَ المطيعين، وعقوبةَ العاصين، واعتقادُهُم يكفينا في ظَنِّ صدقهم، سواء كان مستنداً إلى دليلٍ صحيح أو باطل. الوجه الرابع: أن قولَ السيد: إنهم لا يعلمون مَن يشاءُ الله أن يغفِرَ ¬
له مِن قبيل المغالطة أو الغلط، فإن كانت مغالطةً، فهي لطيفة تدل على حِذْقِ صاحبها، وإن كان غلطاً، فهو جلي يدل على بلادةِ مُورِدِه، وبيانُ ذلك أنا نقولُ: ما تريد بأنهم لا يعلمون ذلك؟ هل تُريدُ لا يعلمون مع أنَّهم يعتقدون أنهم لا يعلمون؟ فهذه مباهتة، وجحدٌ للضرورة، فإن المعلومَ أنهم يعتقدون أنهم يعلمون ذلك، وإن أردتَ أنَّهم لا يعلمونَ ذلك لاستنادهم إلى دليلِ السمع، وليس يَصِحُّ الاستدلالُ به في هذه المسألة مع اعترافِك أنَّهم معتقدون للحق، ومُدَّعُونَ للعلم به، فذلك صحيح، ولكنه لا يُفِيدُكَ تهمتُهم بالكذبِ والمنع مِن قبولهم في الرواية، ومِن العجائب مجاوزةُ السيد للحد في الغُلُوِّ أنه احتجَّ بهذا على أن الجبرية لا يتنزَّهونَ من الكذب وقد قال في البراهمة: إنهم يتحرَّزونَ من الكذب أشدَّ التحرز، ويتنزَّهونَ عنه أعظمَ التنزه مع أن البراهمةَ مصرِّحُون بتكذيب جميع كتب الله المنزلة، ويُفصِحُونَ بتضليل جميعِ الأنبياء والرسل الكرام، وينسبونهم إِلى الشعوذة والتحيُّل والسحر، وملاحظة العيش في الدنيا بالكذب على الله، وإفشاء الضَّلال، ويسخرون منهم سَخِرَ الله منهم، ولهم عذاب أليم، ولا يدينون بثبوت النارِ، ولا يخافون العقابَ على ذنب من الذنوب، فهؤلاء نص السيدُ في كتابه على أن صِدْقهُم مظنون، وعلى أنهم عن الكذب متنزهون، ومنع من مثل ذلك في حقِّ مَنْ آمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليومِ الآخر، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحَجَّ البيتَ الحرَام، وصامَ رمضَان، وظهرت منه المحافظةُ العظيمةُ على الطاعة فيما نعرِفُه من الحلال والحرام. هذا وإني أبرأُ إلى الله تعالى مِن اعتقاد الجبر والتشبيه ولستُ أُرِيدُ بكلامي هذا النُصرةَ لمذهبهم، وإنما أردتُ المنعَ من الكذب عليهم،
قال السيد: واحتج ابن الحاجب للقائلين بقوله - صلى الله عليه وسلم - " نحن نحكم بالظاهر "، وللرادين بقوله تعالى {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا}
والاحتجاج لمذهبي في (¬1) قبولِ روايتهم، وقد رَدَّ المؤيَّدُ بالله في " الزيادات " القولَ بتكفيرهم، وأخذ يحتجُّ لهم، ويُجيب عنهم فيما يتعلق بمذهبهم مما احتجَّ به أصحابنا على تكفيرهم، ولم يدل ذلك على ميله إلى اعتقادهم مع أنَّه قد طَوَّل في ذلك، ومن أحبَّ معرفة ذلك، فليُطالِعْهُ في آخر كتاب " الزيادات " ومثل هذا مما لا يخفى، ولكن لما كثر الرجمُ بالظنون، وقل التورعُ عن نهكِ الأعراض، ورمي الغافلين، أحببتُ أن أُصَرِّحَ بمذهبي إيضاحاً للمهتدين، وإرغاماً للحاسدين. قال: واحتجَّ ابنُ الحاجب للقائلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحنُ نَحْكُمُ بالظَّاهِر " (¬2) وللرادين بقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قال: والآية أولى لِوجوه ثلاثةٍ: أحدُها: تواترها، والخبرُ آحادي. والثاني: خصوصُها بالفاسق بخلاف الخبر. والثالث: عدمُ تخصيصها. والخبر مخصص بالفاسق والكافر (¬3) المصرحين. قال: وأما دعوى الإِجماع على قبولِ قتلةِ عثمان، فلا نُسلِّمُ الإِجماعَ، ولعلَّ بعضَهم لم يقبلْهم، أو لعلَّ القائلين مختلفون في عِلَّةِ قبولهم، فبعضُهم لأنه لا يرى فسقهم، وبعضهم لأنَّه يقبلُ فاسق التأويل، فلا يكون إجماعاً على أن فسق التأويل لا يَضرُّ الرواية، وأما الخارجون على علي عليه السلامُ. ومعاوية وأصحابه، فلا نُسلِّمُ الاتفاقَ ¬
أقول: قد اشتمل كلامه على ثلاثة أشياء
على قبول روايتهم، وإن سلم، فلا نسلم اتفاقهم على إن عِلَّةَ القبول واحدة، بل لَعَلَّ بعضَهم يجعل العِلَّةَ أنهم غير فساق عنده، وبعضُهم لا يجعل فسقَ التأويل قادحاً. أقول: قد اشتمل كلامُه على ثلاثة أشياء: أولها: أنَّه ذكر الحديث النبوي على صاحبه وآله الصلاةُ والسلام تنبيهاً على أنَّه حجةُ للمتأولين، وسوف يأتي في الفصل الثاني -إن شاء الله تعالى- ذكرُ مالهم من الحجج الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والنظر، فأما هذا الحديث، فهو حديث لا يُعلم لَه أصلٌ، ولكن لمعناه شواهدُ صحيحة. قال الحافظ ابنُ كثير البصروي رحمه الله: هذا الحديثُ كثيراً ما يَلْهَج به أهلُ الأصول، ولم أَقِفْ له على سند، وسألتُ عنه الحافظ أبا الحجاج المِزِّي فلم يعرفه، لكن له معنى في الصحيح وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أَقْضِي بِنَحْو مَا أَسْمَعُ " (¬1). وقال البخاري في كتاب الشهادات (¬2): قال عمر: إن أناساً كانوا يُؤخذُون بالوحي على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحي قد انقطعَ، وإنما نأخذكُم الآنَ بما ظهر لنا مِن أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أَمِنَّاه وقربناه، وليس لنا (¬3) من سريرته شيء يُحاسِبُه الله في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً، ¬
لم نأمنه، ولم نُصَدِّقْهُ، وإن قال: إن سريرتَه حسنة. ورواه أحمد في " مسنده " (¬1) مطولاً، وأبو داود (¬2) مختصراً وهو من رواية أبي فراس (¬3) عن عمر، قال أبو زرعة: لا أعرفه. وروي أنَّ العباسَ قال: يا رسولَ الله كنتُ مكرهاً يعني يومَ بدرٍ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما ظاهِرُك فكانَ علينا وأما سَرِيرَتُك فإلى اللهِ " (¬4) انتهى كلامه من كتاب " تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ". وأقولُ لا حجَّةَ في هذا الحديثِ على قبول المتأولين، سواء قلنا بصحته أو لا، وذلك أن الظاهرَ المذكور في الحديث هو ما بَدَا للإِنسان من الأحوال وسائر الأمور المعلومة دونَ البواطن الخفية، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمِّه العباس: " كَانَ ظَاهِرُك علينا " يُريد ما علمنا بما أضمرت، إنما عرفنا ما أظهرتَ وكون الراوي صادقاً أو كاذباً في نفس الأمر ليس مما يسَمَّى ظاهراً في اللغة العربية، والعرفِ المتقدم، وإنما هو اصطلاحُ الأصوليين، يُسَمُّون المظنونَ ظاهراً، ولم يثبت هذا في اللغة، ولا يجوز أن يُفسر كلامُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باصطلاح الأصوليين، ألا ترى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل صدقَ عمِّه العباس في دعواه للإكراه ظاهراً، وإن كان صدقُه بعدَ إسلامه مظنوناً راجحاً، بل الظاهر أن صدقَه قبل إسلامه كان مظنوناً راجحاً، لأنَّه كان من أهل السيادة والأنَفةِ من الكذب في الأخبار التي لا يُعلم صدقُها وكذبُها، ¬
ثانيها: ترجيح الآية على الحديث
لأنه ليس يُسمَّى في اللغة ظاهراً، فلا يكون في الحديث حجة. والله أعلم. وثانيها: ترجيحُ الآيةِ على الحديث، ولا معنى لذلك، لأنَّه لم يَصِحَّ الحديثُ في نفسه، ولا صح (¬1) الاستدلالُ به على تسليم ثبوته، والترجيحُ فرعٌ على الصحة، وأما احتجاجُه بالآية، فهو لا يصح لوجهين: أحدهما: أنَّها لا تفيد المنعَ مِن قبول المتأولين، وقد مر تقريرُه، وبيانُ ما يَرِدُ على الاحتجاج بها من الإشكالات. وثانيهما: أنا لو قدرنا صحةَ الاحتجاج بها بالنظر إلى عمومها، فإن الاستدلالَ به ممنوع، لوجود المخصص، والمعارِض الراجح، وبيانُهما يأتي في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى. وثالثها: القدح في صحة الإِجماع بوجهين (¬2): الوجه الأولُ: قال: لعل بعضَهم لم يقبل، يعني لعلَّ بعضَ الصحابة لم يقبل المتأولين فلم يحصل إجماعٌ. والجوابُ: أنَّه قد ثبت الإجماعُ برواية جماعةٍ من أئمة أهلِ البيت عليهم السلام وشيعتِهم، وكثيرٍ من العُلماء والثقات المطلعين على أخبار الصحابة، وأحوالِ السلف، وسيأتي بيان عشر طرق لهذا الإجماع، وموضعُ ذلك الفصل الثاني. وأما ردُّه لرواية الثقات من الأئمةِ والعلماء بقوله: لعلَّ بعضَ الصحابة ¬
الوجه الثاني: مما قدح به في صحة الإجماع قال: سلمنا الإجماع، والجواب عنه
لم يقبل المتأولين لمثل هذا الكلامِ، فلا يصدر عن محصل، فإنَّ هذا مجرد تَرَجٍّ (¬1) صَدَرَ مِن صاحبه بعد نقلِ أهلِ العدالة والأمانة والاطلاع على العلوم والتواريخ، وأقوال الخلَف والسَّلَفِ للإِجماع، وجزمهم على أنَّهم قد علموا انعقادَه وإخبارهم لنا أنهم أخبروا بذلك عن علم يقين، لا عن مجازفةٍ وتبخيتٍ (¬2). وحاصل هذا الاعتراضِ إن صاحبَه قال: لعل راوي الإجماعِ غيرُ صادق فيما رواه، ولا متحقق لما ادَّعاه، ولو كان مثلُ هذا يقدح في روايةِ الثقات، لبطلت الرواياتُ، فما مِن رواية تصدُرُ عن الثقة في الإجماع، أو في الحديث، أو في الشهادة إلا وهو يُمْكِنُ أن يُقَالَ لعل راويَها وَهِمَ فيها، وقالها بغيرِ علم يقين، وأصدرها إما بمجرد اعتقاد الصحة أو ظنها، أو نحو ذلك، مما لا يُلْتَفَتُ إليه من تطريق الشَّكّ إلى وهم الثقات بمجرد كونه يجوز على البشر، ولو كانت روايةُ العدول العلماء تُعارَضُ بمجردِ توخِّي كذبهم، وتمني صدور الدعوى منهم على سبيلِ التبخيت مِن غير تحقيق، لبطلت طرقُ النقل، وتعطلت فوائدُ الرواية. الوجه الثاني: مما قدح به في صحة الإِجماعِ قال: سلمنا الإجماعَ، فلا نُسَلِّمُ أنَّ علةَ القبول واحدة. هذا كلام ابن الحاجب وقد أعاد السَّيِّد هذا الاعتراضَ، ولم يَزِدْ على ما أورده ابنُ الحاجب إلا أنَّه وسَّعَ دائرةَ العبارة، ونقله إلى الكلام في الخارجين على علي عليه السلام. والجوابُ عنه: أن هذا الاعتراض ضعيف، لأنَّه لو كان حراماً -وقد ¬
أجمعوا على جوازه- لكانُوا قد أجمعوا على ضلالة، وسواء اتَّفقُوا في العلة، أو اختلفوا فيها، فالمتفق عليه هو القبول للمتأولين، والخلافُ إنما وقع في العِلة، كما لو أجمعوا على جوازِ قتل رجل، واختلفوا في العِلة، فمنهم من قال: يجوز قتلُه، لأنَّه مرتد، ومنهم من قال: لأنَّه مفسد في الأرض، ومنهم مَنْ قال: لأنه قتل نفساً بغير نفس، فإنهم متى أجمعوا على جواز قتله، كان قتلُه حلالاً، سواء كان بالقصاص، أو الفساد في الأرض، أو الردة، أو الحد مثل ما أجمعوا على أن المجتهدَ غيرُ آثمٍ، ثم اختلفوا في العِلة، فمنهم من قال: لأنَّه مصيب، ومنهم من قال: لأنَّه معفوٌّ عنه وإن كان مخطئاً مع أن القائلينَ بالتصويب لو أقرُّوا بالخطأ، لم يُساعدوا إلى القول بالعفو، لأنَّه عند المعتزلة إغراءٌ بالقبيح، ولأن مشروعية الخطأ قبيحةٌ عقلاً، والاجتهاد مشروعٌ سمعاً، فلم يكن اختلافُهم في العلة المؤدي إلى الاختلاف في بيانِ ما أجمعوا عليه قادحاً في صحة الاحتجاج بإجماعهم حين إجمعوا إجماعاً متفرّعاً عن تلك العلة المختلَفِ فيها. وبيانُ هذه العلة أنَّه لو ثبت في نفس الأمرِ أن قبولَ المتأول حرام، وأجمعوا على قبوله، ولكن اختلفوا في علة القبول، لكانوا قد أجمعوا على قبول الباطل، واختلفوا في علة قبوله، وهذا غيرُ جائز على الأمة. فإن قلتَ: من لم يعلم الفسق منهم، فهو معذور. قلت: معنى كونه معذوراً أنَّه لا عقابَ عليه وإن أخطأ في نفس الأمر، وهذا إنما يقال به في حقِّ المجتهد على تقدير عدم تصويبِ الجميع أيضاً، وأما الأمَّةُ، فليس يجوز أن تُخطىء في نفس الأمر. فإن قلت: لو علموا أنَّه فاسقُ تأويلٍ لم يُجمعوا. قلت: لو جاز انعقادُ الإِجماع على قاعدة مجهولة لو علموا بها لم
يجمعوا عليها، أمكن تقديرُ مثل ذلك في كل إجماع، ولم يصح إجماع أبداً. فإن قلتَ: مرادي بكونه معذوراً أنَّه بنى على ظاهر العدالة، ولم يتحقق ما يرفعُها، فهو مصيبٌ مستحقٌّ للثواب، لا مخطىء معفو عنه، وذلك كما لو قبلت الأمةُ مَنْ ظاهِرُهُ العدالةُ، وهو كاذب في نفس الأمر. قلتُ: الجوابُ من وجهين. الوجه الأول: الفرقُ بينَ الصورتين، فإنهما ليستا سواءً، لأن قبولهم لمن حارب عثمان، ومن حارب عليّاً عليه السلامُ بعدَ علمهم الجميع بأنَّه حارب وفسق، فمتى كانت روايتُهم مردودة، لم يجز على الأمة قبولُها بعدَ العلم بالموجب لردها لا ظاهراً ولا باطناً، وإلا لَزِمَ أن يجوزَ استنادُ الأمة إلى دليل باطل غير صحيح بعدَ العلم بالسبب الذي أوجب بطلانه، وهذا لا نعلم أحداً قال به ممن يقول: بأن الإجماعَ حُجَّةٌ مطلقاً، وإنما تكونُ الرواية عنهم مثل الرواية عمن ظاهرُه العدالة لو أمكن القولُ بأن جماعةً من الصحابة لم يعلموا بوقوعِ الفتن، ولا بدخولِ الداخلين فيها، فقبلوهم مع الجهل بذلك. الوجه الثاني: أن العلماءَ مختلفون في المسألة المقيسِ عليها وهي: هل يجوزُ قبولُ الأمة لخبرٍ ظاهرُه الصحة وهو في الباطن باطل؟ والمذهبُ أنَّ ذلك لا يجوز، ذكره الإِمامُ المنصورُ بالله في كتاب " الصفوة ". وقال الإمام يحيى بنُ حمزة في " المعيار": خبر الأمة يُفيدُ العلمَ يعني لو قدرنا أنهم نَقَصُوا عن عددِ التواترِ، أو أخبروا كلُّهم، وكان عددهم بالغاً حدَّ التواتر، ولكن في الوسط دونَ الطرف الذي قبلَه.
وإنما قلنا: إنَّه أراد ذلك، لأنَّه جعله قسماً غيرَ المتواتر، وهذا يُشبِهُ كلامَ المنصور بالله في مسألتنا، وهو قوي عند جماعة، لأنَّه يلزم من تجويز ذلك استنادُ الأمة إلى حُجَّةٍ باطلة في نفس الأمر، والأمة معصومةٌ من الخطأ في نفس الأمر، فلهذا كان الإجماعُ حجة، وأما لو لم تكن معصومة إلا من الخطأ في الظاهر، فذلك لا يُوجبُ أن إجماعها حجة، لأن ذلك حكم المجتهد عند المعتزلةِ والشيعةِ غالباً متى وَفَّى الاجتهادَ حَقَّهُ، فكما إنَّه لا يكون قولُ المجتهد حجةً لكونه مصيباً، فكذلك كان يلزم أن لا يكون إِجماعُ الأمة حجةً لكونهم مصيبين. فإن قلتَ: إنما يُقال: المجتهدُ مصيب لما أراد اللهُ منه. قلت: وكذلك يلزمُ أن يقال: إِن أهل العصر إذا أجمعوا فإنما أصابوا مرادَ الله منهم، فثبت أن الفرقَ بينَ إصابةِ الأمة وإصابة المجتهد أنَّ المجتهدَ مصيب لما أراد الله منه في الظاهر، ويجوزُ أن يتعلَّق مرادُ الله من غيره بغير ما أراد منه لانكشاف أمرٍ خَفِيَ عليه، وبان لغيره، فلخفائه عليه لم يتَعَبَّدْ به، ولبيانه لغيره تَعَبَّدَ به. وأما الأمةُ، فإنها معصومة باطناً وظاهراً قطعاً بحيث نَعلم أنَّه ليس لله مرادٌ في خلاف قولها، بل نعلمُ أن خلافَ قولها حرام، ونعلم أنَّه لم يخفَ عليهم دليل بحيث إنَّه إذا ظهر لغيرهم تعبّد ذلك الغير بالعمل به، وقد احتج العلماء على (¬1) صحةِ أحاديثَ بتلقي الأُمَّةِ لها بالقبول (¬2) بناءً منهم على ما ذكرت مِنْ عِصمة الأُمَّة عن تلقي الباطل في ¬
نفس الأمر بالقبول والاعتقاد لصحته، وكذلك تمسَّكَ أصحابُنا به في بعض الأحاديث الدالةِ على صحة إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلامُ بتلقي ¬
الأمَة لها بالقبول. فإِن قلتَ: فقد جاز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَحْكُمَ في ما بين الناس، وإن كان خطأ في الباطن، ألا ترى إلى قولِه عليه السلامُ: " لعَلَّ بَعْضَكُم أنْ يَكونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بعْضٍ، فَإذا حَكَمْت لأِحَدِكم بِمَالِ أخِيه فَإنَّما أَقْطَع لهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " (¬1) فإذا جاز ذلك على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأولى وأحرى أن يجوزَ على الأمة. قلت: الجوابُ من وجهين. الأول: معارضة وهي أن نقولَ: يلزم على هذا تجويزُ الخطأ في التحليلِ والتحريمِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ممنوع بالإجماعِ، سواء قلنا: إنَّه متعبّد بالاجتهاد أو لا. الثاني: تحقيقٌ، وهو أن نقول: فرق بينَ الصورتين، فإن الدعاوي في الحقوق لا تزالُ مستمرةً في زمانه عليه السلامُ وبعدَه، وقد عَلِمَ الله تعالى أن الوحي غيرُ مستمر بعدَه عليه السلامُ، ولم يكن لنا مصلحة في بناء الحكم بينَ الناسِ على العلم واليقين، فشرع تعالى الرجوعَ فيها إلى الظواهر من الشهادات والبيناتِ، وجعل الحكمَ فيها مستوياً في زمانه عليه السلامُ وفيما بعده من الأزمان؛ إذ يمتنِعُ نزولُ الوحي كلما ادَّعى مدعٍ بعدَه عليه السلامُ، ولم تعلق بذلك المصلحة في زمانه عليه السلامُ، وكذلك سائرُ الأمور المتكررة لم يشرع فيها العملُ باليقين، والرجوع إلى نصوص الشريعة كرؤية الهلال في شهر رمضان، وأشهرِ الحج، ودخول أوقات الصلوات، فإن ذلك لما كان مستمرّاً جعل عليه أماراتٍ ظنية، وجعل ¬
تكليفَه عليه السلامُ في ذلك كتكليف أُمته من غيرِ فرق. وأما الشرائعُ التي تثبُتُ بالوحي، وتقرَّرَتْ قواعدُها، فلا تكونُ إلا بالوحي في حقِّه عليه السلام، وباتباع الأدلةِ الصحيحة التي لا باطلَ فيها، ولا في قواعدها باطناً ولا ظاهراً في حقِّ أمته المعصومة، والله عز وجل أعلَمُ. وتلخيص المسألة: هل يجوزُ على المعصوم أن يخطىء ظنُّهُ؟ قال ابن الصلاح: لا يجوزُ، وسبقه إلى ذلك محمدُ بنُ طاهر المقدسي، وأبو نصر عبدُ الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف. قال النواوي: وخالف ابنَ الصلاحَ المحققون والأكثرون، فقالوا: يُفِيدُ الظن ما لم يتواتر. قلت: مِن أدلة الجمهور {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} [الأنبياء: 79] وحديثُ " إِنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعةً مِنْ نَارٍ "، وحديثُ " حكم داود بينَ المرأتين في الولد الذي تنازعاه، فإنه حَكَمَ به للكُبرى، ثم تحاكما إلى سُليمان، فحكم بقطعه نصفين بينهما، فقالت الصُّغرى: لا، فحكم به لها " (¬1). ويُمْكنُ الجوابُ عن هذا كله أن الحديثَ وارد في القضاء بينَ الناس، والآية محتملة لذلك غيرُ ظاهرة في خلافه، وقد بينا الفرقَ بينَ القضاء وغيره، ولو جاز تخطئةُ المعصومِ في كل ظنٍّ، لزم أن لا يكون ¬
الإجماعُ حجةً في المسائل الظنية، وهو إلزامُ حسن فتأمَّلْهُ، ويمكن التزامه، لأن الأمة إنما عُصِمتْ عن الضلالة وهي منتفية على قول المصوِّبَةِ عُرفاً ولغة، وعلى قولِ المخطئة عرفاً، والعرف مُقدَّمٌ على اللغة إذا اختلفا. وأما ما تقدم مِن الفرق بينَ القضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بين الناس وبينَ التحليل والتحريم، فالجوابُ عنه أنَّه مما لا يمنع مِن تجويز الخطأ في ظَنِّ المعصوم، بل هو مما يَدُلُّ على جوازه، لأنَّه عليه السلام إنما لم يجز أن يُخطِىءَ في التبليغ، لأنَّه لم يستند فيه إلى الظن. قولهم: يجوز أن يكونَ متعبداً بالاجتهاد. قلنا: هذا التجويز لا ينتهض حجةً، فإن انتهض، فحجة ظنية مختصة به، وبمن يذهبُ إلى القول بذلك، والمقطوعُ به هو إصابة ظنه على تقدير اجتهاده، لكنه لا يقطعُ باجتهاده، وعلى تقدير القطع به، فليس معللاً بعصمته، إذ الخطأُ في المعصية لا يُناقِضُ العصمةَ إجماعاً كيف فيما لا يُسمى معصيةً؟ فمن أين يلزمُ إصابةُ ظَنِّ كل معصومٍ، وأحسنُ ما يُجابُ به عن هذا أنَّه لا مانع مِن القول بأنا متعبدون بمتابعة الأمة، وملازمةِ الجماعة وإن جوَّزنا عليهم الخطأَ في الظنيات، كما أنَّا متعبدون بالعمل بخبر الثقة وإن جوزنا ذلك عليه، وممن قال بذلك عبدُ الله بن زيد، ويدل على هذا ما ورد من الأمر المطلق بملازمة الجماعة مثل " يَدُ اللهِ عَلَى الجَمَاعَةِ، ومنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ " رواه الترمذي (¬1) عن ابن عمر. ¬
قال السيد: وقد ثبت بهذا بطلان حجة القابلين لفاسق التأويل
والذي يجمع بينَ هذه الأدلة أن متابعةَ الأمة واجبةٌ في الأصول والفروع، ودليلهم الظني في الفروع لا يَخْرُجُ عن كونه ظنيّاً، فيكون متعلقَ الظن دليلُ الحكم وطريقُه، ومتعلقَ العلم وجوبُ العمل، ولا تناقضَ في ذلك، وقد قال الفقهاء بمثل ذلك في تسمية الفقه علماً، وقالوا: إنَّ الظن في طريقه، ومتى حصل، عَلِمَ المجتهدُ وجوبَ اتباع ظَنِّه، والله سبحانه أعلم. وحاصِلُ المسألة: أنَّه يجوزُ الخطأُ في ظنِّ المعصوم لمطلوبه، لا لمطلوبِ الله منه، ولا يُناقِضُ العصمةَ بدليل العقل والسمع، أما العقل، فلأن معنى الظن يستلزِمُ تجويزَ الخطأ، فلو امتنعَ الخطأ في ظَنِّ المعصومِ، لم يكن ظنّاً، والفرضُ أنَّه ظن، وأما السمعُ، فلقول يعقوب في قصة يامين: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} [الأنبياء: 79] ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سها في صلاته وهو يظنُّها تامة (¬1)، ولقوله: " فمَنْ حَكمْتُ لَهُ بِمَالِ أخِيهِ، فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " ولأن هذا بمنزلة الخطأ في رمي الكفار. قال: وقد ثَبتَ بهذا بطلانُ حجة القابلين لفاسقِ التأويل، وإنما الكلامُ: هل: هذه المسألة قطعية أم لا؟ أعني أنهم لا يقبلون، وعلى طريقةِ القاضي الباقلاني أنها قطعية، لأن القطعي عنده ما كان ظنُّ صحته ¬
أقول: يرد إشكالات
أقوى، لأنَّه يجب العملُ بالظن الأقوى قطعاً، فيكون رد روايتِهم مقطوعاً به، ولا يَصِحُّ الاجتهادُ فيه، وهذا صحيحٌ في الأمارة الظاهرة التي تَقَعُ لِكُلِّ أحدٍ عندها الظن، وهذه المسألة من هذا القبيل، فثبت بذلك ما ذكرنا في هذه المسألة. أقول: يرِدُ على كلامِه -أيَّدَهُ الله- في دعواه أنها قطعية إشكالات: الإشكال الأول: أن السَّيد -أيده الله- قد سَلَّمَ أن الدليل على ردَّ المتأولين ظني، لكنه ادَّعى أنَّه ظن ظاهر لا يخفي على أحد، وادَّعى أن ما كان هكذا، فهو قطعي فجمع بين الدليل الظني والمدلول القطعي، وهذا لا يصِحُّ، لأن تسليمَك أن الدليل ظني يقتضي قطعاً تجويز أن يكون الحق في المرجوح، وتجويز ذلك يستلزم قطعاً تجويز أن يكونَ على ذلك الحق أمارات راجحة على هذا الأمر المظنون أنَّه حق ولكن المترجح له أن هذا المفروضَ أنه راجح، ما عرف تلك الأماراتِ، ولو عرفها لكانت أرجح عنده. الإشكال الثاني: أن قولَه: إن رد روايتهم يكون مقطوعاً يستلزم كون الحقيَّة في المظنون الراجح قطعاً، ونفي الحَقِّيَّةِ عن الموهوم المرجوح قطعاً أيضاًً، وهذا يقتضي أن الدليلَ يُفِيدُ العلمَ لا الظن؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ بالعلم أكثر من القطع بأن الحق هو ما ذهبت إليه باطناً وظاهراً، وأن ما ذهب إليه الخصمُ باطلٌ باطناً وظاهراً، ولكن السَّيدَ -أيده الله- أقرَّ أن الدليل أمارة، وأنه يَحْصُلُ عندها الظن، فإن قال: مراده: أن العمل بتلك الأمارة الظاهرة التي لا تخفي على أحد واجب قطعاً على كل أحد، لا أنَّ (¬1) ما دلت عليه حق قطعاً، فلا يجوز القطعُ بالاعتقاد على حقِّيَّةِ مدلولها، ¬
لاشكال الثالث: أن نقول هل كونه راجحا معلوما بالضرورة أو بالدلالة وكلاهما باطل، فما استلزمهما، فهو باطل
ويجب العمل قطعاً بظاهر الظن المستفاد بها. قلنا: هذا لا يَصحُّ، لأنَّه يستلزم أن يَنْصِب اللهُ على الباطل أمارة ظاهرة لكل أحد، ويوجب على كُلِّ أحد العمل بها، ويترك الحق بغير أمارة، وهذا لا يجوز على الله تعالى، وقد منع العلماء مِن أهون من هذا، فقالوا في الدليل على أن كل مجتهد مصيب: إنَّه لو لم يكن كذلك لكان قد كلَّفَهُ اللهُ بالحق، ولم يَنْصِبْ عليه دليلاً، وذلك يستلزم التكليف بما لا يَعْلَمُ، وهو لا يجوز على الله، أو كلَّفه بالخطأ الذي أدى إليه نظرُهُ، ولا يجوز على الله تعالى التكليفُ بالخطأ، هذا على القول بأن الحقَّ مع واحد، وعلى القول بتصويب الجميع يلزم تجويز أن يتْرُكَ الله الحق بغير دلالة ولا أمارة، ولا يُكلف به أحداً، وهذا يناقض كونه حقاً، والفرض أنه حق هذا خُلف. الإشكال الثالث: أن نقول: هل كونُهُ راجحاً معلومٌ بالضرورة أو بالدلالة؟ وكلاهما باطل، فما استلزمهما، فهو باطل، وبيانُ الملازمة ظاهر، وبيان بطلان القسمين أن نقول: لا يجوز أن يكونَ رجحانُ ردِّ المتأولين معلوماً بالضرورة، لأن العقلاء مشتركون في العلم بالضروريات، والمجيزون لقبول المتأولين خلقٌ كثير من الأئمة والعلماء والفقهاء لا يجوز تواطُؤُهُم على محض البَهْتِ، وصريحِ المعاندة، وهم منكرون للعلم برُجحان ردِّ المتأولين، فثبت أنَّه لو كان ضرورياًً، لعلموه، لكنه قد ثبت أنهم لم يعلموه، فثبت أنَّه غيرُ ضروري، وأما أنَّه لا يجوز أن يكون الرجحان معلوماً بالدلالة، فلأنَّ الرجحان هو الظن، وثبوت الظن في القلوب، وانتفاؤه عنها من الأمور الوجدانية كالجوع والألم وغير ذلك، وليس في الأدلة ما يُوجب العلمَ الاستدلالي بالأمور الوجدانية، وإنما يصِحُّ
الإشكال الرابع: قد ثبت أنا لا نعلم في الأدلة العلمية غير الضرورة
العلم بها ضرورة مثل ما يعلم خجلُ الخجلِ، وألمُ الأليم في بعض الأحوال بالقرائن المشاهدة، لكنا قد بينا أن هذه المسألة ليست من الضرورياتَ، وبطل أيضاًً أن تكون استدلالية، فبطل القطعُ برُجحان رَدِّ المتأولين. الإشكال الرابع: قد ثبت أنا لا نَعْلَمُ في الأدلة العلمية غير الضرورة أنه قد حصل العلمُ للخصم، وأنه جحده عِناداً وعمداً (¬1)، وإنما نقول بذلك في مَنْ جَحَدَ العلومَ الضروريةَ، فكيف يَصِحُّ منك أن تقول في الظن -ومرتبتُهُ دون مرتبة العلم في الظهور والجلاءِ-: إنَّه قد حَصَلَ لكل أحد، وإنا نعلم حصولَه لكُلِّ أحد، ونعلم أنَّه خَالَفَ (¬2) مع العلمِ بالرُّجحان مع أن العلم الذي دَلَّ عليه أدلةٌ قاطعةٌ مولدة له على جهة الإيجاب ما ارتقى إلى هذه المرتبة. الإشكال الخامس: نص علماءُ المنطِق والمعقولاتِ على أنّه ليس بين الأمارة ومدلولِها رابطةٌ عقلية، واحتجُّوا على ذلك بما هو صحيح في المعقول (¬3) وذلك لأنَّه لو كان بينه وبينَها رابطةٌ عقلية، لاستحالَ تخَلُّفُهُ عنها لأنه لا يَصِحُّ وجودُ اللازِمِ مع تخلُّف الملزوم، إذ لو صَحَّ ذلك، لما كان لازماً، والفرضُ أنَّه لازم، هذا خُلف. وكذلك الرابطةُ العقلية بين الأمارة والمظنون لو كانث ثابتةً، لم يتخلَّفِ المظنونُ عنها، وقد تخلَّف قطعاً ضرورة ووفاقاً بينَ العقلاء، فقول السيد: إن الحقَّ في ردهم قطعاً يستلزِمُ أن الحقية متعينة في رَدِّهم ¬
الإشكال السادس: قوله إن القرينة دالة على رد المتأولين قرينة
المتأولين لأجل ظهور القرينة المفيدة للظن، وذلك يستلزِمُ تلازم الحَقِّيَّةِ والظن الراجح، وذلك يستلزم أن يكونَ بينهما رابطة عقلية، وهو خلاف كلامِ العلماء وأدلة العقول. الإشكال السادس: قولُه -أيده الله-: إن القرينة الدالة على ردِّ المتأولين قرينة ظاهرة حاصلة لكل أحدٍ، يقتضي أن المخالفين له في هذه المسألة قد حَصَلَ لهم رجحانُ دليله، وإنما عَدَلُوا تعمداً للباطل، وقد رُوِيَ عن المُؤَيَّدِ بالله أنَّه خالف في هذه المسألة، فهذا يستلزم أن المؤيَّدَ عليه السلامُ آثم، معاند، متعمدٌ لقول الباطل عند السيد. الإِشكال السابع: القول بأن في الظنيات قطعيّاً، وتفسير تلك القطعيات بأنها ما ظهرت الأمارةُ الدالة عليها، وحصل الظنُّ بها لِكُل أحد قولٌ غريبٌ، لم أَعْلَمْ أنَّ أحداً قال به إلا القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري، وهو عندك كافِرُ تصريحٍ. والظاهرُ مِن علماء الأصول أنهم لا يُثْبِتونَ القطعيات إلا في الأدلةِ العلمية المفيدة لليقين، فيلزم السيدَ القولُ بتأثيم مَنْ خالف الباقلاني في هذه القاعدة. الإشكال الثامن: قد بَيَّنَّا أن جماعةً ادَّعَوْا إجماعَ الأمة على خلاف قولِ السيدِ منهم الإمام المنصورُ بالله، ويحيى بنُ حمزة، والمؤيَّد بالله، وغيرهم، فهؤلاء إما أن يصدقوا في دعوى إجماع الأمة كلهم أو لا، إن صدقوا لَزِمَ أن تكون الأمة قد اجتمعت على ضلالة، وإن لم يصدقوا، فلا أقلَّ من أن تكون دعوى الإجماعِ الذي تَطَابَقُوا على دعوى الإجماع فيه قولَ أكثرِ الأمة وجماهير العلماء، لأنَّ أقلَّ أحوال مُدعي الإجماع أن يبحث قبل الدعوى عن أقوالِ مَنْ يَعرفُ من عيون (¬1) العلماء، فلا يَعرِفُ خلافاً ¬
الإشكال التاسع: أنه قد ثبت الخلاف في هذه المسألة بإقرار السيد
بعدَ الاستقصاء في الطلب وهؤلاءِ الأكابرُ قد ادَّعَوا الإجماعَ، وَهمْ مِن أهل الورع الشحيح، والاطلاع العظيم، فلم يكونوا لِيُجَازِفُوا بدعوى الإِجماع، وأقلُّ أحوالهم أن يكون ما ادَّعَوْا فيه إلإِجماع هو القولَ الظاهر المستفيضَ بَيْنَ عيون الأئمة وكبارِ علماء الأمة، والسيد قد قطع بتخطئتهم في هذه المسألة، ولم يَرْض بذلك حتى أخرج هذه المسألة من جملة الظنيات التي يُمْكِنُ رفع الإثم عن المخطىء فيها، فيلزم السيدَ تأثيم عيون الأئمة، وجماهيرِ علماء الأمة على كُلِّ حال، سواء صدق هؤلاء المُدَّعون للإجماع أو لم يصدقوا، والفرق بينَ هذا وبينَ السابع والسادس، أن السابع في مَنْ خالف في القاعدة كلها وهي إثبات القطعيات بالأدلة الظنية، وهي أعَمُّ مِن هذه، فإنَّ هذه مسألةٌ واحدة من جملة تدخل تحت تلك القاعدة من المسائل التي لا تنحصرُ، وأما السادسُ، فلأنه فيما يلزمه بإقراره من تأثيم المؤيَّدِ وفي هذا ما يلزمه بالدليل لا بالإقرار. الإِشكال التاسع: أنَّه قد ثبت الخلافُ في هذه المسألةِ بإقرار السيد عن الفقهاء والمؤيَّدِ بالله، وقاضي القضاة، وأبي الحسين، فجميعُ هؤلاء الذين قَبِلُوا روايةَ فُسَّاق التأويل مثل الفقهاء والمؤيَّد بالله عند السيد قد بَنَوْا مذاهبَهم في الفروع الفقهية على قبولِ رواية المتأولين، لكن السيد قال: هي باطلة قطعاً، فيلزمُ السيدَ أن تكونَ مذاهبُهُم في الفروع الفقهية باطلة قطعاً، لأن الأصلَ إذا بطل بالقطع، بطل فرعُهُ بالقطع بالأولى، لأن الفرعَ أضعفُ مِن الأصل، وكُلُّ مجتهدٍ بنى اجتهادَه على أصلٍ باطل بالقطع من خلاف إجماع وغيرِه، فإنَّه لا يعتد بخلافه، فيلزم السيدَ بإقراره إبطالُ مذاهب المؤيَّد والفقهاء. الإشكال العاشر: قد أجمعت الأمةُ على الاعتداد بمذاهب القابلين
الإشكال الحادي عشر: أنا قد قدمنا أن المؤيد والمنصور ويحيى ابن حمزة وغيرهم رووا الإجماع على قبول المتأولين
للمتأولين، فإن الزيدية أجمعت على الاعتداد بمذهب المؤيَّد، وسائرُ الفرق أجمعت على الاعتداد بمذاهب الفقهاء في الفروع، أما من يُجِيزُ تقليدَ الميت، فظاهر، وأما من لا يُجيزه، فاعتد بها في انعقاد الإجماع وعدمه، وأصلُ السَّيِّد هذا يؤدي إلى أن لا يعتد بالمؤيَّد بالله والفقهاء، فقد أدَّى إلى تخطئة الأمة بأسرها بإقراره أيضاً، لأنَّه مقر بثبوت الخلاف عن المؤيَّد بالله والفقهاء، ومقر بإجماعِ الأمة على الاعتداد بأقوالهم في الفروع، فثبت على مقتضى كلامه أن الأمة أجمعت على ما لا يجوز، لكن ذلك باطل قطعاً، فما أدَّى إليه فهو باطل. الإشكال الحادي عشر: أنا قد قدمنا أن المؤيَّد، والمنصور، ويحيى بن حمزة وغيرهم رَوَوُا الإجماعَ على قبول المتأولين كما سيأتي تفصيلُ ذلك في الفصل الثاني. إن شاء الله، وبَيّنّا أن أقلَّ أحوالهم أن يعلموا أن ذلك مذهبُ جماهير الأئمة والأمة، والسيد قد قال: إن ذلك باطل قطعاً، فيلزمه أن مذهبَ جماهير الأئمة والأمة في الفروع باطل، لأنَّه انبنى على باطل، فقولُ السَّيِّد أدَّى إِلى بطلان الانتفاع بالفقه وعلم الفروع، لأن التهمة قد تَطَرَّقتْ إلى كل منهم، إذ كان هؤلاء العدول يدعون على الأمة أنَّهم قبلوا المتأوّل، وَبَنَوْا مذهبهم (¬1) على قبوله، فلا يَحِلُّ تقليدُ أحدٍ من الأمة إلا بتبرئة صحيحة، ونقل ثقة عن ثقة أنَّه لا يقبل المتأولين، وإلا فالظَّاهِر صدق هؤلاء الأئمة والعلماء، وصدقهم يتضَمَّن هدم ما بناه الناسُ مِن علم الفروع، فلم يسلم من هذه المشكلة أحد حتى الهادي والقاسم، فقد روى أبو مضر عنهما القولَ بقبول المتأول، وكذلك عموم رواية المؤيَّد بالله، والقاضي زيد وغيرهم تَدُلُّ على أنَّ مَذْهب القاسم ويحيى قبولُ ¬
الإشكال الثاني عشر: يلزم السيد أن الرادين لرواية المتأول
المتأول، لكن قبوله عند السَّيِّد باطل قطعاً، والفروع المبنية عليه باطلة قطعاً، فيلزم أن لا يعتد بقولهما عليهما السلامُ، ولا بقول غيرهما من علماء الإِسلام، سواء قلنا بتقليد الميت أم لا، فلا يجوز تقليدُ أحدٍ إلا من علم بطريقٍ صحيحة أنَّه لا يقبل المتأولين ولا مرسل مَنْ يقبل المتأولين. الإِشكال الثاني عشر: يلزم السيدَ -أيده اللهُ- أن الرادين لِرِواية المتأول إذا أجمعوا في الفروع، وخالفهم القابلون، انعقد الإِجماعُ وكان حجةً، لأنهم قد بَنَوْا مذاهبَهُمْ على باطل، والتبس ما بَنَوْه على الباطل بما بَنَوْه على الحق فترك جميعاًً، فلم يعتد لهم بقول، فلم يجز تقليدُهم، وقد ذكر -أيَّده الله- إن مَنْ لم يبق له خلف يُقَلِّدونه، بطل قولُه، وانعقد الإِجماعُ على رأسه، فكذلك من يحرم تقليده بل هو أولى. الإشكال الثالث عشر: أن الأمة أجمعت على عدم التأثيم لمن خالف العموم وأخبارَ الآحاد والقياسَ والاستدلالَ متأولاً في مخالفته، وقول السيد: إنها قطعية يستلزم تأثيمَ مَنْ خالف هذه الأدلةَ، أو أحدها متأولاً، وذلك أنَّه استدل بها، وزعم أن مدلولَها قطعي، فقد توجه عليه مخالفة الأمة إما في هذه القاعدة كلها، وإما في تخصيص أدلته، فإن خالفهم في القاعدة كُلِّها، أثم جميعُ المخالفين في الفروع، وإن خالفهم في هذه وحدها، تحكم. الإشكال الرابع عشر: استدل بهذه الأدلة، وكلها ظني، ثم استنتج منها نتيجةً قطعية، وقد أجمع علماء البُرهان من المسلمين والفلاسفة أن مقدماتِ الدليل إذا كان كُلُّها قطعية إلا واحدة منها، فإن النتيجةَ تكون ظنية وقالوا: النتيجةُ تتبع أخَسَّ المقدمات، فكيف تكونُ مقدمات السَّيِّد كلها ظنية، ويقر بذلك، ثم يستنتج منها نتيجة، ويزعم أنها قطعية، وأن
الإشكال الخامس عشر: إذا كنت استدللت بأدلة ظنية، وادعيت القطع فما يمنع خصمك من مثل هذه الدعوة؟
المخالف له فيها على الخطأ قطعاً؟ ما كأنَّه قد خاض في علم النظر يوماً واحداً، والفرق بين هذا وبين الإشكالِ الثاني أنا ألزمناه في الثاني أن تكونَ علميةً مع إقراره أن أدلتها ظنيةٌ، هذا خلف، وها هنا ألزمناه عكسَ ذلك، وذلك أنَّه ادَّعى أنها قطعية، فألزمناه أنها ظنية. الإِشكال الخامس عشر: إذا كنتَ استدللتَ بأدلة ظنية، وادعيتَ القطع بأن الحقَّ معك، وأن خصمَكَ على الباطل، فما يمنع خصمَكَ من مثل هذه الدعوى؟ بل: ما يمنع من مثلها في كثيرٍ من مسائِلِ الفروع، وإنما بين المتناظرين الأدلة المفيدة للعلم، فمن ادعى القطعَ بأنَّه محق، وأن خصمَه مبطل أظهر ما عنده مِن البراهين المفيدة للعلم القاطعة للأعذار، وأما لو كَانَ مَن ادَّعى الحَقَّ كفاه أن يقول: لأني ظننتُ أنَّه حق بأمارات ظاهره لا تخفي على أحد، وظننتُ أن قولَ الخصوم (¬1) باطل مثل ذلك كان هذا الكلام مقدوراً لكل أحد. الإشكال السادس عشر: أنا قد بيّنّا غير مرة أن جماعةً من الأئمة والعلماء ادَّعَوْا إجماعَ الأمة على قبول المتأولين، فيلزمه القطعُ بتكذيب من ادَّعى الإجماعَ من الأئمة مثل: المنصور بالله، ويحيى بنِ حمزة وغيرهم ممن يأتي ذكره. أقصى ما في الباب أن يقول: إنَّهم لم يكذبوا عمداً لكنهم قد كذبوا عندك على سبيلِ الخطأ، لكن دعوى الإجماع ليست من مسائل الفروع التي كُلُّ مخطىءٍ فيها مصيب ومعذور. الإشكال السابع عشر: يلزم السيدَ -أيده الله- الإنكارُ على مَنْ خالفه في هذه المسألة، وتحريم النزاع فيها، لكن لم يزل العلماءُ قديماً ¬
الإشكال الثامن عشر: أنه يلزم من كلام السيد نقض الأحكام المبنية على شهادة المتأولين
وحديثاً يخوضون في هذه المسألة، ويذكرون الخلافَ فيها في كتب الفقه والأصول من غيرِ نكير مِن أحدِ الفريقين على الآخر، وهذا يقتضي بطلانَ قولِ السيد: إنها قطعية، ومما يدل على هذا أن أحداً ما سبق السّيّد إلى هذا القول فيما نعلم، وهذه كتب الأولين والآخرين والسابقين والمقتصدين والزيدية، والشافعية والمعتزلة والأشعرية ما نعلمُ أنَّ أحداً ذكر فيها أن هذه المسألة قطعية، وأوصدَ باب النزاع، وقطع طُرُقَ الخلافِ عنها إلا السيد أيَّده الله، فإنه سلك مسلك الغُلُوِّ في رسالته، والزيادة على أساليب العلماء في مصنفاتهم، فإن جميعَ مَنْ ذكَرَ هذه المسألة من العلماء ما زادوا على ذكر الخلاف والأدلة، وسكتوا عما يقتضي تأثيم المخالفين. الإشكال الثامن عشر: أنَّه يلزمُ مِن كلام السَّيِّد نقضُ الأحكام المثبتة على شهادة المتأولين، لأن القاضي إذا أدَّاه اجتهادُه إلى مخالفة القطعيات نقض حكمه، وإن كان مذهباً له، إذ لا معنى للمذهب الباطل قطعاً، وهذا يؤدي إلى نقضِ أحكام كثيرة، فإنَّ مذهب الفقهاء مبني على جواز هذا، وكذا حكام مذهب الزيدية إنما عملُهم في الغالب بما هو منصوص في " اللمع "، والمنصوص في " اللمع " قبول شهادة المتأولين، بل هذا يُؤدِّي إلى الشك في الأحكام كلها، لأنا لما علمنا أو ظننا أن الحكامَ مستحلون للحكم بشهادة المتأولين، وكانت باطلةً قطعاً، وقد اختلطتِ الأحكامُ ولم نعلم ما ترتَّب منها على شهادتهم وما لم يترتب، وجب الوقفُ فيها كُلِّها إلا في ما ثبت لنا أن الحكم فيه لم يترتب على شهادة متأول وكذلك يلزمُ مِن هذا نقض أحكام المقلدين للمؤيد والفقهاء ومَنْ بنى مذهبه على قبول المتأولين. الإشكال التاسع عشر: أنَّه يلزمُ تحريمُ نصبِ الحكام الذين يستحِلُّونَ الحكم بشهادة المتأولين، سواء كانوا مجتهدين أو غيرَ مجتهدين، وسواء
الإشكال الموفي عشرين: أنه يلزم من هذا تحريم نصب الأئمة الذين يستحلون قبول المتأولين
كانوا مقلِّدين لمن يقبل المتأولين، أو لمن لا يقبلهم، لأنهم يستحِلُّونَ شهادة المتأولين، وهذا عند السَّيِّد باطِلٌ قطعاً، ولا يحِلُّ نصبُ من يستحل الحكم بالباطل القطعي، وكلُُّ هذا مخالف لما عليه أهلُ الإسلام في جميع أقطار الدنيا، فكان أولى بالبطلان. الإشكال الموفي عشرين: أنَّه يلزم من هذا تحريم نصب الأئمة الذين يستحِلُّونَ قبولَ المتأولين، وذلك لأنَّهم حكام، ولا يجوزُ نصب مَنْ يستحِلُّ الحكم بالباطل القطعي، ولأنَّهم يستحلون نصبَ الحكام الذين يَرَوْن قبولَ المتأولين، وفي هذا مفسدة عظيمة وهي توليةُ مَن يَسْتَحِلُّ الحكمَ بالباطل. الإِشكال الحادي والعشرون: أنَّه يلزم القطعُ ببطلان إمامةِ مَنْ صح عنه قبولُ المتأولين من كبار الأئمة الميامين لهذا الوجه الذي ذكرناه في الإشكال الذي قبلَ هذا، وكُلُّ هذا في غاية النكارة، فما أدى إليه، فهو أنكر، والبعد عنه أولى وأجدر. الإشكال الثاني والعشرون: أن السَّيِّد -أيده الله- يلزمه أن يكون المؤيَّدُ بالله والفقهاء مجروحين عنده غيرَ مقبولين في الرواية، هذا بإقراره، ويلزمه مثلُ ذلك في حق المنصور، والإمام يحيى بن حمزة، والقاضي زيد، وعبدِ الله بن زيد، والهادي، والقاسم وسائر الأئمة. فإن قلت: هذه عبارة منكرة. قلت: لا شَكَّ في ذلك، ولكن أنكرُ منها ما أدى إليها. فإن قلت: وأينَ كلامُ السَّيِّد الذي يلزم هذا منه؟ قلت: هو متفرق في موضعين من رسالته. أحدهما: قولُه، إن الكاذب لا تُقْبَلُ روايتُه وإن كان متأولاً قياساً على
الخطابية، والجامع بينهما أن كل واحد منهما قد استحل الكذب للتأويل، فلما أجمعت الأمةُ على رَدَّ رواية الخطابية لعلة استحلالهم للكذب متأولين، لَزِمَ في كل من استحل الكذب متأولاً أن ترد روايته. وسيأتي الجوابُ عن هذه الشبهة الضعيفة، وإنما نذكر ها هنا طرفاً مما يلزمه، فنقول، كُلُّ مَن خالف في مسألة قطعية، فقد كذب متأولاً، فالمعتزلة قد كذبوا متأولين حيث قالوا: إن الخليفة بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ أمير المؤمنين علي عليه السلامُ، وكذلك كُل متأول خالف في القطعيات، وقد قررت أن القول بردِّ رواية المتأولين قطعي، فيلزمك أن المخالف لك فيه كاذب متأول، لأنَّه قال: إن المتأول مقبول، وهذا عندك كذبٌ قطعاً، وقد استحله المخالف لك فوجب رَدَّ شهادته وروايته قياساً على الخطابية. فنقول: أما المؤيَّد، والفقهاء، وأبو الحسين، وقاضي القضاة فيلزمُك أنهم غيرُ مقبولين في الشهادة، ولا في الرواية، لأنَّك قررت أنهم قد خالفوك في هذه المسألة القطعية، وأما المنصورُ بالله، ويحيى بنُ حمزة، والقاضي زيد، وعبدُ الله بنُ زيد، فلأنهم قد كذبوا متأولين في موضعين. أحدُهما: قولُهم: إن المتأولين مقبولون. وثانيهما: في قولهم: إن الأمة مجمعة على ذلك، وهذه أغلظ من الأولى، لأنهم عندك ما قنِعُوا بما كذبوا حتى نسبُوه إلى الأمة والأئمة. وأما الهادي، والقاسم، فإنما يلزمُك ذلك، لأن أبا مضر قد نسبه إليهم وهو ثقة، لأنَّه لم يختر ذلك لنفسه مذهباً، إنما حكى ذلك عنهم، وقولك: إن أبا جعفر قد عارضه لا ينفعُك، لأنك قد قلت في رسالتك: إن الجارح مُقَدَّمٌ على المعدل، والمثبت مُقدَّمٌ على النافي، وكذا لا ينفعك أن تقول: إن هذه الأشياء لم تواتر عنهم، لأنك قد قلتَ في رسالتك: الجرح
الإشكال الثالث والعشرون: أنه قد ثبت أن المخالفة في القطعيات معصية
يثبت بخبرِ الواحد بخلاف التكفير والتفسيق، وقلتَ، في مثل هذه الأشياء: أقل الأحوال أن يكون هذا موجباً للشك، فلا تَحِلُّ الرواية عن أحد منهم حتى تحصل له تبرئة صحيحة من المخالفة لك في هذه المسألة القطعية، وأما سائرُ الأئمة، فإنما يلزمُك جرحُهم، أو الوقفُ فيهم، لأنَّه قد ثبت من عشرِ طرق كما يأتي بيانُه أن الأمة أجمعت على ذلك، وهذه الطرق العشر من جماعة قد تَحصَّلَ بخبرِ مثلهم التواتُر لا سيما وهم متفرقو الأوطانِ والأزمانِ، والبُلدان والأنساب، فَبَعُدَ تواطؤهم على الكذب لكنك لما علمتَ أن الأمة معصومة، وجب أن تقطع بأنهم ما صدقوا على الأمة كلها، لكن يعلم بالضرورة استحالةٌ تواطئهم على عمدِ الكذب، وصريحِ المباهتة، فيجب أن يُحْمَلَ كلامُهم على أنَّهم عَلِموا أن ذلك قولُ الأكثرين، ولم يعتدوا بالباقين إما لأنَّ المخالف إِذا ندر لم يعتبر عندهم، وإما لتوهمهم أن سكوتَ الباقين سكوت رضا، ونقول في دعواهم للإِجماع مثل ما قلنا في دعوى المعتزلة إجماع الصحابة في الإِمامة. إذا ثبت - هذا فلا شَكَّ أنَّه قد التبس عليك الآنَ: مَن البريء من الأمة من هذه الدعوى، فلا تَحِلُّ الرواية عن أحدٍ من الأمة حتى تَحْصُلَ له براءة صحيحة غير معارضة بمثلها، شاهدة له بأنه لا يذهب إلى مخالفتك في هذه المسألة، ومن لم يحصل ذلك في حقه، بقي على الشك، فانظر أيُّها السيد إلى قول يُؤدي إلى التشكيك في قبول شهادة القاسم، ويحيى، والمنصور، والمؤيَّد فما أبعدَه عن الصواب. الإِشكال الثالث والعشرون: أنَّه قد ثبت أن المخالفة في القطعيات معصية، وأن المخالفَ فيها غيرُ معذور بالتأويل، ألا ترى أن السيدَ -أيده الله- قال ما هذا لفظه: فيكون ردُّ روايتهم مقطوعاً به، ولا يصح الاجتهاد
فيه، وهذا صحيح في الأمارة الظاهرة التي يقع لِكل أحدٍ عندها الظن، وهذه المسألة من هذا القبيل. انتهي كلامه. فبين أن الاجتهاد لا يَصِحُّ، وعلى هذا لا يُعذَرُ مَن اعتذر به، وأيضاًً قد بَيَّنَ السَّيِّد أن الأمارةَ الدالة على رد المتأولين ظاهرة يقع لكلٍ عندها الظن، فثبت بهذا أن المخالفين له -أيده الله- قد وقع لهم الظنُّ الراجح برد رواية المتأولين، وأن قبولهم للمتأولين مما هو عمل بالمرجوح قطعاً، وإنما توهموا أنَّه راجحٌ توهماً لا حقيقةَ له؛ لما لم ينظروا على الوجه الصحيح. والتقصير في النظر في المسائل القطعية حرام. فإذا تقرر هذا، فقد ثبت أنَّه لا يجوزُ العلمُ بصغر المعصية، فوجب أن يكونَ المخالف للسيد -أيَّده الله تعالى- عاصياً معصيةً محتملة للكبر والفسق، ومحتملة للصغر، فلا يجوز في مَنْ صَحَّ عنه أنَّه خالف السَّيِّد في هذه المسألة أن يقطع بأن ظاهره الإسلامُ والإِيمان، ولا يقطع بأن ظاهره الفسقُ، بل نقف في أمره، ويكون الخلاف في الترضية عنه مثل الخلاف في الترضية عن المتقدمين على علي عليه السلام، لأنهم سواء، إذ كُلُّ منهم أخطأ في مسألة قطعية متأولاً، وأصرَّ على خطئه ومعصيته حتى مات فهذه مِئتا إشكال ونيف على مقدارٍ يسير من كلام السَّيِّد في كتابه أظهرتُ بيانها لِيظهر له أنْ (¬1) قد تعسَّف عليَّ في كتابه، وتعنتني في احتجاجه، فالله المستعان. ¬
الفصل الثاني: في الدليل على قبول المتأولين ومعارضة الحجج، وفيه مسألتان
الفصل الثاني: في الدليل على قَبول المتأوِّلين، ومعارضة الحُجَجِ التي أوردهَا السيدُ مِن العمومات والأحاديث، وفيه مسألتان: المسألة الأولى: الكلامُ (¬1) في الفاسق بالتأويل. والذي حَضَرني الآنَ مِن الحجج على قَبوله خمسُ وثلاثون حُجةً، منها ما أوردتهُ للاعتماد عليه في الاحتجاج، ومنها ما أوردتهُ معارضةً لما أَورَدَه السَّيِّد من العمومات البعيدة. الحُجَّة الأولى: الإجماعُ، وهو مِن أقوى ما يُحْتجُّ به في هذه المسألةِ؛ لأن حجج السَّيِّد كُلَّها عامَّةٌ، وهذه الحجة خاصةٌ، والإجماع الخاصُّ مُقَدَّمٌ على العمومات بإجماع، لأنَّه متأخر عنها، مُبيِّنٌ لها، فهو في أرفع مراتب الأدلَّةِ الظاهرة، وأقوى المتمسَّكَاتِ في مثل هذه المسألةِ، والذي يدل على صحة هذا الإجماعِ وجهان: الوجه الأول: أنَّه قد ادَّعى جماعةٌ مِن الأئمة عليهمُ السَّلامُ، وخلقٌ مِن سائر علماءِ الإسلام أنَّ الصدرَ الأوَّل من الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قَبولِهم، ونقل هذا الإجماع عَدَدٌ كثير لا يأتي عليه العَدُّ، وأنا أُشير إلى جماعةٍ يسيرة من أعيانهم لم أتمكَّن في الوقت مِن ذكر أكثر منهم، وقد شكَّ جماعة من العلماء في صحة دعوى الإجماع من غير قطع على بطلانه، ولا رواية لِخلاف كان في ذلك بين الصحابة. فاعلمْ أَنَّه لم يُنْقلْ عن أحدٍ مِن الصحابة أنَّه لا يقبلُهم ألبتة، وكذلك ¬
الفائدة الأولى: في الإشارة إلى طرف يسير من طرق الإجماع المروي في قبول فساق التأويل، وجملة ما حضر من ذلك عشر طرق
لم يَدَّعِ أحدٌ من الخلف، ولا مِن السَّلَفِ أَن الأمة أجمعت على رَدِّ فساق التأويل. فتأمل هاتين الفائدتين وإنما وقع الخلافُ في إجماعهم على القَبول، فطائفةٌ من الأئمة والعلماء قطعوا بأنهم أجمعُوا على ذلك، وطائفة منهم شكُّوا في ذلك، وبيان هذه الجملة يَظهر في أربعِ فوائد: الفائدة الأولى: في الإشارة إلى طرف يسيرٍ من طرق الإجماع المروي في قبول فُسَّاق التأويل، فاعلم أنَّ طرق نقل الإجماع في هذه المسألةِ كثيرةٌ لا سبيل إلى حصرها، وقد ذكر السَّيّدُ أبو طالب أن مَنْ قَبِلَ المتأولين فإنه يذهبُ إلى أنَّ الإجماعَ قد حصل في قبولِ شهادتهم وخبرِهم، وكلامُه عليه السلام يدل على أَنَّ كُلَّ مَنْ يذهب إلى هذا المذهبِ، فقد روى الإِجماعَ على ذلك، ولا شَكَّ أن الذاهبينَ إلى هذا المذهب عدد كثير يزيدون على العددِ المشروط في التواتر أضعافاً مضاعفة، ولو حضرتنا تواليفُ كثيرٍ منهم لنقلنا ذلك عن كثيرٍ منهم بألفاظهم، ونحن نذكُرُ طرفاً يسيراً من ذلك على حسب ما حضر مِن التواليف، وجملةُ ما حضر من ذلك عشرُ طرق: الطريق الأولى: طريق الإمام المنصور بالله عليه السلامُ، فإنه عليه السلام ادَّعى إجماعَ الأمة على قبول فساق التأويل، وذلك معروف في تصانيفه عليه السلامُ، وقد تيسَّر لي في وقت كتابة هذا الجواب نقلُه عنه عليه السلامُ من موضعين: الموضع الأول: كتاب " صفوة الاختيار " في أصول الفقهِ من تصنيفه عليه السلام، فإنه قال فيه ما لفظُه: مسألة: اختلف أهل العلم في خبرِ الفاسقِ مِن جهة التأويل، فحكى شيخُنا الحسن بن محمد رحمه الله عن الفقهاء بأسرهم، والقاضي، وأبي
رشيد أنَّه يقبل إلاَّ أن يُعلم أنَّه ممن يستجيزُ الكذب كالخطَّابية (¬1) ومَنْ ضاهاها، وحُكي عن الشيخين أبي علي (¬2) وأبي هاشم (¬3) أنَّه لا يقبل، قال رحمه الله: وكان القاضي يقول: مذهبُ (¬4) أبي علي وأبي هاشم أقيسُ، ومذهبُ الفقهاء أقربُ إلى الأثر، وكان يعتمِدُ الأولَ، وهو الذي نختارُه. والذي يدُلُّ على صحته إجماعُ الصحابة على قبوله، وإجماعُهم حجةٌ على ما يأتي بيانُه، أما أنهم أجمعوا، فذلك معلوم من ظاهر حالهم لمن تَصَفَّحَ أخبارَهم، واقتصَّ آثارهم، وذلك لأن الفتنة لما ظهرت فيهم، وتفرَّقوا فِرَقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهي أمرُهم بينهم إلى القتلِ والقتالِ، وكان بعضُهم يروي عن بعضٍ بغير مناكرةٍ بينَهم، بل اعتمادُ أحدهم على ما يرويه عمَّن يُوافقه كاعتماده على ما يرويه عمَّن يُخالفه، وذلك ظاهر فيهم كروايتهم عن النعمان بنِ بشير (¬5)، وروايتهم عن أصحاب الجمل، وعن ¬
نَقَلَةِ أصحاب النَّهروان (¬1) وغيرهم، وكانوا في أمرهم بين راوٍ عنهم، وعاملٍ على مقتضى الرواية، وساكتٍ عن الإِنكار، وذلك يُفيد معنى الإِجماع، ولأنَّهم لما افترقوا، لم يختلفوا في أن الكذبَ لا يجوزُ، بل المعلوم من حالِهِم التشديدُ على مَنْ فعل ما يعتقدون قُبْحَهُ، أو كذب في شيء من كلامه. ومن ذلك ما رُوي أن الخوارجَ لما نادت قَطَرِيَّ بنَ الفجاءة (¬2) من خلفه: يا دابَّة يا دابة، فالتفت إليهم، وقال: كفرتُم، فقالوا: بل كفرت لِكذبك علينا وتكفيرك إيانا، وما قلنا لك إلاَّ ما قال اللهُ سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ثم قالُوا له: تُبْ من تكفيرك إيَّانا، فقال لعُبيدة بن هلال (¬3): ما ترى؟ قال: إن أقررت بالكفر، لم يقبلوا توبتَك، ولكن قُلْ: إنَّما استفهمتكُم، فقلتُ: أكفرتم؟ فقالوا: لا ما كفرنا. ثم انصرفوا، فإذا كان الأمرُ كما ترى، كان من يقول: من كذب، كفر، روايتُه أولى من رواية مَنْ يقول: من كذب ¬
فسق، لأن الإنسان قد يتجاسر على الفسق، ولا يتجاسر على الكفر، وقولُ مَنْ يقول: إن مَنْ عُرِفَ بالكذب في المعاملات لا يُقبل خبرُه، فكيف يُقبل خبرُ من عُرِفَ بالكذب على أفاضِل (¬1) الصحابة، وساداتِ المسلمين من المهاجرين والأنصار، وانتقاصهم لا يتَّسِقُ، لأن المعلوم مِن حالهم أنَّهم لا يكذبون على أفاضِلِ الصحابة في الرواية عنهم، وإنَّما يكذبون عليهم في الاعتقاد، وذلك خارج عن باب الإخبار، وكانوا لا ينتقِصُونَ إلاَّ مَنْ يعتقدون الصوابَ في انتقاصه ومحاربته. فأما من عُلِمَ مِن حاله استجازةُ الكذب على آحاد الناس فيما يرويه عنهم فضلاً عن فضلاء الصحابة، لم يُقبل خبره كما قلنا في الخطابية ومَنْ شاكلهم، وإنَّما منعنا مِن قبول خبرِ الفاسق مِن جهة التصريح، فلأنا نعلم منه التجاسرَ على الكذب، والإقدامَ على القبيح، فلا تَسْكُنُ النفسُ إلى صدقه فيما يرويه، ولا يَغْلِبُ على الظن صحةُ ما يقوله، وليس كذلك الفاسق من جهة (¬2) التأويل لأنَّه لا (¬3) يُقْدِمُ على ما يعلم كونه قبيحاً، فصح ما قلناه. انتهي كلام المنصور عليه السلام في كتاب " الصفوة ". الموضع الثاني: كتاب " المهذب " (¬4) فإنَّه عليه السلام قال في كتاب " الشهادات " منه ما لفظه: وقد ذكر أهلُ التحصيلِ من العلماء جوازَ (¬5) قبولِ أخبار المخالفين في الاعتقادات، وروى عنهم المحققون بغير مناكرةٍ، ذكره عليه السلام في كتاب " الشهادات " محتجّاً به على قبولِ ¬
شهادتهم. قال عليه السلام: لأن الإخبارَ نوع من الشهادة، وتجري مجراها في بعضِ الأحكام، والدليلُ على أنَّه عليه السلام ادَّعى الإجماعَ في هذا الكلامَ وجوه: أولها: -وهو أقواها- أنَّه احتجَّ على جواز الشهادة بالقياسِ على الأخبار، واحتجَّ على قبولهم في الأخبار بأنَّ المحصلين ذهبوا إلى جواز ذلك بغيرِ مناكرة، فلو أراد بالمحصِّلين بعضَ العلماء، أو أراد بغير مناكرة مِن بعضهم مع وجود المناكرة مِن البعض، لم يكن ذلك إجماعاًً، ولو لم يكن إجماعاً، لم يكن فيه حجة، وقد ثبت أنَّه جعله حجةً، وقاسَ عليها، ولفظهُ صالح لإفادة دعوى الإجماع في اللغة من غير تعسُّفٍ ولا تأويل، فوجب القولُ بظاهره، وتأكَّد الظاهرُ بهذه القرينة. وثانيها: أنَّ ظاهر كلامه يقتضي دعوى الإجماعِ من غير قرينة، وذلك لأنَّ قولَه: إن أهلَ التحصيل من العلماء ذكروا جوازَ ذلك يَعُمُّ جميعَ أهلِ التحصيل ولم يخرج مِن هذا اللفظ إلاَّ مَنْ ليس مِن أهل التحصيل، ومن لم يكن مِن أهل التحصيل، فليس بمجتهد لا في الوضع اللغوي، ولا في العرف الطارىء، لأنَّه ليس يَصحُّ أن يقَالَ لِعالم مجتهدٍ من علماء الإسلام: إنَّه ليس مِن أهل التحصيل. وثالثها: قولُه بغيرِ مناكرة مطلقٌ يقتضي نفي المناكرة (¬1) عن جميع الأُمَّةِ، وقد أطلق القولَ في ذلك، ولم يُقيده بقيدٍ، فأفاد الإجماعَ على أنه -عليه السلامُ- قد صرَّح بدعوى الإجماع في كتاب " الصفوة "، وإنَّما ¬
الطريق الثانية: طريق المؤيد يحيى بن حمزة
أحببنا التبركَ بالاستكثار من كلامه، فمن استكثر من كلامه، فقد استكثر مِن طيب. الطريق الثانية: طريقُ الإمامِ المؤيَّدِ بالله يحيى بنِ حمزة عليه السلامُ، فإنَّه قال: إن الإجماعَ منعقدٌ على قبول رواية الخوارج مع ظهور فسقهم وتأويلهم، قلتُ: ما خلا الخطابية. هذا كلامُه عليه السلام في " المعيار ". وقال عليه السلامُ في باب الأذان في " الانتصار ": وأما كفارُ التأويلِ -وهم المجبرة، والمشبِّهة والروافض والخوارجُ- فهؤلاء اختلف أهلُ القبلة في كفرهم، والمختارُ أنهم ليسوا بكُفَّارٍ، لأن الأدلة بكفرهم تحتمِلُ احتمالاتٍ كثيرة. وعلى الجملة، فمن حكم بإسلامهم، أو بكفرهم، قضى بصحة أذانهم، وقبول أخبارهم وشهاداتهم. وقال عليه السلام في كتاب " الشهادات " من هذا الكتاب: ومن كَفَّر المجبرة والمشبِّهة، قَبِلَ أخبارَهم، وأجاز شهاداتهم على المسلمين وعلى بعض، وناكحوهم، وقبروهُم في مقابر المسلمين، وتوارثوا هُمْ والمسلِمُونَ (¬1). الطريق الثالثة: طريقُ المؤيَّد بالله عليه السلامُ، فإنه قال في كفار التأويل دَعْ عنك الفساقَ ما هذا لفظُه: فعلى هذا شهادتُهم جائزة عند أصحابنا. هكذا ثبت هذا اللفظ عنه في كتاب " اللمع " وكتاب " التقرير " وغيرهما أنَّه روى جواز الشهادة دَعْ عنك الرواية عنِ الكفار، دع عنك الفساقَ عن أصحابِنا بلفظ العموم من غير استثناء لأحد منهم، لا متقدِّمٍ ولا ¬
الطريق الرابعة: طريق السيد أبي طالب
متأخر. وقد تمسَّك السَّيِّد أيَّدَهُ اللهُ بمثل هذا في الإجماع، فروى في كتابه عن أبي طالب عليه السلامُ أنَّه قال: إلَّا أن المشهورَ والمعمولَ عليه عند أصحابنا ما يقتضيه أصولُه مِن المنع منه. قال السَّيِّد أيَّده الله: فقولُه " عند أصحابنا " لفظ عموم يقتضي حكايةَ إجماعهم هذا لفظ السَّيِّد في المسألة الأولى في وضع اليُمنى على اليُسرى، فقد احتججنا على السَّيِّد بما نَصَّ على أنَّه طريق إلى معرفة الإجماعِ وهذا غايةُ الإنصاف، ولم نُوافِقْه على ما ذكره إلاَّ وهو كما قال، لأنَ المؤيَّد عليه السلام لولا أنَّه لا يعلمُ فيه خلافاً بين أصحابنا، لقال: عندَ بعض أصحابنا، أو عند أكثرهم، أو عند كثير منهم، أو عند متأخريهم أو متقدميهم، لكنه عليه السلامُ ترك هذه العبارات التي تُفيد الاختلافَ، وعدل عنها إلى العبارة العامة المستغرقة المفيدة لاجتماعهم على قبولِ كفار التأويل، والواجبُ حمل كلام العلماء على ظاهره، لا سيّما وقد قال أخوه السيد أبو طالب عليه السلامُ ما لفظه: ومن يُجيزُ شهادَتهم يذهب إلى أن الإجماعَ قد حصل في قبول شهادتهم وخبرهم، ذكره في " اللمع " وغيره فهذه رواية من أبي طالب عن أخيه المؤيَّد بالله عليه السلامُ أنَّه يذهب إلى أن الإجماعَ قد حصل على قبولِ خبرهم وشهاداتهم، فبيَّنَ بهذا أن الظاهر من كلام المؤيَّد بالله عليه السلامُ أنَّه يذهب إلى أن الإِجماعَ قد حصل على قبولِ خبرهم وشهاداتهم، فتبيَّن بهذا أن الظاهرَ مِن كلام المؤيد بالله عليه السلام دعوى إجماعِ (¬1) العِترة، وهو حجة ظاهرة. الطريق الرابعة: طريقُ السَّيِّد الإمام أبي طالبِ عليه السلام، فإنه قال في كتاب " المجزىء " ما لفظُه: والذي يَعْتمِدُهُ الفقهاءُ في نصرة ¬
المذهب الأول -يعني قبولَ المتأولين- هو الرجوعُ إلى إتِّفاقِ الصحابة والتابعين على ذلك قالوا: لأن المعلومَ مِن حالهم أنهم كانوا يُراعون في قبول الحديث والشهادة الإِسلامَ الذي هو إظهارُ الشهادتين، والتنزّه عمَّا يُوجب الجرحَ، وُيسقِطُ العدالةَ من أفعالِ الجوارح دونَ أمر المذاهب، وأنهم كانوا مجمعينَ على التسوية بين الكل فيمن هذه حاله في قبول شهادته وحديثه مع العلْمِ باختلافهم في المذاهب، وهذه حكايةٌ من أبي طالب عليه السَّلامُ عن جميع الفقهاء أنَّهم ادَّعوا العلم بالإجماع. ولما فرغَ مِن الحكاية أرادَ عليه السَّلامُ أن يُحَرِّرَ دعواهم للإجماع بِأفْصحَ مِن عبارتهم، ويقَرِّرَ مَا رَوَوهُ بأوضح مِن دلالتهم، فقال عليه السلام ما لفظُه: وُيمكن أن يُزاد في نصرة هذه الطريقة أن يقال: إنَّه لا إشْكَال في حدوثِ الفسق في أواخر أيَّامِ الصحابة فيما يتعلَّق بالاعتقاد، كمذهب الخوارج، وفيما يتعلق بأفعال الخوارج كفعل (¬1) البُغاة، والمعلوم من أحوال جماعتهم أن شهادتَهم كانت تُقْبَلُ وأخبارُهم لا تُرَدُّ، ولو رد ذلك لكان ينقل الرد كما نُقِلَ سائرُ الأحوال المتعلقة بمنازعة بعضهم لبعض. ثم تكلَّم عليه السلامُ في ما يُجاب به، وما ينقض به تلك الأجوبة على منهاج أهل النظر والإنصافِ من غير تجريح على المخالف، ولا دعوى لِوضوح (¬2) دليله في المسألة حتَّى لا يخفى على أحدٍ، كما فعل السَّيِّد أيده الله، ولم يَرْضَ بعبارتهم في دعوى الإِجماع حتى هذَّبها، فأحسنَ تهذيبَها، وحرَّرها فأجاد تحريرَها، وختَمَ كلامَه في المسألة بأن قال: والمسألةُ محتمِلَةٌ للنظر. ولم يقل كما قال السَّيِّدُ -أيَّده الله-: إن المسألة قطعيةٌ، وإن الحق معه دون ¬
الطريق الخامسة: طريق القاضي زيد
غيره، وإن دليلَه لا يخفي على أحدٍ من العُقلاء. وسيأتي كلامُ أبي طالب عليه السلامُ الذي أورده في دعوى الإجماع. فإن قلْتَ: كيف تروي الإجماعَ مِن طريق أبي طالب، وهو متوقف في صحته؟ قلتُ: إنَّما قصدتُ التمسك برواية الإجماعِ عن الفقهاءِ من طريقه عليه السلامُ، فإنَّه قد روى عن الفقهاء بأسرهم أنَّهم رَوَوا الإجماعَ، وهو عليه السلامُ ثقة، والفقهاءُ ثقات أيضاًً. الطريق الخامسة: طريقُ القاضي زيد (¬1) رحمه الله تعالى، وذلك ما رواه الأمير الحسين بن محمد (¬2) رحمه الله في كتاب " التقرير " فإنَّه قال فيه ما لفظُه: وفي " الوافي ": لا بأسَ بشهادة أهلِ الأهواءِ إذا كان لا يرى أن يَشْهَدَ لموافقه بتصديقه وقبول يمينه تجريحاً. قال القاضي زيدٌ رحمه الله: وذلك لأنَّ الإجماعَ قد حَصَلَ على قبول خبرهم، فجاز أن تُقْبَلَ شهادتُهم، هذا كلامُ القاضي زيد رحمه الله وهو نظيرُ كلامِ المنصور بالله عليه السَّلامُ في " المهذَّب " في تخصيص دعوى الإِجماع بقبول الأخبارِ دونَ الشهادة، وقياس الشهادة عليها، وكثيرٌ مِن العلماء ادَّعى الإجماعَ على قبول الشهادة والأخبار معاً، كما هو بَيِّنٌ فيما نقلناه عنهم، وكلامُ القاضي زيد يَعُمُّ الكفارَ والفُسَّاقَ، فكيف وإنَّما ¬
الطريق السابعة: طريق الشيخ أبى الحسين محمد بن علي البصري
كلامُنا في هذه المسألة في الفساق فقط. الطريق السادسة: طريقُ الفقيه العلامة عبد الله بن زيد، فإنه قال: -وقد ذكر (¬1) فاسقَ التأويل وكافره- والمختارُ: أنه يُقبل خَبَرُهُما متى كانا عَدلَيْن في مذهبهما، وهو قولُ طائفة من العلماء، قال: والذي يَدُلُّ على صحة قولنا أن الصحابة أجمعت على ذلك، وإجماعُهم حجة. إلى قوله ما لفظه: يُبيِّنُ ذلك وُيوضحه أن من عرف الأخبارَ، وبحث عن السِّيَرِ والآثار، عَلِمَ أنهم أجمعوا على ذلك، ولهذا، فإنهم كانوا يقبلون الأخبارَ بينهم في حال الفتنة وبعدَها، ولا يُمَيِّزونَ بينَ ما وقع قبل الفتنة وبعدَها، وبذلك جرت عادة التابعين، فإنَّهم كانوا ينقلون الأخبارَ عن الصحابة من غير تمييز لما رُوِيَ قبل الفتنة وبعدَها. تم بلفظه من " الدرر المنظومة ". الطريق السابعة: طريق الشيخ أبي (¬2) الحسين محمد بن علي البصري، فإنَّه قال في كتاب " المعتمد " (¬3) بعد ذكر حجة من رَد خبر المتأولين ونقضِه لكلامهم، وجوابه عليهم إلى أن قال: وعند جُلِّ الفقهاء أن الفسقَ في الاعتقادات لا يمنع مِن قبول الحديثِ، لأن مَنْ تقدم قد قَبِلَ (¬4) بعضُهم حديثَ بعضٍ بعد الفُرْقَة، وقَبِلَ التابعون روايةَ الفريقين من السلف، ولأنَّ الظن يقوى بصدقِ مَنْ هذه سبيلُه إذا كان متحرجاً إلى قوله: وأما الكفر بتأويل، فذكر قاضي القضاة -أيَّده الله- أنَّه يمنع مِن قبول الحديث قال: لاتفاق الأمة على المنع مِن قبول خبر الكافر، قال: ¬
والفقهاءُ إنَّما قَبلُوا أخبارَ من هو كافر عندنا، لأنهم لم يعتقدوا فيه أنَّه كافر. قال أبو الحسين: والأولى أن يُقبل خبرُ من كفر أو فسق بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرِّجاً، لأن الظنَّ لصدقه غير زائل، وادعاؤه الإِجماعَ على نفي قبولِ خبرِ الكافر على الإطلاق لا يَصِحُّ، لأن كثيراً من أصحابِ الحديثِ يقبلون أخبار سلفنا رحمهم الله كالحسن (¬1) وقتادة (¬2) وعمرو (¬3) مع علمهم بمذهبهم وإكفارِهم مَنْ يقول بقولهم، وقد نصُّوا على ذلك. ¬
الطريق الثامنة: طريق الشيخ أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة
وقول أبي الحسين: " على الإِطلاق " يعني أنَّه لم يقيد ذلك الكفر المجمع على ردِّ صاحبه بالكفر المخرج عن المِلَّةِ. الطريق الثامنة: طريقُ الشيخ العلاّمة الحاكم أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى، فإنه قال في كتابه " شرح العيون " ما لفظُه: الفاسقُ مِن جهة التأويل يُقبل خبرُه عند جماعة الفقهاء وهو قولُ أبي القاسم البلخي، وقاضي القضاة، وأبي رشيد. وقال أبو علي وأبو هاشم: لا يُقبل، ووجهُ ذلك إجماعُ الصحابة والتابعين، لأن (¬1) الفتنة وقعت وهُمْ متنافرون وبعضُهم يُحدِّث عن بعض مع كونهم فِرَقاً وأحزاباً مِن غير نكير. يُوضِّحُهُ أَنَّهم مع كثرة الاختلاف والمقاتلة، وسفكِ الدماء وكانت الشهادات مقبولةً، فلم يَرُدَّ أحدٌ شهادةً لأجل مذهب مع معرفتهم بالمذاهب، وذلك إجماعٌ منهم على قبول الشهادة، كذلك الخبرُ، ويدل عليه أن علياً وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم اختلفوا وتقاتلُوا، ثم لم يَرُدَّ بعضُهم خبرَ بعض، ولم يَردُّوا خبرَ عبدِ الله بن عمرو يعني ابنَ العاص لِكونه مع معاوية، ولأنَّه مع تلك الاعتقادات مُتنَزَّهٌ عن الكذب وُيحرمه، بل ربما كَفَّرَ مَنْ كذب كالخوارج، فوجب أن يُقبل خبرهم، ولأن الخطأ بالتأويل يُزيل التهمة وتعمدَ الكذب بخلاف الفسق من جهة ارتكاب المحظورات مِن غير تأويل وهذا على ما روي عن بعضهم أنَّه سُئِلَ عن شهادة الخوارج، فقال: شهادة من يُكفر بكذبه أولى مِن شهادة من لا يرى ذلك، احتجُّوا بأن الفسقَ مِن جهة الفعلِ يُوجب رَدِّ الخبر، فَمِنْ جهة الاعتقاد أولى. ¬
الطريق التاسعة: ما ذكره صاحب " شفاء الأوام "
والجوابُ: أن مَنِ ارتكب محظورَ دينه لا يُفرق أن يكذب في خبره وشهادته بخلاف الاعتقاد، لأن تأويلَهُ يُزيل التُّهمة. فإن قيل: لو ارتكبه مع العلمِ، أثَّرَ في خبره، فمعَ الجهل أولى، لأنهما (¬1) معصيتان. قلنا: مع الجهل والتأويل رباطُ التمسك بالدِّيانة لم يَنْحَلَّ، فإذا أقدم مع العلم فقدِ انحلَّ، يُوضحه مَن استخفَّ بأبيه مع العلم لا يكونُ كمن استخفَّ وهو لا يعلم أنَّه أبوه، وكذلك مَنْ كشف عورتَه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعلمُه لا يكون (¬2) كمن كشف وهو يعلمُه، لأنَّه يكفر. إلى قوله: فأما الفتوى، فأبو القاسم جرى على أصله، وقال: يُقْبَلُ خبرُه وفتواه إذا كان مِن أهل الاجتهاد، والشيخان مرَّا على أصلهما، وقالا: لا يُقبل خبره ولا فتواه، والقاضي فرق بينهما. قلتُ: وكذلك الإمامُ يحيى بنُ حمزه، فإنه اختار في " المعيار " أنه يجوز قبولُ فتواهم مثلَ قول أبي القاسم البلخي. الطريق التاسعة: ما ذكره صاحبُ " شفاء الأوام " رحمه الله في كتاب الوصايا في باب ما يجوز من الوصية وما لا يجوز، فإنه قال فيه ما لفظه: وقولُنا إنَّ الوصية لا تجوزُ إلى الفاسقِ يُريدُ الفاسقَ المجاهر، فأما الفاسق مِن جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءَته في النكاح كما تقدم، ويُقبل خبرُه الذي يجعله أصلاً للأحكام الشرعية لإجماعِ الصحابة رضي الله عنهم على قبولِ أخبار البغاة على أميرِ المؤمنين عليه السلام، وإجماعُهم ¬
الطريق العاشرة: طريق أحمد بن محمد الرصاص
حجة. انتهي بحروفه (¬1). الطريق العاشرة: طريق الشيخ أحمد بن محمد الرصاص، فإنَّه قال في " الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ الزيدية في هذه الأعصار ما لفظه: واختلفُوا في قبول الفاسق مِن جهة التأويل، فذهب الفقهاءُ بأسرهم أنَّه يُقْبَل خبرُه، وهو قولُ القاضي، وأبي رشيد. إلى أن قال: وجه ما قاله الفقهاء إجماعُ الصحابة على قبولِ خبر الفاسق المتأوِّل، فإن الفتنة لما وقعت في الصحابة، ودارت رحاها، وشبَّت لظاها، كان بعضُهم يُحَدِّثُ عن بعض، وُيسندُ الرجل إلى من يخالفه كما يُسندُ إلى من يُوالفه من غير نكير من بعضهم على بعض في ذلك، فكان إجماعاً إلى أن قال: ولأن من يقول: من كذب كفر، أولى بالقبول ممَّن لا يرى ذلك وإن كان مخطئاً في قوله هذا، لأنَّه يَبْعُدُ الظن لكذبه (¬2)، ويقرب صدقه ... إلى أن (¬3) قال: ويجيء عليه رواية كافر التأويل كالجبري وهو اختيار أبي الحسين. الطريقُ الحادية عشرة والثاثية عشرة: طريقا الشيخين أبي محمد الحسن بن محمد بن الحسن الرصاص (¬4)، والشيخ أبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب. ¬
فأمَّا طريقُ الشيخ الحسن، فذلك ما نقله عنه حفيده الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن في كتاب " غرر الحقائق من مسائل الفائق ". قال الشيخ أحمد في كتابه " الغرر " المنتزع مِن كتاب " الفائق " ما لفظه: حكى رضي الله عنه قبولَه عن الفقهاء، والقاضي أبي رشيد إلا أن يُعْلَمَ أنَّه ممن يستجيزُ الكذبَ كالخطابية، وهو الذي مالَ إليه أبو الحسين البصري وأجراه والكافرَ المتأوِّلَ مجرىً واحداً، وهو الظاهرُ مِن قول الفقهاء، واحتجاجُ الكُلِّ على قبول خبرِ الفاسق المتأول قائمٌ في الكافر المتأول وإن لم يُصرح به في الكتاب .. إلى قوله: وجهُ القولِ الأول إجماعُ الصحابة على قبوله، وإجماعهم حجة، أما أنهم أجمعوا، فذلك معلوم من ظاهر أحوالهم لِمَنْ تصفح أخبارَهم، واقتصَّ آثارَهم، وذلك أنَّ الفتنة لما وقعت فيهم، وتفرَّقوا فرقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهي الأمرُ بينهم إلى القتل والقتال، كان (¬1) بعضهم يروي عن بعض مِن غير مناكرة بينهم في ذلك. وساق مثلَ كلام المنصورِ بالله عليه السلامُ، وقال كما قال المنصور: وإذا كان الأمرُ كما ترى، فإن مَنْ يقول: من كذب، كفر، أولى مِن رواية من يقول: من كذب، فسق. إلى آخر كلام المنصور المتقدم. ثم أورد حُجَحَ الرَّادِّينَ وأجابها ونقضها، وأطال الكلامَ في ذلك. فهذه رواية الشيخ أحمد عن جده. وأما روايةُ ابنِ الحاجب، فهي معروفة في " المنتهي " (¬2) وقد أوردها السَّيِّدُ في كتابه، لكن ابن الحاجب رواها عمَّن يقبلُ المتأولين، ثم ¬
الوجه الثاني: مما يدل على صحة دعوى الإجماع
اعترضها، وقد مَرَّ جوابُ اعتراضه. الوجه الثاني: مما يدل على صِحة دعوى الإجماعِ هذه أنَّها دعوى صدرت مع القرائن الشاهدة بصدقها، وقد ذكر العلماءُ أن خبرَ الواحد مع القرائن يُفيدُ العلم، فكيف بخبر الجمِّ الغفيرِ من الأئمة الأعلامِ، وجميعِ فقهاء الإسلام إذا انضمَّ إلى القرائن العظيمة. فإن قلتَ: وما تلك القرائنُ؟ قلتُ: اشتهارُ الرواية عن المتأولين قديِماً وحديثاً مع الموافق والمخالف من غير نكير، أما قديماً، ففي عصر الصحابة وهذا هو الإجماعُ الذي ادَّعاه هؤلاء الثقاتُ، وقد مَرَّ تقريرُه، وأما حديثاً -وهو الذي أردنا تأكيدَ ذلك الإجماع به- فإنَّ الناسَ ما زالوا يقرؤون كتبَ المخالفين، ويروون منها (¬1) في شرق الأرضِ وغربها (¬2)، فالزيديةُ يروون عن المخالفين في تصانيفهم، ويدرسون كتبَ المخالفين في مدارسهم، ألا ترى أن المعتمد في الحديث في التحليل والتحريم في كتب الزيدية هو " أصولُ الأحكام " (¬3) للإمام المتوكِّل على الله أحمد بن سليمان (¬4) عليه ¬
السلام وقد ذكر في خطبته أنَّه نقل فيهِ من كتاب البخاري، وكتاب المزني، وكتاب الطحاوي ولم يُبين فيه ما نقله في هذه الكتب عمَّا نقله عن غيرها، وعلماءُ الزيدية وأئمتُهم معتمدون في التحليل والتحريم على الرجوع إلى هذا الكتاب منذ سنين كثيرةٍ، وقرونٍ عديدة، وكذلك " شفاءُ الأوام " صرَّح فيه بالنقل عنهم في غيرِ موضع، وكذلك محمد بن منصور الكوفي مصنف كتاب " علوم آل محمد " الذي يُعرف " بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد " فنقل عنهم، وفيه مِن ذلك شيء كثير، لأنَّه يُسند، وفيه روايتُه عن البخاري نفسِه وصاحب " أصول الأحكام " وصاحب " شفاء الأوام " ينقلان عنه، بل هو مادتُهما وعُمْدَتُهما، والزيدية مطبقون على الأخذ منها، وكذلك " الكشافُ " فإن صاحبَه رحمه الله ممن يستحِلُّ النقلَ عنهم في " كشافه " ولا يُعلم في الزيدية من يتحرى عن النقل عن " الكشاف " وكذلك الحاكمُ (¬1) قد صرَّح بجواز النقلِ عنهم، واحتجَّ على ذلك بالإجماع، والزيدية مطبقون على الرجوع إلى كتبه مثل تفسيره " التهذيب "، وكتاب (¬2) " السفينة " وغيرهما، وكذلك المؤيد بالله، والمنصورُ بالله قد صرَّحا بجوازِ الرواية عنهم، ولا يُوجد في الزيدية من لا يقبلُ مرسلَ المؤيَّدِ والمنصور لجواز أن يكونا استندا في الرواية إليهم. فهذا في كتب الحديث والتفسير. وأما كتبُ الأصول، فالزيدية معتمدون فيها على كتاب أبي الحسين (¬3) مع أنَّه يقبل فساقَ التأويلِ وكُفَّارَة، وعلى كلام الحاكم في ¬
أصول الفقه، ومُعتَمَدُهم في هذه الأزمان الأخيرة كتابُ الشيخ أحمد " الجوهرة " (¬1) مع شهرة بغيه على الإِمام الشهيد أحمد بن الحسين، وكتاب " منتهي السول " لأبي عمرو بن الحاجب، فإنه معتمد عليه في هذه الأعصارِ في بلاد الزيدية. وكتبُ الأصولِ، وإن كانت نظريةً، فإن فيها آثاراً كثيرة لا بُدَّ فيها من عدالة الرواةِ، وكذلك ما يتعلق برواية الإجماع الآحادي والألفاظ اللغوية. وأما كتبُ القراءات فما زال الناس معتمدين على كتاب " الشاطبية " (¬2) آخذين بما وجدوا فيها ممَّا ليس بمتواترٍ. وأما كتبُ العربية، فلم يزل النحاة من الزيدية يقرؤون مقدمة طاهر وشرحه، وكذلك كتبُ ابن الحاجب في النحو والتصريف (¬3) مع ما اشتملت عليه من رواية ¬
اللغة والإعراب. وأما المعاني والبيان، فالمعتمدُ عليه في هذه الأزمان الأخيرة كتاب " التلخيص " (¬1) في ديار الزيدية " وغيرها وهو من رواية الأشعرية. وبعدُ، فهذه خزائنُ الأئمة مشحونة بكتب المخالفين في الحديث والفقه والتفسير والسِّيرِ والتواريخ، مشيرة إلى نقلهم عنها، واستنادهم إليها، فمنهم مصرحٌ بذلك في مصنفاته، وتكرر منه كالمنصور بالله عليه السلام، والسيد أبي طالب، والمؤيَّد باللهِ، فإنَّ أبا طالب يروي في " أماليه " عن شيخه في الحديثِ الحافظِ الكبير أبي أحمد عبدِ الله بن عدي (¬2) يُعرف بابن عدي وبابنِ القطان أيضاًً وهو صاحبُ كتاب " الكامل " في الجرح والتعديل، وأحد أئمة الحديث في الاعتقاد والانتقاد، وتراه إذا روى عنه، وصفه بالحافظ دونَ غيره، ومِنْ طريقه روى حديثَ النعمان بن بشير في الحلال والحرام والمتشابه (¬3) وهو الحديث الجليل الذي وصف ¬
بأنه ربع الإسلام مع أن النعمان من أشهر البُغاة على أمير المؤمنين وأهلِ بيته عليهم السلام، وكذا حديث " إنَّ هذا العِلْمَ دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينَكم " (¬1)، وكذلك شيخُ المؤيَّدِ بالله (¬2) في الحديث هو الحافظُ الكبير محمد بن إبراهيم الشهير بابن المقرىء (¬3) وعامةُ رواية المؤيَّد بالله للحديث في " شرح التجريد " عنه عن الطحاوي الحنفي، وكذلك أبو العباس الحسني قد روى عن إمامِ المحدثين وابن (¬4) إمامهم صاحب " الجرح والتعديل " عبد الرحمان بن أبي حاتم (¬5) عن داود الثقفي (¬6) هو ابن يزيد أحد المجاهيل عن أبي داود الطيالسي أحد أئمة الحديث على كثرة أوهامه (¬7) عن ¬
سهل بن شعيب، عن عبد الأعلى، عن نوفٍ هو البكالي ابن امرأة كعب (¬1). وخرَّجه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام بحديثه الطويل، وخرجه أبو عبد الله السَّيِّد الجرجاني من طريق أبي داود الطيالسي عن سهل بن شعيب به. وأما أحمد بن عيسى بن زيد، فعامة حديثه في " أماليه " عن حسين ابن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد، فإن كان حسين بن علوان هو الكلبي -وهو الظاهر- فهو متكلم عليه كثيراً (¬2)، وكذلك أبو خالد. وأما السَّيِّد أبو عبد الله الجرجاني، فروى عن محمد بن عمر الجِعابي (¬3) من غير واسطة، وعن الطيالسي بواسطة كما مر في حديث نوف البكالي وهو كثيرُ التسامح في الراوية حتى إنَّه روى في " سلوة العارفين " عن أبي الدنيا (¬4) الأشج المشهور بالكذب على أمير المؤمنين فإنه ¬
ادعى بعد ثلاث مئة سنة أنَّه من أصحابه، وروى عن شيخين عنه. وروى المؤيَّدُ بالله في " أماليه " عن شيخ، عن عبد السلام عبد الله بن محمد النحوي أحد أئمة السنة، وروى فيها عن شيخين عن يَغْنَمَ (¬1) بن سالم بن قنبر وضُعّف بل كذبه الأكثرُ، وما وثقه أحد، ومن طريقه روى حديث ركعتي الفرقان. ودع عنك الأئمةَ المتأخرين كثيراً، فإنَّ قدماء الأئمة (¬2) ما رَوَوْا إلا عن رجالِ الفقهاء غالباً، فعامةُ أسانيد القاسم عليه السلام في كتاب " الأحكام " تدور على الأخوين إسماعيل وعبد الحميد أبي (¬3) بكر ابني ¬
عبد الله بن أبي أويس عن حسين بن عبد الله (¬1) بن ضميرة بن أبي ضميرة (¬2) عن أبيه عن جده. وعامة رواية أحمد بن عيسى بن زيد عن حسين بن علوان هو الكلبي، عن أبي خالد الواسطي. وعامة أسانيد الهادي في " الأحكام " عن أبيه عن جده عمن تقدم في ¬
أسانيد القاسم وربما روى عن (¬1) .... وعن أبي الزبير (¬2) عن جابر، وعن عمرو بنِ شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه (¬3) كُلُّه في " المنتخب "، وروى في ¬
" المنتخب " (¬1) عن أبي بكر بن أبي شيبة (¬2)، وعن عبد الرزاق اليماني (¬3)، ¬
وعن كادح بن جعفر (¬1)، وعن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس (¬2) حديث الجمع في السفر. وروى المؤيَّد بالله في " الأمالي " عن النقاش (¬3)، عن الناصر الحسنِ بنِ علي، عن محمدِ بنِ منصور، عن الحكمِ، عن سُليمان، عن عمرو بنِ حفص، عن أبي غالب، عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً في فضل الوضوء، وذكر الدعاء فيه حتى قال في آخره: ثم مسح قدميه، فقال: اللَّهُمَّ ثَبّتْ قَدَمَيَّ على الصِّرَاطِ. وروى أبو طالب في " أماليه " عن الناصر، عن الكلبي منقطعاً في موضعين. ويُسند عن الناصر، عن عباد بن يعقوب، عن إبراهيم بنِ أبي يحيى (¬4) يعني شيخ الشافعي المتكلم فيه حديثين حديثاً في وعيدِ مدمن ¬
الخمرِ، وحديثاً في حكم آخر. وكذلك عامةُ أسانيدهم متى ذكروها لم يذكروا إلا رجال العامة من الثقات والضعفاء ولا أعلمهم سلسلوا إسناداً بأهل البيت في الحلال والحرام لا يخلطهم أحدٌ من الفقهاء إلاَّ النادرَ الذي لا يُجتزأ به وتأمَّل ذلك، وذلك يقتضي أن مرسلَهم كذلك، إذ لا يُظن أنهم يُسقطونَ مِن سندهم أصحَّ الأسانيد، ولا يُظن ذلك بعاقل دائماً. ومنهم من صرَّحَ بجواز الأخذ عنهم، ولم يُصرِّحْ بالنقل عنهم مشافهةً وإن أسند إلى من يُسند إليهم كالهادي عليه السلام. ومنهم مَنْ يرى ذلك ويعلمه، ولا ينهي عنه ولا يُنْكِرُه. والسيد -أيده الله تعالى- ممن شَدَّدَ في المنع من قبولهم، وغلا في ذلك غلواً منكراً حتى ادَّعى أنَّه حرام على جهة القطع بحيث لا يُعذر مَنْ قبلهم، وإن اجتهد وبذل (¬1) الوُسع في معرفة الصواب، هذا مع أن السيد -أيده الله- مِنْ أكثرِ الناس روايةً عنهم، واعتماداً على كتبهم، فهو في الحديث يقرأ كتبَهم التي حرم النقلَ عنها، واستدل على أنَّه لا طريقَ إلى صحتها، وزاد على الناس المنع عن عاريتها من الثقات صيانةً لصحتها من تجويز التغيير المستبعد، وهو في تفسيره ناقل مِن تفاسيرهم، راجع إلى تصانيفهم، ولشدة تولُّعِهِ بذلك وحِرْصِه عليه اختصر من " مفاتح الغيب " للرازي تفسيراً للقرآن العظيم، ثم ادخله في تفسيره " تجريد الكشاف "، مع زيادةِ نكت لطاف، وكذلك أدخل تفاسيرَ ابنِ الجوزي الحنبلي (¬2) وغيرِه من ¬
المخالفين في الاعتقاد مع أنَّه قد قرر في كتابه أن الرازي من كفارِ التصريح دعَ عنك التأويلَ. فهذا من أعظم دليل على أن السَّيِّد سلك في كتابه مسلكَ التعنت والتشديد، وقال بما لم يَعْمَلْ به، فإن كان يعتقد أن الرازي كما قال، فكان ينبغي أن يختصِرَ من تفاسير الباطنية تفسيراً للقرآن العظيم، وأن ينقل خلافَهم في تفسيره كما نقل أقوالَ الأشعرية، وكذلك كان ينبغي أن ينقل خلافَهم في الفقه والفرائض، وقولهم: إن للأنثى مثلَ حظ الذكر. وإن كان لا يعتقد ما قرَّره في كتابه من نسبته للرازي إلى الكفر الصريح، فما ينبغي منه أن يقول ما لا يَعْتَقِدُ، وينهي عما هو عليه معتمد، وإن كان إنما اختصر كتابَ الرازي لغرض غيرِ هذا فكان ينبغي منه أن يُنبه (¬1) لئلا يغترَّ بذلك مَنْ يراه من المسلمين، فإنه -أيده الله- في محل القدوة، لأنَّه شيبةُ العِترة في هذا الزمان، وكبيرُ علمائهم المتصدر للتعليم (¬2) في هذه الديار. وأما كتُبهم في العربية وغيرها، فالسيد لا يزال مُكِبَّاً عليها ملقياً لها كـ " الحاجبية " وشروحها وهو من جملة من شرحها، وكتاب " التذييل والتكميل في شرح التسهيل " لأبي حيان (¬3)، وكتاب " التلخيص "، ¬
وكتاب " المنتهى " وشروحه، وكتاب " الجوهرة " وغير ذلك، فدل ذلك على صحة إجماع الأمة على الاعتماد على كتب المخالفين مِن الموافق على قبولهم والمخالف. ولم نذكر فعل السَّيِّد للاحتجاج به في الإجماع، فإنَّه لا يصح الاحتجاج بفعلِ منْ صرح بما يُخالف فعله، وإنما يحتج بالفعل إذا لم يُناقضه القولُ كأفعال الأئمة عليهم السلام، وسائِرِ العلماء الأعلام، ولم نذكر فعله في ذلك لبيان المناقضة بين فعله وقوله. وإنما أحببنا أن نُريه حاجةَ الجميع إلى الرواية عن المتأولين، وأن كلاًّ معتمد عليها محتاج (¬1) إليها، ألا ترى أنها في خزائن أئمة الزيدية وعلمائهم وعليها خطوطُهم بالسماع أو الإجازة أو (¬2) نحو ذلك، ومن ملك شيئاً منها منهم، اغتبط به، وصانه، وحَفِظَه، وربما سمعه، كما سمعها المنصورُ بالله عبد الله بن حمزة، وذكر أسانيدَه فيها في كتابه " الشافعي "، وسمعها الإمامُ الناصر محمد بن الإمام المهدي عليهما السلام، والمصنفون من الزيدية ينقلون منها كالمتوكل في " أصول الأحكام " والأمير الحسين في " شفاء الأوام " و" سنن أبي داود " (¬3) كانت ¬
عمدةَ الإمامِ يحيى بنِ حمزة وأمر مَن سمعها له، وهي نسخةٌ مسموعة بعناية الإمام المهدي محمد بن المطهر، وهي في خزانة كتبه مما وقفه لله تعالى، وفيها كان سماعي. وكان اللائقُ على كلامك ودعواك على أهل البيت أَن يشتهِرَ في بلادهم وممالكهم تحريقُ هذه الكتب، والضرب الشديد والتعزير لمن قرأ فيها، وإظهار أنها إنما تترك في الخزائن ليعلم كفرُ ¬
الفائدة الثانية: في ذكر ما اعترض به على الإجماع
أهلها وكفرُ من صَدّق ما فيها كما يكون ذلك في حفظ بعض كتب الباطنية خذلهم اللهُ تعالى، وسيأتي مزيدُ بيانٍ لهذا عند ذكر المرجحات لذكر ما ورد في كتب الحديث مما يجب تأويلُه، ويُمكِنُ، إن شاء الله تعالى. الفائدة الثانية: في ذكر ما اعترض به على الإجماع والجوابِ عنه وقد تقدم ذلك حيث أورده السيد، ونزيد ها هنا بيانَ كيفية اختلاف العلماء في نقل الإجماعِ على قبول فاسق التأويل. واعلم أن العلماء على ضربين: منهم مَنِ ادَّعى العلم بالإجماع على ذلك، ورواه كما قدمنا ذكره، ومنهم منْ شَكَّ في ثبوته وتوقَّفَ، وليس منهم من ادَّعى العلمَ ببطلان الإجماع، ولا فيهم منْ روى عن أحد من الصحابة القول بتحريم قبولِ الفاسق المتأول، وهذا ظاهر في كلامات العلماء. قال السَّيِّد أبو طالب رضي الله عنه في كتاب " المجزىء " في الاعتراض على من احتجَّ بدعوى الإجماع في هذه المسألة ما لفظه: واعلم أنَّ ما احتج به جمهورُ الفقهاء من الإجماع (¬1) وإطباقِ الصحابة والتابعين عليه إن كان صحيحاً، فاتباعُهُ واجب، ويكون الصحيحُ هو المذهبُ الأول دونَ الثاني، لأن طريقَ إثبات المذهب الثاني قياسٌ، فإذا اقتضى الإجماعُ خلافَه، وجب اتباعُه، والعدولُ عما أوجبه القياسُ، والذي يُمكِنُ أن يقدم به في ما ادَّعَوْه من الإجماعِ أن يقالَ: مِن أين أنَّ كُلَّ العلماءِ مِن الصحابة والتابعين رأوا قبولَ شهادة الفساق من طريق التأويل وحديثهم، وبماذا عَلِمْتُم إطباقهم على ذلك؟ ¬
ومما يُمكن أن يُجابَ به عن هذا هو أن يقال: قد علمنا (¬1) أن في آخرِ أيام الصحابة حدثت مذاهبُ وأفعال أوجبت الفسقَ عند كثيرٍ منهم، كمذاهب الخوارج، وحروبِ مَنْ حارب من البغاة، ولم يُنْقلْ أن أحداً ردَّ شهادة هؤلاء وحديثهم، ولو وقع الرَّدُّ، لنقل حتى قال عليه السلام في الرد على ما ادَّعي من الإجماع: إنَّا لا نعلم قبول الكل منهم لشهادة هؤلاء وحديثهم، والمسألة محتملة للنظر. انتهي كلامه عليه السلام. وهو ظاهر في أنَّه لم يدفع دعوى الإجماعِ بالعلم ببطلانها بل بين أنظاراً عرضت له أوجبت القدح في العلم بصحة دعوى الإجماع، ولم يُوجب العلم ببطلان دعوى الإجماع، ولهذا قال: إن كان دعوى الإجماع صحيحاً، فاتباعُه واجب، وليس يقول هكذا، وهو يعلم أن الإجماع باطل، وأوضح من هذا قولُه في آخر الكلام: والمسألة محتملة للنظر. وهو ظاهر في المقصود، ويقوي ذلك أنَّه عليه السلام قد روى عنهم في كتابه " الأمالي " وهذا أمارة مقوية (¬2) لا حُجَّةٌ مستقلة. فإذا ثبت هذا، لم يكن في كلام أبي طالب عليه السلامُ اعتراضٌ قادح على من ادَّعى العلم بالإجمْاع من الأئمة عليهم السلامُ، فإن العلمَ فعلُ الله تعالى، وقد يخلقه للبعض دون البعض فيما لا يجب التسويةُ فيه من علوم العقل الضرورية التي يجب أن يشتركَ فيها جميعُ المكلفين، وقد ثبت أن الراوي الجازمَ القاطعَ المدعيَ للعلم بصحة ما روى مقبولٌ متى كان ثقة عدلاً في دينه، وثبت أن روايته لا تُعارض بشك من شَكَّ من العدول في صحة ما روى، وإنما تُعارض بخبر مَنْ هو مثلُه في العدالة متى أخبر أنه يعلم بطلانَ خبره، وتعارض الخبران. ومثال (¬3) ذلك: لو قال قائل: ¬
إن هذا الشاهد هو فلان بنُ فلان الثقة المشهورُ أعرفه، ولا أشكُّ فيه، وقال آخر: أما أنا، فعندي شكٌّ في هذا، ولا أتحقق أنَّه هذا الذي ذكريت، فإنَّه يعمل على قول مَن علم، وبترك قول مَنْ شكَّ وهذا ظاهر عند أهل العلم، وكذا في غير هذه الصورة من سائر (¬1) المسائل، كما لو أخبر ثقةٌ بنجاسة هذا الماء أو طهارتِهِ، وشك آخرُ، فالعمل على قول مَنْ أخبر عن العلم واليقين دونَ من شك وتردَّدَ. وكذلك الإجماعُ قد ادَّعى المنصورُ، ويحيى بنُ حمزة عليهما السلام، وكذلك المؤيَّدُ بالله عليه السلام، والقاضي زيد، وعبدُ الله بن زيد، والفقهاء بأسرهم ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ والإحصاءُ مِن الأصوليين وسائر علماء الطوائف أنَّهم علموا إجماعَ الصحابة والتابعين على قبولِ الفاسق المتأول، وجزموا بالقولِ في ذلك، وقطعوا على حصولِ العلم لهم بهذا الإجماعِ، وأحالوا العلمَ بذلك إلى الاطلاع على التواريخ، وأخبارِ الصحابة كما أشار إليه المنصورُ بالله عليه السلام، وهؤلاء جَمٌّ غفير، وعددٌ كثيرٌ من أهل الفضل والتقوى والورع الشحيح فيما يصدر عنهم من الرواية والفتوى، فخبرهم يُفيدُ العلمَ القاطع، أو الظَّّنَّ الراجح، ومن تمسَّك بروايتهم، واعتمد على تصديقهم، واستند إلى خبرهم، لم يستحق الإنكارَ والتشنيع، ويعترض عليه بأن غيرَهم من الأئمة العلماء شكَّ في دعوى الإجماع، وأورد أسئلة تقطع في طريقهم، فإن لهم أن يُجيبوا بأنَّ العلم يحْصُلُ عند كثرة المطالعة لأخبار الصحابة، والإحاطة بأحوالهم، ولا شَكَّ أن أحوال الناس تخْتَلِفُ في ذلك، وقد يكون بعض أهلِ العلم أكثرَ إطلاعاً مِن بعض في بعضِ المسائل، فيَحْصُلُ له العلمُ ¬
دونَ غيره، فيكون المدعي للعلم صادقاً، والمدعي للشك صادقاً، وكُلُّ أحدٍ أخبر بما يَعْلَمُ مِن نفسه، ولا يُكذّب هذا ولا هذا، كما لو روى هذا خبراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أنَّه يعلمه، وأخبر غيرُه أنَّه لا يعلمه، صدقناهما معاً. فقد تبيَّنَ لك بهذا أنا متى قبلنا روايةَ الأئمة: المؤيَّد، والمنصور، ويحيى بنِ حمزة عليهم السلام، وسائرِ من (¬1) روى ذلك مِن عيون أهل العلم، فقد جمعنا بينَ قبول كلامهم، وقبولِ كلام أبي طالب عليه السلام، وأما لو عملنا على (¬2) أن كلام أبي طالب مُقَدَّمٌ على روايتهم، لكنا قد نسبنا إليهم ما لا يليق بهم مِن القول بغيرِ علم، والرواية من غير تثبث، وذلك لا يجوز، مع أنَّا سلَّمنا أن أحداً مِن العدول عارض روايتهم معارضةً صريحة (¬3)، وادعى العلمَ ببطلان الإجماع، لكان لنا أن نُرَجِّحَ روايتهم بوجوه: أحَدُهَا: كثرتُهُم، فقد ثبت دعوى الإجماع عن الأئمة والعلماء المذكورين، وعن جميع العِصابة العظمى مِن فقهاء الطوائف مع كثرتهم وسَعةِ علمهم، وكثرةِ اطَّلاعهم، فإن هؤلاء الذين ادَّعَوا الإجماعَ مِن أكثرِ العلماء معرفةً بأحوال الصحابة. وثالثها (¬4): أنهم مُثْبِتُون، والمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النافي للإجماع إلا أن يُثبت خلافاً معيناً عن بعضِ أهل الإجماع وذلك لم يكن، فقد روينا نصَّ ¬
الفائدة الثالثة في الإشارة إلى شهرة الخلاف في هذه المسألة
أبي طالب عليه السلام على أنَّه لم يَنْقلْ أن أحداً من الصحابة رَدَّ شهادةَ المتأولين ولا حديثهم، ولم يقعِ النزاعُ في أن ذلك نقل، فعدمُ النقل مما لا نزاع فيه. الفائدة الثالثة: في الإِشارةِ إلى شهرةِ الخلاف في هذه المسألة مِن غير نكير ولا تأثيم، فذلك كثيرٌ شهير لا يُمْكِنُ أن يذكر منه إلا اليسير، لأن أكثر المصنفين في الأصول والفروعِ من أهل الكتب الحافلة، والتواليف الممتعة مِن المتقدمين والمتأخرين لا يذكرون هذه المسألة إلا ويذكرون اختلافَ الخَلف فيها، وكثيرٌ منهم يذكر إجماعَ السلف على القبول للمتأولين كما قدمنا. فإذا عَرَفْتَ أن الخلافَ واسع، فاعلم أنا لا نتعرَّضُ للاستقصاء في ذكر كلام الأئمة والعلماء في ذلك، وإنما نُشير إلى طرفٍ يسير من الخلاف المشهور المذكور في الكتب المتداولة المعروفة عند كثيرٍ من المبتدئين في طلب العلم، وإنما نذكرُه، لأن السَّيِّد أعرض عن ذكره مع التعرض لحكاية الخلاف في الطرفين في المسألة، فلم يذكر السَّيِّد عن أحد من العِترة عليهم السلامُ أنَّه يَقْبَلُ خبرَ المتأولين إلا عن المؤيَّدِ بالله عليه السلامُ كأنَّه لا يعرف هذا القول منسوباً إلى غيره، وما هذا عمل المنصف، ففي كتاب " اللمع " الذي لا يزال السَّيِّد مشتغلاً بدرسه ما لفظه: وفي تعليق الإفادة: ومن بلغ إلى حدِّ الكفر والفسق وكان متأوِّلاً فالعلماءُ مختلفون فيه، والأظهرُ عند أصحابنا أن شهادتَه جائزة، وهو قولُ أبي حنيفة وأصحابِه والشافعي، وعند أبي علي، وأبي هاشم لا تُقبل شهادته، وهذا كالخوارج والمجبرة. قلتُ: قد قدمنا أن هذه رواية من المؤَّيد عن جميع أهل المذهب من أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم أن الأظهرَ عندهم قبولُ كافر التأويل. قال
في " اللمع ": لنا أنَّه لم يرتكب محظوراتِ دينه، فجاز قبولُ شهادته كما إذا كان صحيحَ الاعتقاد، ومن هذه سبيلُه إذا تاب في الحال، يجوزُ قبولُ شهادته، ولا يجب الاستمرارُ، وإنما الخلاف: هل (¬1) تقبلُ شهادتُه قبل التوبة أم لا؟ وفي شرح أبي مضر: قال م بالله في الإِفادة: مَنْ لم يبلغ في الاعتقاد الكفر أو الفسق، فشهادتهُ جائزة، ومن بلغ إلى هذا الحد -وكان متأوِّلاً- فأكثرُ العلماء مختلفون فيه، فالأظهرُ عند أصحابنا أن شهادتَهَ جائزة إلى آخره، فعلى هذا شهادةُ المجبرة والمشبهة يجب أن تكونَ مقبولة عنده قَدَّس الله روحه، وكذلك عند القاسم، ويحيى عليهما السلامُ يدل على أن الجبرَ والتشبيه من جهة التأويلِ والتدين يُوجب (¬2) قبولَ شهادتهم، لأنَّه مِن أهل القبلة والشهادة وأهل الكتاب والتَّبَرِّي من الأديان ما عدا (¬3) دينَ الإسلام، وهذه الأشياء أمارة العدالة من جهة الظاهر، فلا يمنعُ مِن قبول الشهادة. فإن قيل: من قال بكفرهم من أصحابنا قال: إنهم كالمرتدين، وقد ثبت أن المرتد لا تُقبل شهادته. قلنا: المرادُ به في بعض الأحكام لا على الإطلاق في جميعِ الأحكام والأحوال. قال السَّيِّد أبو طالب: وأما شهادةُ أهلِ الأهواء من البُغاة والخوارج، فإنَّ جوازَ شهادتهم لا يمتنعُ أن يُخرج على اعتباره عليه السلام أن تكونَ الملةُ واحدة، لأن هؤلاء كُلَّهُمْ مِن أهل ملة الإسلام، قال: ويُمْكِن أن يخرج من مذهبه عليه السلام أن شهادَتَهم لا تجوز، لأنَّه نصَّ في " الأحكام " على أن مَنْ نَكَثَ بيعةَ إمام زمانه، طُرِحَتْ شهادتُهُ، وهذا ¬
سبيلُ الخوارج والبغاة، ومن يُجيز شهادتهم يذهب إِلى أن الإجماعَ قد حصل في قبول شهادتهم وخبرهم. قال المؤيَّدُ بالله: من أنكر إمامَه، طُرِحَتْ شهادتُهُ إذا كان لا يقول بإمامته لأجل الفسوق والتهتك، لا لأجل النظر في أمره، والتفكر في أحواله. وقال المؤيَّدُ مرة: لعلَّه قال ذلك اجتهاداً، ولكنه يضعف عندي إذا كان مستقيمَ الطريقة في سائر أحواله، فإن عُرِفَ منه الفسوقُ بما يقوله، فإني لا أقبلُها. انتهي كلام الأمير في " اللمع " رحمه الله تعالى. قال القاضي شرف الدين في شرحه للزيادات: معنى قولِه: لعله قال ذلك اجتهاداً، أي: استحساناً، لأن المعلوم أن جميع أقواله اجتهاد. ومثلُهُ قال الفقيهُ علي بن يحيى في تعليقه: قال مِن غير دليل معيّن. قلت: قد قال المؤيَّدُ بالله في " الزيادات ": والقولُ بالاستحسان قوي عندي، ولكن ما هذا يَدُلُّ على أن الاستحسانَ هو الاجتهادُ، بل هو بعضُ طرقِ الاجتهاد، ويمكن أن المؤيَّدَ بالله عليه السلامُ أراد أنَّه قال ذلك بالاجتهاد المستند إلى غيرِ النصوصِ الصريحة والله أعلم. وقال القاضي شرفُ الدين رحمه الله في " تذكرته " ما لفظه: وأما كفارُ التأويل، كمشبِّه ومجسِّم، فتُقبل على كل أحدٍ، كخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد قولي المؤيَّد بالله وتحصيله، والأكثر، والثاني والناصر، وأبو علي، وأبو هاشم، ورواية أبي جعفر للهادي: لا تَصِحَّانِ، وكذا فاسقُ التأويل كخارجي وباغ غير الخطابية، ومن لم يبلغ خطؤه كفراً أو فسقاً،
كمخالف في العوض وإلإرجاء، وتفضيل النبي على الملك، والإمامة مع العدالة في الكل، وفي كتاب مختصر لبعض الخصوم (¬1) ما لفظه: ولا تَصِحُّ يعني الشهادة منْ أخرسٍ وصبي مطلقاًً، وكافرٍ تصريحاً إلا ملياً على مثلهِ، وفاسق جارحة وإن تاب إلا بعدَ سنة، وفيه ما لفظه: وكُلُّ فعلٍ أو (¬2) تركٍ محرمين في اعتقاد الفاعلِ التارك لا يُتسامح بمثلهما؛ وقعا جُرْأةً، فجرح. وقال الفقيه علي بنُ يحيى الوشلي في تعليقه على " اللمع " في قول أبي مضر: فعلى هذا شهادةُ المجبرة والمشبهة يجب أن تكونَ مقبولةً عنده قَدَّسَ الله روحَه، وكذا عند يحيى، والقاسم: ظاهرُ هذا أنَّه رواية عن يحيى، وليس بتخريج. قال رحمه الله: وهو مذهب المؤيَّدِ بالله وتخريجه، وهو أحدُ تخريجي أبي طالب، وعند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي أن شهادتَهم مقبولة، والتخريج الثاني لأبي طالب، وهو قولُ أبي علي، وأبي هاشم أن شهادتَهم لا تُقبل، والمذكور في " الكافي " ما لفظه: ومن بلغ اعتقادُهُ فسقاً بتأويل إلى قوله لا يُقبل خبرُه وشهادته، وكذلك من كفر بالتأويل، وعند الباقي من السادة يُقبل خبرهما وشهادتهما ذكر ذلك في " التقرير ". انتهى. وقال في " فائقة الفصول (¬3) في ضبط معاني جوهره الأصول " في ¬
شروط خبرِ الواحد ما لفظه: تَنَزُّه الرَّاوي عَنِ الكَبَائِرِ ... وَتَرْكُ إصْرَارٍ على الصَّغَائِرِ وَمَا يُضَاهِي لَعِبَاً بِطَائِرِ ... واختَلَفوا في فَاسِقٍ وَكافِرِ مؤوِّلاً فَغَيْرُنَا لا يَقْبَلُهْ ... وَنَحْنُ لا نَرُدُّ شيئاً يَنْقُلُهْ وهذا من شهادةِ الخصم لخصمه وهو (¬1) من أرفع المراتب. والفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بهِ الأعْدَاءُ. فإذا ثبت هذا، فقد عَرَفْتَ أن المؤيَّد بالله عليه السلامُ نسب قبول المتأولين إلى جميع أهلِ المذهب الشريف مِن الأئمة وأتباعهم، وروى ذلك عنه في " اللمع " وقرّره ولم يعترضه، فالذي في كتاب " اللمع " أنّ قبولَهم مذهبُنا ومذهبُ القاسم والهادي والمؤيَّد، ولم يذكر فيه عن أحد من العِترة أنَّه نصَّ على تحريمه، لا مِن المتقدمين، ولا مِن المتأخرين، وإنما روي عن أبي طالب أنَّه قال: يُمْكِنُ أن يُخرج للهادي عليه السلام قبولُهُم، ويمكن أن يخرج له رَدُّهُم، وإنما روى في " اللمع " الخلاف في ذلك (¬2) عن أبي علي وأبي هاشم، ولو كان يَعْرِفُ في ذلك خلافاً للهادي والقاسم، لكانا أحقَّ بالذكر من أبي علي، وأبي هاشم، ويشهد لما (¬3) ذكرتُهُ مِن أن مذهَبَنَا قبولُهُم قولُه في " اللمع ": لنا أنَّه لم يرتكب محظوراتِ دينه، إلى آخره. فقولُهُ: " لنا " واضح في أن ذلك مذهبُنا لا ¬
الحجة الثانية: إجماع العترة
مذهبَ لنا سواه، ولم يعترض أحدٌ على صاحب " اللمع " في قوله ذلك، فثبت أن المؤيَّد ذكره لأهل المذهب، ولم يذكر خلافاً، والمنصورُ بالله ذكره في " المهذب " ولم يذكر خلافاً، والأميرُ علي بن الحسين ذكره (¬1) ولم يذكر خلافاً لأهل المذهب (¬2)، والفقيهُ عبدُ الله بنُ زيد ذكره ولم يذكر خلافاً، وغيرُ هؤلاء من أهل التعاليق والمذاكرين لم يعترضوا على أحدٍ ممن روى الإجماعَ، ولا ممن روى الخلافَ، ولا شَذَّ واحد في ذلك حتى جاء السيدُ -أيَّده الله- فبالغ في إنكارِ قبولهم، بل الظاهرُ أنَّه -أيَّده اللهُ- كان مقرراً له غيرَ منكر حتى دخلت سنة ثمانٍ وثماني مئة، وعَلِمَ السيدُ أن محمد بنَ إبراهيم اختار القولَ المنصوصَ في " اللمع " المشهور عن الخلف والسلف، فترجَّحَ له تحريمُ هذا القول، والمنع من الخلاف فيه، وجعل هذه المسألة من القطعيات التي يأثم المخالفُ فيها، ويعلم أنه معاند مع أنَّه قبل هذا التاريخ لم يزل يمُرُّ على كلامِ الأمير علي بن الحسين رضي الله عنه في " اللمع " فلا يُنكره، ولا يُنبه التلامذةَ على أنَّه قولٌ باطل، ومذهب قبيح مخالف للأدلة القاطعة، وإنما توفَّرت دواعيه إلى تحريم النزاع في هذه المسألة في حق شخص مخصوص، وما هذا من الإنصافِ، فالله المستعان. الحجة الثانية: إجماعُ العِترة عليهم السلام، وذلك أنَّ المنصورَ باللهِ والإمامَ يحيى بنَ حمزة، وغيرَهما ممن سبق أنّه ادعى إجماعَ الصحابة قَدِ ادَّعَوْا إجماعُ الصدر الأول مِن الأمة، ولا شكَّ أن هؤلاء الذين ادَّعُوا الإجماعَ من المشاهير بتعظيم العِترة عليهم السلامُ، ومن أهل الورع ¬
الحجة الثالثة: إن ذلك يقتضي أن قبول المتأولين مذهب علي
والاطلاع، وذلك يقتضي أنَّهم ما ادَّعوا إجماعَ الأُمة حتى عَرَفُوا إجماعَ أهلِ البيت عليهم السلامُ أولاًً خاصة في ذلك العصرِ، فإن أهلَ البيت عليهمُ السلامُ في زمان (¬1) حدوث الفسق في المذاهب، لم يكونوا إلا ثلاثةً عليٌّ، وولده عليهم السَّلامُ، وإجماعُهُم حجة، ومعرفتُهُ متيسرة مستهلة (¬2) لانحصارهم واشتهارهم، فأقلُّ أحوال المنصورِ بالله والإِمامِ يحيى، عليهما السلام أنهما لا يَدَّعيان إجماعَ الصحابة ألا وهما يعرفان ما مذهَبُ علي وولديه عليهم السلام، فإنهما لو لم يعرفا مذهبهم، لكانا مجازفين بدعوى الإجماع، وهُما منزَّهان من ذلك باتفاق الجميعِ على أمانتهما وسَعة معرفتهما. الحجة الثالثة: أن ذلك يقتضي أنَّهما عليهما السلامُ عرفا أن قبولَ المتأولين مذهبٌ علي عليه السلامُ، لأن أقلَّ أحوالهما حين ادَّعيا العلم بمذهب جميع الصحابة المشهور والمغمور أن يكونا قد عَرَفَا أن ذلك مذهبُ إمام الأئمة، وأفضل الأمة، وكفي به عليه السلامُ حجة (¬3) لمن أراد الهدى، وعِصمَةً لمن خاف الردى. الحجة الرابعة: أنا لو لم نقبل المتأوِّلين، لوجب أن لا نقبلَ الصحابة أجمعين، ولا الصدرَ الأول مِن أهل البيت الطاهرين إذا لم يُصَرِّحُوا بالسماعِ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنَّ هؤلاء الثقات من الأئمة وغيرهم قد رَوَوْا عنهم أنَّهم يقبلون الفاسقَ المتأول، فذلك لا بدَّ أن يفيد العلمَ، أو الظنّ بأنهم كانوا كذلك، أقصى ما في الباب أن ذلك يُفيد الشَّكَّ ¬
الحجة الخامسة: هي الحجة العقلية وهي أن خبرهم يفيد الظن قطعا
في قبولهم للفساق المتأولين، فلو كانوا مردودين بالقطع، وحصل الشكُّ في أن روايةَ العدولِ مستندةٌ إليهم لم يجز قبولُه إلا إذا حصلت تبرئة صحيحة يحصلُ معها الظَّنُّ الراجحُ أن روايتَه غير مستندة إلى من لا يقبل قطعاً، وقد ألزمنا السَّيِّد في رسالته مثل هذا، ومن التناصفِ بين المتناظرين أن يجري كُلُّ خصم على قياسه، ويبنيَ كُلُّ أحدٍ على أساسه. الحجة الخامسة: هي الحجة العقلية التي عَوَّلَ عليها الإمامان: المنصورُ بالله والناطقُ بالحقِّ عليهما السلامُ، والشيخُ المحقِّقُ أبو الحسين البصري رحمه الله وهي أنَّ خبرهم يُفيدُ الظنَّ قطعاً، والعمل بالظن حسن عقلاً، وقد قررنا اتفاقَ العقلاء على حُسْنِ الخبر والاستخبار، واعتمادهم عند المهمات على إرسالِ الرسول، وكتابةِ الكتاب، وبعثِ النذير إلى من يخاف عليه منه (¬1) والطليعةِ إلى من يُخاف منه، وسفرِ التاجر على ظنِّ الربح، وزرع الزراع على ظنِّ التمام، وغزوِ الملوك على ظن الظَّفَرِ، وقراءة القرآن (¬2) على ظن الفائدة، وكذلك العملُ في ضِرَابِ الأنعام وتربية صغارها (¬3)، وجمعِ سمنها وألبانها، وسائرُ تصرفات العقلاء كُلُّها مبنية على ظن (¬4) المنفعة دون اليقين (¬5)، ولهذا فإن رسل (¬6) رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما كانت تأتي (¬7) العرب، تُخبرهم بالشريعة، وتُبلِّغهم الأحكامَ، امتثلوا ذلك، وَعَمِلُوا به بمقتضى فِطرة العقول من غير أن يقولَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك (¬8) جائز، ومن غير أن يسألوا عن ذلك، ولا ¬
الحجة السادسة: أن في مخالفتهم مضرة مظنونة
تناظروا (¬1) فيه، ومن غير أن يستقبح ذلك منهم واحد، بل اجتمعوا على استحسان ذلك، وقررهم عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. ولو كان ذلك لا يُعرف إلا (¬2) بالشرع، لكانوا قد أقدموا على قبيحٍ في عملهم بكلام الرسل التي جاءتهم من عنده عليه السلامُ، ولو كان عملهم في ذلك قبيحاً، لما أقرهم عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. فثبت بذلك أنَّ العمل على قول من يُظَنُّ صدقُه حسنٌ عقلاً، معمول به قديماً وحديثاً إلا ما خصَّه الدليل الشرعي من ذلك، فيُقرر حيث ورد، ويُعمل بدليل العقل فيما عداه. وقد كفانا مؤنَة الاحتجاج في هذه المسألة بهذا الوجه العقلي أبو طالب في كتاب " المجزىء " وكذلك المنصورُ بالله، وأبو الحسين، فمن أراد تحقيقها، فليطالعها في مصنفاتهم. الحجة السادسة: أن في مخالفتهم مضرةً مظنونة، ودفعُ الضرر المظنون عن النفس واجبٌ، والمقدمة الثانية اتفاقية، وبيانُ المقدمة الأولى أن الثقة من المتأولين متى أخبرنا بتحريم الشيء، وظننا صِدْقَهُ، فإن ظن صدقه يستلزم ظنَّ العِقاب المتوعّد به على ارتكاب الحرام، وكذلك إذا أخبر بوجوبِ الواجب، وكذلك إذا أخبر بإباحة إلمباح، فإنه ليس لنا أن نُخَالِفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم ولا إيجاب. الحجة السابعة: أنّه (¬3) إمَّا أن يحصل بخبرهم الرُّجحانُ أو لا، إن لم يَحْصُل الرجحانُ، ثم يُقبلوا، وإن حصل الرجحانُ، فإما أن يعمل بالراجح، أو المرجوحِ، أو يساوي بينهما، وترجيحُ المرجوح على ¬
الحجة الثامنة: أنه يحصل بحبرهم الظن لثبوث الحكم الشرعي
الراجح والمساواة بينهما في الترجيح قبيحٌ عقلاً، فوجب المصيرُ إلى ترجيح الراجح، وذلك مقتضى العقول. الحجة الثامنة: أنَّه يَحْصُلُ بخبرهم الظنُّ لثبوت الحكم الشرعي المخصص للعموم وليس يجوزُ الحكم بالعموم (¬1) مع ظن أنّه مخصوص إجماعاً، وإنما اختُلفَ هل يجب العلم بانتفاء الخاصِّ، أو يجب الظَّنُّ لانتفائه، أو يكفي البقاءُ على الأصلِ وهو عدمُ المخصص حتى يظن وجودُه، فأما إذا ظن المجتهدُ وجودَ المخصص، فلا خلاف في تحريم العمل بالعموم حيث ورد الخاصُّ، وهي حُجة قوية. الحجة التاسعة: أنَّه يحصل بخبرهم الظنُّ لثبوت النص الشرعي ومع ذلك يحرم الاعتمادُ على القياس والاجتهاد، وتقريرُها مثل الثامنة. الحجة العاشرة: أنَّه يحصل ظَنُّ النص، فيحرم التمسكُ بالحظر والإباحة الأصليين. الحجة الحادية عشرة: أنَّه يحصل بخبرهم ظنُّ النسخ، ومتى غلب على الظن أن هذا الحكمَ منسوخٌ لم يحل التمسكُ به إجماعاً، وتقريرُهُ كما في الثامنة. الحجة الثانية عشرة: أنَّه ينتفي الإجمالُ في الاشتراك بخبرهم، فإنهم متى أخبروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد متعين في أحد اللفظين المشتركين ترجح ظنُّ (¬2) ذلك. وقد ثبت أنَّه يُرجع في المشترك إلى القرائن المفيدة للظن، ولهذا ¬
الحجة الثالثة عشرة: أنه ينتفي الظن في الظواهر والحقائق الظنية
ثبت التجوزُ بالعادة وهي ظنية، وحكموا بها في تفسير كتاب الله تعالى فقالوا في {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (¬1) [المسد: 4]: إن المرادَ بها نَمَّامة لمَّا كانت مِن أهل الشرف والثروة والترفة في أحدِ التفسيرين، واتفقوا على التجوز في قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] لأجل القرينة العرفية. الحجة الثالثة عشرة: أنَّه ينتفي الظن في الطواهر والحقائق الظنية الموجبة للتجوز وتقريره كما مر في الثانية عشرة، وخبرُهُم قرينة ظنية بغير شك، فوجبَ قبولُه. الحجة الرابعة عشرة: أنَّه قد ثبت أنَّه مَنْ أكثرَ من ارتكاب المعاصي الملتبسة على جهة التعمد، وأصَرَّ عليها مع العلم بقُبحها، فإنه مجروحُ العدالةِ، غيرُ مقبولٍ في الشهادة والرواية، ومن عصى معاصيَ كثيرةً لا تَبْلُغُ الكفرَ والفسق وكان متأوِّلاً فيها، غيرَ عالم بقبحها، فإنَّه مقبولُ الشهادة والرواية، مع أنَّ معه دليلاً لو أنصف وتأمَّلَه، عَلِمَ الحق كالفاسق المتأوِّل سواء، فدل على أن العلة في القبول هي صدورُ المعصية على جهة التأويل، صغيرةً كانت أو كبيرةً، وليست العلةُ الفسقَ، ألا ترى أنا نَرُدُّ من تعمد المعاصي، وإن لم يكن فسقاً، ونقبل مَنْ فعلها بعينها متأولاً، فقد ¬
الحجة الخامسة عشرة: قوله تعالى {فاسألوا أهل الذكر}
فَرَّقْنَا بين المتأوِّل (¬1) والمتعمِّدِ في ارتكاب المعاصي، فدار القبولُ مع التأويل ثبوتاً وعدماً، ودار الردُّ مع التصريح ثبوتاً وعدماً، وهذا يُفيد ظَنَّ العِلية، وهو أحد طرق العلل، وإن لم يُفد ذلك دائماً، فمن اعتمد ذلك، لم يستحق النكيرَ، ولا التأثيمَ. فإن قلتَ: إن مرتكب الكبيرة تأويلاً (¬2) قد خرج من ولاية الله قطعاً بخلاف صاحب المعصية الملتبسة. قلت: ليس العلةُ الخروجَ من ولاية الله قطعاً بدليل أنَّ من ارتكب المعاصي تعمداً، لم يُقبل وإن لم تكن كبائرَ مع أنا لم نعلم أنَّه قد خرج مِن ولاية الله قطعاً ولا ظناً، فدل على أن المعتبر التأويل الذي يبقى معه ظَنُّ الصدق. الحجة الخامسة عشرة: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ودخول السؤالِ عن الأدلة في هذه الآية على سبيلِ طلب (¬3) الاجتهاد أقربُ من دخول السؤال عن المذاهب على سبيلِ التقليد، لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وقد تَقدَّمَ ذكر ذلك عند الاحتجاج على تعديل حملةِ العلم (¬4). فإن قُلْتَ: فقد تقدَّم أن الصحيحَ أنها في سؤال المشركين لأهل الكتاب عن الرُّسُلِ أكانوا بشراً أم لا. قلت: ذلك صحيح أنَّه معناها الذي سِيقَتْ له، ونَزَلَتْ فيه، ¬
ولكن قد يُؤخذ من الآية حكمٌ لم يَرِدْ فيها على سبيل الاستنباطِ، وقد يكونُ ذلك من مفهومِ الموافقة (¬1)، وهو قطعي وظني، فالأوَّلُ مثل تحريم الضَّربِ مِن تحريم التأفيف، والثاني مثلُ وجوبِ الكفارة في قتل العمدِ من وجوبها في قتل الخطأ على قولِ الشافعي، وهذا مِن ذاك، فإن المفهومَ أن المشركين، إنَّما أُمِرُوا بسؤالِ أهل الكتاب لجهل المشركين وعلم أهل الكتاب في تلك الحادثة، فكذا (¬2) كُلُّ حادثة يُوجد فيها عالم وجاهلٌ مِنَ المسلمين، فإنَّه يكون المفهومُ مِن الآية أن المشروعَ للجاهل مِن المسلمين أن يسأل العَالِمَ من أهلِ الإسلام، وهذا أولى من ذاك (¬3)، أقصى ما في الباب أنَّه قياس على المنطوق، فالكُلُّ منهما حُجَّةٌ. إذا ثبت هذا، فالآية عامة في العلماءِ المتنزهين عن البدع على سبيلِ التأويل، وليس يلزمُنا في هذه الحجة وأمثالها مثلُ ما ألزمنا السيدَ في ¬
الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى {فمن جاءه موعظة من ربه}
تلك الإِشكالات، لأنا لم ندَّعِ أَنَّ المسألَة قطعية، وتلك الإِشكالات إنَّما ورد عليه أكثرُها لدعواه أَنَّ المسألة قطعية، وأما مَنْ أَقَرَّ أنها ظنية، فليس عليه إلَّا أن يستدِلَّ بدليل يُفيده (¬1) الظن، وليس عليه أيضاًً أن يُفيد غيرَه الظن، وإنَّما عليه أن يُبْدِيَ دليلَه لمن أراد أن يعرفه، فيستدل به، أو يعارضه. الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] وهذا عامٌّ في كل ما جاء عن الله، سواء كان مِن كلامه سبحانه وتعالى في القرآن العظيم، أو على لسانِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان معلوماً أو مظنوناً، بل الأكثر مِن ذلك هو الذي جاءَ مظنوناً، وقد ثبت أن في القرآن العظيمِ ما معناه (¬2) مظنونٌ، وما معناه معلومٌ، وثبت أنهما جميعاً مُعْتَدٌّ بهما، وأن المعنى المظنون من جملة ما جاء مِن عند الله تعالى، فكذلك السنة فيها معلوم و (¬3) مظنون، وكل منهما مما جاء مِن عند الله تعالى، ألا ترى أن السيدَ إذا قال لعبده: إذا جاءَك لي قريبٌ، فأكرمه، وكان العبدُ لا يعرف أقاربَ سيده، فإنَّه متى أخبره مَنْ يظن صدقَه عن أحدٍ أنَّه مِن قرابة سيده، فإنه يَحسن منه إكرامُه، لأجل ذلك الخبرِ المظنونِ صدقُه، وكذلك إذا جاءه كتابُ سيده مع رجل يُوصيه، وعرف خطَّه، فإنَّه يَحْسُن منه العملُ به وإن لم يكن معرفة الخط يُفيده إلاَّ الظن، وقد تقرَّرَ أن المشروعَ في معرفة الحلالِ والحرام هو العلمُ أو الظن، كما ذكره المنصورُ وغيرُه من علماء العِترة عليهم السلامُ. ¬
الحجة السابعة عشرة: قوله تعالى {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل}
فإذا عرفتَ هذا، فحديثُ المتأولين مِن جملة ما جاء عن الله ورسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مما يظن صحتُه، ويعتقد تحري رواته في الصدق وأمانتِهم في الرواية، فوجب الامتثالُ، وأمِنَّا باتباعهِ من الشقاء والضلال. الحجة السابعة عشرة: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ذَمَّهُمُ الله تعالى بعدمِ الاستماع، وهو مطلق في كل ما جاء عن الله تعالى من معلوم ومظنون، خرج المُجْمَعُ على ردِّه، وبقي المُخْتَلَفُ فيه إلاَّ ما خصَّه دليل، وأمثال هذه الآية الكريمة كثيرٌ في القرآن الكريم مما ورد في ذَمِّ مَنْ لا يسمع، ومدحِ المستمعين مثل قوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] وأمثال ذلك. الحجة الثامنة عشرة: قوله تعالى: {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] فهذا عام فيما آتانا الله تعالى مِن معلوم ومظنون، وقد ثبت أنَّه تعالى إذا أمرنا بأمرٍ، وجبَ علينا منه ما علمنا وما ظننا، ألا ترى أنَّه يَجِبُ طلبُ الماء للطهور حيث يُعْلَم وحيث يُظن، ولا يُجزىء الاكتفاءُ بالطلب في المواضع المعلوم وجودُه فيها مع ترك المواضِع المظنون وجوده فيها، وقد ثبت عنه عليه السَّلامُ أنَّه قال: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُم " (¬1). فيجب بذلُ الوسع في القُدرة، ومراتبها ظاهرة، فيصلي قياماً ثُم قعوداً ¬
الحجة التاسعة عشرة: قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون}
ثم على الجُنُوبِ (¬1). وكذلك يجب بذلُ الوُسْعِ في تَعَرُّفِ ما آتانا (¬2) الله، وأمرنا بأخذه، وذكر ما فيه، وبذل الوسع في ذلك حسبَ الطاقة ومراتبها، فأعلى المراتبِ أن نعلمَ اللفظَ والمعنى، وهذا يكون في كثير من القرآن، وكثير من السنة المتواترة، ودُونَ هذه المرتبة أن نعلَم اللفظ ونظن المعنى، وذلك يكون (¬3) أيضاًً كثيراً في القرآن والمتواترِ مِن السنة. والمرتبة الثالتة أن نظنَّ اللفظ والمعنى، أو نعلم المعنى، ونظن اللفظ وكلاهما في السُّنَّةِ المنقولة بطريق الآحاد، وهما متقاربان. واعلم أنَّه لو لم يجب علينا مِن ألفاظ السنّة إلاَّ ما علمنا، لما وجب علينا من معاني القرآن إلاَّ ما علمنا، لأن ذلك كُلَّه يرجِعُ إلى العمل في الشريعة بالظن، وذلك يؤدّي إلى خلاف الإجماع، ومما يؤيِّدُ ما ذكرته في العمل بالمظنون مما آتانا الله من الشريعة أنَّه تعالى لما أمرنا بِبِرِّ الوالدين والأقربين، والصدقة على المساكين وجب في ذلك أنَّه يُراد به من ظننا قرابته ومن ظننا فقره ومسكنته، لأنَّه لا طريقَ معلومة إلى معرفة القرابة والفقر غالباً، وأمثالُ ذلك في الشريعة كثيرة. الحجة التاسعة عشرة: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ ¬
الحجة الموفية عشرين: قوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله}
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فهذا وعيد شديد، ومضرَّة عظيمة فيجب الاحترازُ مِن الوقوع فيما يُخاف الوقوعُ فيه لمخالفتها، ولا يَحْصُلُ الأمانُ من ذلك إلاَّ بامتثال كُلِّ معلومٍ ومظنونٍ مما جاء عنه عليه السلام، فيدخل في ذلك خبرُ المتأولين. الحجة الموفية عشرين: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وفي آية: {الفاسقون}، وفي آية: {الظالمون}، ولا شك أنَّ ما أنزل اللهُ يكون معلوماً ومظنوناً (¬1)، ولم يقُلْ أحدٌ من أهل العلم: إنَّه لا يكون مظنوناً، وخبر المتأولين من ذلك، ولكن لا يُفِيدُ الكفر والفسق والظلم، لأن المسألة اجتهادية، إذ هذه الآية من العمومات العملية الظنية المخصوصة المؤوَّلة، ولكنها حجةٌ لمن ظَنَّ في شيء معيَّن أنَّه يدخل في عمومها. الحجة الحادية والعشرون: قولُه تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] وكلامُه عليه السلام من جملة ما أنزلَ الله تعالى، لقوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (¬2) [النجم: 3 - 4] إذا ثبت هذا في حقه عليه السَّلامُ ثبت في حقنا مثله، لأنَّ التأسي به واجبٌ علينا، فيحرم علينا أن نفتتن عن بعض ما أنزل اللهُ إليه، وذلك يُوجب المحافظة على قبولِ ما صدر منه عليه السلامُ، وتلك المحافظة لا تَتِمُّ إلاَّ بقبول المتأولين، وإلا لم يَحْصُل ¬
الحجة الثانية والعشرون: قوله تعالى {فآمنوا بالله ورسوله}
الأمانُ من الإخلال ببعضِ صَدَرَ منه عليه السلامُ، لأنَّا لا نأمن أن ما روَوْهُ (¬1) مما أنزل اللهُ إليه، وخرج من ذلك ما قام الدليلُ على رده. الحجة الثانية والعشرون: قوله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فأمر اللهُ باتباعه، وقد قال عليه السلامُ: " إِذَا أَمَرْتُكمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْه مَا اسْتَطَعْتُمْ " (¬2) فوجب أن نتَّبِعَه فيما استطعنا مِن معلوم ومظنون على الإطلاق إلاَّ ما قيَّده الدليل. الحجة الرابعة والعشرون (¬3): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فتجب طاعتُه في كل معلوم ومظنون كما تقدَّم. واعلم أن العمومات الواردة في هذا الباب كثيرة جداً، والعلماء تركوا الاستدلال بها استغناءً بحجة الإجماع، لأنها أخصُّ من العمومات، وأقطعُ للشغب، وإنَّما أوردت هذه العمومات معارضةً لما توهَّمه السيدُ مِن صحة الاحتجاج بتلك العمومات التي أوردها، وقد بيَّنا فيما تقدم الجوابَ عليه في (¬4) الاحتجاج بها، بل قد تقدَّم فيها، أو في أكثرها أنَّها حجج عليه لا له، وذلك مقرر في الإشكالات الواردة على احتجاجه بها، وهذا القدرُ يكفي في المعارضة فلنقتصر عليه. ¬
الحجة الخامسة والعشرون: ما رواه عِكرمةُ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيتُ الهلال يعني رمضان، فقال: " أَتَشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُول اللهِ "؟ قال: نَعَمْ، قال: " يَا بلَالُ أَذِّنْ في الناسِ أَنْ يَصُومُوا غَدَاً " (¬1). رواه أهلُ السنن الأربع، ولفظُه لأبي داود، وهو مروي من طريق أهل البيت عليهم السلامُ، ومن طريق شيعتهم. وقالَ أبو عبد الله الحاكمُ الحافظُ أحدُ علماء شيعة أهلِ البيت عليهم السلامُ: هو حديثٌ صحيحٌ، وفي إسنادِه وإرسالِه خلافٌ يسير، لا يَضُرُّ مثلُه إن شاء الله تعالى، وهو يدل على قبول من شهد الشهادتين من أهل الإسلام القائمين بأركانه الخمسة ما لم يثبت جرحُهم. الحجة السادسة والعشرون: حديثُ الأمةِ السوداء التي قالَ عليه السلام: " هِيَ مُؤمِنَةٌ " لما أشارت أن الله ربُّها، وأنَّه عليه السلامُ رسولُ الله والحديثُ صحيح خرجه مسلم (¬2) وغيره وهو دليلٌ على قبول كُلِّ مَنْ آمن بالله ورسوله مِن أهل الإسلام ما لم يثبت عنه فعل ما يُجرح به بدليل صحيح من كتابٍ أو سُنَّة أو إجماعٍ، وهذا كله مفقودٌ في المتأوِّلين، لأنه عليه السلام قد أثبت لها الإيمانَ بذلك، والمؤمنُ مقبولٌ، لقوله تعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬3) ¬
[التوبة: 61] وقد مرَّ في كلام السَّيِّد أبي طالب أنَّ العدالةَ كانت منوطةً في ذلك الصدر الأول بالإِسلامِ والقيامِ بأركانه، واجتنابِ معاصي الجوارح المعروفة دونَ معاصي الاعتقاد وما يتفرَّعُ عنها، هذا معنى كلامه عليه السلام، وقد مَرَّ بلفظه. الحجة السابعة والعشرون: حديثُ الحسن بن علي عليهما السلامُ الذي فيه " إنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وسَيُصْلِحُ الله بِهِ بَيْنَ طَائِفَتيْنِ عظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ " (¬1) وفيه النَّصُّ على تسميتهم مسلمين، وقد تقدَّم الكلام على صحة الحديث. والمسلم مقبولٌ ما لم يظهر ما يجرحه والدليلُ على ذلك إجماعُ الصحابة عليه في الصدر الأول. رواه الشيخ أبو الحسين في " المعتمد " كما تقدم، وقد تقدَّم أيضاً أثر عمر الصحيح في ذلك في كتابه المشهور (¬2)، ولم يُنكره أحد، وهو شاهدٌ جيد لدعوى الشيخ أبي (¬3) الحسين والشواهد على ذلك كثيرة، ولا معنى للتكثير بإيرادها، لأنَّ الخصم غيرُ منازع في قبول من ثبت أنَّه مسلم. والله أعلم. الحجة الثامنة والعشرون: قولُه عليه السلامُ في الحديث المشهور ¬
الصحيح " كَيْفَ وَقَدْ قيلَ " (¬1) ففيه تنبيهٌ على حسن قبولِ خبر من أخبر عن تحريم أو وجوبٍ بمجرد القول مِن غير ظن على جهةِ الاحتياط، فكيف مع الظن الغالب، والصِّدْقِ الراجح خرج من ذلك المصرح، وبقي المتأوِّل. الحجة التاسعة والعشرون: قولُه عليه السلام في حديث الحسن بن علي عليهما السلام " دَعْ ما يُرِيْبُكَ إلى ما لَا يُرِيبُكَ " (¬2) وهذا حديثٌ حسن معمول به، خرَّجه النواوي في مباني الإسلام وحسنه، ورواه الترمذي في " جامعه " وهو يدُلُّ على قبول من يظن صدقه، لأن رده مما يُريب خوفاً أن يكونَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك الذي رواه. فإن قلتَ: إن تصديقَهم ريبٌ أيضاًً، فتعارضت جِهتا الترجيحِ، فوجب الوقف. قلت: الجوابُ مِن وجوه: أحدها: أن قبولَهم يُريب ريباً مرجوحاً، فلم يُعتبر، لأن الريبَ المرجوح حاصلٌ في خبر الثقة المتنزِّه من البدع، فكما أنَّه لم يُؤثر فيه، كذلك (¬3) هذا. وثانيها: أن نقولَ: اجتمع في قبوله ورده رَيْبَانِ، ففي قبوله ريبٌ مرجوح موهوم، وفي ردِّه ريبٌ راجح مظنون، فوجب الاحترازُ مِن الرَّيْبِ الرَّاجِحِ المظنون، لأن فيه مضرةً مظنونةً، ولم يجب الاحترازُ مِن الريب ¬
المرجوح، لأن فيه مضرَّة مرجوحة، والمضرةُ المجوزة مِن غير رجحان لا يجبُ الاحترازُ منها، فكيف إذا كانت مرجوحةً موهومةً، فلم يقل أحدٌ من العقلاء بوجوب الاحتراز من ذلك، ولو وجب مثلُ ذلك، لوجب على العقلاء أن يخرجوا من بيوتهم خوفاً لسقوطها عليهم مِن غير أمارة للسقوط. وثالثها: أنَّ الراجح المظنون (¬1) لا يُسمى ريباً في اللغة، ولهذا، فإن الإنسانَ إذا غابَ من منزله وأولادِه ساعةً من نهار، وعهده بالدار صحيحةً، وبأهله سالمين، فإنه لا يُسمى مريباً في انهدام الدارِ، وموتِ الأولاد لمجرد أن ذلك ممكن مِن غير محال، وهذا واضح، وقد ذكر الزمخشريُّ (¬2) هذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]. الحجة الموفية ثلاثين: ما ثبت في الصحمِح من قوله عليه السلامُ: " الحَلاَلُ بيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَن اتَّقى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ " الحديث (¬3)، وفيه ما لا يخفى من الحثِّ على تركِ المتشابهات، ولا شَكَّ أنَّ رَدَّ المتأولين من المتشابهات لوجوه: أحدُها: ظَنُّ صدقهم. وثانيها: دعوى الثقاتِ من الأُمة الإجماعَ على قبولهم، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإجماعَ على ردهم، كما قدمنا. وثالثها: أنَّهم إذا رَوَوْا عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه حرم شيئاً، فإنَّه لا يكونُ ¬
حلالاً بيِّناً، وكذلك إذا رَوَوْا أنَّه أوجب شيئاً لا يكونُ تركُه من الحلال البَيِّنِ لوقوع الشبهة بروايتهم للنص النبوي، وهذا قوي جداً. الحجة الحادية والثلاثون: قولُه عليه السلام: " يَحْمِلُ هذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " (¬1)، وقد مَرَّ الكلامُ على تصحيحه، ووجهِ الاحتجاج به حيث (¬2) نقضنا احتجاحَ السَّيِّد به، وبينا أنَّه حجةٌ عليه، لا لَهُ. الحجة الثانية والثلاثون: أنَّه يَحْرُمُ عليهم كتمُ ما يحفظونه من العلم، والنصوصِ النبوية لنَصِّ القرآن الكريم على تحريمِ كَتْمِ العلم فلا يرتفع (¬3) الوجوبُ عنهم إلا بدليل مثل ذلك النص في القُوَّةِ والظهور، ولا شَكَّ أنَّه لا يُوجَدُ ما يُماثِلُه في إسقاط التكليف عنهم في ذلك (¬4) فإذَا ثبت أنَّه يجبُ عليهم التبليغُ، وَيحْرُمُ عليهم الكتمُ ثَبَتَ أنَّه يُقْبَلُ منهم، وإلا لم يكن لتبليغهم فائدةٌ، ولا لوجوب ذلك عليهم معنى، وأما المصرِّحُ، فقد دل الإجماعُ القاطع على اشتراط توبته في القبول فافترقا. الفائدة الثانية: في الإشارةِ إلى المرجِّحات لقبول المتأولين على تقدير تسليم التعارض وهي خمسةَ عَشَرَ وجهاً: الأولُ: خبرُ الثقاتِ مِن عشر طرق أو أكثر بأنَّ الأمة أجمعت على ذلك كما تقدَّم بيانُه عن الأئمة المؤيَّد ِ بالله، وأبي طالب، والمنصور (¬5)، والإمامِ يحيى بنِ حمزة في كتبهم، والأميرِ الحسين في " شفاء الأوام "، ¬
والقاضي زيد في " الشرح "، وعبدِ الله بن زيد في كتابه " الدرر المنظومة " في أصول الفقه، والشيخِ أبي الحسين في " المعتمد "، والحاكم في " شرح العيون "، والشيخ الحسن الرصاص في " غرر الحقائق "، وحفيدِه أحمد في " الجوهرة "، وابنِ الحاجب في " مختصر المنتهى "، وروايةِ السيدِ أبي طالب عن الفقهاء أنهم رَوَوْا ذلك لا عن نفسه كما تقدم بيانُ ذلك مفصَّلاً قريباً مع ما شهد لخبرهم مِن القرائن، ومع اطلاعهم على الخلاف وأخبار الصحابة، وذلك يقوي الظَّنِّ قوةً عظيمة على أن ذلك الإجماعَ صحيحٌ إن لم يُفِدِ العلمَ، ولا شَكَّ أنَّه ما رُوي إجماعٌ على رد فُسَّاقِ التأويل ألبتة، فكان القول بقبولهم أولى، لأن في ردهم التعرضَ للعقاب والوعيد الحاصل بمخالفة الإجماعِ، ولا شَكَّ أنه حاصِلٌ إما علماً ضرورياًً، أو ظناً، أو تجويزاً، وليس في قبولهم شيءٌ من مخالفة الإجماعِ ألبتة. الثاني: أن التكذيبَ لحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مع العلم أنَّه حديثُه كُفْرٌ صريح، والتصديقُ بمن كَذَبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمداً ليسَ بكفر بالإِجماع، بل الكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً ليس بكُفْر بالإجماعِ قبل خلافِ الجويني (¬1)، والخطاُ فيما عمدُه ليس بكفر أقلُّ إثماً مما عمده كفر بالإجماع، فإن قتل مَنْ يجوز أنَّهُ نبي أقبحُ مِن قتل منْ يجوز أنَّه مؤمن، وليس بنبي قطعاً. الثالث: أن في القبول تكاليفَ حتى بالإِباحة، فإن ما (¬2) أباحه عليه السلامُ يحرم تغييرُه تحريماً مغلَّظاً بحيث يكفر منكرُه إذا كان معلوماً ضرورة ¬
وعليه الحديثُ " وأكَلَ ذَبِيحَتَنَا " جعل ذلك شرطاً في الإسلام بخلاف المباحِ على الأصل. الرابع: أنَّه أحوطُ إما كُلُّه وإما أكثره فيجب قبولُ الجميع، لأن تركَ قبولِ الجميع تغليبٌ للنادر على الأكثر، وهو مثلُ ترجيح المرجوح على الراجح، وهو خلاف المعقول، وقبولُ البعضِ دونَ البعض تحَكُّمٌ. إنما قلنا: أحوطُ، لأنَّ حديثَهم إن عارض الكتابَ، أو ما هو أرجحُ (¬1) منه مِن حديث الثقات لم يعمل به إذ هو مرجوحٌ، وإن لم يُعارض، فالفرضُ أنَّه ورد في مباح يجوز تركُه وفعلُه، فإن اقتضى التحريمَ، فالتركُ أحوطُ، وإن اقتضى الوجوبَ، فالفعلُ أحوط، وهذا الوجه يختص بما لم يخصّ العموم المعلوم. الخامس: نحن نعلمُ بالقرائنِ صِدْقَ أكثرِه، لأنَّ الدواعي إلى الصدق في حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوفِّرَةٌ وهي العلم بما فيه مِن كثرة الثواب الوارد في حفظ العلم وتعليمه، وبما في كتمه والكذب فيه مِن العقاب، والصوارفُ منتفية، لأنَّه ليس في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهوةٌ ورغبة، وللأكثرين مثلُ ما في غيره مِن سائر المعاصي المحبوبة بنفسها، مثل الزنى، وأكلِ الحرام، ولا هو من الأكاذيب المؤدِّية إلى ذلك غالباً مثل الشهادة الباطلة في الأموال. ويدل على هذا وجهان: أحدهما: أنَّه ربما مضى عمرُ الفاسق المصرح وما كَذَب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبةً واحدة متعمِّداً لها، ولعله لا يمضي له (¬2) يوم لم يكذب فيه في مصالح دنياه، فأما العصيانُ بغيرِ الكذب، فلا يكاد ينفك. ¬
الوجهُ الثاني: أنَّ الله شَدَّدَ في الشهادة، فلم يقبل إلا اثنينِ، وأكد إنكارَ المُنْكِرِ باليمين (¬1)، ولم يقبل منْ بينَه وبَيْنَ أخيه عداوةٌ إلى غير ذلك بخلاف الحديث، فَكُلُّ هذه الأمور (¬2) مقبولةٌ فيه. قال بعضُ العلماء: وذلك لِقوة الداعي إلى الصدق (¬3) في الحديث، وقِلَّةِ الداعي إلى الكذب فيه. وأما مما يقدر مِن قوة محبة الكذبِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو في نفسه نادر، وعلى تقدير وقوعه، فهو مِن العدل المتأوّل نادرٌ جداً هذا معلومٌ بالضرورة، فلما علمنا أنَّ الصدق في حديثهم أكثري، وأن الكذبَ نادرٌ، وجب ترجيحُ الصدقِ المعلومِ الغالبِ الراجحِ الأكثري على الكذبِ الموهومِ النادرِ المرجوح. السادس: أن لهم خطأً وصواباً، فوجب النظرُ في أيُّهما أكثرُ، فما كان أكثرَ، علق به الحكم إلا ما خصَّه الدليلُ، وقد نظرنا، فوجدنا صوابَهم أكثر، لأنهم أقاموا أركانَ الإسلامِ الخمسة، وانْتَهَوْا عن جميع الكبائر المعلومهَ، وآمنوا بكُلِّ ما هو معلومٌ بالضرورة من الدين، وكثيرٌ منهم لا يعصي إلا في فعلٍ واحد، أو اعتقاد واحد وقع فيه أيضاًً مع عدم العلم بتحريمه، ومع وجود الشُّبْهَةِ في فعلِه واعتقادِهِ. وبيان ذلك أن لِلدين عموداً وهو الإِيمانُ بالقلب، وأركاناً ظاهرة، وهي الخمسةُ المنصوصة: الشهادتان، والصلاةُ والصيامُ والحجُّ والزكاةُ، ¬
وحدوداً معلومة ضرورية التحريم، وهي الكبائرُ المنصوصة، فهذه مهماتُ الإسلام، وقد جاؤوا بذلك كُلِّهِ على ما يُحِبُّ الله ويرضى، وهو الأكثرُ والأكبر، وليس التعذيبُ في الآخرة دليلاً على عدم القبول في الدنيا بدليلِ الجرحِ بالمعاصي الملتبسة، بل ببعض المباحات الدالة على قِلَّةِ الحياء والمروءة، وبكثرة السهو والغفلة، فكما قد يُرَدُّ مَنْ هو مِن أهل الخير، فقد يقْبَلُ مَنْ هو مِن أهل الشر، لأن حكم الرواية يرجع إلى الصدق وظنِّه، لا إلى استحقاق العقوبةِ في الآخرة. فأحكامُ الآخرةِ بِمَعْزِلٍ عن هذا، ولا شَكَّ أن القياس تعليقُ الحكم بما هو أكثرُ، دليلُه إجماعُ العلماء على أن مَنْ كان يَهِمُ في الحديث وَهْماً نادِراً، ويُصِيبُ كثيراً، فإنه يُقْبَلُ حديثُه تغليباً للأكثر إذا ثبت هذا، قبلوا تغليباً للأكثر. السابع: روايتُهم للحجج الدالةِ على خلاف مذهبهم مثل أثر عائشة في نفي الرؤيةِ في ليلةِ الإسراء، وتفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] بجبريل عليه السلام (¬1). واتَّفَقُوا على صحة ذلك عنها، ومثلُ الأحاديث والمناقب الدالة على تفضيلِ أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولقد ذكر الذهبي في كتابه " طبقات القُراء " (¬2) عليّاً عليه السلامُ، وذكر أنَّه لم يَسْبِقْهُ إلى الإسلام إلاّ خديجةُ، وأن المكان يَضِيقُ عن مناقبه وأنَّه جمع القرآنَ العظيم، وصحح ذلك، وَرَدَّ على من خالف فيه. ثم ذكر: عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابنِ سيرين أن أبا بكر ¬
رَضِيَ الله عنه مات ولم يَخْتِم القرآن، ولم يُضعف هذه الرواية، ولا عارضها بشيء، وكيف يُضعفها وقد بين إسنادَها، وهو على شرط البخاري ومسلم وجميع أئمة الحديث. وكذلك عمر رضي الله عنه، فإِنَّهم اتَّفقُوا على أنَّه لم يجمع القرآنَ كأبي بكر، ولو كانوا مِن أهلِ الكذب مع تفضيلهم لهما، لَكَذَبُوا لهما، أو تركوا ذكر (¬1) ذلك نفياً وإثباتاً ليبقى مجملاً، ولم يعتنوا في ذكره، وإيرادِ إسناده (¬2) الصحيح، ولهذا نظائرُ لو ذكرتُها واستوفيتُها جاءت في مصنف مفرد، وأخرجت عن المقصود. ومنْ ذلك حديثُ سَمرَةَ بنِ جُندب حيث (¬3) قال له عليه السلامُ ولأبي هُريرة، ولثالث معهما: " آخِرُكُمْ مَوْتاً في النَّارِ " (¬4) فكان آخرَهم موتاً سَمُرَةُ بن جندُب، رووه وحكموا بصحته، وقد رُوي أنَّه مات حريقاً؛ روي (¬5) أنَّه وقع في نارٍ أو ماء يغلي، ولعلَّ هذا معنى الحديث إن صحت روايتُه، فقد كان سمرةُ حافظاً، أثنى عليه الحَسَنُ البصري ووثقه، وروى عنه. ¬
ومثلُ حديث معاوية حيث قال عليه السلامُ: " إذا ارتقى معاوية منبري هذا، فاقتلوه " رواه الذهبي (¬1) بثلاثة أسانيد طعن في واحد منها وسكت عن (¬2) اثنين، ورواه بإسناد آخر " فاقبلوه، فإنَّه أمين " وقال: إسنادٌ مظلم وأمثالُ ذلك شيء كثير، لو نُقِلَتْ من كتب رجالهم لما جاءت في أقلِّ مِن مجلد كبير. الثامن: تضعيفُهم لأحاديث أئمتهم المحتج بها في الفروع، فمن نظر " البدر المنير " و" خلاصته " و" الإرشاد " و" التلخيص " في الأحاديث التي احتج بها الشافعي عَلِمَ إنصافَهم، وأنَّهم غيرُ متعصبين، فلعلَّهم أجمعوا على ضَعْفِ قدر الربع من حُجَجِهِ، هذا وَهُمْ أصحابُه المنتسبون إليه، وكذلك المحدثون من الحنفية، ولهم في ذلك كتاب أحاديث الهداية (¬3)، وكذلك المالكية، وَمِنْ أحسنِ الكتب لهم في ذلك ¬
وأكثرها إنصافاً كتابُ " التمهيد " (¬1) لابن عبد البر وهو أحدُ كتب الإِسلام ومختصره " التنضيد " حسن جداً. العاشر (¬2): تضعيفُهم للأحاديثِ الدالة على مذاهبهم في التفضيل وغيرِه مثل حديث أنس مرفوعاًً: " لمَّا عرج بي جبريلُ رأيتُ في السَّمَاءِ خيلاً مَوْقُوفَةً مُسْرَجَةً مُلْجَمَة لا تَرُوثُ ولا تَبُولُ، رُؤُوسُها مِنَ اليَاقُوتِ وحَوَافِرُهَا مِن الزُّمُرُّدِ الأخْضَرِ، وأبْدَانُهَا مِن العِقْيَانِ الأصْفَرِ ذوات الأجنحة، فقلتُ لِجبريل: لِمَنْ هذه؟ قال: لِمُحِبِّي أبي بَكرٍ وعُمَرَ "، ¬
قال الذهبي في " الميزان " (¬1): إنَّه حديث كذب. ومثل حديثِ عقبةَ بنِ عامر سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أتاني جبريلُ، فقال: يا محمَّدُ إنَّ الله أمَرَكَ أن تستشيرَ أبا بكر ". في إسناده رجل يقال له: محمد بن عبد الرحمن بن غزوان. قال الدارقطنيُّ وغيرُه: كان يضعُ الحديثَ، وقال ابنُ عدي: له عن ثقات الناس بواطيل، وعدُّوا هذا الحديث منها (¬2). ومثل: " أبو بكر يلي أُمَّتي مِن بعدي " قال الذهبي: هو كذب (¬3). ومثل حديث رواه محمد بن بابشاذ البصري، وقد وثقه الدارقطني، قال الذهبي (¬4): لكنه أتى بطامَّةٍ لا تتطيب، فروى عن عائشة قالت: لمَّا كانت ليلتي مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضمَّني وإياه الفراشُ قلتُ: يا رسولَ الله حدثني بشيء لأبي، قال: "أخبرني جبريلُ عن الله أنَّه لما خلق الأرواح اختار روحَ أبي بكر لي مِن بين الأرواح، وإني ضمنتُ على الله أن لا يكونَ لي خليفةٌ مِن أمتي، ولا مؤنس في خلوتي، ولا ضجيع في حُفرتي إلا ¬
أبوكِ، وتخرج بخلافته يومَ القيامة رايةٌ من دُرَّةٍ" فانظر إلى أمورٍ ثلاثة: أوَّلُها: معنى هذا الحديث على مذهبهم غيرُ محال ولا ممتنع. وثانيها: أنَّ رَاوِيَه ثقة، لكنه أغربه وشذَّبه، ولم يُتَابَعْ عليه. وثالثها: أن الذهبيَّ سمَّى هذا الحديث طامة لا تتطيَّبُ مع ثقة راويه وإمكانِ صحته، فلو قال في حق علي مثل هذا لم يَشُك المغرب من (¬1) عوائدهم عند الغضب مما بان لهم أنَّه كذب أنَّه يُبْغِضُ علياً عليه السلامُ، وبمثل هذا ينفي بغضَه لعلي حين يقع منه شيءٌ من هذا مما يظنُّه مكذوباً من مناقبه عليه السلامُ، كما يُزَيِّفُ مثلَ ذلك في فضائل القرآن العظيم، وفي معجزاتِ النبي الكريم، فتأمَّلْ ذلك، فقد كان يكفيه ألطفُ من هذه العبارة في نفي هذا وأمثالِهِ من مناقب أبي بكر، لكنَّه يشتد غضبُهم مِن الكذب الواضح عندهم على حَسَبِ اجتهادهم. ومثل ما روى محمدُ بنُ عبد الله بن إبراهيم بن ثابت أبو بكر البغدادي عن البراء مرفوعاً: " في أعلى عِلِّيينَ قُبَّةٌ معلَّقة بالقُدرة تخترِقُها رياحُ الرحمة، لها أربعةُ آلاف باب، كلما اشتاقَ أبو بكر إلى الجنة، فتح له منها بابٌ ". قال الدارقطني: كان دجالاً. وقال الخطيب: كان يضعُ الحديثَ، وعدُّوا هذا من موضوعاته (¬2). ¬
ومثل ما روي عن أبي سعيدٍ مرفوعاً: " لما عُرِجَ بي إلى السماء ما مَرَرْتُ بسماءٍ إلا ووجدتُ فيها مكتوباً: محمد رسولُ الله، وأبو بكر الصديق مِن خلفي ". قال الذهبي (¬1): هو باطل، وعن ابن عباس مثله وهو أيضاً باطل، وعن أبي هريرة أيضاًً مثله (¬2) وفيه رَجُلٌ مُتَّهم بالكذب. ومثل ما روي عن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم (¬3) جعلتَ أبا بكر رفيقي في الغارِ، فاجعله رفيقي في الجنة " من رواية محمد بن الوليد بن أبان القلانسي البغدادي مولى بني هاشم. قال ابنُ عدي (¬4): كان يضع الحديث. وقال ابن أبي عَروبة: كذاب. ¬
ومثل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاًً: " إن لله عَلَماً من نور مكتوبٌ فيه: لا إله إلاَّ اللهُ محمد رسولُ الله أبو بكر الصِّدِّيق ". قال الذهبي: هو موضوع. ومثل ما روي عن أنس مرفوعاًً: " انفلقت في يدي تُفاحةٌ عن حوراء، فقالت: أنا للمقتولِ ظلماً عثمان " قال الذهبي (¬1): وهذا كذب. ومثل ما روى عمر بن الخطاب أنَّه قال: حدثني سيدا شَبابِ أهلِ الجنة عن أبيهما المرتضى، عن جدِّهما المصطفي أنَّه قال: " عمَرُ نُورُ الإسلام في الدنيا، وسراجُ أهل الجنة في الجنة "، وأوصى أن يجعلَ ذلك في كفنه على صدره فوضع فلما أصبحوا، وجدوه على قبره، وفيه: صَدَق الحسنُ والحسين، وصَدَقَ أبوهما، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ذكره الحافظُ المحدِّثُ أبو الخطاب عمر بن حسن المعروف بابنِ دحية الكلبي في كتابه " العَلَم المشهور " في جملة أحاديث موضوعة وأخبار مصنوعة، وهو مِن حفاظ الحديث على أنَّه متكلم عليه، وموصوم بالمجازفة، كذا قال الذهبي في ترجمته في كتابيه (¬2) " التذكرة " (¬3) و" الميزان " (¬4). وقال الذهبي (¬5): إسحاق بنُ محمد بن إسحاق السُّوسي ذاك ¬
الجاهل الذي أتى بالموضوعاتِ في فضل معاوية، فهو المُتَّهَم بها، أو شيوخه المجهولون (¬1). وقال الذهبي في ترجمة السري بن عاصم (¬2): وهَّاه ابنُ عدي، وكذَّبه ابنُ خِراشٍ، قال الذهبي: ومن مصائبه أنَّه أتى بحديث متنه " رأيتُ حولَ العرش وردةً مكتوب فيها: محمَّدٌ رسولُ الله أبو بكر الصديق ". وقال في ترجمة سعيد بن جَمْهَان: وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به (¬3)، هو راوي " الخلافة بعدي ثلاثون سنة" حسنه الترمذي، وهذا ¬
كالنَّصِّ على خِلافة الثلاثة. وقال (¬1) سعيدُ بن محمد الجرْمِي: روى عنه البخاري (¬2) وهو ثقة، لكنه شيعي. وقال ابنُ معين: صدوق. ولما روى أحمد بنُ بكر البَالِسِي (¬3) حديث " مَنْ أبغضَ عمر، فقد أبغضني " قال الأزديُّ: كان يضعُ الحديثَ (¬4). وكذبوا إسماعيلَ بنَ يحيى بن عُبيد الله من ذرية أبي بكر، وقالوا: لا تَحِلُّ الروايةُ عنه، ولم يتشيَّعْ (¬5). وعكس هذا: وهو تصحيحهم لما يُبَاينُ مذهبهم إذا رواه الثقات. قال الذهبي في ترجمة زيد بنِ وهب (¬6)، وهو ممن اتفقوا على الاحتجاجِ بحديثه في الصحاح، قال: هو مِن جِلَّةِ التابعين وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به إِلا ما كان مِن يعقوب الفسوي، فإنه قال في تاريخه (¬7): في حديثه خَللٌ كثير. ولم يُصِبِ الفسوي. ثم إنَّه ساق من روايته قولَ عمر: يا حُذَيفةُ باللهِ أنا من المنافقين (¬8)؟ ¬
قال: وهذا محال (¬1) أخافُ أن يكونَ كذباً. قال: ومما يُستَدَلُ به على ضعفِ حديثه روايتُهُ عن حذيفة: إن خرج الدجال، تبعه مَنْ كان تحت راية عثمان (¬2). ومِن خَلَلِ روايته قولُه: حدثنا واللهِ أبو ذر بالرَّبَذَةِ قال: كنتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستقبلَنَا أُحد. الحديثَ (¬3). ¬
فهذا الذي استنكره الفسويُّ من حديثه، ما سُبِقَ إليه، ولو فتحنا هذه الوساوسَ على أنفسنا، رددنا كثيراً من السُّنن الثابتة بالوهم الفاسد، ولا نفَتَح علينا في زيد بن وهب خاصة بابُ الاعتزال، فردُّوا حديثَه الثابتَ عن ابنِ مسعود حديث الصادق المصدوق (¬1). وزيدٌ سيدٌ جليلُ القدر، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقُبِضَ وزيدٌ في الطريق، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي والسابقين، وحدث عنه خلقٌ، ووثقه ابن معين وغيره حتى إن الأعمشَ قال: إذا حدَّثَك زيد بن وهب عن أحد، فكأنك سمعتَه من الذي أخبرك عنه. وذكر الذهبيُّ في ترجمة إبراهيم بن يعقوب (¬2): أن ابْنَ عديٍّ، قال في ترجمة إسماعيل بن أبان الورَّاق (¬3) لما قال فيه إبراهيمُ بن يعقوب الجوزجاني: كان مائلاً عن الحقِّ: لم يكن يكذِبُ، والجوزجاني كان مائلاً إلى مذهب أهلِ دمشق في التَّحَامُلِ على علي رضي الله عنه (¬4)، فقولُه في إسماعيل بن أبان: كان مائلاً عن الحق يعني ما عليه الكوفيون من ¬
التشيع (¬1). وقال (¬2) في بشر بن حرب البزار: منكرُ الحديث جداً، ثم ساق له حديث: " الخليفة بعدي أبو بكرٍ وعُمَرُ، ثم يقعُ الاختلافُ "، قال: باطل. وضعف الذهبي (¬3) جعفر بن عبد الواحد قال (¬4): ومن بلاياه حديثه عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريره بحديث (¬5): " أصحابي كالنجوم " ومن هذا القبيل في ترجمة الحُسين بنِ عبدِ الرحمان (¬6)، وخالد بن إسماعيل المخزومي (¬7)، وخالد بن أنس (¬8)، وعبد الله بن داود (¬9)، وعبد الله بن محمد بن ربيعة (¬10). وروى الذهبي في ترجمة سعيد بن خُثَيم الهلالي (¬11) قيل لابن معين فيه: هو شيعي؟ قال: وشيعي (¬12) ثقة. ¬
وقال (¬1): سلام بن مسكين: أحد الثقات لكنه يرمى بالقدَرِ، وقال أبو داود: كان يذهب إلى القدر. وقال في ترجمة سلم بن ميمون الزاهد الخواص (¬2): غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث فلا يحتج به، روى أن أعرابياً بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أجل، فقال له علي: يا أعرابي، إن مات النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ يقضيك؟ قال: لا أدري، قال: فأتهِ فَسَلْه (¬3)، فقال: " يقضيك أبو بكر " وذكر الحديثَ، وآخره: " إِذا أنا مِت وأبو بكر وعمر وعثمان، فإن استطعت أن تموت، فمت ". قال العقيلي: حدث بمناكير لا يتابع عليها، وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه. وذكر (¬4)، أن أحمد بن حنبل وثق سليمان بن قَرْم، وكان غالياً في التشيع. فلم يمنعهم غُلُوُّهُ في التشيع مِن توثيقه، ولا مِن رواية توثيق مَنْ وَثَّقَهُ، وقال ابن عدي (¬5): أحاديثُهُ حسان، هو (¬6) خيرٌ من سُليمان ابنِ أرقم بكثير. قلت: ولم يكن ابنُ أرقم من الشيعة. وقال الذهبيُّ في ترجمة عبد الرحمانِ بنِ أبي حاتم الرازي (¬7): ¬
الحافظُ الثبتُ ابنُ الحافظ الثبت ... إلى قوله: وما ذكرتهُ لولا ذِكْرُ أبي الفضل السليماني له، فبئس ما صَنَعَ، فإنه ذكر أسامي الشيعة المحدِّثين الذين (¬1) يُقَدِّمُونَ علياً على عثمان: الأعمشَ، النعمانَ بنَ ثابت، شعبةَ ابن الحجاج، عبدَ الرزاق، عبدَ الله بن موسى، عبدَ الرحمان بن أبي حَاتم. انتهى. فقد ردَّ الذهبيُّ على السليماني ذكرَ هؤلاء بالطعن في روايتهم لأجل التشيع. وقال (¬2) في عبد الرحمان بن [مالك بن] مغول عن الدارقطني: متروك. وعن أبي داود: كذاب يضع الحديث، ثم روى من طريقه حديث " لا يُبْغِضُ أبا بكر وعمر مؤمن ولا يُحبهما منافق ". قال الذهبي: وقد رواه معلَّى بن هِلال كذّاب. قلتُ: وذكر في ترجمةِ عبدِ الرحمان بن محمد بنِ أحمد بنِ فَضالَة (¬3) أنَّه حافظٌ، صاحبُ حديث، لكنه رافضي جلي. فلم يمنعه رفضُهُ مِن مدحه بأنه حافظٌ صاحبُ حديث. وقال (¬4) في عبدِ الرحمان ابنِ أبي الموال (¬5): ثقةٌ مشهورٌ، خرج مع محمد بن عبد الله (¬6). قال ابن عدي (¬7): هو مستقيمُ الحديثٍ، ¬
والذي أنكروا عليه حديثَ الاستخارة وقد رواه غيرُ واحد من الصحابة. قلت: وأخرجه البخاريُّ (¬1) عنه، وهو مِن رجال البخاري (¬2) والأربعة. وقال ابنُ خراش: صدوق. وقال غيرُه: ضربه المنصورُ ضرباً شديداً ليدُلَّهُ على محمد بنِ عبد الله، وحبسه، وكان مِن شيعتهم. وقال الذهبي في " الكاشف " (¬3): ثقة. وقال الذهبي في ترجمة الصَّقْرِ بنِ عبد الرحمان: حَدَّثَ عن أنسٍ بحديثٍ كذبٍ: " قم يا أنس فافتح لأبي بكر، وبشره بالخِلافة من بعدي " وكذا في عمر وعثمان. ¬
وقال بعضهم: هو صدوق. قال الذهبي: من أين جاءه الصدق (¬1). وُيوجد مثلُ هذا في كتاب " ميزان الاعتدال في نقد الرِّجال " للذهبي، تركتُ ذكره للاختصار فليُنظر في تراجم عبدِ الله بن محمد بن سعيدٍ (¬2)، وعبد الله بن واقد أبي قتادة الحراني (¬3)، وموسى بنِ جعفر الأنصاري (¬4)، وموسى بنِ جعفر الكاظم (¬5)، وموسى بنِ عبد الرحمان الثقفي الصنعاني (¬6)، وموسى بنِ عيسى بن عبد الله (¬7)، وموسى بن محمد بن عطاء (¬8) الدمياطي البلقاوي المقدسي الواعظ (¬9)، ونُعَيم بنِ حَمَّاد الخُزاعي (¬10)، ونوحِ بن طلحة من أولاد أبي بكر الصديق (¬11)، ونوحِ بن أبي مريم (¬12) من المتعصِّبين لمذهب السنة، وهارون بنِ أحمد (¬13) في ترجمته حديثٌ عجيب، وهشامِ بنِ حسان (¬14) وهشامِ بن عمار (¬15)، وعامر بنِ صالح بن عبد الله مِن ذُرِّيَّةِ الزبير بن العوام (¬16)، وإسماعيل بنِ يحيى مِن ذرية أبي بكرٍ الصديق (¬17)، ويحيى بنِ شبيب اليماني (¬18)، والحسنِ بن علي بن زكريا ابن صالح (¬19)، ومحمد بنِ أحمد بن عياض بن أبي ظبية (¬20)، وعمرَ بنِ ¬
حمزة (¬1) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (¬2)، وفليح بنِ سليمان (¬3). وفي باب السجود من " مجمع الزوائد " (¬4) للهيثمي عن ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لَمْ يَلْزِقْ أنفَه مَعَ جَبْهَتهِ بالأرْض إذَا سَجَدَ، لَمْ تَجُزْ صَلاَتُهُ " رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط ". قال الهيثمي: ورجاله موثَّقُونَ وإن كان في بعضهم اختلافٌ من أجل التشيع. انتهي بحروفه. وقال الذهبي (¬5). محمدُ بنُ حمزة بن عمر بن إبراهيم العلوي، كان جَدُّه زيدياً مِن العلماء، وأما هو، فرافِضِي. فدلَّ على تنزيههم للزيدية من الرّفض، ومعرفتهم لذلك. وقال في ترجمة معبدٍ الجُهَني (¬6): إنَّه تابعي صدوق في نفسه، لكنه سَنَّ سنة سيئة، فكان أوَّلَ مَنْ تَكلم في القدر. ونحو هذا لا يُحْصَرُ، يعرِفُه بالضرورة منْ طالع كتبهم في علم الرجال. وقد وثَّقوا مِن الشيعة: أبانَ بن تغلب (م 4)، وأحمدَ بنَ محمد بن ¬
أحمد أبو منصور (¬1)، وأحمدَ بن محمد بنِ الحسين بن فاذشاه صاحب الطبراني (¬2)، وعبد الله بن الحسن (4) وابنَه محمد (د س ت)؛ وأحمدَ ابنَ محمد بن سعيد بن عقدة (¬3)، وأحمدَ بن المُفَضَّل (د س)، وإسماعيل بن أبان الأزدي شيخ البخاري (خ ت)، وإسماعيلَ بنَ زكريا الخلقاني الكوفي، حديثُه في كتب الجماعة (ع)، وإسماعيل بنَ عبد الرحمان السُّدِّي (م 4)، وإسماعيل بن موسى الفزاري الكوفي ابن بنت السُّدي (د ت ق)، وبهزَ بنَ أسد (ع)، وقال الذهبي فيه: إمام حجة، وتليدَ بنَ سليمان (ت) أثنى (¬4) عليه أحمد، وثعلبةَ بنَ يزيد الحمَّاني (عس)، وجابرَ بن يزيد الجعفي (د ت ق)، وثقه غيرُ واحدٍ منهم (¬5)، وجعفرَ بنَ زياد الأحمر (د ت س)، وجعفَر بن سُليمان الضُّبَعي (م 4)، وَجُمَيْعَ بنَ عمير (¬6)، والحارثَ بن حَصيرة (بخ)، والحارثَ بن عبد الله ¬
الأعور (¬1)، وحَبَّةَ بن جُوين من الغُلاة وثَّقه العجلي وحدَه (¬2)، والحسنَ بنَ صالح بن حي (م 4) وقال الذهبي: كان مِن الأعلامِ العُبَّادِ، وخالدَ بنَ مخلد القطواني الكوفي (ع) مِن رجال البخاري وسائر الجماعة (¬3) وفي ترجمته قال الذهبي ما لفظه: قال الجوزجاني: كان شتَّاماً معلناً بسوء مذهبه، وكان أبو نُعيم الفَضْلُ بنُ دُكين (ع)، كوفيَّ المذهب يعني يتشيَّع، وهو أحدُ شيوخ البخاري، ورجالِ الجماعةِ كُلِّهم، وعبيدَ الله بن موسى العبسي (ع) أسوأ مذهباً - قال الذهبيُّ: وكذلك عبدُ الرزاق (ع) وعدَّة. قلت: قال ابنُ سعد في عُبيد الله بن موسى: كان مُفْرِطَ التشيع، وقال: كان شيعياً محترقاً، ومع هذا حديثه متفق على صحته، لأنَّه ممن خرَّج عنه البخاريُّ ومسلمٌ وسائرُ الجماعة. وقال الذهبيُّ: كان ذا زهدٍ وعبادة وإتقان. ¬
- وعبدَ الحميد بن جعفر (م 4)، ومنصور بن أبي الأسود (د ت س)، وهارونَ بن سعد العِجلي (م)، وهاشمَ بن البَرِيدِ (د س ق)، ويحيى بنَ الجزار (م 4)، ويحيى بن عبد الله أبو حجيَّة الكندي الأجلح السَّبيعي (ع) يذكر مرة باسمه ومرة بلقبه، وعمر بن إبراهيم العلوي الزيدي (¬1)، وقد مر (¬2) عبدُ الرزاق بن همَّام الإمام، وعبدُ الرحمان ابن أبي الموالي (خ 4) الخارج مع محمد بن عبد الله، وأبو معاوية الضرير محمد بن خازم (ع) - قال الحاكم: احتجَّا به، وقد اشتهر عنه الغُلُوُّ، قال الذهبي: أي: غلو التشيع، وقد وثقه العِجلي. وعدي بن ثابت (ع) متفق عليه في كتب الجماعة. وقد قال ابنُ معين: شيعي مفرط. وقال الدارقطني: رافضي غال. وممَّن أثنوا عليه لِصحَّة الحديث من المعتزلة: أحمدُ بنُ يوسف ابن (¬3) يعقوب بن البُهلول (¬4)، وإسماعيلُ بنُ علي بن سعد السَّمان (¬5)، ¬
وثورُ بن يزيد الكَلاعي (خ 4)، وحسانُ بن عطية (ع)، والحسنُ بن أحمد أبو علي الفارسي النحوي صاحبُ التصانيف، وحمزةُ بن نجيح (بخ) (¬1)، وقتادة بنُ دِعامة (ع)، وعبدُ الله بن أبي لَبيد (خ م د س ق)، وعبدُ الله بنُ أبي نجيح (ع) وفي ترجمته نسبةُ الاعتزالِ إلى زكريا بنِ إسحاق (ع)، وشبلِ بنِ عباد (خ د س)، وابنِ أبي ذئب (ع)، وسيفِ بن سليمان (خ م د س ق) وكُلُّهُمْ من أئمة الحديث. انتهى، وعبدُ الأعلى بنُ عبد الأعلى الشامي (ع)، وعبدُ الرحمان بن إسحاق القرشيُّ المدني (م 4)، وهِبةُ الله بن المبارك بن الدَّواتي (¬2)، وهشامُ بن عمار (خ 4) شيخ البخاري، والهبة بنُ حميد، ومحمودُ الزمخشري، وعليُّ بن محمد بن أقضى القَضاة (¬3)، وعليُّ بنُ محمد بن الحسن بن يزداد (¬4) وخلق سواهم (¬5). وقد أثبتُّ على من ذكرتُه علامَةَ (¬6) ¬
من خَرَّج حديثَه من أئمة دواوينِ الإسلام ومَنْ لم أُخرج له علامةً، فهو مذكور في " الميزان ". الحادي عشر: تحريهم لِلصدق في كتب الجرح والتعديل، وعدم المداهنة، فقد تكلَّمُوا في تضعيف الأصدقاء والقرابات مثل نوح بنِ أبي مريم، وابن أبي داود (¬1)، ووالد علي بن المديني (¬2) بل في منْ يعظمونه وهو حقيقٌ بالتعظيم كالإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله ضعَّفَهُ بعضهم من جهة حفظه (¬3)، وصَدَعُوا بذلك في التصانيفِ مع أن الملوك حنفية في هذه الأعصار في مصر والشام وهم مستمرون في ذلك، وتجد المحدِّث الشافعي إذا تعرَّض لذكر الشافعي في كتب الرِّجال لم يُعظِّمْهُ في معرفة الحديث ورجاله وعِلَلِه كما يُعظم غيره بل يُوردون في تعديله عباراتٍ فيها لين مثل (¬4): لا بأسَ به، وثقة ونحو ذلك، ويخُصُّونَ مَنْ هُوَ دونه بما هو أرفعُ من ذلك مثل: إمامٌ حُجَّة لا يُسأَلُ عن مثله، وقد كان الشافعي يُوثِّقُ ابنَ أبي يحيى أحدَ شيوخه في الحديث وأصفق (¬5) الأكثرون على تضعيفه، وكذَّبه جماعة، وعَمِلَ أصحابُ الحديث من أصحابِ الشافعي على تضعيفه، وعدمِ المبالاة بتوثيقِ الشافعي له. ¬
الثاني عشر: تعديلُهم لأعدائهم من غلاة الروافض، وكم في " الصحيحين " مِن رافضي سَبَّابٍ للصحابة، غالٍ في الرفض، كما مرَّ تعدادُ بعضِهم، ونقل ذلك من كتبهم وهم يعلمون ذلك، ويذكرون مذهَبه في كتبهم في الرجال، ويُصَرِّحونَ بأنه ثقةٌ حُجَّةٌ مأمونٌ في الحديث، والعدلُ على العدو من أبلغ أمارات الإِنصاف. الثالث عشر: روايتُهم لِفَضَائل علي عليه السلامُ، وفضائِل أهلِ البيت في أيَّامِ بني أمية وهو عليه السَّلامُ -حاشاه من ذلك- يُلْعَنُ على المنابِرِ، ولا يروي فضائِلَه إلاَّ مَنْ خاطر بروحه. الرابع عشر: روايةُ مساوىء معاوية، والأحاديث الواردة بذمه (¬1) وذَمِّ صِبية بني أمية وهي في تواريخهم وكتبهم، وبيان المكذوب مِن فضائله، وأنه لم يَصِحَّ منها شيء. رواه الذهبي عن إسحاق بنِ راهويه، وبيان كُل ذلك رووه في زمنِ بني أمية بدليل اتصالِ إسناده، وبذلك تأوَّلوا حديثَ أبي هريرة في قوله: حفظتُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جِرابين، أما أحدهما فبثثتُه في الناسِ، وأما الآخر فلو أبثه (¬2) لَقُطِعَ هذا البُلْعُومُ (¬3)، قالوا: هُوَ ما كان عنده من ذمِّ أمراءِ بني أمية الذين كان معاصراً لهم، وكذلك صَرَّحُوا بتأويلِ حديث عمرو بنِ العاص بذلك حيث قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ¬
جهاراً غيرَ سِرار: " إنَّ آلَ أبي فُلانٍ لَيْسُوا بأَوْليائي إِنَّما أَوْليائي المُتَّقونَ " (¬1) فسَّروه بآل أبي العاص، منهم الحكمُ طريدُ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ممَّن فسره بذلك القاضي عِياض في شرح مسلم، وكذلك النواوي في شرح مسلم (¬2) أيضاًً، وكذلك ابنُ حجر في مقدمة شرح البخاري، وسيأتي ذلك مستوفى قريباً، ويأتي تمام لهذا في ترجمة مروان والوليد في الأوهام الآتية إن شاء اللهُ تعالى. وكذلك ذكر الرازيُّ (¬3) عن ابن عباس أن الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية، وأنَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى بني أمية يتداولون مِنْبَرَهُ، فَقَصَّ رؤياه على أبي بكر وعمر سِرّاً، فتسمَّعهم الحكمُ، فأفشى سِرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفاه لأجل ذلك، هذا مختصر مما ذكره الرازي، وروى الترمذي ما يشهد لذلك كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬
الخامس عشر: أنَّ حديثَهم أقوى مِن الرأي ولو لم نقبلْه، لقبلنا الرأيَ، وإنما قُلنا: إِنَّها أقوى مِن الرأي لوجهين: أحدُهما: أنَّ الظنَّ المستفاد منه أقوى مِن الظن عن الرأي، وذلك لِقلة مقدماته، وكثرةِ مقدمات الرأي، فالرأيُ يتوقَّف على ظَنِّ صحته في الجملة، وظنِّ صحة النصِّ في الأصل، وظنِّ أن الحُكْمَ الثابت في الأصل مُعَلَّلٌ، وظنِّ أن عِلَّته متعدية غيرُ قاصرة جملة، وظنِّ أنها موجودةٌ في الفرع، وظنِّ أنَّها غيرُ مخصّصة، وظنِّ عَدَم النصّ المانع من القياس، وظنِّ عدم العلة المعارضة لها. فأما أحاديث المتأولين فإنَّها تتوقَّفُ على ظنِّ قبولِ المتأوِّل وصدقه، وظنِّ عدم المعارض والناسخ والمخصِّصِ على الاحتياط وإلاَّ، ففيه نظر، ليس هذا موضِعَ ذكره. وثانيهما: أن الأدلةَ الدالة على قبول المتأولين أقوى من الأدلة الدالة على القياسِ، فلم يستدِلُّوا على القياس من القرآن إلاَّ بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والاحتجاج بها ضعيف جداً (¬1). المسألة الثانية: قبولُ كافرِ التأويل. وليس في الأحاديث المُعْتَمَدِ عليها مَنْ هو عندنا كافِرُ تأويل بحمد الله تعالى، ولكني أذكر الحُجَجَ في ذلك لمن أحبَّ أن ينظر فيه، والمسألةُ محلُّ نظر، وأما مَنْ قبلهم، فقد احتجَّ على قبولهم بجميع ما تقدَّم إلاَّ أشياءَ يسيرةً، فهي تختصُّ فساقَ التأويل، وذلك لا يخفى على العارفِ المتأمل، ولْنَذْكُر من ذلك وجوهاً ثلاثة: الأول: الإجماعُ (¬2) رواه خمسة ثقات: الإمامُ يحيى بنُ حمزة، ¬
والمؤيَّد، والمنصورُ، والقاضي زيد، والفقيهُ عبدُ الله بن زيد، أما الإمام يحيى بنُ حمزة، فروى ذلك في موضعين من " الانتصار ": أحدُهما: في باب الأذان قال ما لفظه: وأما كفارُ التأويل، -وهم (¬1) المجبرة والمُشَبِّهة والروافض والخوارج-، فهؤلاء اختلف أهلُ القبلة في كفرهم، والمختارُ أنهم ليسوا بكفارٍ، لأن الأدلةَ بكفرهم تحتملُ احتمالاتٍ كثيرة، وعلى الجملة فمن حكم بإسلامهم أو بكفرهم قضى بصحة أذانِهم، وقبولِ شهادتهم. انتهى. وعدم التكفير لهؤلاء كُلِّهم هو اختيارُ شيخ المعتزلة أبي الحسين، وشيخِ الأشعرية الفخر الرازي وأصحابهما، ذكره الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى "، وهو اختيارُ القدماء كما أشار إليه محمدُ بنُ منصور الكوفي (¬2) في كتابه " الجملة والألفة " (¬3). وثانيهما: في كتاب الشهادات قال عليه السلامُ ما لفظه: ومَنْ كفر المجبرة والمشبهة، قَبِلَ أخبارَهم، وأجاز شهادتَهم على المسلمين وعلى بعضهم، وناكحوهم وقبروهم في مقابر المسلمين، وتوارثوا هم والمسلمون. وأما المنصورُ بالله عليه السلام فلفظه في " المهذب ": نعم، ذلك ¬
لأنه قال فيه ما لفظه: وقد ذكر أهلُ التحصيل من العلماء جوازَ قبول المخالفين في الاعتقادات، وروى عنهم المحققون بغير مناكرة في ذلك، ذكره عليه السلامُ في كتاب الشهادات من " المهذب "، وقد تقدم الكلام في أنَّ هذا يُفيدُ الإجماعَ عند الكلام (¬1) على رواية الإجماعِ على قبول فساق التأويل، فخُذه من هناك. وأما المؤيَّدُ بالله عليه السلام، فإنه قال: والأظهرُ عند أصحابنا قبولُ كافِر التأويل (¬2) وقد تقدَّم نقلُه، وبيانُ الوجه في أنَّه يُفيدُ إِجماع علماء العترة (¬3) عليهم السلامُ. وأما روايةُ القاضي زيد، فقد تقدمت وهي صحيحة صريحة. وأما الفقيهُ عبدُ الله بن زيد، فقال: اختلفوا في قبول الكافر والفاسق من جهة التأويل، والمختارُ: أنَّهُ يقبل خبرهما متى كانا عَدْلَيْنِ في مذهبهما، وهو قولُ طائفة من العلماء، والذي يَدُلُّ على صحة قولنا أنَّ الصحابة أجمعت على ذلك. فإن قلتَ: قد رُوي الخلافُ من غير شك، فكيف يمكن الإصغاءُ إلى رواية هذا الإجماع؟ قلتُ: الجواب من وجوه: الأول: معارضة، وذلك أن (¬4) السَّيِّد قد حكم بأنَّ راوي الإجماعِ مُقدَّم على راوي الخلاف، واحتجَّ على ذلك بحجتين: ¬
أحدُهما: أن المثبِتَ أولى من النافي. والثانية: أنَّ راويَ الإجماع ناقلٌ عن حكم الأصل، والناقِلُ أولى، وقد بيَّنا فسادَ ما ذكره فيما تقدَّم (¬1)، وإنما أردنا بهذا أن يحتجَّ عليه بما هو صحيحٌ على أصله. الثاني: أنَّ شروطَ التعارض عزيزة كما ذكرها في الفرق بين النسخ والبداء (¬2) وبيانُه في مسألتنا أنَّه يقعُ الإجماعُ من أهل عصر والخلافُ بينَ أهل عصر آخر، فإن كان الإجماعُ متقدماً، فالخلافُ وقع ممَّن لم (¬3) يعلم بالإجماعِ، وإن كان الإجماعُ متأخراً، فذلك ظاهر. الثالث: أن أقلَّ أحوالِ مدَّعِي الإِجماعِ أن يعرف أنَّهُ قولُ الجماهير، وأنه لا يُعرف في ذلك خلافاً حتى لا يُنسب المختار لهذا القول إلى الشذوذ. فإن قيل: فقد روى الإمامُ الخلافَ في " المعيار " فتناقض. قلنا: شرطُ التناقض عزيز، إذ لا يَصِحُّ مع إمكان الجمع، والجمعُ ممكن وذلك أن يكون الخلافُ الذي في "المعيار" منسوباً إلى أهل ¬
عصر، والإجماعُ الذي رواه في " الانتصار " منسوباً إلى أهل عصرٍ آخر، وذلك كثير في مسائل الإجماع. فان قيل: فقد روى قاضي القضاةِ الإجماعُ، فتعارضا. وقال ابنُ الحاجب: إِن كافرَ التأويلِ، كالكافر عند المكفِّرِ. قلنا: لا يتعارضان لوجوه: الأول: قد عُلِمَ الخلاف بغير شك، كما قال أبو الحسين، وقد تقدم تقريرُه حيث تقدم كلام أبي الحسين. الثاني: هؤلاء خمسة، والترجيح يَحْصُلُ بزيادة وأحمد، فكيف بأربعة. الثالث: أنهم أورعُ لتنزههم عن البِدعة، فبان الرجحان، وارتقع التعارض بحمد الله، وأما كلامُ ابن الحاجب، فقد تقدَّم جوابُه حيث ظن السيد أنَّه (¬1) حكاية للإجماع على ردِّه، وكلام الإمام يحيى بن حمزة يَرُدُّ عليه دعواه، ويُعارضه، وترجح عليه بما ذكرناه. الحجة الثانية: القياسُ على فاسق التأويل، وقد ذكرها في " الجوهرة " وهي قوية. الحجة الثالثة: ظن وجود النص، وتحريم العمل بالرأي وبالعموم مع ظنِّ النصِّ والمُخَصِّصِ إجماعاً -وهي قوية- ونحوها من الحجج المتقدمة (¬2) على جوازِ قبولِ فاسقِ التأويل مما يَصِحُّ الاحتجاجُ به في كافر ¬
التأويل، فتأملها هناك، فقد ذكرتُ فيما تَقَدَّمَ اثنتين وثلاثين حجة مِن الحجج الدالة على قبولِ الفساق المتأولين وأكثرُها حجج على قبولِ الكفار المتأولين ما يَخْرُج منها إلَّا النادِرُ، وذِكرُها يؤدِّي إلى التطويلِ من غير حاجة، لأني قد ذكرتُ أني لا أعلَمُ أني معتمد على كافِر تأويلٍ في الحديث. قال السيدُ -أيَّده اللهُ-: وأمَّا إذا عارض روايةَ فساقِ التأويل روايةُ العدل الصالح المنزّه مِن فسق التأويل، فالإِجماعُ على ترجيح روايةِ العدل الصالح ممَّن يَقْبَلُ رواية فُسَّاقِ التأويل منفردين، وممَّن لا يقبلهم. أقول: قد طالعتُ كثيراً من كتب الأصول والفروع لِطلب معرفة الإجماع هذا الذي ادَّعاه السيِّد على تقديم روايةِ العدل في التصريح والتأويل على رواية العدلِ في التصريح، الفاسق في التأويل، فلم أَجِدْ أحداً ذكرها فيما طالعتُ، والذي لم أُطَالِعْ أكثرُ مما طالعت، ولكن الكُتَبَ التي طالعتُ هي الكتبُ المتداولة، فلا أدري السيد -أيَّده الله تعالى- نقل هذا الإجماعَ عن أحدٍ من العلماء الثقات، أو وجده في شيء مِن المصنفات، فله المِنَّةُ بالإرشاد إلى ذلك، أو قال ذلك مِن طريق الفهم والحَدْسِ، فليس ذلك من طرق الإجماع. وللإِجماعِ طُرقٌ معروفة لا تخفى على السيدَ -أيده الله تعالى- فيجِب عليه أن يُفيدنا طريقاً إلى معرفة هذا الإِجماع. ثم إنَّه يرد على دعواه للإِجماع إشكالات: الإِشكالُ الأول: أن المنصور بالله عليه السلام قد ذكر في كتاب " الصفوة " ما يقتضي الإجماعُ على التسوية بين العدلِ في التصريح والتأويل، والعدلِ في التصريح، الفاسق التأويل، فقال عليه السلام في حكاية إجماع الصحابة على ذلك ما لفظه: أما أنَّهم أجمعوا، فذلك مِن
ظاهر (¬1) أحوالهم لمن تَصَفَّحَ أخبارَهم، واقتصَّ آثارهم، وذلك أن الفتنة لما وقعت فيهم، وتفرَّقوا فِرقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهي الأمرُ بينهم إلى القتل والقتال، كان بعضُهم يروي عن بعض بغير (¬2) مناكرة بينهم في ذلك بل اعتماد أحدهم على ما يرويه عمن يُوافقه، كاعتماده على روايته عمَّن يُخالفه. فنصَّ عليه السَّلامُ على أن اعتمادَ الصحابة على حديث المخالف كاعتمادهم على حديث الموافق، وأطلق القولَ في ذلك، ولم يُقيِّدْهُ بحال الانفرادِ دونَ حال التعارض، وسيأتي ما هو أَعْظَمُ من ذلك من كلامه عليه السلام. وكذلك الشيخُ أحمد بن محمد الرَّصَّاص، فإنه حكى الإِجماعَ على مثل ذلك، فقال في كتاب " الجوهرة ": إن الفتنة لما وقعت في الصحابة كان بعضُهم يُحَدِّثُ عن بعض، ويُسْنِدُ الرجل إلى من يُخالفه، كما يُسند إلى من يُوالفه (¬3) من غير نكير، وكذلك الفقهاء بأسرهم، فإنَّ السَّيِّد أبا طالب حكى عنهم في كتاب " المجزىء " أنهم قالُوا: إن المعلومَ مِن حال الصحابة أنهم كانوا يُراعون في قبول الحديث والشهادة الإسلامَ الذي هو إظهار الشهادتين، والتنزّه عمَّا يُوجِبُ الجرحَ مِن أفعال الجوارِح ... إلى قوله عليه السلام (¬4): وكانوا مجمعين على التسوية بين الكلِّ ممن هذه حالُه في قبول شهادته، وحديثه مع العلم باختلافهم في المذاهب. فنصَّ عليه السلامُ على أن الفقهاء حَكَوُا العلمَ بإجماع الصحابة على التسوية بين المتأوِّل في فسقه والعدل في باب الرواية والشهادة فهذا إجماعٌ ثبت بخلاف ¬
دعوى السيد، لكنه ثبت مِن طَرِيق (¬1) الظواهر دونَ النصوص، ولا شَكَّ أن الظواهِرَ معمول بها، وسواء كانت مِن كلام الله، أو مِن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كلامِ العلماء رضي الله عنهم، وقد أجمعتِ الأمة على جواز العمل على ظاهر كلامهم، وإنَّما المُحَرَّمُ مخالفة الظاهر بغير دليل، فينبغي أنَّ السَّيِّد يُبَيِّنُ لنا مستندَه في إجماعه الذي ادَّعاه حتى نَعْرِفَ أهو أرجحُ مِن هذا فنقدِّمَه، فلعلَّه نصٌّ، والنصُّ مقدم على الظاهر، أو مروي مِن طرق أكثرَ من هذه، أو عن علماء أعدلَ من هؤلاء، والله سبحانه أعلم. الإِشكالُ الثاني: قال المنصورُ بالله عليه السلام في كتاب " صفوة الاختيار" -بعد ذكر (¬2) تشدُّد الخوارج في تحريم الكذب، وقوله: إنَّه كفر- ما لفظه: فإذا كان الأمرُ كما ترى كان مَنْ يقول: مَنْ كذب كفر، روايتُه أولى مِن رواية مَنْ يقول: من كَذَبَ فسق، لأن الإنسانَ قد يتجاسر على الفسق، ولا يتجاسر على الكفر. انتهي بلفظه وهو صريح في مخالفة دعوى السيد للإجماع. وكذلك الحاكم أبو سعدٍ، فإنه قال في " شرح العيون " ما لفظه: وعلى هذا ما رُوِي عن بعضهم أنَّه سُئِل عن شهادة الخوارج، فقال: شهادة من يكْفُرُ بكذبه أولى مِن شهادة من لا يَرى ذلك. وكذلك الشيخُ أحمد الرصَّاص، فإنه قال في " جوهرته " حاكياً عن غيره: ولأن مَنْ يقول: من كذب كفر أولى بالقبول مِنْ قولِ مَنْ لا يرى ذلك وإن كان مخطئاً في قوله هذا، لأنَّه يبعد الظن لكذبه، ويقرب صدقه. انتهى. ¬
واتفق أئمةُ الحديث على أن الحديثَ الصحيح أولى بالقبول عند التعارض مِن الحديث الحسن، وصحَّحُوا حديثَ جماعةٍ من المبتدعة، وحسَّنُوا حديثَ جماعةٍ من أهل الحق والسنة، وهذا يقتضي القطعَ بأنَّهم قد (¬1) يُقَدِّمُونَ المبتدَع الثقةَ الحافظَ على مَنْ هوَ دونه مِن أهل السنة في الحفظ والإتقان، وكُلُّ هذا تصريح بأن الترجيحَ في باب الرواية إنما هو باعتبار قُوَّةِ الظنِّ، لا باعتبار كثرة الفضل في الراوي، فحيث يكونُ الظنُّ أقوى برواية فاسق التأويل لكثرة العدد، أو للعلم بحال جميعِ رجال السند، أو غير ذلك من الأسباب المثيرة لقوة الظن لا تَصِحُّ دعوى الإجماع على رَدِّ رواية المتأوِّل الراجحة في الظن (¬2)، وكيف يدعي الإجماعَ، وهذا الإِمامَ المنصور بالله عليه السلام يُصَرِّحُ بالخلاف، ويُقدِّمُ رواية الخارجي الذي يُكفِّر أميرَ المؤمنين علياً عليه السلامُ على روايةِ العدل، ويصرح بأنها أولى، وكيف يَصِحُّ دعوى الإجماع، والخلافُ محكي في " الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ علماءِ الزيدية، ولم نعلم أنَّ أحداً أنكر ذلك على صاحب " الجوهرة " من أهل التعاليق عليها، وقد نقَّحوا ما فيها، وحقَّقُوه، واعترضوا فيما (¬3) يُمْكِن أن يعترض فيه (¬4) مما هو أقَلُّ مِن هذا، وكذا الحاكمُ على ما قدمناه ولم يعترض. الإِشكالُ الثالث: أن العلماءَ قد ذكروا في كتب أصول الفقه أن الترجيحَ إنما يقع بما يتعلَّقُ بالرواية مما يُقويها، ويَدُلُّ على الصدق فيها، ولهذا نص (¬5) المنصورُ بالله، وأبو طالب عليهما السلام، وأبو ¬
الحسين، والحاكمُ رضي الله عنهما وغيرُهم من المصنفين في الأصولِ على أن روايةَ العالمِ لا تَرْجُحُ على رواية العامي إذا كان العلم مما لا يتعلَّقُ بالرواية، وكذلك إذا كانت الرواية باللفظ، ولم ينقلوا الخلاف في هذا إلا عن عيسى بنِ أبان، فإنَّه رَجَّحَ روايةَ العالمِ والأعلم. قال المنصورُ بالله: ومنهم منْ قال: لا يُرَجَّحُ به، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه ونحن نختاره، والدليلُ على صحته أن كونه أعلمَ بغير ما يرويه لا تعلُّق له بروايته، وما لا يتعلق بروايته لا يجب الترجيحُ به. وقال عليه السلامُ في مسألة تعارضِ المرسل والمسند ما لفظُه: ومدارُ الأمرِ في هذه المسألة وما شاكلها على الظن، فما قوي معه الظَّنُّ، كان مرجحاً. انتهى. فهذا نصُّه عليه السلام على أن ما لا يتعلق بالرواية من الفضائل والمرجحات في غير الرواية لا يكونُ مرجحاً في الرواية، وكلامُ السيدِ أبي طالب وغيره من المصنفين في الأصول مثل هذا، لو قلنا كلامَهم في هذا، لطال الكلامُ. وَمِنْ ذلك ما نصَّ عليه الإمامان أبو طالب والمنصور بالله عليهما السلامُ وغيرهما من المصنفين في الأصول على أنَّه لا يرجح خَبَرُ الذكرِ على الأُنثى، ولا الحرُّ على العبد إذا اسْتووْا في الحفظ والعدالة، فهذا مع النصوص على تفضيل الذكور على الإناث في باب الشهادة (¬1)، ومع النَّصِّ النبوي على نُقصان عقولِ النساء (¬2) والإشارة الظاهرة إلى ذلك في ¬
قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]. فإن قلتَ: فما الوجهُ في المساواة بَيْنَ الذكرِ والأنثى، وقد ظهر في الكتابِ والسُّنَّةِ تفضيلُ الرِّجال على النساء. قلتُ: الوجهُ في ذلك أنَّ الأئمة (¬1) والعلماء عليهم السلام لم يُساووا بينهما على الإطلاق، فيكونوا قد خالفوا ما فهموا مِن الكتاب والسنة، وإنما سَاوَوْا بينهما في باب الرواية فقط، وسبب مساواتهم بينهما في الرواية أنَّهم فهموا أن عمودَ الرواية هو قوةُ الظن، ومتى قدرنا استواءَ الذكر والأنثى في الضبط والورع، لم يكن خبرُ أحدِهما أقوى في الظن متى كانت أخصَّ بالأمر، والدليلُ على ذلك ما اشتهر من تقديمِ الصحابة لخبر عائشة في الجنابة على خبرِ أبي هريرة (¬2)، ومِن رجوع الصحابة إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما هُنَّ أخَصُّ به وأعرفُ مِن أمر الحيض، ومباشرةِ الحائض والغسلِ مِن التقاء الختانين، والقبلةِ للصائم، وإصباحِ الصائم جنباً (¬3) وغيرِ ذلك. فلما فَهِمَ الأئمة والعلماء أن الصحابة اعتبروا قوةَ الظن لم يرجحوا أحد الخبرين المنسوبين (¬4) في الظَّنِّ، وإن كان أحدُ الراويين أكثرَ علماً وفضلاً، مهما ¬
لم يكن علمُه وفضلُه مرجحاً لِظنِّ صدقه. وقد ذكر هذا المعنى السَّيِّد أبو طالب عليه السلامُ، فقال بعد ذكر شيء من كلامه: فإن قال قائلٌ: ولمَ قلتُم: إن قوة الظن معتبرة في باب الأخبار، قيل له: الذي يَدُلُّ على ذلك وجوه: منها: ما قد علمنا من حالِ الصحابة أنَّهم كانوا يطلبون في أخبار الآحاد التي يعملون بها قوةَ الظَّنِّ، ويلتمسون ما يُؤدي إليها باستحلافِ الراوي مرة كما رُوِيَ عن أمير المؤمنبن علي صلواتُ الله عليه (¬1)، وبتطلّب مخبرٍ ثانٍ، فيُضاف إلى الأول، كما روي عن أبي بكر أنَّه طَلَبَ عند رواية المغيرة بن شعبة ما رواه في أمر الجدة ثانياً إليه حتى أخبره محمدُ بنُ مسلمة بمثل خبر (¬2)، وكطلب عمر عند روايةِ أبي موسى الأشعري خبر الاستئذان مَنْ يشهد معه لما رواه (¬3). وسلوك هذه الطريقة معلوم من جماعتهم إلى قوله: ومنهم أنَّه لا خلاف في ترجيح الخبر (¬4) بكون راويه أضبطَ للقصة التي ورد الخبرُ فيها مِن غيره، ولهذا كانت الصحابةُ تَرْجِعُ إلى أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تعرُّفِ أحواله التي عُرِفَ أنَّهن يَعْرِفْنَ منها ما لا يَعْرِفُه الأجانبُ، ولذلك رجَّحوا خبرَ عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصبحُ جنباً وهو صائم، على خبر أبي هريرة (¬5)، ولهذا قالت عائشة حين سُئِلَتْ: هل كان ¬
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ على الخُفَّيْنِ بعد نزولِ المائدة؟ سَلُوا علياً عن هذا، فإنّه كان لا يُفَارِقه في سفرٍ ولا حضر (¬1). وإذا ثبت أن مزية الضبط كانت معتبرةً في ذلك، إذ لا فائدةَ في اعتبار حالِ الضبط لما يرويه إلا حصول (¬2) قوة الظن عند خبره. انتهي كلامه عليه السلام. وبتمام هذا الكلام ثم الإشكال الثالث. فإذا عرفت هذه القَاعدة، فالإِنصاف أن تقولَ: لا يخلو المبتدع إما أن تكون بدعتُه القولَ بالإرجاءِ أو غيرِه، إِن كانت بدعتُه القول بالإرجاء، فإن استويا في جميع وجوه الترجيح إِلا أنَّ أحدَهما مرجىء، وأحدهما وعيدي رجح خبر الوعيدي على خبر المرجىء، لأنهما اختلفا في أمر يُوجِبُ تفاوتَ الظنِّ المعتبر في الأخبار، فإنَّه لا شَكَّ مع الاستواء في وجوه الترجيح أن من يخاف العذابَ على ذلك الذنبِ بعينه وعلى غيره مِن الذنوب أبعدُ من الذنب ممن لا يخاف العذابَ عليه، وإنما يخاف مِن ذنب الكُفر. وإن لم يستويا في وجوهِ الترجيح مثل أن يكونَ الراوي للخبر جماعةً من المبتدعة مشهورين بالحفظ (¬3) والإتقان الجيد، ويُخالفهم عدلٌ متنزّه مِن البدع إلاَّ أنَّه منحط عن مرتبتهم في الضبط والحفظ، ومتفرِّدٌ لم يُتابعه غيرُه على ما روى، فها هنا تختلِفُ الظنونُ، ولا يجري القولُ على ¬
قانون، بل كُلُّ أحدٍ مكلفٌ بما يقوى في ظنه، ولكل ناظرٍ نظرُهُ. وأما إن كان المبتدعُ مبتدعاً بغيرِ الإِرجاء مما ليس بكفر، فلا يخلو إما (¬1) أن يستويا في جميع وجوهِ الترجيح إلا فسقَ التأويل، أو (¬2) يختلفا، إن اختلفا في وجوه الترجيح، فالقولُ في ذلك لا يستمر على طريقةٍ واحدةٍ، فقد يكون المتنزِّه عن فسق التأويل أولى بالقبول لِقوة الظَّنِّ بصدقه، وهذا هو الأكثرُ، وقد يكونُ فاسقُ التأويل أولى بالقبولِ لقوة الظن، وقد يكونُ قولُه أقوى في الظن في بعضِ الأحوال لبعض الأسباب الموجبة لذلك، فقد نصَّ المنصورُ بالله عليه السلام على أن قولَ مَنْ يرى أن الكذبَ كُفْرٌ أولى بالقبول ممن لا يرى ذلك، وروى ذلك صاحبُ " الجوهرة " وحكاه الحاكمُ في " شرح العيون " عن بعض أهلِ العلم. ونصُّ المنصور بالله عليه السلامُ في الخبرين إذا تعارضا على أنَّ العملَ على الظن الأقوى هو الواجبُ بهذا اللفظ، وذلك لأن المَرْجِعَ بالترجيح إلى قُوَّةِ الظن لا إلى تفضيل الراوي، فليس المبتدع يُساوي المتنزه من البدعة، ولا كرامة له، وقد نَصُّوا على الإجماع على الترجيح بالضبط، وشِدَّةِ الحفظ، روى الإجماعَ على ذلك أبو طالب عليه السلامُ، وقد قدمنا كلامَه، والمنصورُ بالله عليه السلام، فإنه ذكر الترجيحَ بكون الراوي أكثرَ حفظاً وضبطاً حتى قال عليه السلام: وهذا مما وَقَعَ الإجماعُ عليه برواية شيخنا رحمه الله، وكذلك أبو الحسين نَصَّ على الترجيح بكون أحدِ الراويين أضبطَ، ثم قال: وقد يُسْتَدَلُّ على كونه أضبطَ بكونه أكثرَ اشتغالاً بالحديث، وأشدَّ انقطاعاً إليه، وبِقِلَّهِ ما يقع في حديثهِ مِن الخلل في ¬
المعنى واللفظ. قلتُ: فالترجيحُ بمرجِّحٍ مُجْمَعٍ على أنَّه مرجِّحٌ، ومجمعٍ على الإجماعِ على الترجيح به، أولى من الترجيح بالنزاهة عن البِدعة، لأنه غيرُ مجمع على الترجيح به، أو متنازع في الإجماعِ على الترجيح به، وكذلك منْ يرى أن الواجبَ حكايةُ اللفظ، وأن الروايةَ بالمعنى حرامٌ، فإنَّ روايتَه أقوى من رواية مَنْ يرى جوازَ الحكاية بالمعنى متى استويا في جميع وجوهِ الترجيح إلا في هذا. فإن قلتَ: وما مثالُ تلك الصورةِ التي يكون الظنُّ مرجحاً لِخبرِ المبتدع فيها؟ قلتُ: لذلك صُوَرٌ كثيرة: فمنها: أنا نعلم أن المبتدعَ لو كان حافظاً لِكتاب مِن الكتب عن ظهر قلبه، إما القرآنُ الكريم، أو مِن كتب الحديث، أو اللغة، أو النحو، أو الفقه، أو غير ذلك، وكان معروفاً بالتجويد فيه، والإتقان له، معروفاً بأنه يُعيده كُلَّ ليلةٍ أوْ كُلَّ أسبوعٍ أو نحو ذلك عن ظهر قلبه، مشهوراً بالتدريس فيه، منقطعاً في الاشتغال به، مُجَرَّباً في سرعة الجواب، وإصابة مَحَزِّ الصَّوابِ إذا سُئِلَ عن شيء من مسائله وألفاظه، وما يتعلق بضبطه، مختبراً حين يُعارض في ذلك بالتبريز على الأقران، والتجويد عند (¬1) الامتحان، فإنَّكَ متى عرفتَه بهذه الصفة، وتمكَّنَتْ في نفسِك هذه المعرفةُ، وأخبرك عن مسألة في كتابه هذا الذي اشتهر بحفظه، وجَوَّدَ في نقله بلفظه، ثم عارضه رَجُلٌ من أهل العدل والتوحيد في تلك المسألة، ¬
ولم يكن لهذا العَدْلِي مثلُ عنايته، ولا انتهى في التحقيق إلى مثل نهايته، بل قد سَمِعَ الكتابَ مرة، ولم يحفظه عن ظهر قلبه، ولم يُكَرِّرْ فيه النظرَ، فإن قولَ المبتدع يكونُ أقربَ إلى الظن، وأقوى في الذهن عند كل منصف، ولهذا، فإنا لو قدرنا أن عابداً مِن أهل العدل والتوحيدِ قرأ القرآن مرةً: واحدةً على بعض أهلِ العدل، ولم يحفظه عن ظهر قلبه، ولم يُكثر من تلاوته، ثم تنازعَ في إعرابِ آية هو وابنُ شداد المقرىء المشهور شيخ ابن النساخ رحمه الله، لم يَشُكَّ عاقِلٌ في أنَّ روايةَ ابنِ شداد أقربُ إلى الصواب، وأرجحُ في الظنون. وبعدُ، فالترجيحُ غيرُ التفضيل، وقد قال المؤيَّدُ بالله عليه السلامُ في كتاب " الزيادات " ما لفظه: والأقوى عندي أن تقليدَ المقتصِد في الفتاوى أولى لِفراغه دون السَّابِقِ، لأنَّه في شغل عن النظرِ والمطالعة. فنص عليه السلامُ على ترجيح تقليدِ غيرِ الأئمة السابقين على تقليدِهِم لأجل مرجح لا يتعلق بالتفضيل، فالأئمةُ الدعاة أفضلُ من السادة بالإِجماع. وقد تكلَّم الإمام يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ في تقليد الصحابة وقال: إنه لا يجوزُ تقليدُهم في هذه الأزمانِ الأخيرةِ، مع تجويزه عليه السلامُ تقليدَ الميت ترجيحاً منه عليه السَّلام لتقليدِ المتأخرين، لجمعهم العلومَ، وتبحرهم فيها، وادَّعى عليه السلامُ الإجماعَ على ذلك، وكذلك الجوينيُّ ادعى الإِجماعَ على ذلك، لكن (¬1) قال شارح " البرهان " (¬2): إن ¬
المجمع عليه أنَّه لا يجوزُ التزامُ مذهبٍ واحد منهم، لأنَّه ليس لِواحد منهم مِن النصوص على الحوادث ما يكفي الملتزم لمذهبه، ويُغنيه عن الانتقال عن مذهبه، لا لقصور في علمهم، وهذا هو الصوابُ إن شاء الله تعالى، وإنما القصد حكاية مذهب (¬1) الإِمام عليه السلامُ، وأنه قد يقع من بعض أهل العلم ترجيحٌ لبعض المذاهب والأخبار من غير تفضيلٍ لأهل المذاهب والأخبارِ الراجحة عنده على أهل المذاهب (¬2) والأخبار المرجوحة. وهذا (¬3) المؤيَّد بالله عليه السلامُ يَنُصُّ على ضعف مذهب الهادي عليه السلامُ في بعض المواضع، وليس يعتقِدُ أنَّه أفضل منه. وأعظمُ مِن هذا ما ذكره الإِمامُ المؤيَّدُ بالله يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ مِن أن العالِمَ بالفن قد يكون أعرفَ بفنه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مثل العالِم في أصولِ الدِّين العالم المُبرِّزِ في دقيقه، وكذلك العالم بالمنطق المتوغِّل في لطيفه، وكذلك سائرُ الفنون التي لم يُمارِسْها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يكن هذا العالِمُ أفضَلَ مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أعْرَفَ بالدين الذي ذلك الفنُّ وصلة إلى معرفته وطريق إلى العلم به (¬4). ¬
فهذا قولُ الإمام يحيى بنِ حمزة عليه السلام فكيف يُنكرُ ترجيحُ رواية (¬1) بعضِ المبتدعة على رواية بعضِ أهل العدل والتوحيد لبعض القرائِنِ المقوية لذلك، وينسب القائلُ لذلك إلى مخالفةِ الإِجماع. هذا على تقدير اتفاقِ هذا، وباللهِ العظيم الرحمن الرحيم ما أعلمُ أنَّ هذا قد كان مني أبداً. فهذا الكلامُ أن اختلفا في وجوه الترجيح. وأما إذا استويا فيه، واستوى الظَّنُّ الحاصِلُ في خبريهما إلا أن هذا مبتدع، وهذا متنزِّهٌ عن البدعة، فعلى كلامِ المنصور بالله لا يُرَجَّحُ المتنزه على المبتدع، لأن الظن مستوٍ، وقد نَصَّ على أن المعتبر هو الظَّنُّ، واختلافُ مرتبتيهما عند الله فيما لا يتعلق بالرواية غيرُ مؤثر، كما أن العالِم والعامي عنده عليه السلامُ سواء عنده في الرواية، وإن اختلفت مراتِبُهما عند الله، وكما نَصَّ عليه السلامُ أن الخارجي أولى بالقبول مِن المتنزه عن هذه البدعة، فهذا على مقتضى عموم قوله. وقد اختلفوا فيما أُخِذَ من عموم كلام العالم: هل يكون تجريحاً؟ فمنهم من قال: ليس بتجريح، وهو قوي، لأن التجريح ما لم يُؤخذ مِن قوله، ومنهم من قال: هو تجريح واختاره السيدُ أبو طالب في كتابه " المجزىء "، وهو تجريح صحيح لا أعلم فيه نزاعاً، والله سبحانه أعلم. والمختار عندي أن المتنزه من البدعة أولى عند استواء الظنون، وذلك لأنَّ الحجة على قبول العدل المتنزِّه عن البدع أقوى من الحجة على قبولِ المبتدع العدلِ في دينه، والحجج هي الأصولُ، ومدلولاتُها هي ¬
الفروع، وإذا كان الأصلُ أقوى، كان الفرعُ أقوى. فإن قلتَ: إنَّه يلزمُ مِن كون خبر العدل المتنزه أقوى أن الظَّنَّ لصدقه أقوى. قلتُ: ليس كذلك بل اللازمُ أن الظن للتكليف بقبوله أقوى، فقد يختلِفُ ظَنُّ التكليف وَظَنُّ الصدق، ألا تَرَى أنَّه لو غلب على ظَنِّكَ أن جماعةً من الفساق المصرحين أصدقُ مِن رجل عدل في ظاهره لم يَحِلَّ لك العملُ بالظن الأقوى لما ظننت أن العملَ بغيره هو الذي كلَّفك اللهُ تعالى، فهذا في مخالفة التكليف لِلظَّنِّ الراجح فضلاً عن الشك المستوي الطرفين، ولو أنَّ الشرع ورد برد المبتدع المتأوِّل لم يقبل حديثه، وإن أفاد الظَّنَّ الراجح، لكن الشرع وَرَدَ بقبوله عندنا (¬1) وروداً خفياً يَنْقُصُ عن مرتبة ورودِ الشرع بقبول المتنزِّه عن البدع، فكان أقوى من الظن للتكليف بخبرِ المبتدع، وإن لم يكن أحدُهُما في الظن أقربَ إلى الصدق من الآخر، وهذا في غاية القوة عندي، ولكني لا أعلم أنَّه إجماعٌ كما ذكر السيدُ أيَّدَهُ الله، ولنتكلم بَعْدَ هذَا في إنصافٍ وخصيصتين، فقد كنتُ ذكرت ذلك في بعض تعاليقي في فوائد تَعَلَّقُ بهذا الشأن. الإنصاف: لا يشك مَنْ أنصف مِن نفسه، وترك العصبية في رأيه أن هذه الأمةَ المرحومة قد تقسَّمَتِ الفضائلَ، وانتدبت كُلُّ طائفةٍ منها لإتقان عمل فاضل. فأهلُ الأدب أتقنوا الإعرابَ، وَأتَوْا في جميع أنواعه بما يأخذ بمجامع الألباب. ¬
قوله: إذا عرفت هذا فلا يعزب عنك معرفة خصيصتين
وأهْلُ القراءات حَفِظُوا الحروفَ القرآنية وبيَّنُوا المتواتر والصحيح والشاذ في إعراب الآي السماوية. وأهلُ الحديث ضَبطُوا الآثارَ والسنن، وأوضحوا أحوالَ الرجال، وبَيَّنُوا العِلَلَ. والفقهاء أوعبوا الكلامَ على الحوادث، وأفادوا معرفةَ اختلاف الأمة وإجماعها. وأهلُ الأصول ذَلَّلُوا سُبُل الاجتهاد، ومهَّدوا كيفيةَ الاستنباط. وكذلِكَ سائرُ أهلِ الفنون المفيدة، والعلومِ النفيسة، وكل أبدع وأجادَ، وأحسن وأفاد، وأكمل ما تعرض له وزاد، وممن ذكر هذا المعنى الإمام المؤيَّد ُ بالله في كتابه في " إثبات النبوات " والشيخ الصالح السهروردي صاحب " عوارف المعارف ". فإذا عرفتَ هذا، فلا يَعْزُبُ عنك معرفة خصيصتين: الخصيصةُ الأولى: أنَّ أهل البيت عليهم السلامُ اختصوا مِن هذه الفضائل بأشرفِ إقسامها، وأطولِ أعلامها، وذلك لأنهم كانوا على ما كان عليه السلفُ الصالحُ مِن الصحابة والتابعين مِن الاشتغال بجهادِ أعداء الله، وبذلِ النفوسِ في مرضات الله مع الإعراضِ عن زهرة الدنيا، وتركِ المتشابهات (¬1) والاقتصاد في المأكول والملبوس، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيامِ بالفرائض والنوافل في أفضلِ أوقاتها على أتمِّ هيئاتها، وتلاوةِ القرآن العظيم، والتهجد به آناءَ الليل والنهار، والتحري ¬
والخوفِ من الله تعالى، والدعاءِ إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلِ النصيحة للناس وتعليمِهم معالِمَ الهدى، والاقتصارِ في العلم على ما اقتصر عليه أهلُ بيتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين، وعلى ما اقتصر عليه أصحابُه المشهودُ لهم في كتابِ الله بأنَّهم خيرُ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس، وعلى ما اقتصر عليه التابعون الذين شَهِدَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم من (¬1) خيرِ القرون، فإن جميعَ هؤلاء ما تشاغلوا بالإكثارِ من التواليف والتفاريع وجمع الحديث الكثير. وقد قال العلماء رضي الله عنهم: إن طريقة السلف أسلمُ وطريقة الخلف أعلم (¬2)، والأفضلُ للمسلم الاقتداءُ بالسلف، فإنَّهم كانوا على طريقةٍ قد رآهم عَليها (¬3) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقرَّهم عليها، وواللهِ ما يَعْدِلُ السلامة شيء، فنسأل اللهَ السلامة، ولا شكَّ أن عنايَتَهم بعدَ تحصيل ما لا بُدَّ منه من العلم إنما كانت بالجهاد، وافتقادِ العامة، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظةِ على أورادهم في التهجد، وقيامِ الليل، ومناقشةِ النفوس وتهذيبها، وذلك أفضلُ مما كان عليه كثيرٌ من المحدثين والفقهاء من الإخلال بكثيرٍ من هذه الفضائل الجليلة، والنعوتِ الجميلة التي وردت نصوصُ الآيات القرآنية في وصف المؤمنين بذكرها، ولم يشتغِل السلفُ الصالحون بغيرها، والذي كانوا عليه أولى مِن الإخلال به بسبب الاشتغال بجمع العلم الزائد على الكفاية، وقد نَصَّ الإمامُ المنصور بالله عليه السلام على مثل هذا الكلام في كتاب " المهذب "، واحتج ¬
بفعلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل السلف الصالح، وللهِ دَرُّهُ ما أحسنَ استخراجه للفوائد من أفعال السلف الصالح وأحوالِهم رضي الله عنهم. ولقد كان الواحدُ مِن جلَّةِ الصحابة لا يروي إلا مئتي حديث أو ثلاث مئة حديث، بل أكثرُهُم لا يُجاوز روايتهم هذا إلا بالقليل (¬1)، وكثيرٌ منهم يروي أقلَّ مِن هذا بكثيرٍ، ولم يتَّسِعْ منهم في الرواية مثلُ أبي هريرة، وعائشةَ، وعبدِ الله بن عمرو بن العاص، وقد انحصرت روايةُ المحدثين عن علي عليه السلام في خمس مئة حديث وستة وثمانين حديثاً (¬2)، ورواية أهلِ البيت عليهم السَّلامُ لا تزيدُ على ذلك (¬3) فيما أحْسِبُ، فإن أحاديثَ مجموع زيدِ بنِ علي (¬4)، وأحاديثَ الجامعين للهادي عليه السلام لا يستند منها إلى علي عليه السلامُ أكثر من هذا القدر فيما أحسب، والله تعالى أعلم. وقد روى سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنَّه قال: ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآنَ وما في ¬
هذه الصحيفة (¬1). فهذا مع أنَّه عليه السلامُ بحرُ العلم الزخار، والمخصوص به (¬2) من بين الصحابة الأخيار، فلم (¬3) يشتغِل بنشر علمه وكتابته وتأليفه والتدريس فيه مع فراغه في أيامِ الخُلَفَاءِ الثلاثة، بل اشتغل بما كانوا عليه في زمان رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن التلاوة والعبادة، ومراقبة النفوس، وخشونة العيش، وخشونة الملبس كما ذلك معروفٌ من سيرته عليه السلام وما ذلك إِلا إيثاراً لترك ما يزيدُ على الكفاية من العلم، وكراهةِ دعاء الناس إلى ما لا يحتاجون إليه في أمرِ الدين، واقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين أقام عشرَ سنين قبلَ الهجرة، وقبل الشغل بالجهاد، ومعه أصحابُه من السابقين الأولين، فلم يشتغل عليه السَّلامُ في تلك المدة بغير التلاوة، وملازمة الذكر، ولم يأمُرْ مَنْ آمن به بأكثرَ من ذلك، ولم يُلزمهم بعد معرفة ما يجب عليهم معرفتُه من أمر الإِسلام بالتدرب في النظر والمناظرة، ولا بتقدير الحوادث، وتقدير سائل يسأل عنها، وتحرير الجواب عنه متى سأل عنها ونحو ذلك مما اشتغل به المتأخرون عما كان عليه المتقدمون، بل صحَّ عنه صلوات الله عليه النهي عن السُّؤال عن (¬4) الحرام حتى ينص عليه، وفي الحديث الصحيح " إنَّما أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم كَثْرةُ مَسَائِلِهِم واختلافهم على أنْبِيَائِهِم " (¬5)، وقد قيل: إنَّه (¬6) السؤال المذمُومُ في النهي عن كثرة القيلِ والقالِ بكثرة السؤال بقرينة تخصيص النهي بالكثرة. ومثلُ حالِ عليٍّ عليه السلامُ كانت أحوالُ أهلِ بيته عليهم السلام ¬
كالحسنين، وزينِ العابدين، والباقرِ، والصادقِ وسائرِ مَنْ عاصرهم لم يكتب أحدٌ منهم في علم الحديث عشرةَ أجزاء ولا نصف ذلك ولا ما يُقاربه، وليست الدرجاتُ العلية تُنَالُ في الآخرة بكثرةِ الرواية، وسَعَةِ الحفظ، وجمع الطُّرُقِ والأجزاء، وضبط مشكلات الأسماء مع إهمال ما هُوَ أهَمُّ مِن هذَا (¬1) من أمورِ الدين وصلاحِ المسلمين، وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أويساً القَرني: " أنَّه يشفع في مثل ربيعة ومضر " (¬2) وجاء في فضله ما لم يحضرني الآنَ مع أن بعضُ أهل الحديث من أهل الحفظ الواسع، والاطلاعِ التام على معرفة الرِّجال ذكر أنَّه لم يُرو عن أويس حديثٌ قَطُّ، ولقد كان السلفُ يقِلُّونَ الرواية جداً، فعن أبي عمرو الشيباني (¬3) قال: كنت أجلس إلى ابنِ مسعود حولاً لا يقولُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - استقلَّته الرِّعْدَة، وقال: هكذا أو نحو هذا أو هذَا، مع أنَّ ابنَ مسعود كان من أوعية العلم، وأعيانِ علماء ¬
الصحابة وأجل الأصحاب والتلامذة، فلم تَزِدْ مروياتُهُ على ثمانِ مئة حديث وثمانية وأربعين حديثاً (¬1). وكذلك أضرابُه من السابقين الأولين ونبلاء الأنصار والمهاجرين. هذا أبو ذر الغِفاري الذي ما أظلَّتِ الخضراءُ أصدقَ لهجةً منه (¬2) روى مئتي حديثٍ وثمانين حديثاًً. وهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه علي عليه السلام: " إنَّه أدرك العلمَ الأولَ والعلمَ الثاني " (¬3) روى ستين حديثاًً. وهذا أبو عبيدة بن الجراح أمينُ الأمة (¬4) روى أربعة عشر حديثاً. وأمثال هؤلاء السادة النجباء، والأعلام العلماء الذين نَصَّ المصطفى عليه السلام على أنَّ غيرَهم: " لو أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَهُ " (¬5). ولقد روى أبو أسامة عن سفيان الثوري أحدِ أقطابِ الحديث التي تدور رحاه عليها أنَّه قال: ليس طلبُ الحديثِ مِن عِدَّةِ الموتِ، لكنه عِلْمٌ يتشاغلُ به الرجلُ (¬6). ¬
قال بعضُ حفاط الحديث: صدق -واللهِ- سفيانُ، فإن طلبَ الحديث شيء غيرُ الحديث، وطلب الحديث اسمٌ عرفي لأمورٍ زائدة على تحصيل ماهية الحديثِ، وكثيرٌ منها مَرَاقٍ إلى العلم، وأكثرُها أمور يَشْغَف بها المحدِّثُ من تحصيل النُّسَخِ المَلِيحَةِ، وتطلُّبِ العالي، وتكثيرِ الشيوخ، والفرحِ بالألقاب والثناء، وتمنِّي العمر الطويل ليروي، وحبّ التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الرّبّانيّة، فإن كان طلبُ الحديث النبوي محفوفاً بهذه الآفات، فمتى خلاصُك منها إلى الإخلاص؟، ومتى كان علم الآثار مدخولاً، فما ظَنُّك بعلم المنطقِ والجَدَلِ وحكمة الأوائلِ التي تَسْلُبُ الإيمانَ، وتورِث الشُّكُوكَ والحَيْرَةَ. انتهى (¬1). قلتُ: فالذي اشتغل به أهلُ البيت عليهم السلام هو الذي روي فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " العِلْم ثَلَاثةٌ، وَمَا سِوى ذلِكَ، فَهوَ فَضْلٌ: آيَة مُحْكَمَة، وَسُنَّةٌ قَائمَةٌ، أوْ فَرِيْضَةٌ عَادِلَة " رواه أبو داود في سننه (¬2) وهذا هو ¬
العلم الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يشتغل بعدَهَ بغيره عن الجهاد والأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأمثالِ ذلك مما نطقت بالحثِّ عليه الآياتُ القرآنية، والآثارُ النبوية، فإنه ليس في القرآن مِن الأمرِ بطلب العلم الزائدِ على الكفاية مثل ما فيه مِن الثناء على الخاشعين في الصلاة، المعرضين عن اللغو، الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلوبُهم، وإذا سَمِعُوا وعيدَه اقشعرَّتْ جلودُهم، وكذلك الحديثُ فإن في " الصحيحين " والسُّننِ الثلاث و" المُوطأ " ثمانيةً وستين حديثاً في الحثِّ على الجهادِ، وفيها في الحث على طلب العِلْمِ ثمانية أحاديث، وذلك يدل على أن أمرَ الجهاد بعد تحصيل ما لا بُدَّ منه من العلم أهمُّ أمورِ الدين. فانظر بعين الإنصاف إلى أئمة العِترة الطاهرة، ونجومِ العلم الزاهرة كيف سَلِمَتْ علومُهم مِن كُلِّ شينٍ، وخَلَصَتْ مِنْ كل عيب، ولم يَشبْ تصانِيفَهم شيءٌ مِن غُلُوِّ (¬1) المتكلمين، ولا حَطَّ مِن قدر شيعتهم المتعبدين شيءٌ مِن بدع المتصوفين، ولا ظهر في أدلتهم على مذاهبهم شيءٌ مِن تكلف المتعصبين، ولا استمالَتْهُم عَن المِنهاج السَّوِيِّ شُبَهُ المشبِّهين، تنزَّهُوا عن غلو الإماميةِ الجُهَّالِ، وعَمَايَةِ النَّواصِبِ الضُّلال، وهَفَواتِ أهلِ الحديث والاعتزالِ، فهم النُّمْرُقَة الوسطى، والمَحَجَّةُ البَيْضَاءُ، والحُجَّةُ الغراء، وسفينةُ النجاة، والعِصْمَةُ مِن الأهواء (¬2) بعدَ أبيهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين. تكميل: من حَصَّل ما فيه كفايةٌ مِن العلم، ولم يتشاغل بما كان عليه السَّلَفُ الصالح من الجهاد وإصلاحِ أمر المسلمين، فالأولى له ¬
الخصيصة الثانية: تقديم كلام أهل كل فن على كلام غيرهم في ذلك الفن الذي اختصوا به
الاشتغالُ بالعلم، ولا يتوغُّل إلاَّ في علومِ الكتاب والسنّة، وأخبارِ الصحابة، والنحو والمعاني واللغة، وأصولِ الفقه واللغة (¬1) ونحوِها مما يُؤمَنُ الخَطَرُ مع التوغُّلِ فيه، ويقطع بالسلامة في النَّظَرِ في دقائق معانيه. الخصيصة الثانية: تقديمُ كلامِ أهل كُلِّ فَنٍّ على كلام غيرهم في ذلك الفن الذي اختصُّوا به، وقطعُوا أعمارَهم فيه، فإنَّك متى نظرتَ وأنصفتَ، وجدتَ لِكُلِّ أهل فَنٍّ من المعرفةِ به، والضبطِ له، والتسهيل لجمع مسائِله، والتقييدِ لشوارد فوائِده، والإِحاطةِ بغرائبه، والتذليل لما يَصْعُبُ على طالبه ما لم يُشاركْهُمْ فيه غيرُهم ممن هو أفضل منهم مِن أئمة الدين، وكُبراء المسلمين، ألا ترى أنَّه ليس لأِحَدٍ من أئمة العِترة وأئمة الفقهاء في اللغة ما لِلجوهري، والأصْمعي، وأبي عبيدة وأضرابهم، ولا في الإعراب مِثل ما لسيبويه، والكِسائي وأصحابِهما ولا في المعاني والبيان مثل ما لِلسَّكاكي، وعبدِ القاهر وأضرابِهما، ولا في غريبِ الحديث مثل " فائق الزمخشري "، و" نهاية ابنِ الأثير "، ولا في علم الحروف مثل " الشاطبية " و" شروحها " ولا في لطائف المعاني القرآنية مثل " الكشاف " و" البحر المحيط " و" جامع القرطبي "، ولا في المختلِف والمؤتلِف في ضبط أسماء الرُّواة مثل " الإكمال " للأمير ابن ماكولا، ولا في تاريخ الزمان مثل " تاريخ محمد بن جرير الطبري "، وعز الدين بن الأثير، ولا في تاريخ الرجال مثل " تهذيب " أبي الحجَّاح المِزِّي، وكتاب " الفلكي " (¬2)، ولا ¬
في معرفة الأيام النبوية مثل ابنِ إسحاق، وابنِ هشام، والواقدِي ولا في معرفةِ أخبارِ الصحابة وأحوالِ السَّلَفِ مثل " الاستيعابِ " لأبي عُمَرَ بنِ عبد البر، و" أُسْدِ الغابة " لابن الأثير، ولا في أصولِ الفقه مثل " معتمد أبي الحسين "، و" محصولِ الرازي " على دواهي في غُضون فوائده، ولا في إعرابِ القرآن المجيد مثل " المُجيد " (¬1) إلى أضعافِ هذه المؤلفات مما يُقاربها، أو يساويها، أو يزيد في الإجادة والإفادة عليها. فإذا تحققتَ أنَّ المرجعَ في علوم القرآن الكريم قراءته وإعرابِه. ولغتِه، ومعانيه ودقائقِه، وشروحِ قصصه إلى غيرِ أئمة أهلِ الدين المتبوعين المقلَّدين مِن أهل البيت عليهم السَّلامُ، وأئمة الفقهاء رضي الله عنهم، وعَرَفْتَ أنَّك لو اقتصرتَ على مؤلفاتِ أئمة العِترة، وأئمة الفقهاء لما وجَدْتَ فيها من التحقيق ما يُوازي تحقيقَ أولئك المصنفين الذين لا يُوازِنُونَ أئمة العِترة فضلاً وأثراً في الدين، فإن ابن الأثير الوزير لا يُوازي يحيى بنَ الحسين الهادي إلى الحق عليه السَّلامُ في ورعه وعلمه وجهاده وتقواه، ودعائه للعباد إلى الله، وإن لم يكن له عليه السلامُ مُصَنَّفٌ في غريب الحديث والأثر مثل " النهاية "، لأنَّه اشتغل بما هو أَهَمُّ مِن ذلك، وكذلك ¬
أئمةُ الفقهاء، فإنه ليس للشافعي ولا غيره في غريب الحديث مثل " النهاية " ولا ما يُدانيها مع أنَّه أعلمُ مِن ابن الأثير، وأفضلُ، وأورعُ، وأنبلُ. فإذا عرفتَ أن المرجعَ بالمعرفة التامة في الفنون العلمية إلى أهلها، المختصِّين بمعرفتها (¬1)، المنقطعين في تحقيقها، المستغرقين في تجويدِها، المشغولين بها عن غيرها، المصنِّفين فيها الكُتُبَ الحافِلَة، والتواليفَ الممتعة، وكذلك، فتحقق أيضاًً أنَّ المرجعَ في معرفة الحديثِ صحيحهِ وموضوعهِ، وموصولِه ومقطوعِه، وموقوفِه ومرفوعه، ومُدْرَجِه ومُعْضَلِهِ، ومُسْندِه ومرسَلِه، ومقلوبِه ومُعَلَلِه، ومضطرِباته وبلاغاته، وشواهده ومتابعاته، وتواريخِ رجالهِ وأحوالهم، والكلامِ في جرحهم وتعديلهِم وتضعيفِهم وتليينهم إلى غير ذلك مِن علومه الغزيرة، وفوائِدِه العزيزَةِ هو إلى علماءِ الحديث الذين قطعُوا أعمارَهم في الرِّحْلَةِ إلى أقطارِ الدنيا لجمع شوارِدِه، ولقاء مشايخه حتى أخذ الواحِدُ منهم عن ألوفٍ من الشيوخ، وبلغ الحافظ منهم ما لا تكاد تحتملُه العقولُ، هذا السَّمعانيُّ (¬2) كانَ له سبعة آلاف شيخ، وهذا البخاريُّ كان يحفظ ثلاث مئةِ ألفِ حديثٍ (¬3). ¬
ولقد قال ابن المديني: ما نعلمُ أحدَاً من لدن آدمَ كَتَبَ مِن الحديث ما كتب يحيى بنُ معين. وقال يحيى بن معين: كتبتُ بيدي ألفَ ألفِ حديثٍ. وقد ذكر السَّيِّد الإمام المؤيَّدُ بالله عليه السلام في كتابه " إثبات النبوات " من الثناء على المحدِّثين بتجويد المعرفة والإتقان للحديث ما يشهد بما ذكرتُه وبمعرفته عليه السلام بمحلهم المُنيف، وأن المعوَّلَ عليهم في هذا العلم الشريف، وذكر أخوه السَّيِّد الإمامُ أبو طالبٍ عليه السلام في " شرح البالغ المدرك " أن أحمد بن حنبل كان يحفظ خمسَ مئةِ ألف حديث (¬1). وكذلك عَمِلَ هذان السيدان الإمامان بمقتضى ذلك، فأخذا الحديثَ عن أئمته النحارير، وحُفاظه المشاهير، كما هو مشهور معروف (¬2) عنهما في أسانيدِهما عنهم في كتابيهما الحافِلَيْنِ " شرح التجريد " للمؤيد و" شرح التحرير " لأبي طالب، وكذلك في " أمالي " السيد أبي طالب، وقد أكثر المويَّدُ من الرواية عن الحافظ ابن المقرىء، وأبو طالب عن الحافظِ ابن عَدِي، وما زال الإنصافُ شِعَار كُلِّ فاضلٍ ومجوِّدٍ، وسجيةَ كُلِّ عارف ومحقق. قال أبو داود الخفافُ: أملى علينا إسحاقُ بنُ راهويه مِن حفظه أحدَ ¬
عشر ألفَ حديثِ، ثم قرأها علينا، فما زاد حرفاً، ولا نَقصَ حرفاً (¬1) وحتى إن الذُّهلي (¬2) طلب هذا الشأنَ في الحرمَيْنِ والشام، ومصر، والعراق والرّي، وخُراسان، واليمن، والجزيرة. وحتَّى قال ابنُ المؤمَّل في حق الفضل الشعراني (¬3): كنا نقول: ما بقي بَلَدٌ لم يدخله الفضلُ الشعراني في طلب الحديث (¬4) إلاَّ الأندلسَ، إلى ما لا يُحصى من أمثالِ ذلك. وكم عسى أن يذْكُرَ الذَّاكِرُ، أو يُحصيَ الحاسِبُ، وقد جمع الفلكيُّ (¬5) في معرفة رجال الحديث ألفَ جُزء، وجمع أبو الحجَّاج المِزِّي في معرفة رجال " الصحيحين " و" السنن " الأربع مئتين وخمسين جُزْءاً تشتمل على التعريف بما لهم مِن العناية في حِفظه وضبطه، وجمعه وإتقانه. ¬
فإذا عرفتَ هذا، قلا تعتقد أن تفضيلَ أئمة العِترة عليهم السَّلامُ، وأئمة الفقهاء رضي الله عنهم يمنع مِن القول بأنَّ أَهْلَ الحديثِ أكثرُ ضبطاً للحديث، وكشفاً للمشكل، وتمييزاً للصحيح من الضعيفِ، وفصلاً للمشهورِ عن الغريب، فكما كان المرجعُ في القرآن حروفاً وإعراباً ونحواً ولغة إلى القراء والنحاة واللغويين، ولم يقتضِ ذلك تفضيلاً لهم على الأئمة والفقهاء، فكذلك المرجعُ في علوم الحديثِ إلى المحدّثين وإن كانوا في الفضل عن درجةِ العِترة ناقصين، وليس ذلك لِقلةٍ في علوم العِترة عليهم السلامُ، ولكن لأنَّهم لم يشتغلوا بالتصنيف إيثاراً لما هو أَهَمُّ منه من الجهادِ، وإصلاحِ أمورِ العامة، وكذلك أئمة (¬1) الفقهاء، فإنَّهم اشتغلوا بما هُوَ أَهَمُّ مِن ذلك من معرفة الحلال والحرام، وتعليمِ الناس وإفتائهم، ولهذا فإنَّ مسندَ الشافعي غيرُ معتمد عند الشافعية لِقلة حديثه، واشتماله على كثيرٍ من الأحاديثِ الواهيةِ والأسانيدِ الضعيفة، وكذلك مسندُ أبي حنيفة (¬2). وقال الزمخشري (¬3) في تفسيرِ قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُم اللَّهُ} [المائدة: 4]: إن فائده قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} أن يكونَ من يُعَلِّمُ الجوارح تحريراً في علمه، مُدَرَّباً فيه، موصوفاً بالتكليب (¬4)، وفيه فائدةٌ جليلة، وهو أن على كُلِّ آخِذٍ علماً أن ¬
لا يأخُذَه إلَّا مِنْ أقتل (¬1) أهلِه علماً، وأنحرهم دِراية، وأغوصِهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يَضْرِبَ إليه أكبادَ الإبل، فكم آخذٍ عن غيرِ متقن قد ضيَّع أيامَه، وعضَّ عند لقاء النحارير أنامله. انتهى. وللزمخشري أيضاًً كلام، مشهور، في الاعتراف بالقصور في علم الرواية، كتبه إلى الحافظ السَّلَفي (¬2)، وقد طلب السِّلَفِي (2) منه الإِجازة، وفيه أن روايتَه حديثةُ الميلاد، ضعيفةُ الإسناد، وهو كلامٌ بليغ مشهور عن نصِّ الزمخشري رحمه الله، ولم يَشِنْهُ لِما فيه من الإنصافِ، ولولا خوفُ التطويل لذكرتُه بطوله (¬3)، وفيه أكبرُ شهادةٍ لوجوب الرجوع إلى أئمةِ الحديث في علمهم. وقد أجمعت الأمةُ على الرجوع إلى تصانيفِ أهلِ الفنون، فنجِدُ العلماءَ يرجعونَ إلى " صحاح " الجوهري في تفسير الألفاظ اللغوية، والنحاة يرجعون إلى تصانيف أهلِ العربية، والقُرَّاء يرجعون إلى " الشاطبية " ونحوها من غير نكيرٍ في ذلك، فمن أراد قراءةَ المنطق، وقرأ في كتب الفلاسفة، لم يُتَّهَمْ بالخروج من الإِسلام، ومن (¬4) قرأ في العربية واعتمد على تواليف طاهرٍ وابنِ الحاجِب، لم يُتَّهَمْ برأي الأشاعرة. ولهذا أيضاً فإنَّ السيدين المؤيَّد وأبا طالب عليهما السلام درساً على أبي العباس فِقه العِترة، ودرساً على المعتزلة ما يختصُّون بتجويده مِن علم ¬
الكلام والأصول، ورويا الحديثَ عن أئمة المخالفين في الاعتقاد وقد أوضحتُ ذلك في غير هذا الموضع، وهو بَيِّنٌ في " أمالي " السَّيِّد أبي طالب، و" شرح التجريد " للمؤيد، وأكبرُ شيوخ أبي طالب ابنُ عدي صاحب كتاب " الكامل " في الجرح والتعديل، وأكبرُ شيوخ المؤيد ابنُ (¬1) المقرىء، وكلا هذين الشيخين على مذهب المحدثين في الاعتقاد، وإنما أهْلُ الحديثِ كَقُرَّاءِ كتابِ الله أوعيةٌ لعلم السمع، خلقهم اللهُ تعالى لحفظه، وحَبّبَ إليهم ضبطَه، كما حَفِظَ كُلَّ نوع كل من العلوم، ومصالِح الدين والدنيا بقومٍ خلقهم له، ولا يَضُرُّ الحديث غلطُ حملتِهِ في العقائد كما لا يَضُرُّ القرآنَ غلطُ القراء في ذلك، فإنما هُمْ أوعيةٌ والعيبُ المختص بالوعاء لا يسوي إلى المحفوظ فيه من الأُمور النفيسة، فإن الكاغدَ والجلدَ أوعيةُ القرآن والسنن، وقد يكونُ فيها الغاليَ والرخيصَ، والسالمَ مِن العيوب والمعيب، وكثرةُ المحبة للقدح في حَملَةِ العلم النبوي والولع بذلك مِن سوء الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك يكونُ وسيلةً إلى بُطلان حديثِهِ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّه إذا بَطَلَ حديثُ أهلِ العِنايةِ بالحديثِ، فحديثُ غيرهم أبطلُ، كما أنَّه إذا قُدِحَ في حفظ النحاة واللغويين للعربية، كان قدحاً فيها مطلقاً، إذ لا يُرجى لها طريقٌ غيرُ طريقهم، ومن هنا قال الحاكمُ أبو عبد الله مُحِبٌّ أهلِ البيت، ورأسُ التشيع في عصره، فقال في خطبة كتابه " علوم الحديث " (¬2) ما لفظه: ليس شيء أثقلَ على أهل الإلحاد، ولا أبغضَ إليهم مِن سماع الحديث وَمِنْ روايته بإسناده، وعلى هذا عَهِدْنا (¬3) في أسفارنا وأوطاننا كُلَّ من يُنْسَبُ إلى نوعٍ من الإلحاد والبِدَعِ ¬
لاَ ينْظُرُ إلى الطائفة المنصورة إلا بِعَيْنِ الحَقَارَة، ويُسَميها الحشوية. انتهى. وبيانُ ذلك أن المحدثين اسمٌ لأهل العناية بحفظ الحديث مِن أهل كلِّ مذهب كما مرَّ بيانُهُ في المرجح العاشر لقبول أهلِ التأويلِ (¬1)، وذكرتُ هناك المحدِّثين من الشيعة والمعتزلة، وليس المحدثون أسماء تَخْتَصُّ بمن خالف في الاعتقاد كالأشعريَّةِ والجبرية، ولكن المحدثين اسمٌ لمن ذكرنا من الفِرَقِ كُلِّهِم، كالقرَّاء والنُّحاة والأصوليين، فلذلك قلنا: إنَّ الحديثَ إذا قُدِحَ في صحته مِن طريقهم، كان قدحاً فيه مطلقاً مِن كل طريق، لأن أئمة الرواية من العِترة والشيعة هُمْ من أهل الحديث كما ذكره صاحب " الشفاء " عن الجُرجاني في حرب البُغاة من غيرِ إمام، ولم يقل: إن القدح المختص بالمحدثين المخالفين هو الذي يبطل الحديثَ، ولكنَّه يكون تحكماً، وتركُ المبتدعة المتأولة جميعاًً لا يُمكن كما تقدَّم بيانُهُ في الكلام على ذلك. وإذا تأملتَ كلامَ السَّيِّد أبي طالب في " المجزىء "، عرفت إنصافَه، فإنه لا يذكر المعتزلةَ إِلا بمشايخنا يقول: قال شيخُنَا فلان، وقال الشيخانِ أبو علي وأبو هاشم، وإذا ذكر المسألةَ، لم يذكر فيها خلافاً لأحدٍ من العِترة قَطُّ فيما علمتُ، لأنهم لم يتكلموا في الفن، لا جهلاً به، ولا عدمَ معرفة له، ولكن مثل ما لم يتكلم فيه عليٌّ عليه السلامُ وغيرُه من السلف الصالح، فلم يُتهم أبو طالب بالميلِ عن العِترة، والانحرافِ عنهم، والقول بأن المعتزلة أعرفُ بالأصوليين منهم، ولكن المعتزلة أكثرُ فيهما تصنيفاً وخوضاً، وإقبالاً عليهما، واشتغالاً. وكذلك لا يلزم النحويّ إذا رجح كلامَ النحاة في أن " لدى " ظرف لا حرف على كلام ¬
الهادِي عليه السلام أنها حرف أن يكونَ مُفَضِّلاً لهم عليه السلام، وقد رَجَّحُوا حديثَ أبي رافع في زواج ميمونَةَ على حدِيثِ ابنِ عباس، لأنَّه كان السفيرَ، فكان أخصَّ، لا لأنَّهُ أفضلُ من ابن عباس (¬1). وفي " النبلاء " (¬2) عن شُعبة، عن الأعمشِ، عن أبي وائل، عن عبدِ الله بنِ مسعود أنَّه قال: لَقَدْ عَلِمَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنِّي أقرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ وَلَسْتُ بِخَيْرِهم. روي هذا عن ابن مسعود من غير وجه، وهو صريح في المعنى الذي قصدتُهُ. وقد ذكر الإمامُ المؤيَّدُ بالله عنه وعمن تقدَّمه في تأليفه في كتاب " إثبات النبوات " أموراً كثيرة مما يؤيَّدُ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقَه ومعجزاتِهِ وكراماتِهِ وخصائصَه حتى ذكر ما اختصت به أُمَّتُهُ مِن العلوم الجمَّة، ثم ذكر الثناء الحَسَنَ على أهل كُلِّ فن بما (¬3) يختص بهم حتى قال: ثم تأمل نقل أصحابِ الحديث للحديث وضبطَهم له، واختصاصَهم منه بما لم يختصَّ به أحدٌ من الأمم. انتهى بحروفه. وكذلك محمدُ بنُ إبراهيم إذا قرأ في كتب المحدثين، لم يكن من الإنصاف أن يُتَّهَمَ بأنه يُفضِّلُهُم على أئمة الإسلامِ من أهل البيت عليها السلام، فأما تهمته بأنه جبري، أو مشبِّه، فليس ينبغي أن يُقال: ليس هذا من الإنصافِ، لأن هذا مِن المحرمات المغلَّظِ تحريمها، والكبائرِ الملعون مرتكبها، وفي الحديثِ الصحيح الثابتِ من غير طريق وعن غير واحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا قَالَ المُسْلِمُ لِأخيهِ: يَا كَافِرُ ¬
فَقَدْ بَاءَ بِهَا أحَدُهُما " (¬1)، وفي الحديث الصحيح: " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " (¬2)، وفي الحديث الصحيح: " لا يَتِمُّ إيمَانُ أحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " (¬3). ولقد يَحِقُّ على المرء المسلمِ أنْ يَزُمَّ لسانَه، ويعْلَمَ أنَّ الله سائلُه عن قوله، ومحاسِبٌ له عليه، ومقتصٌّ لِخصومه منه. فَرَحِمَ الله امرءاً قَصَّر مِن لسانه، واشتغل بشأنِه، وأقبل على تلاوة قرآنه، واستقلَّ مِن الجناية على إخوانِه. ¬
تمَّ بعونه تعالى الجزء الثاني مِن العواصم والقواصم ويليه الجزءُ الثالثُ وأولُهُ: قال: واعلم مَتَّع اللهُ ببقائك أنكم قَبِلْتُم روايةَ فسقة التأويلِ ....
الجزء الثالث
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء الثالث مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 3
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
الكلام الذي صدر من السيد دعوى مجردة عن البينة، وادعى في هذه المسائل دعوتين
قال: واعلمَ -مَتَعَ اللهُ ببقائكَ- أنَّكم قَبِلْتم روايةَ فَسَقَةِ التَأويل المعارضَة لِروايةِ الهادي والقاسم وأشباهِهما من الأئَّمة المطهَّرين. أقول: هذا الكلامُ الذي صَدَرَ من السيدَ -أيده اللهُ- دعوى مجرَّدة عن البَيِّنَةِ، وهو من القبيل الَّذِي شكوتُه منه -أيَّده اللهُ- في أوَّلِ جوابي هذا عليه، وقد ثَبَّتُ (¬1) هناك أنَّ النُّقَّادَ يَعيبون رَمْيَ (¬2) الخصمِ بالأقوالِ من غير إيرادِ نصِّه وحِكاية لفظه. وللتَّعارُضِ شروطٌ غزيرةُ الوجود، وهي مُبيَّنَةٌ في الكتبِ الأُصوليَّة، فلا حاجة إلى التَّطويل بإيرإدِها، إذ لا تعْزُبُ عن معارِفِ السَّيِّد. والجوابُ عن هذا لا يَتَّجِهُ حتَّى يُبيِّنَ السيدُ تلك الأحاديث التي رواها أهلُ البيت، وعارضَتْها (¬3) روايةُ غيرهم ممَّنْ صَحَّ جَرْحُهُ، فمتى بيَّنَ ذلك، توجَّه الجوابُ عليه، وما أظنُه إلا توهَّمَ أنَّ مخالفَة بعضِهم في بعضِ المسائِلِ يقتضي ترجيحَ روايةِ أولئك المجاريحِ على روايتهم عليهم السَلامُ، وليس الأمرُ كذلك. ¬
وقد ذكر السَّيَدُ مسائل أربعاً، قال السيد -أيَّده الله- قد اشتهر عنِّي المخالَفَةُ فيها. والكلامُ على تلك المسائلِ ينقسِمُ قسمين: أحدُهما: في نُصرةِ مذهبي فيها (¬1)، وبيانِ أنِّي لم أُخالِفْ فيها إجماع العِترة وبيانِ الحُجج، ووجهِ التَّرجيح، وهذا ممَّا ليس بمُهمّ. وقد وعدتُ في خُطبة هذا الكتاب بالإضرابِ عن إجابة ما يَخُصُّنِي إلا ما تَخلَّلَ من ذلك في ضمن الكلام على هذه القواعد الكبارِ، وذلك لأنَّ الخَوْضَ في المسائل الظَنِّيَة الفروعية على جهة المنازَعةِ في بيانِ المحِقّ مِن المبطل لا يشتغِلُ به مُحَصِّلٌ، لأنَّ الأمرَ قريبٌ فيما كلُّ فيه مُسامحٌ أو مُصيب. والقسم الثَّاني: قولُ السَّيِّد: إنِّي قد قَبِلْتُ روايةَ فَسَقَةِ التَّأويلِ المعارضَةِ لرواية الهادي والقاسم، وأشباهِهما مِنَ الأئمة المُطَهَّرِينَ، وقد خَتَمَ السيد الكلامَ في مسألة المتأوِّلين بهذه النُّكتةِ، وأَمَرَني أمراً جازماً أن أَعْلَمَها، وتَكُونَ على بالٍ منِّي، فأحببتُ أن أُبَرِّىء نفسي ممَّا ادعاه عليَّ مِنْ غيرِ تعرُّضٍ لترجيح مذهبي، ولا تصحيح اختياري (¬2). وأنا أَقتصِرُ على ذكر (¬3) مسألةِ الجهرِ والإخفاتِ، لأنَّها أعظمُ مَا يُشَنّعُ (¬4) بهِ المعترضون، ولأنَّ بعضَ أهلِ البيت -عليهمُ السَّلامُ- رَوَى فيها أحاديثَ تَدُلُّ على الجهرِ. وأمَّا وضعُ اليمنى على اليُسرى والتَّأمين، فلم أعلم أنَّ أحداً مِن أهل البيت -عليهم السلامُ- روى في المنع من ذلك حديثاً نَصّاً، ولا روى ¬
السيدُ في كتابه شيئاً من ذلك، بل روى محمدُ بنُ منصور الكوفي (¬1) حديثَ وائل (¬2) في ذلك في " علومِ آل محمد"، ولم يُضعفْهُ، ولا روى له ¬
معارضاً، ذكره في حَقِّ الصَّلاة، والتَّغليس بالفجر في جُملة ما جمعه لِلعمل به على مذهبِ أهل البيت، وسمَّاه " علوم آل محمد "، وروى الأميرُ شَرَفُ الدين الحسينُ بنُ محمد الهادي (¬1) نسباً ومذهباً في ذلك حديثَ علي السلام (¬2)، ¬
وحديث أبي هريرة (¬1) في وضع اليدِ على اليد تحتَ السُرَّة في الصلاة ولم يُضعِّفْهُما، ولا روى لهما مُعارِضاً، بل قال: إنَّ أحدَهما بلفظ الوضع، والآخر بلفظِ الَأخْذِ، والمتعارِضان إذا لم يُمكنِ التَّرجيحُ فيهما، سقطا، وقد نَبَّهَ على الجوابِ بقوله: إذا ثم يُمكنِ الترجيح، فإنَّه ممكن، وأيضاًً فلا بُدَّ مِنْ تعذُّرِ الجمع بالتَّأويل، وهو أيضاً ممكن. وأمَّا قولُه: يُمكن أنَّ المرادَ بهما التطبيقُ في الركوع فسَهْوٌ، وغفلةٌ عن روايته فيهما معاً أن ذلك تَحْت السُّرة. وفي هذه السُّنَّةِ اثنان وعشرون حديثاً، حديثُ وائل واحدٌ منها. وعن عليٍّ عليه السَّلامُ ثلاثةٌ منها مرفوعة، وأثرٌ موقوف روى أحدَهما أحمدُ وأبو داود، وروى الآخرَ (¬2) الحاكمُ والدَّارقطنيُّ والبيهقي والرَّافعي (¬3)، وقال الحاكم -على تشيُّعهِ- إنَّه أحسنُ شيءٍ كل في الباب. الثالث: عنه، يأتي ختاماً لها. الرابعُ: عن طاووس (¬4). ¬
الخامسُ: عن قبِيصَةَ بنِ هُلْبٍ، عن أبيه (¬1). السَّادسُ: عن جابرِ بنِ عبد اللهِ (¬2). السَّابعُ: عن الحارثِ بنِ غطيف (¬3). ¬
الثَّامنُ: عن شَدَّاد بنِ شُرَحْبِيل (¬1). التَّاسعُ: عن ابنِ عباس (¬2). العاشر: عن يعلى بن مُرَّةَ (¬3). ¬
الحادي عشر: عن أبي الدَّرداء مرفوعاًً. الثاني عشر: عنه موقوفاً (¬1). الثالث عشر: عن عُقبة بنِ أبي عائشة موقوفاً (¬2). الرابع عشر: عن علي موقوفاً رواه البخاريُّ في أبواب قيامِ اللَّيل، وأبو داود والمِزِّي (¬3). الخامس عشر: عن ابنِ مسعود (¬4). ¬
السادس عشر: عن ابنِ الزُّبير (¬1). السابع عشر: عن سهل بنِ سعد (¬2). الثامن عشر: عن معاذ (¬3). التاسع عشر: عن أبي هريرة (¬4). ¬
الموفي عشرين عن ابن عمر (¬1). الحادي والعشرون: عن الحسن البصري مرسلاً (¬2). الثاني والعشرون: عن عليٍّ عليه السلام في الصِّيام من مجموعِ زيد ابن عليٍّ (¬3) عليه السلامُ، وجملتُها في " العلوم " و" الشفاء" و" الكتب الستة " و" مجمع الزوائد " (¬4)، وما علمُت أنَّه روى أحدٌ مِنْ أهل البيتِ وشِيعَتهم حديثاًً واحداً في النَّهْي عن وضع الكفِّ على الكَفّ في الصَّلاةِ حَتَّى نكونَ قَدَّمْنَا (¬5) عليه واحدا وعشرين حديثاً من روايتهم ورواية غيرهم، فلم يكُنِ العَمَلُ في هذهِ المسائلِ يقتضي ترجيحَ حديث المجاريح على حديثِ أهل البيت عليهُم السَّلامُ، لكن السَّيد ادَّعى في ¬
الدعوى الأولى: ادعى أن أحاديث الفقهاء متعارضة في وضع اليد على اليد
هذه المسائل (¬1) دعوتين. الدعوى الأُولى: ادَّعَى أنَّ أحاديثَ الفقهاءِ متعارضَة في وضع اليَدِ على اليد، ونصَّ السَّيِّد على ما يتحيَّرُ العاقل في صدوره مِن مثله (¬2)، وذلك أنَّه ذكر في كتابه أنَّ وائل بن حُجْرٍ فاسِقٌ مجروحٌ، فلمَّا وصل السيد إلى مسألة وضعِ اليُمنى على اليُسرى، ذكر تعارُضَ الأخبارِ في ذلك، وأنَّ في حديث وائلٍ أنَّ الوضع يكونُ على الصُّدُورِ (¬3)، وفي حديث عليٍّ، وأبي هريرة أنَّ الوضع تحت السُّرَّة، فعارضَ بينَ رواية أمير المؤمنين مع أبي هُريرة الحافِظ الأمينِ، وبَيْنَ روايةِ وائل الذي نصَّ على أنَّه عِنْدَهُ مِنَ المجروحين الفاسقين، فأينَ كانَ عقلُ السَّيِّدِ -أيده اللهُ- حتَّى اعتقَد أنَّ حديث وائل -مع اعتقاده فيه- يُعارِضُ حديثَ أمير المؤمنين عليه السَّلامِ، وأبي هريرة رضي الله عنه حتَّى يجِبَ طَرْح حديثهمَا منْ أَجْلِ حديثِ وائلٍ؟ وهذا يَدُلُّ على أن السيد كتب رسالتَه وهو لا يدري ما يكتب إمَّا لتعصُّبٍ شديدٍ، أو غيرِ ذلك. الدعوى الثانية: ادَّعى أنَّ العُمُومَ يعارِضُ الخصوصَ إذا جُهِلَ التاريخُ، كما ذهبت إليه. الحنفِيَّةُ، وهذه مسألةُ خلافٍ، الذي عليه جماهير العلماء، والذي عليه عَمَلُهُم هو تقديمُ الخَاصِّ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ، وقد ذكر الشَّيْخُ أبو الحسين البصري أنَّه الَّذي عليه علماءُ الأمصار (¬4)، ولا شكٌّ ¬
أنَّ العمل بالخاصِّ أَرْجح، أمَّا إنْ قُلنا: إنَّه خاصٌّ، وإنَّ الخاصَّ يُقدَّمُ (¬1)، فظاهر، وأما إن لم نَقُلْ بذلك، فلأنَّ الخصوصيةَ من وجوهِ التَّرجيح، فكانَ العملُ به أرجحَ، لأنه ُ أخصُّ بالحكم، وقوَّى هذا ابنُ رشد في " نهايته " (¬2) في اشتراط النِّصاب في الحُبوب. وبالجملة فَذكْرُ الحُججِ في هذه المسألَةِ على الاستقصاء يَطُولُ، لكنا نكتفي في ذلك بكلام مُخْتَصَرٍ، فنقول للسيدِ: هل تدَّعي التَّعارضَ في ذلك على سبيِلِ القطع، أوعلى سبيلِ الظن؟ إن قلتَ: على سبيلِ القطع، فَهَلُمَّ الدَّليل، وعلينا القَبُولُ أو الجوابُ، ولكِنَهُ يَلْزَمُك على الكُلِّ تأثيمُ الجِلَّة من علماء الإسلام الّذين قَضَوْا بتقديمِ الخاصِّ على العَامِّ، وإن قلت: إنَّهما متعارضانِ على سبيل الظَّنِّ، فما معنى المراسلة والمناظرة في مسألةٍ اجتهاديَّةٍ ظنِّيةٍ على سبيل الإنكار والتَعَسُّفِ، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً أنكر على مَنْ قضى بتقديم الخاصِّ على العامِّ عند جَهْلِ التَّاريخ منذ صُنِّفَ أُصولُ الفقْهِ، وعُرِف الكلامُ في مسائل الخلاف. فلو سَكَتَ السَّيِّدُ عن النَكير في ذلك، لَوسِعَهُ مَا وَسِعَ أمَّةَ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في مقدار سِتِّ مِئَةِ سنةٍ، وإنَّما ذَكَرَ هذه النُكْتَةَ في تقديم معارضة العامِّ للخاصِّ (¬3) عِنْدَ جهل التَّاريخ، لأنَّه فَهِمَ أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهُ في المنِع من وضع اليُمنى على اليُسرى، ومِنَ التأمين إلا ذلك، فإنه إنما عارض جميعُ ما تقدَّم بحديثِ " اسْكُنُوا في الصَّلاَةِ " (¬4). ¬
والجوابُ عنه: أنَّ المرادَ ممَّا لم تُشْرَعْ فيه الحَرَكةُ، وإلا لَزِمَ تحريمُ الركوع والسُّجودِ فيها، وهو موافق على رفع المُسَبِّحةِ في التَّشهُّد إشارَة إلى التَّوحيد، وعلى الالتفاتِ عِنْدَ التَّسليم، لكونه مشروعاً، فكذلك (¬1) كل حَرَكَةٍ مشروعَةٍ، ومنه حَرَكَةُ اللِّسانِ والشفتين عِنْد القراءَةِ، والذكر الذي يجب بإجماعٍ أو خلافٍ، أو لا يجب بإجماعٍ أو خلافٍ. وكذلك إنَّما يُعارَضُ أحاديثُ (¬2) التأمين مع كثرتها بعموم النَّهْي عَنِ الكَلام في الصَّلاة، والمرادُ به أيضاً الكلامُ الَّذي لم يُشْرَع وفاقاً؛ لأنَ الصَّلاةَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وآله وذكرَ اسْمِه - صلى الله عليه وسلم - لا يُفْسِدُ؛ لأنهُ مشروع. والأحاديثُ في التأمين كثيرةٌ، الذي حضرني الآن منها خمسةَ عَشَر حديثاً، أَكْتَفِي بالإشارةِ إلى مواضِعِها، منها " مجمعُ الزوائد "، و" اكتب السِّتةِ "، و" المنتقى " (¬3)، وكتبُ أهلِ البيت "علوم آل ¬
محمد"، و" مجموع زيد ". فمنها عن علي عليه السَّلامُ مرفوعاً، رواه ابن ماجه (¬1) بإسناد حسن. ومنها عنه عليه السلامُ موقوفاً، رواه محمد بنُ منصور في " علوم آل محمد " في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأحسِبُه في " مجموع زيد " في القُنوت وعن أبي هريرة ثلاثة أحاديث (¬2)، وثلاثة عن وائل (¬3)، ¬
وبقيتها عن معاذ (¬1)، وسلمانَ (¬2)، ....................... ¬
......................... وَسَمُرَة (¬1)، وعائِشَةَ (¬2)، وأمَّ سَلمَة (¬3)، وأمِّ الحُصَيْن (¬4)، وعَنِ ابْنِ شِهابٍ مُرْسلٌ. وذكر الحاكمُ أنَّه جَمَعَهُ في بابٍ مفردٍ، ولم يُعَارضْ بحديثٍ واحدٍ لا صحيح، ولا ضَعيفٍ، لا مِنْ رِوايَةِ أَهْلِ البيت، ولا شِيعَتِهِمْ، ولا أَهْلِ الحَدِيث. ولَنَا أنْ نُجِيبَ على معارضَتِها بالعُموم (¬5) بترجيح الخاصِّ كما ¬
إن العامة تعتقد أني قد رجحت في مسألة الجهر والإخفات خبر المتأولين المختلف في جرحهم، وأنا أورد في دفع ذلك اثني عشر وجها
تقدَّم، وبدعوى التَّأَخُّرِ، والاستدلالِ عليه بقول عليٍّ والصَّحابةِ بعدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وروايتهم وتعليمهم، ولم يكونوا يفعلون مِثْل ذَلكَ في المنسوخات مثل شرب الخمر، والصلاة إلى بيتِ المقدس، ونحو ذلك. وأنا أقتصِر على هذا القدرِ في مسألة التَّأمين، ووضع اليُمنى على اليُسرى على سبيل الإيماءِ والإشارةِ الخَفِيَّة، وإنَّما اقتصرت على ذلك؛ لأنِّ بعضَ أَهْلِ البَيْتِ عليهمُ السَلامُ يُخالفُ في ذلك، ويروي مثلَ أحاديثِ الفُقَهاءِ في (¬1) جوازهما، فلو رَجَّحْتُ تلكَ الأحاديثَ، لكُنْتُ عند العامَّةِ (¬2) قد رَجَّحْتُ. (¬3) خَبَر بعْضِ أهل البيتِ على بَعْضٍ، وهذا سهْلٌ، وأعني بالعامَةِ هنا أكثرَ (¬4) القُراء، لا الحرَّاثينَ. وأمَّا مسأَلَةُ الجَهْرِ والإِخفاتِ، فإنَّ العامَة تعتقِدُ أنَي قد رجَّحْت فيها خبرَ المتأوِّلينَ المُخْتَلَفِ في جَرْحِهِم على خَبَرِ العِتْرَةِ الطَّاهِرين بغَيْرِ شَكٍّ، فينبغي أن أبيِّن عَدَمَ ذلِكَ، وأنا أُوردُ في دفعِ ذلك اثني عشرَ وَجْهاً إنْ شاء الله تعالى. الوجهُ الأوَّلُ: أنِّي أجْهَرُ بالبسملة على مذهب زيدِ بنِ علي، والهادي عليهما (¬5) السَّلام، وغيرِهما من العِترة الكِرام، لأنّي (¬6) أُسْمعُ ¬
نفسي، وأُسْمِعُ منْ بِجَنْبِي، وقد قال زيدُ بن عليٍّ: مَنْ أسمع أُذُنَيْهِ فَلَمْ يُخَافِتْ (¬1). ومذهبُ الهادي عليه السلام أنَّ أقَلَّ الجَهْرِ أنْ يُسْمِعَ الإنسانُ مَنْ بِجَنْبِهِ، وذلك أيضاً أقل المخافتة، فمَنْ فَعَلَهُ، فقد أَخَذَ بالإجماعِ (¬2) مِنْ أَهْلِ المذْهبِ وَمَنْ يُوافِقُهمُ على قولهِمْ هذا؛ لَأنَ القائِل بأنَّ السنَةَ المخافَتَة، يقول: هذه مخافتةٌ، والقائل بأنَّ الجَهْرَ السُّنَّةَ، يقول: هذا جهر. فإنْ قُلْتَ: كيفَ يَصِح عند أهلِ المذهب أن يكونَ المتكلِّم جاهِرَاً مخافِتَاً في حالةٍ واحِدَةٍ. قلت: لأنَّ الجهرَ والمُخافَتَةَ مِنَ الأُمورِ الإضَافِيَّةِ دونَ الحقيقَةِ، والأمورُ الإضافِيةُ يَجوز فيها ما صورَتُه صورةُ المناقَضَةِ، وليس في معناه مناقضةٌ، وذلك مثلُ القَبْلِيَّة والبَعْدِيَّةِ، فإنَّهما لما لَمْ يكونا مِنَ الأعراضِ الحقيقيَّة جازَ في الشَّيْءِ أنْ يكونَ قَبْلاً وبَعداً بالنظرِ إلى زمانين أو مكانين، فاليومُ قَبْلُ بالنَّظَرِ إلى غدٍ، وبَعْدُ بالنظر إلى أمس، بخلاف السواد والبياض، فإنَّهما عَرضَان حقيقيَّان، فلا يجوز في الشَّيْء أن يكونَ أبيض بالنظر إلى أمرٍ، وأسودَ بالنظر إلى أمرٍ آخر. فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ الجَهْرَ والإخفات ليسا مِنَ الأمور الحقيقيةِ الثبوتيَّة، وإنما هما اسمانِ إضافيان، ونعتان لفظيَّان، كالصِّغَرِ والكِبَرِ، والكَثْرَة، والقِلَّةِ، فالمتكلِّمُ المُسْمِعُ مَنْ بِجَنْبِهِ جاهرٌ بالنظر إلى منْ لم يُسْمِعْ ¬
الوجه الثاني: سلمنا تسليم جدل أنا نخافت، فإنه لا يلزم منه ترجيح غيرأهل البيت
من بِجَنْبِهِ، وهو أيضاً مُخافِت بالنظر إلى منْ رفعَ صوتَهُ رَفْعاً قوياً فوق هذا المقْدارِ. وهذا الجواب كافٍ، لو أحببتُ الاقتصارَ عليه، لأجزأني، لكنِّي أحِبُّ الزِّيادة عليه، لِيَتبَيَّنَ للنَّاظِر في هذا الكلامِ أنَّ وُجُوة المَحَامِلِ كثيرةٌ لمَنْ أحبَّها، وأبوابَ الظَّنِّ الجميل واسعةٌ لمَنْ يطلُبُها، لكن السيد -أيَّدَهُ الله- لم يَسْلُكْ هذا المسلكَ في رسالته، فإنه بلغني أنه يَنْسُبُنِي (¬1) إلى القولِ بترك البَسْملَةِ بالمرة، فليتَهُ اعْتَدَلَ، فترك الحَمْلَ على السلامَةِ، والقولَ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وما أقول فيه إلا ما قالت عائِشةُ في ابن عمر: ما كَذَبَ ولكِنَّه وَهِل (¬2). الوجه الثاني: سلَّمنا تسليمَ جَدَلٍ أنَّا نُخَافِتُ، فإنَّه لا يلزَمُ منه ترجيحُ غير (¬3) أهلِ البيتِ عليهمُ السلام، فكيف يلزم مِنْهُ ترجيحُ الفَسَقةِ عليهم؟ وهذا يلزَمُ منه أنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْل البيت، فَهُوَ فاسِقٌ تصريح أو تأويلٍ، وهذا خلافُ إجتماعَيِ العتْرَةِ والُأمَّة، وخلافُ المعلومِ مِنَ الأدلة والخبرة، وبِكُلِّ تقدير، فإنَّ ما ذكرَهُ غيرُ لازم، وذلِكَ لأنَّ الأحاديثَ الَّتي رَواها بعضُ أهلِ البيت عليهمُ السلام يمْكِنُ أن تكونَ منسوخَةً، كما ذهب إليه بعضُ أهلِ العلم، وذلِكَ هو الظَّاهِرُ مِنْ حديث سعيد بنِ جُبَيْرٍ، ففيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يَجْهَرُ ببسم الله الرحمنِ الرحيم، وكان مُسَيْلِمَةُ يُدعى رحمانَ اليَمَامةِ، فقال أهلُ مكَّةَ: إنما يدعو لرحمان (¬4) اليمامة، فأمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بإخفائها، فما جهر بها حتَّى مات. ¬
رواه أبو داود في " المراسيل " (¬1) عن سعيد بن جبير، والمرسلُ عندنا مقبولٌ، وقد أثنى يحيى بنُ معينٍ (¬2) على مرسلاتِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وقال: هي أحبُّ إليَّ مِنْ مرسلاتِ عطاء، رواه الترمذيُّ. قال في كتاب " الغاية ": وقد رُوِيَ الحديثُ مسنداً أيضاًً. فإن قلت: قد زالت العلَّةُ، فيزول الحُكْمُ؟ قلت: قد زالَتِ العِلَّةُ في زمانه - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مَكةَ، واستمرَّ الحُكْمُ كما استمر في غُسل يوم الجُمَعَةِ (¬3)، والسَّعْي (¬4)، والطَّوافِ (¬5) بعدَ زوال ¬
العِلَّةِ، بل لعل العِلَّة زالت بَعْدَ الهِجْرَهَ مِنْ مَكةَ إلى المدينَةِ، فأمَّا بعد الفَتْح، فَبِغَيْر شَكٍّ. وقد طُعِنَ في هذا الحديث بِأمْرٍ عقليٍّ، وهو أن الرحمنَ مذكورٌ في الفَاتِحَةِ، ولم يُخَافِتْ بها، فما تعني حينئذٍ المخافَتَةُ بالبسملَةِ؟ ويُمْكِنُ الجوابُ على ذلك بأنَّ (¬1) الرحمن في الفاتحة وقع صَِفَةً لِربِّ العالمين، وموصوفاً بِمَلِكِ يَوْمِ الدين، فكان أبعدَ منَ الشُبْهَةِ وأكثرَ تَمَيُّزَاً، وأقلَّ لَبْساً، أو غيرَ ذلك، واللهُ أعْلَمُ، وأيضاً فالأنظارُ المحتَمَلَةُ لا تُرَدُّ بها الآثارُ كما لا تُرَدُّ بها الشرَائعُ. فإذا تقرَّر هذا، فَمِنَ الجائزِ أني أذهبُ إلى النسْخِ، وَمَن اعْتَقدَ في خبرٍ أنَّه منسوخ، لم يَصِح أنْ يُرَجِّحَ بَيْنَهُ وبين النَاسخ عند أهلِ المعرفة؛ لأني قد قَبِلْتُ الذي روى المنسوخَ، وصدقْتهُ، لكِنَّه ثبت لي مِنْ غير طريقِهِ أنَّ ما رواه منسوخٌ، فقبلتُ الرِّوايَتَيْنِ معاً (¬2) إذ (¬3) كانتا عَنْ ثَقتَيْنِ عَدْلَيْنِ، وعَمِلْتُ بمقتضى الأدلَّةِ في العمل بالناسخ وتركِ المنْسوخِ، وقد أجمع المحقِّقُونَ من الأمةِ والعِتْرَةِ على أنَّ المنسوخَ يُتْركُ، وإن كانَ الَّذِي رواه أفضلَ الأمَّةِ وأعلمَهَا متى كانت طريقة النَّاسِخِ صحيحةً، وإن كانت دونَ درجَةِ المنسوخِ في الصِّحَّة متى كانا ظنِّييْنِ معاً (¬4). ¬
وقال بعض أهل العلمِ: يُقدَّمُ النَّاسخُ وإن كان ظَنِّيَّا على المنسوخ، وإن كان قطعياً، واحتجَّ على ذلك بأنَّ المنسوخَ من القطعي هو (¬1) أمرٌ مظنونٌ، وهو دوامُ العمل به واستمرارُه، والدَّليل على أنَّ دوامَهُ مظنونٌ بتجويزُ النَّسْخِ عليْه، وتحريمُ العملِ به على العالِمِ حتَّى يطلُبَ النَّاسِخَ، فلا يجِدُهُ، فلو كان الدَّوام معلوماً، لاستحال مع العِلْمِ به تجويزُ النَّسخِ، ولَكَان طَلَبُ النَّاسِخ عَبَثاً، وإنَّما المقطوعُ بهِ ثبوتُه فيما مضى لم يُنْسَخْ، فيحتاجُ إلى ناسخٍ قاطعٍ. وبعدُ، فليسَ يَصْلُحُ أن يكونَ الأمرُ المنسوخُ بالناسِخِ القطعيِّ مقطوعاً به؛ لأنَّه لو كان كذلك، لأدَّى إلى تعارُضِ الأدِلَّةِ القاطِعَةِ، وهو محالٌ، فإذا ثبتَ أنَّ المنسوخَ هو الدوامُ والاستمرارُ، وأنَّ ذلِكَ القَدْرَ مظنونٌ في القطعيِّ وغيره، وثبتَ أنَّ النَّسْخَ عليه مُجَوَّز مُحتَملٌ قَبْلَ (¬2) ورودِ الناسِخِ الظَّنِّيَ، فلا شَكَّ أنَّ النَّاسِخ الظَّنِّيِّ إذا ورد، اقتضى رُجحان النَسخِ ومرجوحية عَدَمِ النَّسْخِ، فكيف يقال في المرجوحِ الَّذي ليس بِمظْنونِ الثُّبوتِ: إِنَّهُ مقطوعٌ (¬3) بثبوتهِ، وليس براجح ولا مساوٍ، بل مرجوحٌ موهومٌ، وبعد ثبوت كونهِ مرجوحاً موهوماً، كيف يَصِحُّ في النظَرِ التَمَسُّكُ به، وتركُ ناسخِهِ المظنون الثبوتِ الرَّاجِحِ الصِّحَّةِ، ولو صَحَّ قولُ القائل: إنَّ المنسوخَ القطعيَّ معلومُ الثُّبوتِ، وإنَّ الظنِّيِّ لا يعارِضُ العلم، لكانَ يَجِبُ أنْ يقطع على كَذِبِ مَنْ روى النَّاسِخَ، لأن مَنْ أخبر بأنَّ المعلومَ الثبوتِ غير ثابتٍ، وَجَب القطعُ بتكذيبِهِ، وهذا ما لم يَقُلْ به قائلٌ. ¬
الوجه الثالث: سلمنا عدم النسخ، فإنا نجيز الأمرين معا، ونقول كمن قال: من شاء جهر ومن شاء خافت
فإذا عرفتَ أنَّ الخلافَ بَيْنَ العُلَماءِ قد وَقَعَ في تقديم النَّاسِخِ الظنيِّ على المنسوخ القطعيِّ، وأنَّ حُجَّتهُم في القوة كما ترى، فكيف بتقديم الناسِخِ الظَّني على المنسوخ الظنَيِّ؟ ولو أنَّا استفتينا يحيى بن الحسين عليه السلام (¬1) وسائِرَ الأئمة الأعلامِ في تقديم الناسِخِ مِنْ رواية غيرهم مِن الثقات على المنْسوخِ من (¬2) روايتهم مع صحَّة النَّاسخ على شرط الأئمة وأهلِ العلم، ما اختلفَ منهُمُ اثنانِ في تجويز هذا، بل وإيجابه، وأين هذا من باب التَّرجيح؟ ولعلَّ مَنْ له أدنى مَعْرِفَةٍ بالأصولِ، لا يَشُكُّ في أنَّ الأصوليِّينَ أفردوا للنَّسْخِ باباً وللتَّرجيح (¬3) باباً، لأنَّهما أمرانِ مختلفانِ متغايرانِ، وبابانِ مفترقان متباعدان. الوجه الثالث: سلمنا عدمَ النسْخِ، فإنَّا نُجِيزُ الأمرَيْن معاً، ونقول كما قال ابن أبي ليلى (¬4)، وإسحاق، والحكم: مَنْ شَاءَ جَهَرَ، ومن شاء ¬
خافت، وَكُلٌّ واسِعٌ. وليس هذا بترجيحِ بعضِ الأحاديثِ على بعض، بل هذا استعمالٌ للجميع منها؛ لأنَّها لم تُعارض، والدَّليل على أنها لم تُعَارَضْ: أنَّ بعضَها ورد بأنه عليه السلام جَهَرَ، وبعضَها ورد بأنَّه خافت، فجاز أن يكونَ ذلك وارداً على التَّخيير، كما أنَّه يجوز بالإجماعِ أن يقولَ عليه السلام: من شاء جهر، ومن شاء خافَتَ، فلمَّا جاز ذلك وأمكن (¬1)، جاز الاقتداءُ بكُلِّ واحدٍ من الفعلين الثُّبوتيَّيْن، إذ لا يتعيَّن أحدُهما إلا مَعَ المعارضَةِ المحْضة، والمعارضَةُ المَحْضَةُ لا تَصِحُّ بين الأفعالِ المتجرِّدةِ عَنِ الأقوالِ، وإنَّما تكونُ بَيْن الأقوالِ، أوْ بَيْن فعلٍ وقولٍ، وبيانُ ذلِكَ ¬
مذكورٌ في الأصول. وقد نَصَّ حيٌّ الفقيهُ العلامَّة عليُّ بنُ عبدِ اللهِ في تعليقهِ على " الجوهرة " على ثُبُوتِ الجَهْرِ والمخافَتَةِ معاً عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ما لفظه: " اعلم أنَّ الإنصافَ في هذه المسْألَةِ هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجْهَرُ في البَعْضِ، ويُخافِتُ في البعض " (¬1). ذكره في الكلام فيما تَعُمُّ به البلوى مِنْ أخبار الآحاد، فإذا ثبتَ أن الأمْرَيْنِ كانا مِنْهُ عليه السلامُ مِنْ غيرِ تعارُض، دَلَّ على جواز الأمرَيْنِ، ولا شكَّ أنهُ قد ورد في بعض الأقوال ما يقتضي المعارَضَةَ، ولكن لم يثبُتْ عندي صحَّةُ ذلك القولِ المرويِّ على ما أعْتَبِرُهُ في شروط خَبَرِ الواحدِ ممَّا اعْتَبرَهُ غيري من نُجوم الأئِمَّةِ، وعلماءِ الأمَّةِ. فإن قيل (¬2): في هذا ترجيحُ التَّسوِيَةِ بينَ الجَهْرِ وَبَيْنَ الإخْفاتِ على قوْلِ جماهير العِتْرةِ عليهمُ السَّلام أنَّ المشروعَ هُوَ الجَهْرُ دُونَ الإِخفاتِ (¬3). قلنا: الجوابُ من وجهين. أَحَدُهُما: أن ذلك ليس بِخِلافٍ لإجْمَاعهِمْ، لأنهُ قد رُوي ذلِكَ عَنْ أميرِ المؤمنين عليه السَّلامُ، فإن رِوَايَةَ الجهرِ والإخفات مشهورةٌ عَنْهُ عليه السَّلامُ، وليسا قولين، فنقول: إن أحدَهُمَا قديمٌ، والآخَرَ جديدٌ (¬4)، بل ¬
هُما فِعلانِ يَصِحُّ نسبَتُهما إليه عليه السَّلام منْ غَيْرِ رجُوعٍ عن أحَدِهمَا، وهذا هو الظَّاهر، ومَنْ قَالَ: إِنَّهُ قد رَجَعَ عن أحَدِهِمَا، احتاجَ إلى دليلٍ على ما ادَّعاهُ. وثانيهما: إنَّما كلامُنا في التَّرجيحِ في الرِّوايةِ الذي ادَّعاه السَّيدُ، وأمَّا التَّرجيحُ في المذهب، فقد تركنا الخَوْضَ فيه، لأنَّهم -عليهمُ السَّلام- مجمعون على جوازِهِ، وما زالوا عليه في قديمِ الزَمانِ وحديثه، هذا النَّاصِرُ عليه السَّلامُ اشترط الخوفَ في جوازِ قَصْرِ الصَّلاة في السَفَرِ (¬1)، وخالف ¬
المشهورَ مِنْ مذاهبِ (¬1) آبائِهِ عليهمُ السَّلامُ لِدليل اقْتَضى ذلِكَ. وقال القاسم عليه السَّلام: إنَّ الوُضوءَ واجبٌ على كل مَنْ قَامَ إلى الصَّلاة ِ، وإنْ كانَ على وضوءٍ (¬2)، وخالفَ المشهورَ مِنْ مذاهبِ آبائهِ ¬
عليهمُ السَّلامُ في ذلك، كما ذكره الأميرُ الحسينُ في " الشفاء "، فإنَّه حكى قوْلَهُ هذا، وقال: إنَّهُ محجوجٌ بإجماعِ أهْلِهِ عليهمُ السَّلامُ، أو كما قال. ومن ذلك: قولُ السيدِ أبي العبَّاسِ رحمه اللهُ: إِنَّ شرطَ صِحَّةِ الإمامَةِ أنْ يكونَ الإمام (¬1) معصوماً، وقولُه: إن قول الإمام حُجَّةٌ كقولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حكى ذلك عنه الإِمامُ يحيى بن حمزة في كتاب " الانتصار "، ¬
وعبدُ اللهِ بنُ زيدٍ (¬1) في كتاب " المَحَجَّة البَيْضَاء " (¬2)، والفقيهُ يوسفُ بنُ أحمد بن عثمانَ (¬3) في كتاب " نورُ الأبصار ". وَمِنْ ذلك: قولُ السّيِّد الإمامِ المؤيَّدِ باللهِ عليه السلام: إِنَّ العَقْدَ والاختيارَ هو طريقُ الإمامَةِ دُوْنَ الدَّعْوة، والخُروجِ. حكاهُ عنهُ الإِمامُ في " الانتصار ". ومن ذلك: قولُ المؤيَّدِ باللهِ عليه السلامُ: إنَّ التَّقليدَ في معرفَةِ اللهِ تعالى جائزٌ، والعلمَ بالدَّلِيلِ غيرُ واجبٍ. نصَّ عليه المؤيَّدُ في موضعين من كتابِ " الزِّيادَاتِ " (¬4)، واحتجَّ عليه، وصرَّح به تصريحاً يَستحيلُ تأويلُهُ إلَّا على مُقتَضَى مذاهب الباطنيَّةِ في التَّأويل، وحكى ذلك القاضي شرفُ الدين حسن بن محمد النَّحوي عن المؤيَّدِ باللهِ في تعليقه على " الزِّيادات "، ولم يتأوَّلْه، وحكى ذلك الإمام يحيى في " الانتصار " عن ¬
المؤيَّد ِ بالله عليه السَّلامُ، ولم يتأوَّلْهُ، ولم يَزَلْ قدماءُ العِتْرَةِ عليهمُ السَّلام يُخَالِفُونَ الجماهير من آبائِهِمْ متَى أوجبَ الدَّليلُ ذلِكَ. وقد قال المؤيَّدُ بالله عليه السلامُ في غيرِ مسألةٍ: وأخافُ أنْ يكونَ قولُ يحيى في هذِهِ المسألةِ مخالِفَاً للإجماعِ. وقال م (¬1) في قولِ القاسم عليه السَّلامِ بتقديمِ التَّوَجُّه قبل التكبير: إنَّه أوَّلُ من قال به، وإنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِن العِترة وغيرهم خالفوه في ذلك. وكذلك استمرَّ عَمَلُ المتأخِّرينَ مِنْ أهلِ البيتِ عليهمُ السلام ُ على ما ذكرته مِن مخالفةِ الجماهيرِ، فقال الأميرُ الحسينُ بن مُحَمَدٍ في كتاب " الشفاء ": إِنَّ صلاة الجُمُعَةِ خَلْفَ الفاسِقِ جَائِزَةٌ، واحتجَّ على ذلك، وقال: إنَّه لا يُحْفَظُ عن أحدٍ من أهلِ البيت أنَّه يقولُ به، ولكنَّه لا يُعْلَم أنَّهمْ أجمعوا على تحريم ذلك، أو كما قال، وتابعه على هذا الاختيار الإمامُ محمَّدُ بنُ المطهرِ. وكذلك الإِمامُ المهديُّ علي بنُ مُحَمَّد عليه السلامُ قد ذهبَ إلى جوازِ لباسِ الحريرِ (¬2) للمُجَاهِدِينَ في غير وقتِ الحربِ، وكان الجُنْدُ ¬
يَلْبَسونه عِنْدَهُ عليه السَّلامُ في مُدَّةِ أيَّامِهِ المباركَةِ، فلمْ يُنْكِرْ ذلك عليهم. وذهب عليه السَّلامُ أيضاًً إلى جوازِ رَمْي البُغَاةِ مِنْ أهلِ الإِسلامِ بالمَنْجَنِيقِ. وكُلُّ ذلك خِلَافُ المشهورِ مِنْ مذاهبِ آبائهِ عليهمُ السَّلامُ، وكذلك الإمامُ النَّاصر عليه السَّلام قد استجازَ ذلِكَ كُلَّه، وذهبَ إليه، وزادَ عليه جوازَ المِزْمَارِ مَعَ الطُّبُولِ لِمَصْلَحَةِ الجِهَادِ والتَّرْغِيب فيه. وهذا القبيلُ كثيرٌ لا سبيل إلى استقصائِهِ، فلم يَزَلْ أهلُ العلمِ مِنَ الخَلَفِ والسَّلَفِ يَشِذُّون بمذاهبَ تُخَالِفُ مذاهِبَ الجَمَاهيرِ، ولهذا ذهبَ العلماءُ أنَّ الإجماعَ لا ينعقدُ إذا لم يبقَ مِنَ العُلَمَاءِ إلا واحِدٌ، ومنْهُمْ مَنْ قَالَ: يكون إجماعاً ظَنِّيَّاً عُرْفِيّاً، لا حقيقيّاً، وقيل (¬1): يكونُ حُجَّةً، ولا يكون إجماعاًً، فلولا جوازُ ¬
شذوذِ العالِمِ بالاختيار، ما رَسَمْتُ هذِهِ المسألَةَ، وقد تقدَّم ذِكْرُ تَفَرُّدِ عَلِيٍّ عليه السلام بجواز بيع أمِّ الوَلَدِ (¬1)، وقد ذَكَرَ الأميرُ شمسُ الدِّينِ أنَّ لِعَلِيٍّ عليه السلامُ ما لو يُفْتي بهِ غَيْرُهُ مِنْ أهلِ الأعصارِ المتأخِّرَةِ لنُسِبَ إلى الجَهْلَ. وقد ذكر السُّبْكي (¬2) في " طبقاته " ما شذَّ بِهِ كلُّ عالِم مِمَّنْ ذكره، فصارَ جواز الشُّذوذِ مُجْمعَاً عليه لِشُهْرَتِهِ، وَعَدَمِ الِإنكارِ، فَمُحَرِّمُهُ أقربُ إلى مُخَالَفَةِ الإجماعِ منه إلى مُتَابِعِهِ (¬3)، وَمَنْ عقَدَ الإجماعَ مع مخَالَفَةِ الوَاحدِ، لم يجْعلْهُ إجماعاً قطعياً، ولا أثَّمَ ذلِكَ الواحِدَ. فإن قُلْتَ: وما المُوجِبُ للشُّذوذ وموافقة الجماهير أولى؟ قلتُ: الموجبُ دليلٌ هو عند المخالِفِ أرجحُ من مُوَافَقَتِهِمْ، وموافَقَتُهُمْ حسَنَةٌ، لكنْ إذا حصل ما هو أحْسَنُ مِنْهَا، كانَ أوْلَى، مثلُ ما إِنَّ العَمَلَ بالحديثِ حَسَن، لكِنْ إذا حصل (¬4) العَمَلُ بالقرآنِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الجَمْعُ، كان أحْسَن. فإنْ قلْتُ: فكيف يَجُوزُ للعالِمِ مِنْ أهلِ البيتِ عليهمُ السَّلامُ أنْ يُخَالِفَ إجماعَ أهْلِهِ، أو يُخَالِفَ إجماعَ الأمَّةِ؟ ¬
قلت: الجوابُ عن هذا بعْدَ تسليم كَوْنهِ إجماعاً واضحٌ عنْدَ مَنْ لَهُ أدنى تمييزٍ، وذلك لأنَّ هذِهِ الإجماعاتُ التي في المسائِلِ إجماعاتٌ ظَنيَّةٌ، والدَّليلُ الظَّنِّي يجوز مُخَالَفَتُهُ لأِرْجحَ منه، وإنْ كانَ ذلك الدَّليلُ مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ، مع أنَّ مَنْ أنكر أنَّهما حُجَّةٌ كَفَرَ، فكيف بإجماعَيِ الُأمَّةِ والعِتْرَةِ اللَذَيْنِ منْ أَنْكَرَ كوْنَهمَا حُجَّةً، لم يُكَفرْ، وَلَمْ يُفَسَّقْ؛ هذا في مَنْ أنكر القَطْعِيَّ مِنْهُما والظَّنِّيَّ، وإنَّما فَسَّقُوا مَنْ خَالَفَ إجماع الُأمَّةِ القَطْعِيَّ، لا مَنْ قال: إنَّه (¬1) لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فلا يقَعُ في هذا وَهْمٌ، فأمَّا الإجْمَاعُ الظَّنِّيُّ، فلم يَقُلْ أحدُ: إنَّ مُخَالِفَهُ يَفْسُقُ، دع عنك مُنْكِرَهُ، بل قال بعض العُلماء: إنَّ الإجْمَاع الظنِّيَّ: ليس بحُجَّةٍ البَتَّةَ، وَلَمْ أعلمْ أنَّ في أهل العلم مَنْ خَرَجَ على المُخَالفِ في الإجماع الظَّنِّيِّ. وقد نصَّ الإمام يحيى في "المعيار" أنَّ الخبَرَ الظَّنِّيَّ يُقَدَّمُ على الإِجماعِ إذا لم يثبُتْ أنَّ أهل الإجماعِ قد عَلِمُوا بِهِ، وَخَالفُوهُ بعد العلْمِ به (¬2)، فإنْ خالَفُوهُ بعدَ العِلْمِ بهِ، قُدِّمَ الإجماعُ. فإذا عَرَفْت هذِه الجُمْلَةَ، تَبَيَّنَ لك سُهُولَةُ أمْرِ المخالفة في الفروعِ، وأنَّ المُخَالِف لو خالف الإجماعُيْنِ -إجماعَ الأمَّةِ والعِتْرَةِ- على (¬3) هذه الصِّفَةِ، لم يستَحِقَّ الِإنكار والتَّأثيم، سواءٌ قال: إنَّهما إذا كانا ظَنِّيَّيْن، فلا حُجَّةَ فيهما، أو قال: بأنَّهما حُجَّةٌ، ولكن حَصَلَ ما هو أرْجَحُ مِنْهمَا، فكيفَ بِمنْ لم يُخَالِفْ إجماعاً البتَّة؟ وبعدُ، فالخلاف لأهلِ البيتِ عليهم السَّلامُ في هذه المسألة يَسِيرٌ ¬
الوجه الرابع: سلمنا أنا لم نقل بجواز الجهر والإخفات معا
جداً؛ لأنَّه خلافٌ لجماهيرِهِمْ في أمرٍ غيرِ واجبٍ عِنْدَهمْ، وذلك لأنَّ مذهبَ جماهيرِ العِترة مِنَ المُتَقَدِّمينَ والمتأخِّرين أنَّ الجهر بالبسملة (¬1) والفاتِحَةِ في الصَّلَاةِ غَيْرُ واجبٍ. وقد ذكر ذلك الأمير الحسينُ في "الشِّفاء". فالمخافِتُ (¬2) تاركٌ لِسُنَّةٍ عندَ جماميرِ العِترة، ولا إثمَ عليه، ولا حرجَ، ومَنْ كانَ عِنْدَ جماهيرِهِمْ غيرَ عاصي (¬3)، فالإنكارُ عليهِ عِنْدَهمْ مِنَ المعاصي. هذا كُلُّهُ على تسليمِ ما ادَّعاهُ الخَصْمُ مِنَ المُخَافَتَةِ، وَلَسْتُ -بِحَمْدِ اللهِ- أُخَافِتُ، بَلْ أجْهَرُ عَلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ والهادي عَلَيْهِمَا السَّلام كما تَقَدَّمَ ذلِكَ، فهذا الكَلَامُ انسَحَبَ عليَّ مِنَ الكلاَمِ على جوازِ الأمرين: الجَهرِ والإِخفاتِ، وقد طال، وهو مُفيدٌ إن شاء الله تعالى. الوجه الرابع: سلَّمنا أنا لَمْ نقلْ بجوازِ الجَهْرِ والإخفات معاً، وأنَّا (¬4) قلنا بأنَّ السُّنَّةَ الإِخفاتُ، فإنَّه يُمْكِن أنْ نَحْمِلَ أحاديثَ الجَهْرِ على معنى صحيحٍ، ونَجْمَع بَيْنَ الأحاديث، ولا نطرحَ أحاديثَ أهلِ البيتِ عليهم السَّلامُ، فإنَّ طرحَ أَحَدِ الحديثين لا يجوزُ إلاَّ بعد تَعَذُّرِ الجَمْعِ بينهما؛ لأنَّ الجمْعَ أولى بالاتِّفاقِ إنْ كان إليه سَبيل. وقد ذكَرَ مَنْ تَقدَّمَ مِنْ أهلِ العلم الجمعَ بينَ الأحاديثِ في هذه المسألَةِ، وقال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جهر بها لِيُعْلِمَ الناسَ أنها تُقرأ سرَّاً، ¬
كما ثبت في " الصَّحيحين " (¬1) أنَّه كان يُسْمعُهُم الآيَةَ أَحْيَاناً في صَلاةِ النَّهارِ، وكما ثبتَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ جَهَرَ بالتَّوَجُّهِ للتَّعْليمِ (¬2) معَ الإجماعِ علَى أنَّ التَّوَجُّهَ ممَّا لا يُجْهَرُ بِهِ. وقد يَحْتَمِلُ أنَّه جَهَرَ بِها لبيانِ جوازِ الجَهْرِ، لا لبيان استحبابهِ، كما جَهَرَ في صلاة النَّهارِ، وإذا كان هذا محتَملاً، لم تُعَارَضِ الأحاديث، وإذا لم تُعارَضْ، لَمْ يَحِلَّ التَّرجيحُ والعملُ بالبَعْضِ دونَ البَعْضِ. فإنْ قُلْتَ: فهلاَّ جَعَلْت التَأويلَ للإخفاتِ؟ وقلتَ كما قال أهلُ الجَهْرِ: إنَّه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَهَر (¬3)، ولكِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ لما يُعتادُ مِنْ رَفْع المأمومينَ لأصواتِهِمْ بعد تكبيرةِ الإِحرام، وذلكَ وقتُ البَسْمَلَةِ. قلت: الجَوَابُ مِنْ وَجْهيْنِ. الأول: أنَّ هذا الاحتمال يضعف في الرَّكْعَة الثانِيَةِ، وعِنْدَ قراءةِ السُّورَة بعد الفَاتِحَةِ، ويلزمُ منهُ التباسُ أوَّلِ الفاتِحَةِ. ¬
الوجه الخامس: أنه لا يلزم القول بالترجيح إلا بعد أن يدعي كل واحد من الفريقين أن حديثه صحيح، أو يدل عليه دليل
والثَّاني: أنَّ فيه حُكمَاً على الرُّواة بالكذِب والوَهْم (¬1) مِنْ غيرِ تَعَمُّدٍ، فإنَّهم قالواْ لَمْ يَكُنْ يجهَرُ في بعضِ الطُّرُقِ الصِّحاحِ، ولو كان الأمر كما ذكَرْتَ، لكان الواجبُ عليهم أنْ يُورِدُوا لفظاً يصدُق ويدُلُّ على الشَّكِّ، مثل أن يقولوا: إنَّ أصواتَ المُكَبِّرين كانت تمنَعُنا من تَحَقُّقِ جَهْرِهِ بالبَسْمَلةِ، فلا ندري هل جَهَرَ أم لا؟ وبهذا تَعْرِفُ أنَّ تأويلَ الجَهْرِ أولى؛ لأنَّ فيه تصديق جميعِ الرُّواةِ، وحملَهُمُ الجَميع عَلى عدم الوَهْمِ، فكان أقوى، لأنَّ الوَهْمَ خلافُ الظَّاهر، وهو آخِرُ مراتبِ التَّأويل كما سيأتي، وليسَ بعدَ الحُكْم بِه إلَّا الحكمُ بتَعَمُّدِ الكَذِبِ، بل لا يصحُّ (¬2) القطع (¬3) بالوهْمِ إلا في المسائل القطعيَّةِ بعد انسدادِ بابِ التَّأويل، وسوف يأتي ما في ذلِكَ مِنَ الشَّرائِطِ العزيزة. الوجه الخامس: أنَّهُ لا يلزَمُ القول بالتَّرجيح إلاَّ بعدَ أنْ يدَّعيَ كُلُّ واحدٍ مِنَ الفريقين أنَّ حديثَه صحيح، أو يدُلُّ دليلٌ على أنَّهُ يَدَّعِي ذلِكَ ويعتقدُه، وإنْ لم يُصَرِّحْ بذلك، لكنَّا لَمْ نعلمْ ذلِكَ في أحاديثِ أَهْلِ البَيْتِ عليهم السَّلام، فإنَّ كثيراً مِنْ أحاديثِ الجَهْرِ المَرْوِيةِ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طريقٍ أهلِ البيت عليهمُ السَّلامُ، وبعضُها ثَبَتَ من طريقهم (¬4) لكنَّهُمْ لَمْ يحتجُّوا به منفرداً، وُيصَرِّحُوا بأنَّه مُسْتَندُهمْ في العَمَلِ، بَلِ احْتَجُّوا على ذلك ببعضِ تلك (¬5) الأحاديث وبالقياس وبالاجتهاد، وهذا النَّوْعُ شبيهٌ بالنَّوْعِ المُسمَّى بالمتابَعَاتِ والشَّواهِدِ (¬6)، وهو أحدُ أنواع علوم الحديث، ¬
الوجه السادس: أن الهادي لما ذكر المسألة، احتج فيها بأن " بسم الله الرحمن الرحيم " من القرآن والقرآن يجهر به
وَلَمْ أعلم بأنَّ أحدَاً قال: بأنَّها حُجَّةٌ، والدَّليلُ على أنها ليست بِحجةٍ أنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ العالِمُ اعتمد العُمُومَ، أَوِ (¬1) القياسَ، أو الاجْتِهَاد، ثُمَّ تقَوَّى بِالخَبرِ على جِهَةِ الاستئناس والزِّيادة في الظَّن، وَلَوْ لَمْ يَكنْ معه إلا الخَبرُ، لم يَعْتمِد عليه، وقد يُصَرِّحُ (¬2) بهذا كثيرٌ مِنْ أَهْل العلم في احتجاجِهِمْ لمذاهِبِهِم. وكذلِكَ العَكْسُ مِن هذا قد يَحتجُّ العالِمُ بالخَبَرِ والقياسِ، ويكونُ مُعْتَمدَه الخَبرُ، وإيرادُه للقياسِ على سبيل إلاستظهار، ونظير ذلكَ أنَّ الحاكم إذا حَكَمَ بشهادَةِ رَجُلَيْنِ، كان الحُكْم تعديلاً لَهُمَا، ولو حكَم بشهادَةِ ثلاثة، كان تعديلًا لاثنينِ مِنْهُم، لجواز أَنْ يكونَ لَمْ يَعْلَمْ عدالَةَ الثالث، ولكِنْ تَقَوى بِهَا، وكذلِكَ العَالِمُ (¬3) إذا قال قولاً، واحتجَّ بِحجةٍ مُنْفَرِدَةٍ دلَّ على صِحتِها عِنْدَهُ، وإذا احتجَّ بحُجَّتين، احتمل (¬4) أنْ تكونا صَحِيحَتَيْنِ مَعَاً، وأَنْ تكون إحداهُمَا صَحِيحَةً، والأخرى ضَعِيفَةً عنده، لكن تقوَّى بها. فإذا لم يَثْبُتْ عَن الهادي أنَّه قال بِصحَّةِ الحديث، لم يَصِحَّ أنْ يعْمَلَ بِهِ، وإن لم يُعارضه حديث آخر، فكيفَ إذا عَارَضَهُ حديث صَحِيحٌ على شروطِ الأئمة، فَعَمِلْنَا بِهِ، كيف يجوز أَنْ يُقَالَ: إنَّا قد ذهَبْنَا إلى ترجيح فُسَّاقِ التَّأويلِ علَى الهَادِي عليه السَلامُ؟ وَمَتَى صحَّحَ الهادي الخَبَرَ بنصٍّ أو ظاهِرٍ مِنْ كلامِه عليه الكلام حتى يَثْبتَ ما هُوَ فَرْعٌ على هذا مِنَ التَّرجِيح؟ الوجه السادس: أنَّ الهادي عليه السَّلامُ لما ذكر المسألة، احتجَّ ¬
فيها بأنَّ " بسم اللهِ الرَّحمن الرحيم " مِنَ القرآن، والقرآنُ يُجْهَرُ بِه، وجعل هذه الحُجَّة عُمدتهُ، وصدَّرها في احتجاجِهِ في المسألة، ثمَّ روى بعدَها حديثين لم يَدُلَّ عليه السَّلامُ على صِحَّةِ واحد مِنْهُما عندَه بنصٍّ، ولا عموم، ولا منطوقٍ، ولا مَفْهُومٍ، ولا تَبَيَّن لنا ذلك مِنْ غيره عليه السلام كما نُبيِّنُ ذلك، أمَّا أحدُهما: فإنَّه رواهُ بلفظ التمريض والبلوغِ دونَ لفظِ القطْعِ والثبات، فقال: بلغَنَا عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَقُلْ: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا قال: صَحَّ لنَا عنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أيضاً نوعٌ من أنواع الحديثِ يُسَمَّى البلاغات، وليس يُحكمُ بصحته؛ لأن عبارة البُلُوغِ تَصْدُقُ، سواءٌ كانَ الحديث (¬1) صحيحاًً أو ضعيفاً؛ لأنَّ الصحيحَ قد بُلِّغَ، والضعيف قَدْ بُلغَ. ولهذا كان القول الصحيحُ المختارُ مِنَ الثَّلاثَةِ الأقْوالِ في تعاليقِ البُخاري (¬2) أن ما رواهُ بصيغَةِ التمريض لم يُقْبلْ، وما رواه بصيغة الجَزْمِ قُبِلَ (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وليس هذا النَّوعُ يدخُلُ في المراسيلِ، ولا يرتقي إلى مرتَبَتِهَا، فإنَّ كثيراً مِنْ عُلماءِ الأصولِ نَصُّوا على أن المُرْسَلَ هُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نصَّ عليه المنصور بالله عليه السلام في موضعين من " صفوته " (¬1) وكذلِكَ أبو الحسين في " معتمده " (¬2)، ونص عليه في " الجوهرة "، وأَقرَّهُ الفقيهُ العلاَّمة عليُّ بنُ عَبْدِ اللهِ، ولمْ يعترِضْهُ في تعليقه، بل أقَرَّهُ، وقال: الكلام كما ذكر (¬3)، واختلفوا في العنعنة. وأمَّا البُلوغُ والرِّوايَةُ بلفظِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، فَلَمْ أَعْلَمْ أنَّ أحداً ذكرهما في المراسيلِ، ولا فيما يَجِبُ قَبُولُه مِنْ أخبارِ الثِّقات، وإنْ ذَكَرَ ذلكَ ذاكرٌ مِنْ غَيْر دليلٍ، لمْ يُقْبَلْ منهُ تقليداً حتى يَدلَّ عليهِ، وهذا الكلام مُتَّجِهُ إلا أَنْ يُعْرَف مِنْ بعضِ العلماءِ أنَّهُ لا يقولُ ذلكَ إلا فيما صحَّ لَهُ، ولا يقولُه في حديثٍ ضعيفٍ ألبتة عمل به، ولكِنا لمْ نَعْلَمْ هذا مِنَ الهادي عليه ¬
السلامُ، ولا من غيرهِ مِنْ علماءِ الإسلام. إذا تقرَّرَ هذا، فلا شَكَّ أنَّ أَرْفَعَ المراتِبِ في رفع الالتباسِ أنْ يقولَ العالِمُ: صح لنا عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُبَينُ طريقَ الحصةِ. المرتبة الثانيةُ: أن يقول: صَحَّ لنا، ولا يُبَين طريقَ الصحةِ. المرتبة الثالثَةُ: أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هكذا على الجزم منْ دونِ تصريحٍ بِالصِّحةِ. المرتبةُ الرابِعَةُ: أنْ يقول: مذهبي كذا وكذا، وحُجَّتي على ذلك قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو ما بَلَغَنِي في ذلك عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ يَذْكُرُ الحديثَ مُصَرحاً أنَّه حُجَّتُهُ ومُعْتمدُه. فَهذِهِ مراتبُ أربع، وفيها خلاف كُلُّها، لكنِ المرتبةُ الأولى لم يُخَالِفْ فيها إلَّا البَغْدَادِيَّةُ، وكلامُهم مهجورٌ مدفوعٌ بالإجماعِ قبلَ خلافِهم، ولكن لا يَتَّجِة الإنكارُ على من خالفَ الحديث الصَّحيحَ؛ لجوازِ أن يكونَ خالَفَهُ لِما هُوَ أَرْجحُ منهُ. وأمَا المراتِبُ الثلاث المتأخِّرةُ، فلا سبيل إلى الإنكار على مَنْ لم يَقْبلْها، والخلافُ فيها شائِعٌ بين العُلَمَاءِ، فأمَّا إذا نَزَلَت الرواية عن هذِهِ المراتب الأربع، مثل أن (¬1) يَحْكِي العالِم مَذْهَبَهُ وحجتَهُ عليه، ثم يقولُ بعد ذلك: وبلغنا عنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلمُ أن أحداً يقول: إنَّ هذا طريقٌ للمجتهد إلى معرفَةِ صِحةِ الحَديثِ. قال الإِمامُ يحيى بنُ حَمْزَة في " المعيار" في طرق (¬2) صِحةِ ¬
الحديثِ: وأمَّا رابعاً، فالعَمَلُ علَى خَبَرِه، فإنَّه يكون تعديلاً إذا كان لا مُحْتَمَلَ لهُ إلا العَمَل عليه، فإنِ احتملَ غيره لم يكن تعديلاً. انتهى كلامُه عليه السلامُ. وهو مثل الذي ذكرتُه، فلِله الحَمْد، ولهذا لم يَقُلْ (¬1) أَحَد مِنْ أهل النقل: إن كُتُبَ المسانِيدِ صحيحة عِنْد مصنِّفيها، مثل مَسانيد الشافِعِيِّ، وأبي حنيفةَ، وأحْمَدَ بنِ حَنْبَل وغيرهم، لمَّا كانت عبارتُهم (¬2) لا تقتضي دعْوى الصِّحة عِنْدَهم، ولكن أَخْبَرُوا بما سَمعُوا، وَبَلَغَهُم عَنْ ثِقَةٍ وغيره، ولهذا أَعْرَضَ أربابُ الصِّحاح، ونُقَّادُ الحَدِيثِ عَنْ بلاغات " الموطَّأ "، ولم يقولوا بصحَّتِها على جلالَةِ مَالكٍ عندهم، وإجماعهم على أمانَتِهِ وتقدُّمِه في الحِفْظِ والاحتياط في الحديثِ والرِّجالِ، فإنهُمْ لا يختلفون أنه رأسُ أئمةِ الحديثِ، وأوثقُ نَقَلَةِ (¬3) الأخْبَارِ وحملَةِ الآثارِ، وَهُو الَّذي أَقَلَّ مِن الرواية، وأَطَابَ، وَبَلَغَ الغايَةَ القُصوى في تَحَري الصدْقِ والصوابِ، فلَمْ يقْبَلُوا بَلاَغَاتِه، ولا التفتوا إلى ما مَرَّضَهُ مِنْ رواياتِهِ. خاتِمَةُ أقصى ما في البابِ أنْ يثبُتَ عِنْدَك (¬4) أنَّ بلاغاتِ بَعْضِ الأئِمَّة حجةٌ مِنْ غَيْرِ أنْ ينُصَ ذلِكَ الإمامُ على ذلك، ولا يَدُلَّ عَلَيْهِ بظاهرٍ، ولا مفهومٍ، ولا يُبَيّنُ أنَّه حُجَّتُه، لكن هذا يكون مذهباً لَكَ، لا لذلكَ الإمامِ، ولا لِغيْرِهِ، ولو أَنَّ بعضَ المتأخِّرين خالفَ بعضَ الأئِمَّةِ في صحَّةِ حديث، لم يستحقَّ الإنكار، فكيف إذا (¬5) خَالَفَ بعضَ أَهْلَ عَصْرِه؟ ¬
وقُصارى الأمْر أن يثبُتَ عَنْ بَعْضِ الأئمَّةِ أنَّ هذهِ طَريق إلى صحة الحديث، فهذا مما لا يقطَعُ الخلاف، كما نَصوا أنَّ الإرسال طريق إلى ذلِكَ، ولم يمنَعْ ذلكَ مِنْ تحريم رَد المراسيل على المُجْتَهدين، فَهذا هُوَ الكلامُ على الحديث الأوَّلِ، وقد تَبَيَّن بِهِ أن الهادي عليه السلام لم يدَّعِ صحَّتَه ألبتَّةَ. وأمَّا الحديث الثاني، فإنه عليه السلام رواه عن أبيه، عن جَده، عن أبي بكر بنِ أبي أُوَيسٍ، عنِ الحُسين بنِ عبد الله بن ضُمَيرة، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عليٍّ عليه السلام، وفيه وجهان: الوجهُ الأوَّلُ: أنَّا لا نعْرِفُ عَدالَةَ الحسينِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ ضُميْرةَ، ولا عدالَةَ أبيه، ولا جَدِّه. فإنْ قُلْتَ: روايةُ الهادي عليه السلام تقتضي عدالتَهُم. قلتُ: روايةُ العالِمِ لا تدُلُّ على توْثيقِ مَنْ زوَى عَنْهُ على الأصَح المشْهورِ، خلافاً لبعض أصحاب الشافعي، ذكره ابنُ الصَّلاح في كتابه " العلوم " (¬1)، والإمامُ يحيى بنُ حمزةَ في كتابه " المعيار "، فقد روى الثَّقاتُ العُدولُ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابعينَ عَنْ معاوية، والمغيرةَ، وعمرو بن العاص، وروى عليٌّ بنَ الحسينِ عليه السلامُ عَنْ مَرْوَان بنِ الحَكَمِ، ولم يكن ذلك مِنْهم تعديلاً لِهؤلاءِ، وسيأتي بيانُ من رُوِيَ عنهم في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى. ¬
الوجه الثاني: أنَّ أهْلَ الحديثِ الذين (¬1) نَصَّ أئمةُ العِترةِ على قبُولهم قدَحُوا في الحُسينِ بنِ عبدِ الله بن ضمَيْرَةَ هذا، وضعَّفُوه في كُتُبِ الجَرْحِ والتعديل، ولم يذكروا له تعديلاً قطُّ، وهذِه ألفاظهم في ذلك: قالوا: هو أبو ضَمْرَة الحسينُ بنُ [عبد الله] أبي ضميرة (¬2) الحِمْيَري المدَني، كذَّبه مالك، وقال أبو حاتِم: متروكُ الحديثِ، كَذَّاب، وقال أحمد: لا يساوي شيئاً، وقال ابن معين: ليس بثقة، ولا مأمون، وقال البخاري: منْكَرُ الحَدِيثِ، ضعيف، وقال أبو زُرعة: ليس بشيء، اضْرِبْ على حدِيثه (¬3). فهذا الرجُل مجروحٌ بِمَرَّةِ، مَقْدُوحٌ فيه كما ترى، وجرحُ مالكٍ لَهُ قويٌ لاختصاصه به، فإنَّ بَلَدَهُما واحدةٌ، وزمنَهُما واحد، فهما مَدَنِيَّانِ معاً، وابن أبي ضُميرة شيخُ أبي بكر بنِ أبي أُويس، وأبو بكر هذا: هو ابنُ أختِ مالكٍ. فهذا يدُلُّ على أنَّهم مختلطون، وأهلُ بلدٍ واحدٍ، وزمانٍ واحد. والقاسِمُ عليه السلامُ لم يدْرِكِ ابْنَ أبي ضميرة، ولا صَحِبَه، ولا جاوَرَهُ، وإنَّما رَوَى عَمَّن روى عنه، فلا يكون في هذا تعديل لَهُ، ولو فرضنا أنَّه تعديلٌ عِنْدَ بعضِ الشَّافِعيَةِ، لم يلزَمْنا مذهبُ بعضِ (¬4) الشافِعِيةِ. ¬
وعلى تقدير صحة مذهبِهِم، فالجَرْحُ المعَيَنُ (¬1) مُقَدَّم على التَعْدِيل، والمعدِّل محمولٌ على عَدَمِ الاطِّلاع على ذلك، وعلى العَمَلِ بالظَّاهِرِ، كما هُوَ مَذْهَبُ أَهْل البَيْتِ وغيرهم، بَل الظَاهرُ أنَّ الجَرْح المطلق مُقَدَّمٌ عندهم عليهم السلامُ، أو عند كثيرٍ منهُم، فكيف الجَرْحُ المُعَيَّنُ؟ وأمَّا أبو بكر بن أبي أويس (¬2) الذي يروي عنه القاسِمُ عليه السلامُ (¬3)، وهو الراوي عن ابن أبي ضميرة، فهو ثِقَة حُجَّة (¬4) عِنْدَ الجماهيرِ، ولا أَعْلَمُ فيه مقالاً إلاَّ ما قالَهُ الأزدي، فإنَّه قال: كان يَضَعُ الحديث، قال الذَّهبي (¬5) في قول الأزدي هذا: وهذِهِ زَلَّةٌ قبِيحَةٌ. انتهى. فمن كان يُقَدِّم الجرح مُطلقاً، لَزِمَه جرْحُه، وهذا مقتضى اختيارِ السَّيدِ في رسالته، فيزدادُ الحديث ضعْفَاً على ضَعْفِهِ، لكن السيدَ قَدِ التزَمَ ما يوجبُ عليه التَّشكيك في ثُبوتِ هذا الجَرْحِ والتَّعديلِ، بل ما يُوجب عليه التَّشكيك في كونِ الهادي عليه السَّلامُ روى هذا الحديث في الأحكام، بل ما يوجب عليه التشكيكَ في كونِ ابن أبي أويس، وابنِ أبي ¬
الوجه السابع: أن الخبر إذا ورد في شيء ظهر في الأصل ظهورا عاما
ضَمْيَرَةَ مخلوقين أو غيْر مخلوقين، كما مر تقريرُ ذلك في المسألة الأولى. الوجه السابع: أنَّ الخبَرَ إذا وَرَدَ في شَيْءٍ، ظهر في الأصل ظُهوراً عامَّاً، وقضتِ العادَةُ في ذلك الأمْرِ أنْ يُنْقَل نقلاً عامَّاً، ثُمَّ ورَدَ ذلك الخَبَر وُرُودَاً خاصَّاً، فإنه لا يُقْبَلُ، وقد ذكر هذا عدَد كثير من علماءِ الأصول وأهلِ علم النظرِ، منهم المنصورُ بالله عليه السلامُ، فإنه قال في كتاب " الصَّفْوَة " ما لفظه: قال شيخُنا رحمه الله: فأمَّا إذا ورد الخَبَرُ بشيْءٍ ظهر في الأصل ظهوراً عاماً، والعادةُ جارية فيما ظهر ذلك الظُّهور (¬1) أن يُنقل نقلاً عاماً، ثم ورد ذلك خاصَّاً، فإنه لا يُقْبَل. قال عليه السلامُ: وهو الذي نختارُه، وقد خالف ذلك أبو علي (¬2)، وقال: إنَّه يُقْبَلُ. قال عليه السلامُ: ومثَال المَسْأَلَةِ: الجَهْرُ بـ (بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم). قال عليه السَّلامُ: والدَّليلُ على ما ذهبنا إليه، أن كُلَّ أَمْرَيْنِ استويا في الظُّهور، وكان الدَّاعي إلى نقل أَحَدِهِما كالداعي إلى نقل الآخر، فإنهُ يجبُ أن يستويَ نقلهما، لأنَّ ما دعا إلى نقل أَحَدهِمَا هو بِعَيْنِهِ يدعو إلى نقلِ الآخر، لولا ذلك، لجوَّزْنَا أن يكون امرؤ القيس قد عُورِضَ بقصائدَ تَبْرزُ على شعره في الفصاحَةِ والجَزَالَةِ (¬3)، ولم يُنْقَلْ إلينا، ولجَوََّزْنَا أن تكون قد عُورِضتَ مُعْجزاتُه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو أَبْهَرُ مِنْها، وإنَّما لم يُنْقَل إلينا، وكذلك القرآن الكريم، كُنا نُجَوِّز معارضتَه على هذا القول على ما هو مُساوٍ لَهُ في النظْمِ والفصاحة، أو مُبَرِّزُ عليه، وإن لم يُنْقل على ¬
حَدِّ نقله، وكلُّ ذلِك لا يجوز؛ لأن كل ما دعا إلى نقل أَحَدِهِمَا بعينه يدعو إلى نقلِ الآخرِ، ولا وَجْهَ يُوجِبُ نقلَ أحدهما دون الآخر مع الاستواء، فوجب أن يُقتضى بفساده -إلى قوله عليه السلام-: فإذا لم يُنْقَلْ إلينا أَحَدٌ الأمرين مع استوائِهمَا في باب الدَواعي إلى نقلهما، علِمْنَا بذلك أنهُما لم يَسْتَوِيَا في الظهور في الأصل. انتهى كلامُه عليه السلام. ولما عَرَفَ المنصور بالله (¬1) أنَّهُ يلزَمُ مِنْ هذا القطْع بأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَكُنْ يجهر بالتَسْمِيَة (¬2) مثلَ جَهْرِه بالفاتحة، إذن لاستوى نقلُهما، فلمَّا نُقِل الجَهْرُ بالفاتِحَة تواتُراً و (¬3) إجماعاًً، والجهْر بالبسملة ظنَّاً وآحاداً، علمنا بذلك عدم استوائهِما في زمانه عليه السلامُ، فيجبُ رد حديثِ مَنْ نَقَل ما يقتضي (¬4) استمرارُه عليه السلامُ على حالَة واحِدَة، فَحينَ رأى المنصور (¬5) عليه السلامُ هذا السؤال وارداً -ولم يكنِ القَوْلُ بإخفاء البَسْمَلةِ مذهبَهُ- أشار إلى الجواب، فقال عليه السلام: فأما الجهر بالتَسمية والفاتِحَةِ، فقد عللَ شيخُنا رحمه الله تعذُّر استوائِهِمَا في ظهورِ النقل بِعلةٍ ظاهِرَة، وهي أنهما لم يستويا في الأصل، لأن النبِي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتَّسمية حالَ اشتغال المسلمين بالتكبيرة، فبعضُهم يسْمَعُه يجهر، وبعضُهم لا يسمعُه مِنْ رَهَجِ (¬6) التكْبيرِ، وليس كذلك الفاتِحَةُ. انتهى ¬
الوجه الثامن: أن هذه الأحاديث الواردة في هذه المسألة هي من الأحاديث الواردة فيما تعم به البلوى
كلامُه عليه السَّلامُ. وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في هذا الجواب الذي ذكره عليه السَّلامُ، فهو جوابٌ معروفٌ مُتَداوَلُ بين الأصوليِّين، فمنهم من قوَّاه، وهؤلاء نظروا إلى الجَهْر بعد التَكبيرة الأولى، ومنهم مَنِ اسْتضعفه، وهؤلاء نظروا إلى الجهر أوَّلَ الرَّكعة الثَّانية، وفي أول السورة بعد الفاتحة. وَقَدِ اعتذر الشيخُ أبو الحُسين عن هذا بأن القارىء يبتدىء القراءَةَ بصوتٍ ضعيف، وفيه نَظَرٌ لوجهين. أحدهما: أنَّه كان يلزمُ التّواتُر في التسمية عند قراءة السورة بعد الفاتحة، لأنها تكون بعد قوة صوت القارىء. وثانيهما: كان يلزمُه أن لا يتواتَرَ الجهرُ بأولِ الفاتِحَة، لأنَّه يكون عند ضعفِ صوته، وأيضاًً فقد اشتركا في الجهر الذي يسمعهُ من بعده من المؤتمِّين سيَّما في الركعة الثانية، والحامِلُ على التَّبليغِ هو السماع، لا شدَّةُ الصَوتِ وخِفَّتُه، وقوَّتُه وضعفُه، بحيث لو كان ضعفُ صوته مستمراً، لنُقلَ أنَّه جَهَرَ. وقد ذكر عن الفقيه علي بنِ عبد الله هذين الوجهين في الجواب في تعليقه على " الجوهرة "، وضعَّفَهُما. إذا تقرر هذا، فهذه عِلةٌ مانعة مِنْ صِحَّة أحاديثِ الجهر، فَمَنْ ترك العمَلَ بها لهذه العِلة، لم يستحِق الإنكارَ عندَ أحدٍ من الأئِمَّة الأطهار، ولا عندَ غيرهم من عُلماءِ الأقطار، ولا يُنْسَبُ إلى تقديم الفُسَّاق على إمامي الأئِمَّة: الهادي والقاسم عليهما السَّلامُ. الوجه الثامن: أنَّ هذِهِ الأحاديثَ الواردَةَ في هذه المسأَلَةِ هِيَ مِنَ
الأحاديث الوارِدَةِ فيما تَعُمُّ به البلوى، مثل أحاديث الوضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّار (¬1)، ¬
والغُسُلِ مِن التقاءِ الخِتَانَيْنِ (¬1) ونحوهما، وَقَدِ اختلف العلَمَاءُ كثيراً في خَبَرِ الواحد إذا كان فيما تَعُمُّ به البَلْوى هل يُقْبَلُ أم لا (¬2)؟، ولم ¬
يتكلَّمْ في هذه المسأَلَةِ القاسم والهادي عليهما السلام وأمثالهما من مُتَقَدمي الأئِمة، وأكثَرُ مَنْ تكلم فيها ووسع القولَ علماءُ الأصول، منهمُ السيدُ أبو طالب في كتاب " المجزىء "، فإنَّه تكلم في المسألة، ووسعَ القول، وذكر حُجَجَ الفَريقَيْنِ، ثُمَّ قال: وفيما ذكرناه تنبيه على طريق النَّظَرِ في المسألَة، فأشار عليه السَّلامُ إلى جواز الأمْريْنِ. وقال في أوَّل المسألة: ذهب بعضهم إلى أنَّ خبرَ الواحِدِ لا يُقْبَلُ فيه -يعني فيما تعُمُّ به البَلْوى- وإنَّما يُقْبَلُ مَا يَشيعُ نَقْلُه، ويجبُ العلمُ (¬1) به، وهو قول أكثَرِ أصحابِ أبي حنيفَة، وإليه ذهب شيخُنا أبو عبد الله، وحكاه عن أبي الحسنِ الكرْخي (¬2). وطريقُ نصْرَةِ القول الأولِ ما ذكره شيخُنا أبو عبد الله واعتمده، فإنه بَلَغَ في نصْرَةِ هذه المسألة نهاية ما في الوُسْع، فغايةُ أمرِ غَيْرِه مِمنْ ينْصُر هذه المسألة أنْ يفهم كلامَه، وما رواه فيها (¬3) استدلالاً وانفصالاً عَنِ الأسئلة والمُعارَضَاتِ. انتهى كلامه عليه السلام. والقصد بإيرادِهِ بيانُ أنهُ كلامُ مَنْ يجوز للمختارِ أن يختارَ ذلِكَ، ولا يَحْرَجُ فيه. فإذا ثبت هذا، كانَ منَ الجائِز أنْ يترك العمَلَ بخبر الواحد في هذِهِ المسأَلَةِ، لأنَّها مِمَّا تعُمُّ به البلوى، لا لأنَّ الفُساقَ أرجَحُ عنْذنَا مِنْ أَئِمَّةِ التقْوَى، فيجبُ على هذا أن لو كان الجَهْرُ بالبَسْمَلَةِ واجباً، أن يتواتر ¬
ذلِكَ، وهذا إنما يَرِدُ على الأحاديث التي أوردها السَّيِّدُ، فأمَّا الأحاديثُ التي فيها أنَّه عليه السلام كان يجْهَرُ، أو كان يُخَافتُ، فلا يَرِدُ هذا عليه، لأنهُ لا يَمْتَنِعُ تواتُرُ الجَهْرِ والإِخفاتِ عنه عليه السَّلامُ فِعْلاً لا قَوْلاً، فقد صنف علماءُ الأثر في ذلك كتباً منفردهَ، وادعَوُا التواتُر في الجانِبَيْنِ. أما مَنْ ذَهَبَ إلى الإِخفات، فَقَدِ ادَّعى تواتُرَ ذَلِكَ في مَسْجِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإتصال عَمَل الأئمةِ والمصلين فيه منْذُ تُوُفَيَ عليه السلام إلى زَمَنِ مالك، فإنَ مالكا أدْركَ الناسَ على ذلك، ولم يُنْقَلْ أنَّ أحداً أكْرهَ الناسَ على تغيير شَيْءٍ في الصَّلاةِ، ولا نهاهُمْ عَنِ الجَهْرِ بعد أنْ كانوا عليه، مع ما رُويَ في ذَلِكَ مِنَ الأحاديث (¬1) الصَّحيحَةِ الكَثِيرَةِ التي أجْمَعَ علَمَاءُ النَقْلِ على صِحَّتِهَا وَقُوَّتها (¬2)، ¬
مع ما يَشْهَدُ (¬1) لِذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ التَوَاترِ في الجَهْرِ لو (¬2) كان صحيحاًً مستمراً كما قررَهُ المنصور وأبو طالب، واختارَتْه (¬3) الحنَفيَّةُ. ¬
وأما الجَهْرُ بِالبَسْمَلَة، فقد رُوَيتْ فيه أحاديث كثيرة، وصَنَّفَ في ذلِكَ غَيْرُ واحدٍ مِنَ الحُفَّاط تصانِيفَ مُفْرَدةً، وقد جَمَعَ الحافظ الكبير أبو بكر بنِ الخطيبِ (¬1) أحاديثَ الجَهْرِ في ثلاثةِ أجزاء (¬2). إذا عرفت هذا، فدعوى التَّواتُر في ثُبوتِ الجَهْرِ والإِخفات غيرُ مُسْتَنْكَرٍ عَقْلاً ولا نَقْلاً، أما العَقْلُ فلأنَه تَواتُر فيما تَعُمُّ بِه البَلْوى، ويجب في العادَة ظُهورُه وشُهْرَتُه، وأما النقْل فلأنَ الرُّوَاة (¬3) في الجانِبَيْنِ عددٌ ¬
الوجه التاسع: سلمنا سلامة هذا الحديث من جميع هذه المطاعن، فإنه حديث مرسل
كثيرٌ، وجمٌ غَفِير. الوجه التاسع: سلَّمنا سلامَةَ هذا الحديثِ منْ جميعِ هذِهِ المَطَاعِنِ، فإنَّه حديث مُرْسَل، وكَذلِكَ أكْثَرُ ما يرويه الأصحاب في هذا البابِ هُوَ مِنْ قبيل المراسيلِ، لكِنْ لنَا أنْ نُنَازعَ في قبولِ المراسِيلِ، وفي المسْأَلَةِ خلافٌ ظاهرٌ، قديمٌ وحديثٌ، ولا أَعْرِف كتاباًً في الأصول الفِقْهِيَّةِ إلاَّ وفيه ذِكْرُ الخلافِ في هذِهِ المَسْأَلَة، وَلَمْ يَزَلِ الفَريقان منْ القابلين للمِرَاسِيلِ والرَّادِّينَ يَسْتَعْملونَ ما ذهبوا إليه مِنْ قَبولٍ ورَدٍّ من غير نَكيرٍ. فالإِنكارُ عَلى مَنْ ذهبَ إلى أَحَدِ المَذْهَبَيْن خلافٌ (¬1) لِمَا عليه علماءُ الإسْلامِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ. فإذا جازَ أَنْ نَكونَ مِمنْ يَردُّ المَرَاسِيل، لَمْ يَكُنْ في (¬2) عَمَلِنَا (¬3) بالمسْنَدِ تقديمٌ لِرِوايَة فُسَّاقِ (¬4) التأْويلِ على الهادي والقاسم عليهما السلامُ، وإنما فيهِ تقديمٌ لِرِوَايَةِ الثِّقاتِ مِنَ المتَأَوِّلينَ وغيرِهِم على رِوَايَةِ المجاهيلِ الذين بَيْنَ الهادي والقاسم، وبَيْنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِمن لم يعْلَم مَنْ هوَ، ولا ما حَالُهُ، وهذا وَجْهٌ ظاهِرٌ. فإنْ قيل في عَدَمِ القَبولِ لمرْسَلِ الهادي عليه السلام سوءُ ظَنٍّ بِهِ وتُهْمَةٌ لَهُ بالتَّقْصِيرِ والتَّسَاهُلِ. قلنا: حاشى يحيى بنِ الحسَيْنِ مِنْ سُوءِ الظنَ والتُّهْمَةِ بالتَقْصِيرِ، ولكِنَّه غيرُ خافٍ على أهل العلم أنَّ المجتهدَ قد يبني قَبُولَ الحديثِ على ¬
مَذْهَبٍ لَهُ مُخْتَلَفٍ فيه، فيكون العالِمُ الرَّاوي للحديث (¬1) غيرَ مُقَصِّرٍ؛ لأنَّه بنى روايَتَهُ على ما هو عندَهُ حَقٌّ وصوابٌ، بَلِ العَمَلُ بذلِكَ الحديثِ هُوَ الواجِبُ علَيْهِ بإجماعِ الأمَّةِ، فكيف يكون مُقَصِّراً أو مَلُوماً (¬2) بأَدَاءِ ما أَوْجَبَه اللهُ عليه وكَلَّفَهُ بِهِ؟ وأمَّا غَيْرُهُ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، فلا يجوزُ له تقليدُه في قَبُولِ الحَدِيث إذا كان قَبُوله ينْبَنِي على قاعِدَةٍ مُخْتلَفٍ في صحَّتِها حتى يتَّفِقَ مذهَبُهُما في تلك القَاعِدةِ. فمثالُ (¬3) ذلكَ: أنَّ العُلَمَاءَ مختلفونَ في قَبُولِ المَجَاهِيلِ كما قدَّمْنَا ذلِك (¬4) وقد قال عبدُ الله بنُ زَيْدٍ: هو مَذْهَبُنَا، وتوقَّفَ فيه السيدُ أبو طالب عليه السَلام، وذهبت إليها الحنفِيَةُ بأَسْرِهَا (¬5)، وليس القولُ بِهِ مِنَ القَبَائِح التي تنَزَّهَ عَنْهَا الهادي والقاسمُ عليهما السَّلامُ، فليس يمْنَعُ أن يَذْهَبَا إلى جوازه، فَيُرْسِلان بَعْضَ الأحاديثِ عَنْ مَجْهُولٍ، وهذا جائِزٌ لهما ولغَيْرِهِمَا لا مانِعَ مِنْهُ، لا عَقْلاً ولا سَمْعَاً، لكِنْ مَنْ كان لا يَقْبَل المجْهُولَ، كانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِع مِنْ قَبُولِ المُرْسَلِ إذا أَرْسَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَذْهَبَه في هذِهِ المَسْأَلةِ، وكذلِكَ غيرُ هذِهِ المَسْأَلَةِ مِنْ مَسَائِلِ الخِلاَفِ في هذا البَابِ، مثلُ حديث المُدَلِّسِ، فإنه مقبولٌ عِنْدنَا، لا أَعْلَم فيه خِلافاً عندَ أَصْحَابِنَا، وفيه خلاف (¬6)، فَلَوْ ذهبَ ذَاهِبٌ إلى أنهُ غَيْرُ مقبولٍ، كانَ لَهُ أنْ ¬
الوجه العاشر: سلمنا أن المرسل حجة إذا لم يعارضه المسند، أما مع المعارضة فلنا أن نرجح المسند
لا يَقْبَلَ المُرْسَل مِمَّنْ يَقْبَلُ المُدَلِّسَ، واللهُ سبحانهُ أَعْلمُ. الوجه العاشر: سلَّمنا أنَّ المُرْسَلَ حجَّةٌ إذا لَمْ يُعَارِضْهُ المُسْنَدُ، أمَّا مَعْ مُعارَضَةُ المُسْنَدِ (¬1) لَهُ، فَلَنَا أَنْ نُرَجِّحَ المسْنَدَ على المُرْسَلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جماعةٍ وافِرَة مِنْ أهلِ العلْمِ. وقد نصَ الإِمامُ يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ في كتابِ " المعيار " على تَرجيحِ المُسْنَدِ على المُرْسَلِ، واحتجَّ على ذلكَ بأنَ المُسند مُجْمَعٌ على قَبُولهِ، والمُرْسلُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وقد أشار الشَّيخُ الحسنُ بن مُحَمد الرصاص في كتابِهِ " الفائق "، وحفيدُه أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ في كتابهِ " الغُرر " إلى تفصيل حَسَن في ذلِكَ، وهو تفصيل المُسْندِ المَعْروفِ رجالُ إسنادِه الذي ادعى مُسْنِدُهُ عَدَالَةَ رُوَاتِهِ، وَوَثَّقَهم. وقال في "الجوهرة" ما لفظه: والصَحِيحُ أنَّ الخَبرَيْن فيما بَعْدَ التَّابِعين، أو في زَمَانِنَا هذا مَتَى وَرَدَ أو كان المُسْندُ معْلُومَاً، ورِجَاله غيْرَ مغمورين، ولا مُلْتَبِسي العَدَالَةِ والضبْطِ، فإن المُسْنَدَ أوْلى بِلا مِرْيَةٍ، لأنَّ المُرْسِلَ حيثُ أَرْسَلَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ سَنَدٍ إنْ لَمْ يُشَاهِدْ رَسولَ اللهُ - صلى الله عليه وسلم -، ولا سَمِعَ مِنْهُ، ولكِنْ يَتَطَرقُ (¬2) إلى المُرْسِلِ مِن السهْوِ والذهُول عَنْ حالِ ما يَروي عَنْهُ ما لَمْ يَتَطَرقْ إلى المُسْنِدِ الَّذي قَدْ أبدى صفحَتَهُ، فكان أولى، وحسن الظنِّ بِمَنْ أَرْسلَ، وإنْ كانَ يُوجِبُ قبُولَ رِوَايَتهِ، إلاَّ أنَّ الظَّن في المسندِ صارَ أقوى لما ذكرنا، فكان أرجَحَ، والعلماءُ مُجْمِعُون على ¬
قَبُولِ المُسْنَدِ، وكثيرٌ دَفَعَ المُرْسَلَ، والظُّن يَقْوَى لأقَلّ (¬1) مِنْ هذِهِ الوجُوه. انتهى كلام صاحبِ " الجوهرة ". وقد قرَّره الفقيهُ علي بنُ عبدِ الله في تعليقه غايةَ التَّقرير، وَلَمْ يَزِدْ في شرحه على أن قال: إنَّه كما ذكر، فالذي يختار هذا، لم يَأْتِ ببديعٍ، ولا ذَهَبَ إلى غريبٍ، بلِ اختارَ القَوْلَ المَنْصُورَ في مَدْرَسِ الزيْدِيَّةِ في أُصُولِ الفِقْهِ في هذِهِ الأعْصَارِ. وقد ردَّ المنصورُ باللهِ عليه السَّلام على مَنْ رَجَّح المُرْسَلَ على المُسْنَدِ، ذكر ذلك في " الصَّفْوَةِ ". وكذلِكَ الشَيخ أبو الحسَيْنِ في " المعتمد " (¬2)، والحاكم في " شرح العيون ". فأين تقديمُنا لِرِوَاية فُسَّاقِ التَّأْويل على رِوَايَةِ الهَادي، والتقديمُ إنَّمَا يصحُّ لو كانت روايةُ الهادي عليه السَّلام مسْنَدَةً، وهو عليه السَّلام مُدَّعٍ لصحَّتِها، مُعَدِّلٌ لروَاتِها، فحينَئِذٍ إذا عَمِلْنَا (¬3) بِرِواية غَيْرِهِ، كنَّا قَدْ رَجَّحْنا تصحيحَ غَيْرِهِ على تصحيحه، وأمَّا إذا رجَّحْنا حَدِيثَ غَيْرِهِ عَلَى (¬4) ما أرْسَلَهُ لأجْلِ مَنْ بيْنَه وبينَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - ممَّنْ لَمْ يَنُصَّ عليه السلام على عَدَالَتهِ، ولا يلزَمُنا العَمَل بِرِوَايته، فإنَّا لا نكونُ قد رجَّحْنَا قَبولَ الفسَّاقِ على قَبولهِ، والفرقُ بينَ هذا الوَجْهِ والذي قَبْله أنَّ الَّذي قَبْلَهُ في رَدِّ المُرْسَلِ منْ أصلِهِ، وهذا في ردِّه إذا عارَضَهُ المُسْنَدُ على تسليم أنَّهُ حجَّةٌ لو لم يُعارَضْ. ¬
الوجه الحادي عشر: أن هذا كله بناء على أنا ما تمسكنا في المسألة إلا بحديث فاسق التأويل
الوجه الحادي عشر: أنَّ هذا كُلهُ بناءٌ على أنَّا ما تَمَسَّكْنَا في المسأَلَةِ إلأَ بحديثِ فاسِقِ التَّأْويلِ، وهذا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فإن أحاديث الإخْفَاتِ قد رواها أَهْلُ العَدْلِ والتَّوْحيدِ منْ أَهْل البَيْت وغيرُهم، كالأميرِ الحُسَيْنِ، والقاضي زيدٍ، وَلَمْ يَطْعَنُوا فيها، وإنَّما تعرَّضُوا للجواب عَنْها بالتَرجيح والتأويل، وقد ذكر روايتَها المنصورُ باللهِ عليه السلامُ، ولهذا تَعَرَّض لتأويلِهَا، ولو لم تكن ثابتةً عندَهُ، لم يتأوَّلْها، وقد ذكرنا قول الفقيه علي بنِ عبد الله في تعليق " الجوهرة " إنَّ الإِنصاف، أنَّ المخافتة كانت مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان الجَهْرُ منْهُ، فَهذِهِ روايةٌ مِنْ عالِمٍ مِنْ (¬1) أهْلِ العَدْلِ والتَّوْحِيدِ، بل مِن رؤوس شِيعَةِ البَيْتِ عليهمُ السَّلامُ، بلْ هذِهِ دَعْوى لِلْعِلْم بِثُبوت المخافَتَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وبالجُمْلَة فإنَّ رِوَايَةَ أحاديثِ الإخفات في كُتُبنَا مشهورَةٌ على حَدِّ شُهْرةِ أحاديثِ الجَهْرِ، لأنَّ مَنْ تَكَلَّمَ في هذِهِ المسألة تكَلَّمَ بأَدِلَّةِ الفريقين مِنَ الشِّيعَةِ، والشَّافِعيةِ، والمعتزلةِ وغيرهم، فَمنْ أينَ للسيدِ أنَّ أحاديث الإخفات ما وَرَدَتْ إلَّا مِنْ طريقِ فُسَّاقِ التَأويلِ وكفَارِه حَتَّى يقطع عَلَيْنَا حِينَ تَوَهَّمَ أنَّا عَملْنَا (¬2) بِهَا أنَّا قَدْ قدَّمنا رِوَايَةَ فُسَّاقِ التَّأويلِ على رِوايةِ (¬3) أئِمَّةِ الهُدى؟ وأكثَرُ ما في البابِ أنْ يَكونَ السيدُ لَمْ يَعْرفْ لأحاديث الإخفات طريقاً عَنْ أهْلِ العَدْلِ، فإذا لم يَعْرِفِ الطَّريقَ في نَفْسِهِ، انتفتِ الطَّريقُ في نَفْسِ الأمر. الوجه الثَّاني عشر: أنَّ السيدَ نَصَّ على أنَّا نُرَجِّحُ فُسَّاق التَّأويلِ عَلَى ¬
الهادي والقاسمِ عليهما السَّلامُ، وأقصى ما في البابِ أنهما -عليهما السَّلام- ادَّعَيَا صِحَّةَ حديثٍ مُسْنَد، وتَعْدِيلَ رُوَاتِهِ، ثُمَّ إنَّا قَدَّمْنَا بعضَ الأحاديث عَلَى ذلِكَ الحَديثِ لأمْرٍ يتعلَّقُ بغيرِهِما منْ رجالِ إسنادِه، فهذا يكونُ ترجيحاً على مَنْ رَوَيَا عَنْهُ، لا ترجيحاً عَلَيْهمَا. فَمِنْ أين للسَّيِّد أنَّا رجَّحْنَا عليهما، لولا مَحبَّةُ التَّشنيعِ، وذكرُ ما يَخْبُث سماعه، ويفحُشُ ذِكْرُهُ مِنَ العبارات المهُولةِ، وإنَّما يصدُق كلامُه لو كانا -عليهما السلام- سَمِعَا منْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بغير واسِطَةٍ، وعارَضَهما فاسقُ تَأْويلٍ (¬1)، وكنَّا أيضاً سَمعْنَا عَنْهُما وَعَنْ فَاسِقِ التأْوِيلِ بغير واسطة (¬2)، ثُمَّ رجَّحْنا فاسِقَ التَّأْوِيلِ، فحينئذٍ يصدق كلام السَّيِّدِ لكِنْ " لوْ " غيرُ مُثْمِرَةٍ للصِّدْقِ، واللهُ أَعْلَمُ. وبعدُ، فإنَّا قَدْ ذكرنا فيما تقدَّمَ كلامَ المنصورِ باللهِ عليه السلامُ في تقديمِ رِوايةِ الخارجِيِّ، وترجيح حديثه لاعتقادِهِ أنَّ الكَذِبَ [كفر (¬3)] على رِوَايَةِ العَدْلِ الصَّحيحِ الاعتقادِ، وقد نَصَّ ذلِكَ المنصورُ باللهِ عليه السلام، والحاكم في " شرح العيون " حكايةً عَنْ غَيْرِه، وصاحبُ " الجوهرة "، ولم يُنْكِرْ ذلِكَ أَحَدٌ. وقد ذكرنا قولَ المؤيَّد بالله في " الزِّيادات " إنَّ تقليدَ غَيْرِ الأئِمَّةِ عليهمُ السلامُ أرجح مِنْ تقليدهم، وبيَّنَّا ما في ذلِكَ مِنْ دَعْوَى الإجماع، وفرَّقنا بين الترجيحِ والتَّفصيلِ بِمَا لا (¬4) مَزِيدَ عَلَيْهِ، فتأمَّلْهُ في مَكَانهِ (¬5) ¬
قوله: قال: المسألة الثانية: إن قيل: الصحيح من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرج البخاري ومسلم وأبو داود وأصحاب الصحاح
تَعْرِفْ أنه لَوْ كان منَّا ما لَمْ يَكُنْ منْ دعْوى السيد لمْ يَكُنْ في ذلكَ ما يُوجِبُ الإنْكارَ، ولا كان ذلِكَ خروجاً عَنْ مذاهبِ الأئِمَّة الأطهار، وليس القَصْد بِهذا الوَجْهِ الاعترافَ بتقديمِ رِوايَةِ غَيْرِ الأئِمةِ (¬1) عَلَى رِوايَتهمْ، ولكن فيه إلزامُ السَّيِّد تَخْطِئَة منْ جوَّز ذلِكَ منْهُم كالمنصور باللهِ وغَيْرِهِ. فإنْ قُلْتَ: فَهذا الكلَامُ إنَّما هو فيما رَوَى الهادي عليه السَلامُ مِنْ ذَيْنِك الحديثين في الجَهْر، فَهلاَّ تكلَّمْتَ على سائِرِ الأحاديث التي ذكرها القاضي زيد في ذلك؟ قلتُ: خشيتُ (¬2) التَّطويل والإملالَ، ففي تلك الأحاديثِ كلامٌ طويلٌ، وهذِهِ الوُجُوهُ تعُمُّ تلكَ الأحاديثَ أيضاًً، ولو بسطتُ القوْلَ، لذكرتُ ما يَخُصُّ تلكَ الأحاديثِ على انفرادها، وفي هذا كفايةٌ وتعريفٌ لكثرة المحَامِل (¬3) على السَّلامَةِ لِمنْ أرادَها، وسَعَةِ الطُّرُقِ إلى الظَّنِّ الجميل لِمنْ أحبَّها، وبتمام هذا الكلامِ تَمَّ الجواب (¬4) على المسألة الثَّالِثَة، ولله الحَمْدُ والمنَّةُ. قال: المسألةُ الثانِيةُ: إنْ قيلَ: الصَحيح منْ حديثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرج البخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود، وكذلك أصحابُ الصِّحاح، وهي معروفَةٌ عِنْدَ المُحَدِّثين والفقهاء، وفي بعضها خلافٌ، فأمَّا ما رُوي في غَيْرِ تِلْكَ الكُتُبِ، فَلَيْسَ بصحيحٍ، إلى قوله: أمَّا هذا الفصل، فزعم القائِلُ به أنَّ مُؤلِّفَ (¬5) الصِّحاح أعرفُ الناسِ به، وقد تعرَّضُوا لحَصْرِ ¬
قوله: أقول: كلام السيد في هذه المسألة قد تقدم الجواب على أكثره، أذكر ما تمس الحاجة إلى ذكره، ولكن لابد من ذكر إشكالات يسيرة على ما ذكره
الصَّحيحِ، فما لم يذكُرُوه فهو غَيرُ صَحِيحٍ عندَهُم، وما كان غيرَ صحيحٍ عندَهم، وَجَبَ أن نَحْكُمَ بأنَّه غيرُ صَحيح، وذلِكَ لمعرفتهم (¬1) واطِّلاعِهم. وهذا القولُ في غاية الفَسَادِ، والسيِّد عِزُّ الدِّين -مَتَعَ اللهُ ببقائِهِ المسلمينَ- لا يقولُ بِهِ في غَالِبِ ظَنِّي، وإلاَّ لَزِمَهُ نَفْي " حَيَّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ " في الأذان، وإنَّما حَكيته، لأنِّي كنت أَفْهَمُه مِنْ حيّ الفقيهِ الصَّالحِ المُحَدِّث أحمد بنِ سليمان الأوزريّ رحمه الله فَهْمَاً لا نصَّاً مِنْهُ، وأن ما يَذْهَبُ إليه هذا المفهومُ حكايةً عنْ مَشَايخِهِ مِنْ مُحَدِّثي الفُقَهاءِ. أقول: كلام السَيِّد جمال الدين في هذه المسألة قد (¬2) تقدَّم الجوابُ على أكثَرِهِ، وقد رَأيْتُ أَنْ أذكُرَ مِنْهُ ما تَمَسُّ الحَاجَة إلى ذِكْرِهِ مِنْ دونِ استقصاءٍ، فإنَّ التَّكْرَارَ غَيْرُ مُفيدٍ ولا مَقْصُودٍ، وقد ذَكَرَ السَّيدُ عن المُحَدِّثين ما لم يَذْهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ القوْلِ بِضَعْفِ ما ليس في الصِّحاح، وفي الحقيقَةِ أنَّهُ لا يلزَمُ جوابُ كَلَامِ السَّيِّدِ هذا، لَأنَّهُ اعتراضٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ، واحتجاجٌ على غَيْرِ خَصْمٍ، ولكنْ لا بدَّ مِنْ ذكرِ إشكالاتٍ يَسِيرَةٍ عَلَى ما ذَكَرَهُ. الإِشكال الأول: أنَّ المحدِّثينَ قد نصُّوا على عَكْسِ ما ذَكَرَهُ السيد، وظَهَر ذلِكَ عَنْهُم ظُهورَاً لا يكادُ يَخْفى على مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِعِلْم الحديثِ، ومِنَ المشهُورِ المستفيضِ عَنِ البُخارِيِّ أنَّه قال: إنَّه اختارَ حدِيثَه مِنْ مِئَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ صحيحٍ، مَعْ أنَّ صَحيحَه لا يَشْتمِلُ إلاَّ عَلَى قَدْرِ سِتَّة آلافِ حَدِيثٍ (¬3)، فَمَنْ نَصَّ على أنَّه أَخْرَجَ سِتَّةَ آلافِ حَدِيثٍ مِنْ مِئَةِ ¬
أَلْفِ حَدِيثٍ صحيحٍ، كيف يذهبُ إلى أنَّ ما ليس في كتابه، فليس بصحيحٍ، أو يقال: إنَّه تعرَّض لِحَصْرِ الصَّحِيحِ (¬1)؟ وقد روى النَّواوي في " شرح مسلم " (¬2) عن الحافظ الكبير أبي زُرْعَةَ الرازي (¬3) أنَّه ذكر " صحيح مسلم "، وأنكر عليه، وقال: يُطرِّقُ (¬4) لأهْلِ البِدَعِ علينا، فيَجِدُونَ السبيلَ بأنْ يقولُوا إذا احتجَّ عَلَيْهِمْ بحديثٍ: ليس هذا في الصَّحيحِ. قال سعيد بن عمرو (¬5): فلمَّا رَجَعْتُ إلى نَيْسابورَ، ذكرتُ لمسلمٍ ¬
إنكارَ أبي زرْعَةَ، فقال: إنَّما قلت: صحيحٌ (¬1). قال سعيدٌ: وقَدِمَ مُسْلِمٌ بَعْدَ ذلِكَ الرَّيَ، فبلغني أنَّه خَرَجَ إلى الحافِظِ أبي عَبْدِ اللهِ [محمد بن] مُسْلم بنِ وارَة (¬2)، فجفاه وعاتَبَهُ على هذا الكتابِ، وقال له نحواً مِمَّا قال لي أبو زُرْعَةَ مِنْ تطريقِهِ للمبتدِعَةِ عَلَيْنَا أن يقولوا ما تقدَّمَ، فأجاب، فقال (¬3): إنَّما أخرجتُ هذا الكتابَ، وقلت: هو صحيحٌ، وَلَمْ أَقُلْ إنَّ ما لَمْ أُخَرِّجْهُ في هذا الكتاب فَهو ضَعيفٌ، فَقبِلَ عُذْرَهُ وحدَّثَهُ. انتهى. قلتُ: فانظر إلى هذيْنِ الحَافِظَيْن الكبيرين: أبي زُرْعَةَ، وابنِ وارة كيف اشتدَّ نكيرُهُما على مُسْلمٍ لما توَهَّمَا أنَّه ادَّعى حَصْر الحديث الصَّحِيح حَتَى صرَّح بالبراءَةِ مِنْ ذلِكَ، حَتَّى إنَّ ابنَ وارَة جفاهُ، وامتنَعَ مِنْ تحديثِهِ، حَتَّى بَيَّنَ أَمْرَ ذلِكَ، ثُمَّ حدَّثَهُ بَعْدَ المَعْرِفَةِ ببراءَتِهِ مِنْ ذلِكَ (¬4). فكيفَ يُنْسَبُ إلى هُؤلاءِ القَوْلُ بانحصار الصَّحِيح (¬5) في هذِه ¬
الكُتُب، وقد ذكَروا ذلك في عُلُومِ الحَدِيثِ، مِمَّنْ ذَكَرَهُ منهم: ابنُ الصَّلاحِ (¬1)، و (¬2) زين الدِّين العِراقي في كتابه " التَّبْصِرَة " (¬3)، والحاكم أبو عبد الله في " علوم الحديث " (¬4) له، وفي " المستدرك " قال في خطبة " المستدرك " (¬5): ولم يدَّعِ ذلك البخارِيُّ ولا مُسْلِمٌ، ونقل عنه أبو السَّعادات في مقدِّمة " جامِعِه " (¬6) أنَّ الصَّحيحَ عَشْرَةُ أقسامٍ، حديثُ البخاري ومسلم قِسْمٌ واحِدٌ منها، ونَصَّ على أنَّهما لم يجمعاه، وعدَّه ابنُ الصلاحِ، وزينُ الدِّين سبعةَ أقسام، حديث البخاري ومسلم منها ثلاثة (¬7). وبعدُ، فالتَّطويلُ في هذا لا يليقُ، فأهل الجبْرَةِ يَعْلَمُون (¬8) بالضَّرُورَةِ أنَّ هذا ليس مذهباً لأهْلِ الحَدِيثِ، فلَمْ يَزَلْ علماءُ الحديثِ يُصَنِّفُونَ ويصحِّحُونَ ويستدركُونَ عَلَى صاحِبَي الصَّحِيحِ ما تركاهُ، وهُو على شَرْطِهِمَا. ¬
وقد صنَّف في هذا المعنى غير واحدٍ منِ الحُفَّاظ، مِنْهم الحافظ أبو عبد الله الحاكمِ الشِّيعيُّ (¬1) مَذْهَبَاً، فإنَّه صنَفَ كتابَ " المستدرك على الصَّحِيحَيْنِ "، وَهو كتابٌ كَبِيرٌ، وقد ذكره ابنُ الصَلاح في كتابه " العلوم " (¬2)، وذكر أنَّه اشتمل على صحيحٍ كثير. وذكر الذَّهبِيُّ في " النُّبلاء " (¬3) أنَّ فيه قدر الثُّلُثِ على شَرْطِ البُخَّارِيِّ ومسلمٍ، وقدر الرُّبعِ صحيحٌ، ولكِنْ على غير شرطهما، والباقي (¬4) مما فيه نظر، وفيه قَدْر مئةِ حديثٍ باطلة، أو كما قال. والمصنِّفونَ للصِّحَاحِ مِنَ المحدِّثينَ عَدَدٌ كثير، وليسَ همْ هؤلاء ¬
السِّتَّة (¬1)، ولا هُؤلاءِ نصفُهم ولا رُبعهم ولا ما يُقارِبُ هذا القَدر، وفيهم مَنْ لم يَسْمَعْ أكثرُ النَّاس باسمِه، وَمَنْ أحبَّ مَعْرِفَةَ ذلِكَ، فلْيُطالِعْ كُتُبَ الرِّجَالَ. وقد استفاضَ بينَ عُلَمَاء الحَدِيثِ قديماً وحديثاًً الاحتجاجُ بمَا صحَّحَهُ غيرُ هؤلاء، كالحافِظِ البرقاني (¬2)، وإمامِ الأئِمَّةِ ابنِ خُزيْمَة (¬3)، والحافظِ الكبيرِ ابنِ حِبَّان (¬4)، .......................... ¬
.......... والحاكِم ابن البَيِّع (¬1)، والدَّارقُطني (¬2)، والبيهقي (¬3)، ¬
وعبدِ الحَقِّ (¬1)، وعبدِ الغَنِيِّ المقْدِسِي (¬2)، والشَّيخ تَقِيِّ الدِّين (¬3)، وابن سيدِ النَّاس (¬4) ¬
والنواوي (¬1)، ومنْ لا يأتي عليه العَدُّ، ولا أعلمُ عَنْ أحدٍ منهم شيئاً من هذا إلاَّ روايةً شاذّة لَمْ تَصحَّ فيما أعلمُ عَنْ أبي داوود، فقال: في " سننه " شيئاً من هذا، ولو صَحَّ هذا عنه، لاحتمَلَ أن مُرَادَهُ أنَّه حَصَرَ الحديثَ الصَّحيح الذي يعرِفُهُ، ويدُلُّ على ذلك أنَّه قَدِ اشتهر عنه من غير وجه أنَّه قال: إنَّه يذكر في كل باب أصَحَّ ما يعرفه في ذَلكَ البابِ، هكذا رواه الحافظُ الحازميُّ (¬2) بهذا اللفْظِ، وهو (¬3) واضحٌ في بيانِ مَقْصِدِهِ، فَالمُقَيَّد يُفَسِّرُ ¬
المُطْلق في الحقيقة اللُّغَوِيَّةِ، والحقيقةِ العُرْفِيَّةِ، فوجبَ المصيرُ إلى ذَلِكَ، وارتفع الإِشكالُ. وقال النَّواوي: إنَّ أبا داوود لم يَسْتَوْعِبِ الصَّحيح مِنْ أحاديثِ الأحكامِ ولا مُعْظَمَهُ، وذلك ظاهر، بل معرفتُه ضَرُورِيَّةٌ لِمن لَهُ أدنى اطِّلاعٍ. انتهى. فانظر إلى النَّواوي كيف ادَّعى العلم الضَّرُورِيً لِمنْ لَهُ أدنى اطِّلاعٍ، على أنَّ السُّنَنَ غيرُ جامِعَةٍ لأحاديثِ الأحكام الصَّحيحَةِ ولا لمُعْظَمِها أيضاًً، وقد ذكرَ أهلُ الحديث أنَّهم إذا قالوا: هذا حديثٌ ضعيفٌ، فمرادُهُم: إسنادُه ضعيفٌ، لجوازِ أن يكونَ هذا الحديثُ في نَفْسِهِ صحيحاًً بغيرِ ذلِكَ الإسنادِ، لكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا الإسنادَ الصَّحيحَ، وهذا أَوْضَحُ دليل على عَدَمِ دَعْواهُم لحَصْر الصَّحيحِ، ثمَّ إنَّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْسَعُ مِنْ أنْ يَحْصُرَهُ عالِمٌ بحيث يقطع على أنَّه لم يبْقَ حديثٌ إلاَّ وقد عَلِمَهُ، وقد قدَّمنا عَنْ أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام أنَّه كان يَسْتَحْلِفُ بَعْضَ الرُّواةِ، فإذا حلَفَ لَهُ صدَّقه (¬1)، فهذا دليلٌ عَلَى أنَّه -عليه السلام- لَمْ يَعْتقِدْ أنَّه قدْ أحاطَ بالحديث، فهذا، وهو عند طوائفِ الشِّيعَةِ وكثيرٍ مِنَ المعتزلَةِ، أوْ أكثرهم أَعْلَمُ الأمَّةِ بدليلِ أنَّه أقضاهم بالنَّصِّ، فكيفَ بغَيْرِه؟!. وقد رُوي عن الشَّافعِي أنَّه قال: عِلْمانِ لا يَجْمَعُهُما أَحَدٌ، ولا يُحِيطُ بِهِما أَحَدٌ (¬2): عِلْمُ الحديثِ، وعِلْمُ اللُّغَة. وفي هذا القدرِ كفايَةٌ في التَّعريف ببراءَةِ أهْلِ الحديث مِمَّا رَماهُمْ بهِ ¬
الإشكال الثاني: أن السيد قال: إنما حكي هذا القول، لأنه كان يفهمه من الأوزري
السَّيدُ أيَّدَهُ اللهُ. الإِشكال الثاني: أنَّ السيدَ -أيدَهُ اللهُ- قال: إنَّما حكى هذا القوْلَ، لأنَهُ كان يَفْهَمُهُ مِنَ الأوزري، فنقول: نَقْلُ المَذْهَبِ بِمُجَرَّد الفَهْم والحَدْسِ لا يصِحُّ، وَلنَقْل المَذَاهِبِ شُروط معْتَبَرَةٌ عِنْدَ العُلماءِ، لَمْ يذكُرِ السَّيِّدُ منها شيئاً. الإشكال الثالث: سلَّمنا للسيدِ أنَّ ذلكَ مَذْهَبُ الأوزريِّ، فمِنْ أين لَهُ أنه (¬1) مذهبُ مشايِخِهِ، وقد أجمعَ العُلَمَاءُ والعُقَلاءُ على أنَّه لا يُنْسَبُ مذهبُ التِّلميذِ إلى الشَّيخِ، وقد عَدَّ العلماءُ طُرُق نَقْلِ المذاهبِ، فلم يذكروا فيها أن ما ذهبَ إليه التَلميذُ، فَهُوَ مذهبُ شَيْخِهِ، وقد قرأ كثيرٌ مِنْ أَهْلِ العَدْلِ والتَّوحيدِ على المخالِفِينَ في العقائد، ولم يَلْزَم اتّفاقهم فيها، وقد قرأ غيرُ واحدٍ من أَئِمَّة العِتْرَةِ عليهم السلام على من يُخالِفُهمْ في العقيدة، منْ أعظمهم الإِمام (¬2) المنصورُ بالله علمِه السّلامُ، فقد أَخَذَ عَنِ الحافِظِ أبي الحُسينِ يحيى بنِ الحسنِ الأسدِيَ الحَلَبِي (¬3)، وقرأ السَّيِّد أبو طالب على الحافِظِ ابنِ عديٍ، وروى عنه " أماليه "، وعامَّةُ أحاديثِ المؤيَّد في " شرح التَّجريد " عن الحافِظ ابن المقرىء (¬4). وابنُ عَدِيٍّ مِنْ كبار أَئِمَّةِ الحَدِيثِ حِفْظَاً وَمَذْهَبَاً. ¬
الإشكال الرابع: أن هذا المفهوم من الأوزري إن كان حسنا فلا معنى لإبطاله وإن وإن قبيحا فنسبته إليه لمجرد الفهم والحدس من قبيل سوء الظن المحرم
وبعدُ، فالأوزَرِيُّ كان زَيْدِيَّ العَقِيدَةِ، صَحِيحَ المَذْهَبِ، فلو كان بينَ اعتقادِه واعتقادِ مشايخِه مُلازَمَةٌ، لوجَبَ أن نُحْسِنَ الظَّنَّ بهم في العَقِيدَةِ. الإِشكال الرابع: أنَّ هذا المفهومَ مِن الأوْزَري إنْ كان حَسناً، فلا معنى لإبطالِهِ، وإنْ كان قبيحاً، فَنِسْبتُهُ إليه لِمُجَرَّدِ الفَهْمِ والحَدْسِ مِنْ قبِيلِ سوءِ الظَّنِّ المُحَرَّم. الإِشكال الخامسُ: سلمْنَا أنَّ هذا مَذْهَبُ شيخ الأوزريِّ ابنِ مطير، فكيف يَنْسُبه السَّيِّدُ إلى طائِفَةِ المُحَدِّثين؟ وما الرابِطَةُ بين مذهب رَجُلٍ منْ بيت حسين، وبين مَذْهَبِ مَشَايخِ الحديث في جميع أقطارِ الإسلام؟ الإشكال السَّادسُ: سلَّمنا أنه يلزمُهُم، فَقَد صرَّح السَّيِّدُ في كتابه أنَّه يغْلِبُ على ظَنِّهِ أنَّ مُحمَّدَ بنِ إبراهيم لا يَذْهَبُ إلى ذلك، فما معنى التَرسُّل عليه في مذْهَبٍ لم يَذْهَبْ إليه؟ وهل هذا إلا تَوسيعٌ لدَائِرَةِ الجِدَالِ، وتَمَحُّل في المِرَاء واللَّجَاجِ، وكان اللائِقُ أنَّ السيدَ يترسلُ في هذا على الأوزري الذي فَهِمَهُ مِنْه، فقد عاصَرهُ، وقرأ عليه. لكِنَّه لم تتَوفَّرِ الدَّواعي إلا على مُحمدِ بنِ إبراهيم، وإنْ كان الذَّنْبُ (¬1) لغيرِه، وما أحسنَ قَوْلَ بعضهم (¬2): وحمَّلْتَني ذنبَ (¬3) امرىءٍ وتَرَكْتَه ... كَذِي العُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وهو رَاتِعُ ¬
الإشكال السابع: أن السيد إنما نقل هذا المذهب بالفهم والحدس
الإِشكال السابع: قال السيدُ: أمَّا هذا الفَصْلُ، فزعَمَ القائِل بِهِ أنَّ مُؤلِّفَ الصِّحَاحِ أَعْرَفُ النَّاسِ بهِ، وهذا (¬1) عجيبٌ، فإنَّ السيِّدَ قد أَقَرَّ أنََّهُ لمْ ينقُلْ هذا المذهبَ بالنصِّ، وإنَّما نقله بالفهْمِ والحدْسِ، فكيف نَسَبَ إليهم الاحتجاجَ عَلَى ذلكَ بِهذِهِ الحُجَّةَ الَّتي ذكرها، وزعم أنَّهم زعموها كما ذكر؟ الإشكال الثامن: أنَّ السَّيِّدَ وصف الأوزريَّ، ومدحه بأنَّه المُحَدِّثَ الضابِطَ، فكيف استحقَّ المدحَ على التَّحديِث (¬2) بهذِه الكُتُبِ والضبْطِ لَهَا، وهِي عند السيدِ مِنْ رِوايَة الكُفَّارِ والفُسَّاقِ المُصَرِّحِينَ، والمُحَدِّثُ بِهَا عنده رَاكنٌ إلى الظَّالمين، مُتَبعٌ سَبِيلَ المُفْسِدِين؟ ثُم إنَّ السيد قال: لا نُسَلِّم أنَّ أصحابَ الحديثِ أرادوا حَصْرَ الحديثِ الصَّحيحِ، وهذا عجيبٌ، فإنْ كانوا ما أرادوا ذلِكَ وكُنْتَ تَظُنُّ أنِّي لَمْ أَقُلْ بِهِ، فما ذَنبي حَتَّى تَرسَّلَ عليَّ في هذا؟ واللهُ المستعان. قال: وأمَّا الفَصْلُ الأوَّلُ، وهو أن كل ما في هذه الكُتُبِ مِنْ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَهُو صحيح، ففيه مَوْضِعَان. الأوَّل: في حِكَايَةِ المَذْهَبِ. والثاني: في الدَليلَ. أمَا الأوَّلُ، فقد ذَهَبَ قومٌ إلى أنَّ كُلَّ ما في هذه الكتُبِ مِنْ حديثِ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَهُوَ صَحِيحٌ، وزَعَمُوا أنه إجماعُ، وهذا عِنْدَنا غيرُ ¬
الجواب عن السيد في هذا من وجوه
لازِم، ومِمَّن قال به: ابنُ الصَّلاَحِ، وحكى عن إجماع الفُقَهاءِ أنَّهم أفتوا مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقِ امْرَأتهِ إنْ لم يَكُنْ ما بَيْن دَفَتَيْ " صحيح البخاري " قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ امْرَأتهُ لا تَطْلُق (¬1). أقول: الجواب عَنِ السيِّدِ في هذا مِنْ وُجُوهٍ. الوجه الأول: أنَّهُ حَكى الخلاَف في هذِهِ المَسْألَةِ عَنِ ابْنِ الصَّلاحِ، وعَنْ بَعْضِ النَاسِ، ولم يحْكِ عَنِّي أنِّي خَالَفْتُ فيها، فما ذَنْبي حَتَّى يَتَرَسَّل عَلَيَّ في هذِهِ المسأَلَةِ؟ وَلَوْ أنَّه سلكَ في رسالته مسالكِ العلَمَاءِ، تصَبَرَ حتَّى يَقِفَ لي على نَصٍّ، فينقلُ نَصِّي في ذلِكَ، ثم يَنقُضُه بَعْدَ معرِفَتهِ. الوجه الثاني: أنَّ السيدَ غَلِطَ على ابنِ الصَّلاحِ، ولم يَنْقُلْ عنه مَذْهَبَه، ولا قرِيبَاً منهُ، فإنَّ السيِّدَ جَزَم بِكَلامِهِ عَنِ ابنِ الصَّلاح أنَّه يقولُ بِصِحَّةِ ما في هذِهِ الكتُبِ السَتَّةِ، وأنَّه يدَّعي إجماعَ الأمَّة على ذلِك، ولم يَقُلِ الرَّجُلُ بِذلِكَ، وقد نَصَّ في كتابه " علوم الحديث " على عكس ذلِك، فقال في كتابه " علوم الحديث ": إنَّ في " البخاري " ما ليس بصحيحٍ، بل قال: إنَّ كَوْنَ ذلِكَ فيه معلومٌ قطعاً بهذا الَّلفْظِ، وذكر مِن ذلك: حديث " الفَخِذَ عَوْرَةٌ " (¬2)، وحديث "الله أَحَقُ أَنْ يُسْتحيى ¬
قوله: قال: وليت شعري كيف كان هذا الإجماع، أكان بأن طاف هذا السائل جميع البقاع أم بأن جمع له علماء الأمة وأذن فيهم بهذا السؤال
مِنْه " (¬1)، فإنَّ هذا قَطْعَاً ليْسَ مِنْ شرْطِهِ، ولهذا لم يُوردْه (¬2) الحُمَيْدِيُّ في " جمعه بين الصَّحيحين "، فاعلم ذلكَ، فإنَّهُ مُهِمٌ خافٍ (¬3). هذا لَفْظُ ابنِ الصلاحِ، وقد تَأَوَّل ابنُ الصَّلاح كلامَ مَنْ قالَ بصِحَّةِ جَمِيعِ ما في " البخاري " على المُراد بمقاصِدِ الكتَابِ وموضوعِهِ ومُتُونِ الأبواب بهذا اللفْظ. فالسيدُ نَصَّ على رجُلٍ واحدٍ مِنَ المحدِّثين، فانكشَفَ أنَّه يقولُ بعكس ما قالَ السيدُ، فكيف بمَنْ لَمْ يَنُصَّ عليه السيِّدُ؟ قال (¬4): وليت شعري، كيف كان هذا الإجماعُ؟ أكان بِأَنْ طافَ ¬
في كلام السيد هذا مباحث
هذا السائِلُ جميع البِقَاعِ، أَمْ بِأَنْ جُمِع لَهُ علماءُ (¬1) الأمَّةِ في صَعِيدٍ واحِدٍ وأذَّنَ فيهم بِهذا السُّؤالِ، وأجابُوهُ جميعاًً بأنَّ أمرأَتَهُ له حَلاَلٌ؟ وأيُّ إجماع صحيح بِغَيْرِ عُلماءِ أَهْلِ البَيْتِ الأطهار، وشِيعَتهِم الأخيارِ؟ أقول: في كلامِ السيدِ هذا مباحثُ. البحث الأول: أنَّهُ أثبت في كلامِهِ أنَّ سائِلاً سأَلَ الأمَّة، والرجُلُ لَمْ يقْلْ: إن أَحَدَاً سألَ الأمَةَ، وإنَّما قال: لو أنَّ رَجُلاً سَأَل الفُقهَاءَ، فَلَوْ كان يلزمُهُ ثبوتُ ما بَعْدَ "لو" مِنَ الكَلامِ المُقَيَّدِ، لَلَزِمَ ثُبوتُ الشرَكَاء لله تعالى عنْ ذلِكَ عُلُوَّاً كبيرَاً لِقَوْلهِ تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَكما أن مَعْنَى الآية لكنهما (¬2) لم يَفْسدا، فلم يَكُنْ مَعَهُ آلهةٌ، فكذا معنى ذاك الكلامِ، لكِنَّه لم يَسْألِ الفُقَهَاءَ، فَلَمْ يُفْتُوهُ. وبعدُ، فغيرُ خافٍ على السيدِ أنَّ "لو" تفيدُ امتناعَ الشيْءِ لامتناع غيرِه، فكيف رَكَّبَ هذا السؤالَ علَى هذا الكلامِ؟ البحث الثاني: أنَّ كلامَ السَّيد هذا يلزمه زيادةَ شروطٍ في روايةِ الإجماع لم نَعْلَمْ أنَّ أحداً اشترطها. أحدها: أنَّه يحبُّ في راوي الإجماعِ أنْ يَطُوفَ جميعُ البِقَاعِ، أو يُجْمَعَ لَهُ علماءُ الأمَّةِ في صَعِيدٍ واحِدٍ. الثَّاني: أن يُؤذِّن فيهم بالحادثَةِ. الثالثُ: أن يُجِيبُونَ جَميعَاً، ولا يكونُ فيهمْ مَنْ سَكَتَ في تِلْك الحَالِ، وأجاب فيما بعد، أو روى مَذْهبَه بواسطة، وهذا كُلُّهُ مُجَرَّدُ ¬
البحث الثالث: أن السيد ادعى في كتابه إجماعات كثيرة، ولم يحصل فيها شيء من هذه الشرائط
تَشْنِيعٍ مِن السيدِ وتهويلٌ في العبَارَهَ لا (¬1) طائِلَ تحْتَهُ. البحثُ الثَّالِثُ: أن السَّيِّدَ قدِ ادَّعَى في كتابه إجماعاتٍ كثيرةً، ولم يحْصُلْ فيها شيْءٌ مِنْ هذِهِ الشَّرائِطِ (¬2). البحثُ الرَّابعُ: أنَّ السيد ادَّعى على الرجُلِ في أَوَّلِ كلامِهِ أنَّه ادَّعى إجماعَ الفقهاءِ، ثُم ألزَمَهُ هُنا أنْ يَجْمَع لَهُ الأمَّةَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، وكم بَيْنَ الفُقَهَاء والأمَّةِ، فلَعلَّ الفقهاءَ لا يكونون جزءاً مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِن الأمَّةِ، ولا ما يُقارِبُ ذلِكَ، فَلو اسْتَمَرَّ السيِّدُ في التَّشنيعِ عَلى حالٍ واحِدَةٍ، لألْزَمَ الرَّجُلَ أنْ يَجْمَعَ لُهُ الفُقَهَاءَ في صعيدٍ واحدٍ. البحث الخامس: وأيُّ إجماعٍ صحيحٍ بغير علماء (¬3) أهلِ البيتِ وشِيعتهِم؟ ومِنْ أينَ يلزَمُه (¬4) هذا، وأَنْتَ إنَّما رَويتَ عَنْهُ أنَّه إنَّما ادَّعى إجماعَ الفقَهاءِ؟ البحثُ السَّادِسُ: أنَّه ادَّعى إجماع العُلمَاءِ، فقال ما لفظه: أجمعَ أَهْلُ العِلْمِ الفقهاءُ وغيرُهُم أنَّ رَجُلاً لو حَلف بالطَّلاقِ أنَّ جميعَ ما في " البخاري " مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ صح عنه: أنَّه لا يحنَثُ، والمرأةُ بِحَالهَا في حِبَالَتِهِ، وهذا خِلَاف ما نَقَلَهُ السيدُ عنه، فإنهُ إنَّما نقَلَ عنه إجماعَ الفقهَاءِ فقط، ولا شَك أنَّ كلامَ أبي نَصْرٍ هذا يقتضي أنَّه ادعى إجماعَ أَهْلِ البَيْتِ عليهمُ السَّلامُ على ذلِك، ولكنه لا يستَحِقُّ الإنكارَ والتَّكْذِيبَ، لَأنَّهُ يجوزُ عَليْكَ أَنْ لا تعْرِفَ بَعْضَ إجماعَاتِهِمْ عَلَيْهِمُ السّلامُ، ¬
البحث السابع: أنك إما أن تنكر الإجماع السكوتي أم لا
وَيعْرِفُهَا غَيْرُك (¬1)، ألَا تَرى أنَّ المنصورَ بالله، والإمامَ يحيى بن حَمْزةَ، والقاضي زيداً (¬2)، وعبدَ اللهِ بن زيدٍ وغيرهم مِمَّنْ قَدَّمنا قَدِ ادَّعَوُا الإجْمَاع على قَبُول (¬3) المُتَأَوِّلين، ولم تَعْلَمْهُ أنت، ولم يلزم تكذيبُهم في دعواهم لعدَمِ عِلْمِك بِصِحَّة ما ادَّعَوا، وكذلِك هذا. البحث السابع: أنَّك إمَّا أنْ تُنْكِر الإجماعَ السُّكُوتيَّ أم لا، إنْ أنكرْتَهُ، لَزِمَكَ تأثيمُ أكثَرِ الأمَّة والأئِمَّةِ، فإنَّهم يقولون بصِحَّةِ الاحتجاج بِهِ (¬4)، وقد ذكره المنصورُ بالله عليه السَّلامُ في " الصَّفوة " وغيرُه من العلماء، وأَكثرُ الإجماعات المروِيةِ، أو كُلُّها لا تكون إلاَّ بِهِ، وإنْ لم تُنْكِرِ الإجماعَ السُّكُوتيَّ، فالظَّاهرُ مِنْ إجماعِ أَهْلِ البَيْتِ وشيعَتِهِمُ القَوْلُ بمَا قالَهُ الفُقَهاءْ مِنْ صِحَّةِ هذِهِ الكُتُب إلاَّ ما ظهرَ القدْحُ فيه، ولا بُدَّ مِنْ هذا الاستثناء عندهم (¬5) كما سوف نُبَيِّنُ ذلِك، وإنَّما قال: إنَّ الظَاهِرَ إجماعُهم عَلَى ذلِكَ، لَأنَّ الاحتجاج بصحيحِ هذِهِ الكُتُبِ ظاهِر في مُصَنَّفاتِهِم، شائعٌ في بِلَادِهِم. ¬
البحث الثامن: أقصى ما في الباب أنه ظهر للسيد غلط هذا الرجل الذي ادعى الإجماع
وقد رَوَى عنهمُ الإِمامُ أحمد بن سُليمانَ في " أصول الأحكام "، والمنصورُ بالله في كثيرٍ مِنْ مُصَنَّفَاتهِ، والأمير الحسين، وصاحِبُ " الكشَّافِ " وغيرُهم (¬1)، وشاع ذلِكَ وتكرَّرَ، فلم يُنْكَرْ على طول المُدَّةِ، فلا نعلمُ كَذِبَ منِ ادَّعى الإجماعَ السُّكُوتيَّ على ذلِكَ. وأقصى ما في الباب أَنْ يُنْقَلَ إنكارٌ لِذلِك مِنْ بعضِ العُلماءِ في بَعْض الأعصارِ، فذلِكَ النَّقْلُ في نَفْسِهِ ظَنِّيٌّ نادِرٌ، واعتبارُ القدحِ بالنَّادِرِ الظَّنيِّ في عصرٍ مخصوصٍ لا يقدَحُ في إجماعِ أَهْل عصرٍ آخر، فلا يُؤمنُ صِدْقُ مُدَّعي هذا الإجماعَ على اعتبارِ كثيرٍ مِنْ أهلِ العلم في الطَّريق إلى مَعْرِفَةِ الإجماعِ، وقد رأينا العُلمَاءَ والأئِمَّة يثْبِتونَ الإجماعَ السُّكُوتيَّ بِمِثْلِ هذا، وبِأَقَلَّ منْ هذا. البحث الثامن: أقصى ما في الباب أنَّه ظهر للسَّيِّد غَلَطُ هذا (¬2) الرَّجُلِ الَّذي ادَّعى الإجماعَ، فقد يغلَطُ كثيرٌ مِنَ العْلماءِ في مِثْل ذلِكَ، ولا يكادُ يسْلمُ أحمدٌ مِمَّنْ يتعرَّضُ لدعوى الإجماعِ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ غالباً إلاَّ في الأمورِ المعلومَةِ المتواترَةِ، وقد تطابق علماءُ الاعتزالِ وكثيرٌ مِنَ الفُقهاءِ على دعوى القطع بأنَّ الصَّحابَةَ أجمعت على تقديم أبي بكرٍ في الخِلَافَةِ، وادَّعوُا القَطْعَ بأنَّ عليَّاً عليه السلام قال بذلك، فردَّ عليهمُ العُلماءُ ذلِكَ بالعبارات الحَسنةِ، ولم يُلْزِمُوهُم أنْ يكونوا (¬3) الصَّحابَةُ قد جُمِعُوا لهم في صعيد واحدٍ ونحو ذلك. ¬
البحث التاسع: يتفضل السيد ويخبرنا من الذي يقول من أهل البيت بطلاق زوجة هذا الحالف
البحث التاسع: يتفضَّلُ السَّيِّدُ ويخبرُنا مَنِ الذي يقولُ مِنْ أهلِ البَيْتِ بطلاقِ زوجة هذا الحَالفِ بصحَّةِ حدِيثِ البُخَارِيِّ، وينقلُ ألفاظَ أَهْلِ البيتِ ونصوصَهُمْ في ذلِكَ، فإنْ لَمْ يجِدْ نصَّاً، ولكِنِ ادَّعى عليهم أن زوجة هذا الحالف تَطْلُق، فليس تصديقُه مِنْ غيرِ دليلٍ أولى منْ تصديق هذا الَّذي ادَّعى الإجماعَ. البحث العاشر: أنَّ الظَّاهِرَ إجماعُهم عليهم السَّلامُ على ذلِكَ، وإجماعُ غيرهم، لأنَّ المعروفَ في كتب الفِقْهِ أنَّ مَنْ حلف بالطَّلاقِ على صِحَّة أَمْرٍ، وهو يظُنَّ صِحَّتهُ، ولم يَنْكشِفْ بُطلانُهْ، لم يَحْنثْ، لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الزَّوجيَّة، ولا تَطْلُق الزَّوجَةُ بِمُجَرَّدِ الاحتمال المرجُوحِ، كما لو ظَنَّ في طائِرٍ أنَّه غُرابٌ، فحلف بالطَّلاق أنَّه غرابٌ، ثمَّ غابَ عَنْ بصرِهِ، ولم يتَمَكَّنْ مِنْ أخذِ اليقين في ذلِكَ، فإنَّ زوجته لا تَطْلُق، وكذا لو علَّق الطَّلاق بدُخول امرأتِهِ الدَّارَ، وجُوِّز أنَّها قد دخلت، وهُوَ يَظنُّ أنها لم تدخلْ، فإن زوجته لا تطلُق، بل لا يَبْعُدُ أن هذا إجماعُ في مَنْ حَلَف على ما لا يَظُنُّ صِحَّتَهُ، ولهذا تأوَّلَ النَّواوي (¬1) هذا الكلام بأنَّه لا يُستَحَبُّ الاحتياطُ لِمَنْ حَلَفَ بِطَلاقِ زوجَتِهِ أنَّ حديثَ كتابِ البخاريِّ صحيحٌ، ولا يحنَثُ ظاهراً ولا باطناً، لأن الأمَّةَ تَلَقتْهُ بالقبول، فَهُوَ معلومُ الصِّحَّة بطريقٍ نَظَرِيٍّ. انتهى كلام النواوي. قلتُ: وكذلِكَ حديثُ غَيْرِ البخَارِيِّ، وغير هذِهِ الصِّحاحِ مِنْ أحاديثِ الثِّقات، فإنَّ الحالفَ عَلَى صِحَّتِه لا يحنَثُ، ولا يستَحبُّ أن يحتاطَ، لَأنَّ ظاهِرَهُ الصِّحَّةُ، وإنَّما يُسْتَحبُّ الاحتياطُ مَعَ الشَّكِّ المتساوي الطَّرَفَيْنِ أوِ الرُّجحانِ الضَّعيفِ الذي يَمْرَضُ مَعَهُ القلبُ، ألا تَرَى أنَّ ¬
البحث الحادي عشر: أن بين دفتي البخاري ما ليس من كلام رسول الله قطعا
الإِنسانَ لا يحتاط في غسْلِ ثَوْبِهِ إلاَّ مَعَ ذلِكَ؟ وكذلِكَ في إسلام زوجَتِهِ، وحِلِّ طَعَامِهِ، وما لا يأتي عَلَيْهِ العَدُّ. البحث الحادي عشر: أنَّ بين دَفَّتي " البُخَارِيِّ " ما ليس مِنْ كَلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قطْعَاً، وذلِكَ مثل (¬1) كلامِ العُلماءَ والأبوابِ والأسَانِيدِ، وحكايةِ أفعالِهِ عليه السَّلام بلفظِ الصَّحابِيِّ أو غيرهِ، فإنْ كانَ الحَالِفُ مُمَيِّزَاً، حُمِلَتْ يمينُه على العُرْفِ في ذلك، ولم تَطْلُقْ زوجته، وإنْ كان الحالف يُمَيِّزُ (¬2) وأراد ظاهِرَ كلامِه، ولم يُرِدْ ما فِيهِ الحديث، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، والله أَعْلَمُ. البحث الثاني عشر: ما (¬3) ذكره النَّواوي في " شرح مسلم " (¬4)، فإنَّه قال: إنَّ بعضَ الحُفَّاظِ قَدِ استدركوا علَى البُخَارِيِّ ومسلمٍ في مواضِعَ أخَلاَّ بشرطِهِمَا (¬5) فيها، ونزلَتْ عَنْ دَرَجَةِ ما الْتَزَمَاهُ. وقد ألَّفَ الإِمامُ الحافِظُ أبو الحسن عليُّ بن عمر الدَّارقطني في بيان ذلِكَ كتابَهُ المسمَّى " بالاستدراكات والتَّتُّبع " (¬6)، وذلك في مائتي حديثٍ ¬
مِمَّا في الكتابين، ولأبي مسعود الدِّمشقيِّ (¬1) أيضاًً عليهما استدراك، ولأبي علي الغسَّاني الجَيَّاني (¬2) في ذلِكَ كتابُه " تقييد المُهْمَلِ " في جُزْءِ العِلَلِ مِنْهُ استدراكٌ أكثَرُهُ على الرُّواة عَنْهُما، وفيه ما يلزَمُهُمَا. قال النواوي: وقد أُجيبَ (¬3) عَنْ كل ذلكَ أو أكثَرِهِ، وستراهُ في موضعه إنْ شاء الله إلى قوله وما قدح فيه بعضُ الحُفَّاظِ، فَهُوَ مستثْنَى مِمَّا ذكرناه لِعَدَم الإجماعِ على تلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وما ذلِك إلاَّ في مواضِعَ قليلةٍ سَنُنَبِّهُ (¬4) على ما وقع منها في هذا الكتابِ إن شاء الله تعالى (¬5). وكلام النَّواوي هذا لازمٌ فيما في " الصَّحيحين " مِنَ الأحاديث التي لا يَقْبَلُ أهلُ البيتِ عليهمُ السَّلامُ رُوَاتِها متى تَبيَّنَ وتحقَّقَ ذلكَ، مَعْ أنَّا لا نُنْكِرُ بعضَ ذلِكَ، وكذلِكَ ما تعارض معارضَةً مَحْضَةً، ولم يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ، وكذلِكَ ما أخرجه البُخاريُّ تعليقاً بصيغَةِ التَّمريضِ، أو بصيغَةِ الجَزْمِ، ¬
البحث الثالث عشر: أنه لا طريق إلى العلم بأن الحديث المتلقى بالقبول هو بنفسه لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وإنْ كانَ الصَّحيحُ أنَّ المجزومَ بِهِ مِنْ ذلِكَ (¬1) مقبول، لكِنْ لا يرتقي بِهِ إلى مَرْتبة الصَحيح مِنَ المُسْنَدِ المُجْمعِ على تَلَقَيه بالقَبُول. وقد ذكر هذا الاستثناءَ لِهذهِ الأشياء الحافظ ابن حجر في شرح كتابه " المختصر " (¬2) في عُلومِ الحَديثِ، وفي مُقَدِّمَةِ شَرح " صحيح البُخَارِيِّ " (¬3)، وأوضحَ ذلِكَ غايَةَ الإِيضاحِ، وكل هذا يجوز فيهِ أَنْ يحنَثَ باطِنَاً لا ظاهِرَاً، وَيُسْتَحَبُّ فيه الاحتياط لِمَنْ شَكَّ أو ضَعُفَ ظَنُّ الصحة عنده، وليس في هذا قَدْحٌ على راوي الإجماعِ كما زَعَمَ السَّيِّدُ، لَأنَّ ذلِكَ لم يَدَّعِ أنَّ الحالِفَ لا يحنَثُ باطِنَاً ولا يحتاطُ، وإنَّما ادَّعَى أنَّ زوجتَهُ لا تطْلُقُ، وهذا صحيحٌ لم يعْتَرَضْ. البحث الثالث عشر: أنَّه لا طريقَ إلى العِلْمِ بِأنَّ الحديثَ المُتَلَقَّى بالقَبُول هوَ بِنَفْسِهِ لفظُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما يقْطَعُ على أنَّه (¬4) مَعْنَىً لفظه عِنْدَ مَنْ يقولُ: إنَّ التَلقّي بالقَبُولِ يوجِبُ القَطْعَ بالصِّحَّةِ، وإنَّما قلت بذلِك، لَأنَّه يجوزُ أن يكون الصَّحابِيُّ أو غيرُه قد روى الحديث بالمعنى، ولا وَجْهَ للقطعِ بارتفاعِ هذا الاحتمالِ، فإنْ كان الحالِفُ قَصَدَ أنَّ الحديثَ لفظُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - استُحِبَّ لَهُ الاحتياطُ، ولم يَرْتَقِ إلى تلك المَرْتَبَةِ، وإنْ (¬5) قصدَ أنه حديثُه، أو معنى حَدِيثِه (¬6)، كان كما ذكره العلماءُ. ¬
البحث الرابع عشر: أن السيد أنكر طريق معرفة إجماع الفقهاء على ذلك
البحث الرابع عشر: أنَّ السيدَ أَنْكرَ طَرِيقَ (¬1)، مَعْرِفَة إجماع الفقَهاءِ على ذلِكَ، وقسمها قسميْنِ، لم يَجْعَلْ لهُمَا ثالِثاً. أحدهما: أنْ يَطُوفَ المُدَّعي لَهُما جميعَ البقَاع. وثانيهما: أنْ تُجْمَعَ لَهُ الأمَّةُ في صعيدٍ واحدٍٍ. فأحببتُ أن أُرِيَ السيد طريقاً ثالِثَةً، وهي أنَّه قد ثبت عَنْ كثير مِنْ أَهْلِ البيتِ وغيرهم جوازُ نِسْبَةِ المذْهبِ إلى العُلماء بالتَخريج، فما المانعُ مِنْ أنَّ الرجُل يعرف مِنْ قواعدِ الفُقهاء ما يقتضي ذلك؟ قال: والذي يذهبُ إليه عُلماؤنا، ونجري على أُصولهِمْ أن في أخبار هذِهِ الكُتُبِ الصحيحَ والمعلولَ والمردود والمقبولَ. أقول: الجوابُ على ما ذَكَرَهُ في هذا أنْ نقولَ: ما مُرادُك بأنَّ ذلِكَ فيها؟ هل (¬2) كثيرٌ مساوٍ للصحيح، أو أكثرُ منه، أو قريبٌ منه، أو مرادُك أنه نادر؟. فإنْ أردتَ أنُّه كثيرٌ، فأرِنَا الدَّليلَ على دعواك حتى نُرِيَكَ الجوابَ عليها، فإنَّ الجوابَ لا يَصْلُحُ إلَّا بعدَ الابتداءِ، والانتصافُ لا يليقُ إلا بَعْدَ الاعتداء، ومُجَرَّدُ الدَّعوى مقدورٌ لِكُلِّ مُحقٍّ ومُبْطلٍ. وإِنْ أردت أنَّ ذلِكَ فيها نادرٌ قليلٌ بالنَّظَرِ إلى ما فيها مِن الصَّحيحِ، فذلِكَ صحيحٌ عِنْدَ أهْلِ البَيْتِ عليهم السلام، وعِنْدَ المُحَقِّقِين منْ أهلِ الحديث أيضاًً، وقد تقدَّم كلامُ النَّواوي في " شرح مسلم " وفيه النَّصُّ على ¬
ذلِكَ، فإنَّه ذَكَرَ أنَّهَا قد صُنِّفَتْ (¬1) في الاعتراضِ على الصَّحيحينِ مصنَّفات، منها كتابُ " الاستدراكات والتَّتَبُّع " للدَّارقطني، وكتابُ أبي مسعودٍ الدِّمشقِى، وكتابُ أبي علي (¬2) الغسانِيِّ الجَيَّاني. وقد رَوى البخاريُّ حديث الأسود عن عائِشَةَ أنَّ بَرِيرة عَتَقَتْ، وكان زوجُها حُرَّاً، فخيَّرها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال البخاري: وقولُ ابنِ عباس: " رأيتُه عبداً " أصحُّ، فبيَّن بهذا ضعفَ الحديث الذي روي في الصحيح. وكذا قد ضعَّفَ هذا البيهَقِيُّ، فقال: إِنَّ قَوْلَهُ: " وكان حُرَّاً " مدرجٌ، ¬
أدرجه سفيان في الحديثِ، فأوهم أنه عنْ عائِشَةَ، وإنَّما هُو مِنْ قولِ الأسودِ نفسه، كما فصَّلَهُ أبو عَوَانة، وقد روى القاسمُ، وعُرْوةُ، ومجاهدُ، وعمرةُ (¬1) عَنْهَا أنَّه كانَ عبداً (¬2). وكذلِكَ أبو البركات ابنُ تيمية ضعَّف ما رواهُ البخاريُّ، وكذلِكَ ابنُ الجوزي. ذكره ابن تيمية في " المنتقى " (¬3)، وابن الجوزي في " التحقيق " (¬4). وكذلِكَ ضَعَّفوا ما رَوَاهُ البُخاريُّ ومسلم عَنِ ابنِ عبَاس أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَ ميمُونَة وهو مُحْرِم (¬5)، ورجَّحوا ما رواه التّرمذِيُّ عن أبي رافعٍ، وأبو داوود، ومسلم عن ميمونةَ أنَّه كان حَلالاً (¬6). ¬
وكذلك ضعَّفوا ما رواهُ مسلمٌ عن أسامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه دخل البيتَ، ولَمْ يُصَلِّ فيه (¬1)، ورجَّحُوا عليه ما رواه البخاريُّ، ومسلمٌ عن بلال أنَّه صلَّى فيه (¬2). ¬
وكذلك ضعَّفُوا ما روى مسلمٌ (¬1) منْ طريقِ عِكْرِمَةَ بنِ عَمَّار أنَّ أبا سفيان طلب مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه أَنْ يُزَوِّجَهُ أُمَّ حبيبةَ، حَتَّى قال ابنُ ¬
المضعف عليهما نوعان
حزم: إنَّه حديث موضوعٌ، وضعه عكرمة، لأنَّ المعلومَ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - تزَوَّجَها قبل إسلامِ أبي سفيان. وردَّ عليه ابنُ كثير بأشياءَ جَمَعَها في جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وصَحَّح أنَّ أبا سفيان سأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يزَوِّجَه عَزَّةَ أُخت أمِّ حبيبة، واستعان بأُم (¬1) حبيبة، فقد ثبَتَ (¬2) في " صحيح البُخاري " و" مسلم " (¬3) أنها عرضت أختها على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " إنَّهَا لا تَحِلُّ لِي "، ولكِنْ غَلِطَ الرَّاوي في اسمَ عَزَّةَ (¬4). وأمثالُ هذا كثيرَةٌ ظاهِرَةٌ عنهم، ولكِنْ لا بُدَّ مِنْ ذكر فائِدَة تشتمل على التَّعريف بِمَا قُدِحَ بهِ على البخاريِّ ومسلمٍ على سبيلِ الجُمْلَةِ، لئَلاَّ يتوهَّمَ مَنْ لا خِبْرَةَ لَهُ أنَّ في رُواةِ كتابَيْهِما المعتَمدَيْنِ مَنْ هُوَ مَجروحٌ يتعمَّدُ المعاصي، أو ضعيفٌ بمَرَّة لا يَحِلُّ الاعتماد عليه في التَّحليل والتَّحريم. فأقول: المضعَّف عليهما نوعان. ¬
النوع الأول: المعلول
النوع الأول: المعلولُ، ومثالُه: أن يرفَعَ الحديثَ بعضُ الثِّقات، ويقفَهُ الباقون، أو يُسْنِدَه ويُرْسِلُوه، أو نحو ذلك مِن العِلَل، وهذا النَّوع ممَّا يقدَحُ في الصحةِ عند المحدِّثين، ولا يقدَحُ في الرَّاوي، ولا يقدَحُ عند الأصوليّين في الصحة ولا في الرَّاوي، والذي في كُتُبِ أهل البيتِ عليهم السلام أنَّه لا يقدح بهذا النَّوعِ. مثالُ ذلك، حديثُ البخاريِّ عَنِ الشِّعبي، عن جابرٍ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تُنْكحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتهَا " (¬1). هذا الحديث رواه ثِقَات، لكِنِ المشهورُ أنَّ الشِّعْبِيَّ رواهُ عَنْ أبي هُريرة، لا عن جابرٍ، فرِوَايَةُ البُخاري له مِنْ طريقِ جابرٍ غيرُ صحِيحَةٍ عندهم لهذِهِ العلَّةِ، لأنَّ الذي يَغْلِبُ عَلَى الظن أن الشِّعبيّ لو كان يحفَظُه عن أبي هريرةَ وجابرٍ معاً، ما رواه الحُفَّاظُ الثِّقَاتُ عن أبي هريرة وَحْدَهُ. فهذا وأمثالُه مِمَّا يقدحون بِهِ أَمْرُهُ قريب (¬2) عندنا، لأنَّه إنَّما يدُلُّ علَى أنَّ الثِّقَةَ وَهم في رِوَايَته، والوَهْمُ جائِزٌ على الثِّقات، ولا يقدح بِمُطْلَقِهِ إجماعاً، بل إذا كان حِفْظُه أكثرَ قُبِلَ إجماعاً، ذكره عبد الله بن زيد في " الدُّرر "، لأن ارتفاعَهُ عَنِ البَشَير غَيْرُ مقدورٍ لهم، وإنَّما اختلف العُلماء فيما يقدَحُ به منه. فقال جمهورُ الأصوليّين: إذا غلب الوَهْمُ على حديثه، وكان أكْثَرَ مِنَ الصَّواب أوِ اسْتَوَيَا حتَّى يَبْطُلُ ظَنُّ إصابَتِه، ولا يُمْكِنُ ترجيحُها، فهُنا يَبْطلُ الاحتجاجُ به إجماعاً. ¬
النوع الثاني: مما يقدح عليهما به الرواية عن بعض من اختلف في جرحه وتعديله
وقال بعضُهم: لا بُدَّ مِنْ كثرة وَهْمِهِ وزيادَتِه على صَوَابِهِ، وَإِنِ استويا (¬1) قُبِلَ لِعُمُوم الَأدِلَّة الموجِبَةِ لقبُوله، وعَدَمِ انتهاض الاستواءِ لتخصيصِ العُموماتِ، واختاره الإمامُ المنصور بالله في " الصفوة "، وعبد الله بن زيد في " الدرر ". وأمَّا المحدِّثُون، فالظاهِرُ منهم أنَّ المُحَدِّثَ متى كَثُرَ وهمُه، ودخل في حيِّزِ الكثْرَة، بطل الاحتجاجُ به، وإنْ كان صوابُه أكثر، وإنَّما يحتجُّون بِمَنْ قلَّ وَهْمُه وَنَدَرَ، فافْهمْ ذلِكَ. ومِنْهُمْ مَنْ يغلو غُلُوَّاً منكراً، فيُضَعِّفُ الرَّاوي بالوهم النَّادِرِ، وهذا مخالِفٌ للإجماع، غيرُ مُمْكِنٌ اعتبارُه، ولا ملتفت إلى قائِلهِ، ومثل هذا لا يُعَدَّ مذهباً، وإنَّما هُوَ جَهْلٌ مَحْضٌ، والله أعلمُ. النوع الثاني: مما يقدح (¬2) عليهما بِهِ الرِّوايةُ عَنْ بعضِ مَنِ اختلف في جَرْحِهِ وتعديلِهِ. وقد ذكر النَّواوي ذلِكَ، وذكر الجوابَ عليه، وأنا أورِدُ كلامهُ بلفظه. قال في " شرح مسلم " (¬3): فصل: عابَ عائِبونَ مُسْلمَاً بِرِوايَتِه في " صحيحِه " عنْ جماعَةٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ والمُتَوَسِّطين الواقعين في الدرجةِ الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح، ولا عيبَ عليه في ذلك، بل جوابُه من أوجُهٍ، ذكرها الشَّيخُ أبو عمرو بنِ الصَّلاحِ (¬4). ¬
أحدها: أن يكونَ ذلِكَ في مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، ثقَةٌ عِنْدَهُ، ولا يقال: الجرحُ مُقَدَّمٌ على التَّعديلِ، لأنَّ ذلِكَ فيما إذا كان الجرحُ ثابِتَاً مُفَسَّراً، وإلاَّ فلا يقْبَلُ الجَرْحُ إذا لم يكنْ كذلِكَ. وقد قال الإمامُ الحافظُ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتجَّ البُخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود [به] منْ جماعةٍ عُلِمَ الطَّعْنُ فيهم منْ غيرهم مَحْمُولٌ عَلَى أنَّه لم يثبتِ الطَّعْن المؤثِّر مفسَّر السَّببِ. انتهى كلام النواوي. قال شيخ الإِسلامُ عُمَرُ بنُ رسلان البُلْقيني في كتابه " علوم الحديث " (¬1): ولا يلزمُ ذلِكَ لجوازِ أنْ يكونَ لم يثبُت عِنْدَهُمُ الجَرْحُ، وإن فُسِّرَ هذا هو الأقربُ، فإنَّ المذكورين ما مِنْ شَخْصٍ منهم إلا وَنُسِبَ إلى (¬2) أشياءَ مفَسَّرَة مِنْ كَذِبٍ وغيره، يَعْرِفُ ذلِكَ مَنْ راجَعَ كُتُبَ القَوْمِ، ولكِنَّها لَمْ تثبُتْ عند مَنْ أَخَذَ بحديثهِمْ، ووثَّقَهم، وروى عنهم. انتهى. قلتُ: وهذا بَيّنٌ وقد بسطتُ الدَّليل عليه في علوم الحديث (¬3). رجعنا إلى كلام النَّواوي رحمه الله. الثَّاني: أنْ يكونَ ذَلِكَ واقعاً في المُتَابَعَاتِ، والشَّواهد، وقد اعتذر الحاكِمُ أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجِهِ عَنْ جماعةٍ ليسُوا مِنْ شَرْطِ الصَّحيح، منهم مَطَرُ بن الوَرَّاق (¬4)، ¬
وبقيَّةُ (¬1) بن الوليد (¬2)، ومحمَّد بنُ إسحاق بنِ يسار (¬3)، وعبدُ الله ¬
بنُ عمر العمري (¬1)، والنُّعمان بن راشد (¬2)، وأخرج مسلمٌ عنهم في الشَّواهد في أشباه لهم كثيرين. الثالِثُ: أن يكونَ ضَعْفُ الضَّعِيفِ الَّذي احتجَّ بِهِ طَرَأَ بَعْدَ أخذهِ عَنْهُ باختلاطٍ حَدَثَ عليه، غيرِ قادحٍ فيما رواه مِنْ قَبْلُ في زمنِ استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمان بن وهب (¬3) ابن أخي عبدِ الله بن وهب، فذكر ¬
الحاكم أبو عبد الله (¬1) أنَّه اختُلِطَ بَعْدَ الخمسين ومئتين بعدَ خروجِ مسلم مِنْ مِصْر، وهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة (¬2)، ¬
وعبد الرزَّاق (¬1)، وغيرهما مِمَّنِ اختُلِط آخراً، ولم يمنع ذَلِكَ مِنْ صِحَّة ¬
الاحتجاج في الصَّحيحَيْن بما أُخِذَ عنهم قَبْلَ ذلِكَ. الرابع: أن يعلو (¬1) بالشَّخْصِ الضَّعيفِ إسنادُه، وهو عِنْدَهُ مِنْ رواية الثِّقَات [نازِل]، فيقتصِرُ على العالي، ولا يُطَوِّل (¬2) بإضافةِ النَّازل مُكْتَفِيَاً بمعرِفَةِ أَهْلِ الشَّأْنِ [في] ذلك، وهذا العُذْر (¬3) قد رَوينَاهُ عنه تَنْصِيصَاً، وَهُوَ خلافُ حالِهِ فيما رواه عَنِ الثِّقاتِ أوَّلاً، ثُمَّ أتبعهم بِمَنْ (¬4) دونَهُم متابَعَةً، وكأنَّ ذلِكَ وَقَعَ منه بحسبِ حُصولِ باعثِ النَّشاط وغيبته، روينا عَنْ سعيد بن عمرو أنَّه حضر أبا زرعة، وذكر " صحيح مسلم " ¬
وإنكار (¬1) أبي زُرعة عليه روايَتَهُ عَنْ أسباط بن (¬2) نَصْر، وقطنُ بن نُسَيْر (¬3)، وأحمد بن عيسى المصري (¬4) إلى قوله، فقال: إنَّما أدخلتُ من حديث أسباطَ وقَطنٍ وأحمد ما قد رواه الثِّقَاتُ عَنْ شُيوخهم، إلاَّ أنَّه رُبَّما وَقعَ (¬5) إليَّ عنهم (¬6) بارتَفاعٍ، ويكون عندي برِوَايةٍ أوثقَ منهم بنُزُولٍ، فأَقْتصِرُ عَلَى ذلِكَ، وأصلُ الحديث معروف مِنْ رِوَايَة الثِّقَاتِ إلى قوله: فَهذا مَقامٌ وَعِرٌ، وقد مهدتُهُ بواضحٍ مِنَ القَوْل لم أَرَهُ مجتمعاً في مؤلَّفٍ وللهِ الحَمْدُ، انتهى كلام النَّواوي. وفيه ما يَدُلُّ على أنَّهُ لا يعترض على حُفَّاظ الحديث إذا رَوَوْا حديثاً ¬
عَنْ بعض الضُّعفاء، وادَّعَوا صِحتَهُ حَتَّى يُعْلَمَ أنَّه لا جابرَ لِذلكَ الضَّعْفِ مِن الشَّواهد والمتَابَعَاتِ، ومعرِفَة هذا عزيزةٌ لا تَحْصُلُ إلاَّ للمَهَرةِ مِنَ الحُفَّاطِ، وأهْلِ الدِّرْيَةِ التَّامَّةِ بهذا الفَنِّ. وقد رُئيَ عِنْدَ بَعْضِ (¬1) الحُفَّاظِ الجزءُ النَّيِّفُ والعشرون من مسند أبي بكر، فقيل له: ما هذا، وأحاديثُ أبي بكرٍ الصِّحاحُ لا تزيد على خمسين، أو لا تكون خمسين حديثاًً؟ فقال: إنَّ الحديث يكونُ معي مِنْ مئَةِ طريقٍ، أو كما قال. ولقد صنَّف الحافظُ العلامةُ محمد بنُ جريرٍ الطبري (¬2) كتاباً في طرق حديث الطير (¬3) في فضائل علي عليه السَّلامُ لمَّا سمع رجلاً يقول: إنه ¬
ضعيف. قال الذَّهبيُّ: وقفتُ علَى هذا الكتاب، فاندهشتُ لكثرَةِ ما فيه مِنَ الطُّرُقِ. ومِن الغَرَائِب (¬1) في هذا المعنى أنَّ كثيراً منْ أهلِ الحديث يعتقد في حديث " الأعمالُ بالنِّيَّاتِ " (¬2) أنَّهُ حديث غريبٌ ما رواه إلاَّ عمر بن الخطاب، مِمَّن نصَّ على ذلك: الحافظ أبو بكر أحمدُ بنُ عمرو (¬3) البزَّار (¬4) في " مسنده "، فإنَّه ذكر أنه لا يَصِحُّ إلا مِنْ حديث عُمرَ. قال حافظُ العصر ابنُ حجر: وكأنَّه أراد بهذا اللَّفظِ والسَياقِ، وإلا ¬
فقد روينا معناهُ من حديثِ أنسٍ، وعُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ، وأبي ذَرٍّ، وأبي الدَرْداء، وأبي أُمَامَة، وصُهَيْب، وسهل بنِ سعدٍ، والنَّوَّاس بن سمعان، وغيرهم، وروينا بلفظِ حديثِ عُمَرَ مِنْ حديثِ عليِّ بن أبي طالب، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هريرة، وأنس، وابن مسعود. انتهى، لكن مِن وجوهٍ ضعيفةٍ، قاله ابن حجر في " علوم الحديث " (¬1). ¬
فبهذا لا يقطعُ على راوي الحديثِ أنَّه يعتقدُ عَدَالَةَ بعضِ الضُّعفاء إذا صحَّحَ حديثَ بعضِهم، ولكن لا نقول أيضاً بِصحَّة الحديثِ قطعاً إذا علمنا بجِرْحِ الرَّاوي له، وَلَمْ نعلمْ ما يَجْبُرُهُ مِنَ المتابعاتِ، بل نقول: إنَّ هذه المسألة مَحَلُّ نَظَرٍ، والذي يقوى عندي وجوبُ العَمَلِ بذلِكَ، لأنَّ القَدْحَ بذلِكَ مُحْتَمَلٌ، والثِّقَةُ العَارِفُ إذا قال: إنَّ الحديثَ صحيحٌ عنده، وجَزَمَ بذلِكَ، وَجَبَ قَبولُهُ بالَأدِلَّةِ العقليَّة والسَّمْعِيَّة الدالَّةِ على قَبُولِ خَبَر الوَاحِدِ، ولم يَكُنْ ذلِك تقليداً له، إلاَّ أَنْ يَظُنَّ أو يجوز أنَّه بنى دعواه لذلكَ على اجتهادٍ، ولو كان مُجَرَّدُ الاحتمال المرجوح يَقْدَحُ، لطرحنا جميعَ أحاديثِ الثِّقات لاحتمالِ الوَهْمِ والخطأ في الرواية بالمعنى، بلِ احْتِمال تَعَمُّدِ الكَذِبِ. نعم، الظَّاهِرُ أنَّ البخاري ومسلماً بَنَيَا على شروط الحديث المعتبَرَة عند جُمهورِ أَهْلِ هذا الشَّأنِ إلاَّ في المواضِعِ التي استثناها الحُفَّاظُ، وهي ما انْتُقِدَ عليهما. قلت: ومجموعُه يكونُ في موضعين. الأول: ما ثَبَتَ عن بعض الحُفَّاط أنه خالفهما، أو أحدَهُما في صِحَّتِه. والثاني: ما كان متعارضَاً، لا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ إحدى الرِّوايتين، ويدخل في الَأوَّلِ ما اختلفا فيه، وما جاءَ بِغَيْرِ صريحِ السَّماعِ منْ رِوَايَةِ المدلِّسين، وإنَّما أخرجا هذا الجنس بحسب اجتهادهما وتحرِّيهما، لأنَّ تَرْكَهُ كُلَّهُ مفسدهٌ بينَةٌ، إذ كان الغالبُ علَى الظنِّ صِحة أكثرِهِ، ورُبمَا اطلعنا على شواهِدَ وتوابعَ تُوجبُ تخريج ما أخرجا منه، لكِنَّ ذلِكَ على طريقَةِ الاجتهاد منهما، ولا يَجِبُ، بَلْ لا يجوزُ للمجتهدِ أنْ يُقَلِّدَ أحداً فيما
قوله: قال: والضابط في ذلك أن ما صححه أئمتنا هو صحيح
يجتَهِدُ فيه، وانْ كانا أهلاً للتَّقلِيدِ رحمهما الله، فطلبُ العِلْمِ غيرُ طَلَبِ التَّقليدِ، ولكُلِّ مَقامٍ مَقَالٌ. وقد ذكر ابن حجر في مقدمة " شرح البخاري " مما انتقد عليه مئة حديث وعشرة أحاديث غير عنعنة مَنْ يُدَلِّسُ، ولم يستقْصِ ذلك (¬1). قال: والضَّابِطُ في ذلِكَ أنَّ ما صححهُ أئِمَّتُنا، فهو صحيحُ، وما رَدُّوه أو طَعَنوا في رُواته مردود (¬2)، مثل خَبَرِ الرُّؤية عَنْ قيسِ بن أبي حازم، عن جريرِ بن عبد الله (¬3)، وإنَّما كان ما ردُّوه وجرَّحوا رُوَاتِهِ مردُودَاً، ومن (¬4) جرَّحُوه مجْرُوحاً لوجهين: أحدهما: أنَّ أئِمَّتنَا عُدُولٌ لِصِحةِ اعتقادِهِم، واستقامَةِ أعمالهمْ، والقطعُ أنَّهُ إذا جرَحَ الراويَ جَمَاعةٌ عُدُولٌ، فإن جَرْحَهُم مقبولٌ، لأنَّ الجارجَ يُقَدَّم (¬5) علَى المُعَدِّل. ¬
الأول: إما أن يريد ما أجمعوا على رده إجماعا معلوما فهو مردود، وهذا مسلم، لأن إجماعهم المعلوم عندنا حجة
الثاني: أنَّها إذا تعارَضَتْ رِوَايةُ العَدْل الَّذي لَيْسَ على بِدْعةٍ، وروايةُ المبتدعِ، قُدِّمَتْ رِوَايَة العَدْلِ الذي ليس على بِدْعةٍ، وهذا مُجْمَعٌ عليه. أقول: الجوابُ عَلَى هذا مِنْ وَجْهَيْن. الأوَّلُ: إمَّا أنْ يريدَ ما أَجْمَعُوا على رَدِّهِ إجماعاً مَعْلُوماً، فهو مردودٌ مثل خبَرِ الفَاسِقِ والكَافِرِ المُصَرِّحين، أو يريدَ أنَّ ما اختلفوا فيه فهُوَ مردودُ، مِثْلُ خبَرِ أهْلِ التَّأويلِ على تسليم أنَّهُمْ لَمْ يُجْمعُوا على قَبُولهِم. القسم الأول: مسلمٌ؛ لأنَّ إجماعهمُ المعلومَ عليهم السَّلامُ عندنا حجَّةٌ، وقولَهم إلى الحق أوضحُ مَحجةٍ، ولكنَّا لم نخالِفْ في هذا، فإنَّا نَرُدُّ منْ رَدُّوا، و (¬1) نُجَرِّحُ منْ جَرَّحُوا، وتحت هذا الجنس نوعان: أحدُهما: ما قطعوا بَرِدِّهِ لثُبوت جَرْحِ التَّصريح في راويه (¬2). وثانيهما: ما قطعوا بردِّهِ أو تأويلِه لمخالَفَةِ دلالةِ العُقولِ الضَّرورِيَّة، أوِ القاطِعةِ المُجْمَعِ عليهما إن صحَّ الإجماعُ القاطِعُ، وصحَّ القطعُ في غير الضَّروريات ونتائجها، وكلا النَّوعين عندي مردودٌ مرذولٌ غيرُ صحيح ولا مقبولٍ، وقد بيَّنتُ هذا في كتابي " المبتدا " الذي أجابه السيد بنَصٍّ لا يحتملُ التَّأويل، ولم أَزَلْ بِحمدِ اللهِ مُتمسَّكاً بأهلِ البَيْتِ عليهم السَّلامُ سرَّاً وجهراً، مُفْتَنَّاً في إظهار عقيدتي في ذلِكَ نظماً ونثراً، فَمِنْ قولي قديماً في ذلِكَ: إنْ كانَ حُبِّي (¬3) حَدِيثَ المُصْطفي زَلَلاً ... مِنِّي فما الذَّنْبُ إلاَّ مِنْ مُصَنِّفِهِ ¬
وَإِنْ يكُنْ حبهُ دِيناً (¬1) لمعْتَرِفٍ ... فَذاكَ هَمِّي وديني (¬2) في تعَرُّفهِ وَمَذْهَبِي مذْهَبُ الحق اليقينِ، فَمَا ... تَحَوَّلَ الحَالُ إلا مِنْ تَشَوُّفِهِ وذاكَ مذْهَبُ أَهْلِ البَيْتِ إنَّهُمُ ... نَصُّوا بِتَصْوِيبِ كُلٍّ في تَصَرُّفهِ نصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في الفُروع، فَمَا ... لوْمُ الذي لامَ إلاَّ مِنْ تَعَسُّفِهِ فَمَا قَفَوْتُ سِوَى أعْلامِ مَنْهَجِه ... ولا تَلَوْتُ سِوَى آياتِ مُصْحَفِهِ أمَّا الأصولُ، فَقَوْلي فيه قوْلُهُمُ ... لا يبْتَغِي القلْبُ حَيْفاً عنْ (¬3) تَحَنُّفِهِ ففِي المَجَازاتِ أَمْضي نَحْوَ مَعْلَمِهِ ... وفي المَحَارَاتِ أَبْقَى وَسْط مَوْقِفهِ فإنْ سَعيتُ فسعْيي حَوْلَ (¬4) كَعْبَتِه ... وإنْ وَقَفْتُ، فَفِي وَادي مُعَرَّفِهِ وحقِّ حُبي لهُ إني به (¬5) كَلِفٌ ... يُغنيني الطَّبعُ فيه عن تكلُّفِهِ هذا الَّذي كَثُرَ العُذَّال فيه فما ... تعجَّبَ القَلْبُ إلاَّ مِنْ معنِّفِهِ ما الذَّنْبُ إلاَّ وقوفي بين أظهرهِمْ ... كالماءِ مَا الَأجْنُ إلاَّ مِنْ تَوَقُفِهِ والمنْدلُ الرَّطبُ في أوطانه حَطَبٌ ... واستقْر صرفَ اللَّيالي في تصَرُّفهِ يستأْهِلُ القلبُ ما يلقاه ما بَقِيَتْ ... له علائِقُ تُغريه (¬6) بمألفِهِ (¬7) وَمِنْ قولي في هذا المعنى: لامَنِي الأهْلُ والأحِبّةُ طُرَّاً ... لاعتزالي مَجَالِسَ التَّدْرِيسِ أَشْفَقُوا أَنْ أكونَ فَارَقْتُهَا مِنْ ... رغْبَةٍ عنْ دُرُوسِ عِلْمِ الرُّسُوسِ قلت: لا تَعْذِلُوا، فَمَا ذاكَ مِنِّي ... رَغْبَةً عَنْ عُلُومِ تِلْك الدُّرُوسِ ¬
هِيْ ريَاضُ الجِنَانِ مِنْ غيْرِ شَكٍّ ... وسَنَاها يُزْري بِنُورِ الشُّمُوسِ غيرَ أنَّ الريَاضَ مَأوَى الَأفاعِي ... وجِوارُ الحيَّات غَيْرُ أَنِيسِ حَبَّذا العِلْمُ لو أَمنْتُ وصاحَبْـ ... ـتُ إمَاماً في العلْمِ كالْقَامُوسِ غيرَ أنِّي خبرْتُ كلَّ جَلِيسٍ ... فوجَدْتُ الكتَابَ خَيْرَ جليسِ فَدَعُوني فَقَدْ رضِيتُ كِتابي ... عِوَضَاً لي عنْ أُنْسِ كُلِّ أَنِيسِ ولمَّا لَمْ أَسْلمْ مِنَ القيلِ والقال بعدَ الفِرَارِ والاعتزال، أعجبني أن أَصلَ هذهِ الأبيات بقولِ مَنْ قال: لِوْ تُرِكْنَا وذاك كُنّا ظَفِرْنا ... مِنْ أمانيِّنا بِعِلْقِ نفِيسِ غيرَ أنَّ الزَّمَانَ -أَعْني بَنيهِ- ... حَسَدُونا على حيَاةِ النُّفُوسِ (¬1) وَمِنْ قولي في ذلِكَ وَهُو في الكتابِ الذي تعرض السيدُ أيَّدهُ اللهُ لجوابه: وأُحِبُّ (¬2) آلَ محَمَّدٍ نفسي الفِدَا ... لَهُمُ فما آحَدٌ كآل مُحَمَّدِ هُمْ بابُ حطَّةَ والسَّفِينَةُ والهُدى ... فِيهِم وَهُمْ للظَّالِمينَ بِمَرْصَدِ وَهُمُ النُّجُومُ لخيِّرٍ مُتعبِّدٍ ... وهُمُ الرُّجُوم لِكُلِّ مَنْ لمْ يَعْبُدِ (¬3) ¬
وَهُمُ الَأمَانُ لِكل مَنْ تَحْت السمَا ... وجزاءُ أَحْمَد وُدُّهُمْ فَتَوَدَّدِ والقومُ والفرقانُ فاعرف قَدْرَهُم ... ثقلانِ للثَقَلَيْن نصُّ مُحَمد وكفَى لَهُمْ شَرَفَاً ومجْداً باذِخَاً ... شرعُ الصَلاَةِ لهُمْ بِكُلِّ تَشَهدِ وَلَهُمْ فضَائِلُ لَسْتُ أُحْصِي عَدهَا ... منْ رامَ عد الشُهْبِ لَمْ تَتَعَددِ ديني كأهلِ البيْتِ دِينَاً قيمَاً ... مُتَنَزِّهَاً عَنْ كُلِّ مُعْتَقَدٍ رَدِي (¬1) ولي في ذلك أبياتٌ قد فاتتني، لكِنِّي أحفظُ منها قولي: ها إنَّها حَدَّثَتْ أُمُو ... رٌ عُمِّيَتْ فيها المَعالِمْ فالجَاهِلُ السَّفْسَافُ في ... أَمْشاجِها بالظَّن راجمْ لكِنني لا أَرْتضِي ... إلَّا مَقالات الفَوَاطِمْ لا سِيَّما عَلاَّمَتَيْ ... ساداتنَا يحيى وقاسمْ ولي في هذا المنظومُ والمنثورُ (¬2) ما لا يتَّسِعُ لهُ هذا المسطورُ، ولكنَّهُ قد فاتني؛ لَأنَي لَمْ أتوهَّمْ أنَّني أحتاج إلى الاستشهادِ بِهِ، ولا ظَنَنْتُ أَنِّي أُتَّهَمُ بِبُغض المذهب وأهلِه، لأنِّي في جميع أحوالي أعطرُ بذكرِهم صُدُورَ المحافِل، وأُزَيَنُ بالَثَّناء عليهم وُجُوهَ الرسائل، فالعجب منْ توجيهِ السيِّد إليَّ التَّعريف بأنَّ ما رَدُّوه فهو مَرْدودٌ، كأنِّي خرجتُ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ المسدودِ، يا هذا، إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوا ما عَرَفْت، فخلِّ الِإفراطَ في التَّشْنِيع، وحُلَّ رِبَاطَ التَّسْمِيعِ: ¬
أو أن يريد أن ما اختلفوا فيه فهو مردود، وهذا خلاف إجماعهم على كل تقدير
جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضَاً رُمْحَهُ ... إنَّ بني عَمِّك فيهم رِمَاح (¬1) القسم الثاني: المتشابه: ما اختلفوا في ردِّه، مثل خبرِ المتأوِّلين على تسليم عَدَمِ إجماعهم على قَبُولهم، فَهذا مِمَّا ليس للسَيدِ أنْ يقول: إنَّه مردود؛ لأنَّ هذا خلافُ إجماعهم على كُلِّ تقدير، أمَّا إنْ قَدَّرنا أنَّهم أجمعوا على قَبُوله، فلا شَكَّ أنَّ المردودَ هُوَ قَوْلُ منْ رَدَّ عليهم، وشذَّ عنهم، ولم يَرْجِعْ إليهم، وأما إن قدَّرنا أنَّه لم يصحَّ لَهُمْ إجماعُ في ذلِكَ، فلا شَكَّ أنَّ المخالفَ في ذلِكَ غَيْرُ مُنْكرٍ على القائل، ولا مُجَرِّحٍ في رَدِّ تلك الأحاديث على من اعتقد صِحتَها، وقد روى في تفسيره مِنْ ذلِكَ أحاديثَ، وحكم بصحَّتها، وجزمَ بنسبتها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال في آخر تفسير (¬2) سورة الزمر في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ما لفظه: جاء في الحَدِيثِ الصَّحِيح ما يُوافِقُ الآية، مِنْ ذلكَ؛ ما أخرجه البُخارِي ومسلمٌ منْ حديث أبي هريرة " يَقْبِضُ اللهُ الَأرْضَ يَوْم القِيَامةِ، ويَطْوِي السمَاءَ بِيَمِينهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَّا الملِكُ، أَيْن مُلُوكُ الَأرْضِ " (¬3). ¬
وأخرجا مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَطْوِي الله عَزَّ وَجَلَّ السَماواتِ يَوْمَ القيامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَ بِيَدِه اليُمْنَى " (¬1). وهذا مثلُ الآية على التَّمثيل والتَّخييل. انتهى. وقال قبلَ هذا: وقال ابن عباس: الَأرْضُ والسماوات كلُّها بِيَمِينِهِ. وقال سعيد بن جبير: السَّماوات قَبْضَة، والأرْض قَبْضَةٌ. انتهى بحروفه. وفيه التَّصْريحُ بتصحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ، إذ لا طريقَ لَهُ إلى تَصْحِيحِ هذِهِ الأخبار إلاَّ ذلِكَ، لتصريحه (¬2) بتعذُّر معرفة (¬3) ذلِكَ في عَصْرِه، وفيه الرِّواية عَنْ أبي هريرة، وتصحيحه حديثَه، وفيه تصحيحُ مثل هذا منَ المتشابه، وقد وَهِمَ في إيهامِهِ أنَّ الرِّوايَةَ " يطْوِي السمَاءَ " مِنْ دون جَمعٍ، فإنَّ الرِّوايَة " السماوات " رواه البخاري في التفسير، وفي التَّوحيد (¬4)، ذكره المزِّيُّ في ترجمة عبد الرحمان بن خالد، عنِ الزُّهري، ¬
عن أبي سلمة، عن أبي هُريرةَ، وابنِ الأثير في " جامعه " (¬1)، وقصَّر في ترك رِوَايَةِ ابنِ مسعود، وابنِ عباس، ورواية ابن مسعودِ في البخاري ومسلم (¬2)، وابن عباس في " الترمذي " (¬3)، وقال: حسنٌ غريبٌ ¬
الوجه الثاني: أن كلام السيد حجة عليه لا له
صحيحٌ، والمعنى متقاربٌ، ورواية البخاري " السماوات " في التفسير أولى من رواية " السَّماء " في التوحيد، لأنها زيادةٌ ومطابقة للقرآن ولسائِرِ الأحاديث الصَّحيحَة. ونسب المِزِّي رواية " السماوات " بالجمع في حديث أبي هريرة إلى البخاري ومسلم معاً في ترجمة يونس، عن الزهري، عن ابن المُسيِّبِ، عن أبي هريرة، من " الأطراف " (¬1) وفيه تسامح، والذي في " البخاري ": " السماوات " في التفسير، وهي روايةُ عبد الرحمان بن خالد عن الزُّهري، والأخرى روايةُ يونس بن يزيد عنه في التوحيد والرِّقاق معاً، وليونس منكراتٌ دونَ عبدِ الرحمان، ويدلُّ على وهم يونس عن الزُّهري في هذا الحديث، أنَّه رواه عنه عن (¬2) ابن المسيب عن أبي هريرة، وعبد الرحمان بن خالد بن مسافر رواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال البخارِيُّ: وكذلك رواه شعيب، والزبيدي، وإسحاق بن يحيى. وقد كان يونُس يَغْلَطُ فيما يرويه مِن حفظه فدلَّ على أنَّ رِوَايَةَ عبد الرحمان: " السماوات " أصحُّ؛ لموافقَةِ القُرْآن وسائرِ الأخبارِ، ولظُهُورِ عدمِ حفظِ يونس هذا الحديث خُصُوصاً. الوجه الثاني: مِنَ الجواب أنَّ كَلامَ السيدِ حُجَّةٌ عليه لا له؛ لأنَّا قد ¬
قوله قال: لأن روايتهم لا تخلو من ضعف، وإنما تقبل عند عدم المعارض
بيَّنَّا فيما تقدم أنهم قد أجمعوا على صِحة الرجُوعِ إلى هذِهِ الكُتب، وأن ذلك قد شاع فيما بينهم منْ غيْر نكيرٍ، وهذا إجماعُ ظَنَيٌّ سكوتي، وقد كنتُ علَّقْتُ إشكالاتٍ ترد على السَّيِّد في كلامهِ في هذا الموضِع وغيره في هذه المسألة، ثم إنَّي ترجَّح لي الاختصارُ وذكْر ما تَمسُّ إليه الحاجة. قال: لأن روايتهم لا تخلو مِنْ ضعفٍ، وإنما تُقْبل عنْد عدم المعارِضِ (¬1). أقول: هذا قَصْرٌ للعدالَةِ على الأئِمَّة عليهم السلام، وهذا غُلُوٌّ لم يُسْبَقِ السَيِّدُ إليه (¬2)، ولو كان ما ذكره صحيحاًً، لوجَبَ في الشُّهودِ أن يكونوا أئمةً، وهذا يؤدِّي إلى وجوب أربَعَةِ أئِمَّة في شهادة الزِّنى (¬3)، وإمامَيْنِ في الشهادة على الأموال. فإن قال: هذا تشنيعٌ لم يَقْصِدْه. قلت: فلْيحْفَظْ لِسَانَه عمَّا يقتضي ذلِكَ، ويتنكَّبْ عن هذِهِ المسالِكِ، فإنَّ الواجبَ على العاقلِ أن يَزُمَّ لِسَانه، وَيزِنَ كلامَهُ، وقَدِ اشتمل كلامُه على ثلاثِ دعاوي: إحداها: ما تقدَّمَ منْ قصر العدالَةِ على الأئمَّةِ. الدعوى الثَّانية: أنَّ الضَّعْفَ لا يَدْخُلُ في حديث الأئِمَّة، والجوابُ عليه أنَّ حديث الأئِمَّة مشحونٌ بحديثِ مَنْ ضعفتَ (¬4)، فلَزِمَ أن يدْخُلَه الضَّعيف بالضَّرورة والمقدِّمتان (¬5) ضرورِيَّتان عنْدَ البَحْث. ¬
قوله: قال: لأنها رواية عمن لا تعلم عدالته ولا نزاهته عن فسق التأويل
الدعوى الثالثة: أنَّ الضعيفَ مقبولٌ عنْدَ عَدَمِ المعارِض، وهذا مُجرَّدُ دَعوى مِنْ غيرِ دليل، وهو مكثرٍ مِنْ أمثال هذا، حتى كِدتُ لا أستنكرُهُ منه. قال: لأنَّها روايةٌ عَمَّنْ لا تُعْلَمُ عدالَتُه ولا نزاهَتُه عَنْ فِسْقِ التَّأويلِ. أقول: هذه دعوى على الأمَّةِ بالجهلِ بذلكَ، وهي غيرُ مقبولَةٍ، فإن ادَّعى أنَّهُ جاهِلٌ بذلِكَ، ولم يَدَّعِ ذلكَ على غيرِه، فهذا مُسَلمٌ ولا يَضُرُّ تسليمُه، وقد تقدَّم منه مثلُ هذا في المسأَلَه الأولى، وتقدَّم الجوابُ عليه، فخذهُ مِن هناك. قال: هذا إذا كان النَّاظِرُ في الحديث مجتهداً، أمَّا إذا كان غير بالِغٍ رُتْبَةَ الاجتهاد، فليس له أن يُرَجِّح بهذا الحديثِ قولاً، ويجعَلَهُ مختارَهُ، وإنْ كان الخبرُ نَصَّاً في ظاهِرِ الحال، لأنَّ التَّرجيحَ بالخبر إنَّما يكونُ بعد معْرِفَةِ كَوْنهِ صحيحاًًعنِ الرَّسُولِ، ولا يكونُ صحيحاً حتى يكونَ رَاوِيهِ عَدْلاً، والعدالَةُ غيرُ حاصلَةٍ كما سنذكره. أقول: هذا الكلام كلُه (¬1) قِشْرٌ ليس فيه لُبابٌ، ومجرَّدُ دعوى لا تفْتَقِرُ إلى جوابٍ، لأنَّه بناه على دعْوى عدَمِ العدالةِ وجعل الاستدلالَ عليها حَوَالَة، فالواجبُ (¬2) تأخيرُ الجوَابِ حتَّى يأتيَ ما وعد به منَ الدّلالَةِ. قال: ولأنه لا يُرجّحُ بالخَبرِ حتَّى يعلمَ أنَّه غيرُ (¬3) منسوخ، ولا مُخَصص، ولا مُعارَضٍ بمَا هُوَ أقوى مِنْ إجماعٍ أو غَيْرِهِ. أقول: هذا الذي ذكره لا يجبُ على المجتهدِ عنْدَ أحدٍ مِن أهلِ ¬
البيت عليهم السَّلامُ، ولا عِنْدَ أحدٍ من جماهيرِ أهل (¬1) الإسلام، وهو مذهبٌ شاذٌّ مهجورٌ، قَدْ رَدَّ عليه العلماء الجمهور، وقد مَرَّ تقريرُ الدليل على بُطلانه، وأنه لا سبيلَ إلى العلم بعدم الناسخ والمُعارِض والمُخَصص، وإنما اختلَفَ العُلَماءُ في وُجُوب الظن لعدم تِلْك الأمور في حقِّ المجتهدِ فقط، ولا أعلمُ أن أحداً شرط ذلِكَ فيٍ ترجيح المُقَلِّدِ، ولا سبق السَّيِّد أحد إلى ذِكْر هذا، وإنما اختلفَ العُلَمَاءُ، هل يجب الترجيح على المقلدِ فيما يفيد الظَّن؟ ولم يختلفوا في جوازِ ذلِك وحسنه، وإنما اختلفوا في وجوبه معَ اتِّفاقهم على أنَّه زيادَةُ في التحري، فلا يخلو السيد إما أنْ يُقِرَّ بأن (¬2) الترجيح به يفيد الظن. أو لا إنْ قال: إنَّه لا يفيد الظن فذلك مدفوع، لأنَّ الظنَ يحْصُلُ بخبر الثقةِ منْ غيرِ تَوَقُّفٍ على العِلم بفقدِ المعارِض والنَاسخ والمخَصَصِ، ووجودُ (¬3) الظنّ عِنْد خَبَرِ الثِّقَةِ ضَرُورِي، ولو كان ظن مدلولِ الخبَر النبَوي يتوقفُ على ذلكَ، لتوقف (¬4) الظَنُّ على ذلِكَ في سائر الأخبار، فكانَ يجبُ إذا أَخْبَرَنَا ثقة بوقوعِ مَطرٍ، أو قُدُومِ غائِب، أو نفْعِ دَوَاءٍ، أَلاَّ نَظنَ صِحتهُ حَتَّى نَطْلُب المعَارِضَ والمُخَصِّصَ، بل يلزمُ إذا أفتى المفتي، ألاَّ تُقْبَلَ فتواهُ حتَّى نَطْلب معارِضَها مِنْ غَيْرِه، وكذلِكَ إذا سمعنا المؤذِّنَ أنا لا نَظُنُّ صدقَهُ، ولا نأْخُذ بخبَرِه حَتَّى نطلبَ المُعارِضَ، وكذلِكَ إذا شَهِدَ الشَّاهدانِ. وإما أنْ يُسَلِّمَ السيِّدُ أن الظنُّ يحصُلُ بالخَبرِ الصحيح، فالدليل على وُجوبِ الترجيح به وجهان: ¬
قوله: قال: ولأن الترجيح بالأخبار اجتهاد
الوجهُ الأولُ: أنَّ مخالَفتَهُ قبل طَلبَ المعارِض وغيرِه تقتضي المضرَّة المظنونَة، ودفْعُها واجِبٌ، والطلَب يحتاجُ إلى مُهْلةٍ، ففي تلك المهلَةِ إمَّا أنْ يُوجبَ مخالفَتَهُ، أو يُوجبَ العَمَلَ به، الثاني: هُو المطلوبُ، والأول يقتضي تحريمَ دفعِ المضَرةِ المظنُونَةِ (¬1) عَنِ النَفْسِ، وهذا عكسُ المعقول، وقبيح بالضَّرُورة. وبعد، فإن الدليل على وُجُوبِ العمل بخبرِ الواحد قائِم قَبْلَ الطلبِ لهذِه الأمور، وقبل الظنِّ لعدمها، كما هو قائِمٌ بَعْدَ ذلِكَ. فإنْ قلتَ: فَهذا يقتضي عَدمَ إيجابِ البَحْثِ عَنِ المُعَارِضِ والنَّاسخِ والمخصِّصِ في حقِّ المجتهدِ. قلت: هو كذلِكَ، وفي المسأَلةِ خلافٌ مشهورٌ، وظاهرُ حديثِ معاذٍ يقتضي عدَم إيجابِ الطَّلَبِ، وقد مَرَّ كلام الشيخ أبي الحسين في ذلك حين ذكرتُ حديث معاذٍ (¬2)، والاستدلال به على أنَّ الإحاطَةَ بالأخبار لا تجبُ على المجتهد، وذلِك في المسألة الأولى، فإنْ دل الدليل على تخصيص المجتَهِدِ بِوُجُوبِ الطلَبِ، فهو خاصٌّ به، وإن لَمْ يدُل دليل على ذلِكَ، فالمسألَةُ نَظَريَّةٌ ولا اعتراضَ فيها على مَنِ (¬3) اختارَ أحدَ المذهَبَيْنِ. قال: ولأن الترجيح بالأخبار اجتهاد؛ لَأنَّه يَفْتقِرُ إلى أصعبِ عُلُومِ الاجتهادِ، وهو معرِفَةُ الناسخِ والمنسوخ وغيرِ ذلِكَ، والفَرْضُ أنَّ هذا الناظِرَ مقلدٌ. أقول: هذا الاحتجاج ضعيف بمَرَّةٍ، لأنَّه لا رابطَةَ عقلية بَيْنَ ¬
قوله: قال: فهل يستنتج العقيم ويستفتى من ليس بعليم؟
الاجتهاد وبيْنَ بعض علومِهِ، سواءٌ كان أصعبَها أو أيسرَها، فليسَ بعضُ شرائط الشيْء إذا تَصَعبَ، كان ذلك الشيْءُ المشروطُ، ألا تَرى أنه لا يُقال: إن الطهور في الماء الشديدٍ البَرْدِ هوَ الصَّلاةُ، لأنَّه أصعبُ شروطِها، ولا يُقالُ: المشي إلى مَكة المشرفَةِ هوَ الحَجُ، وكَذلِك مَعْرِفَةُ الأخبار لا يقال فيها: إنَّها اجتهاد، لأنَّها أصعبُ علومِ الاجتهاد (¬1)؟ وهذِهِ الحُجَّةُ غلطية أو غِلاطية؛ لَأنَّ الاجتهادَ المذكورَ في الدَّعوى إمَّا أَنْ يرادَ بِه الاجتهادُ في العِلْم العرْفي، فذلِكَ غلَطٌ واضِحٌ، والدَّليل على ذلِكَ أنَّ مُجَرَّدَ التَّرجيحِ بالأخبار (¬2) معْ فَرْضِ التَقليد، إما أنْ يكونَ صحيحاًً كما نَصَّ عليه المُؤَيَّدُ بالله، فلا شُبْهَة في (¬3) أنه لَيْسَ باجتهاد، لَأن الفرضَ وقُوعُه مِنْ غيرِ مجتهدٍ، والاجتهادُ لا يَقعُ منْ غيرِ مجتهدٍ. وأما إنْ كان الترجيحُ بالأخبار باطلاً مِنْ غير المجتهدٍ كما زعمَ السَّيدُ، فإن الترجيح حينئذٍ يكونُ اجتهاداً حقيقيّاً، لكنَ الترجيح الصحيح إذا لم يَكُنِ اجْتِهاداً، فالترجيح الباطِلُ أولى وأحرى أن لا يكونَ اجتهاداً. وأمَّا إنْ أرادَ بالاجتهاد المذكور في الدعوى الاجتهادَ اللغَوِيٌ، فمُسَلمٌ أنَّ الترجيحَ بالأخبارِ اجتهادٌ لُغَوِيٌّ، كما أن الصَّلاةَ اجتهادٌ لُغوي، لكن الاستدلال به في هذه المسألة يوهِم أن المُتَكلمَ به أراد الاجتهادَ الاصطلاحِي، وهذه مغالطَةٌ ظاهِرَة. قال: فهل يستنتج العَقِيمُ، ويُسْتَفْتَى مَنْ ليس بعليمٍ؟ أقول: الجواب على هذا مِنْ وجوهٍ. ¬
الوجه الأول: أن كلام السيد في المسألة الأولى دال دلالة واضحة على أنه يدعي أنه غير مجتهد، بل يدعي أنه لا مجتهد في الزمان
الوجه الأول: أن كلامَ السيد في المسألة الأولى دالٌّ دِلَالَة واضِحَة على أنَّه يَدَّعِي أنَّه غير مجتهِدٍ، بل يدعي أنَّه لا مجتهدَ في الزَّمان، ثُمَّ إنَّهُ لما بلغَ في كتابه إلى الجَهْرِ والإِخفات بالتسْمِيَةِ إلى (¬1) التَّأمين، ووضع اليمنى على اليُسرى، أَخذ يُرَجِّحُ بالأخبار، ويسبحُ في بحرِها الزَّخَّارِ، مع اعترافِهِ أنه منَ المقلِّدين، وغُلُوِّه في القَوْلِ بعدمِ المجتهدين، فما بَالُهُ -أيَّدَهُ اللهُ- أنتج وهو عقيمٌ، وأفتى وليس بعليم، وقد قال الحكيم (¬2): لا تَنْهَ عَنْ خُلُق وتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عارٌ عليْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ الوجه الثاني: أن نَقول: ما مُرَادك بهذا الإنتاج، هل إنتاجُ الاستدلال الذي لا يَصِحُّ إلا مِنَ المجتهدين، أو ادعاءُ الترجيحِ الذي ادعى خَصْمُك أنَّه يَصحُ مِنَ المقلدين إنْ كانَ الأول، فليسَ فيه نزاع، وإنْ كان الثاني، فليس يَبْطل بِمُجَرد الإسجاع، فَهَلُمَّ الدليل، وتَنَحَّ عَن (¬3) التَّعويلِ على مُجَرَّدِ التَّهويلِ. ¬
الوجه الثالث: أن نقول: ما قصدك " ويستفتى من ليس بعليم
الوجه الثالث: أنْ نقولَ: ما قصدُك " ويُستفتى مَنْ ليْس بعَلِيم "؟ هل قصدُكَ السجْعُ في الكلام، أو (¬1) الإفحامُ للخصمِ والإلْزَامُ؟ إنْ كانَ الأول، فالبُلَغَاءُ لا يستطيبون مِنَ الأسجاع مواردَها إذا كانت تنْقُضُ مِن المذاهب قواعِدَها، فهي تصلُحُ زينَةً للحُجَجِ الصحيحة، فمتى أفسدَتْها، كانت عِنْدَ البُلغاء قبيحةً، لكن سَجْعَ السيِّدِ هذا يهْدِمُ قواعدَه، ويخالِفُ مقاصِدَه، لأنَّه هُوَ الذي أجاز للْمُقَلِّدِ العقيمِ أنْ يُفْتِىِ وليس بعليم، وفي نُصْرَةِ هذا المَذْهبِ أنشأ هذِهِ الرِّسَالَة، وأعادَ وأبدا في نُصْرَةِ هذِهِ المقالَةِ وإنْ كان السَّيِّدُ قال ذلِكَ الكَلاَمُ عَلَى سبيلِ الإفحام لِخَصْمه والإلزام، فقد عادَ الإلزامُ أيضَاً إِلَيْه، وخَرَجَ الاحتجاجُ مِنْ يديه؛ لأنَّه الَّذي قضى بفقد المُجْتَهِدِينَ، وحَكَمَ بمرتَبَةِ الفتْيَا للمُقلِّدِينَ، واقتبس النَّارَ مِنَ الماءِ، والأنوارَ مِنَ الظَّلْمَاءِ، وأنتج العقيمَ، واستغنى عنِ العُلماءِ بمَنْ ليس بعليمٍ، وخَبَطَ مِنَ المناقَضَةِ في ليلٍ بهيم، وسَلَكَ مِنَ المماراة في صراط غير مستقيم، فبطلت حُجَّتُهُ واضْمَحَلَّتْ، وجاء المثَلُ: " رَمَتْني بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ " (¬2)، وقد أجمعَ العلماءُ قديماً وحديثاًً أنَّ التَّقليدَ ليس بِعِلْم، والمقلِّد ليس بعالِمٍ، فكيف تصدَّرَ السَّيِّدُ للتَّدريس والفتوى والمناظَرَةِ والتَّصنيف، وأنْكر على محمد بن إبراهيم التَّرجيح بالأخبار؟ زاعماً أنَّ ذلِكَ يؤدِّي إلى أنْ ينتجَ العقيم، ويُفتي مَنْ ليس بعلمٍ، مُصَدِّرَاً ¬
قوله: قال: وأنا أضرب لهذا مثالا
لكلامه بـ " كيف " الإنكارية، مُصَوِّراً لِذلِك في أبعد المجالاتِ العادِيَّةِ، وهو وِلادَة العقيم الذي لا تَصِحُ ولا تستقيمُ، وهذا يقتضي أنَّه هُوَ العَقِيمُ الولود والظِّئْرُ الودود، فليت هذا المجالَ صَدَرَ مِنْهُ في نادرٍ مِنَ الأحوالِ، وما ذاك إلاَّ أنَّه لما غفَلَ أن هذا منْ عُيوبِهِ، وتوهَّم أنَّ هذا مِنْ عُيوبِ صديقِه، أكثَرَ عليه مِنَ الصِّياح، وناحَ بِهِ أشَدَّ النُّواح، وزَيَّنَ الكلامَ في عيْبِ الصَّدِيقِ وَسَجَعَهُ، وما أدري ما جرَّأةُ على ذَلِكَ وَشَجَّعه: وَلمْ تَزَلْ قِلَّةُ الإنْصَافِ قَاطِعَةً ... بَيْنَ الرِّجَال (¬1) وَلَوْ كَانُوا ذَوِي رِحمِ قال: وأنَا أضْرِبُ لهذا مثالاً بعَوْنِ اللهِ تعالى، فأقول: أمَّا كلامُ المؤيد بالله، فمرادُه: إذا قدَّرنا مقلداً عارِفَاً بالتَّرجيح في خبرين صحيحَيْنِ قد ظهر عدالَةُ رُوَاتِهِمَا واستواؤهم، أو في آيتين، فيرجَّحُ بينهما، إلى آخر كلامه. أقول: في كلام السيدِ هذا أنظار. النظر الأول: أنه تعرَّض لتفسير كلامِ المؤيَّد باللهِ مِنْ غيرِ غَرَابَةٍ في ألفاظِهِ ولا تَجَوُّز ولا اشتراك، ولا قصورٍ في عبارته، فنقول للسيِّدِ: ما مرادُك بتفسير كلام المؤّيدِ؟ هل تقريره أو تأويله؟ إنْ كان الَأوَّلُ، فحبَّذا، ومَنْ لَنَا بِذَا؟ وإنْ كانَ الثَّاني، فَلِكلامِ المؤيّدِ دُهورٌ طويلَةٌ، وقرونٌ عديدَةٌ، وقد مَرَّ عليه مَنْ هُوَ أَغضُّ مِنَ السيِّد بالنواجِذِ على الحقائق، وأغوصُ منْهُ على جواهِرِ اللَّطائف في بحار الدَّقائق، فلم يُنْقَلْ عَنْ أحدٍ أنَّه تعرَّض لذلِك، وأقربُ من فيه للسَّيِّدِ قدوَة، وَلَهُ بِهِ أُسْوَة القاضي شرفُ الدِّين، فإنَّه ذكر كلامَ المؤيّدِ في تعليقه على الزِّيادات، وقرَّره على ¬
ظاهِرِهِ، وقال: هذا مذهبُ المؤيد بالله عليه السلام، مع أنَّه -رحمَهُ اللهُ- كان في هذا الفَنِّ أرسخَ قَدَماً، وأَشْمخَ عِلْمَاً، وأنا أورِدُ كلامَ المُؤيَّد بالله في الزِّيادات، لِتَعْلَمَ أنَّه ظاهرٌ، ولا يحتاج إلى شرحٍ وتأويلٍ صحيحٍ لا يفتقر إلى تمريض وتعليل. قال عليه السلام ما لفظه: فصل فيما يجبُ على العامي المستفتي، وما يكون الاشتغال به أولى مِنَ العلوم عندي أنَّ التَّنقير والبحث واجبٌ على العاميِّ، فإنْ كانَ مِمَّنْ لهُ رُشْد، وثبت له وجهُ القُوَّة بين المسألَتَيْنِ، أَخَذَ بأقواهما عنده، وإن لم يكن له رشد، فلا بُدَّ أنْ يَنْظُرَ في الترجيج بين العُلماء، ويطلُبَ ذلِكَ، إلى آخرِ كلامِهِ عليه السلام في هذا الفصل، وهذا (¬1) هُوَ الَّذي ذهبتُ إليه قد نَصَّ المؤيَّد بالله عليه السلام، وكذلِكَ نصَّ عليه الإمامُ الدَّاعي يحيى بنُ المُحْسِنِ (¬2)، فقال ما لفظه: مَن انتهى في العلْمِ إلى حالةٍ (¬3) تُمَكِّنُهُ الترجيحَ بين الأقوال، وجبَ عليه استعمالَ نَظَرِهِ في التَرجيح، وإنْ لَمْ يبْلُغْ دَرَجَةَ الاجتهاد. تمَّ كلامُ الإمامَ الدَّاعي بلفظِهِ. والعجبُ مِنَ السيدِ أنَّه يحتالُ على مُخَالَفَتي للَأئِمَّة، وإن وافَقْتُ النُّصوصَ، ويتمحَّلُ ما يُخرجُني إلى أطراف العامَّة، وإن توسطتُ في عقد الخُصوص، وقد ظهر أنِّي موافِقٌ للمؤيَّد بالله والداعي إلى الله في مذهَبِهِمَا، وكفى بِهِمَا سلفاً صالحاً، مع أنه قد وافَقَهُما على ذَلِكَ غيرُهما ¬
النظر الثاني: أن السيد في كلامه هذا قد أجاز الترجيح بالأخبار لبعض المقلدين
مِنَ العُلماءِ، منهم النَّواوي، وابن الصلاح وغَيْرُهما، وقد ذكر ذلك النواوي في " شرح المهذب " (¬1)، وذكره شيخ النواوي العلامةُ عِزُّ الدينِ بنِ عَبْدِ السَلام في كتابه " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (¬2)، وتعجَّبَ مِنْ مُنْكِرِهِ مِنْ أهل التَّقليد بكلِّ عَجَبٍ، ولا حاجة إلى نقل كلامِهِم مع وُجودِ كلامِ المؤيَّد والدَّاعي عليهما السلام. والسيِّدُ مُدَّعٍ في ظاهرِ حالِهِ أنَّه موافِقٌ للجمهورِ، وأنَّ مذهبَ خَصْمِهِ شاذٌ مهجورٌ، فيجبُ منه أن يُرِيَنَا مَنْ وافَقَه على قوله بتحريمِ الترجيح بالأخبار (¬3)، وَلَوْ مِنَ الجُمهورِ واحداً، ومن العالَم (¬4) عالِمَاً. النظر الثاني: أنَّ السيدَ في كلامه هذا قد أجاز التَّرجيح بالأخبار لبعضِ المُقَلِّدين بعد أنْ كان قال: إنَّ ذلِكَ يُوجِبُ كونَ المُرَجِّح بها مِن المجتهدين، وهذِه مناقَضَةٌ ظاهِرَة. النَّظر الثالث: أنِّي لَمْ أُوجِبِ الترجيح بالأخبار على جميع المكلَّفين مِنَ العامَة مِنَ العبيد والنِّساء والزُّراع والصُّنَّاع والبُلَدَاءِ، وإنَّما أصل (¬5) كلامي في كتابي الذي أجابَه السَّيِّدُ أنَّه يِجوز لي العملُ بالحديث الَّذي ¬
الئظر الرابع: أن نقول للسيد: أخبرنا عن هذه المسألة، هل هي عندك قطعية أو ظنية
عرفتُ صِحَّتهُ، وغَلَبَ عَلَى ظَنِّي قوَّةُ المذهبِ الذي هو نصَّ فيه، ثم أتبعتُه بِذِكْرِ التَّرجيح في المذاهب، وأنَّ مذهبنا جوازه، وذكرتٌ ما فيه منَ الاحتياط للإجماعِ على حُسْنِ فِعْلِهِ، والاختلافِ في حُسْنِ تَرْكهِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ مُرادي بالترجيح بالأخبار الترجيحُ مِنَ المميِّزين الذين يُمْكِنُهم ذلك، لأنَّ السَّامِعَ للحديث بعد معْرفَةِ الاختلاف بين العُلماء في الحادِثَةِ، إمَّا أنْ يفيدَه سماعُ الحديث ظنَّاً لقوَّة أحدِ (¬1) المذاهب أو لا، إنْ لم يحصل لَهُ ظَنٌّ، فليس سماعُه للحديث ترجيحاً بالإجماعِ، ولا عمَلُه (¬2) بمقتضاه مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ لقوَّته ترجيح، وكلامي إنَّما هو في التَّرجيح بالحديث، لا في العمل عِنْدَ سماعِهِ على جهة الاتِّفاقِ والشَّهْوة. وأمَّا إنْ حصل له عند سماعه ظنٌّ قويٌّ يفيدُهُ أنَّ بعضُ المذاهب قويٌّ وبعضُها ضعيفٌ، فإنَّ ذلكَ يُوجِبُ التَّرجيح لمَا تقَدَّمَ. النَّظر الرابع: أنْ نَقُولَ للسيد: أخبرنا عَنْ هذه المسأَلَةِ، هل هِيَ عندك قطعيّة أو ظنِّيَّةٌ؟ وإن كانت ظنِّيَةً، فما معنى التَّرسُّلِ على من قال بها، والتَّشنيع في ذلك؟ وإنْ كانت قطعيَّةً، فأين الأدلَّة ُ القاطِعَةُ، والبراهين السَّاطِعةُ؟ وما بالكَ تُورِدُ الكلامَ مكشوفَ العَوْرَةِ من لِبَاسِ الأدلة ِ، عاطِلَ العُنُقِ مِنْ حِلْيَةِ الحُجَّةِ؟ ثُمَّ إنَّها إنْ كانت عنذك قطعيَّةً، لَزِمَكَ تأثيمُ المؤيَّدِ باللهِ، وتأثيمُ المخالِفين لكَ من سائِرِ عُلماءِ الإسلام. النظر الخامس: أنَّه وعد بضربِ مَثَلٍ، ولم يأتِ بما يَصْلُحُ أن يُسَمَّى مثلاً مضروباً عِنْدَ البُلغاءِ، والله أعلمُ. ¬
قوله: قال: فأما أن يكون له في كل مسألة أن يرجح ويخرج عن مذهب من كان قلده فالصحيح أن عليه التزام مذهب إمام معين، واحتج بوجوه: أحدها: بالإجماع
قال: فأمَّا (¬1) أن يكون لَهُ في كُل مسأَلَةٍ أن يُرَجَّحَ ويخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ كان قلَّده، فالصَّحيحُ أنَّ عليه التزامَ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، ذَكرَهُ المنصورُ بالله، والشيخ الحسن، والشيخُ أحمد بن محمد، واحتجَّ لهم بوجوه. أحدُها: بالإجماع وهو أنَّه لا يُعْلَمُ أحد مِنَ المقلِّدين يَتَردَّدُ بَيْنَ مذاهِبِ عُلمَاءِ الإِسلام المتقدِّمين منهُم والمتأخِّرين، ففي مسألة يقلِّدُ أبا بكرٍ، وفي أُخرى عمر، وفي ثالِثَةٍ ابنَ عبَّاس، وفي رابعة ابنَ مسعودٍ، وهَلُمَّ جَرَّاً، ولا منْ يكون مقلِّداً لطاووس، وعطاء، وللحَسَن، والشّعبي، ولابن المسيِّب، ولغيرهم مِمَّن وراءَهم، فقلَّد في كُلِّ مسألة إماماً في أبوابِ الفقهِ ومسائِلِهِ جميعاً، ولا مَنْ يكون حَنَفِيَّاً في مسألة، شافِعِيَّاً في أخرى، مالكيَّاً حنبليَّاً هادويَّاً ناصرِيَّاً في مسألة مسألة هذا ما وَقعَ ولا عُلِمَ به، ولو وقع في زماننا، لأنكرَهُ النَّاسُ. أقول: ضَعْفُ كلامِ السيِّدِ في هذا يتبيَّنُ بأنظار. النظر الأول: أنَّه مَنَعَ مِنْ جوازِ التَّرجيح للمقلِّدِ في كُلِّ مسألة، وظنَّ أن المنصور، والشَّيخ الحَسَنَ منعا مِنْ ذلك لإيجابِهِمَا التزامَ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، وليس كما توهَّم السيدُ، فبينَ المسألتيْنِ فرقٌ واضحٌ، لَأنَّ المنصور عليه السَّلامُ إنَّما أوجب التزامَ مذهبِ الأعلمِ الأفضلِ، لَأنَّ الظَّنَّ بِصِحَّةِ قولهِ أقوى، قال المنصور (¬2) عليه السَّلامُ ما لفظه: ومتى اتَّفق أهل العلمِ والاجتهادِ في الفتوى، وَجَبَ على المستفتي قَبُولها بلا خلافٍ في ذلِكَ، وَإِن اختلفوا، وجبَ عليه عندَنا الاجتهادُ في أعلمِهِم وأديَنِهِمْ، وطلبُ الأمارَاتِ على ذلِكَ، لأنَّ ذلِكَ يُمْكِنُه وَهُو مُقَوٍّ لظنِّه، وقد تقرَّر وجوبُ ¬
النظر الثاني: أنا نبين أن مذهب المنصور هو ما ذكرنا
طَلَبِ الظن الأقوى لِمَنْ يمكنُهُ العلمُ، وأنَّه لا يجوز العدولُ عنه إلى الظن الأضعفِ مع التَّمَكُّنِ منَ الظن الأقوى، إلى آخِرِ كلامِه عليه السلام. ومَنْ نَظرَ في كلامِهِ هذا، ظهرَ لَه أنَّه أكثرُ مناسبةً لكلامي؛ لَأني تمسَّكْتُ بما نصَّ على وُجوبه من اتِّباع الظَّنُّ الأقوى، وتحريم العمل بالظن الضَّعيفِ، وأنا وافقتُ المنصورَ عليه السلامُ في المعنى، والسَّيِّدُ وافقه في الصُّورَةِ، وتوهَّم أنَّ الموافقَةَ في الصُّورَةِ أرجحُ مِنَ الموافَقَةِ في المعنى، وهذا غلط واضِحٌ، فإنَّ المُوافَقةَ الصُّوريَّة لم يَردِ التَّعبُّدُ بها إلا مُتابَعَةً للموافقةِ المعنَويَّة، والموافَقةُ المعنويَّةُ هي المقصودَةُ، ومثالُ ذلِك أنَّ الواحِدَ مِنَّا لو تزوَّج تِسْعَ نساءٍ على الجمع، لكانَ مُوافِقَاً للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصُّورة، ولكنَّه لمَّا كانَ مُخالِفَاً في المعنى، حَرُمَ ذلِكَ، وكذلكَ المرأةُ لو سترت مِنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَة، وكَشَفَتْ ما عدا ذلك، لكانت موافقةً للنَّبِي عليه السَّلامُ في الصُورَة؛ لكِنها مخالِفَةٌ له في المعنى، وأمثالُ هذا كثيرةٌ (¬1)، وقد يغترُّ كثيرٌ مِنَ المقلِّدين بالصُّورة. النَّظر الثاني: أنَّا نُبَيِّنُ أنَّ مذهبَ المنصُورِ بالله عليه السلام هوَ مَا ذكرنا بطريقة التَّخريج (¬2) الصَّحيحَةِ الواضِحَةِ التي نَصَّ على صِحَّتِها الأئِمَّةُ. فنقول: قَدْ بَيَنَّا الدَّليلَ فيما تقدَّم، على أنَّ السَّامِعَ للحديثِ الصَّحيح مِنَ الثِّقة المُرْضِيِّ إنْ لم يَحْصُلْ لَهُ به ظَنٌ، لم يجب عليه التَّرجيحُ به، وإنْ حَصَلَ لَهُ مِنْه (¬3) ظَنٌّ راجِحٌ، وجب عليه العمَلُ به. وقد ¬
النظر الثاني: أني أذهب إلى ما ذهب إليه المنصور من وجوب التزام مذهب
نَصَّ المنصورُ بالله عليه السلامُ على أن العَمَلَ بالظن الرَّاجِحِ واجبٌ، والعمل بالظن الضَّعيفِ حرامٌ، فدلَّ على ما قلناهُ بعُمومِ قوله وظاهرِ لفظِه، والتَّخريج مِن العموم هو أرفَعُ درجاتِ التَّخريج وأصحُّها. فإن قلتَ: عمومُ كلامِه يقتضىِ وُجوبَ الالتزام (¬1) أيضاً. قُلْتُ: هذا لا يَصِحُّ لوجهين. أحَدُهما: أنه مُعَلَّلٌ بعلَّةٍ تقتضي تخصيصَه في هذه المسألة، وتُوجبُ فسادَ التَّمسُّكِ به في هذه الصُّورة، والتخريجُ على هذه الصورَةِ لا يجوز. الثاني: أنَّا لو سلَّمنا أنَّه عمومٌ سالِمٌ مِنْ هذه السَّائِبَةِ، لم يصحّ التَّخريج (¬2) منه مع وُجودِ العُموم الذي تمسكنا به، لأنَّهما تعارضا، وأحدُهما معلَّلٌ بِمَا يقتضي عدمَ التَّخصيص، والثاني غيرُ مُعَلَّلٍ، والمعلَّلُ أرجحُ، ومَع الرُّجحانِ لا يبقى ظَنٌ لمذهب العالِمِ، فلا يَحِلُّ نسبةُ المذهب إليه مِنْ غيرِ عِلْمٍ ولا ظَنٍّ، والله أعلمُ. النظر الثالث: أنِّي أذهبُ إلى ما ذهب إليه المنصُورُ بالله عليه السلام مِنْ وُجوب التزامِ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ في مسائِلِ الخلافِ متى غَلَبَ على ظَنِّ المقلِّدِ أنَّه أعلمُ وأورَعُ، ولا أرى خلافَ ذلِكَ، وليس قولي يناقِضُ هذِهِ الجُمْلَةَ؛ لَأنَّهَا عمومٌ معلَّلٌ بالرُّجحان، وخصِّصَت منها صورَة حَتَّى يظلَّ ذلِكَ الرُّجْحَان، بل حين انعكس، فصارَ الرَّاجِحُ مِنْ ذلِكَ مرجوحاً، والقويُّ ضعيفاً، وتخصيصُ العموم ليس بمناقَضَةٍ، فبانَ لكَ بهذا أنِّي قد وافقتُ المنصورَ والجمهورَ أوَّلاً وآخِراً، ودُرْت مع الحق ¬
النظر الرابع: أن السيد أراد أن ينصر الإمام المنصور، فاحتج له بما يتنزه المنصور من بناء مذهبه عليه. وقد وهم السيد في ثلاثة أوهام
كيفما (¬1) دار، وعملتُ بما يُوافِق نُصوصَ الأئمَّة الأطهار، وأدلَّةِ النُّقَّاد مِنَ النُّظَّارِ. النَّظر الرابع: أن السيد أراد أن يَنْصُرَ الإِمامَ المنصور بالله عليه السلام ويحتجَّ لَهُ، فاحتجَّ له بما يتنزَّهُ المنصورُعليه السلامُ منْ بناءِ مذهَبهِ عليه، واستنادِ أخبارِهِ (¬2) إليه، واتِّهامُ السَّيِّدِ أنَّ ذلِك هُوَ حُجَّةُ المنصور كالجناية على عُلومهِ الزَّاخِرَةِ، وأنظارِه الثَّاقِبَةِ، ولو أنَّ السيدَ أورد حُجَّةَ المنصور بنفسه التي ارتضاها لدليله، واختارها لمذهبه، كان أليقَ بالَأدَبِ، وأوفقَ عِنْدَ ذَوي الَأرَبِ، والمنصورُ عليه السلام غَنِيٌّ عنِ احتجاج الغَيْرِ لمذهبه بالحجَجِ الواهِيَةِ وبيانُ هذِهِ الجُمْلَةِ (¬3) يحصلُ بإيراد كلامِ السَّيِّد وبيانِ جوابه. قال السَّيَد أيَّده الله في الاحتجاج للمنصُورِ على وجوبِ الالتزامِ، ويحتجُّ لهم بوجوهٍ أحدها: بالإجماعِ، وهُو أنَّه لا يعلم أحداً مِنَ المقلِّدين يتردَّدُ بين علماءِ الإِسلام المتقدِّمين منهم والمتأخِّرين. فأقولُ: الاغترارُ بهذِه الشُّبْهَةِ، وادِّعاءُ الإِجماع في هذِهِ الصُّورة هَفْوَةٌ عظيمَةٌ، وزلَّة كبيرةٌ، وقد وَهِمَ السيد فيها ثلاثَةَ أوهامٍ. الوهم الأول: أنَّه عَوَّلَ على إجماعِ العامَّة المقلِّدين، وليس يُعْتَبَرُ بهم مع المجتهدين، فكيف بهم منفردين؟ وفي الحديث الصحيح المتَّفَقِ عليه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعَاً يَنْتَزِعُهُ، ¬
الوهم الثاني: أنا لو سلمنا أن إجماعهم صحيح لما دل على مذهبه
ولكِنْ يَقْبضُ العلْمَ بِقَبْضِ (¬1) العُلَمَاءِ، حَتَّى إذا لَمْ يُبْقِ عَالِمَاً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسَاً جُهَّالاً، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (¬2)، فهذا الحديثُ يقضي (¬3) بأنَّ العامَّة قَدْ يجتمعونَ على الضَّلالَةِ والإضلالِ. الوهم الثاني: أنا لو سلَّمنا أنَّ إجماعُهم صحيحٌ، لما دلَّ على مذهبه بفحوى ولا تصريحٍ، فإنَّ فِعْلَ الأمة دليلٌ على الجواز، لا على الوجوب (¬4)، وإنَّما يُسْتدَلُّ على الوجوب بأقوالهم، وكذلِك فِعْلُ النَّبِيِّ عليه السلامُ على القول المنصور في الأصول، وإنَّما وقع فيه خلافٌ لمَّا أَمَرَ اللهُ تعالى بالتَّأسِّي به واتَّباعِه في مُحْكَمِ القرآن، فأمَّا الأمة، فلا قائلَ بأنَّ إجماعَها على الفِعْلِ يَدُلُّ على وُجوبه، ومَنْ قال بذلك، احتاجَ إلى دليلٍ، وإنَّما جاء الدَّليلُ بعصمة الأمة عَنْ فِعْلِ الحرام، لا بعصمتها مِنْ فعلِ المُباح، فَمَا المانِعُ مِنْ إباحة ما فَعَلَتْ، كما أنَّ تركَها للشَّيْءِ لا يَدُلُّ على تحريمه، ولا يمنع مِنْ إباحَة ما تَرَكَتْ. الوهم الثالث: وَهم أنَّ المقَلِّدِينَ مُجمعون على الالتزام، وذلِكَ ¬
النظر الخامس: أن السيد ادعى أن التنقل في المذاهب ما وقع ألبتة
غَيْرُ صحيحٍ، بَلِ الأكثرُ منهم غيرُ ملتزم (¬1)، إن لم يكونوا كلُّهم غيرَ ملتزمين، وسيأتي بيانُ هذا قريباً. تنبيه: فلو أنَّ السيدَ احتجَّ بتقريرِ عُلماءِ الأمَّةِ للمقلِّدين على ذلِك، لَكَانَ أقرب، وإنْ كان لا يَسْلَمُ من هذين الوهمين الأخيرين، فوهمانِ خيرٌ مِنْ ثلاثَةٍ، وبعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعض، وحينئذٍ يتبيَّنُ ضعْفُ ما توهَّمَ السَّيِّدُ مِنَ الاحتجاجِ بِهذا الإجماعِ على وجوبِ الالتزام. النظر الخامس: أنَّ السيدَ ادَّعى أنَّ التَّنَقُّلَ في المذاهب (¬2) ما وقع البتَّة (¬3)، ولا عَلِمَ بِهِ، وأنَّ أحداً مِنَ المقلِّدينَ ما عَلِمَ أنَّه كان هادويّاً في مسألة، ناصريّاً في مسألة، ولا شافعيَّاً في مسألةٍ، حنفيَّاً في مسألة، وهذا منَ السَّيِّدِ إمَّا غفلَة كبيرَة، وإمَّا جَحْدٌ للضَّرُورةِ، فإنَّ أكثرَ أَهْلِ الزَمَانِ غيْرُ ملتزمِينَ لمذهب إمامٍ مُعيَّنٍ، وَقَدِ اشْتهر مذهبُ النَّاصِرِ في طلاقِ البِدْعةِ في بلاد الزَّيْدِيَّة اليمنيَّة، مع اشتهارهم بعدم التزامِ مذهبِ النَّاصِر، والعملُ بهذا ظاهِرٌ مِنْ كثيرٍ من المفتين والمستفتين، وكذلك العَمَلُ بمذهَبِ المؤيَّدِ بالله في كثيرٍ من البُيوع مشهورٌ عِنْدَ كثيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّمييزِ ليس بِمُلْتَزِمٍ لمذهب المؤيَّد ِ. والشَّافِعيَّةُ كذلِكَ لا يَقِفُونَ على مذهبِ الشَّافعيِّ في كثيرٍ من المسائلِ، حتَّى إنَّهم على غير مذهبه في الَأذان المتكرِّرِ كُلَّ يومٍ، فإنَّ مذهَبَهُ الجديد أنَّه لا يقال (¬4) فيه: الصَّلاة ُ خير مِن النَّوْمِ، والقولُ القديمُ ¬
عندهُم لا يجوز العملُ به (¬1)، وإنَّما عَمِلُوا في هذه المسألة بقول غيرهِ، ترجيحاً لمذهَبِ غيره لموافقة الحديث الوارد في ذلِكَ (¬2)، وهكذا عَمِلَتِ الشَّافِعِيَّةُ في مسائِلَ كثيرَةٍ خالف الشَّافِعِيُّ فيها (¬3) النصوص النبوية (¬4)، وقد ¬
النظر السادس: قول السيد: إن هذا لو وقع في زماننا لأنكره الناس، عجيب أيضا
ذكر ذلك النَّواوي في " شرح المهذب " وغيره. وقد يَعْملُونَ بغيرِ مَذْهبهِ لغيرِ ترجيحٍ، فيُصلُّونَ الجُمُعَةِ قبل بُلوغِ عددهم إلى الأربعين، ذكر هذا المعنى أبو بكر بن الخياط في فتاويه التي سأله عنها حيُّ الفقيهُ علي بن عبد الله رحمه الله. وكذلك الحنفيةُ لا يقفون على مذهب أبي حنيفة في المياه، ولا يكادُ يتهيَّأُ ذلك لهم في أسفارهم وكثير من أحوالهم، ولم نعلمْ أحداً في هذه الأعصار محافظاً على مذهب الهادي عليه السلامُ، ملتزمَاً له في جميع رُخَصه وشدائده. وبعدُ، فالقطعُ بأنَّ ذلك ما كان مِنْ قبيل دعوى علمِ الغيب، فليس يعلم جميع أفعال (¬1) العامة مِنَ الأمَة إلاَّ الله، ثمَّ إن فيهم مَنْ يفعلُ الكبائر، فَمِنْ أينَ عَلِمَ نزاهَتهم عن ذلك؟ فقولُ السَّيِّدِ: إنَّه ما وقع التَّنقُّل في المذاهب مِنْ أحدٍ مِنَ المقلِّدين، هكذا على الإِطلاق من غير استثناء لأحدٍ مِنَ العامَّة، ولا منْ أهل التَّساهد، ولا مِن المتقدِّمين، ولا منَ المتأخِّرين، خَلْعٌ لعُرْوَة (¬2) المراعاة كعادات أهل العناد، وغلوٌّ لم (¬3) يبلغه أحدٌ مِنْ أهل اللَّجاج. النظر السادس: قول السَّيِّد: إنَّ هذا لو وقع في زماننا، لأنكره النَّاس، عجيب أيضاً، لأنَّه إمَّا أن (¬4) يريدَ أنَّ هذه حُجَّة إجماعيَّةٌ، وهو الظَّاهر مِنْ كلامه، فهذا لا يصحُّ لأمور. ¬
النظر السابع: أن السيد جاوز حد العادة في الغلو
أحدها: أنَّ المعلومَ أنَّه واقعٌ، وما أنكره النَّاس، بل هُو الذي عليه الناس. وثانيها: أنَّه لو كان غيرَ واقع، لكان قوله: " لو وقع (¬1)، لأنكره النَّاسُ " دعوى على النَّاس. وثالثها: أنَّه في عُلالةٍ مِنْ كيفيَّة العلم بإجماعِ العُلماء، فكيف بإجماع الناس؟ ورابعها: أنَّه ادَّعى جهْل أهلِ زمانِنَا، ثم احتجَّ بإجماعهم، وإنَّما يحتج بإجماعِ المجتهدين. النظر السابع: أنَّ السيِّدَ جاوزَ حدَّ العادة في الغُلُوِّ، حتَّى ادَّعى على الإجماعِ على ما المعلومُ انعقادُ الإجماع على نقيضه، وذلك أنَّه ادَّعى الإجماعَ على الالتزام في زمن الصحابة والتَّابعين، واحتجَّ على ذلك بأنَّه لم يعلم أنَّ أحداً كان يقلد أبا (¬2) بكر في مسألةٍ، وعُمَرَ في مسألة، وابنَ عبَّس في مسألة، وابنَ مسعود في مسألة. فأقول: بَلِ المعلومُ بالضرورة أنه ما كانت العامة في زمن الصَّحابة متحزِّبَةً أحزاباً، متفرِّقةً فرقاً عَلَوِيَّة، وبكريَّة، وعمريَّة (¬3)، وعثمانيَّة، وعمَّارية ومُعاذية، نسبة إلى عليٍّ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعمار، ومعاذ، ونقول للسيِّد: أخْبِرْنَا عَنِ العامة وقت الصحابة، هل كانوا ملتزمين لمذهبِ إمام واحد لا يستفتون سواه، ولا يَرْجِعُونَ إلى غيره؟ فهذا يقتضي أنَّه ما كان في الصَّحابة إلا مفتٍ واحد. ¬
قوله: قال: الوجه الثاني: أنه لا يتميز على هذا الوجه المجتهد من المقلد
فإن قلت: إنَّ العامَّة كانوا متفرِّقين فِرَقَاً، مثل افتراق النَّاس في هذه الأعصار الأخيرة، فأيُّ البواطل تَرْتَكبُ على هذا؟ أتقول (¬1) بأنَّ كُلَّ مفتٍ مِنَ الصحابة كان له أتباعٌ؟ فهذا يُفْضي في تشعُّب مذاهبهم إلى غاية الاتِّساع، فقد نُقِلَتِ الفُتيا عن أكثرَ من مئة نفسٍ من الصحابة قد ذكرهم غيرُ واحدٍ من العلماء، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرتهم بأسمائهم على الاستقصاء، أو ترتكِبُ القولَ بالتزام العامة لمذهب جماعة مخصوصين بغير دليل على التخصيص، وكل هذا لا مُلْجِىءَ إليه ولا حامِلَ عليه، وقد عُلِمَ بالضرورة أنَّ العامِّيّ في زمنهم كان يَفْزَعُ في الفتوى إلى مَنْ أَحَبَّ منهم مِن غير نكيرِ في ذلك، وهذا من الأمورِ المعلومة، وقد احتج الشَّيخُ أبو الحسين بهذا على أنه لا يجب الالتزامُ، وادَّعى أنَّه إجماعُ مِنَ الصحابة، ذكر ذلك المنصورُ بالله في كتاب " الصفوة "، وكذلك ذكره ابنُ عبدِ السلام في " قواعده " (¬2)، واحتجَّ به على جواز تقليدِ المفضولِ، وجوَّد تحريرَه، وليس يُناقضُ ما ذهبتُ إليه من إيجاب الترجيح عند اختلاف العلماء، وقوَّة الظنِّ أن قولَ أحدِهم أصحُّ، لأنه لم يظهرِ الإجماع على (¬3) هذه الصورة الخاصة. قال: الوجه الثاني: أنَّه لا يتميَّزُ على هذا الوجهِ المجتهدُ مِنَ المقلِّدِ، فإنَّه إذا رجح في كل مسألة، وعمل بما (¬4) يترجح له، فهذا شأن المجتهدين، وكونُه قد قال به قائل شرطٌ في حقِّ المجتهد أيضاً. أقول: هذا الوجه أضعفُ مِما قبله، وهو لا يؤدِّي إلى ما ذكره، ¬
والفرق بينهما واضحٌ، وهو أنَّ المقلِّدَ ليس له أن (¬1) يستقلَّ بالقول، وإنَّما هو تبَعٌ لغيره، فلو لم يكن لغيره قولٌ البتَّة، لم يعمل بما (¬2) ترجح (¬3) له، وقد رام السَّيدُ أنْ يُبْطِلَ هذا الفرقَ، فركب الصعبَ والذَّلولَ، وخالف المنقول والمقبول، والتزم أنَّه لا يَحِلُّ الاجتهادُ لمجتهدٍ حتى يسبقَه غيرُه إلى اجتهاده، وهذا معلومُ البطلان لوجوه. أحدها: أنَّه يلزمه ألاَّ يصحَّ اجتهادُ خير الأمَّةِ مِنَ الصَّدر الأوَّلِ الذين ابتكروا الكلام في الحوادث، وسبقوا إلى الاجتهاد في المسائل. وثانيها: أنَّ الأمَّة مجمعةُ قديماً وحديثاًً على عدم اشتراط هذا، وإنَّما الشرط أنْ لا يكونَ في المسألة إجماعٌ ثابتٌ مِنْ طريقٍ صحيحةٍ قطعيَّةٍ أو ظنية غيرِ معارضة بما هو أرجحُ منها، ومِنَ العلماء من لم يقبل الإجماع حتى تكونَ طريقُ نقله معلومةً متواترةً، فأمَا إذا لم يكن في المسألة إجماعٌ ولا خلافٌ، فلا قائلَ بتحريمِ الاجتهاد فيها. وثالثها: أنَّه يلزم السيِّدُ أنَّ الحادثة إذا حدثت، وليس فيها نصٌّ لمن تقدم سقط (¬4) عَنِ الأُمَّة التَّكليف فيها، ولم يجب عليهم في ذلك اجتهادٌ ولا تقليدٌ، لأنَّه لا نصَّ لمن تقدَّم، فيجوزُ تقَليدُه عند من يستجيزُ ذلك، ولا يجوز الاجتهادُ أيضاًً على رأي السيد، فلزم من ذلك العملُ بالإِباحة من غير اجتهادٍ ولا تقليدٍ، وتكليفُ ما لا يُطاقُ مِن معرفة مرادِ الله من غير اجتهادٍ ولا تقليد، وكلُّ هذا خلافُ الإجماع، فهذه هي الحُجَّةُ الثَّانية التي ¬
قوله: قال: الثالثة: أنه لا يلزم من ذلك التناقض.
أَنتصرُ بها لمذهب المنصورِ بالله عليه السَّلامُ. قال: الثالثة أنَّه يلزم مِنْ ذلك التَّناقض كما لو كان مجتهدٌ يحملُ الأمر على الوجوب، فيُوجب العمرة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ويوجب ركعتي المَقَام بقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وكان مجتهدٌ آخر يَحْملُ الأمرَ على النَّدب، ويقضي في هاتين المسألتين بالنَّدب وعدم الوجوب، فيأتي مقلِّدٌ فيقولُ: أنا أرجِّح (¬1) مذهبَ أحدهما في مسألة وأختاره، وأرجِّحُ مذهبَ الآخر في الأخرى وأختاره، فيكون هذا قائلاً: إنَّ الأمر يقتضي الوجوب، وإنَّ الأمر لا يقتضي الوجوبَ، اللهُمَّ إلاَّ أنْ يحصُلَ مرجِّح ظاهرُ القوَّة يُصْرَفُ به الأمرُ من (¬2) حقيقته إلى مجازه، وهذا يحتاج إلى اطِّلاعٍ في العلوم، وعضٍّ عليها بالنَّواجذِ، وركوبِ أخطارٍ، وارتحالٍ، وتنقُّلٍ في الأقطار. أقول: الجوابُ عليه في هذا يَتمُّ إن شاء الله تعالى بذكر أنظار. النَّظر الأول: أنَّ السيدَ استدلَّ، ثم استثنى، والاستثناءُ لا يصح في البرهانِ والإسلام، وكلُّ ما لا يتجزَّأ ولا ينقسم، ولا خلافَ في هذا بين العُقلاء، وإنَّما يصحُّ الاستثناءُ في ذواتِ الأجزاء، كقول القائل: عليَّ لفلانٍ عشرةٌ إلا درهماً، وقام القومُ إلا زيداً، وأمَّا القول بأنَّ الأمر صحيحٌ أو باطلٌ بدليل كذا وكذا، إلا أن يكونَ كذا وكذا، فهذا فاسدٌ قطعاً، لأنَّه بمنزلة أن يقول: هو صحيحٌ إلاَّ أنْ لا يصحَّ، وباطلُ إلاَّ أن لا يبْطُل، بدليلِ أنَّ الاستثناءَ ممَّا لا جُزْءَ له لا يكون معناه إلا التردُّدَ والاحتمال، ولا ¬
النظر الثاني: أن ما جاز في ذلك على المقلد جاز على المجتهد
شكَّ أنَّ الاحتمال يمنع الاحتجاجَ والاستدلالَ، ولهذا قال العلماء: لا يصحُّ استثناءُ الكُلِّ من الكُلِّ، كقولك: له عليَّ عشرةٌ إلاَّ عشرة؛ لأنَّه مناقضةٌ، فكذلك الاستثناء في البُرهان مناقضة. النظر الثاني: أنَّ ما جاز في ذلك على المقلِّدِ جاز على المجتهد؛ لأنَّهما مكلّفان عاقلان، والمناقَضَةُ لا تَحِلُّ لمكلف، مجتهداً كان أو مقلداً، ولا يُعْصَمُ منها مكلَّفٌ أيضاًً، فهي محرَمة عليهما، مجوزة فيهما، فما الفرقُ بينهما. النظرُ الثالثُ: أنَّه (¬1) جعلَ القرينةَ الدَّالة على صرف الأمرِ مِنَ الحقيقةِ إلى المجاز ممَّا يحتاج إلى اطِّلاع في العلوم، وعضٍّ عليها بالنَّواجذ، والأمرُ أهون ممَّا ذكره؛ وذلك لأنَّ النَّاظر في المسألة الَّتي ذكرها السيدُ إنْ كان ليس له معرفة بأنَّ الأمر يقتضي الوجوبَ أو النَّدبَ، ولا مذهبَ له في ذلك، لم يكن لَهُ أن يرجِّحَ بذلك، وكيف يرجِّحُ بما لا يَعْرِفُ، وإن كانَ مِمَّنْ يعرف هذه المسألة، ويختار فيها أحد القولين، فالعدولُ عَنِ الظَّاهر في الأمر إلى المجاز أمرٌ قريب تُغني فيه الإشارة عَنِ التَّهويل بتلك العبارة، وإنَّما هو معرفة القرينة الدالَّة على الوجوب أو الندب، فقرينةُ الوجوبِ الوعيدُ على ترك المأمور به، وقرينةُ النَّدبِ الإذنُ في تركه، ونحو ذلك مِنْ خصائصِ الوجوب والنَّدْبِ الواضحة. فما هذا (¬2) التَّهويلُ بذكر الأخطار، والتِّجوال في الأقطار!! ¬
النظر الرابع: أن كلامه في هذا الفصل يستلزم اشتراط السفر والخطر في صحة الاجتهاد
النَّظر الرابع: أنَّ كلامَه في هذا الفصل يستلزِمُ اشتراطَ السَّفرِ والخطرِ في صِحَّة الاجتهاد؛ لَأنَّه إذا وجب ذلك في معرفة القرينة الصَّارِفةِ للأمر مِن الحقيقة إِلى المجاز، فكيف بالاجتهادِ في جميع العُلوم كُلِّها (¬1) دِقِّها وجِلِّها؟ بل كلامُه يستلزمُ أنَّ كُلَّ مسألة اجتهادِيةً تحتاج إلى السَّفر، وتفتقر إلى الخَطرِ، وهذا يُفْضِي (¬2) إلى أن يشترط في الاجتهادِ منْ طَيِّ المراحل والمجاهل، والتَّطوافِ على المفاوزِ والمناهل ما لا يكادُ يُمكِنُ إلا مع القدرة على الطَّيران، أوِ (¬3) الركوب على بساطِ سليمان، وما زال أهلُ العلم يذكرون شروطَ الاجتهاد، فما ذكر أحدٌ (¬4) مِنْهُمْ تطوافَ البلاد، ولا ركوبَ الأخطار في تَقَحُّمِ الأغوار والأنجاد، كيفَ إلا مسألة ظنِّيَّة وأمَارة فروعية، فما الحاملُ على هذا الغلوِّ (¬5) الفظيع والتَّحامل الشَّنيع؟ النظر الخامس: أنَّ السَّيِّد أيَّده الله إما أنْ يكونَ يَعْرِفُ هذه القرينةَ الَّتي هَوَّلَ معرفتها أوْ لا، إن لم يكن يعرِفها، فكيف يحكم على ما لا يَعْرِفُ؟! والحكمُ على الشَّيْء بالسُّهولة أو الصُّعوبة فرعٌ على معرفته، وإن كان يعرف هذه القرينة، فكلامُه يدلُّ على أنَّه مِنْ أهلِ الاطِّلاع على العلوم، والعضِّ عليها بالنواجذ، لأنَّه قد نصَّ على أن معرفة هذه القرينة يحتاجُ إلى ذلك، لكِنِ السَّيِّدُ قدْ وَعَّرَ مسالِكَ العلوم (¬6)، وبعَّدَها، وتوقَّف في إمكانها، ومَنْ كان مِنْ أهل العلوم والعضِّ عليها بالنَّواجذ، فهو مجتهدٌ ¬
قوله: قال: الموضع الثاني في الدليل على أن في أخبار هذه الكتب المسماة بالصحاح ما هو غير صحيح
بغير شَكٍّ وأيضاًً فما علمنا -مع المجاورة- أنَّه قَدِ ارتكب الأخطار، ولا طاف الأقطار. وبالجملة، فقد قدَّمْتُ قريباً أنَّ البُلغاء لا يسترحون إلى الأسجاع إلاَّ إذا حَلَّوْا بجواهرها لباتِ الحقائقِ وصدورَها، وسيَّرُوا في أفلاكِ قوارعها شموسَ الدَّلائل وبُدورَها، فأمَّا إذا لم تُصاحِبْ صِدْقَاً ولا حقَّاً، فما هي إلا كبقلة الحمقا (¬1)، لا تُثْمِرُ ولا تَبقى، ولا تستَحِقُّ أن تُزْرَعَ، ولا أن تُسقى. قال: الموضع الثَّاني في الدَّليلِ (¬2) على أنَّ في أخبار هذه الكتب المسمَّاة بالصِّحاح ما هو غيرُ صحيحٍ إلى آخر كلامه في هذا الفصل، وهو مشتمل على الطَّعن في كتب الحديث بذكر ما فيها من حديث المحاربين أميرَ المؤمنين عليَّاً عليه السلامُ، وإنَّما لم أُورِدْهُ كلَّه هنا؛ لأنَّه قد تقدَّم جوابُ أكثرِه في مسألة قبول أنواعِ أهل التَّأويل، وتقدَّم هُناك نصوصُ كثيرٍ مِنْ أهلِ البيت على قَبُولهِمْ، بل على دعوى الإجماع منهم، ومِنْ غيرهم على ذلك، ولم أعلم أحداً قبلي بَسَطَ في هذه المسألة ما (¬3) بسطتُ، فراجعه فيما تقدَّم، ولم يبقَ هنا إلا تَتِمَّةً يسيرة، وأنا أتتبَّعُ ما لم يتقدَّم جوابُه وأبيَنُه إن شاء الله تعالى. ¬
الجواب على ما ذكره من وجوه
فأقولُ: الجواب على ما ذكره من وجوه: الوجه الأول: أنَّا قد بيَّنَّا مِنْ نَصِّ أهل البيت عليهم السلامُ على قبولِ الخوارج، بل مَنِ ادعى معرفة الإجماع على ذلك مِنَ العِترة والأمَّة مِمَّن لا سبيل إلى تكذبيه، كالإمامِ المنصور بالله، والمؤيَّد ِ بالله، ويحيى بنِ حمزة، والأميرِ الحسين بنِ محمدٍ، وغيرهم منْ عُلماء الشِّيعة. والخوارج شَرُّ من عادى أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنَّهم كفَّرُوه وأخرجوه من الإسلام، صانه اللهُ عن ذلكَ، فينبغي أن يعلم أنَّهم إنما قدَحُوا في أحاديث جماعةٍ قليلةٍ منَ البُغاة عليه (¬1) لأمرٍ آخرَ غيرِ بغيهم المعلوم الذي شاركهم فيه الخوارج، وذلك أجنبي (¬2) مِن القدحِ بالأمر المشتَرك بينهم وبين الخوارِج، فافهمه، وافْهَمْ أنَّ المخالفين لعليٍّ عليه السَّلام ثلاثةِ أصناف كما ورد في وصفه عليه السَّلام بقتال (¬3) المارقين والنَّاكثينَ والقاسِطين، فقد صرَّح أئمةُ الزَّيديَّةَ بقَبولِ المارقينَ والنَّاكثين، بَلِ ادعوا الإجماع على ذلك، وصرَّح الأميرُ الحسين في " شفاء الأوام " بدعوى الإجماع على قبول البُغاة على عليٍّ عليه السَّلامُ وَهُمْ عبارةٌ عَنِ القاسطينَ معاوية وأصحابه، والَّذي ذكره الأميرُ الحسين عن أهل البيت هو مذهبُ المحدِّثين، لكنِ الزَّيديَّةُ استثنَوْا مِنْ هذا الإطلاقِ قدرَ أربعةٍ أو خمسةٍ لا سوى، لأمرٍ وَقَعَ النِّزاعُ فيه بينَهم وبَيْن المحدِّثين، وهو قرائِنُ رُوِيتْ عنهم مِنَ الأقوالِ والأفعال تُعارِضُ ما ادَّعوْهُ وأظهروه منَ التَّأويل في البغي، ويدلُّ على تعمُّد البغي مع العلم بقُبْحِهِ وتحريمه، وهذا القدرُ ممَّا ¬
يمكِنُ وقوعُ اختلاف الظُّنون فيه، وفي أنَّ صاحِبَه مظنونُ الصدق أو مظنونُ الكَذِبِ، أو أنَّا متعبِّدون بردِّه وإن لم نظنَّ كَذِبَهُ، أو بقبوله وإن لم نَظُنَّ صدقه. وقد اعترف أهلُ الحديث بأجمعهم أنَّ المحاربين لعليٍّ عليه السَّلام معاويةَ وجميع مَنْ تَبِعهُ بُغَاةٌ عليه، وأنَّه صاحبُ الحَقِّ، نقل ذلك عنهم غيرُ واحد منهم مثل القرطبي (¬1) في " تذكرته " (¬2) كما سيأتي في الوهم الثالثِ والثلاثين مِنَ المجلَّدِ الرَّابعِ، ولم يَبْقَ الخلافُ بينهم وبَيْنَ غيرهم إلاَّ في أمرين. أحدهما: أنَّ مدار الرِّواية على ظنِّ الصِّدق، لا على الموافقة في العقائد ونحوها، أو على الموافقة في العقائد (¬3)، وإن لم يحصل ظَنُّ الصِّدق، وهذا الأمرُ قد تقدَّم مستوفى في مسألة المتأوِّلين. وثانيهما: في أيِّ الأمرين أرجح: العملُ بظاهرِ دعوى التَّأويل، أو الحكمُ بالتعمُّد للقرائن الخاصة؟ وفي تراجم معاوية، وعمرو، والمغيرة من " النبلاء " (¬4) شيءٌ كثير، موضعُه معروف، فلا حاجةَ إلى نقله، وإنَّما ذكَرْتُ تراجمهم في " النبلاء "، لأنَّه مِن تصانيف أهل السُّنَّةِ، وهم لا يُتَّهمون في ذلك، وَمِنْ أعظمه أحاديثُ " تَقْتُلُكَ يا عَمَّارُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ " (¬5) ¬
فإنَّه حديثٌ متَّفقٌ على صحَّته وشهرته في ذلك العصر، وإنَّه ما قدح فيه مِنَ القُدماء أحدٌ، بل قال الذَّهبي في ترجمة عمار مِنَ " النُّبلاء " (¬1): إنَّه حديثٌ متواتر، فأمَّا معاويَةُ، فتأوّله بتأويلِ باطلٍ أنَّ علياً وأصحابه هُمُ الَّذين قتلوه وجاءوا به حتى ألقَوهُ بين رماحنا، رواه أحمد في مسند عمرو بن العاص (¬2)، وقد أجاب عبدُ الله بنُ عمرو بأنَّه يلزمُ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلُ عمِّه حَمْزَةَ، وشهداء بَدْرٍ وأحد، فَأَفْحَمَهُ (¬3). وأمَّا عمرو، فلم يتأوَّلْهُ، وفزِعَ فزعاً شديداً كما فَزِعَ عندَ موته (¬4). فمَن نظر إلى القرائن الخاصَّة المقوِّية لِعدم التَّأويل رجَّحها، وأقواها ¬
قتلُ عمار، وتَقَوَّى بِمَا اشتهر عَنِ الصحابة وغيرهم مِنَ الرَّدِّ عند أدنى ريبة. فَمنْ ذَلك (¬1) أن أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما لم يقبلا حديثي المغيرة في سهم الجَدَّة، ودِيَة الجنين (¬2) حتى شهد له محمد بن مسلمة فيهما معاً، وذلك أيضاً قبل إحداث المغيرة، ولم ينكر أحدٌ عليهما. وأمَّا عُمَرُ رضي الله عنه، فقد أكثر مِنْ ذلك، حتى توقَّف في حديثِ عمَّار بنِ ياسر في التَّيَمُّم (¬3)، ولم يعمل بهِ لنسيانِهِ لهُ، وكان حاضراً، وقلّتِ الرِّواية في أيَّامه خوفاً من عقوبته (¬4). ¬
ومن نظر في سيرةِ أميرِ المؤمنين علي عليه السلام، عَلِمَ أنَّه لم يَسِرْ فيهم سِيرَةَ الكُفَّار، ولولا تأويلُهم عنده لكفَّرهم حين كذَّبوا ما عَلِموا منَ الدين، وهي مِنْ أقوى ما تمسَّكوا به، وهي من أقوى أدلَّة الزَيديَّة على من قال: إن النَّصَّ جليٌّ في إمامة عليٍّ عليه السَّلامُ، فتأمل ذلك. وكذا مَنْ نظر إلى ظواهر من الأحاديث النَّبوية في لزوم الظَّاهر وترك العمل بالظَّنِّ فيما يتعلَّق بالسَّرائر، رجح القبول في بعضِ الأحاديث، مثل حديث أبي سعيد الخدري، قال بَعَثَ عليٌّ عليه السَّلامُ بِذُهَيْبَةٍ مِنَ اليمنِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمها بَيْنَ أربعةٍ، فقال رجلٌ: يا رسول الله اتَّقِ اللهَ، فقال: " ويلك، أَو (¬1) لَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأرْضِ أنْ يتَّقِي الله؟ " ثم ولَّى الرَّجُلُ، فقال خالدُ بنُ الوليد: ألا أضرِبُ عنقه يا رسولَ الله؟ قال: لا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكونَ يُصَلِّي "، قال خالدٌ: وكم من مصلٍ يقولُ بلسانه ما ليسَ في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ (¬2) قُلُوبِ النَّاسِ، ولا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ " (¬3). رواه البخاري ومسلمٌ وله شواهدُ كثيرةٌ في معناه. منها أنَّ مَنْ أقرَّ بالزِّنى، ثم أنكر، قُبِلَ منه (¬4)، وفي كثيرٍ مِن ¬
الأخبار لا يُقْبَلُ إقرارُه حَتَّى يُقِرَّ أربعَ مَرَّات (¬1). ومنها سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ماعزٍ، هَلْ بِهِ جنونٌ لرفعِ الاحتمال البعيد (¬2). ومنها حُكْمُ اللهِ تعالى على القَذَفَةِ، وإنْ كثُروا (¬3) بالفسقِ وجرح العدالة (¬4). ومنها حُكْمُ عُمَرَ بذلك، وتقريرُ الصَّحابة على قَذَفةِ المغيرة مع قوَّة الظن بصدقهم (¬5)، وقَبِل دعواه لِنِكَاحِ السِّرِّ. فَمَنْ قَبلهُمْ، نَظَرَ إلى هذه الأمور وإلى أنَّ التَّعمُّدَ والتأويل مِنْ أعمالِ القلوب وخفِّيات السَّرائر، فَعَمِلَ بما ظهر منهم من دعوى التَّأويلِ، وإنْ لم يَصدُقوا في الباطنِ، كما هو ظاهرُ سيرةِ عليٍّ عليه السلامُ فيهم، وتقوَّى على ذلك في الرواية أنَّ مدارَها على ظَنِّ الصِّدق، وتقوّى على ظَنِّ ¬
الصِّدق فيهم بأنَّهم لم يَرْووا حديثاً منكراً حتى ما رُوِيَ أنَّ أحداً منهم روى (¬1) شيئاً من أحاديث الرَّجاء (¬2)، ولم ينفردوا بشيءٍ، وأقلُّوا الرِّوايةَ، ولم يُكثروا مع طولِ مُدَّتهم ومخالطتهم وتمكُّنهم، ولم يرووا حديثاًً واحداً فيه نَصٌّ نبويٌّ على إصابتهم في حربهم، وفي دعاويهم، ولا على خطأ عليٍّ عليه السَّلامُ في شيءٍ من الأشياء، مع توفُّر الدواعي إلى ذلك، وطول المدَّة. فأمَّا ما رواهُ بعضُ البغدادية مِنَ المعتزلة عنهم، وعن أبي هُريرة، وأنسٍ وغيرِهما مِنَ الكِبار والتَّابعين منْ تعمد الكذب، فذلك ما لم يَصِحَّ ولا يُقارِبُ الصحة، ولا يَشْتَغِلُ بمثله أهلُ التَّحصيلِ مِنْ أئِمَّة النَّقل، هذا مع ما رَوَوْهُ مِنْ عموماتِ الثَّناء على أهلِ ذلك العصرِ من الكِتاب والسُّنَّة وقبولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ أسلم في عصره قَبْلَ اختباره، ولم يكتفوا بهذا غيرَ ناظرين إلى قرائنِ الصِّدقِ الخاصة (¬3)، ولذلك قال أبو داود في " سننه " (¬4) وقد روى حديثاًً عن معاوية، ثم قال: ولم يكن معاويةُ يُتَّهَم في الحديث، ولم يُنْكِرْ هذا القولَ عليه أحدٌ مِنْ أئمة الحديث، ولا رفعوه عن مثل هذا ¬
القول، بل حكم أهلُ الحديث بالتَّتبُّع التّام، والبحثِ الطويل، والنَّظرِ في الشَّواهد والتوابع والقرائن، وجمعِ الطرق أنَّ أهلَ العصرِ النَّبويِّ وتابعيهم وتابعي تابعيهم لم يكن فيهم من تَعَمَّد وَضْعَ الحديثِ زوراً إلى أيَّام بني العَبَّاس، وظهر ذلِكَ وظهر أهلُه، وقد نصَّ المنصورُ بالله عليه السَّلامُ على مثل كلامهم في أنَّه لا يُسألُ عن عدالة الثَّلاثَة القُرونِ الأُوَل، وأنَّ ذلك معلومٌ عندَ العلماء، بل صحَّت الأحاديثُ الكثيرةُ في ذلك بلفظ: " خَيْرُكُم القَرْنُ الَّذينَ بُعِثْتُ فيهِمْ، ثُم الذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الذين يَلُونهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكذِبُ مِنْ بَعْدُ " (¬1)، واعتضَدَ هذا بِخِبْرة أهلِ الحديث لذلك وتتبُّعِهم (¬2) لِمَا صحت روايتهُ عَنْ أهلِ ذلك العصرِ محقِّهم ومبطِلِهم، والنظر فيما رَووْهُ وفي شواهده، وكُلُّ أهلِ فنٍّ أعرفُ بفنِّهم كما ذكرته فيما تقدَّم منْ هذا الكتاب. ولهذه الأمورُ ترى كثيراً مِنْ أئمَّة العِترة وشيعتهم والسَّلَفِ يروون أحاديث هؤلاء كما يرويها أهلُ الحديث، منهم أبو عبد الرحمان النسائي في " سُننه " مع بغضه لمعاوية (¬3)، وكلامه عليه، حتَّى قُتِلَ في دمشق بسبب كلامهِ عليه، ومع ذلِكَ روى عنه في " سننه " غيْرَ حديثٍ، وكذا ¬
الحاكمُ، وابنُ منده وغيرهم مِنَ الشِّيعة، وأظهرُ مِنْ ذلِك روايةُ الأميرِ (¬1) الحسينِ بن محمد الحسني الهادوي إمامِ الزَّيْدِيَّة في علم الحديث فإنَّه افتتح كتابه " شفاء الأوام " بحديثين من رواية المغيرة، ولم يَرْوِ أوَّلَ منهما، ولم يذكر لهما شاهداً مِنْ غير طريق المغيرة، وصرَّح بأنَّهما من رواية المغيرة، ولم يعتَذِرْ عن ذلِكَ، ولا أنكره عليه أحدٌ من أهله، ولا أهلَ مذهبه. وروى محمدُ بن منصورٍ الكوفيُّ محبُّ أهل البيتِ، ومصنِّفُ علومِهم في كتابه " علوم آل محمد " وتُعْرَفُ بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السَّلامُ حديثَ وائلِ بنِ حُجر في وضعِ الأكُفِّ على الأكُفِّ (¬2). ذكره في حق الصلاة، والتَّغليس بالفجر بَعْدَ أوقات الصلاة، ولم يضَعِّفْه، ولا تأوَّلَهُ، ولا ذكر له معارضاً، ولا أنَّه حُجَّةُ منْ لا خلاَقَ (¬3) لَهُ مِنْ أعداءِ العِترة، بل أدخله في كتابه الذي سَمَّاه " علوم آل محمد "، ولم يُدْخِلْ فيه إلاَّ أدلَّتهم الصَّحيحة عندَهم وعلى أصولهم، ولذلك قال الأميرُ الحسين في كتاب الوصايا من " شفاء الأوام " ما لفظه: فأمَّا الفاسق من جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءتَه في النكاح كما تقدَّم، ونقْبَلُ خَبَرهُ الذي نجعلُه أصلاً في الأحكام الشرعيَّة لإجماع الصَّحابة رضي الله عنهم على قبول البُغاة على أمير المؤمنين وإجماعهم حجة. انتهي بحروفه. ¬
وقد روى الإمامانِ المنصورُ بالله، والمؤيَّد (¬1) يحيى بن حمزة حديث معاوية في " الأربعين الودعانية " (¬2)، وشرحاه، وهو (32) منها، وقبلا الودعاني مصنِّف الأربعين مع تخريجه (¬3) لحديث معاوية فيما اختاره للأُمَّة في خُطَبِها ومواعِظها، ولم يستخرجا له من روايته حديثَ معاوية أنَّه ناصِبِيُّ منافق، بَلِ اعتمدا (¬4) عليه في قبولِ الخطب الأربعين. ¬
فأما الإمامُ (¬1) يحيى بنُ حمزة فنص (¬2) على صِحَّتها في خطبةِ شرحه لها، ولم يستثنِ حديثَ معاوية في خطبة شرحه (¬3)، ولا في شرح حديث معاوية، وذكر -مع مبالغته في تصحيحها- أنَّه اعتمد في ذلك على مصنِّفها، فهذا أكثرُ تساهلاً في التصحيح من المحدثين بالضرورة التي يعلمها أهلُ هذا الشَّأْنِ. ومنَ المشهور في كتب الحديث أنَّ عليَّ بن الحسين عليه السلام روى عن مروانِ بنِ الحكم، وابنُ عباسٍ، وأبو سعيدٍ، وابنُ المسيِّب رَوَوْا عن معاويةَ وأمثالهم، ولو لم يرْوُوا عنهم، لم يتَّصِل السَّندُ إليهم. وكذلك روى الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام (¬4) في كتابه " المنتخب " حديثَ عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، وهو عمرو بنُ شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد اختلف في الضمير في " جَدِّهِ " على من يعود (¬5). وقد قال أحمد في " المسند ": حدثنا يزيد، حدثنا همَّامٌ، عن قتادة، أو عن ابن سيرين، عن عبد الله بن عمرو بنِ العاص، قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أبو بكر، فقال: " بَشِّرْهُ (¬6) بالجنة "، ثمَّ عمر، ثمَّ، عثمان كذلك، فقلت: وأَيْنَ أنا؟ قال: " مَعَ أبِيكَ " (¬7)، ¬
الوجه الثاني: أن حفاظ الحديث وأئمة النقل لم يقتصروا على تدوين الصحيح المجمع على صحته عند جميع الفرق
رجالُه رجال البخاريِّ ومسلم لولا أنّ قتادة مُدَلِّسٌ، ويُرجى لعمرو التَّوبة، لقوله عند موته كما نُوَضِّحهُ. الوجهُ الثاني من الجواب: وذلكَ أنَّ حُفَّاظ الحديث، وأَئِمَّةَ النَّقل لم يقتصِروا على تدوينِ الصحيح المُجْمعِ على صحته عند جميع فِرَق الإسلام بحيث يقطعون على تخطئة المخالف فيه، بل قصدوا إلى تدوين القسمين معاً، أحدهما: المقطوعُ بصحَّته، وثانيهما: الصَّحيحُ المبنيُّ على اجتهادهم الذي يُمْكِنُ الخلافُ فيه، بل دوَّنوا قسمين آخرين أضعف مِنْ هذا القسم المختَلَفِ في صِحَّته. أحدهما: الأحاديثُ الحسانُ التي تَقْوى بكثرةِ رواتِها، ولا تقوى ما انفرد به أحدُهم. وثانيها: الشَّواذُ، والمنكراتُ، وأحاديثُ المجاهيل والضُّعفاء، ليستفادَ مِن روايتها إمَّا تواترٌ أو ظنٌّ فيما لم يُعَارِضْه حديثٌ صحيحٌ، ثمَّ اعتبروا في الجميع ظنَّ الصِّدق حتَّى كان الحافظ الرَّقيقُ الدِّين المُجرَّب الصِّدق أقوى عندَهم مِنَ العابِدِ الزَّاهد السَّيئ الحفظِ المجرَّب الوهم، الفاحشِ الخطأ، الكثيرِ الغفلة، حتى ذكروا أنَّ الكَذِبَ في الحديث أكثرُ قدحاً في الرِّواية من الكُفر، ولذلك وَثِقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بدليله الدِّيلي يَوْمَ هاجَرَ، وكان دليلُه كافراً (¬1). ¬
ووثِقَ بعهدِ سُراقة الذي لَحِقَهُ يومَ هاجر، فدعا عليه حتَّى أعطاه عهدَه ألاَّ أخبر بِهِ (¬1)، وقد مضى من هذا طرفٌ صالح، وسيأتي مستوفى في الوهم الثالث والثلاثين. وإنَّما قَصَدُوا ما ذكرناه في جمع الحديث وحفظه، لأنَّه أعدلُ الأمور في اجتهادهم، فإنَّهم لو اقتصروا على حفظ المجمع على صحّته وتدوينه للمسلمين دون ما عداه، خافوا أن يضيعَ جمهورُ الحديثِ النَّبويّ، وهذا تساهلٌ في جسيمِ أمرِ الإسلام، ومعظم قواعدِ الدِّينِ، وإن دوَّنوا حديثَ الكذَّابين، وخلطوا الصَّحيحَ بالسَّقيم، أدخلوا في السُّنَّة النبوية ما هي عنه بَرِيَّة، فسلكوا مناهِجَ التَّحرِّي في التَّوسُّط والتَّقَوِّي بالنَّظر في حديث الرَّاوي، وما يَنْفَرِدُ به، وما يُتَابَعُ عليه، وما يُنْكَرُ مِن حديثه، وتتَّبعوا ذلك وأمعنوا فيه، وهو المُسمَّى بالاعتبار في عُلومهم، وبلغوا في ذلِكَ مبلغاً عظيماً أعْجَزَ مَنْ قبلهم مِنَ الأُمَم حتَّى عُدَّ في معجزاتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومِن آياته، كما ذكره (¬2) السيد الإمامُ المؤيَّد بالله في كتابه في النبوات، وذكره الجاحظُ (¬3) قبلَه. ¬
وقد رُويَ عن أبي حنيفة قبولُ الفاسِقِ المتعمِّد إذا كان معروفاً بالصِّدق. وقال الإمام المنصور بالله بذلِك في الشَّهادة، وهي أقوى مِنَ الرِّواية حيث لا يُوجَدُ العدولُ، وعلَّل ذلِك بأنَّ اعتبارَ العدول حيث لا يوجدون يُؤدِّي إلى ضَياع الأموالِ، والعدالةُ الكاملةُ إنَّما شُرِعتْ لحفظها، فيجبُ أن نعتبرَ ما كان أقربَ إلى حفظها الَّذي هُوَ المقصودُ الأوَّلُ، فاعتبر أهل الصدق واحتجَّ بقوله تعالى: {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض} [المائدة: 106]. وهذا عارضٌ، القصدُ به التَّعريفُ بمذاهب أهل الرواية، وعُرفِهِم فيها، وأنَّهم قصدوا أن يُدَوِّنوا لأهلِ الإِسلام ما يقبلونه كلُّهم أو يقبلُه بعضُهم، وإن شذَّ، ولذلك روى المحدِّثون المراسيلَ في كتبٍ مفردَةٍ (¬1) لمن يقبلها، وإن كانوا لا يقبلونها، وروى من يقبل المراسيلَ مثل مالكٍ الأحاديثَ المسنَدَةَ بأسانيدها لمن يشترطُ الإسناد، ونحو ذلك. ¬
الوجه الثالث: أن المحدثين حين رأوا اختلاف الناس في من يقبل ولا يقبل أوجبوا بيان الإسناد
قالوا: وأمَّا توقُّفُ مَنْ تَوَقَّفَ منَ الصَّحابة في بعض الأحاديث، فلقرائنَ أوجبت الرِّيبةَ بالتَّفَرُّد، وذلك هُوَ المُسَمَّى بالإعلال في علوم الحديث، كحديث عمَّار في التيمُّم، فإنَّه ذكر فيه أنَّ عمر كان معه في الواقعة، فلم يذكر ذلكَ عُمرُ معه، مع أنَّها واقعة لا يكاد يُنسى مثلُها، فتعارضَ عليه نسيانُه وغفلَتُه عمَّا لا يكادُ ينسى، وصِدقُ عَمَّارٍ وأمانتُه، فوقف في حقِّ نفسه، وأذن لعمَّار في روايةِ ذلك لِغيره ليعلموا به. وقد روى النَّسائي (¬1) حديثاً في التَّخيير بين رأي عمرو ورأي الجماعة في ذلك، يعني في التيمُّم للجُنُبِ عِنْدَ عدمِ الماء، أو تعذُّرِ استعماله. الوجه الثالث: أنَّ المحدثين حين رَأَوُا اختلاف الناس في مَنْ يُقْبَلُ ولا يُقبل مع اختلافهم فيما يُجْرَحُ به، وما لا يُجْرَحُ به، أوجبوا بيانَ الإِسناد والتَّصريحَ بأسماءِ الرُّواة، وترك التَّدليس والإِرسال في كُلِّ ما ادَّعَوْا صِحَّتهُ، ليتمكَّنَ كُلُّ أحدٍ مِن الأمَّة مِنَ النَّظر في الحديث، وفي صِحَّته، حتَّى يكونَ على بصيرةٍ في الموافقة على التَّصحيح أو المخالفة، أو الموافقة على التَّضعيف أو المخالفة فيه، فزال المحذورُ مِنْ روايتهم عمَّن حارب أميرَ المؤمنين عليه السَّلام، لأنّهم قد بيَّنوا ما روَوْهُ عنهم، وصرَّحوا بأسمائهم، ولم يقولوا: صحَّ لنا حديث كذا عمَّن نَثِقُ به، بل نصُّوا على ¬
أنَّ من قال: حدَّثني الثِّقة، ولم يسَمِّه أنَّه لا يقبل، لجواز أن يكون ذلِكَ الثِّقَةُ عنده مِمَّن لو صرَّح باسمه لخولِفَ في توثيقه (¬1)؛ لأنَّه صح وثبت أنَّ التَّوثيق مِمَّا يقع فيه الاختلافُ الكثير، والخصمُ مسلِّم أنَّ أئِمَّة الزَّيديَّة، والحنفيّة، والمالكية، وكثير مِن التَّابعين يروون الأحاديث المرسلة، ويقولون بوجوب قبولهم فيما أرسلوه، ولا شَكَّ أنَّ المرسِلَ على تسليم أنَّه لا يُرسِلُ إلاَّ ما صحَّ عنده إنَّما يبني (¬2) صحَّة الحديث عنده على اجتهاده، وأنه لم يبين طريقَهُ في اجتهاده في تصحيح ذلِكَ الحديث المرسل، حتى يتمكّن المخالِفُ لَهُ مِنْ موافقته على بصيرة، أو مخالفته كذلك، فالاعتراض على مَنْ فعل ذلك مِنَ المُرْسِلِيْنَ، أَو مَنْ قَبِلَه منهم أصعبُ وألزمُ للخصم مِنَ الاعتراضِ على من بيَّن مستَنَدَهُ لمَنْ يقبله، ولمن لا يقبلُه، وأبعد مِنَ الرِّيبة ومِنْ كُلِّ وسيلة إليها، حَتَّى تركوا لذلك المراسيل، والمقاطيع، والتَّعاليق إلاَّ ما دلَّ الدَّليل على صِحَّته مِنْ ذلك، بل أوضحُ من هذا أنَّهم بيَّنُوا في كتب الرِّجال جميعَ ما صَحَّ مِنْ مناقم الشِّيعة على أولئك، وحكموا بصحَّة الصحيح منه، فانظر ذلك في " النبلاء " وغيره، وما غرَّك منْ أَوْضَح لك مستندَهُ، وأبدى لك صفحتَه، ولا ضرَّك مَنْ مكَّنك ¬
الوجه الرابع: أن اعتراض كتب الحديث الصحاح بأن فيها ما ليس بصحيح عند غيرهم عمل من لم يعرف ما معنى الصحيح عند أهله
مِن النظر فيما ادَّعى صحَّته لتُوافِقَه على بصيرة، أو تخالفه على بصيرة (¬1)، ولو أرادوا خديعةَ المسلمين في ذلك، لجرَّدوا دعوى صِحَّة الحديث عن بيان الرُّواة وتسميتهم، وتركوا الناس بذلك في عمياء لا دليل بها، وظلماءَ لا نُورَ فيها، ولم يشحنوا الصَّحاح بأحاديث: "إنَّهُمْ ما زَالوا بعْدَكَ مُرْتَدِّينَ علَى أدْبارِهِمْ فأقولُ: سُحْقَاً لمَنْ بَدَّل بعدي، وأقول كما قال العَبْد الصَّالحُ" (¬2). فالحمدُ لله الَّذي بيَّن بِهِمُ الطريق إلى حُسْن الاختيار، ومكَّن بحميدِ سعيهم أهلَ الاجتهاد مِنَ الاستبصار، ولولاهم لكانَتِ الأحاديثُ كلُّها مرسلَةً، ولجوَّزنا أنها عمَّن لا يُرتضى مِنَ المختلف فيهم، ومن محاربي أميرِ المؤمنين، ومِن المجاهيل، وسيأتي في الوهم الثالث والثلاثين أَوَّل المجلد الرابع إن شاء الله تعالى بيانُ مذاهبهما في هؤلاء المُشَارِ إليهم على التفصيل إن شاء الله تعالى، وزيادة البيان لاعتمادهم على قُوة الظنِّ للصِّدق في باب الرِّواية وتقويتها بما لها من الشَّواهد والتَّوابع، وتمييزهم لذلك مِنَ المنكرات، والغرائِب، والشَّواذِّ. الوجه الرابع: أنَّ اعتراضَ كتبِ الحديث الصَّحاح بأنَّ فيها ما ليس بصحيح عندَ غيرهم، عمَلُ منْ لم يعْرِفْ ما معنى الصحيح عند أهله، وذلك أنَّ أكثر الصَّحيحِ عندهم ممَّا يَصِحُّ الاختلافُ فيه، بل ما زال علماءُ ¬
النَّقل يختلفون في التصحيح، فهو مثلُ مذاهب العلماء في الفُروع الاجتهاديَّة والمضطربات الظنية، ألا ترى أنَّ حُكْمَهمْ بأنّ الرجُل حافظٌ، أو سيىءُ الحفظ، أو صدوقٌ، لا يصحُّ أن يُبنى إلاَّ على الظَّنِّ والاجتهاد؟ ولذلِكَ كان قبُولُ المرسل مِمَّنِ أرسله ضعيفاً عندهم، لأنَّه على الحقيقة تقليدٌ له في تصحيح ما ظن صحته، وتقليدُ العلماء بعضهم لبعض مما (¬1) يبنى عليه الاجتهادُ لا يجوز كما أوضحته في علوم الحديث (¬2). وقد مرَّ الجوابُ على السيد حين زعم أنَّ جميعَ ما في الصَّحيح مُجْمَعٌ على صحته عندَ المحدِّثين، وكيفَ يصحُ ذلك والبخاري يخالِفُ مسلماً في تصحيح ما اكتفي فيه بالمُعَاصرَةِ (¬3)، وفي كثيرٍ من رجاله، ومسلم كذلك يُخَالِفُ البخاريَّ في بعض رجاله؟ وقد ذكر ابن حجر في مقدمة "شرح البخاري" ما اعترض على البخاري، وخُولفَ في تصحيحه مِمَّا في صحيحه، فذكر أكثَرَ مِنْ مئة حديثٍ، وذكر أيضاً مَنْ خُولِفَ البخاريُّ في توثيقه من رجاله، فذكر خلقاً كثيراً، وذكر ما يسوغُ مخالفتُه فيه من قواعده، كمخالفته في تصحيح حديث عِكرِمَة، فقد خالفه في ذلك مالِكٌ، ومسلمٌ صاحبُه، وجِلَّة مِنْ أئمَّة التَّابعين لا يأتي عليهمُ العَدُّ. وكذلِكَ قبولُ العَنْعنَةِ عَنْ بعضِ المدلِّسين في بعض المواضع، وهذا معلومٌ من مذاهب المحدِّثين بالضرورة لمَنْ بحث، ولذلك ترى الحاكم ابنَ البَيِّع أحدٌ أئِمَّة الشيعة، وأئمة الحديث يُنَاقِشُ الشيخين في كتابه "المستدرك"، ويذكر علَّتهما في ترك ¬
بعض الأحاديث، وُيبَيِّنُ أنَّها علَّةٌ ضعيفةٌ أو منقوضةٌ. والاختلافُ في تصحيح الأحاديث بين أئمَّة الحديث سُنَّةٌ ماضيةٌ، كاختلاف الفُقهاء في الفُروع، بل هي (¬1) سُنَّةُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى في مرويَّات الصحابة، فقد توقَّف عُمرُ رضي الله عنه في حديث أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد (¬2)، وفي حديث عمار لنسيانه له مع حضوره للقصَّة، وهي من أدلَّة المحدِّثين على الردِّ بالإعلال. وقال أميرُ المؤمنين عليه السلامُ: ومن اتَّهَمْتُهْ استحلفتُه (¬3)، فأجاز التُّهمةَ للبعض في ذلك العصر، وقبول المتهم بعد التقوِّي بيمينِه، وهو حُجة على مدارِ الرواية على ظَن الصدق، لا على البراءة مِنَ التهمة، وهو حديثٌ ثابتٌ عنه عليه السلام. وكذلك الاختلافُ في تعديل الشُّهود، والرُّواة، وما يُجَرَّحون به، وما لا يُجَرَّحُون ممَّا اشتملت عليه كُتُبُ هذا الفَنِّ يستلزم بالضَّرورة الاختلافَ الكثير (¬4) في التَّصحيح، وتلخيصُ هذا الوجه أنْ نقول: قولُك ¬
فيها غير صحيحٍ، تعني عندهم أو عندَ غيرهم الأول ممنوع، والثَّاني مُسَلَّمٌ ولا يضُرُّ تسليمُه، فإذا كان الخلافُ بين أئمَّةِ الحديث في التَّصحيح شائعاً كثيراً، فما ينكر منَ اختلافهم هم والشِّيعة في بعض الأحاديث الظِّنِّيّة؟ وأنتم أيُّها المتكلِّمون لا تزالون مختلفينَ في العقليّات القطعيّة، ويزعم كُلٌّ منكم أنَّه بنى خلافَه على البراهين اليقينيّة، فذلك هو الَّذي يستلزم التَّكاذبَ الصَّريح، وأمَّا مواضِعُ الظُّنون مِنَ الرِّواية والفروع، فمجالُ الخلاف فيها مُتَّسِعٌ، ومنهجُه متَّضِحٌ، والأمرُ في ذلك قريبٌ، وكُلُّ مجتهدٍ هنالك مصيبٌ أو آخِذٌ مِنَ الأجرِ بنصيبٍ، بل الاختلافُ في هذا المقام مِنْ ضرورات الطَّبائع الذي استمرَّت به العوائد والشَّرائع (¬1) حتَّى حكاه الله، فقال عَنِ الملائكة المقرَّبين والأنبياء المعصومين، أمَّا الملائكة، فقد قال تعالى حاكياً عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (¬2) [ص: 69]، وصَحَّ في الحديث اختصامُهم في حُكْمِ الذي قتل مئةَ نفسٍ، ثمَّ سأل أعلمَ أَهْلِ الأرضِ، فأمره بالتَّوبة والهجرة عن أرضه، الحديث (¬3)، وغير ذلك. واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَينَهُم بِالحَقِّ} [الزمر: 69] هَلْ هُمُ الملائكةُ؟ لأنهم أقربُ مذكور (¬4). ونزل: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] في خيرِ النَّاسِ. وأمَّا الأنبياءُ، فحكى الله تعالى الخلافَ بَيْنَ داود وسليمانَ في حكم ¬
ذكر بيان أحاديث معاوية في الكتب الستة، لتعرف عدم انفراده، وقلة ذلك، وعدم نكارته وفيه خمسة أقسام
الغَنَمِ الَّتي نفشت في الحرث (¬1)، وبيْنَ موسى والخَضِرِ في سورة الكهف [60 - 82]، وصحَّ في الحديث ذكر الاختلاف بين موسى وآدم عليهما السَّلام (¬2)، وذلك اختلافٌ مِنْ غيرِ تعادٍ، ولا تكاذُبٌ، بل مثل اختلاف أهلِ البيت عليهم السَّلامُ، وكذلك اختلافُ علماء الحديث فيما بينَهم، واختلافُهُم هم وغيرهم في أنّ هذا الحديثَ صحيح أم لا، أو (¬3) هذا الرَّجُلُ ثقةٌ أو حافظٌ أم لا. وبَعْدَ هذه القواعدِ أذكرُ لك ما يُصدِّقُها مِنْ بيانِ أحاديثِ معاوية الَّتي في الكتب السِّتَّة لِتَعْرِفَ ثلاثة أشياء: عَدَمَ انفراده فيما روى، وقلَّةَ ذلِك، وَعَدَم نكارته. فأقول: جملةُ ما في الجامعين " البخاري " و" مسلم " من حديثه ثلاثةَ عشرَ حديثاً، اتَّفقا منها على أربعةٍ، وانفرد البخاريُّ بأربعةٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ، وجملةُ ما رُوِيَ فيهما (¬4) وفي السُّنَنِ الأربع من حديثه خمسةُ أقسام. القسمُ الأول: ما يتعلَّقُ بأحكامِ التَّحليل والتَّحريم المشهورة مِنْ روايةِ الثِّقات، ومذاهبِ (¬5) الجماهيرِ، وفي هذا القِسْم أحاديث. الحديث الأول: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء (¬6)، رواه عنه ¬
الحديث الثاني: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق "
البخاريُّ ومسلم وغيرهُما، وهو مشهورٌ من روايةِ الثقات، رواه مسلمٌ عن جابر، ورواه البخاريُّ ومسلمٌ عن أسماءَ بنتِ أبي بكر، ورَوَوْهُ كلُّهم عن عاثِشَة، وهو مذهبُ جماهيرِ العلماء. الحديث الثاني: "لا تَزَالُ طائفَةٌ منْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلى الحَقِّ" (¬1) رواه البخاريُّ ومسلمٌ عنه، وهو حديثٌ مشهورٌ عَنِ الثِّقات، رواه مسلم عن ¬
الحديث الثالث: النهي عن الركعتين بعد العصر
سعد بنِ أبي وقَّاص، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي عن ثوبان، والترمذيُّ عن معاوية بن قُرَّة، وأبو داوود عن عِمْرانَ بنِ حُصين، ومعناه مجمعٌ عليه. الحديثُ الثالث: النَّهي عن الركعتين بَعْدَ العصر (¬1)، رواه البخاريُّ عنه، والنَّهي عن التنَفُّلِ بَعْدَ العصرِ مشهورٌ عَنِ الثقات، رواه البخاري، ومسلم وأبو داوود، والنسائيُّ عن أم سلمة في النَّهي عَنِ الرَّكعتين بعد العصر (¬2)، وفي مسلم عن عُمَرَ أنَّه كان يضرب على ذلِكَ، وهو مذهبُ جماعةِ العلماء. ¬
الحديث الرابع: النهي عن الإلحاق في المسألة
الحديثُ الرابع: النَّهي عن الإلحافِ في المسألة (¬1)، رواه مسلم ¬
الحديث الخامس: " إن هذا الأمر لا يزال في قريش "
عنه، وهو مشهورٌ مِنْ رواية الثِّقات مُجْمَعٌ على صحة (¬1) معناه، رواه مسلم، والبخاري والنَّسائيُّ عَنِ ابنِ عُمَرَ، وأبو داوود، والنَّسائيُّ، والتّرمذيُّ عَنْ سَمُرَه، والنَّسائي عن عائذِ بنِ عمرو، والبخاريُّ عن الزبير، والبخاريُّ، ومسلمٌ ومالكٌ، والتّرمذي، والنَّسائي عن أبي هريرة، وأبو داوود، والنّسائي عن ثوبان، ومالك في "الموطَّأ" عن عبد الله بن أبي بكر، والبخاريُّ، ومسلمٌ والتِّرمذىُ، والنَّسائيُّ عن حكيمِ بنِ حزام، وأبو داوود، والنّسائيُّ عن ابن الفراسي، عن أبيه. الحديثُ الخامس: "إنَّ هذا الأمْرَ لا يزالُ في قُرَيْشٍ" (¬2) رواه ¬
الحديث السادس: حد شارب الخمر
البخاري عنه، ومعناه ثابتٌ من رواية الثِّقات، ومعناه صحيحٌ، فَعَنِ ابنِ عمر مثل ذلك رواه البخاريُّ، ومسلم، وعن جابرٍ، وأبي هريرة نحوه، رواه مسلم عن جابر، والبخاري، ومسلم عن أبي هُريرة. الحديثُ السادس: حدُّ شارب الخمر (¬1) وهو ظاهِرٌ مِنْ رواية غيره، مُجْمَعٌ عليه عند الجماهيرِ، لكِنْ فيه زيادة قتله في الرَّابعة، رواه أبو داوود والتِّرمذي، وابن ماجة، وهذه الزِّيادة معروفةٌ مشهورةٌ، وقد رواها (¬2) ¬
الحديث السابع: النهي عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع
الهادي عليه السلامُ في كتابه "الأحكام"، وممَّن روى ذلك غيرُ معاوية: أبو هريرة، وعَبْدُ الله بنُ عُمَرَ بن الخطاب، وقَبيصَةُ بنُ ذُؤيب، وجابرُ بنُ عبد الله، وعبدُ الله بنُ عمرو بنِ العاص، وشُرحْبيلِ بنُ أوس، وعمرو بنُ الشَّريد مِمَّن سَرَدَهُمُ ابنُ كثيرِ البَصْروِي (¬1) في "إرشاده" في حدِّ الخمر، وقال: كُلُّها عندَ الإِمام أحمد إلاَّ حديث قَبيصَة، وجابرِ. قلت: وحديثُ قَبِيصَةَ عند أبي داوود، وحديثُ جابرٍ عند الترمذي، وحديثُ أبي هريرة عند أبي داوود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وحكمه منسوخٌ عند الأكثرِ (¬2). الحديث السابع: النَّهي عن لباس الحرير، والذَّهب، وجلودِ السِّباع (¬3) وله شواهدُ، منها ما رواه النَّسائيُّ في هذا الحديثِ، أنَّه قال ¬
الحديث الثامن: حديث افتراق الأمة إلى نيف وسبعين فرقة
وعنده جمعٌ مِنْ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أتعلمونَ أنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهب إلا مقطَّعَاً (¬1)؟ قالوا: اللَّهُمَّ نَعَم، وفي أخرى أنَّه جمعهم، فقال: أَنْشُدُكُم (¬2)، هل نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ الذَّهب؟ قالوا: نَعَمْ، قال: وأنا أشهدُ، وفي روايةٍ أنَّه جمع نفراً مِنَ الأنصارِ، وفي رواية: منَ المهاجرين والأنصارِ، وكُلُّها عند النَّسائي. وأمَّا النَّهْيُ عَنِ الحرير، فله شواهدُ كثيرةٌ، منها: عن علي عليه السَّلامُ، ومنها: عن البراءِ، وهما في الصَّحيح، ومنها عن عِمْرَانَ عند أبي داوود، وعن أبي هريرة عند النسائي (¬3)، والمُرادُ بهذه الشَّواهد في النَّهي عَنِ الذَّهب والحرير مُطلقاً مِنْ غير تقييد بالرِّجال، أمَّا تحريمُه على الرجالِ دُونَ النِّساء، ففيه أحاديثُ أُخَرُ، وبقيَّة حديثه في جلود السِّباع، وله شاهِدٌ في جلودِ السِّباعِ عن أبي (¬4) المَلِيحِ رواه أبو داوود، والترمذي والنسائيُّ، وفي بعضِه بغيرِ لفظه. الحديثُ الثامن: حديثُ افتراق الأمَّةِ إلى نَيِّفٍ وسبعين فِرقة، كلُّها في النَّار إلا فِرْقَة واحدة (¬5)، وفي سنده أيضاً ناصِبِيٌّ، فلم يَصِحَّ عنه. ¬
وروى التِّرمذيُّ مثلَه من حديث عبد الله بنِ عمرو بن العاص وقال: حديثٌ غريب، ذكره في الإيمان من طريق الإفريقي، واسمُه عبد الرحمن بن زياد عن (¬1) عبد الله بن يزيد عنه، وروى ابنُ ماجةَ مثله عن عوفِ بنِ مالكٍ، وأنس، وليس فيها شيْءٌ على شرطِ الصَّحيح، ولذلك ¬
الحديث التاسع: النهي عن سبق الإمام بالركوع والسجود
لم يخرِّجِ الشيخان شيئاً (¬1) منها، وصحَّح الترمذيُّ منها حديثَ أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، وليس فيه (¬2) "كلُّها في النَّار إلا فِرْقَةً واحدةً"، وعن ابن حزمٍ أنَّ هذه الزِّيادة موضوعة، ذكر ذلك صاحبُ "البدر المنير". الحديث التَّاسع: النَّهي عن سبق الإمام بالرُّكوع والسُّجود (¬3) رواه عنه أبو داوود، وابن ماجة وهو مُجْمَعٌ عليه، مشهورٌ عَنِ الثِّقات، رواه البخاري ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة، ورواه مالك في "الموطأ" عنه أيضاً، ورواه مسلم، والنسائي عن أنس. الحديث العاشر: النَّهي عن نِكَاح الشِّغارِ (¬4) رواه عنه أبو داوود ¬
الحديث الحادي عشر: أنه توضأ وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووصفه
وهو مشهورٌ متَّفَقٌ على صِحَّته من حديث ابن عمر، وهو عن غيرِ واحدٍ، وهو قولُ الجمهور. الحديث الحادي عشر: أنَّه توضَّأَ وَضُوءَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ووصف الوضوءَ المعروفَ، وفيه زيادةُ صَبِّ الماءِ على النَّاصِيَةِ. رواه أبو داوود (¬1)، وقد رواه أبو داوود من حديث أميرِ المؤمنين عليٍّ عليه السَّلامُ. الحديث الثاني عشر: حُكْمُ مَنْ سَهَا في الصلاة (¬2). رواه النَّسائي ¬
الحديث الثالث عشر: النهي عن النياحة
عنه، وقد رواه أبو داوود مِن حديث ثوبانَ. الحديث الثالثَ عشر. النَّهيُ عَنِ النِّيَاحة (¬1). رواه عنه ابن ماجه وهو أشهر من أن تُعَدَّ شواهِدُه. الحديث الرابعَ عشر: النَّهي عَنِ التَّمادح (¬2). رواه عنه ابنُ ماجة أيضاًً، وهو مشهورٌ، رواه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داوود عن أبي بكرة، والبخاريُّ، ومسلم عن أبي موسى، والبخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود، والترمذيُّ عن المقداد. ¬
الحديث الخامس عشر: النهي عن كل مسكر
الحديث الخامسَ عشر: النَّهي عن كُلِّ مسكر (¬1). رواه عنه ابنُ ¬
الحديث السادس عشر: كراهة رضى الداخل على القوم بقيامهم له
ماجة، وهو متواتِرٌ، لا معنى لِذكر شواهده. الحديثُ السادسَ عشر: كراهةُ رضى الدَّاخِل على القوم بقيامهم له (¬1). رواه عنه الترمذي، وأبو داوود، وله شواهد عن أنسٍ عندَ ¬
الترمذي، وعن أبي أمامَةَ عند أبي داوود، وعن أبي بكرةَ، ذكرهن النَّواوي في كتابه " الترخيص في القيام " (¬1)، فحديث أنس صحيح وفيه كفاية، وحديثُ أبي أمامة في سنده أبو العنبس فيه جهالةٌ، وأبو غالب مُخْتلَفٌ فيه (¬2)، وحديثُ أبي بكرةَ في سنده مولى آل أبي بُردة، قال ¬
الحديث السابع عشر: النهي عن تتبع عورات الناس
النواوي: هو مجهول. الحديث السابعَ عشر: النهي عن تتبع عوراتِ الناس (¬1). رواه أبو داوود ويشهد لمعناه النهي عن التَّجسُّس، وهو في كتاب الله عزَّ وجَلّ، ومعناه مُجْمَعٌ عليه، وله شواهدُ في التِّرمذي حسناً غريباً، وفي " سُنن أبي داوود " عن أبي بَرْزَةَ الَأسلمي، وعُقْبةَ بن عامر، وزيدٍ بن وهبٍ، وفي " مسلم " عن أبي هريرة. الحديث الثامنَ عشر: النَّهي عَنِ القِران بَيْنَ الحجِّ والعُمرة (¬2) رواه ¬
عنه أبو داوود، وأحمدُ، ومَدَارُه على أبي شيخ الهُنائي، وفيه اضطراب كثيرٌ في متنه، وسندُه أوضَحَهُ النَّسائي في " سننه "، لأنَّه روى طرفاً من الحديثِ -وهو النَّهي عن لباس الذهب إلا مُقَطَّعَاً- ومنهم من قال: عن أبي شيخ، عن مُعاوية، ومنهم من قال: عنه، عن أبي حيَّان، عن معاوية، وقيل عنه، عن حيَّان، عن معاوية، وقيل فيه: عن ابن عمر بدلاً مِن (¬1) معاوية ذكره النسائي في " سُننه " (¬2)، والمِزي في " أطرافه " (¬3)، وله شواهِدُ عن ابن عمر رواه مالك في " الموطأ " مرفوعاً (¬4)، وعن عمر، وعثمان رواه مسلم موقوفاًً عليهما (¬5). ¬
الحديث التاسع عشر: أنه قصر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص بعد عمرته
الحديث التاسعَ عشر: من رواية ابن عباس عنه (¬1) -ليس له عنه في الكُتُبِ السِّتَّة سواه-: أنَّه قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ بَعْدَ عُمرته - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: حجَّه (¬2)، رواه الجماعة إلا التِّرمذي وابن ماجة وهو مشهور. ¬
الحديث الموفي عشرين: روى عن أخته أم حبيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه ما لم ير فيه أذى
ومعناه: جوازُ مُتعة الحجِّ، وهو مُعارِضٌ للحديثِ الأوَّلِ أعني الذي قبله كما يأتي عن ابن عباس، وأيضاً هو سالِمٌ مِنْ عِلَّهَ الاضطراب. وقد رُوِيَ عن عليٍّ عليه السَّلام ُ نحوُه (¬1) رواه مسلمٌ، وعن عثمان في " مسلم، أيضاًً، وعن سعدِ بنِ أبي وقاص رواه مالك في " الموطأ "، والنّسائي، والترمذي وصحّحه، وعن ابن عباسٍ عن عُمَر رواه النّسائي، وعن ابنِ عمر رواه التِّرمذيُّ، وعن عِمران بنِ حُصين رواه البخاريُّ ومسلم (¬2). ولمَّا روى معاويةُ هذا الحديثَ قال ابنُ عباس: هذه على معاوية، يعني: لأنَّه كان ينهى عن مُتْعةِ الحَجِّ، كذا في " سنن التِّرمذي "، و" النسائي " (¬3). الحديث الموفي عشرين: روى عن أخته أمِّ حبيبةَ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي في الثَّوب الذي يُجَامِعُها فيه ما لم يَرَ فيه أذىً (¬4). رواه أبو داوود، ¬
الحديث الحادي والعشرون: روي عن أبيه النهي لمن أكل الثوم والبصل عن دخول مسجد النبي
والنسائي، وهذا من مسند أخته أم حبيبة، لا مِن مسنده، ويشهدُ له أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي في نعليه ما لم يَرَ فيهما (¬1) أذىً. رواه أبو داوود عن أبي سعيدٍ الخدري، ورواه البخاري، ومسلم عن سعيد بن يزيد (¬2)، وحديث " لا يَنْصَرِف منْ صَلاَتِه حَتَّى يَسْمَعَ صوْتَاً أو يَجِدَ رِيحَاً " متَّفق عليه من حديث أبي هريرة، وهو مذهبُ الهادي عليه السَّلامُ أنَّ الطَّهارة المتيقَّنةَ لا تزولُ إلاَّ بحدَثٍ متيقَّنٍ، ولا تزول بالظَّنِّ القويِّ المقاربِ للعلم. الحديث الحادي والعشرون: روى عن أبيهِ (¬3) النَّهي لمن أكل الثُّومَ والبَصَلَ عن دخولِ مسجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وشواهِدُه أكثر وأشهر مِنْ أن تُذْكَرَ (¬4). ¬
الحديث الثاني والعشرون: " هذا يوم عاشوراء لم يكتب عليكم صومه "
الحديثُ الثَّاني والعشرون: حديث: " هذا يَوْمُ عاشُورَاء لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صَوْمُهُ "، وفي " البخاري "، و" مسلم " عن ابنِ عباس ما يَشْهَدُ لمعناه، حيث قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيماً لَهُ "، وقال: " فَأَنا أحَقُّ بمُوسى " بَعد سؤال اليهودِ عن سبب صومِهم له (¬1). القسم الثاني: من أحاديثه ما ورد في الفضائل المشهورة عن غَيْرِهِ، وفيه أحاديث. الحديثُ الأول: فَضْل إجابة المُؤَذِّنِ، والقولُ كما يقول (¬2)، رواه ¬
الحديث الثاني: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين "
عنه البخاري وهو مشهور، رواه مسلم عن عُمَرَ بنِ الخطاب، والبخاري، ومسلم، ومالك في " الموطأ "، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي عن أبي سعيد الخدري، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي عن عبد الله بن عمرو. الحديثُ الثاني: " مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرَاً يُفَقِّهْهُ في الذينِ " (¬1). رواه عنه البخاري ومسلم، وهو حديث مشهور رواه الترمذي عن ابن عباس بسند صحيح، ورواه أبو هريرة فيما ذكره الترمذي، ورواه عمر بن الخطاب، وابنُه عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأنس. ذكره عنهم ¬
الحديث الثالث: في فضل حلق الذكر والاجتماع عليه
الخطيب البغدادي في كتاب " الفقيه والمتفقه " (¬1). الحديث الثالث: في فضل حِلَقِ الذِّكر والاجتماعِ عليه (¬2). رواه مسلم، ومعناه مشهورٌ، وفيه: وما كان أحد بمنزلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقلَّ حديثاً مِنِّي. وهو في " البخاري " و" مسلم " عن أبي هُريرة، وفي " مسلم، و" الترمذي " عن أبي سعيد الخدري، وأبي هُريرة. الحديث الرابع: النَّهي عن الغَلوطات (¬3). رواه عنه أبو داوود. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقال الخطّابي (¬1): صوابه الأغلوطات، ولا يصِحُّ عنه، في إسناده مجهول، وله شاهدٌ عن أبي هريرة، رواه ابن الأثير في كتاب " جامع الأصول ". وفي " صحيح البخاري " عن أنس: نُهينَا عَنِ التَّكَلُّف، وهو يشهد لمعناه، وكذلك حديث " هَلَكَ المُتنَطَّعُونَ " يشهد لمعناه (¬2)، وهو متّفق عليه، وقد كره ذلِكَ أهلُ العلم، بَلْ ثَبَتَ عن كثيرٍ مِنَ الصَّحابة، والسَّلف كراهية الفتوى في المسألة قبل وقوعها، وكان زيدُ بنُ ثابت لا يُفتي حتَّى يحلِف السَّائلُ بالله تعالى أنَّ ما سأل عنه قد وقع، وممَّن ذكر ما ورد من كراهية ذلك، وتقصَّى الآثار: ابنُ السُّني (¬3) في كتابه. ¬
الحديث الخامس: " ليلة القدر ليلة سبعة وعشرين من رمضان "
الحديث الخامس: حديث " لَيْلةُ القدْرِ لَيْلةُ سَبْعَةٍ وعِشْرِينَ منْ رَمَضَان " (¬1) رواه عنه أبو داوود، وهو معروفٌ عن غيره، رواه أبو داوود ومسلمٌ، والترمذي عن أُبَيِّ بنِ كعب. الحديث السادس: فضل حُبِّ الأنصار (¬2) رواه عنه النسائيُّ، وفضلُهم مشهور بل قُرآني معلوم. الحديث السابع: حديث " اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا " (¬3)، وله شاهدٌ في ¬
الحديث الثامن: " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة "
" البخاري " ومسلم عن أبي موسى، وهو مجمع عليه، ومعناه في القرآن الكريم. الحديث الثامن: " المؤذِّنُونَ أطْولُ النَّاسِ أعنَاقَاً يوْمَ القيامَةِ " (¬1) رواه عنه مسلم، وهو مرويٌّ عن عليٍّ عليه السَّلامُ، وعن بلالٍ، وأنسٍ، وزيدِ بنِ أرقم، وعُقبةَ بنِ عامر، وأبي هريرة، وابنِ الزبير، وكُلُّهم عند الهيثمي في " مجمع الزَّوائد " إلاَّ حديثَ علي عليه السَّلام، فذكره أبو خالد في " مجموع زيد بن علي " عليه السلامُ. الحديث التاسع: حديث " مَنِ الْتَمَسَ رِضَا الله بِسَخط النَّاسِ " (¬2) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الحديث، رواه الترمذي، وليس من حديثه، لكِنَّه رواه عن عائِشَة، كذا وجدتُه فيمَا علَّقت، وطلبتُ روايةَ معاوية (¬1) عن عائشة في " أطراف " ¬
الحديث العاشر: تحريم وصل الشعر على النساء
المزِّيِّ، فلم أَجِدْهَا فيه، ولعلَّ ما كتبته مِنْ ذلك وَهْمٌ، والله أعلم، وهو معنى صحيحٌ، مجمعٌ عليه، لا يحتاجُ إلى روايةٍ ولا شاهدٍ. الحديث العاشر: تحريم وصل الشعر على النساء، وشواهده مشهورة، ولا أعلمُ فيه خِلاَفَاً على سبيلِ الجُمْلَةِ (¬1). الحديث الحادي عشر: " العَيْنَانِ وِكاءُ السَّه " (¬2)، وهو مروِيٌّ عن عليٍّ عليه السلامُ، رواه أبو داوود عن عليٍّ عليه السَّلامُ، والَّذي عن معاوية هو مذهبٌ معروف عَنِ العُلماء. القسم الثالث: ما يُوَافِقُ مذهبَ المعترِضِ من حديثه، وفيه أحاديثُ. الحديثُ الأول: حديث " لا تَنْقَطعُ الهِجْرَةُ " (¬3) رواه عنه أبو داوود، ¬
الحديث الثاني: النهي عن لباس الذهب إلا مقطعا
ولم يَصِحَّ عنه، قال الخطَّابيُّ: في إسناده مقالٌ، وله شاهدٌ عن عبد الله بنِ السَّعدي رواه النَّسائيُّ. الحديث الثاني: النَّهْي عن لباسِ الذَّهب إلا مُقَطَّعاً (¬1)، رواه عنه أبو داوود، والنسائي، وله شواهدُ ذكرها النسائي، فإنَّه روى ذلك عن جَمْعٍ مِنْ أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قولُه في حديثه " إلا مُقَطَّعَاً " فرواه النسائي عن عبد الله بن عمر (¬2) بن الخطاب، وهو مرويٌّ عن جَمْعٍ مِنَ الصّحابة أنَّهُم صدَّقُوا معاويةَ فيه حين رواه، ذكره أحمد في مسند معاوية، وهو ¬
الحديث الثالث: " الصيام يوم كذا وكذا، ونحن متقدمون "
الحديثُ الخامسِ من الجامع من مسنده لابنِ الجوزيِّ، وهو مذهبُ الإمام المنصورِ بالله عليه السلام، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في الحديث السابعِ من القسم الأول (¬1). الحديثُ الثالث. عن القاسم بنِ عبدِ الرحمن أبي عبد الرحمن مولى بني أُميَّة، أو يُقال: مولى آل معاوية، ويقال: مولى معاوية، عن معاوية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ على المنبر قَبْلَ شهرِ رمضان: " الصيامُ يَوْمُ كذا وكَذا، ونَحْنُ مُتَقَدِّمُون، فَمَنْ شَاء فَلْيَتَقَدَّمَ، وَمَنْ شاءَ فليتأخر " (¬2) رواه ابنُ ماجه في الصوم، قيل: إنَّه لم يسمع من صحابِيِّ إلا مِن أبي أُمامة، وكان أحمدُ بنُ حنبل (¬3) يحْمِلُ عليه ويتَّهِمُه، وقال: يروي عنه عليٌّ بن يزيد عجائبَ، وما أراها إلا من قِبَلِ القاسِمِ. وقال ابنُ حبان (¬4): كان يروي عن أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المُعْضِلاتِ. ورُوِيَ توثيقُه عن ابنِ معين، والترمذي، وكان يُروى عنه زهدٌ وعبادة، فالله أعلم، والراوي عنه العلاءُ بنُ عبد الرحمن (¬5): صالح ¬
القسم الرابع: ما يتعلق بالفضائل مما ليس بمشهور
أنكر من حديثه أشياء، وممَّا أنكروا من حديثه: حديثُ النَّهي عن الصومِ إذا انتصف شعبانُ (¬1)، وفيه خلافٌ وكلامٌ كثيرٌ، وشيخُ ابن ماجه فيه عباسُ بنُ الوليد الدِّمشقي صُوَيْلِحٌ، وقال أبو داوود: أُحَدِّثُ عنه. القسمُ الرابعُ: ما يتعلَّقُ بالفضائل، مما ليس بمشهور، ولكن له شواهد عن غيرِه، وفيه أحاديثُ. الأوَّلُ: استلام الأركانِ كُلِّها (¬2)، وهو مذهبُ الحسن والحسين ¬
الحديث الثاني: " طلحة ممن قضى نحبه "
عليهما السلامُ، وأنس، وابنِ الزبير، ورواية عن ابنِ عباس، ذكر (¬1) ذلِكَ أبو عمر (¬2) بنُ عبدِ البر في " تمهيدِه "، ومن روى أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الشَّامِيَّيْنِ، فقد علَّل ذلك بأنَّ الحجر مِنَ البيت، فَلَيْسَا رُكْنَي البيت على الحقيقة كما ورد هذا التعليلُ. الحديث الثاني (¬3): حديث " طلحة مِمَّن قضى نَحْبَهُ " (¬4) رواه عنه الترمذيُّ، والطّيالسيُّ، والحديثُ معروف مِنْ رواية طلحة، ومن رواية عائشة، وله شاهد في " مسلم " (¬5) عن أبي هُريرة. ¬
الحديث الثالث: حديث الفصل بين الجمعة والنافلة بعدها بالكلام
الحديث الثالث: حديثُ الفصل بَيْنَ الجُمُعَةِ والنّافلة بعدَها بالكلام، أَوِ الخُروجِ منَ المسجدِ (¬1)، رواه عنه مسلمٌ، وله شواهد (¬2)، وهو في " مسند ابن أبي شيبة " عن عُمَرَ مِنْ ثلاث طُرُقٍ، وعن ابنِ مسعود من ثلاث طرق، وعن إبراهيم: كانوا يكرهون ذلك، وعن المسيَّب بنِ رافع مثله، ذكرها مخرِّجُ أحاديثِ " الهداية " منَ الحنفية، وله شاهد أيضاَّ عن ابنِ عمر مِن فعل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، رواه البخاريُّ، وهو من أحاديث الفضائل. الحديث الرابع: " كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أنْ يَغْفِرَهُ إلا الشِّرْكَ باللهِ، وَقَتْلَ المُؤْمِنِ " (¬3) رواه عنه (¬4) النّسائيُّ، وله شاهدٌ مِن حديث أبي الدّرداء بنحو لفظه رواه عنه أبو داود، وأمّا بغير لفظه فشواهدُهُ لا تُحْصَى، بلِ القرآن الكريم أصدقُ شاهد لذلك، بل مُغْنٍ عن ذكر ذلِكَ، وسيأتي ما ورد ¬
القسم الخامس: ما لا يتعلق به حكم
في ذلك في الكلام في مسألة الإِرجاء والرَّجاءَ من آخِرِ هذا الكِتاب إنْ شاء الله تعالى. القسم الخامس: ما لا يتعلَّق به حُكْمٌ وفيه أحاديث. الحديث الأول: حديث وفاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّين سنة (¬1)، رواه مسلم عنه (¬2)، وقد تابعه على ذلِكَ غيرُ واحدٍ، ولذلك كان أكثرَ الأقوال وأصحّها، ذَكَرَ ما يقتضي ذلِكَ ابنُ الأثيرِ في " جامعه " (¬3)، وقيل في مُدَّةِ عمره - صلى الله عليه وسلم - غيرُ ذلِكَ. الثاني: ذكرُ حديثِ كعبٍ الأحبارِ عن أهلِ الكتاب (¬4). ¬
الحديث الثالث: " إنما أنا خازن والله المعطي "
الثالث: حديث " إنَّمَا أنَا خَازِنٌ، واللهُ الْمُعْطِي " (¬1) رواه مسلم، وله شاهِدٌ رواه عليٌّ عليه السلامُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: " لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلاَ يَنْفَعَ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، رواه مسلمٌ مِن حديث عليٍّ عليه السلامُ فيما يُقَالُ في الاعتدال مِنَ الرُّكوع، ومعناه مجمعٌ عليه، وشواهدُهُ لا تُحصى. الرابع: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - للنّاس: " الصِّيام يَوْمُ كذا " (¬2) رواه ابن ماجه، ولا ثمرةَ له إلا أنَّه يُستحب للإمام، والقاضي إذا علِمَ أوَّلَ الشَّهْرِ أنْ يُخْبِرَ النَّاسَ، وما زال النَّاسُ على هذا، وهذه سُنَّةٌ مستمرة. الخامس: حديث " الخَيْرُ عَادَةٌ والشّرُّ لَجَاجَةٌ "، رواه ابن ماجه (¬3). ¬
الحديث السادس: " لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة "
السادس: حديث " لمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلا بَلاَءٌ وَفِتْنَة "، رواه ابن ماجه (¬1). السابع: حديث " إنَّما الأعمالُ كالوِعَاءِ إذا طابَ أسْفَلُهُ، طَابَ أَعلاهُ " رواه ابن ماجه (¬2). الثامن: سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (¬3) [التوبة: 34] وفيمَ نزلت، رواه البخاريُّ، والنِّسائي مِنْ طُرُقٍ ¬
الحديث التاسع: أن معاوية ذكر أشياء لجمع من أصحاب رسول الله، فقالوا: فقال: أتعلمون أنه نهى عن جمع بين حج وعمرة
كلّها من حديث زيد بن وهب، عن أبي ذرٍ أنّه قال: نزلت فينا، وفي أهلِ الكتاب، وخالفه معاويةُ، وقال: إنَّما نزلت في أهلِ الكتاب، وهذا الحديثُ إنَّما ذُكِرَ لسياق قصَّة أبي ذرٍّ، وسبب خروجه من المدينة لمخالفة معاوية له في ذلك، واجتماع النّاس عليه، وليس يَلْتَفِتُ أحدٌ مِنْ أهلِ السُّنَّة إلى ترجيح معاوية على أبي ذرٍّ، ولا يختلفون في ترجيح أبي ذَرٍّ، سيما وقد وافقه ابنُ عباس، وابنُ عمر، وثوبانُ، وأبو هريرة كما ذكره أهلُ كتب الحديث والتَّفسير، وإن كان الواحديُّ (¬1) أشار إلى اختلاف المفسرين في ذلك مِنْ أجلِ أنّ الآية الّتي قبلها في أهل الكتاب، ولذلك قالوا: إنّها محتملة، وهذا أيضاً غيرُ مرفوعٍ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويدلُّ على ما ذكرته أنّ البخاريَّ قال: باب قوله عز وجل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] ثمَّ بدأ فيه بحديثِ أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - " يَكُونُ كَنْزُ أحَدِكمْ يَوْمَ القيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ " (¬2)، فجعلها في المسلمين، ثم قوّاه وأردفه بحديثِ أبي ذرِّ أنَّ معاوية قال: إِنَّما هِيَ فيهم، فقلت: إنَّها لَفِينا وفيهم. التاسع: وفي " المسند " من طريق قتادة عن أبي شيخ أنَّ معاوية ذكر أشياء لجَمْعٍ مِنْ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: فقال: أتعلمون أنه نهى عن جمْعٍ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرة؟ قالوا: أمَّا هذه، فلا، قال: إنَّها مَعَهُنَّ. رواه أحمدُ (¬3)، وزاد: " ولكِنَّكمْ نَسِيتُمْ " ففي صحته نظرٌ، لما فيه من الاضطراب كما مضى في الحديث الثامن عشر من القسم الأول من حديث معاوية، وإن كان في ذلك النَّهْي عن القرانِ بين الحجِّ العمرة، وهو يقتضي النَّهْيَ عَنِ القِران، لا عن التَّمَتُّع، وهذا محتملٌ، وهو في القِران ¬
أظهرُ، فهذا مِنْ جملة اضطراب الرَّاوي في متن الحديث. على أنَّهُ قد رُوي له شواهد مع ضعفها عن رَجُلٍ صحابِيٍّ، وعن ابنِ المسيب، وعن بلالِ ابن الحارث، وعن أبي ذرٍّ موقوفاً عليه، وفي كُلٍّ منها مقالٌ، رواه أبو داود عن ابن المسيِّب، عن رجلٍ من أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أتى عُمَرَ، فَشَهِدَ عنده أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الَّذي قُبِضَ فيه ينهى عَنِ العُمرة قبْلَ الحجِّ، وعن حَيْوَةَ عن أبي عيسى الخُراساني سليمان بنِ كيسان، عن عبدِ الله بنِ القاسم، عن ابن المسيب به. وقد تقدم في الحديثِ التاسعَ في القسم الأوّل أن معاويةَ روى أنّه قَصَّرَ منْ شعر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الودَاعِ بعد عُمرته، مُتَّفَقٌ على صحَّته عنه، رواه الجماعة كلُّهم عنه (¬1) مِن حديثِ ابنِ عباس عنه، وليس عندهم لابنِ عباس عنه سواه، وهو الحديثُ الذي كان ابنُ عباس يقوله فيه: أمّا هذه فإنَّها على معاوية لا له، لأنَّه كان ينهى عَنْ مُتْعَةِ الحجِّ، وكان ابنُ عبَّاس، وعليٌّ عليه السَّلامُ، وجمهورُ الصَّحابة يُفْتُونَ بها، وكان عمر يُصَرِّحُ أنَّه رَأيٌ منه. وفي حديث معاوية ذلك دِلالَةٌ على أنَّ التَّمَتُع بالعمرة إلى الحجِّ جائز، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان متمتِّعاً، وقد مضى أنَّه قولُ جماعةٍ كثيرةٍ مِنَ الصَّحابة، وَمَنْ بعدهم، وفيه تضعيفٌ لحديثه هذا في النَّهْيِ عن جمعٍ بين حجٍّ وعُمرة، فهذا مُنْكَرٌ جِدّاً، مُخالِفٌ لِمَا في الصِّحاح في مُتعة الحجِّ، وأنَّها لِأبَدِ الأبَد مما ذِكْرُه يَطُولُ (¬2). ¬
بقية أحاديث معاوية من " المسند " مما لا نكارة فيه
ولما روى الحارثُ بنُ بلال عن أبيه هلال بن الحارث أنّ فَسْخَ الحجِّ إلى العُمرة كان خاصّاً بأصحابِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال أحمد بنُ حنبل، لا يُعْرَفُ الحارثُ بنُ بلال، ولو عُرف، إِلاّ أنَّ أحدَ عشرَ رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَالِفُونه، أين يَقَعُ الحارثُ منهم ذكره ابنُ تيمية في " المنتقى" (¬1). وأما حديثُ معاوية هذا لا أعلمُ أن أحداً منهم صحَّحه، ولا التفت إليه -أعنىِ مِنْ أئِمّة الحديثِ- وإنَّما خَرَّجَ مسلم (¬2) شيئاً موقوفاً في هذا عن أبي ذرٍّ مِن قوله في معنى حديث بلال بن الحارث، وهو ضعيف أيضاً. وبقيةُ ما في " المسند " عنه مما لا نكارةَ فيه: منها: " الإِيمانُ قَيْدُ الفَتْكِ " (¬3)، و"مَنْ كَذَبَ علَيَّ ¬
مُتَعَمِّداً" (¬1)، و" مَنْ مَاتَ بِغَيرِ إمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " (¬2)، و" العَيْنانِ وِكَاءُ السَّهِ " (¬3)، و" العُمرى جائزة (¬4)، والنّهْي عن ¬
الإلحاف (¬1)، وتكفير الذُّنوب بالمصائب (¬2)، ولَعَنَ مشققي ¬
الكلامُ (¬1)، و" النّاسُ تَبَعٌ لقريش " (¬2)، و" إن وَليتَ، فاتَّقِ اللهَ وَاعْدِلْ " (¬3)، و" إِنَّ هذَا الأمْرَ في قُرَيْشٍ " (¬4)، وأنه - صلى الله عليه وسلم - مصَّ لسانَ الحَسَنِ، وَلَنْ يَدْخُلَ النار لسانٌ مصَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
هذا جميع ما لمعاوية في الكتب الستة و" مسند أحمد " وجملتها ستون حديثا
فهذا جميع ما لمُعَاوِيَةَ في الكتب السِّتَّةِ، و" مسند أحمد " حَسْبَ معرفتي، وجملتُها سِتُّون حديثاًً ما صَحَّ عنه وما لَمْ يصِحَّ، المتَّفق على صحَّته عنه أربعة، وهي: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء، وأنَّها لا تزالُ طائفةٌ مِنَ الأُمَّةِ ظاهرين على الحقِّ، وأنَّ صومَ (¬1) عاشوراء غَيْرُ واجبٍ، وأنّه قصَّر للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن شعره في حِجَّة الوَدَاع، هذا جميعُ ما اتَّفقوا على صحَّته عنه. وما سواه جميع ما رُوِيَ عنه ممّا لم يتَّفِقُوا على صحَّتِهِ، وإن سقط من ذلِكَ شيءٌ، فهو اليسيرُ، وأرجو أن لا يكونَ فاتني من ذلك شيء (¬2) إن شاء اللهُ تعالى، وهو أكثرُ الجماعة المذكورين حديثاًً، وهو مُقِلٌّ جداً بالنَّظَرِ إلى طُولِ مدَّته، وكثرة مخالطته، وليس فيما صحَّ عنه بوفاق شيء يُوجِبُ الرِّيبة والتُّهمة، ولا فيما رواه غَيْرُهُ مِنْ أصحابه، فبان أنّ الأمر قريبٌ، مَنْ قبِلَ حدِيثَهم، فلم (¬3) يقبل منه حديثاً منكراً، ومَنْ لم يَقْبَلْهُ، استغنى بحديثِ غيرهم مِنَ الصَّحابة الَّذين وافقوهم على رواية مثل (¬4) ما رووه مِمَّنْ ذَكَرْتُ، وَمِمَّن لم أذْكُرْ، فإنِّي لم أسْتَقْصِ، ولا سبيلَ إلى الاستقصاء، فَمَنْ أحبَّ الزِّيادة على ما ذكرتُهُ من معرفة مَنْ وافقهم، فليطالِعْ ذلِكَ في مظانِّه مِن كُتُبِ الحديثِ البسيطة مثل " مجمع الزوائد " للحافظ الهيثمي، فإنه أجمعُ كتابٍ لذلك، ولم أتعرَّض لنقل ما فيه مِنْ ذلكَ، ولا أعلمُ في حديث هؤلاء شيئاً (¬5) مما يُتَّهم فيه راويه (¬6) إلا حديثاًً ¬
واحداً رُوِيَ عن عمرو بن العاص بغير اللفظ المعروف في الصَّحاح، ولم يصحَّ بذلكَ اللّفظ المنكر، وله به معنى صحيحٌ محتملُ، لكنه لم يصحَّ ذلِك اللفظ كما نوضِّحُه، بل تفسيرُهُ الصَّحيحُ يُنَافي ما ذكره مِن التُّهْمَةِ لَهُ في ذلِك، وذلِكَ ما أخرجه البخاريُّ في الأدب في الباب الرابع عشر منه، وهو باب تُبَلُّ (¬1) الرَحِمُ ببلالها، ومسلم في كتاب الإيمان، كلاهما من طريق محمد بنِ جعفر غندر، عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيسِ بنِ أبي حازم، عن عمرو بن العاص، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ جِهاراً غَيْر سِرَارٍ (¬2) " آلُ أبي فُلانٍ لَيْسوا بأوليائي، إنَّما وَليي اللهُ وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ " (¬3) خرَّجَاه، قال البخاري: زاد عنبسةُ بن عبدِ الواحد، عن بيان، عن (¬4) قيس، عن عمرو " لكن (¬5) لهُمْ رَحِمٌ أبُلُّها بِبَلاَلِهَا " هذا لفظ البخاري، وهو الحديثُ العشرون من مسند عمرو في (¬6) " جامع ابن الجوزي "، ولفظ أحمد بن حنبل في " المسند " مثل البخاري ومسلم لم يُسم أحدٌ منهم هؤلاء المذكورين، وفي " صحيح البخاري " " آلُ (¬7) أبي " من غير ذكر شيءٍ بعدَه، وفيه قال عمرو بنُ عباسٍ الراوي في " صحيح البخاري ": عن محمد بنِ جعفر، في (¬8) نسخة محمد بن جعفر بياض، ¬
يعني بَعْدَ " آل أبي "، وهذا هُو الّذي ذكره القاضي العلاّمة عياض المالكي في كتابه " إكمال المُعْلِم بفوائد شرح مسلم " (¬1)، وفسَّر ذلك بالحكمِ بن أبي العاص طريدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك العلامةُ النَّواوي في " شرحه " لمسلم، وكذلِكَ العلاَّمة ابن حجر فسر ذلك بآلِ أبي العاص، وقد ثبت أنَّ إبهامَ هؤلاء وقع قبل اتِّصال الحديثِ بالبخاري ومسلم، إن ثبت ذلك الإبهامُ، فإنَّ في " صحيح البخاري " في رواية عمرو بن عباس شيخ البخاريِّ فيه: أنَّ في كتاب محمد بن جعفر غُندر عن (¬2) شُعبة بياضاً في ذلِكَ الموضع، فيحتمل أنَّ شُعبة الّذي حذف ذلكَ عمداً، ويحتمل أنَّ الذي حذفه مَنْ قَبْلَهُ، وبيَّض لبيان ذلك حين (¬3) يقع له كما هو عادة المصنِّفين (¬4) التبييض لمثل ذلِك، بَلِ الظَّاهر أنَّ عمرو بنَ العاص هو ¬
الذي حذفه، فلا عَتْبَ (¬1) على صاحِبَيِ " الصَّحيح " في إثبات الحديث، فإنَّهما إنَّما (¬2) أثبتاه لفائدةِ البراءِ من أعداءِ الله، وتخصيص الموالاة لأوليائه كما قال النَّواوي في " شرح مسلم "، وعلي بن خلف بن بطال في " شرح البخاري " على (¬3) أنّ ابن بطَّال جعل الرواية: " إنَّ آلَ أبي ليْسُوا بِأوْليَائي " بإثبات ضمير المتكلِّم، وحذف " فلان " وذلكَ ظاهرُ المنصوص في " الصَّحيحين "، وهذا لفظه في شرحه، قال (¬4): قال المهلب: " إنَّ آلَ أبي لَيْسُوا بأوليائي، إنَّما (¬5) ولِيي الله، وَصَالِحُ المُؤمِنِين "، فأوجب عليه السلامُ الولاية بالدِّين، ونفاها عَنْ أهلِ رَحِمِهِ إذا لم يكونوا منْ أهل دينه، فدلَّ بذلكَ أنَّ النَّسبَ محتاجٌ إلى الولاية الّتي بها (¬6) تقع الولايةُ بين المتناسبين والأقارب، فإنْ لم يكُنْ دينٌ يجمعهم، لم تكن ولاية، ولا موارثة، ودلَّ هذا أن الرَّحِمَ التي تضمَّن اللهُ أن يَصِلَ مَنْ وصَلَهَا، ويقطعَ منْ قطعها، إنما ذلِكَ إذا كان في الله تعالى وفيما شرع، وأما مَنْ قطعها في الله، وفيما شرع، فقد وصل الله والشَّريعة، واستحقّ صلةَ اللهِ بقَطْعِه مَنْ قَطَعَهُ اللهُ، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فكيف بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَقَوْله: "ولكِنْ لَهُمْ ¬
رَحِمٌ أبُلُّها بِبِلالِها"، -يعني أصِلُهَا معروفاً- إلى قوله: قال المهلَّبُ: هو الذِي أمر اللهُ به في كتابه فقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، فلمَّا عَصَوْهُ وعاندوه، دعا عليهم قال: " اللهم أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ "، فلمَّا مسَّهُمُ الجوعُ، أرسلوا إليه: فقالوا: يا مُحَمَّد، إنَّكَ أمرت بِصِلَةِ الرَّحِمِ، إنَّ أهلك قد جاعوا، فادْعُ الله لهم، فدعا لهم (¬1) بعد أن كان دعا عليهم، فوصلُه رَحِمَهُ فيهم بالدُّعاءِ لهم، فذلك ما (¬2) لا يَقْدَحُ في دينِ الله، ألا ترى صُنْعَهُ عليه السلام فيهم، إذ (¬3) غَلَبَ عليهم يَوْمَ الفتح كما أطلقهم مِنَ الرِّقِّ الذي توجه إليهم، فسُمُّوا بذلِكَ الطُلقاءَ، ولم ينتهِكْ حريمهم (¬4)، ولا استباحَ أموالهم، ومنَّ عليهم، فهذا كُلُّهُ مِنَ البلال. انتهى بحروفه. وقال في تفسير " البلال " مثل ما ذكره ابنُ الأثير في " الجامع " (¬5) في تفسير الحديث في صِلَةِ الرَّحم من حرف الصَّاد. ويعضُد ما ذكره ابنُ بَطَّال من تصحيح هذا الرِّواية بهذا المعنى وعَدَمِ الالتفات إلى غيرها ما خرَّجه الحاكم في تفسير سورة الأنفال من حديث إسماعيل بني عُبَيْدِ بنِ رِفاعة، عن أبيه، عن جدِّه رِفاعة، قال: جمع رسول الله قريشاً، قال: " هلْ فِيكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ "، قالوا: فينا ابنُ أختنا، وفينا حلِيفُنا، وفينا مولانا، فقال: "حَلِيفُنَا مِنَّا، وابنُ (¬6) أُخْتِنَا ¬
منَّا، وَموْلانا مِنَّا إنّ أَوْليَائي مِنْكمْ المُتَّقُونَ" (¬1). قال الحاكم: صحيح الإسناد، فهذا الحديثُ شبيهٌ بذلك، وشاهدٌ له أو هو هو، وهو جديرٌ أن يَدْخُلَ في مناقب آل أبي طالب، فإنَّهُمْ داخلون في المتقين. وفي " مجمع الزوائد " (¬2) في فضل قريش أنه رواه البزَّار، وأحمد باختصار، والطبراني بنحو البزَّار بأسانيد، ورجالُ أحمدَ، والبزَّار، وإسناد الطَّبراني ثقاتٌ وفي صالح المؤمنين بالإجماع على كلِّ تفسير، وعلى كلِّ تقدير، بل هُمْ أئمَّةُ المتَّقين ورؤوسُهما وكُبراؤهم وساداتهم. وعن أبي هُريرة مرفوعاًً نحوَ ذلك، رواه (¬3) الطَّبراني في " الأوسط "، والهيثمي في كتاب " الزهد " (¬4) في باب جامع في المواعظ، وعن معاذ مرفوعاًً مثلَ ذلِكَ رواه (¬5) الطبراني، سنده (¬6) جيد، ذكره الهيثمي (¬7) بعد ذلِكَ في باب بعدَ باب التَّعرض (¬8) لنفحات رحمة الله، فكيف أن يكونوا في " الصَّحيحين " ¬
هُمُ الّذين نُفِيَتْ عنهمُ الوِلَايَة في نصِّ الحديث، وأنَّهم مع نَصِّ الحديث على نفي الولاية عنهم تعمدوا تصحيحَه لذلك، وهم أعلمُ وأتقى لله من ذلِكَ؟ وقال البخاري في تفسير سورة براءة، في باب قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]: حدثني عَبْدُ الله بنُ محمد، قال: حدثني يحيى بنُ معين، قال: حدثنا (¬1) حجّاج، قال: حدثنا ابنُ جُريْج، قال لي ابنُ أبي مُليكة -وكان بينهما شيءٌ- فغدوتُ على ابن عبَّاس، فقلتُ: أتريدُ أن تُقاتِلَ ابنَ الزُّبير، فَتُحِلَّ حُرُمَ اللهِ؟ فقال: معاذَ الله؛ إنَّ الله كتبَ ابنَ الزبير، وبني أمية مُحِلِّين، وإنِّي والله لا أُحلُّهُ أبداً (¬2). هكذا في " البخاري " ذم بني أمية مصرَّحٌ غيرُ مُسَتَّرٍ ولا مُأوَّلٍ، لا في " صحيحه "، ولا في " شرحه "، وكتب هذا فيه (¬3) وخلَّده وأصحّه (¬4)، ولم يُؤخذ له منه أنّه منصف، بل، ولا سلم (¬5) معه مِنْ نسبته إلى تعمُّد ما (¬6) يعلم ¬
تحريمه من بُغْضِ عليٍّ وأهل بيته، ورواية الموضوعات في مثالِبِهِم، بل ما سلم من نِسْبَةِ (¬1) ما لم يَرْوِه البتَّة إلى أنَّه في صحيحِهِ المشهورِ المعلومِ مع وجودِ صحيحه بين الناس، وظهور براءته عمّا رُمِيَ به، ووضوحِ السَّبيل إلى الطَّلب لذلِكَ في صحيحه، واختبار (¬2) صدق مَنْ رماهُ بذلِكَ أو كَذبه، لكنَّهُ قد كَثُرَ التَّقليدُ لسهولته، وتزيين (¬3) الشَّيطانِ لهُ، فَصُدِّقَ الكاذِبُ على البخاري مِنْ غيرِ أدنى بحث، ولا أقل عناية، فمِنْ ها هنا وقع الخَللُ، وفشا الجهْلُ، وعُورِضَ الحقُّ بالباطلِ (¬4)، فاللهُ المستعان. وكُتب المحدِّثين مشحونةٌ بالتَّصريح بذمِّ بني أميَّة مِنْ دون تستُّر في ذلك ولا تقية، كما أنّها مشحونَةٌ بمناقِبِ العِترة الزَّكيَّة، مع أنهم في بلاد أعداءِ أهل البيت، وكفي لهم شاهداً على تحرِّي الصدق، وقوّة الأمانة بذلك، ففي " سنن الترمذي "، و" أبي داود " عن سفِينَة مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه (¬5) لمَّا روى حَديثَ: " الخِلَافَةُ بَعْدِي ثلاثُون سَنَّة، ثُمَّ يَكُون مُلْكُ " (¬6) قيل له: إنّ بني أمية يزْعُمونَ أنَّ الخلافَةَ فيهم، فقال: كذبوا بنو (¬7) الزَّرقاء، بل هُمْ ملوكٌ مِنْ شَرِّ الملوك. هذا لفظُ التّرمذي (¬8)، ¬
وقال: حديث حسن، ولفظ أبي داود (¬1): كَذَبَتْ استاه (¬2) بني الزرقاء، يعني بني مروان. وفي " الترمذي " (¬3) من حديثِ الحسن بنِ عليٍّ عليهما السلامُ، أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رأي بني أُمَيّة على منبره، فساءَه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ¬
الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر] يمْلِكُهَا بعْدَكَ بنُو أُمَيَّة يا محمَّد، فكانت تلك مدَّتَهُم، لم تَزِدْ، ولم تنْقُصْ. وفي " مسند أحمد بن حنبل " عن عُمَر بن الخطاب، أنَّه وُلدَ [لأخي أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -] غلامٌ، فَسَمَّوْهُ (¬1) الوليدَ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " سَمَّيْتُمُوه بِأسْمَاءِ فَرَاعنَتِكُمْ، لَيَكُونَنَّ في هذِهِ الأُمَّةِ رجُلٌ يُقَالُ لَهُ الوَليدُ، لَهو أَشَرُّ عَلَى هذِه الأُمَّةِ منْ فِرْعَوْن لِقَوْمهِ " (¬2). ورواه الهيثمي الشافعي في " مجمع الزوائد " (¬3) في باب فتنة الوليد، وقال: رجاله ثقات. وروى من هذا شيئاً كثيراً في مواضِعَ متفرقة، منها في تفسيرِ قوله ¬
تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] من حديث عبدِ الله بنِ عمرو بن العاص، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أَشْقى النَّاسِ ثَلَاثةٌ: عاقِرُ نَاقَةِ ثَمُود، وابْنُ آدَمَ الذي قَتَلَ أَخَاه، وقاتِل عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عنْهُ " (¬1). فكيف نتركُ معرفة صِدْقهم وتحرِّيهم مِنْ هذه الأشياء الجليَّة الكثيرة الطَّيِّبة، ونتكلَّف نقيضَ ذلك ممَّا لم يَكُنْ؟ وعلى تقدير ثبوتِ آل فلان في الحديث، فقد تطابقوا على تفسيرهم بآلِ أبي العاص، وهو الحَكَمُ بنُ أبي العاص طريدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولده، كما جاء صَرِيحاً كثيراً كما يأتي قريباً في هذا الكتاب، وأنَّه قولُ أهلِ السُّنَّة يُصَرِّحُون به لا يكتمونه، فمِمَّن نصَّ على ذلك القاضي عياض في كتابه " إكمال المعلم بفوائد شرح مسلم "، وهو أشهر شروح مسلم، ولم يعترضه في ذلك أحدٌ، بل قرَّره النَّواوي على ذلك (¬2)، وهما إماما الطَّائفتين العظيمتين: الشَافعية والمالكية، وإماما الحديثِ النَّبوي متناً، ¬
وسنداً، وشرحَ غريبٍ، وبيان مجملٍ: وكشف مُشْكِلٍ. وكذلك ذكر ذلك العلامة أحمدُ بنُ علي العسقلاني المعروف بابن حجر في مقدمة " شرحه " للبخاري (¬1)، وهؤلاء وجوهُ علماءِ السُّنَّةِ وأَئِمَّتهم، وطريق معرفتهم لِذلكَ من كتب (¬2) المستخرجات على " الصحيحين "، وسائر ما ورد من الأحاديث، فإن أَهْلَ المستخرجات يذكرون أحاديث الصحيح مِنْ غيرِ طريق صاحبه بزيادةِ بيانٍ، وتتمَّةِ نقصٍ، ونحوِ ذلك، وسائرُ الأحاديث تدلُّ على ذلك، فإنَّ السُّنَّة يفسِّرُ بعضُها بعضاً، كما أنَّ القرآن يفسِّرُ بعضُه بعضاً. وقد ورد في آل أبي العاص مِنَ اللَّعْنِ والذَّمِّ في الأقوال، والنَّفي والطَّرد في الأفعال ما يدلُّ على أنَّهم المتبرَّأُ منهم جهاراً غير سرارٍ (¬3) كما يأتي، وإنَّما كَتَمَ الذي كتمه تقيَّةً مِنْ عظيمِ المضرَّة كما قال أبو هريرة في الوِعاءِ الذىِ كتمه من حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه لو بثَّه، لقطِعَ هذا البُلعوم (¬4)، وقد فسَّره شراح الحديث بنحو هذا. فأمَّا قولُ منْ قالَ: إنَّهم آلُ أبي طالب عليهم السَّلام، فهذا مِنْ أسمج المقالات القبيحة، والصِّحاح مُنزَّهَةٌ وأهلُها عن تدوين مثلِ هذا، وإنَّما هذا تصحيفٌ من بعض النَّواصب، حَمَلَهُ الغيظُ على تزوير ما لا يمضي. وهَبْك تقُولُ هذا الصُّبْح لَيْلٌ ... أَيَعْمى العَالَمُونَ عَنِ الضِّيَاءِ؟ ¬
وقد قال بعضُ النَّاس ما معناه: إنَّه عليه السلام أرادَ: أولياؤه صالحوا المؤمنين مِنْ آل أبي طالب وغيرِهم، وأنَّه لا يقتصر على تولي آلِ أبي طالبٍ دونَ غيرهم مِنْ صالحي المؤمنين كعادَةِ الرب، وهذا معنى صحيحٌ لو كان إليه حاجةٌ، لكنْ لا حاجة إليه، وفي الحديث زيادةٌ ذكرها البخاريُّ تستلزِمُ القَطْعَ على أنَّهم ليسوا (¬1) آل أبي طالب، وذلك قولُه في آخره في بعض الرِّوايات " ولكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أبُلُّهَا ببَلاَلِها " وليس يُسْتنْكَرُ أنَّ (¬2) عمرو ابن العاص يروي هذا في آل أبي العاص بن أمية، وقد صحَّ أنَّه كان يُجاهِرُ معاوية بالثَّناء على أميرِ المؤمنين، وفي " مسند أحمد " بسند صحيح أنَّه جاهر مُعاويَة بحديثِ عمَّار العظيم، وفَزِعَ مِنْ قتله، وقال له معاوية: ما أفزعك؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتله (¬3) الفِئَةُ الباغِيَةُ " (¬4)، وكذلك ولده عبد الله قال عند معاوية لرجلين يختصمان أيُّهما قاتله: لِيطِبْ (¬5) أحدُهما به نفساً، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ "، وردَّ على معاويةَ تأويله في ذلك (¬6). وأما حديثُ عمرو أنه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليك؟ قال: " عائشةُ "، قلتُ: مِنَ الرِّجال؟ قال: " أبوها " (¬7)، وهو من ¬
حديث خالدٍ الحَذاء، عن أبي عثمان النَّهديَ، عن عمرو، وأوَّلَهُ (¬1) أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّره على جيش ذي السَّلاسل، فليس هُوَ مِنْ هذا القبيل، ويشهدُ له " لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ خلِيلاً، ولكِنْ خُلَّة الإِسْلاَمِ أفْضَلُ " رواه البخاريُّ (¬2) من حديث ابنِ عباس، ورواه مسلم، والترمذيُّ من حديث ابن مسعود، وفيه " ولكِنْ صاحِبُكُمْ خَليلُ اللهِ "، وفي رواية " وَقَدِ اتَّخَذ اللهُ صاحِبَكُم خَلِيلاً " (¬3). ورواه مسلم (¬4) أيضاًً عن جندب بن عبد الله نحو حديث (¬5) ابن مسعود. وقد روى الحاكم (¬6) على تَشَيُّعِهِ عنِ أمِّ سلمة أنَّها لما سمعتِ الصَّرخة على عائشة، قالت: واللهِ لقد كانت أحبَّ النَّاسِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أباها. ذكره الذَّهبيُّ، وقال: إسنادهُ صالح. والحاكم لا يُتَّهَمُ في ذلك، فإنَّه شيعيٌّ، وأمُّ سلمة فأبعدُ مِنَ التُّهمة، فإنَّها ضَرَّةُ عائشة، ولكن ذلكَ في أحبِّ الناس إليه، لا في أحبِّ أهلِه إليه الَّذين هم أحبُّ الناس إليه. وقد روى التِّرمذيُّ (¬7) من حديث عائشة أنَّه قيل لها: أيُّ الناس كان أحبُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فاطمة مِنْ قِبل النِّساء، ومِنَ الرِّجال زوجُها، وإن كان ما علمتُ صوَّاماً قوَّاماً، وكذلك فليكُنِ الإنصافُ رضي الله عنهم. ¬
وكذلك روى التِّرمذيُّ (¬1) مثلَه من حديث بُريدة، وذكر الترمذي نحو الجمع الذي ذكرتُه عن إبراهيم -يعني النَّخعي-. والكلام فيما شجر بين الصحابة ممَّا (¬2) كثُرَ فيه المِرَاءُ والعصبِيَةُ مع قِلَّة الفائدة في كثيرٍ منه، وفي الحديث " مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَهُوَ مُحِقٌّ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً في رَبَضِ الجَنَّةِ " (¬3)، وقَدِ اقتصرتُ لأجل ذلك عَنْ كثيرٍ منه رغبةً فيما أعدَّ (¬4) اللهُ لمنْ تركَ المِرَاءَ بنِيَّةٍ صالحةٍ مَع القطع بأنَّ الحَقَّ مع أميرِ المؤمنينِ عليٍّ عليه السلامُ، وأنَّ مُحَارِبَه بَاغٍ عليه، مُباحُ الدَّم، خارجٌ عَنِ الطَّاعة والجماعة، وقد تقدَّم أو سيأتي أنَّ هذا إجماعُ الأُمَّةِ من رواية أئِمَّة (¬5) أهل السُّنَّةِ، دَعْ عَنْكَ الشِّيعة. على أنَّ أحاديثَ هؤلاء الجماعة متميِّزةٌ عن غيرها، فلو قدَّرنا أنَّ حديثَهم نِصْفُ حديثِ الصَّحاح أو أكثره، لم يكن مانعاً من طلب ما في الصِّحاح من حديث الثقات المجمَعِ عليهم، ولا مُسْقِطَاً لوجوب ذلك، بل لو علم المكلَّفُ أنَّ فيها حديثاً واحداً (¬6) صحيحاًً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه عليه تكليفٌ، وبقيَّتُها أكاذيبُ وأباطيل، لوجب طلبُ (¬7) ذلك الحديث ¬
الصحيح، وقد سافر جابر بن عبد الله شهراً في طلب حديثٍ واحدٍ (¬1)، ولولا (¬2) عنايةُ أئِمَّة الحديث في حفظ الأسانيد والمتون، ما تميَّز حديثُ هؤلاء من غيره هذا التميُّز (¬3)، وعُرِفَ ما فيه ممَّا فيه نكارة، وما فيه ممَّا لا نكارَةَ فيه، فكيفَ يُتهمون بالعصبيَّة والإِضلال مع بيانهم لِمَا يتمكَّنُ الخصمُ به مِن الرد على بصيرة، أو القبول على بصيرة؟ وإنَّما يُتَّهمون بالإِضلالِ والغَرَرِ لو كتموا الأسانيدَ، وخَلَطُوا أحاديث (¬4) المختَلَفِ فيهم بأحاديث المُجْمَع عليهم، كما يصنعُ من يحذف (¬5) الأسانيد، ولا يذكر صحابيّاً ولا ¬
واعلم أن هذه الجملة كافية في الجواب على ما ذكره السيد، ولكن لا بد من التنبيه على ما عظم من أوهامه والاقتصار على ما يفيد:
غيره، فتأمَّل ذلك. واعلمْ أنَّ هذه الجملة كافيةٌ في الجواب على ما ذكره السيدُ في الموضع الثَّاني مِنَ المسألة الثَّانية، وتتبُّعِ كلامِهِ لفظةً لفظةً كما صنعتُ في جميع أوَّلِ رسالته يَطُولُ من غير طائلٍ، وليس فيه (¬1) أكثرُ مِنْ بيان ما يردُّ عليه مِنَ الإشكالات، وما في كلامه مِن المناقضات، ومجرَّدُ التَّتبُّعِ للعثرات ليس بمقصودٍ ما لم يكن فيه إيضاحٌ لِحَقِّ، أو دَلَالَةُ على هُدَىً، ولكن (¬2) لا بُدَّ من التَّنبيه على ما عَظُمَ مِنْ أوهامه أيده الله لأجل ما في معرفتها مِنَ النَّفع والفائده، لا لمجرَّدِ الاعتراض، فلو أردتُ الاستكثار مِنْ ذلِكَ، لاستوفيتُ الجواب على كتابه، وتتبَّعتُ (¬3) كُلَّ لفظةٍ من خطابه، لكنِّي كرهتُ ذلك لِمَا فيه من تضييعِ الوقت، وقِلَّةِ الجدوى، فلنقتَصِرْ على ذكرِ ما يُفيدُ من أوهامه أيَّدهُ الله. الوهمُ الأول: قال أيَّده الله: إنَّ المحدِّثين يذهبونَ إلى أنَّ الصحابة لا يجوزُ عليهمُ الكبائِرُ، وأنَّهم إذا فعلوا المعصية الظَّاهرة، عَدُّوها صغِيرَةً. لكِنِ السَّيِّدُ سمَّاهم بغير اسمهم (¬4)، وهذا وهمٌ فاحش، فإنَّه قد قَدَّمَ أنَّ الصَّحابي عندهم هو مَنْ رأي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، والقولُ بعصمة مَنْ رأي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْقَلْ عن أحدٍ مِنَ الأُمَّة أبداً، بل ما نُقِل عن أحدٍ من العُقلاء، وهذه كتبُ المِلَلِ والنِّحَلِ موجودةٌ، والسَّيِّدُ مُطالَبٌ بنقل ذلك عن (¬5) ألفاظهم ونُصوصهم، وفي أيِّ كُتبهم قالوا ذلك، فأمَّا الذي وجدناه في ¬
كتبهم، فغيرُ ذلك، ولكنَّ بعضَهم قد يُطْلِقُ القولَ بعدالة الصَّحابة عموماً، لعُمومِ الثَّناء عليهم في القرآن والسُّنَّة، ثمَّ يَخُصُّون هذا العموم عند ذكر المجاريح المصرّحين مِنَ الصَّحابة، مثل الوليد بن عقبة (¬1)، وبُسْرِ بن أرطاة (¬2) كما سيأتي، كما خصَّه الله تعالى ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، وحدَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِسْطَحاً (¬3) وغَيرِه على الإفْكِ، مع أنَّ مِسْطَحَاً بدريٌّ مِنْ خيرِ الصَّحابة، وكذلك حَدَّ عُمَرُ أبا بَكْرَةَ وصاحبيه على قَذْفِهِم للمغيرة، وجرَّحهم في الشَّهادة والرِّواية، وأقرَّته الصَّحابَةُ (¬4)، وحدَّ منهم جماعة في ¬
معاصي التَّصريح مِنْ شُرب الخمر، والزِّنى والسَّرِقة، وهِيَ منْ معاصي التَّصريح والخِسَّةِ. ¬
فكيف يقولُ عاقِلٌ مع ذلِكَ: إنَّ عُموم الثَّناء غَيْرُ مخصوص؟ ولكنه خصوص (¬1) نادِرٌ، فهو فيهم كالشَّعرة السَّوداء في الثَّور الأبيض، فلذا تُرِكَ ذكرُه، وهو معروف في " الاستيعاب " لابن عبد البر وغيرِه مِنْ كتب الصَّحابة. ولا شك في قَبُول الخُصوص وتقديمِه على العمومِ، فقد صحَّ تخصيص العموم (¬2) في كلام الله تَعالى، وهو أصدقُ القائلين، ولم يكن في ذلك مناقضةٌ ولا مكاذَبةٌ، بل قد صحَّ ذلك في كتاب الله في هذه المسألة بعينها، فقد أثنى الله سبحانه في كتابه على الصحابة عُموماً، ولم (¬3) يقدح في كتابِ الله بما يُوجَدُ مِن بعضهم كقوله تعالى (¬4): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وكذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرةٍ تَقَصَّاها أبو عمر بنُ عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (¬5)، ولم يمنع ذلك مِنَ التَّخصيص، وكذلك عموم كلامِ المحدِّثين، فكيف يجوز (¬6) ذلك، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، والصِّحاح مشحونَةٌ بذكر مَنْ حدَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم في الإِفك، والزِّنى، والسَّرِقة مع خِسَّتِهما (¬7) كما تقدَّم بيانُه. وقد نصَّ الرَّازي في " محصوله " (¬8) على أنَّ الصَّحابة عدولٌ ¬
عندهم في الظَّاهر ما لم يأتِ له مُعارض. هكذا لفظُه، وهو يُفِيدُ خلافَ ما ذكره السَيِّد، وأنَّ القوم يعتقدون زوالَ عدالةِ الصَّحابي عند ورود ما يَدُلُّ على الجَرْحَ. وقد حكى ابنُ عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (¬1) عن جماعة: أن الوليدَ بن عُقبة (¬2) كان فاسقاً، شِرِّيباً للخمر بهذا اللَّفظ، مع إجماعهم أنَّه صحابي، وقال: إنَّه مِمَّن يُقْطَعُ بسوءِ حاله، وقُبْحِ فعاله، وقال: لم يرْوِ سُنَّةً يُحْتَاج إليه فيها. وقال في بُسْرِ بنِ أرطاة: قال الدارقطني: كانت له صحبةٌ، ولم تكن له استقامةٌ بَعْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، هو الَّذي قتل طِفْلَيْنِ لعُبَيْد الله بنِ عبَّاسٍ، قال أبو عُمَرَ: وكان ابنُ معين يقولُ: إنَّه رجلُ سوءٍ، قال أبو عمر: ذلك (¬3) لعظائِمَ ارتكبها في الإِسلامِ، ثمَّ حكى أنَّه أوَّل من سَبَى المسلمات (¬4). وذكر أحمدُ بن حنبل أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يَدْعُ للوليدِ بنِ عُقبة ولم يَمسََّهُ لِسابق عِلْمِهِ فيه، وأنَّه لذلك حُرِمَ بَرَكةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك الذَّهبي ذكره في " النبلاء " (¬5)، وذكر شربَه للخمر، ونزولَ القرآنِ بفسقه، وروى في ذلك حديثاًً مسنداً، وقال: إسناده قويٌّ، وسيأتي بيانُ ذلك في ترجمة الوليد. ¬
وقال الذهبي في كتابه في (¬1) " المشتبه " (¬2): إنَّ لعبدِ الرحمن بن عُدَيْس (¬3) صحبة وزَلَّة، بهذا اللَّفظ. وهذا عكس ما اعتقده السيِّد، وقد ذكر المحدِّثون منِ ارتدَّ وكفر مِنَ الصَّحابة بعد إسلامه وصُحبته في كتبِ معرفة الصَّحابة، والكفرُ أعظم الكبائر بإجماعِ أهل الإسلام وسائرِ الأديان (¬4) من (¬5) اليهود والنَّصارى وأمثالهم. وقَدِ احتجَّ ابن عبد البر على تخصيص أدلَّةِ تعديلِ الصَّحابة بحديث: " فأَقُولُ: أَصْحَابي، فيقال: إنَّكَ لا تَدري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ " (¬6)، وذكر أنَّ في هذا أحاديث كثيرة تقصَّاها في " التّمهيد ". ذكر ¬
ذلك في ترجمة بُسْرِ بنِ أرطاة في " الاستيعاب " (¬1). ¬
والسَّبب في وَهْمِ السيدِ -أيَّده الله- في هذه المسألة: أنّه رآهم لا يُفَسِّقُون مَنْ أظهر التَّأويلَ مِمَّن حاربَ أميرَ المؤمنين عليه السّلامُ مِمَّن يَعُدُّونَه صحابِيّاً، ولا شكَّ أنَّهم يقولون ببغيِ مَنْ حاربَ عليّاً عليه السَّلام، كما رواه القرطبي عنهم الجمبع في " تذكرته " (¬1)، ورواه غيرهُ منهم كما سيأتي. وأمَّا قولُهم بتأويلهم، فقد مرَّ الكلامُ عليه قريباً، وممَّا يدخلُه التَّأويل بالإجماع: قتالُ المسلمين وبعضِ الأئِمَّة، والبغيُ عليهم، والدخولُ في الفتن كما فعلت الخوارج، والنواصب، والرَّوافض، ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ. فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ الناس اختلفوا في مَنْ تأوَّل فيما ليس مِنَ المعلوم تحريمُه بالضَّرورة عند الجميعِ على ثلاثةِ أقوال: القول الأول: أنَّ التّأويل لا يمنع مِنَ التَّأثيم مطلقاً، وسواء كان في الظَّنيَّات أو في القطعيَّات (¬2)، وهذا مذهبُ الأصَمِّ وغيره. القول الثاني: على العكس، وهو أنَّ التأويل يُسْقِط الِإثمَ والعِقَابَ، سواءٌ كان في الظَّنيَّات أو في القطعيَّات، إلاّ أنَّه (¬3) فرَّق بينهما، فإن التِّأويل في القطعيَّات لا يخْرِجُ الفعل عَنِ القبح، ووجوبِ كراهَتِه، وتحريمِ الرِّضى به، ووجوبِ النَّهْي لمرتكبه، ومنعِه منه إنْ أمكنَ ذلك، والتَّأويلُ في الظَّنِّيَّات يُثَابُ فاعله، ويُرضى به، ولا يُنهى عنه، واختلفوا في التَّصويب. ¬
واعلم أنَّ المحدِّثين ما خالفونا في هذه المسألة إلاَّ في هذا، وأنَّ مذهبنا ومذهبَهم في عدالة الرُّواة واحدٌ إلاَّ (¬1) قدرَ أربعة أو خمسة، أو قريبٍ مِنْ ذلك، قد ذكرتهم (¬2) في هذا الكلام المقدَّم. القول الثالث: مذهبُ الأكثرين مِنَ الأئِمَّة، وجماهيرِ علماءِ الأُمَّةِ، وهو التَّفصيل، والقولُ بأنَّ التَّأويل في القطعيات لا يمنعُ الكفر أو (¬3) الفِسْق أوِ التَّأثيم، وأمَّا التَّأويل في الظَّنِّيَّات، فيمنع ذلك كلَّه، وُيوجِبُ التَّصويبَ أو المثُوبة، فإذا عرفتَ هذا، تبيَّنَ لك أنَّ القوم ما خالفوا إلا فيما يدخله التَّأويلُ مِنَ الكبائر، وهو ما أمكن أن يَصِحَّ دعوى بعضُ النَّاس جهله، وإنْ كان عند غيره معروفاً. والفرقُ بَيْنَ ما يدخلُه التَّأويلُ مِن الكبائر، وبَيْنَ جميع الكبائر (¬4) معلومٌ بالضرورة لِكلِّ عاقلٍ، فإنَّ الشِّرك بالله، وعبادةَ اللاَّت، ونِكَاح الأخوات والأُمَّهات، وتركَ الصَّوم والصلوات من الكبائر (¬5)، فإنْ كان السَّيِّدُ يعتقدُ في أهل الحديث أنَّ مذهبهُمْ عدالَةُ مَنِ ارتكبَ هذه الفواحش العظام (¬6)، وكذَّبَ الرُّسلَ الكِرَامَ عليهم السَّلامُ، لكونه رأي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدُّخول في الإسلام، فهو أجَلُّ مِنْ أن يقولَ بهذا الكلام أو ينسبَه إلى أحدٍ مِنَ الأنام، وإن كان لا يعتقدُ ذلك فيهم، فما هذا الذي أعشى (¬7) بصر ¬
بصيرته، وغَشَّى على أضواءِ معرفته، حتَّى تجاسرعلى رَمْيِهمْ بهذه الشَّناعة الَّتي لا يجترىءُ على القولِ بها إلا أهلُ الخلاعَةِ. وقد قال محمد بن منصور الكوفي (¬1) في كتابه المعروف " بكتاب أحمد "، يعني أحمد بن عيسى بن زيد عليهم (¬2) السَّلام: أنَّ أحمدَ بن عيسى قال: فإنْ جَهِلَ الوِلايةَ رَجُلٌ، فلم يتولَّ أميرَ المؤمنين، لم تنقطع (¬3) بذلك عصمتُه، وإن تبرأ وقد عَلِمَ، انقطعت عنَّا، وكان منا في حَدِّ براءةٍ، يقول: براءة (¬4) ممَّا دانَ به، وأنكر مِنْ فرضِ الولاية لا براءة يخرج بها مِنْ حدِّ المناكحة، والموارَثةِ، وغير ذلك ممَّا تجري به (¬5) أحكامُ المسلمين منهم بعضُهم (¬6) في بعض -إلى قوله- لا (¬7) على مثل البراءة منَّا مِنْ أهل الشِّرك، واليهود، والنَّصارى، والمجوس. هذا وجهُ البراءة عندنا مِمَّن خالفنا. انتهى بحروفه من آخر المجلد السَّادس من " الجامع الكافي ". ومعناه لا يَزِيدُ على ما عُلِمَ بالتَّواترِ عن علي عليه السَّلامُ أنّه لم يَسِرْ في أهل صفِّين والجَمَلِ سِيرَة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المشركين، ولا حَكَمَ بسَبْيِ النِّساء والذُّرِّيَّة، ولو كانوا جَحَدُوا ما يُعْلَمُ مِنْ ضَرُورة الدِّين، كان الواجِبُ تكفيرَهم عند جميع المسلمين، فدلَّ على أنَّ فِعْلَهم ممَّا يدخله ¬
الوهم الثاني: قال: إنهم يجيزون الكبائر على الأنبياء، وهذا الإطلاق تجاهل
التّأويلُ بشهادة (¬1) سيرةِ أمير المؤمنين، وهذا هو مضمونُ ما أنكره السيد على المحدثين. الوهم الثاني: قال: إنَّهم يُجيزون الكبائر على الأنبياء عليهم السلامُ. وهذا الإطلاقُ تجاهُلٌ لا جهلٌ، لأن السَّيِّد لا يزال يُقْرِىءُ مذهبَهم في هذه المسألة، وأنا أُورِدُ من كتبهم ما يشهد (¬2) ببطلان هذا القولِ الذي أطلقه السيدُ، ولم يقيِّده. فمِنْ ذلك ما ذكره الرّازي في " محصوله " (¬3) فإنَّه قال في هذه المسألة في حكم أفعالِ الأنبياء عليهم السَّلامُ (¬4) ما لفظه: والَّذي نقولُ به: إنَّه لم يقع منهم ذنبٌ على سبيل القصد لا صغير ولا كبير (¬5)، وأمَّا السَّهو (¬6)، فقد يقع منهم بشرط (¬7) أن يتذكروه (¬8) في الحال، ويُنَبِّهوا غيرهم على أنَّ ذلك كان سهواً، وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام، ومن أرادَ الاستقصاء، فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء، والله أعلم. انتهى كلامه. ¬
وقال ابن الحاجب في " المنتهى " (¬1): الإجماع (¬2) على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام، والإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخِسَّةِ. وقال الذهبي في كتاب " النبلاء " (¬3)، وقد ذكر ما معناه تنزيه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأكل مِمَّا ذُبحَ على النُّصُب قبل النُّبُوَّة، فقال في ترجمة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ما لفظه: وما زال المصطفى محفوظاً محروساً قبل الوحي وبعدَه، ولو احتمل جوازُ ذلك، فبالضرورة ندري (¬4) أنَّه كان يأكل [من] ذبائح قريشٍ قبلَ الوحي، وكانَ ذلك على الإباحة، وإنّما تُوصفُ ذبائحُهُم بالتَّحريم (¬5) بعد نزول الآية، كما أنَّ الخمرَ كانت على الإباحة الى أن نزل (¬6) تحريمها بالمدينة بعدَ يومِ أُحُدٍ، والَّذي لا ريبَ فيه أنّه كان معصُوماً قَبْلَ الوحي وبعدَه، وقبلَ الشَّرائع مِنَ الزِّنى قطعاً، ومِنَ الخيانة، والغَدْر، والكَذِبِ، والسكْرِ، والسُّجود لوثَنٍ، والاستقسام بالأزلام، ومِنَ الرذائل، والسَّفَهِ، وبذاء اللسان، وكشف العَوْرَةِ، فلم يكن يطوف عُرياناً، ولا يَقِفُ يوم عرفة مع قومه، بل كان يَقفُ بعرفة. ومن أحسنِ من تكلَّم في هذا منهم (¬7) القاضي العلامة عياضُ بنُ موسى بنِ عياض اليَحْصُبي المالكي في كتابه " الشفا في شرف المصطفى "، فإنه أجاد الكلام في هذه المسألة، وليس يتَّسع هذا الجواب ¬
لذكر جملة كبيرة (¬1) من كلامه، فإنَّه طوَّله ونوَّعه (¬2)، واحتجَّ وتأوَّل، حتَّى بلغ كلامه في ذلك ستِّين ورقة أو يزيد قليلاً، أو ينقص قليلاً بحسب اختلافه فيه. ومِنْ كلامه فيه ما لفظُه: أجمع المسلمون على عِصمة الأنبياء مِنَ الفواحش، والكبائرِ الموبقات، ومستندُ الجمهورِ في ذلك الإجماعُ، وهو مذهبُ القاضي أبي بكر، ومنعها غيرُه بدليلِ العقل مع الإجماع، وهو قولُ الكافة، واختاره (¬3) الأستاذُ أبو إسحاق. وكذلك لا خلافَ أنَّهم معصومون من كِتمان الرِّسالة، والتَّقصيرِ في التَّبليغ، وذكر الإجماع على عصمتهم من الصَّغيرة الَّتي تؤدِّي إلى إزالة الحِشْمَةِ، وتُسْقِطُ المروءة، وتُوجِب الخَسَاسَة، قال: بل يلحق بهذا ما كان مِنْ قبيل المُباحِ، فأدَّى إلى مثله ممَّا يُزري بصاحبه، ويُنَفِّرُ القلوبَ عنه، ثمَّ إنَّ القاضي ذكر في المتن الاختلاف في عصمتهم قَبْلَ النُّبُوَّةِ حتى قال: والصَّحيحُ تنزيههم من كُلِّ عيب، وعصمتُهم من كلِّ ما يُوجِبُ الرَّيْبَ، فكيف والمسألة تصوُّرُها كالممتنع؟ فإنَّ المعاصي، والنَّواهي (¬4) إنَّما تكون بعد تَقَرُّر (¬5) الشَّرع، وذكر عصمتهم قبلَ هذا عَنِ الصَّغائر، واختاره، واحتجَّ عليه، وأطال القولَ (¬6). إذا عرفتَ هذا، فَلْنَذْكُرِ الذِي أوجب الوهمَ في هذا (¬7)، بَلِ الَّذِي أوجب التَّسَاهُل فيه، وذلك أمران: ¬
أحدُهما: أنَّ بعضَهم يقول: إنَّ (¬1) المعاصي الدَّالَّة على الخِسَّة قَبْلَ النُّبُوة يمتنع وقوعُها مِنَ الأنبياء عليهم السَّلامُ بدليل السَّمع فقط، ولا يمتنِعُ بدليلِ العقل، ونحن نقولُ -والجمهور منهم-: إنَّها (¬2) تمتنع عقلاً وسمعاً، فهم موافقون لنا على إمتناعها، ولكن بعضهم استدلُّوا على ذلِكَ بدليلٍ واحدٍ، ونحن وجمهورُهُم استدللنا عليه بدليلين، فهذا لا يقتضي الاختلافَ في تجويزِ الكبائرِ على الإِطلاقِ البتَّة، فأمَّا ما لم يكن مِن صغائِرِ الخِسَّة المنفِّرات، فلا ينبغي أن يكونَ فيه (¬3) اختلافٌ، لأنَّ وصفه بأنّه كبيرٌ قَبْلَ الشرع خطأ، بل وصفُه بأنّه حرام، ألا ترى أنَّ الخمرَ كان مباحاً؟ فإن ثبت أنَّه حرام، وأنَّهم متعبِّدون بشرع مَنْ قبلنا، فبأدلَّة ظنِّيَّة، فإن قدرنا ثبوتَ ذلكَ بأدلَّةٍ قاطعةٍ، فثبوتُ التَّحريم لا يدلُّ على أنَّ المُحَرّمَ كبيرٌ، فأمَّا الكفرُ وجميعُ ما عَدَّدهُ الذهبي، والقاضي عياض وغيرهما فيما تقدم من المعاصي الدّالة على الخِسَّةِ، وسائر الرذائل، فقد وافقونا على تنزيههم عنها، وأقصى ما في الباب أن يكونوا خالفونا في تجويزِ بعض الكبائرِ على الأنبياء قبل النُّبُوَّة، فهذا لا يُجيزُ الإِطلاقَ الَّذِي رواه السَّيِّدُ عنهم لوجهين. أَحَدُهُما: أن الخلافَ في بعض الكبائرِ ليس خلافاً في جميعها، ومَنْ لم يفَرِّقْ بينَ البعضِ والكُلِّ، فليس مِنَ العقلاء، فإنَّ العلمَ (¬4) بالفرق بينهما ضروريٌّ، ومن المعلومِ بالضَّرورة عنهم أنَّهم ما خالفُوا (¬5) في جميعِ الكبائر، فإنَّ الشَّركَ مِنَ الكبَائِرِ واللواطَ من الكبائر، ونحو ذلك. ¬
الوهم الثالث: قال السيد: ومنهم مروان بن الحكم طرده ولعنه رسول الله، وهذا وهم عظيم
الوجه الثاني: أنّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ قبل النُّبُوَّةِ لا يُسَمَّوْنَ أنبياءَ على الحقيقة، ولا يُحْكمُ لهم حُكْمٌ من أحكامِ الأنبياء، ألا ترى أنّ كلامَهُم وأفعالَهم قبل النُّبُوَّةِ ليس بِحُجَّةٍ، وأمرهم قبلَها لا يُوجِبُ الطاعة، والشَّاكَّ في صدقهم قبل النُّبُوَّةِ لا يُكْفَرُ؟ فإذا نسب الفقهاءُ إلى الأنبياء جواز أمرٍ قبل النُّبُوَّة، لم يُقَلْ: إنَّ مذهبَهم جوازُه على الأنبياء هكذا على الإِطلاق، ولو كان ذلِكَ يجوز، للزم (¬1) أن يكون مذهبنا أنّ كلامَ الأنبياء ليس بِحُجَّةٍ، وأنّ مَنْ شَكَّ في صدقهم، فليس (¬2) بكافر، وأمثال ذلِكَ مِمَّا هو مذهبنا فيهم عليهم السلامُ قبل النُّبُوُّةِ، وبالجملة فمذهبُ القوم ونصوصُهم يَدُل (¬3) على بُطلان ما أطلقه السَّيِّدُ قطعاً، والله سبحانه أعلم. الوهم الثّالث: قال السيدُ أيّده الله: ومنهم مروانُ بنُ الحكم، طَرَدَهُ وَلَعَنَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا (¬4) وهمٌ عظيمٌ، لا يخفى على مَنْ له أدنى أُنْس بِمعرفة الرِّجال أنَّ الذي طرده النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الحكمُ ابنُ أبي العاص لا مروان، وهذا معلومٌ بالضرورة (¬5). وقد وهِمَ الحاكِمُ في ذلك في " شرح العيون "، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثمانٍ أو نحوها، فمتى (¬6) استحقَّ التَّطريد، ولكن (¬7) نقله أبوه يَوْمَ طُرِد معه. ¬
قال في " النبلاء " (¬1) في الحكم بن أبي العاص: [قيل]: نفاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لكونه حكاه في مشيته، وفي بعض حركاته، فسبَّه وطرده، وروى في ترجمته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أُريتُ (¬2) بني الحَكَم (¬3) يَنْزُونَ على مِنْبَري نزْوَ القِرَدَةِ ". رواه العلاء بإسناده إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وذكر في " الاستيعاب " (¬5) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طردَه مِن المدينة، فنزل الطَّائف، وأنّه عليه السلام كان إذا مشى يتكفَّأ، وكان الحكمُ يحْكِيه، فالتفت إليه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فرآه يفعلُ ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فكذلِكَ فلتكن "، فكان الحكمُ مُتخلجاً (¬6) يرتَعِشُ من يومئذ. فعيَّرَ عبدُ الرحمن بن حسان بن ثابت مروانَ بذلِكَ، فقال يهجوه: إنَّ اللّعينَ أبُوك، فارْم عِظَامَهُ ... إنْ تَرْمِ تَرْم مُخَلَّجَاً مَجْنُوناً يُمْسىِ خَميصَ البَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى ... وَيظَلُّ مِنْ عَمَلِ الخَبِيثِ بَطيناً قال ابن عبد البر: فأمّا قوله: إن اللعين أبوك، فرُوِيَ عن عائشة من طرق ذكرها ابن [أبي] خيثمة وغيرُه، [أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن ما قال] أما أَنْتَ يا مروان، فأشهد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ أباكَ ¬
وأنتَ في صُلْبِهِ (¬1). وروى بإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ لَعينٌ "، فدخل الحَكَمُ بن أبي العاص (¬2). وفي هذا ¬
الوهم الرابع: أن مروان بن الحكم عند المحدثين من أهل التقوى، وليس كذلك
ما يشهدُ بمعرفة المحدِّثين بحالِ طريدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وهم السَّيِّد (¬1) في هذا الوهم (¬2) وهمين: أحدهما: أنَّ مروانَ هو الطَّريد، وليس كذلك. وثانيهما: أنَّ طريدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدُ رجال الصحاح (¬3) الثّقات، وليس كذلك أيضاً، وليس في كُتُبِ الحديث رواية عنه البتَّة، وجملةُ من فيها مِمَّنِ اِسْمُهُ الحكم ثلاثة وعشرون رجلاً ليس فيهم الحكم بن أبي العاص، فليعلم ذلِك أيده الله. الوهم الرابع: أنَّ مروان بن الحكم عند المحدثين من أهل التَّقوى والصَّلاح. وليس كذلِكَ، فإنَّهم لا يجهلون ما له مِنَ الأفعال القبيحة، والمعاصي المهلِكلة، وأنا أُورِدُ من كلامهم ما يدلُّ على ذلِكَ. قال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (¬4) ما لفظه: مروان بن الحكم له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحةَ بسهمٍ، وفعل وفعل. انتهى بلفظه في " الميزان " وذكره في " النبلاء " (¬5)، وساق من أخباره حتى قال ما لفظه: وَحَضَر الوقعةَ يَوْمَ الجَمَلِ، فقتل طلحَةَ، ونجا (¬6) فليتَه ما نجا (¬7)، هذا لفظ الذهبي. فلو كان عنده مِنْ أهل ¬
الصَّلاح ما تَمنَّى له الهلاك، وكره له النَّجاة، وقد نَصَّ في " الميزان " على (¬1) أن له أعمالاً مُوبِقَة، وهذا تصريحٌ بفسقه. وذكر الذهبي في " النبلاء " (¬2) في ترجمة طلحة من طرقٍ أنَّ مروانَ ابنَ الحَكَمِ قاتل طلحة، ثم قال: قاتلُ طلحة في الوِزْرِ بمنزلة قاتِلِ علي. انتهى. وروى الذهبي في " النبلاء " عن الحسين بنِ علي عليهما السَّلامُ أن مروان هو الذي قَتَلَ طلحةَ بنَ عُبَيْدِ الله أحدَ العشرة المشهود لهم بالجنة، ذكره في ترجمة طلحة (¬3). وقال ابنُ حزم في " أسماء الخلفاء والأئمَّة " (¬4)، وقد ذكر بعض مساوىء مروان، وهو أوَّلُ مَنْ شَقَّ عصا المسلمين، بلا شبهة، ولا تأويل، وقتل النُّعمان بنَ بشيرٍ أوَّلَ مولودٍ وُلدَ (¬5) في الإِسلام في الأنصار صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر (¬6) أنَّه خرج على ابنِ الزُّبير بَعْدَ أن بايعه على الطَّاعة. وقال ابن حبان الحافظ في مقدمة " صحيحه " (¬7) عائذاً بالله أن ¬
يحتج بمروان وذويه في شيءٍ من كتبنا. وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه " الكافي " (¬1) على مذهب أحمد ابن حنبل في باب صِفَةِ الأئِمَّةِ: في إمامة الفاسق بالأفعال روايتان، إحداهما (¬2): تصح لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر " كَيْف أنْتَ إذا كانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ .. الحديث " (¬3) إلى قوله في الاحتجاج على ذلِكَ: وكان الحسنُ والحسينُ يصلِّيان وراءَ مروان (¬4)، انتهى، وفيه بيان معرفتهم ¬
لمقدار أهل البيت (¬1) عليهم السَّلامُ في الفضل، ولموضع أعدائهم مِنَ الفسْقِ، ونحن محتاجون من بيان الأمرين كليهما في هذا المقام. وقال أبو السعادات ابن الأثير في كتابه " النهاية " (¬2) في حرف الفاء مع الضاد: قالت عائشة لمروان: وأنت فَضَضٌ مِن لعنةِ الله، أي: قطعةٌ وطائفة منها، ورواه بعضُهم فُظَاظَةٌ مِن لعنة الله بظائين، وهو من (¬3) الفظيظ، وهو مَاءُ الكَرِشِ، وأنكره الخطابي (¬4). وقال الزمخشري: افتضضت الكَرِشَ: اعتصرت ماءَها، كأنَّه عصارةٌ من اللعنة، أو فُعَالَة من الفظيظ: ماءِ الفحل، أي نُطْفَةٌ من اللعنة. انتهى بلفظه من " نهاية ". ابن الأثير. وممَّن ذكر مروان أبو عمر (¬5) بن عبد البر في " الاستيعاب " (¬6)، ولم يذكره بتقوى ولا وصَفَه بدِيَانَة، بل روى عن علي عليه السَّلامُ أنَّه نظر إليه يوماً، فقال: ويلَكَ، وَويلُ أمَّةِ محمّد منك، وَمِنْ بَنيك (¬7) إذا شابت ¬
ذِرَاعُكَ، وكان يُقَال له: خيطُ باطل (¬1)، وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم لمّا بُويعَ له بالإمارة: فو اللهِ ما أدْرِي وإنِّي لسائلٌ ... حليلة مَضْرُوبِ القَفَا كَيْفَ يَصْنَعُ لَحَا اللهُ قَوْمَاً مَلَّكوا خَيْطَ باطِلٍ ... على النّاس يُعْطِي من يشاء ويمنع (¬2) وكان أخوه عبد الرّحمن شاعراً محسناً (¬3)، وكان لا يرى رأيَ مروانَ، وإنّما قال له: مضروبُ القفا، لأنّه ضُرِبَ يوم الدّارِ على قفَاهُ، فَخَرَّ لِفِيه (¬4). قلت: وذلك أيضاًً هجوٌ له بالجُبْنِ (¬5)، وهي كنايةٌ حسنةٌ. وأنشد ابنُ عبدِ البَرِّ لأخيه عبدِ الرحمنِ يهجوه: وهَبْتُ نصيبي فيكَ يَا مَرْوُ (¬6) كُلَّهُ ... لعمروٍ ومروانَ الطَّويلِ وخَالِدِ فكلُّ ابنِ أمٍّ زائِدٌ غيرُ ناقِصٍ ... وأنتْ ابنُ أمٍّ ناقِصٌ غيرُ زائِدِ وأنشد لغير أخيه (¬7) شيئاً في هجوه تركتُه، لأنَّه أقذع فيه، وذكر أنه لم يَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ورواه عن (¬8) البخاري. ¬
فإن قلت: فما الوجه في روايتهم عنه، فالجواب من وجهين
هذه (¬1) الجملة تدلُّك على معرفتهم بسوء (¬2) حاله وقُبح أفعاله. فإن قلت: فما الوجه في روايتهم عنه؟ فالجواب من وجهين: الوجه (¬3) الأول: إنّ الرِّواية لا تدلُّ على التَّعديل كما ذكره الإمامُ يحيى بنُ حمزة في " المعيار " وابن الصلاح في " العلوم ". وقد روى زينُ العابدين، وعروةُ بن الزبير (¬4) عن مروان، ولم يَدُلَّ ذلِكَ على عدالته عندهما، فكذلك روايةُ المحدثين عنه. وقد ذكر النواوي في " شرح مسلم، أن مسلماً يروي في " الصحيح " عن جماعة من الضعفاء، وبيَّن الوجه في ذلك، وقد قدَّمناه (¬5)، وروي عن مسلم تنصيصاً التَّصريحُ بذلك، فدلَّ على أنَّهم قد يروون عَمَّن ليس بِثَقَةٍ عندهم (¬6). فإن قلتَ: فَمَا عذْرُهُم في ذلك؟ قلت: لهم فيه عُذْرَانِ: أمّا أحدُهُما: فالرغبة في علوِّ الإسناد؛ وما فيه من التسهيلِ على طلَبَةِ هذا الشَّأن، مع كونِ الحديث معروفاً عند أهل هذا الشَّأنِ بإسنادٍ (¬7) ¬
نازل من طريق الثِّقات، وقد مرَّ تقريرُ هذا، وأنّ النَّواوي روى هذا عن مسلمٍ تنصيصاً، وهو نادِرُ الوُقُوعِ. العذرُ الثَّاني: وهو كثيرُ الوقوع، أن يكونَ الحديث مرويّاً من طُرُقٍ كثيرة في كلٍّ منها ضعْفٌ، لكن بعضُها يَجْبُرُ بعضاً، ويُقَوِّيه، ويشهدُ له، مع كون بعضِ الرُّواة عدلاً في دينه، صدوقاً في قوله، كثيرَ الوهم، فلم يعتمد عليه وحدَه في التَّصحيح لولا مَا جَبَرَ ضعفَه مِنَ الشَّواهد والمتابعات الّتي يَحْصُلُ من مجموعها قوَّةٌ كبيرةٌ تُوجِبُ الحُكْمَ بِصِحَّةِ الحديث أو حُسْنِهِ، فيذكرون بعضَ طرقه الضَّعيفة، ويتركون بقيَّة الطُّرُق للاختصار والتَّقريب على طلبة العلم. ويدل على ما ذكرته أنَّ أحاديثَ مروان مشهورَةٌ عَنِ الثِّقات، وهي (¬1) أحاديث يسيرة، فمنها حديثُ قصة الحُدَيْبِيَة، وحديثُ وفد هَوازِن، وقِصَّةُ سهيل بنِ عمرو هذه رواها (¬2) البخاري عنه مقروناً بالمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ مع ¬
شُهرتها، أو تواتُرها عند أهلِ السِّيَر. ومنها سَبَبُ النزولِ في قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬1) [النساء: 95] وقد رواه قَبِيصَةُ بنُ ذُؤيبٍ. ¬
ومنها قراءةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأعراف بالمغرب (¬1) وقد اعترض الدارقطني (¬2) على البخاريِّ روايةَ هذا الحديثِ من طريق مروان، وقال: إنَّه لم يرو (¬3) من طريقه إلا ابنُ أبي مليكة، قال: وقد رواه أبو الأسود محمد بنُ عبد الرحمن بن نوفل عن (¬4) عروة، عن زيد بن ثابت، لم يذكر فيه مروانَ بن الحكم قال ذلك عمرو بنُ الحارث، وهو من الأثبات، واختلف عن هشام بن عروة، فقال القطانُ، والليثُ، وحمادُ بنُ سَلَمَةَ وغيرُهُم: إنه عن زيد (¬5) بن ثابت، أنَّه قال لمروان [مرسلاً]. وقال ابنُ أبي الزِّناد، وأبو (¬6) ضمرة مثلَ رواية ابن أبي مُليكة، وقد ¬
رُوي عن عائشة بإسنادٍ (¬1) صحيح في " النسائي " (¬2). قال ابنُ حجر في " التلخيص " (¬3): ورواه ابنُ السكن من حديث أبي أيوب بعد أن ذكر طريقيه عن زيد بنِ ثابت، وعن مروان، وذكر أيضاً طريق عائشة، لكن أعلَّها ولم يُبيِّنِ العِلَّة. ومنها: أثر موقوف عن عُثمانَ في فضلِ الزبير (¬4)، وهذا لا بأسَ به، لأنَّهم يتسامحون في أحاديث الفضائلِ. ومنها: قِصَّةُ عثمان في النهي عن مُتْعَة الحَجِّ، ومخالفة عليٍّ (¬5)، ¬
وهذا (¬1) مشهور. ومنها: حديث بُسرة في مس الذَّكر (¬2)، ورواته بِضْعَةَ عَشَرَ. ومنها: حديثُه في صلاة الخوف (¬3)، وقد رواه عُروة. ومنها: حديث " إنَّ مِنَ الشِّعْر حِكْمَةٌ " (¬4) رواه البخاري، وأبو داود ¬
وابن ماجة من طريقه (¬1) عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيِّ بن كعب، وقد رواه يزيدُ بنُ هارون، والوليد (¬2) بن محمد الموقري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزُّهري، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، أحدِ الفُقهاء السبعة، عن عبد الرحمن بن الأسود بإسقاط مروان، فالظاهر (¬3) أنَّ أبا بكر سَمِعَهُ من مروان، ومن عبد الرحمن بنِ الأسود معاً؛ لأنَّه لم يُوصَمْ بالتَّدليس، (¬4)، وهو مدرك لزمان عبد الرحمن بن الأسود، فإنَّه وُلدَ في زمن عمر، وروى عن عائشة وأبي هريرة، فصح الإسناد من غير حاجة إلى مروان. ومع أنَّ الحديثَ صحيحُ المعنى بالضَّرورة، وله شواهد في " الترمذي " (¬5) عن ابن مسعود، وفي " أبي داود "، و" الترمذي " (¬6) عن ابن عباس. وبالجملة، فلم يَرْوِ مروانُ إلا عن عليٍّ، وعثمانَ، وزيدِ بن ثابت، وأبي هريرة، وبُسرةَ، وعبدِ الرحمن بن الأسود، وقد ذكرت (¬7) جميعَ ما رَوَى عنهم. وأما قوله في عبدِ الرحمن بن أبي بكر، هذا الذي أنزلت (¬8) فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17]، فما أظنُّ البخاري ¬
الوجه الثاني: أن رواية المحدثين عنه مع تصريحهم بما له من الأفعال القبيحة تدل أن روايتهم كانت قبل إحداثه أيام كان عندهم في المدينة واليا
أورده (¬1) إلا لِبيان كلامِ عائِشة الذي ردَّت عليه، وإلا فهذا مُرْسَلٌ لا يَصِحُّ عند البخاري مع أنَّه ليس فيه حكم شرعِيٌّ، ومع أنَّه لم يرفعه، ولا بيَّن مستنده فيه (¬2). وأمَّا عبدُ الرحمن -فعلى تقدير صِحّة هذا- فقد كان مشركاً بِغَيْرِ شكٍّ، ولكنَّه أسلمَ، والإسلامُ يَجُبُّ ما قبله. الوجه الثاني: أنَّ رواية المحدِّثين عنه -مع تصريحهم بِمَا لَهُ مِنَ الأفعال القبيحةِ- تدُلُّ على ما ذكره الحافظ ابن حجر في " مقدمة شرح البخاري " (¬3) أنَّ روايتهم كانت قَبْل إحداثه أيَّامَ كان عندَهم في المدينة والياً من جهةِ الخُلفاء قبل أن يَتَوَلَّى الخِلافَةَ، لأنَّ روايتَهم عنه من طريقِ عليِّ بنِ الحسين، وعُرْوَةَ وأمثالِهِما مِمَّن لم يروِ عنه بَعْدَ خلافته وخروجِه من المدينة. الوَهْمُ الخامسُ: قال السَّيِّدُ: ومنهم المغيرةُ بن شعبة زنى -هكذا رماه السَّيِّدُ بالزنى متوهِّمَاً أنَّ ذلك قد صحَّ منه (¬4)، ولم يبقَ فيه شَكٌّ، وليس الأمرُ كذلك، فإنَّه لو صحَّ ذلك، لحدَّه عُمَرُ، ولو لم يَحُدَّهُ، وقد صحَّ الزِّنَى منه، لأنكر ذلك على عمرَ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم ¬
يسكتوا عليه على تسليم ما ادَّعاه أنَّها قد صحَّت قِصَّتُهُ. فإنْ كانَ السيد رماه بالزنى معتقداً لجواز رمي الفَسَقَةِ بالزنى، فليس ذلك يجوزُ من غيرِ طريقٍ صحيحة، وقد عَظَّمَ اللهُ الرَّمي بهذه الفاحشة، ولم يجعل إلى ذلك سبيلاً إلاَّ بَعْدَ كمال نصاب (¬1) الشهادة، وقد كان الرجُلُ يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُقِرُّ بالزنى، ويعترِفُ بالفاحشة فيتطلَّبُ (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - العُذْرَ (¬3) له بَعْدَ الإقرارِ والاعتراف، ويقول: " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّك لَمَسْتَ " حتَّى لا يجدَ سبيلاً إلى الشَّكِّ، ولا طريقاً إلى الاحتمال، والسيدُ أيَّدَهُ اللهُ عكس ما يلزم من الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورمى المغيرة بالزِّنى من غير مَثْنَوِيَّةٍ (¬4) ولا حكاية، مع أنَّ المغيرَة مُنْكرٌ لذلك، ومُدَّعٍ للبراءة منه، ولم يتمَّ نصابُ الشَّهادة، وكان القدح على المغيرة بمعاصيه الظَّاهرةِ مِنْ حربِ أميرِ المؤمنين أولى مِنَ الهُجوم على الأمورِ الخفيَّة المحتملة، وقد كان السَّيِّد منع مِنْ إمكان طريقٍ صحيحة إلى ثبوت ما يجب العملُ فيه بخبر الواحد، فليُخْبِرْنَا كيف تيسَّر له العلمُ بصحَّة هذه القصَّة في الجملة، ثم كيف عَلِمَ منها صِحَّةَ الزِّنى عَنِ المغيرة، وأحدُ الشهودِ الأربعة زيادُ بن أبيه، وهو فاسِقٌ تصريح. فإن قلت: إنّه شهدَ قبل ذلك، فاقْبَلْ مِن المحدثين مثل هذا في الرِّواية عن مروان ونحوه. على أنَّ القصَّةَ في الجملة لم تَثْبُتْ بطريقٍ متَّفَقٍ ¬
الوهم السادس: قال: فإن يعتد بشهادة هؤلاء في الجرح لا في الحد، فالمغيرة مجروح
على صحَّتها، وإنَّما رواه سيف بن عمرو المؤرِّخ، وهو مجروحُ العدالة، وأرسلها معه (¬1) أبو حذيفة البخاري بغير إسناد، ولا أعرف حاله، وأسندها أبو عتَّاب الدَّلال عن أبي كعب صاحب الحرير فيما حكاه الذَّهبي في " النبلاء " (¬2) وقد تقصَّى طرقها، وإليه المنتهى في هذا الفنِّ، فَأَفِدْنَا مَنْ عدَّل هؤلاء، ومن عدَّل المعدّل حتى انتهى إليك كما ألزمتنا فيما هو دُونَ هذا. الوهم السادس: قال (¬3): فإن يُعْتَدَّ بشهادةِ هؤلاء في الجرح، لا في الحدِّ، فالمغيرةُ مجروحٌ، وإن لم يُعْتَدَّ بشهادتهم، فأبو بكرة قاذِفٌ وصاحباه، فلا يَروِي عن واحدٍ منهم الرُّواة. أقول: إن كان المرادُ جرحَ المغيرة بالبغي فقد مضى، وإن كان بهذا وحدَه، فالجوابُ من وجهين معارضةٌ وتحقيق. أمَّا الوجة الأول: وهو المعارضة، فذلك بنظائرِ هذا في الشريعة مما لم يقبح أحدٌ من العلماء على أهلِ الاجتهاد شيئاً من أقوالهم فيها مثلُ المتلاعِنيْنِ، فقد وقع اللِّعان في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، ولم يكن جَرحاً في المتلاعِنَيْنِ، ولو كان جَرحاً، كان حراماً، ولم يشرعْهُ اللهُ، ولا ¬
الوجه الثاني: التحقيق، وبيانه أن نقول: توهم السيد أن الشهادة على الزنى إذا لم يتم نصابها كانت قذفا
أقرَّ عليه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال لهما بعدَ تلاعنهما: " الله يَعْلمُ أنَّ أَحَدَكُما كاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائبٍ؟ " وقال لها (¬1) في الخامسة: " إنَّهَا المُوجِبَةُ لِعَذابِ اللهِ " (¬2)، نعوذ بالله من ذلك. وكذلك حُكْمُ المدَّعي والمنكرِ في المنازعات الشرعية، قد يُعْلَمُ كَذِبُ أحدِهِمَا قطعاً، ولا يجب جَرْحُ كُلِّ واحدٍ منهما قطعاً. الوجه الثاني: التَّحقيق، وبيانُه أنْ نقولَ: توهم السَّيِّدُ أنَّ الشهادةَ على الزِّنى إذا لم يتمَّ نِصَابُها كانت قذفاً، فإمَّا أن يُرِيد أنَّ ذلك كذلك على سبيلِ القطع أو (¬3) الظن، إن قالَ: إنَّه كذلك على سبيل الظَّنِّ، فقد أصاب؛ لأنَّه ليسَ في المسألة دليلٌ قاطعٌ، وقَدِ اختلف العلماءُ فيها، وللشافعي في المسألة قولانِ، وقال في " نهاية المجتهد " (¬4) الشهودُ عند مالك إذا كانوا أقلَّ من أربعةٍ قَذَفَةٌ، وعند غيره ليسوا قَذَفَةً، فجعلَ القولَ بأنَّهم ليسوا قذفة هو قول الأكثرين من الفقهاء. وقال الحاكم في " شرح العيون " ما لفظه (¬5): ألا ترى أنَّ مَنْ يشهدُ بالزِّنى لا يؤثِّرُ في حاله، ومن قُذِفَ بالزِّنى أثَّر؟ فنصَّ على الفرقِ بين الشهادة والقذفِ، وفي " الصحيحين " (¬6) من حديثِ أبي هريرة، وزيدِ بنِ ¬
خَالِدٍ الجُهيني: أنَّ رجلاً من الأعراب قال للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ ابني كانَ عَسِيفاً على هذا، فزنى بامرأته، الحديثَ، وفيه أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُوجِبْ على المستفتي حدّاً لرميه لامرأة خصمه، وأقره، ولم يُنْكِرْ عليه، لأنَّه لم يقْصِدِ الرَّميَ، بَلَ الفتوى. وكذلك في حديثِ ابن عَبَّاس (¬1): أن هلال بن أُميَّةَ قذف أمرأتَه بشريكِ بنِ سحْمَاء عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .. الحديثَ، إلى قوله: فنزلت آيةُ اللِّعان. ولم يجب على هلالٍ حدُّ القذف لشريك (¬2). وكذلك (¬3) في هذا الحديث ما معناه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنْ جَاءَتْ بهِ عَلَى شبهِ شَرِيكٍ فهُو لَهُ "، فجاءت به كذلك، فقال: " لولا ما مَضى مِنْ كِتَابِ اللهِ، لكَانَ لي فيها شأْنٌ " رواه البخاري، وأبو داود والترمذي، وابنُ ماجه، وأحمد وغيرهم. وذكره في " شفاء الأوام ". وكذلك شرط ابنُ حزمٍ في الإجماع على حَدِّ القذف أن يجيءَ به صاحبه مجيء (¬4) القذف، والله سبحانه أعلم. وكلام النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع أن يُقال: إنَّما سقط الحدُّ لِعدم المطالبة من ¬
المقذوف؛ ولأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوزُ عليه القَذْفُ المُحَرَّمُ، ولا أقرَّ هلالا على ذلك، ولو كان قذفاً حراماً لم يُقِرَّه عليه، سواء وجب فيه الحدُّ أو لم يجب (¬1)، والغالبُ أنَّ السيدَ جرح بهذا لمَّا حَفِظ أنَّ مذهبنا أنَّهم قَذَفَةٌ على سبيلِ التّقليد لأهل المذهب، وظنَّ أنَّ أهلَ المذهبِ يقدحون على مَنْ قبلهم بذلك، وليس كذلك، فإنَّه لو لَزِمَ القَدْحُ بمسائلِ الخلاف، لزم الجرحُ لجميع المخالفين، بل الَّذي يذهب إليه أصحابُنا: أنَّ الشاهد قاذِفٌ، ولا يقبلونه لمذهبنا (¬2) فيه، ولا يلزمُ الغير أن يَرُدَّه كما ردُّوه، ولا يُنْسَبُ إلى مَنْ قَبِلهُ أنَّه يقبل (¬3) المجاريحَ، فاعرف ذلك. وإن قال السَّيِّد (¬4): إنَّ الشاهد قاذِفٌ قطعاً، فذلك لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المسألة شرعيَّةٌ لا عقليَّةٌ، وليس فيها نصٌّ قاطعٌ غيرُ محتمِل للتَّخصيص، ولم يبق إلا القياسُ على العام (¬5)، ولا يصحُّ أن يكون القياسُ فيها (¬6) قاطِعَاً لوجدان الفروق (¬7) المانعة مِنْ ذلك، فإنَّ بين الشَّاهدِ والقاذفِ فُروقاً ظاهِرَة، ولا يصحُّ معها القياسُ القطعيُّ، ألا ترى أنَّه يُشترط في الشاهد العدالةُ، ويشترط العددُ المخصوصُ في الشُّهود، ولا يجب في القاذف أن يقذفَ معه غيره فثبت أنَّ الشَّاهدَ غيرُ القاذفِ، وإذا ثَبت أنَّ المسألة ظنيَّةٌ، لم يجز جرحُ الشُّهودِ بذلك؛ لأنَّ الجرح لا يكون إلا بأمرٍ ثبت بالقطع أنَّه ¬
الوهم السابع: توهم السيد أن هؤلاء الشهود الثلاثة إذ لم يكونوا قاذفين، وجب جرح المغيرة بالزنى
معصيةٌ، ولهذا لا يُجْرحُ مَنْ شَرِبَ المُثَلَّث (¬1) مع أنَّ جَرْحَ القاذِف الجاهلِ بتحريم القذف أو (¬2) الواثق بإقامَةِ الشَّهادة إنَّما هو بالنَّصِّ، وإلا فالقياس أنْ لا يُجَرَّحَ حتَّى يتحقق كذِبُه، لكن النَّصُ أقدمُ مِنَ القياس، فيجبُ أن نُقِرَّ النَّصَّ حيث ورد لمخالفته للقياس (¬3)، ولا يُقاس الشَّاهد على القاذف. الوهم السابع: توهَّم السَّيِّد أنَّ هؤلاء الشُّهود الثَّلاثة إن لم يكونوا قاذفين، وجب جرحُ المغيرة بالزِّنى الذي أخبروا به، وظنَّ السَيِّد أنَّه لا مخرج مِنْ هذا السُّؤال، وليس كما توهَّم، بل يجوز أن لا يَصْدُقُوا فيما شَهِدُوا به، وأن (¬4) لا يُجْرَحُوا لِغلطهم في الشَّهادة. فقد ذكر ابنُ النحوي في " البدر المنير ": أنَّ المغيرَة ادَّعى في تلك المرأة (¬5) الّتي رمَوْهُ بها أنَّها له زوجة، قال: وكان يرى نكاح السِّرِّ. وروي ¬
الوهم الثامن: أنه ذكر في رسالته أن من قعد عن نصرة علي عليه السلام فهو مجروح ثم ذكرها هنا أن أبا بكرة كان من فضلاء الصحابة
أنه كان يتبسَّمُ عند شهادتهم، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي أَعْجَبُ مِمَّا أريدُ أن أفعلَه بَعْدَ شهادتهم (¬1)، قيل: وما تفعل؟ قال: أُقيم البَيِّنَة أنَّها زوجتي. ذكره في " البدر المنير "، وذكر أنَّه كان كثيرَ الزواجة وأنَّه أُحصن بثلاثِ مئةِ امرأةٍ، فهذا محتمل. وليس القصدُ تنزيه المغيرة مِنْ ذلك لأجلِ ورعه وتحرِّيه في أمر (¬2) الدِّيانة، فإنَّه باغٍ بالإِجماع، وإنَّما القصدُ بيانُ الاحتمال المانع مِنَ الإلزام الَّذي ذكره السَّيِّدُ، والمانع من رمي المغيرة بالزِّنى على الإطلاق والقطع، فإنْ كان السيدُ يريدُ أنَّه مجروحٌ بالبغيِ، فذلك مسلَّمٌ، ولكن بغير الزنى على ما قدَّمنا مِنَ (¬3) التَّفصيل والخلاف، وإنْ كان يُرِيدُ إثباتَ الزِّنى عنه، ففيه ما ذكرتُه مِنَ الإِشكال، والله أعلم. الوهم الثامن: أنَّه ذكر في رسالته أنَّ مَنْ قعد عن نُصرة عليٍّ عليه السلام، فهو مجروح، ثمَّ ذكر ها هنا أنَّ أبا بكْرَةَ كان مِنْ فُضلاء الصَّحابة، ولا شكَّ عند أهلِ الخِبرة بالسِّيرِ أنَّ أبا بكرة كان من القاعدين المتشددين في ذلك، وله كلام على المتقاتلين جميعاً فيه نكارةٌ كثيرة (¬4) لكنَّه كان متأوِّلاً متديِّناً غيرَ مجترىءٍ، والسيد واهم (¬5) في أحد الموضعين، واللهُ أعلم. واعلم أنَّ بعضَ الزَّيديَّة قد حاول الجزمَ بتفسيق المتوقِّفين عن عليٍّ عليه السَّلامُ، واحتجَّ بأمرين: ¬
أحدُهما: ما رواه السَّيد أبو طالب من طريق الحارث بن حوط، أنَّه سأل عليّاً عليه السَّلامُ عن ابنِ عُمَرَ، فأنشده: واثُكْلَها قَدْ ثَكِلَتْهُ أَرْوَعَا ... أَبْيَضَ يحمي السّرْبَ أنْ يُرَوَّعا واستنبط مِنَ الحُكمِ بِثُكْلِهِ الحُكْمَ بِهلاكِه، وَمِنَ الحُكْمِ (¬1) بهلاكه أنَّه هلاكُ الدِّين والآخرة، والجوابُ من وجهين: أَحَدُهُما: النِّزاع في صحَّته، فإنَّ الحارثَ بنَ حوطٍ غَيْرُ مَذكور في كتب الرُّواة، ولا عُرِفَ السندُ إليه أيضاًً. وثانيهما: أنَّه لو صحَّ الإسنادُ في ذلك، لم يَحْسُنْ قبولُه، ولا يحِلُّ، لأنَّ التَّفسيقَ لا يجوز إلاَّ بدليلٍ قاطع، ولا قاطعَ في النقل إلا التواترُ الضروري، وما دونه ظنِّيُّ إلا ما تواتر الإجماعُ القاطعُ على صحَّته مِمَّا دونَ المتواتر، فاختلف فيه: هل يكون قاطعاً؟ والصَّحيح أنَّه لا يكونُ قاطعاً كما قُرِّر (¬2) في موضعه مِنْ هذا الكتاب، ومن علوم الحديث الذي جمعته. الوجه الثاني: أنَّه معارَضٌ بالثَّناء مِنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن عليٍّ عليه السَّلامُ على ابنِ عمر، ومحمَّدِ بن مسلمة وغيرِهما من المتوقِّفين، لكن عادةُ المخالفين أن لا يقبلوا ما خالفهم. الثالث: أنَّه غيرُ بَيِّن المعنى (¬3)، وشرطُ القاطع أن يكونَ غيرَ ¬
محتمل، وبيان الاحتمال فيه من وجهين. أحدهما -وهو أضعفُهما- أنَّه لا يجب صرفُ الهلاك المستنبط منه إلى الهلاكِ في حُكم الآخره إلاَّ متى تواتر أنَّ (¬1) هذا السُّؤال لعليٍّ عليه السلام، والجواب منه كان في حياة ابنِ عمر، أمَّا إذا أمكن ولو تجويزاً بعيداً أنَّه (¬2) بعدَ موته جازَ أن يكون (¬3) أراد ما أراد به قائله الأول مِنَ الثَّناء على الهالك بالموت، والتَّأسُّف عليه. ولسنا نجهلُ أنَّه قد نقل (¬4) تأخر موتِ ابن عمر (¬5)، ولكنَّ ذلك غيرُ متواتر ضروري، ولا يَنْفَعُ نقلُ الآحاد في هذا المقام، ولو كان متَّفقاً على صحَّته وشهرته، ومن أجل ذلك النَّقل المشهور قلنا: إنَّ هذا الوجه أضعفُ الوجهين. وثانيهما: أنَّ هذا القول غيرُ نَصٍّ على فسقه بالضَّرورة، فيجوز حينئذٍ أنَّه نَزَّلَ وَقْفَهُ مَنْزِلَةَ مَوْتِهِ في عدم انتفاعه به (¬6)، لأنَّه لو مات، لم يزد على أنَّه (¬7) يفقد منه نصر الحَقِّ، وخِذلان الباطل، فبيَّن عليه السَّلامُ أنّه في فقده له في وقفه مستحِقٌّ أنْ يحزنَ عليه صديقُه، ويثكَلهُ إخوانُه كما قيل ذلك في مثله بعدَ الموت الحقيقيِّ، بَل الموتُ المجازيُّ أحقُّ كما قال الله تعالى في العمى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فجعل العمى المجازِيَّ أشدَّ، ولذلك نَدِمَ وتاب رحمه الله. ¬
الوهم التاسع: قال: ومنهم الوليد بن عقبة
وأمَّا احتجاجُهم على فِسْقِ الواقفيَّة بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " واخْذُلْ منْ خَذَلَهُ " (¬1)، فجوابه من الوجهين (¬2) معاً، أمَّا (¬3) عَدَم تواتره فظاهر، وأمَّا معناه (¬4) فقد وَضُحَ (¬5) في قول عليٍّ عليه السلامُ الَّذي رواه الخُصوم أنّ الواقفين لم ينصروا الحقَّ، ولم يخذُلوا الباطلَ، وذلك أنَّه جعل وقفهم عَن الباطل غيرَ خِذلانٍ له، فكذلك وقفُهم عَنِ الحَقِّ، ولأنّ ذلك هو القدر المتحقِّقُ في معنى الخذل، وما دونَه ظنٌّ، ولا يجوز التَّفسيقُ بالظَّنِّ، والله سبحانه أعلم. ثم إن الواقفة مِنَ المتأوِّلين، وقد تقدَّم أنَّ فِسْقَ التَّأويل لا يقدح عند العِترة وغيرِهم في باب الرواية. الوهم التاسع: قال: ومنهم الوليد بنُ عقبة. توهَّم السَّيِّد أنَّه من جملةِ مَنْ لا يجوزُ عليه الكبائرُ مِنَ الصّحابة عند المحدِّثين، وأنَّه عن (¬6) الفسوق (¬7) عندهم من المعصومين، وأنه (¬8) مِنَ المقبولين عند المحدثين، وأنَّه في البراءة عَنِ المعاصي أرفَعُ مرتبة مِنْ سَيِّدِ المرسلين، وهذا وهمٌ ومجازَفَةٌ، وأنا أذكر من كلامهم ما يُمِيطُ هذا الوهمَ إن شاء الله تعالى. فأقول: قال أبو عمر (¬9) بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (¬10) -وقد ¬
ذكر الوليد-: لَهُ أخبارٌ فيها نَكَارَةٌ وشَنَاعة تقطعُ على سُوءِ حاله وقُبْحِ فعاله، وحكي عن أبي عُبيدة، والأصمعي، وابن الكلبي وغيرهم أنَّهم كانوا يقولون: إنَّه (¬1) كان فاسِقاً، شِرِّيبَ خَمْر، شاعراً كريماً، وأخبارُه في شربه الخمر، ومنادَمته لأهله مشهورةٌ يَسْمُجُ بنا ذكرُها ها هنا. انتهى. وقال أحمد بن حنبل في الحديث الذي فيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح على رأسه في صغَرِه: إنَّ ذلك لِسَابِقِ علمه فيه، وسيأتي ذكر الحديِث. وذكر غَيْرُ واحد من شارحي " كتاب الرافعي الكبير" (¬2)، منهم الحافظ ابن حجر أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قتل عُقْبَةَ بنَ أبي معيط صبراً يَوْمَ بدرٍ بَعْدَ أسرِه كما ذكره الرافعي. وقال ابن حجر: رواه البيهقيُّ من طريق محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه، عن جَدِّه، عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنَّ عقبة قال: مَنْ للصِّبْيَةِ يا محمد؟ قال: " النَّار ". ورواه الدارقطني في " الافراد "، وزاد فقال: " النَّارُ لَهُمْ ولأبِيهِمْ ". وفي " المراسيل " لأبي داود عن سعيد بن جبير مثلُ كلام الرافعي. وخرّجه ابن أبي شيبة، ووصله الطبراني في " الأوسط " بذكر ابن عباس (¬3). ¬
قال الذهبي في " النبلاء " (¬1) في ترجمة الوليد: كان يشربُ الخمرَ، وحُدَّ على شربها، وروى من شعره في شُرْبِها، قال: وهو الذي صلَّى بأصحابه الفجرَ أربعاً وهو سكرانُ، ثمَّ التفت إليهم، وقال: أزيدُكم (¬2)؟ وقال لأميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه: أنا أَحَد منك سِناناً، وأَذْرَبُ لِساناً، وأشجع جَنَاناً، فقال (¬3): اسكت، فإنَّما أنت فاسقٌ، فنزلت: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، قال الذَّهبي: إسناده قوي (¬4)، انتهى كلامه. وذكر الواحدي في كتاب " أسباب النزول " (¬5) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، ولم يذكر غيره، وروى حديثين في أنَّه الوليد، ومثله ذكر في " وسيط " (¬6) الواحدي أنَّه الوليد، ولم يذكروا (¬7) سواه، وكذا في " عين المعاني "، ¬
الوهم العاشر: توهم السيد أن الوليد من الرواة المعتمدين في الصحاح في الحديث عند أبي داود
و" تفسير القرطبي "، لم (¬1) يذكرا سواه مع توسُّعهما في النَّقل، لا سِيمَّا القرطبي، وكذا في " تفسير عبد الصمد الحنفي "، و" تفسير الرازي " لم يذكرا سواه. وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب ": ولا خلاف بين أهلِ العلمِ بتأويل القرآن فيما علمت أنَّ هذه الآية نزلت في الوليد (¬2) أفاد ذلكَ كُلَّه شيخُنا النَّفيسُ العلوي أعاد اللهُ من علومه. وأفاد السَّيِّد أيَّده الله أنَّ ابنَ الجوزي ذكر مِثْلَ ذلك، قال: وهو مِنَ القوم. أقول: فإذا كان من القوم، فكيف ادَّعيت عليهمُ القولَ بأنَّ الكبائرَ لا تجوزُ على الصحابة؟ فلو كانوا -كما زعمتَ- يعتقدون هذه العقيدة، وكما زعمت في أنَّهم كُفَّارُ تصريحٍ، دأبُهم التَّعمد للأكاذيب في نُصْرَةِ مذاهبهم ما تطابقوا على هذا، فَدَعْ عنك الدَّعاوي الباطلة، والاسترواحَ إلى الأقاويل الواهية. الوهم العاشر: توهَّم السَّيّدُ أنّ الوليد منَ الرُّواة المعتمدين في الصِّحاح في الحديث عند أبي داود، وليس كما توهَّم أيَّدَهُ اللهُ، وقد ذكر أنّه مذكور في " سنن أبي داود "، ولا أدري: هل قصد السيّدُ أنَّه في " سنن أبي داود " مُعْتَمَدٌ على حديثه، فهذا غلطٌ على الرَّجل إذا (¬3) اعتقد أنّ مجرّد الرواية عَنِ الفاسق على سبيل التَّقوِّي مع الاعتماد على غيره مِنَ الثِّقات حرامٌ لا تجوز لأحد، فهذه أقبحُ مِنَ الأولى، وقد ذكرنا فيما تقدَّم ¬
ثبوتَ الرِّواية عن المجروحين في كتب أهلِ البيت عليهم السَّلامُ، ونصَّ الإمام يحيى بن حمزة، وابنُ الصَّلاح وغيرُهما على أنَّ الرِّوايةَ ليست بتعديلٍ. إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ أبا داود روى حديثاًً عن جماعة مِن الثِّقات من طُرُقٍ كثيرة، ثمَّ ذكر الوليد بعدَهم على سبيل المتابعة في هذا الحديث الواحد (¬1) المرويِّ عنِ الثِّقات، وأنا أذكر الحديث الذي رواه أبو داود عن الوليد، وأبيِّن الطُّرُقَ التي اعتمد أبو داود عليها، وأذكر السَّبَبَ في تقوِّي أبي داود برواية الوليد بعد روايةِ الحديث من طرق الثقات. فأقول: بَوَّبَ أبو داود في " سننه " (¬2) باباً في كراهة الخَلُوقِ للرجال، وذكر ما ورد في ذلك، واستوفي الطُّرُقَ، ولم يقتصِرْ على الطرق (¬3) الصَّحيحة. فروى عن عمار بنِ ياسر أنَّه قال: قَدِمْتُ على أهلي [ليلاً]، وقد تَشَقَّقَتْ يداي، فَخَلَّقوني بزعفران، فَغَدَوْت على النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فسَلَّمتُ عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ، ولم يُرَحِّبْ بي، وقال: " اذْهبْ فَاغْسِلْ هذَا عَنْكَ "، فذهبتُ فغسلتُهُ، ثم جئتُ، [وقد بقي علي منه رَدْعٌ، فسلمتُ، فلم يَرُدَّ علي، ولم يُرَحِّبْ بي، وقال: " اذْهَب فاغْسِلْ هذا عنك "، فذهبتُ فغسلتُهُ، ثم جئتُ]، فسلمت عليه، فسلَّم عليَّ، ورحَّبَ بي، وقال: "إنَّ الملائِكةَ لا تحْضُرُ جنازَةَ الكافِرِ (¬4) لخَيْرٍ (¬5)، ولا المُتَضمِّخِ ¬
بالزَّعْفَرَانِ، ولا الجُنُب"، ورخَّص للجنب إذا نام أو أكَلَ أو شَرِبَ أن يتوضَّأ (¬1). وروى عن أبي موسى أنّه قال [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] " لاَ يَقْبَلُ الله [تعالى] صلاةَ رَجُل في جَسَدهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ " (¬2). وروى عن أنس رضي الله عنه أنّه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَن التَّزَعْفُرِ للرجال (¬3)، وهذا حديثٌ صحيح أخرجه مسلم في " صحيحه " والترمذي، والنسائي. وروى عن أنس أيضاًً من طريقٍ أخرى أنَّ رجلاً دخل على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أثَرُ صُفْرَةٍ، وكان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قلَّما يُوَاجِهُ (¬4) رجلاً في وجهه بشيءٍ يكرهه، فلمّا خرج، قال: " لَوْ أمْرْتُمْ هذا أنْ يَغْسِلَ هذا عنه " (¬5) وهذا الحديثُ ¬
أخرجه الترمذي، والنسائي أيضاًً. وروى عن عمار رضي الله عنه من طريق غير الطريق الأولى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثَلاثَةٌ لا تَقْرَبُهُمُ المَلائِكَةُ: جِيفَةُ الكَافِرِ، والمُتَضَمِّخُ بالخَلُوقِ، والجُنُبُ إلّا أنْ يَتَوضَّأ " رواه عنه من طريق الحسن البصري رضي الله عنه (¬1). ثمّ بعدَ هذه الطُّرق إلّا طريقَ أنسٍ الثانية، روى عن الوليد أنّه لمّا فتح نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيدعو لهم بالبركة، ويمسح رؤوسهم (¬2)، قال: فجيء بي (¬3) إليه، وأنا مُخَلَّقٌ، فلم يمَسَّني من أجل الخَلُوق، هكذا رواه أبو داود (¬4). ¬
وقد رُوِيَ عن أحمد بنِ حنبل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَمَسَّهُ (¬1)، ولم يَدْعُ له بالبركة، ومُنِعَ بركةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لسابق علمه فيه. وأقول: إنّ النُّقاد من علماء الأثر قد قدحوا في هذا الحديث مع ما فيه مِنَ القدح الظَّاهر بفسقِ الوليد، وقال: إنَّه لا يَصِحُّ لوجوه: الأول: أنّه قد ثبت أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليدَ ساعِيَاً إلى بني المُصْطَلِقِ في القصَّة المشهورة، وليس يَصِحُّ فيمن بُعث رسولاً إلى بني المصطلِقِ أن يكون يَوْمَ الفتحِ صبيّاً صغيراً. الوجه الثاني: أنَّ زوجتَه شكته إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَعِشْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتحِ إلاّ يسيراً، فمتى كانت هذه الزوجة. الوجه الثالث: أنَّه فدى من أُسِرَ يوْمَ بدر. الوجه الرابعُ: أنّ الزبير وغيره ذكروا أنَّ الوليدَ وعُمارة ابني عُقبة خرجا لِيَرُدَّا أختهما أمَّ كلثوم عَنِ الهجرة، قالوا: وهجرتها كانت في الهُدنَةِ بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ أهل مكة. ¬
فإن قلتَ: كيف غَفَل أبو داود عن هذا؟ قلتُ: هذا فيه احتمالان: الأول: أن يكون أُنْسِيَ هذه الأمورَ، وَغَفَلَ عنها على سبيلِ السَّهْوِ دونَ الجهل، وقد يسهو الإنسانُ عمّا يعلم، كما يسهو في صلاته، وغير ذلك، فَطَاحَ تقوِّيه بهذا الحديث، وراجت عليه كما يجري مثلُ ذلِكَ لكثيرٍ مِنْ كبار الحُفَّاظ، والنُّحاة، والمتكلِّمين في كثيرٍ مِنَ المسائل، وكم مِنْ إمامٍ في الفن يَغْلَطُ في مسألة واضحة، وقد (¬1) تقدمت الإشارة إلى ذلك في المسألة الأولى. الاحتمال الثاني (¬2): أن يكون رأي في الحديث أمرين: أحدهما: أن قريشاً كانوا يأتون بصبيانهم إليه عليه السَّلامُ، فيمسح رؤوسهم (¬3)، ويدعو لهم، وأنّه أُتِيَ بالوليد، فلم يمسَّهُ، ولم يَدْعُ له (¬4) هكذا من غير ذكر مكّةَ، وهذا محتمل لا دلالة على بطلانه. والأمر الثّاني: ما في الحديثِ أنَّ هذه القصة كانت يومَ الفتح، وهذا باطل، لكن ليس يلزمُ من القطع ببطلان هذا أنْ نُبْطلَ الحديثَ كلّه، فَمِن الجائز أن يكونَ الحديثُ مُمْكِنَ الصدق، ولكن الرَّاوي وَهِمَ في ذكر يوم الفتح، وليس الوهمُ في تاريخ القصة يدلُّ على بطلان القصة (¬5) قطعاً؛ ألا ترى أنّ كثيراً مِنَ المؤرخين يَغْلَطُ في تاريخ القَصَصِ والوفياتِ، فيقول: ¬
إنّ قتلَ فلان وحربَه (¬1) كان يومَ فلان، وينكشِفُ غلطُه في التَّاريخ، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلِكَ أنَّ ذلِكَ الرَّجُلَ ما قُتِلَ أصلاً، ولا كان له حربُ البتة. ويقوِّي هذا الاحتمالَ وجوهٌ: - أحَدُهَا: أنَّ أحمدَ بن حنبل ذكر هذا الحديث مع إجماعهم على أنّه مِنْ أعرف النّاس بعلم الأثر وعِلَلِهِ، وما يتعلَّقُ به، وتكلَّم (¬2) في وجه امتتاع النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المسح على رأس الوليد. وروى أحمد بن حنبل أنَّ الوليدَ سلخ يومئذ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَقَذَّرَه، وأن الوليد مُنِعَ بركتَه عليه السلام. الوجه الثاني: أنّ هذا الحديث من مَثَالِبِ الوليد، ومناقِصِهِ الدَّالةِ على خِسَّتهِ، فهو يَبْعُدُ أنْ يكون كذبه، لأنّه عليه لا له، بل يَبْعُدُ أن يكون مَا رَوَاهُ إلا وهو معروفٌ عند غيره، ولو استطاع كَتْمَهُ لكتمه، ألا ترى أنَّ أحمد بن حنبل روى أنّه سَلَخَ يومئذ وَتَقَذَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذا لم يروه الوليد، فدلَّ على أنَّ الحديث مرويٌّ مِنْ غيرِ طريقه، وأظنُّ الوليد إنَّما ذكر هذا الحديث ليعتذر من (¬3) ذلكَ بما زعمه مِنْ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما ترك المسحَ عليه إلاّ مِنْ أجل الخَلُوقِ الّذي كان فيه، وهذا العذرُ تمويه لا يمضي لأمرين: أحدهما: أنَّ الخلوق لم يكن في جسده كلّه، وهو صغيرٌ لا ذنبَ عليه، فيزجره عليه السّلامُ بذلِكَ كما فعل مع عمار. وثانيهما: أنّه امتنعَ مِنَ الدُّعاء له، كما امتنع مِنْ لَمْسِ جَسَدِهِ، ¬
والدُّعاء للصَّبي المُخَلَّقِ لا كراهة فيه (¬1)، ولا مانِعَ منه. الوجه الثالث: أنّ راوي الحديثِ عَنِ الوليدِ كان ضعيف الحفظِ، قليلَ الإتقان للحديث، فلعلَّه الذي وَهمَ في ذكر يومِ الفتح، وهذا الراوي هو (¬2) عبد الله الهَمْدَاني، وفيه كلامٌ مِنَ وجهين: أَحَدُهُما: أنَّهم تكلّموا فيه، فقال جعفرُ بنُ برقان عن ثابت بنِ الحجاج: لا يَصِحُّ حديثه. وقال الحاكم أبو أحمد الكرابيسي (¬3): وليس يُعرف أبو موسى الهمداني ولا عبدُ الله الهمداني، وقد خُولفَ في هذا الإِسنادِ، وهذا حديث مضطرب الإسناد. وقال الحافظ عبدُ العظيم (¬4) ما لفظه: قالوا (¬5): وأبو موسى هذا مجهول. ¬
وثانيهما: أنّ هذا الحديث مرويٌّ عن عبد الله الهَمْدَاني، وعن أبي موسى الهَمْدَاني، وقد اختلفوا، فقيل: هو رجل واحد اسمُهُ عبدُ الله، وكنيتُهُ أبو موسى، قال ذلك أبو القاسم الدِّمشقي الحافظ (¬1). وقال ابنُ أبي خيثمة: أبو موسى الهَمْدَاني اسمُهُ عبد الله، وقيل: هما اثنان، قاله البخاري. قال البخاري: وعبد الله الهمداني روى الحديثَ عن أبي موسى الهمداني (¬2) وهذا هو (¬3) الظَّاهرُ، لتقدُّم البخاري في الحفظ، ولأنّه مثبت، ولأنّ احتجاج ابن (¬4) أبي خيثمة بأنّ اسم أبي موسى عبدُ الله لا يمنعُ من ذلك، ولعلّ ذلك هو الّذي غرّ أبا القاسم الدِّمشقي، ورواية عبد الله عن أبي موسى ترفعُ الإِشكال، والله أعلم. فإن قلت: فَلِمَ تَقوَّى أبو داود بهذا الحديث مع ما فيه من المطاعن؟ قلت: لأنّه أورد الحديث بإسنادٍ صحيح، وذكر معه ما جاء في الباب مِنْ كُلِّ ضرب مِنْ غَثٍّ وسمين كما هو عادةُ الحُفَّاظ، وأهلِ المسانيد، وقد ثبت أنَّ روايةَ الكافرِ المصرح قد تُفيد الظَّنَّ، فهي تقوى لا محالة، فكأنَّه أراد استقصاء ما يحفظ في الباب من الطرق (¬5) لذلك، ألا ترى أنّه ¬
أورد أحاديثَ البابِ مِنْ عدَّة طرق في (¬1) كُلٍّ منها كلام، لكنها إذا اجتمعت أخذت حَظّاً منَ القُوَّة. الطريق الأولىَ: فيها عطاء الخراساني، وقد أخرج له مسلمٌ متابعة، ووثَّقه يحيى (¬2) بن معين، وقال أبو حاتِم الرازيُّ: لا بأس به صدوق يُحتج به، ووثقه أحمد والعِجلي، ويعقوبُ بن أبي شيبة وغيرهم، وقال الذهبي: كان مِنْ خيار العلماء، وذكر في " الميزان " (¬3) أنّه كان يَهِمُ، فروى عن ابن المسيِّبِ حديث الّذي وقع بأهله في رمضان على ما رواه ابنُ المسَيِّبِ، فسُئِلَ ابنُ المسيب عمّا روى، فكذَّبه فيه، فذكره لهذا (¬4) العقيلي في " الضعفاء " (¬5)، وكذا ضعَّفه لأجلِ الوَهْمِ البخاريُّ، وكان من عبادِ الله الصالحين، والصَّحيح أنّه ثِقَةٌ، وفي حفظَه لين محتمل، ولكن جرحه غيرُهم، فكذَّبه سعيدُ بن المسيّب على جلالته، وقال (¬6): [ابن حبان] (¬7): كان رديءَ الحفظ ولا يَعْلَمُ، فبطل الاحتجاج به، قال الذَّهبي: هذا القول من ابن حبان، فيه (¬8) نظر. ¬
الطريق الثانية: عن يحيى بن يعمر (¬1) عن رجلٍ، عن عمّار، وفي هذه الطَّريق هذا الرَّجل المجهول. الطريق الثالثة: عَنِ الحسن البصري عن عمار، وهي مُعلَّةٌ بالانقطاع بين الحسن وبين عمار، لأنَّ الحسن لم يَسْمَعْ مِن عمار. الطريق الرابعة: طريق أبي موسى، وفيها أبو جعفر الرَّازي عيسى ابنُ عبد الله بنِ ماهان، وقد اختلف فيه قولُ علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقال ابن (¬2) المديني مرة: ثقة، وقال مرة: كان يخلط، وقال أحمدُ بنُ حنبل مرةً: ليس بالقوي، وقال مرّة: صالحُ الحديث (¬3)، وقال يحيى بن معين مرة: ثقة، وقال مرة: يُكتب حديثُه، إلاّ أنّه يخطىء، وقال أبو زُرعة الرازي، يَهِمُ كثيراً، وقال الفَلاَّس: سيئ الحفظ، وحَكَى (¬4) الذهبي الاختلاف فيه، وقال: هو صالح الحديث (¬5). ¬
فإن قلت: كيف يَصِحُّ اختلاف كلام (¬1) هؤلاء في الجرج والتّعديل؟ قلت: لأنَّه عندهم لا يتعمَّد الكذب، ولكنه يخطىء (¬2)، والمخطىء إنَّما يُجرح بالتَّحري والاجتهاد (¬3)، والاجتهادُ في ذلِكَ يقف على النظر في كثرة خطئه: هل بلغ إلى حدٍّ يُوجب طَرْحَ حديثِهِ الّذي لم ينكشِفْ أنَّه خطأٌ أو لا؟ وما (¬4) الحدُّ الذي إذا بلغه بَطَلَ حديثُهُ؟ فقال علماء الأصول: إذا كان خطؤُه أكثر مِنْ صوابه، أو مُساوياً له، وقال المنصور بالله، وعبد الله بن زيد: إذا كان أكثر فقط، وإذا كان مساوياً، لم يجب طرْحُ حديثِهِ، وهذا دقيقٌ ضامضٌ يحتمل التَّردُّدَ، وتصحيح العبارة. فاختلاف (¬5) أئمَّة الجرحِ مثلُ اجتهاد الفقهاء في دقيق الفقه، فيكون لابن معين قولانِ في الجرح مثل ما يكون للمؤيَّد قولانِ في الفقه. الطريق الخامسة: عن أنسٍ، وفيها سلم (¬6) العلوي، وفيه كلام كثير. قال أبو داود: وليس هو علوياً (¬7)، كان ينظر في النُّجوم، وَشَهِدَ عند عديِّ بن أرطاة (¬8) على رؤية الهلال، فلم يُجز شهادته، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال مرة: ضعيف. ¬
وقال ابن عدي (¬1): لم يكن من أولاد عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، إلاّ أنَّ فريقاً بالبصرة (¬2) كانوا يُسَمَّوْنَ بني علي، فَنُسِبَ هذا إليه. وقال ابن حبان (¬3): كان شُعبة يحمل عليه، فيقول: كان سلْمٌ (¬4) العلويُّ يرى الهلال قَبْل الناس بيومين، منكر الحديث على قِلته، لا يُحْتَجُّ به إذا وافَقَ الثقات، فكيف إذا انفرد؟! قلتُ: قولُ ابن حبان: كان شعبةُ يَحْمِلُ عليه يَدُلُّ على أنَّهُ فوق هذه المنزلة الّتي قالها شعبة، وَيَدُلُّ على ذلِكَ تردُّدُ يحيى بن معين في توثيقه، وكأنّه كان صدوقاً في نفسه، لكنّه كان ينظر في النجوم، وكان (¬5) كثير الخطأ، فَقُدِحَ فيه بهما، واختلفتِ العبارات في القدح فيه، واللهُ أعلم. الطريق السادسة: طريق الوليد المقدمة، وقد تقدَّم الكلام على ما فيها من الاختلال (¬6) والاعتدال في أصلها وفرعها. فذكرُ أبي داود لجميع هذه الطرق المعلولةِ يدل على أنَّه استقصى ما يحْفَظُ في الباب، واعتمد على الطَّريق الصَّحيحة السَّالمة مِنْ هذه المطاعن، وهي الطَّريقُ السابعة الّتي روى فيها حديث أنسٍ الثّابتِ الصَّحيحِ في " مسلمٍ " وغيره. إذا عَرَفْت هذا، فهذا هو الحديثُ الَّذِي رواه أبو داود عن الوليد لم ¬
الوهم الحادي عشر: ذكر السيد أن الوليد مذكور في غير " سنن أبي داود " من كتب الحديث، وهذا الوهم أفحش من الذي قبله
يروِ عنه سواه، فقد (¬1) ثبت أنّه روى معناه مِن سِتِّ طُرُقٍ غيرِ طريق الوليد، وقد ذكرتُ فيما تقدّمَ أن الحُفَّاظَ يروون عن بعض الضُّعفاء والمجاريح على جهة المتابعة، فرُبَّما يرى من لا يعرف مَذْهَبَهُمْ وطريقَتَهم ذكر أولئك المجاريح في كتبهم فيظنُّ (¬2) أنَّ القوم يرون عدالةَ الفُسَّاقِ المصرحين، وأمانَةَ العُصَاة الّذين يعلمون (¬3) أنَّهم غيرُ مُتَأوِّلين، وليس الأمر كذلك. وما على الحُفَّاط إذا جَهِلَ بعضُ النّاس ما عرفوا، فالمرء عدوُّ (¬4) ما جهله، والّذي يقتضي الأدبَ والتَّمييز أنْ يتواضَعَ الإِنسانُ لِمَنْ هو أعرفُ منه بالفَنِّ، ولا يتجاسرَ على القدحِ عليه، فإنْ لاح له وجهٌ في القدح، وتبيَّن أنه لازمٌ، تكلّم بما يعلم، ولا حَرَجَ والله أعلم. الوهم الحادي عشر: ذكر السيِّد أنَّ الوليد مذكورٌ في غير " سُننِ أبي داود " من كتب الحديث، وهذا الوهم أفحشُ مِنَ الذي قبلَه، فإنْ كانَ السيِّدُ يُرِيدُ أنّهُ مذكور في سائر الصحاح بالرِّواية عنه، وتصحيح (¬5) الحديث مِنْ طريقه، فقد قال بِمَا لا يعلم، ولو توقَّر حتّى يدري، وقدَّر قبل أن يَفْرِيَ، لَعَلِمَ (¬6) أنّ القومَ ما رَوَوْا عنه حديثاًً واحداً لا أصلاً ولا شاهداً، فإن كان يُريد أنّهُ مذكورٌ فيها غير مروي عنه، فَنَعَمٌ، هو مذكورٌ فيها بأنَّه شَرِبَ الخمر، وحُدَّ في شُربها، وليس مذكوراً (¬7) فيها بالعدالة، والاستناد إليه ¬
الوهم الثاني عشر: أن ابن عمرو كان مع معاوية حتى قتل عمار، فلزم نفسه من غير توبة
في الرواية، وأيُّ ذنبٍ له في مجرَّد ذكره، وما وجهُ الاعتراضِ بسطره (¬1)، وقد ذكر اللهُ في كتابه الكريم أبا لهبٍ وأمرأتَهُ حَمَّالة الحطب. وقد قال إمامُ أهلِ (¬2) الحديث ابنُ عبد البر في ترجمة الوليد في كتاب " الاستيعاب " (¬3) بعد جرحه له: إنَّه لم يَرْوِ سُنَّةً يُحتاجُ فيها إليه بهذا اللفظ، وهو نَصٌّ في موضعِ النِّزاع، وللهِ الحمدُ والمِنَّةُ. الوهم الثّاني عشر: أنَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو كان مع معاوية حتى قُتِلَ عمار، فَلَزِمَ نفسَه من غير توبة. أقول: أمّا أنْ يُريدَ السيدُ من غير توبةٍ في معلوم اللهِ، ويقطع أنّهُ ما تابَ لا باطناً ولا ظاهراً، فهذا يحتاجُ إلى وحيٍ وتنزيل، أو يُريد من غير أن يتلفَّظ بالتَّوبة ويقول: اللَّهُمَّ إنِّي إليك منَ التَّائبين النَّادمين في الماضي، العازمين على التَّرك في المستقبل، ونحو ذلك مِنَ العبارات، فلا يخلو: إمَّا أن يعتقِدَ أن التَّلَفُّظَ بذلِك مِنْ أركان التَّوبة، فهذا غفلة (¬4) عظيمة، أو يعتقد أنَّ ذلك واجبٌ على كُلِّ عاصٍ، فهذا أعظم، فما زال النّاسُ يَرْجِعُونَ مِنَ الكُفر إلى الإسلام في زمانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يأمُرُهُمْ بالتَّلفُّطِ بالتَّوبة، وإنَّما الواجبٌ على العاصي أن يُظْهِرَ قرينةً ظَنِّيِّة تَدُلُّ على ندمِهِ على ما كان منه، وعزمِهِ على مجانبته، وقد تكون تلك (¬5) القرينةُ مِنْ قوله، وتكون مِنْ فعله، فأمّا التَّوبة نفسُها، فمحلُّها القلبُ، وهي مجموع ¬
النَّدم والعزم، وليس يصحُّ ظهُورها في نفسها، إنَّما يجب إظهارُ قرينة ظَنِّيّة تَدُلُّ عليها، وإنَّما قلنا: إنّها تكون ظَنِّيَّةً؛ لأنَّه لا سبيل إلى العلم بتوبته، وإن صرح بذلك، لأنّ التَّوبة مِنْ أفعالِ القُلُوبِ، ومِنَ الجائِزِ أنْ يُظْهِرَ التَّوبة، ويصرِّحَ بها، وليس كذلِكَ عندَ نفسه، وفي باطن أمره، وإذا (¬1) كان القولُ الصَّريحُ لا يُفيدُ إلا الظَّنَّ، فالفعلُ مع القرائن يُفِيدُ ظنَّ التَّوبة أيضاًً. مثالُ ذلك رجوع الزبير عن حربِ علي عليه السلامُ حين سَمِعَ الحديثَ " لَتُقَاتِلَنَّهُ وأنْتَ لَهُ ظَالِمٌ " (¬2) فإنَّهُ (¬3) لمّا سمعه (¬4)، ترك الحربَ، ولم يتلفَّظ بالتَّوبةِ (¬5) والاعتذارِ، فحَكَمَ الأئمَّةُ والعلماءُ بتوبته مِنْ غير أنْ يُنْقَلَ عنه تلفُّظ بالتَّوبة (¬6) والاستغفار. ¬
وكَذلِكَ عبدُ الله بنُ عمرو تَرَكَ ما كان عليه حين قُتِلَ عمّارُ بن ياسر رضي الله عنه (¬1)، فظهر أنَّه كان متأوِّلاً شاكّاً، فلمَّا استيقن أنّهم بُغَاةٌ عُصاةٌ، رجع مختاراً إلى الله تعالى مِنْ غير اضطرارٍ، ولا إكراهٍ. وكذلك عائشة وطلحة قد تمسَّكُوا في توبتهم بما ليس بصريح (¬2) في التوبة، أمّا طلحةُ فيقول (¬3): ما رأيت مصرعَ شيخٍ قرشِيٍّ أضلَّ مِنْ مصرعي هذا، وأمّا عائشة، فإنَّها كانت (¬4) إذا ذكرت ذلك بكت حتى تَبُلَّ خِمَارَهَا (¬5)، ونحو ذلِكَ، وهذا كُلُّه محتمل، فليس اعترافُ طلحةُ بقُبح فعله يَدُلُّ على صريح التَّوبة، ولا بكاءُ عائِشَةَ بنفسه يدلُّ على أنَّه كان لأجل قبحِ (¬6) المعصية. وكذلك أسامَةُ بنُ زيدٍ، فإنّهُ لمَّا قَتَلَ الرجل المسلم، وجاء إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلِك، وَعَظَّمَ (¬7) ذلِكَ عليه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَزِدْ أسامةُ على أنْ حلف لا قَتَلَ بَعْدَ ذلِكَ مَنْ قال: لا إلهَ إلا اللهُ (¬8). وهذا ¬
إخبارٌ بالعزم، ولم يُخْبِرْ بالنَّدم، ولا بأنَّه فعل ذلِكَ لأجل قبْحِ المعصية، فَمِنَ الجائز أنَّه فعل ذلِكَ لئَلاَّ يغْضَبَ عليه رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وأمثالُه مِنَ التَّجويزات الباردة الّتي لا تقبلُها قُلُوبُ الفُضَلاء، ولا تتمكَّنُ في نفوسِ أهلِ التَّقوى ممّا لا يقدح في توبَةِ التّائبين، فإنّا لو فتحنا هذا البابَ، لم نَحْكُمْ بتوبَةِ أكثَرِ الصَّحابَةِ مِنْ محضِ الكُفر. وعبد الله بن عمرو كانَ من عُبَّادِ الصَّحابة، وقد كان يقوم اللَّيْل كُلَّه، ويصومُ الدَّهر، ويَخْتِمُ في كُلِّ يومٍ ختمةً حتَّى نهاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأمره بالرِّفْقِ بنفسه، وقال (¬1). " صُمْ منْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثاً " (¬2)، فقال: أنا أقوى مِنْ ذلِك، فما زال يُنَازِلُهُ حتى قال له: "صُمْ يَوْماً وَأفْطِرْ ¬
يَوْماً"، فقال (¬1): أنا أقوى مِنْ ذلِك، فلم يأذن له عليه الصلاةُ والسلامُ في أكثرَ مِنْ ذلِك، وقال: " لا أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ " (¬2). وأمره عليه السَّلامُ أن يختم في الشَّهر خَتمة، فقال: أنا أقوى مِنْ ذلك، فما زال ينَازِلُهُ حتَّى أمره أن يختم في كُلِّ ثلاثة أيّام ختمة، فقال: أنا أقوى منْ ذلك، فلم يأذن له عليه السلام أن يختم في أقل مِنْ ذلِكَ (¬3)، وقد مدحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " نِعْمَ الرَّجُل عَبْد اللهِ " (¬4)، ولم يكن عبدُ اللهِ مِنْ طرازِ معاوية وأتباعِهِ من الدُّنْيَوِيين، وإنَّما كانت مِنْهُ تلك الهفْوَة بسبب البِر بأبيه، فإنّ أباه ذَكَّره أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يُطِيعَهُ (¬5)، فذكر ذلك، فقال له أبُوه: فأطعني، فأطاعه في مُجَرَّدِ المسايرة لهم من غير أن يُريق دماً، ولا يَسُلَّ سيفاً، ثُمَّ عصمه اللهُ تعالى مِنْ ذلِك، وتداركه بالتَّوبة، فمَنْ ¬
الوهم الثالث عشر: قال: ومنهم أبو موسى الأشعري نزع عليا الذي ولاه الله ورسوله
هذِهِ حالُهُ إذا قارف ذنباً على جهة التّأويل، ثم عَلِمَ قُبْحَهُ، فأسرع إلى مفارقة ذنبه، فاستمرَّ على نحيبه حتَّى ماتَ، كيف (¬1) يقال إنَّه مُصِرٌّ على محضِ الفُسوقِ (¬2)، خارجٌ من ولاية الله تعالى، ولو قدَّرنا أنّها لم تصحّ توبتُه، بل إنَّه استمرَّ على المعصية، لكان مقبولاً في الرِّواية، فإنّه من المتديِّنين المتأوِّلين، وهو نظيرُ السَّجَّاد ابن طلحة بنِ عُبَيْدِ الله الذي قال فيه عليٌّ عليه السلام: قتله بِرُّهُ بأبيه (¬3). الوهم الثالث عشر: قال: ومنهم أبو موسى الأشعري نَزَعَ علياً الّذي ولّاه الله ورسوله، إنَّه على الله لجريءٌ، وأقام معاوية بن أبي سفيان القدري. أقول: أمّا نزعُهُ لعليٍّ عليه السلامُ فصحيحٌ عنه، وقبيحٌ منه. وأمَّا قوله: إنَّه أقام معاوية، فوهمٌ فاحشٌ، لا يجهلُه مَنْ لَهُ أدنى ¬
تمييزٍ بعلمِ التَّاريخ، فإنَّه خَلَعَ معاويةَ أيضاًً، وكان غرضُه أن يُقيم عَبْدَ الله بنَ عمر بن الخطاب، وقد كان تواطأ على هذا هو وعمرو بن العاص، فغدره عمرو، فلم يَخْلَعْ معاوية وعلياً كما خلعهما أبو موسى، بل قرَّر معاوية، فسبَّه أبو موسى، فقال له: إنَّما مَثلُكَ كمثل (¬1) الكلب. وقد اشتهر في التَّاريخ أنَّ علياً عليه السَّلامُ لمَّا حكم أبا موسى كتب إليه معاوية: أما بعد، فإنَّ عمرو بن العاص قد بايعني على ما أُرِيدُ، وأُقْسِمُ بالله لئن بايعتني على ما أُريد (¬2) لأستعملنَّ أحدَ ابْنَيْكَ على البصرة، والآخرَ على الكوفة، ولا يُغْلقُ دونَك بابٌ، ولا تُقضى دونك حاجة، وقد كتبتُ إليك بخطِّي، فاكتب إليَّ بخط يدك (¬3)، فكتب إليه: أمَّا بعدُ، فإنَّك كتبت إليَّ في جسيمِ أمرِ الأمَّة، فماذا أقول لربِّي إذا قَدِمْتُ عليه؟ وليس لي فيما عرضتَ عليَّ حاجة (¬4). إذا عرفت هذا، فأبو موسى من جملة المتأوِّلين بغير شَكٍّ، وذنبه في هذا دون ذنوب (¬5) الخوارج لا يمنع مِنْ قبول الرِّواية، فقد كان متعبِّداً متزهِّداً قواماً صوَّاماً، وقد تولَّى البصرة، فلم يخرج منها إلا بستِّ مئة درهم، وكان خراجُها عشرةَ آلافِ ألفٍ وأربعَ مئةِ ألفٍ، وحديثُه في " علوم آل محمد "، مِنْ ذلك في باب الكفّارات في أواخره. ¬
وقد روي عن حذيفة أنَّه تكلَّم في نفاقه. رواه الشِّعبي، وقال: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه ديناً (¬1). وعندي أنَّ هذا لا يقدح في روايته، فحذيفةُ -وإن كان صاحبَ العِلْمِ بالمنافقين- إلا أنَّه -من غير شكٍّ- ما أخذ العلم بالمنافقين إلاَّ مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد (¬2) قال في أبي موسى: " إنَّهُ مسلمٌ منيبٌ " رواه مالك بن مغول وغيرُه عن ابنِ (¬3) بريدة، عن أبيه بريدة (¬4) عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ¬
ومن أوضح (¬1) الأدلَّةِ على هذا (¬2): أنَّه كان يُفتي، و (¬3) يقضي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلدتِه في حياته، وبَعْدَ وفاته، وقد ولاَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اليَمَنَ، وولَّاه على (¬4) القضاءِ في اليمن، ولو كان منافقاً لم يُوَلِّه ذلك، ولا يتركُه يُفتي، فقد كانت حال (¬5) المنافقين معروفةً في زمانه عليه السلامُ، وكانوا أحقرَ منْ أنَّ يُؤتَمَنُوا على قضاء المسلمين، وفتياهم، وولايتهم (¬6). ولو كان منافقاً، لاغتنم الفُرصة حين حكَّمه عليٌّ عليه السَّلامُ، ولبايع معاويةَ على ما شاء، وقبِلَ (¬7) منه ذلك العطاء، ولو كان كذلك، لما اختار عبدَ الله بن عمر للخلافة، فعبدُ الله بن عمر كان من أهل التَّحرِّي، والمنافقُ لا يحبُّ إلاَّ أهل الفُسوق والجُرأة. وقد روى ابن بطَّال في " شرح البخاري " في الكلام على الخوارج: أنَّ عليَّاً عليه السلام سُئل عنهم: أكفَّارٌ هم؟ فقال: مِنَ الكُفر فرُّوا، قيل له: فمُنافِقُون؟ قال: المنافقون لا يذكرون اللهَ إلاَّ قليلاً، وهم يذكرون ¬
الله ذِكراً كثيراً (¬1). وقد ذكر الفقيه حميد (¬2) في " عمدة المسترشدين ": أن هذا أشهرُ ¬
الرِّوايتين عنه عليه السلام في عدم تكفير الخوارج. وذكر ابنُ بطال: أنَّه مرويٌّ عنه مِنْ طُرُقٍ. وذكر البيهقي (¬1): أنَّه ردَّ عليهم أموالهم مِنْ طرق، ولم يذكرا (¬2) قط (¬3) الرواية الأخرى. وهذا غايةُ الورع والإنصاف مِنْ أميرِ المؤمنين عليه السَّلامُ، وكذلك فلتكُن المَنَاقِبُ، فإذا تقرَّر نفيُ أميرِ المؤمنين النِّفاق عنهم، فأبو موسى أحقُّ بذلك منهم، فإنَّه لم يُشاركهم في عظائمهم الفاحشة مِنْ حربِ أميرِ المؤمنين، وتكفيرهِ (¬4)، والإعلانِ بالبراءة منه، والإصرارِ على ذلك، والدُّعاء إليه، وكان مِنَ حُفَّاظ كتاب الله، والذَّاكرين الله كثيراً مع قُبْحِ ما صنع، وكراهتِنا لِمَا صنع، ووُجوب البراءة ممَّا صنع، ولكن ليسَ منْ أساء وأحسن كَمَنْ أساء ولم يُحْسِنْ، وقد مَيَّزَ الله تعالى في كتابه الخالطين (¬5) بِحُكْمٍ مفردٍ، واختلف أهلُ تفسير القرآن فيهم، بل قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} [هود: 114]، وليس كلامُنا في تحسينِ ذنبه، وإنَّما كلامُنا في أنَّه مِمَّنْ تُقْبَلُ رِوايتُه مع ذَنْبِهِ لظهور تأويله، وكَثرة حسناتِه مع ذلك الذَّنب، كما ذكره الأئِمَّةُ مِنْ أهلِ البيت، وسائِرِ علماء ¬
الإِسلام في الخوارج، وكثير (¬1) من أهل البدع؛ لأنَّ مبنى الرِّواية على ظنِّ الصِّدق، وعدم التُّهمة بتعمُّدِ الكَذِبِ ونحو ذلك. وممَّا يُعْرَفُ به صدقُه وُيمْتَحَنُ به حالُه: تتَبُّع أحاديثه كلِّها، والنَّظرُ فيما فيها كما مرَّ في أحاديثِ معاوية، وهل هي منكراتٌ مشتمِلة على ما لم يَرْوِه غيرُه مِنَ الثِّقات أم لا؟، كما هو عادةُ المحدثين، فاعتبرْ ذلك إنْ شئت، والله الموفق. ولكن لا يَصْلُحُ لذلك إلا أئِمَّةُ الحديث الَّذين يعرفون ما انفرد به ممَّا رواه غيرُه، فإنْ كنتَ منهم، فانتقد واجتهد، وإن لَمْ تكُنْ منهم، فتعلَّم وتفهَّم تَسْتَفِدْ، وهذا مِنْ علوم الحديث هو النَّوعُ المسمى بالتَّتبُّع والاعتبار، ومِنْ مواضع الغلطِ فيه أن يقدح على الرَّجل بما رُوي عنه ممَّا لم تتحقَّقْ صحَّتُه عنه (¬2). فاعْرِفْ ذلك. ولمَّا قَرُبَ موتُه، اجتهد في العبادة اجتهاداً شديداً، فقيل له: لو أمسكتَ ورفقت بنفسك؟ فقال: إنَّ الخيل إذا أُرْسِلَتْ، فَقَارَبَتْ رأسَ مجراها، أخرجت جَميعَ ما عندها، والَّذي بَقِيَ مِنْ أجلي أقلُّ مِنْ ذلك (¬3). وبالجملة، فلم نعلم (¬4) أحداً من المنافقين استمرَّ على الإِسلام مِنْ ¬
أوَّلِ النُّبُوَّة إلى عام أوطاس (¬1)، فالمنافقُ يَنجُمُ نفاقُه أيَّامَ ضعفِ الإِسلام، وإنَّما كان كما رُوِيَ عن عليٍّ عليه السلام: صُبغَ في العِلْمِ صبغة، ثمَّ خرج منه، رواه عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن عليٍّ عليه السلام (¬2)، فخُروجه مِنَ العلم بِمَا فعل مِنْ خلعه لأميرِ المؤمنين، فإنه لا يخلع أمير المؤمنين عالِمٌ. نسألُ اللهَ السلامة والعافية، وربَّما أرادَ حذيفةُ نفاقاً دونَ نفاقٍ، فقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث ابن عمر أنَّ ناساً قالُوا: إنَّا ندخُلُ على سلطاننا (¬3)، فنقول لهم بخلاف ما نتكلَّمُ به إذا خرجنا مِن عندهم، قال ابنُ عمر: كنَّا نَعُدُّ هذا نفاقاً على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ويَعْضُدُه (¬5) ما رواه البخاري أيضاً من حديث أنسٍ: إنَّكم لتعملون ¬
الوهم الرابع عشر: أنه قدح على أهل الحديث بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يؤتى بقوم يوم القيامة فيذهب بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي "
أعمالاً هي أَدَقُّ في أعينكم مِنَ الشَّعر كُنَّا نَعُدُّها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقاتِ (¬1). وروى أحمدُ في " المسند " (¬2) مثلَه عن أبي سعيد الخدري. وروى الحاكم في آخر التوبة مثله عن عبادة (¬3)، وفي الفتن نحو ذلك عن ابن مسعود (¬4) فهذا ونحوُه يدخله احتمالُ التَّأويل بالتقية ونحو ذلك، وتقع فيه الهفوة مع النَّدم والاستغفار مِنَ الأكثرين، والله سبحانه أعلم. وأمَّا رواية أبي موسى، فمن جملة رواية (¬5) غيره من أهل التَّأويل، وقد رُوِيَ أنَّه تاب بعد ذلك، ورضي عنه عليه السَّلامُ، ونرجو صحَّة ذلك ببركةِ صُحْبَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الوهم الرابع عشر: أنَّه قدح على أهل الحديث بقول رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم -: " يُؤْتَى بِقَوْمٍ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُذْهَبُ بِهِمْ ذاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُول: أَصْحَابِي أَصْحَابي " (¬1)، وبقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُم} [التوبة: 101]، دلَّتِ الآيةُ على أنَّ فيمن (¬2) يَعُدُّونَه صحابِيَّاً عدلاًً مَنْ هُوَ كافر مجروح. انتهى كلامه. أقول: مرادُ السَّيِّد بهذا لا يخلو مِنْ قسمين. القسم الأول: أنْ يريدَ أنَّ الحديثَ والآيةَ دلاَّ على أنَّ في منْ ظاهِرُهُ العدالة مِنَ الصَّحابة مَنْ هُوَ منافِقٌ مجروحٌ، ولا طريقَ إلى العلم بهِ، فيجبُ تركُ حديث الصَّحابةِ كلِّهم، لَأنَّ فيهم مجروحاً غيرَ معلومٍ، وهذا غيرُ مقصودٍ للسَّيِّد، فإنَّ هذه منْ شُبَهِ الزَّنادقة صان اللهُ السيدَ عن ذكرهم. القسم الثَّاني: أنْ نقول للسيدِ بما (¬3) أجمع عليه أهلُ الإسلام مِنَ الرُّجوع إِلى من ظهر صِدْقُه، وإسلامه، وعدالته، وسواء كان في الباطن مسلماً أو كافراً، فإنَّ التكفير (¬4) بالباطن غيرُ حَسَنٍ، ولا واقع، ولا يجب إلا جرحُ مَنْ ظَهَر جَرْحُه، وتبيَّن عِصيانه، على أنَّ مَنْ أضمر شيئاً، ظهرت عليه لوائحه (¬5)، وفاحت منه روائحه كما يأتي مبسوطاً بسطاً شافياً في الوهم الثالث والثلاثين في أوَّل المجلّد الرَّابع في الكلام على يزيدِ بن معاوية، وذكر علامات المنافقين، وظهورِ نفاقهم للمؤمنين، وأن مثلَ ذلِكَ لم يخْفَ على الصحابة والتابعين، وقد قال اللهُ تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ ¬
الْقَوْلِ} [محمد: 30]، وأخبرَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعلاماتِهم مِنَ الغَدْرِ، والكَذِبِ، والحَلِفِ، وبُِغضِ عليٍّ عليه السَّلامُ، وبُغضِ الأنصار، وأنَّهم خُشُبٌ باللَّيل، صُخُبٌ بالنَّهار، لا يَقْرَبُونَ المَسَاجِدَ إلا هَجْراً، ولا يأتون الصَّلاة إلا دَبْراً، مستكبرين، لا يَألفون ولا يُؤلفون (¬1)، وقد عَرَفت هذا العربُ قبل مجيء العلوم والشَّرائعِ، وقال (¬2) في ذلك قائلُهم (¬3): ¬
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امرىءٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وإنْ خَالَهَا تخْفَى عَلَى النَّاس تُعْلَمِ وإنِّما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بما حَدَثَ بعدَه، فما معنى قولِ السيّد: إنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ في مَنْ يعدُّونه صحابيَّاً عدلاً مَنْ هو منَ المجروحين، فهذا السُّؤالُ -على زعمه- يتوجَّه على مذهب الزَّيديَّة والمعتزلة، وجميعِ الطَّوائف، فإنَّ الآية والحديث يدلان على تجويزِ أنْ يكون في من يعده المعتزلةُ، والزَّيديَّةُ صحابيّاً عدلاً مَنْ هو مجروحٌ، بل هذا يتوجَّهُ على الصحابةِ، حيث قَبِلَ بعضُهم بعضاً قبل قيام القيامة، وقبل تبيُّن هؤلاء الذين يَظْهرُ يوم القيامة جرحُهم، وقد وقع اللِّعان على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وقال للمتلاعِنيْنِ: " الله يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كاذِبٌ " (¬1)، فلم يلزم منْ ذلك إشكالٌ في الإِسلام، ولا تكلَّمَ في حكمهما أئِمَّة السَّلف الأعلام؛ لِسُهولَةِ الأمر في هذه المباحث الظَّنِّيَّةِ، وكذلك المدعي مع المنكر، وسائر المتنازعين المعلوم كذب بعضهم، وإذا كان كلامُه هذا في الصحابة مع أَنَّهم خَيْرُ القرون، فَمَنْ بعدهم أولى بأنْ يظهر يوم القيامة في كُلِّ أهل ¬
قرن (¬1) مجاريحُ كانوا (¬2) مستورين، فيحرم على كلام السَّيد هذا التَّمسُّك بالظاهر في العدالة (¬3)، وقد أراد السَّيِّد أن يُجِيبَ عن هذا السُّؤال، فأورد معناه، ثمَّ قال: الجوابُ أنَّه قد ظهر فِسْقُ من ذكرنا وكفرُه، فرجع هذا التَّهويل الكثير إلى الكلام في حديث ثلاثةٍ مُعيَّنين، وكان قد فرغ مِنْ ذكرهم، وكنَّا قد فرغنا منَ الكلام على حديثهم، وبيَّنَّا أنَّ المحدِّثين لم يُدَلِّسُوهم، ولا رَوَوْا عنهم ما يُنْكَرُ في الشَّريعة، ولا يُعْرَفُ إلاَّ منهم، ولا قصدوا في كتبهم الاقتصارَعلى حفظ الحديث المُجمع على صِحَّته بَيْنَ جميعِ طوائفِ الإسلام، ولا حرَّجُوا على أهلِ العلم أن يُخالفوهم في بعضِ ما صحَّحوه بِحُجَّةٍ صحيحةٍ على طرائقِ أهل (¬4) الاجتهاد، والإنصافِ، وأنَّهم قصدوا حفظَ جميعِ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الإسلام، ثم بيَّنوا شروطَ الصِّحَّة عندهم، وعند غيرهم في كُتب علوم الحديث، ثمَّ صحَّحُوا كثيراً مِنَ الحديث على قواعِدَ لهم (¬5) قد قرَّروها (¬6) في علوم الحديث، وأصولِ الفقه، وكان فيما صحَّحوه ما عرفوا صِحَّته بمجموع (¬7) شواهد، وقرائن يعرفُها أهلُ الفِراسة في الفَنِّ دُونَ غيرهم، وكان (¬8) فيما ضعَّفُوه ما عرفوا ضعفَه بِمِثْلِ ذلك، وإنْ كان إسنادُ الَأوَّلِ في ظاهره ضعيفاً، وإسنادُ الثَّاني في ظاهره صحيحاً، وصنَّفُوا في ذلك علمَ العِلَلِ، وظهرت نصيحتُهم للإسلام وأهلِه ببيان الإسنادِ، وتركِ التَّدليس، ¬
وتضعيفِ ما وافق مذاهبهم (¬1) مِنَ الأحاديث الضعيفة، وتصحيحِ ما وافق مذاهب (¬2) خصومهم مِنَ الأحاديث الصَّحيحة، وتوثيقِ خلائِقَ لا يُحْصَوْنَ مِنْ خصومهم، وجرح مثلهم في الكثرة أو أكثرَ منهم مِنْ أهل مذهبهم، حتَّى تكلَّمَ أبو داوود على ولده، وقال: هو كذَّابٌ (¬3)، مع أنَّه لم يُعْرَفْ بشيْءٍ مِنْ ذلك، حتَّى قيل: إنَّه أراد في غيرِ الحديث، وكتبُوا قولَه هذا، ولم يكتُموه، ومَنْ حكم عليهم بالتُّهمة لهم قبل الإمكان في النَّظر في مصنَّفاتهم في الجرح والتَّعديل، وكيفيَّة التَّصحيح، فقد ظلمهم، والله يُحِبُّ الإنصافَ، ولقدِ اجتمعت كلمتُهم على تعظيم النََّسائي، وهو من أكابِرِ الشِّيعة، حتَّى قال الذّهبي في كتابه " النُّبلاء " (¬4): إنَّه أعرفُ بالحديثِ من أبي داوود، والتِّرمذي، ومسلم، وإنَّه جارٍ في مِضمار البخاري، وأبي زرعة. وأعجبُ مِنْ هذا: اعتمادُهم على كتاب " النَّسائي " في الجرح والتعديل، وقَبولُهم منه لجرح جماعةٍ مِنْ أهل مذهبهم، ما ذلك (¬5) إلا لإِنصافهم حين عرفوا مِنَ النَّسائي -رحمهُ اللهُ- المعرفة التَّامَّةَ بالفن (¬6)، وأنَّه في جرحه وتعديله مستقيمٌ على صراط العارفين، غيرُ عامل بالأهواء في رُواة حديث سيَّد المرسلين. وكذلك قد شحنوا الصِّحاح بحديث أهلِ الصِّدق مِنَ الشِّيعة، والمعتزلة كما تقدَّم بيانُه، وذِكْرِ عدد كثيرٍ بأسمائهم مِمَّنْ وثَّقوه مِنْ ¬
خُصومهم، ومِمَّن جرَّحوه مِنْ أهل مذهبهم، ولأمْرٍ ما سارت بتصانيفهمُ الرُّكبان، وتلقَّاها بالقَبول أهلُ الإسلام، وقد قدَّمتُ في صدر هذا الكتاب ذكرَ خصيصتين إضافيتين (¬1)، إحداهما: تقديم (¬2) كلامِ أهلِ الفُنون في فنونهم، وإجماع الأمَّة على ذلك، وهذا موضعٌ له أيضاًً، فانظره في موضعه. واللهُ يُحِبُّ الإنصافَ والعدلَ على المُوافق والمُخالف، وما يَضُرُّ المتعصِّبُ إلا نفسَهُ، فإنَّه يسُدُّ (¬3) على نفسه أبوابَ المعارف الَّتي هي أبوابُ الخيرِ كلِّه، " ومَا دَخَلَ الرِّفْقُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ، ولا دَخَلَ العُنْفُ في شَيْءٍ إلا شانَهُ " كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬
ولذلك أثنى عليهم مَنِ اتَّصفَ بالإِمامَة في علم الحديث مِنَ الشِّيعة، والمعتزلة كالحاكم أبي عبد الله، والنّسائي، وابن عقدة (¬1)، والسَّمَّان (¬2)، ومَنْ لا يحصى مِنْ هذا الضَّرب، واستمدُّوا مِنْ معارفهم، وسلكوا مسالِكَهُم، وصاروا تلامِذَةً لِمَنْ تقدَّمهم مِنْ عُلماءِ أهلِ السُّنَّة (¬3) في الحديث، وشيوخاً لمَنْ بعدهم، فعليك أيُّها المنصفُ (¬4) بمطالعة " علوم الحديث " للحاكم صاحب " المستدرك " على أنَّه منْ كبارِ الشِّيعة، ولا سيما النوع (¬5) الموفي عشرين منه، والنوع التاسع والأربعين منه أيضاًً. ومِنَ العجب أنَّ منْ ذمَّ الحديثَ وأهلَه منَ المعتزلةِ، وأهلِ الكلام لم يَسْتَغْنِ عنهم، وإن حَاد عَنِ التَّصريح بالرِّواية عنهم، نزل إلى من يستمدُّ منهم، فأخذ عنه، وعن من لا يقاربهم في الإتقان، وما أَحْسَنَ قولَ القائلِ في نحو هذا: أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... مِنَ اللَّوْمِ أو سُدُّوا المَكَانَ (¬6) الَّذي سَدُّوا (¬7) ¬
الوهم الخامس عثر: قال: إن التشبية مستفيض عن أحمد بن حنبل، وقصد بذلك القدح في كتب الحديث بكونه من رجالهم
الوهمُ الخامس عشر (¬1): قال: إنّ التشبيهَ مُستفيضٌ عنْ أحمدَ بنِ حَنبل، وقَصَدَ بذلك القَدحَ في كتبِ الحديثِ بكونِهِ من رجالِهم، كما قَدَح فيها بكونِ الشافعيِّ، والبخاريِّ من رجالِهم، فما أفحشَ هذا الجهلَ، وأزراه، وأخسَّهُ، وأجرأَهُ! فيا هذا ليتَكَ عَرَفْتَ عن من يروي أئمتُنا وأئمةُ المُسلمينَ أجمعين مِن أهل البيت المُطَهَّرين الذين خالفتَهم في كلامِك هذا، مع اعتقادِك بجهلٍ (¬2) أَنَّكَ فيه لهم (¬3) ناصرٌ، وتابعٌ، ومُوافقٌ، ومُشايعٌ، حتَّى تَعْرِفَ أنَّهم قَدْ أثْنَوْا على من ذَمَمْتَه، ورووا عمن جَرَّحته. فهذا السيدُ الإمامُ أبو طالبٍ عليه السَّلامُ قد روى عن أحمدَ بنِ حنبل في " أماليه "، وكذلكَ روَى عنه الإمامُ المنصورُ باللهِ عليه السلامُ، وغيرُه من أهلِ البيتِ وشيعتِهم، ولا سيَّما علماءُ الحديثِ من شيعةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، كالحاكم أبي عبدِ اللهِ صاحبِ " المُستدركِ " على " الصحيحينِ " وأبي عبدِ الرحمن النَّسَائي صاحب " السُّنن "، وابنِ عُقْدَةَ وأمثالهم. وكذلك رَوَى أهلُ البيتِ في مُصنفاتهم الحديثَ الكثيرَ عن من مذهبُه مذهبُ هؤلاء، فروى السَّيدُ أبو طالبٍ في " أماليه " حديثَ أبي داود (¬4) ¬
صاحبِ " السننِ " عن محمدِ بن عبد الله الأسَديِّ، عن عليِّ بنِ الحسن بن العبد (¬1)، عن أبي داود. وخرَّجَ حديثَ ابنِ السُّنِّي (¬2) عن محمدِ بن عمر الدِّينَوَري، عنه. وخرَّجَ حديث ابنِ ماجةَ عن أبي الحسنِ علي (¬3) بن إبراهيم القطَّان عنه. وحديثَ ابنِ أبي حاتِمٍ عَنِ السيدِ الإمامِ أبي العباسِ، عنه قليلاً، وعن أحمدَ بنِ عبدِ الله الأصْبَهاني عنه كثيراً. وخَرَّجَ حديثَ عليِّ بنِ موسى الرِّضَى (¬4) عليه السَّلام من طريقِ ¬
عليِّ بن محمد بن مَهْرُوَيه، وهو مِن رجالِهم. وخَرَّجَ حديثَ الحسنِ بنِ سُفيانَ النَّسَوي عن محمد بن بَشَّار بُندار عنه. وخرَّج حديثَ الحارثِ بن محمد بن (¬1) أبي (¬2) أُسامةَ (¬3)، عن محمد بن علي العَبْدَكي، عن محمد بن يَزْدَاد عنه، وعن عبد الله (¬4) بن محمد بن بدرِ الكَرْخي، عن أحمدَ بنِ يوسُفَ بن خلاَّد عنه. وخرَّجَ حديثَ شيخِهِ الحافظ أبي أحمدَ عبدِ الله بن عديٍّ بغير (¬5) واسطة وأكثرَ عنه، وهو أحدُ رجال السُّنةِ حديثاً ومذهباً، وهو صاحب كتابِ ¬
" الكاملِ في الجرحِ والتعديل " (¬1). وخرَّجَ حديثَ الذُّهْليِّ عن أبي العَبَّاس، عن أحمد بن سعيد الثَّقَفي، عنه. وخرَّجَ حديثَ المَحَامِلي (¬2) عن عبد الله بن محمد الأسَدي عنه. وَخَرَّجَ حديت يَحيى القَطَّان عن الأسَدي عن المَحَامِلي (¬3) عنه. وخرَّجَ حديثَ الأنْبَارِي (¬4)، عن مُحمدِ بني الحسنِ بن الفضل بن المَأمونِ عنه. وَخَرَّجَ حديثَ الكُدَيْمي (¬5) عن محمدِ بن الحسنِ، عن الأنْبَاري، عنه. ¬
وكلُّ هؤلاءِ إلى أمثالٍ لهم كثيرٍ مِنْ حُفَّاطِ الحديثِ، وأئمةِ أهله حِفْظاً واعتقاداً. لكنَّ أحمدَ بن حَنبل بإجماعهم مع طائفةٍ من الشيعةِ وافرةٍ أحفظُهم (¬1) للحديثِ، وأوثَقُهم فيهِ. فإنْ كنتَ تَظُنُّ أنَّ جميعُ رجالِ أسانيدِ " أمالي " السادةِ أبي طالبٍ، والمؤيَّد، وأحمدَ بنِ عيسى، وأبي عبد الله الدَّاعي، والمرشدِ بالله، ورجال تفسيرِ المعترضِ الذي جَمَعَ فيه عنْ كُلِّ مَنْ دَبَّ وَدَرَج، أوْثَقُ وأحفظُ من أحمدَ بنِ حنبلٍ، والشافعيِّ، والبُخاريِّ، وأنّهُ ليس فيها إِلاَّ مَنْ هُو أنبلُ مِنْ هؤلاءِ، وأحفظُ، وأعرفُ بالحديثِ، وأوثق فما أحقَّكَ بقولِ المتنبي (¬2): ومِثْلُك يُؤْتَى منْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... لِيُضْحِكَ رَبَّاتِ الحجال البَوَاكِيَا وكيف وقد خَرَّجَ هؤلاء الأئمةُ حديثَ جماعةٍ مُتَكَلَّمٍ فيهم كما هو عادةُ حُفَّاظ الحديثِ، فقد خَرَّجَ مالكٌ حديثَ ابن أبي (¬3) المُخَارق، ¬
والشافعيُّ حديثَ ابن أبي يَحيى (¬1)، والزَّنْجي (¬2)، وأحمد حديثَ عامرِ بنِ صالحٍ (¬3) وغيرِهِ، وقُدِح (¬4) في كثيرٍ مِنْ رُواةِ (¬5) البُخاريِّ ومُسلمٍ. وكذلِكَ قد رَوَى بعضُ أئمةِ الزَّيدية عليهم السلامُ عن محمد بن محمدِ بن الأشْعثِ الكُوفي (¬6) المتأخرِ، لا التابعيِّ الثائرِ بدم الحُسين عليه ¬
السَّلامُ، وحديثَ داودَ بنِ سُليمان الغازي (¬1)، وحُسينِ بن علوان الكلْبي (¬2) وأبي خالدٍ الوَاسِطي (¬3) ............ ¬
...... إلى أمثالٍ لَهُم (¬1) كثيرين نَظَمَهم (¬2) أمالي السادةِ المذكورينَ. وخَرَّجَ الهادي عليه السَّلامُ في الأحكامِ حديثَ حُسينِ بنِ عبدِ الله بن ضمَيْرة فأكثرَ، وحديث أبي هارونَ العَبْدي، واسمُه عُمارةُ بن جُوَين. وكذلك روى القاسمُ عن هذين. ورَوَى الهادي عليه السَّلامُ في " المنتخب " عن كادحِ بن جعفرٍ (¬3)، وأبي بكرِ بن أبي شَيبة، وعن عَمرو بنِ شعيب، عن أبيهِ، عن جَدِّه، وعن حُسينِ بنِ عبدِ الله بن عُبَيْدِ الله (¬4) بنِ العباس وصَحَّحَ حديثَهُ، وعن أبي الزّبيرِ التَّابعي. وَرَوى الناصر عليه السَّلامُ عن محمد بن عليِّ بن خلف العَطَّار. وَرَوَى القاسمُ عليه السَّلامُ عن ابنِ أبي أُويس (¬5) عن حُسينِ بن عبد اللهِ بن ضُميرة وأكثر (¬6). ¬
وقد أثنى الإِمامُ المنصورُ باللهِ عليه السلامُ على أحمدَ بنِ حنبل في " المجموعِ المَنْصوري " في الدعوة العامة إلى جيلان ودَيْلَمَان، وعلى سائرِ أئمةِ الفقهاءِ الأربعةِ، وصرَّحَ الإِمامُ المنصورُ (¬1) عليهِ السَّلامُ فيها بصحةِ مُوالاتِه لأهلِ البيتِ عليهمُ السلام، وليسَ تَصِحُّ موالاتُه لَهم مع صحةِ تكفيرِهم لَه وتكفيره لَهُم، فهذا أعظمُ العداوةِ وأشدُّ المُبَاينةِ، وسيأتي لهذا مَزيدُ بيانٍ. والعجبُ من المعترضِ أنَّه كَفَّرَ الرازيَّ، وقال: إنَّهُ وأصحابَه كُفَّارُ عَمْدٍ وتصريحٍ لا خَطأ ولا تأويلٍ، وبعد ذكرِ (¬2) ذلكَ أكثرَ من تفسيرِ كلام (¬3) الله تعالى بكلامِه، وشَحَنَ تفسيره بنقلِه، وتَجَاسَرَ على روايةِ فضائلِ السُّوَرِ الموضوعةِ مع اتفاقِ عُلماء الأثرِ على وضعِها، ومعرفتِه بذلك، فإنَّه ممَّنْ يعرِفُ ما ذكرَ (¬4) ابن الصَّلاحِ في ذلك (¬5). ثم مع هذا ¬
وقد تحامل هذا المعترض على أئمة الفقهاء الأربعة فأثار نشاطي إلى بذل الجهد في بيان نزاهتهم، وذلك يتبين بذكر أربعة فصول
كلِّهِ يَعيبُ على المُحَدِّثينَ قبولَ مثلِ الشافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، والبُخاريِّ، وما أعَلَمُ أفحشَ من هذه العصبيةِ، ولا أكثرَ غَفْلةً مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ، فاللهُ يُلْهِمُه إلى الرجوعِ من ذلكَ، والإنابةِ عَنه، وقد بَلَغني ذلك (¬1)، والمرجوُّ صحتُه، حَقَّقَهُ الله تعالى، وخَتَم لنا معاً بالحُسنى والموافقةِ على ما يُحِبُّهُ (¬2) ويرضاه (¬3). وقد تحامَلَ هذا المعترِضُ على أئمةِ الفُقهاءِ الأربعةِ، فأثارَ نشاطي إلى بَذلِ الجُهدِ في بيانِ نزاهتِهم عمّا وَصَمَهُم به، ولا سيَّما أحمدُ بنُ حنبل، فإنَّه تَجاسَرَ على تكفيرِه، فأبتدِىءُ بالذبِّ عَنْهُ مع التنبيهِ على عُلُوِّ (¬4) محلِّه في الإسلامِ، وصِحَّة موالاتِه لأهلِ البيتِ عليهم السَّلام، وأنه (¬5) جديرٌ بالذَّبِّ عنه والاحترامِ، وذلكَ يَتبينُ بذكرِ أربعةِ فُصولٍ. الفصلُ الأولُ: في ردِّ كلامِ المعترِضِ على قواعدِ أهل مذهبِهِ خاصةً، وغيرِهم مِنْ عُلماءِ الإسلامِ عامةً. فأقولُ: إنْ كانَ يُريدُ بما ذَكَرَه القَدْح في روايتِه، فقدْ تَقَدَّمَ القولُ أنَّ ذلك لَا يَقْدَحُ على تقديرِ صحتِه، وأن (¬6) الصحيح -خاصَّةً على مذاهبِ الزيديةِ- قَبُولُ أهلِ التأويلِ، وإنَّ علماءَ الزيديةِ رَوَوُا الإجماعَ على ذلكَ، وأنَّ مُنتهي القولِ في ذلك أنَّها مسألةٌ ظَنيَّةٌ لا يُعْترَضُ بها أحدٌ، فراجعْ في ذلك ما تَقَدَّمَ، وإِنْ كان يُريدُ القَطْعَ بتكفيرِ هذا الإِمامِ، فذلك لا يَتِمُّ له إلاَّ ¬
ونزيد على هذا وجوها
بعدَ تواتُرِ ذلك عنه تَواتُراً صَحيحاً في الطَّرفين والوسط غيرَ قابلٍ للمُعارضةِ، والتشكيكِ، بنقلِ ألفاظٍ صَريحةٍ ضروريةِ المَعْنى، لا يُمكِنُ احتمالُها لغيرِ ذلك، وكلُّ هذا ممنوعٌ لعدمِ النقلِ القاطعِ و (¬1) ثبوتِ المُعارضةِ الراجحةِ. أما عدمُ النقلِ؛ فلأنَّ الخصم إنَّما ادَّعى الاستفاضةَ فيما بينَ علماءِ (¬2) الشيعةِ، والجبريةِ، والاستفاضةُ ظنيةٌ لا قطعية، وقد يَستَنِدُ إلى واحدٍ في أوَّلِ الأمرِ كما أَنَّ أحاديثَ الصحاحِ مستفيضةٌ، وشرطُ (¬3) التواترِ عزيزٌ. وقد اجتمعتِ (¬4) المعتزلةُ وغيرُهم على نقلِ إجماعِ الصحابةِ والقرابةِ على إمامة الخُلفاءِ الثلاثةِ فَكَذّبَتْهُمُ (¬5) الشيعةُ في نقلِهم، ونسبَتْهُم إلى الغَلَطِ، والمعتزلة ومَنْ معَهُم على ذلك على (¬6) عددٍ يَزيدُ على التواترِ. فيَجُوزُ أنْ يكونَ نقلُ أهلِ المقالات عن أحمدَ كنقل المُعتزلةِ ومَن وَافَقَهُم عن القرابةِ والصحابةِ عندَ الشيعةِ، ومَعَ التجويزِ يبْطُلُ القطعُ، والوجهُ في وقوعِ الغَلَطِ من الجمعِ الكثيرِ في نقلِ المذاهبِ أنَّها قَدْ تُنْقلُ بالإلزامِ وبالموآخذةِ ببعضِ الظواهرِ وبالسكوتِ، فلا يحصُلُ بها التواترُ؛ لأنَّ شرطَ التواترِ استنادُ المخبرينَ إلى العِلْمِ الضروريِّ، ونَزيدُ على هذا وجوهاً (¬7): ¬
الوجه الأول: بيان القدح في أصل هذه الرواية
الوجهُ الأولُ: بيانُ القَدْح في أصلِ هذه الروايةِ، وذلك أنَّ أهلَ العلمِ بمذهبِ أحمدَ بنِ حنبل بَيَّنُوا أنَّ ذلكَ لا يُوجَدُ عَنْهُ إلاَّ في رسالةِ أحمدَ بنِ جعفرٍ الإصْطَخري (¬1). وقد رواها الذهبيُّ في ترجمةِ أحمدَ من " النبلاء " (¬2) فقال: أنبؤُونا عن محمدِ بن إسماعيلَ، عن يَحيى بن منْدَه الحافظِ، أخبرنا أبو الوليد الدَّرْبَنْدِيُّ (¬3) سنةَ أربعينَ وأربعِ مئةٍ، أخبرَنا أبو ¬
بكرٍ محمدُ بن عُبيد (¬1) اللهِ بن الأسود بدمشقَ، أخبرنا عبدُ الله بنُ محمد بن جعفر النُّهَاوَنْدِيُّ، أخبرنا أبو بكرِ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ بن زوران لفظاً، حدثنا أحمدُ بن جعفر الإصْطَخْري، قال: قالَ أبو عبد الله أحمدُ (¬2) بنُ حنبلٍ: هذا مذهبُ أهلِ العلمِ والأثرِ، فمَنْ خالَفَ شَيئاً مِنْ ذلكَ أوْ عَابَ أهَلَها، فهو مبتدعٌ، وساقَ عقيدةً قبيحةً فيها (¬3): أنَّ الله تعالى على العرشِ، وهو مَوْضِعُ قدميه، وأنه كلَّم موسى تكليماً مِن فيه. قالَ الذهبيُّ: إلى أنْ ذكرَ شيئاً مِنْ هذا الأُنْموذج المُنْكَرِ، والأشياء التي واللهِ ما قَالَها الإمامُ أحمدُ، فقاتَلَ الله وَاضِعَها ... ثم (¬4) قالَ الذهبيُّ: فانظرْ إلى جهلِ المحدثينَ كَيْفَ يَروون (¬5) مثلَ هذهِ الخُرَافةَ وَيسْكُتون عَنْها (¬6). قلتُ: في إسنادِها جماعة، ما عَرَفْتُهم، وعنعنةٌ في مواضعَ تحتمِلُ ¬
سقوطَ بعضِ المجاريح، وفي إسنادِها عبدُ الله بن محمد بن جعفر، في (¬1) الرُّواةِ ثلاثةُ كَذَبةٍ مجاريحُ، كلُّهم يُسَمَّى عبدَ اللهِ بن محمد بن جعفر أحدُهم قاضي كنيتُه أبو القاسم. قال الذهبيُّ في " الميزانِ " (¬2) في ترجمتِهِ: قالَ ابن المُقرىء: رَأيْتُهم يُضَعِّفُونهُ ويُنكرونَ عليه أشياءَ، وقال ابن (¬3) يونُس: كانَ فَقيهاً على مذهبِ الشافعيِّ، وكانَ يُملي ويجتمع عليهِ الخلقُ، فَخَلَطَ في الآخر (¬4)، و (¬5) وضَعَ أحاديثَ على متونٍ معروفةٍ وزادَ في نُسَخٍ مَشهورة، فافتُضِحَ وحُرِقَتِ الكتبُ في وجهِهِ، وقال الحاكمُ، عن (¬6) الدارقطنيّ: كذابٌ، ألَّفَ كتابَ " سننِ الشافعيّ "، وفيها نحوُ مِئَتَيْ حديثٍ لم يُحَدِّثْ بها الشافعيُّ، قال ابنُ زَبْر ماتَ سنةَ 315. ومنهم عبدُ اللهِ بنُ محمد بن جعفر بن شَاذَان، شيخٌ لا يُعرَفُ، كَذَّبَهُ ابن الجَوْزيّ. ومنهُم عبدُ اللهِ بن محمد بن جعفر المخَرَّميّ كَذَّبَهُ الدارَقُطنيُّ والكبارُ، انتهى كلامُ الذهبي في " الميزانِ ". قلتُ: وقد رُوِيتْ هذه العقيدةُ المنكرةُ عن (¬7) أهلِ الحديثِ والسنةِ، لا عن أحمدَ، بطريقينِ غيرِ هذه الطريقِ، وكلا الطريقينِ غيرُ صحيحٍ. ¬
أحدُهما: طريقُ الأشعريِّ عنهم، ذكرَها ابنُ قيْمِ الجَوْزيةِ عَنْهُ في البابِ الأولَ من " حادي الأرواح " (¬1). وقالَ الذهبيُّ في ترجمةِ زكريا بن يَحيى المعروفِ بالسَّاجي في الطبقة العاشرةِ من " التذكرة " (¬2): إن الأشعريَّ أخَذَ عن السَّاجي تحريرَ (¬3) مقالةِ أهلِ الحديثِ والسلفِ، قالَ الذهبيُّ: قال ابن بَطَّة: حدثنا أحمدُ بن زكريا بن يحيى السَّاجي، قال (¬4): قال أبي: القولُ في السنةِ الَّتي رأيتُ عَلَيها أهلَ الحديثِ الَّذِين لَقِيتُهم: أنَّ اللهَ عَلَى عرْشِهِ في سمائِهِ يَقْرُبُ (¬5) من خلقِه كيفَ شَاءَ، وذكرَ سائرَ الاعتقادِ. انتهى. قال الذهبيُّ في " الميزانِ " (¬6) في ترجمةِ زكريا بن يحيى السَّاجي راوي (¬7) هذا الاعتقاد: قال أبو الحسنِ القطان: مختلفٌ فيهِ في الحديثِ، وثَّقه قومٌ وضَعَّفَهُ آخرونَ. قلت: فسقَطَ الاحتجاجُ بهِ (¬8)، أمَّا إنْ قُلنا بتقديمِ الجَرحِ فواضحٌ، ¬
وإنْ قُلنا بتقديمِ الراجحِ، فلِعدم وضوحِ الراجح معَ أنَّه ليسَ في روايته إِلاَّ عَمَّن رأي وأدْرَك، وهذهِ عبارهٌ مُحتَمَلةٌ، وقد يكونُ له جماعةُ شيوخٍ مبتدعةٌ، فيُطلِقُ عنهمْ مثلَ هذا، وإنَّما هُوَ عنهم لا سيَّما مع ضعفِه وكم في دَعاوي الإجماعِ نحوُ هذا؟. الطريقُ الثانيةُ: أَشارَ إليها في البابِ السبعين (¬1) من هذا الكتابِ المذكورِ (¬2) لابنِ قَيمِ الجَوزيةِ ذكَرَها عن حرب (¬3)، و (¬4) هو ابنُ إسماعيلَ الكِرْماني من أصحاب أحمدَ، ذكره الذهبيُّ في " التذكرة " (¬5)، فلَمْ يذكرْ ¬
أنَّ أحداً وثَّقَه، ولو ظَهَرَ الإِسنادُ إليه لظهر من فيهِ من الضعفاءِ، ومَنْ لا يُوثَقُ بهِ. ويُعارِضُ هذينِ الروايتينِ عن أهلِ السنةِ ما رواه الإمامُ الثقةُ الحجةُ المتفقُ على ثقتِه وأمانتِه (¬1) يحيى بنُ شرفِ الدين النواوي في " شرحِ مسلمٍ " (¬2) في تفسيرِ قولهِ تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، كما يأتي قَريباً في الوجهِ الثالثِ، ومَا اشتملَ عليهِ كتابُ " الأسماءِ والصفاتِ " للبيهقي (¬3)، وهو أنفسُ كتابٍ في هذا المعنى، فَلَوْ صَحَّ التمسكُ في تكفيرِ أئمةِ الإِسلامِ ولَطْخِهم بالرذائلِ بمثل هذه (¬4) الطريقةِ، لَزِمَ المعترضَ طَرْدُ هذه القاعدةِ الفاسدةِ، وقبولُ ما وجد في كتابِ " الكاملِ المنيرِ " (¬5) من أنَّ القاسمَ يقولُ: بأنَّ الإمامَ يجِبُ أن يكونَ يعلَمُ ¬
الوجه الثاني: المعارضة لذلك بثناء الإمام المنصور بالله على أحمد
الغيبَ، ومَا نُسِبَ إلى بعضِ كبارِ الأئمةِ من القولِ بأنَّ العرشَ هو الله، لأنَّه عبارةٌ عن الملكِ، والمُلكُ صفةٌ لله، والصفةُ هي الموصوفُ، وأمثالُ ذلك ممَّا لا تَحِلُّ نسبتُه إلى مسلمٍ من المسلمينَ، كيفَ إلى أئمةِ المسلمينَ، وأركانِ الدينِ؟ سلامُ الله عليهم. وبهذا ظَهَر الطعنُ عند أصحابِ أحمدَ بنِ حنبل وغيرِهم في أصلِ هذهِ الروايةِ عن أحمد، ثم عن أهلِ الحديثِ، والحمدُ لله (¬1). الوجهُ الثاني: المعارضةُ لذلك بثناءِ الإمام المنصورِ بالله على أحمدَ بنِ حنبل كما تقدَّمَ نصُّه عليه السلامُ على صحة (¬2) ولايتِه لهم، وذلكَ يَمْنَعُ من (¬3) أن يُكَفِّروة، ويُكَفِّرَهم، لأنَّ التكفيرَ أعظمُ العداوةِ، ويُؤيِّدُ ذلك ذكرُ أهلِ البيتِ لمذاهبِه (¬4)، وكذلكَ سائرُ العلماء، واعتدادُهم بخلافِهِ، وعدمُ انعقادٍ الإجماعِ دونَه. ولو كانَ عندَهم كافراً كما ذكرَ المُعْترِضُ، ما حفِظُوا مذاهبَهُ، وألْقَوْها في الدروسِ، كما لم يَفْعَلُوا ذلك ¬
في مذاهبِ الباطنيةِ ونحوِهم، وقد صرَّح بتنزيهِهِ من ذلكَ علاّمةُ المعتزلةِ عبدُ الحميدِ بنُ أبي الحديدِ في شرحِهِ " لنهجِ البلاغة " (¬1) فقال ما لفظُه: أمَّا (¬2) أحمدُ بنُ حنبل -رحمه اللهُ تعالى- فلَمْ يَثْبُتْ عَنه (¬3) تَشبيهٌ ولا تَجسيمٌ أصلاً، وإِنَّما كانَ يقولُ بتركِ التأويلِ فَقَط، ويُطْلِق ما أطلَقة الكِتابُ والسنةُ، ولا يَخُوضُ في تأويلهِ، ويقفُ على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 7]، وأَكثرُ المحققينَ من أصحابِهِ على هذا القول، انتهى بحروفه. وفيه الترحمُ عليه وتنزيهُ المحققينَ من أصحابِه أيضاًً عن ذلك. وهذه أصدقُ شَهادةٍ، وأبعدُ روايةٍ عن كلِّ رِيْبَةٍ، ذكرَهُ في النوعِ الثاني في الفصلِ الرابعِ من شَرحِ خُطبةِ عليٍّ عليه السلام التي (¬4) أولُها: " الحمدُ لله الذي بَطَنَ (¬5) خَفِيَّاتِ الأُمورِ، ودَلَّتْ عليهِ أعلامُ الظُّهورِ "، إلى قوله عليه السَّلامُ: " فَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ له أعلامُ الوجودِ على إِقْرارِ قلبِ ذي الجُحُودِ، تعالَى اللهُ عمَّا يقول المشَبِّهُونَ بهِ والجاحدونَ لَهُ عُلُوّاً كبيراً ". وكذلك ذكر الشيخُ مختارٌ المعتزليُّ -في كتابِه " المُجتبى " في الكلامِ (¬6) في التكفيرِ-: أنَّ تكفيرَ المشبهةِ قولُ شيوخِ المعتزلة، إِلَّا أبا الحُسينِ، وأنَّ تكفيرَهُم قول أكثرِ أهلِ السنةِ والأشْعَريَّةِ، وهذا (¬7) معَ ¬
الوجه الثالث: المعارضة لذلك من رواية الحنابلة وأهل الحديث
العلمِ بتعظيمهِم (¬1) لأحمدَ بنِ حنبلٍ، واختصاصهم به يدُلُّ على أَنَّهُ عِندَهُم غيرُ مُجَسِّمٍ ولا (¬2) مشبّهٍ، ولله الحمدُ. ومنَ العجبِ أنَّ المعترِضَ لا يزالُ يُقْرِىء (¬3) مذاهبَه، فكيف استحَلَّ ذلكَ مع اعتقاده لكفرِه، وإذا كانت الروايةُ عنه مُحَرَّمةً، فكذلكَ تقليدُه والاعتدادُ بِهِ في الإجماع، وذِكْرُ خلافِه معَ العلماءِ في الفروعِ يُوهِمُ ذلكَ، فبانَ بهذا أنَّ المعترِضَ مُمارٍ غيرُ متدينٍ ولا طالبٍ معرفةَ حقٍّ ولا تَعريفَه، نسألُ الله السلامةَ. فهذا الوجهُ ممَّا يدُلُّ على تنزيهِ أحمَد عنِ الكُفْرِ من نقل أئمةِ الزيديةِ (¬4) وعلمائِهم. الوجهُ الثالثُ: المعارضةُ لذلكَ من روايةِ الحنابلةِ وأهلِ الحديثِ، فمنْ ذلكَ -وهو أوضحُهُ-: أنَّ الذهبيَّ عَدَّ مصنفاتِ أحمدَ في " النبلاء " (¬5) فذكرَ منها كتابَ " نفي التشبيه " مجلد، ومنها مسألةُ الإِيمانِ، صنَّف فيها، قال أبو داودَ: سمعتُه يقول: الإيمانُ يَزيدُ وينقُصُ، البرُّ كلُّه من الإِيمانِ. ومن ذلكَ أنَّ النواويَّ ذكرَ حديثَ: " يَومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ " في " شرحِ مُسلمٍ " (¬6)، فقالَ ما لفظُهُ: اعلمْ أنَّ لأهلِ العلمِ في أحاديثِ الصفاتِ وآياتِ الصفاتِ قولينِ: أحدُهما - وهوَ مذهَبُ معظمِ السلفِ أو كُلِّهم: أنَّهُ لا يُتَكلَّمُ في ¬
معناها، بل يقولُونَ: يَجِبُ علينا أنْ نؤمِنَ بها ونعتقدَ لها معنى يَليقُ بجلالِ اللهِ تَعالَى مع اعتقادِنا الجازِم أنَّهُ ليس كمثلِهِ شيءٌ، وأنَّهُ (¬1) مُنَزَّهٌ عنِ التجسيم، وعن سائرِ صفاتِ المخلوقِ، وهذا القولُ هو مذهبُ جماعةٍ منَ المتكلمينَ، واختارَه جماعةٌ من محققيهم، وهو أسلمُ. القولُ الثاني -وهو مذهبُ (¬2) مُعظمِ المتكلمين-: أنَّها تُتأوَّلُ، وإنَّما يَسوغُ تأويلُها لِعارفٍ بلسانِ العربِ وقواعدِ الأصولِ والفروعِ، ذي رياضةٍ في العلمِ. انتهى. وفيهِ الشهادةُ ببراءةِ (¬3) أحمدَ والمحدثينَ ممَّا في " رسالةِ الإِصْطَخري " التي نصَّ الذهبيُّ أنَّها خُرافةٌ موضوعةٌ، وقال (¬4): قاتلَ اللهُ واضعَها، وبراءةِ (¬5) المحدثينَ ممَّا لَطَّخَهُم به الأشعريُّ والسَّاجي. ومما يُقَوِّي ذلك غايةَ القُوةِ ما يأتي (¬6) إِنْ شاءَ اللهُ في ترجمةِ أحمدَ في أمرِ المِحْنَةِ وأنَّه (¬7) حُبِسَ وامتُحِنَ، فضُرِبَ (¬8) بسببِ امتناعِه من القولِ بخلقِ القرآنِ وكان المأمونُ والمعتصمُ والواثقُ -وهم خلفاءُ عصرهِ- على رأي المُعتزلةِ فَلَوْ كَانَ مُجَسِّماً، لأظهرَ ذلك كما أظهرَ القول بأنَّ القرآنَ غَيْرُ مخلوقٍ مَع تكفيرِهم لَهُ بذلك، ولو أظهرَ التجسيمَ لذُكِرَ ذلك، وضُرِبَ ¬
عَلَيهِ، فإنَّهُ أعظمُ من مسألةِ القرآنِ. وأيضاً قد (¬1) كانُوا في مناظرتِهم لَهُ يُلْزِمُونه التجسيمَ والتشبيهَ، وهو لا يَلْتَزِمُه. كما يأتي في المِحنةِ، فلو كانَ مُتظاهراً به، لَمَا احتاجُوا إلى إلزامِه، ولصَرَّحَ به (¬2) كما صَرَّحَ بأنَّ القرآنَ غَيرُ مخلوقٍ، وناظرَ عَلَيْهِ معَ التعذيبِ الذي هُوَ أشدُّ من القَتل وفي (¬3) هذا أعظمُ براءةٍ لَهُ ولأئمةِ الحديث من التُّهمة (¬4) بالتشبيهِ، فتأمَّلْهُ (¬5). وقالَ شيخ الحنابلةِ بالاتفاقِ (¬6) أبو محمدٍ عبدُ الله بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسيُّ في خطبة كتابه " الكافي " (¬7) الذي جَمَعَهُ على مذهبِ أحمدَ ما لفظه: " الحمدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ "، إلى قوله: " الذِي امتنعَ عَنْ تمثيلِ الأفكارِ، وارتفعَ عَنِ الوصفِ بالحدِّ والمقدارِ " إلى آخر كلامه، وهذا الكتابُ من أجلِّ كتبِ الحنابلةِ المعتَمدة عندَهم، فكيفَ تَرَاهم يَفْتَتحونَه بنَقِيضِ (¬8) مذهبِهم ومذهبِ إمامِهِم. وفي شرحِ " جمعِ الجوامع ": ونقلَ صاحبُ الخصالِ من الحنابلةِ عن أحمدَ، أنَّهُ قالَ: من قالَ: جسمٌ لا كالأجسامِ كَفَرَ، مع اختلافِ أئمةِ الزيدية والمعتزلة في تكفيرِ منْ قالَ بهذه المقالةِ كما سيأتي (¬9) حتى قال ابن ¬
أبي الحديد في " شرحه " (¬1): إِن أمر المخالفين في ذلك سهلٌ، لأنَّهُ (¬2) خلافٌ في (¬3) عِبارةٍ، ذكرَهُ في شرحِ الخُطبةِ المذكورةِ قبلُ، وأجْلَي من هذا ما (¬4) في خُطَبِ ابنِ الجَوْزي منَ التنْزِيهِ ونفيِ التشبيهِ، وابنُ الجوزيِّ من أئمةِ الحنابلة بالاتفاق، وخطبُه ومواعظُه (¬5) عُمدَتُهم في جُمُعاتِهِم ومَحَافِلِهم، وأنَا أُورِدُ مِنها ما يَشْهَدُ بصحةِ ما ذكرتُه، فمِنْ ذلك قوله في كتابِ " المُدْهِشِ " (¬6) في قولهِ تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ}: أول: لَيس لَهُ مبتدأ، آخر: جلَّ عن مُنتهي [ظاهر بالدليل باطن بالحجاب] يُثْبِتُهُ العقلُ، ولا يُدرِكُه الحِسُّ، كلُّ مخلوقٍ محصورٌ بحدٍّ، مأسورٌ في سُورِ قُطْرٍ (¬7)، والخالقُ بائنٌ مبايِنٌ يُعْرَفُ بعدمِ مألوفِ التعريفِ، ارتفَعَتْ لعدمِ الشِّبْهِ (¬8) الشُّبَه، إنَّما يَقَعُ الإشكَالُ في وصفِ مَنْ لَه أشكالٌ، وإنَّما تُضْرَبُ الأمثالُ لِمَنْ لَه أمثالٌ، فأمَّا مَنْ لَم يَزَلْ وَلاَ يزالُ (¬9)، فما للحِسِّ معه مجالٌ، عظَمَتُه عَظُمَتْ عَن نيلِ كفِّ الخيالِ، كيفَ يُقَالُ: كَيْفَ والكَيْف في حَقِّهِ مُحالٌ؟ أنَّى تَتَخايَلُهُ الأوْهَامُ وهي ¬
صنعتُه؟ كيف تحدُّهُ العقولُ وهي فِعْلُه؟ كيف تَحويهِ الأماكِن وهي وَضْعُه؟ انقطَع سيرُ الفِكْرِ، وقفَ سُلوكُ الذِّهن، بَطَلَتْ إشارة الوَهمِ، عَجز لطفُ الوصفِ، غشِيَتْ عين (¬1) العَقْلِ، خَرِسَ لسانُ الحِسّ، لا طَوْرَ للقدَمِ في طَورِ القِدَمِ، عَزَّ المَرْقَى (¬2)، فَيئِسَ المُرْتَقَى (¬3)، بَحرٌ لا يَتَمكَّنُ مِنْهُ غَائِصُ، ليلٌ لا يَبِصُّ (¬4) للعينِ (¬5) فيه كوكبٌ. مَرامٌ شَطٌّ مَرمَى العَقْلِ فِيهِ ... فدُون مَدَاهُ بِيدٌ لَا تبيدُ جادَّةُ التَّسليمِ سليمةٌ، وادي النٌقْلِ بلاقِعُ، انْزِلْ عَنْ عُلُوّ علوّ الشبيه، ولا تعل قُلَلَ أباطيلِ التَّعْطِيلِ، فالوادي بينَ الجبلينِ. ما عَرَفَهُ مَنْ كَيَّفَه، ولا وحَّدَهُ مَنْ مَثَّلَه، ولا عَبَدَهُ من شَبَّهَة، المشبِّه أعْشى، والمُعَطِّل أَعْمى، مما يتنزه عنه مم؟ فيما (¬6) يجبُ نَفْيُهُ فيمَ؟ جَلَّ وجوبُ وجودِهِ عن رجمِ " لَعَلَّ "، سبقَ الزمانُ، فلا يُقالُ: " كان "، أبرزَ عرائسَ الموجوداتِ من كِنِّ " كُنْ "، بثَّ الحكمَ، فلَمْ يعارَضْ بـ " لِمْ "، تَعالى عن بَعْضيَّهِ " من "، وتقدّسَ عن ظرفيَّة " في "، وتنزَّه عن شِبِه (¬7) " كأنَّ "، ويعَظُّم عن نقصِ " لَوْ أن "، وعَزَّ (¬8) عَنْ عَيبِ " إلَّا أَنْ "، وسمَا كمالُه عَنْ تَدَارُكِ " لكنّ ". ¬
وقال في كتاب " اللطف ": لا بِصفَةِ الأول علم له مبتدأ، ولا بالآخر (¬1) صار له مُنتهى، ولا مِنَ الظَّاهِرِ فهم له شبح، ولا مِنَ الباطن تعطَّل له وصفٌ، خرست في حظيرة القُدس صولة " لِمْ "، وكفَّتْ لِهَيْبَةِ الحقِّ كفٌّ " كيف "، وعَشِيَت لجلال العزِّ عين الفكر، فأقدام الطَّلَبِ واقفةٌ على جمر التَّسليم، جل عن أشباهٍ وأمثال، وتقدَّس أن تُضرب له الأمثال (¬2)، فإِنَّما يقع الاشتباه (¬3) والإشكال في حقِّ مَنْ له أشكال، المشبِّهُ مُلَوَّثٌ بدم التَّجسيم، والمعطِّلُ نجس بسرجين الجُحود، و (¬4) نصيبُ المُحِق لبن خالصٌ هو التَنزيه، لا يقال: " لِمَ " لفعله، ولا " متى " لِكونه، ولا " قيم " لِذاته، ولا " كيف " لوصفه، ولا " ممَّ " مما يدخل في وحدانيَّته. من طَالَعَ مِرآةَ صمديَّتهُ (¬5)، دلَّتْه صقالتها على التنزيه، وعلمَ أنَّه لا ينطبع فيها شَبَحُ التشريك (¬6)، ولا خيال التشبيه تفكَّروا في آلاء الله، ولا تتفكَّرُوا في الله، إذا استقبل الرَّمِد الرَّيح، فقد تعرَّض لزيادة الرَّمَدِ. وقال في كتاب (¬7) " تلبيس إبليس " (¬8) ما لفظه: ونبغ أبو عبدِ الله ¬
محمد بن كَرَّام، فاختار من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أضعفَها، ومال إلى التشبيه وأجاز حلولَ الحوادث في ذات الله تعالى، انتهى كلام إمام الحنابلة ابن الجوزي. وقال الشيخ العالم شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري الشافعي في كتابه المسمى " مُغني المُحَدِّثِ في الأسفار عن حمل الأسفارِ " ما لفظه: وثانيها ما يُنقل عن أحمدَ رحمه الله مِنْ شوب عقيدته السليمة بالتجسيم، حاشاه من ذلك، ولم يصحّ ذلك عنه بطريق منَ الطُّرق، ولا نَقَلَ عنه الآخذون عنه، والمؤلِّفون في مذهبه شيئاً من ذلك، وقد روينا عَنِ الإمام أبي الفرج ابن الجوزي، والعالم ابن قُدامَة الحنبليَّين المحدثَيْنِ إنكارَ ذلك غاية الإنكار، بل لم يشتهر أحدٌ من الحنابلة بذلك (¬1)، ولم يُعرف عنه، إلا بعض متأخريهم يُوجدُ في بعض (¬2) كلامه شيْءٌ لم يبْلُغْ رتبة التَّصريحِ، والله أعلم. وقال الذهبي في كتابه " زغَل العلوم " (¬3)، وفد ذكر الحنابلَة وما يُنقم عليهم ما لفظه: والعُلمَاءُ يتكلُّمون في عقيدتهم، ويرمونهم بالتّجسيم، وبأنه يلزمُهُم، وهم بريئون من ذلك إلا النادِرَ. انتهى. ¬
وهذا في حقِّ المدَّعين أنَّهم على مذهبه، لا في حقه، فإن لم ينسِبُوا ذلك إليه على جِهة الرِّواية عنه، فلا إشكالَ، وإن نسبوا مذاهبَهم إليه على جهة الرَّواية لها عنه، فلا شكَّ أنَّ رواية الجمِّ الغفيرِ عنه للتنزيه أولى مِن رواية النادرِ للتشبيه، كما ذلك مقتضى الأدلة عقلاً وسمعاً في الظَّنيَّات الَّتي يُمْكِنُ العملُ فيها بالتَّرجيح، فأمّا التكفيرُ القطعيُّ، فلا يَلْتَفِت إليه مع مثل (¬1) هذا الاختلافِ في النَّقل مُميِّزٌ (¬2). وقال الذهبي في آخر الطبقة الرابعة من " تذكرته " (¬3)، وهي أول المئة الثانية إلى الخمسين ومئة: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرةِ عمرو بن عُبَيْدِ العابد، وواصل بنُ عطاء الغزَّال، ودَعَوْا إلى الاعتزال، [والقول بالقدر] وظهر بخراسان الجَهْم بن صفوان، ودعا إلى تعطيل الرَّب عزّ وجل، وخلقِ القرآن، وظهر في خراسان في قبالته مقاتِل بنُ سليمان المفسِّر، وبالغ في إثباتِ الصِّفات حتّى جَسَّمَ، وقام على هؤلاء علماءُ التَّابعين وأئمَّةُ السلَفِ، وحذروا مِنْ بدعتهم، انتهى وله أمثالُه. ولعلماء الحديثِ، وأهلِ الجرح والتعديل منهم من (¬4) التصريح بِذَمِّ المجسمة، والوَصْمِ لهم مِن الحنابلة وسواهم، وما علمتُ أحداً منهم نَسبَ إلى أحمدَ بنِ حنبل منْ ذلك شيئاً، لا مِنْ أَهْلِ السنة منهم مِن (¬5) الشافعية، والحنفية، والمالكية، ولا منْ أهل علم الكلام الجامعين بين العلمين: العقلي والنقلي، وأهل الاطّلاع التَّامِّ على معرفة الرِّجال. ومن أراد ¬
ولنختم هذا الفصل بتنبيهين
معرفة براءتِهم الجميع مِنْ ذلك، فليطالِعْ كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي رحمه الله، فإنه نقل عنهم منَ التأويل لِما يوهِمُ البعضُ منه التشبيه، ما يشهد لهم بذلك (¬1)، ولولا خشية الإطالة، لنقلتُ منه هنا (¬2) شيئاً كثيراً، وينبغي أن نذكرَ منه كلامَهم في تأويل الصُّورةِ ونَحْوها ممَّا استدل به المعترضُ على كذب الرُّواة، وبطلان الصَّحاح، ولكن نؤخِّرُ ذلك إلى وقت ذكرِ كلام المعترض في ذلك، ونُضَمِّن الجوابَ عليه إن شاء الله تعالى، ولنختم هذا الفصل بتنبيهين. أحدهما: أنَّ الحامل لِمَنْ روى التشبيه (¬3) عن أحمد وغيْره مِنْ أئمة (¬4) السنة (¬5) هو ما يوجد في عباراتِهِمْ مِنْ تقريرِ الآيات والآثار (¬6) وإمرارها (¬7) مِنْ غيرِ تأويلٍ، وقد مرَّ أنَّ ذلك لا يستلزم اعتقادهم (¬8) التَّشبيه، ولذلك يُوجَدُ ذلك في عبارات بعض (¬9) أئمَّة الزيدية، والمعتزلة، ولا (¬10) يُكفِّرُونَّهم بذلك، ولا ينسِبُونَهم إلى صريح التَّشبيه، ولا يُعارِضُون مَنْ رَوى ذلك عنهم بنقل صحيح، و (¬11) في " علوم آل محمد " المعروف عند الزَّيديّة بأمالي أحمد بن عيسى، وهو تأليفُ محمد ¬
ابن منصور: أنَّ الله سبحانه وتعالى لا ينتقل عَنْ مكانِه في تأويل نزول الرَّبِّ سبحانه إلى سماءِ الدُّنيا يومَ عرفة في كتاب " الحج ". وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبَهاني الشِّيعي (¬1) في الجزء الثاني (¬2) من " مقاتل الطالبيين " (¬3) في أخبار أبي السرايا في ذكر من خرج مع أبي السرايا: حدثني أحمد بن سعيد، حدثني محمد بن (¬4) منصور، قال: سمعتُ القاسم بن إبراهيم، ونحن في منزل الحسنيين (¬5)، يقال له: الودينة يقول: انتهى إليّ نَعْيُ أخي محمد وأنا بالمغرب، فتنحَّيْت (¬6)، فأرقتُ من عينَّى سجلاً أو سَجلين، ثم رثيتُه بقصيدَةٍ، على أنَّه كان يقول بشيءٍ مِنَ (¬7) التشبيه، ثمَّ قرأها عليّ مِنْ رقعته، فكتبتُها، وهي: يا دارُ دَارَ غُرُورٍ (¬8) لا وَفاء لها ... حَيْثُ الحَوادِثُ بالمكرُوهِ تَسْتَبِقُ أَتْرَحْتِ أَهْلَكِ منْ كدٍّ وَمنْ أَسفٍ ... بِمَشْرَع شُرْبُهُ التَّصْرِيفُ والرَّنَقُ ¬
التنبيه الثاني: ينبغي التأمل له، وذلك أنه قد يقع التساهل في نقل المذاهب من أهل كتب الملل والنحل
فأيُّ عَيْشِكِ إلاَّ وَهْوَ منتقِلٌ ... وأيُّ شَمْلِكِ إلاَّ وهْوَ مُفْترِقُ إلى آخرها، وقد قال في خُطبة كتابه: إنَّه لا يذكر مَنْ عَدَل عن مذاهبِ أسلافه، وروى نحو ذلك صاحبُ كتاب " الجامع الكافي " في مذهب الزيدية عن محمد بنِ منصورٍ عَنِ القاسم عليه السلام ُ كما سيأتي مبسوطاً، ويأتي تأويلُه عندهم بأنه (¬1) كان لا يقولُ بخلقِ القرآن، وسيأتي أن القاسِمَ عليه السلامُ كان مع ذلك يُعَظِّمُة، ويرضى عنه، ويترحَّمُ عليه. وفي " الحدائِق الوردية في مناقب أئمة (¬2) الزيدية " (¬3) أن القاسِمَ كان مِنْ عُماله، وأنَّه كان يُقال: أَعْظِمْ بإمامٍ القاسم بنُ إبراهيم مِنْ عُمَّاله عليهم السلامُ أجمعين (¬4). وبهذا تَعْرِفُ أنَّ الأوائِلَ مِنْ كُلِّ فرقةٍ كانوا على مذهب أئمة الأثَرِ، ولكن المتعصبين يتأوَّلون لأئِمتهم أحسن التَّأويل، ولأئِمة السُّنة أقبحَه، وبهذا تعرفُ عَصَبِية مَن فعل ذلك، فتأمَّلُه تجده كثيراً (¬5)، فالله المستعانُ. التنبيه الثاني: ينبغي التأمُّلُ لَهُ، وذلك أنَّه قد يقع التَّساهلُ في نقل المذاهبِ مِنْ أهلِ كُتب المِلَلِ والنِّحَلِ، وسببُ ذلك أنَّه قد يذهبُ بعضُ الناس إلى أنَّ الإلزامَ مذْهَبٌ، فَيُلْزِمُ خصمَه مذهباً لا يلتزمُه الخصمُ، ويعتقد لزومَه قطعاً، ويستحِلُّ بذلك (¬6) نسبتَه إلى خصمه مذهباً، وروايته ¬
عنه قولاً، وقد يُفرِّع على ذلك تكفيره وتكذيبَه ونحو ذلك، وقد فعل المعترضُ شيئاً كثيراً مِنْ ذلك، مثل روايته عَنِ الأشعرية جميعاً أنَّهم يذهبُون إلى القول بأنَّ الله تعالى يُثيبُ على معصيتِه، ويُعَاقِبُ على طاعته، وقد مضى بيانُ أنَّه ما ذهبَ أحدٌ إلى ذلك مِنَ المسلمين، ولا مِنَ المشركين، وإنَّما يلزم ذلك من يقول: إنَّ أفعال اللهِ سبحانه لا تُعَلَّلُ، وإنَّه لا داعي له سبحانه إلى شَيْءٍ منها، والقولُ بهذا قولُ طائِفَةٍ مِنْ غلاة متكلميهم، وقد أوَّلُوا كلامَهم، ولم يساعدوا (¬1) إلى هذا الِإلزام، وقالوا: هو (¬2) محال لاستلزامه المحالَ، وهو خلفُ وعدِه سبحانه (¬3)، وكذبُ خبره سبحانه (¬4) عن ذلك، وفي النَّاس من ينسِبُ إلى الطَّائفة العظيمةِ مذهبَ رجل مِنْ غُلاتهم، وإن رَدُّوا كلامه، وكَفَّروا قائِلَهُ كما فعل المعترضُ بنسبة تكليفِ ما لا يُطاق إلى أهلِ الحديث وطوائفِ أهل السُّنّةِ، وكما فعل في مسألة الأطفال وغيرِها، وسيأتي بيانُ ذلك. ومِنَ النَّاس من يجمع بَيْنَ الأمرين، فيُلْزِمُ بعض الطَّائفة أمراً لم تقُلْ به، ثمَّ يتقوَّى لَهُ صِحَّةُ إلزامِه، فينسبه إليه (¬5) ثم ينسِبهُ إلى أهل مذهبه، وهذه جُرْأَةٌ عظيمةٌ، وذلك كما فعل ابنُ السيّد البطَلْيوسِي، فإنّه قال في كتابه " سقط الزند " (¬6): إنَّ المعتزلة تذهبُ إلى أنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ، ¬
الفصل الثاني: في تحقيق مذهب أحمد بن حنبل وأمثاله من أئمة الحديث، وهم طائفتان
وأصلُ هذا إلزام لأبي الحسين المعتزلي، حيث قال: بأن المعدومَ ليس بشيء، وأنَّ عِلْم الله به يتعلَّقُ بأنَّه سيوجد (¬1)، فألزمه الرَّازي ذلك، وذلك (¬2) مِنَ البَطَلْيُوسِي وَهْمٌ فاحشٌ نشأ مِنْ سماعِه بأنَّ المعتزلة تُنْكِرُ القدر، فظنَّ (¬3) أن المعتزلة تُنْكِرُ العِلْمَ السَابِقَ، وهذا بناء منه على أنهم يُفَسرُون القَدَرَ (¬4) بالعلم، وليس كذلك، وإنَّما يُفَسِّرون القدر الذي ينفونه بِمَا يوجِبُ الاضطرارَ، وينفي الاختيارَ، والقدرُ المفسَّرُ بذلك مُتَّفقٌ على نفيه عِنْدَ أهل السُّنة أيضاً كما سيأتي بيانُه (¬5) في الوهم الثامن والعشرين (¬6). الفصل الثاني: في تحقيق مذهبِ أحمدَ بنِ حنبل وأمثالِه مِنْ أئِمَّة الحديث، وهُم طائفتان. ¬
الطائفة الأولى: أهل الحديث والأثر وأتباع السنن والسلف وإنما ينكرون من علم النظر أمرين
الطائفة الأولى: أهلُ الحديث، والأثر، وأتباعُ السُّنن والسَّلف الذين (¬1) ينهون عَنِ الخوض في علم الكلام، ولا يحتجُّون على مذهبهم إلاَّ بما عرَفتْهُ عقولُهم مِنْ غير تقليدٍ ممَّا علَّمَهُ الله تعالى رُسُلَهُ وسائر عبادِهِ مِن الأدِلة، وكيفية الاستدلال، ولا ينظرون إلاَّ فيما أمرهم أن ينظروا فيه، كما أنَّ طلبةَ علمِ النظر يتعلمون مِنْ كُتُب (¬2) شيوخهم مِنْ غير تقليد، فكذلك (¬3) أهلُ الأثر ينظرون مِنْ غير تقليدٍ في كتاب الله، ويَسْتَدِلُّونَ بذلك، وبِمَا جرى مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وسلفِ الأمَّة المُجْمَعِ على صلاحهم منَ الاستدلال به على الله تعالى، وعلى نُبُوة أنبيائه مثلما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام في الاستدلال على فرعونَ في مجادلتهما، قال الله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 30 - 32] الآيات، وهي صريحةٌ في الاستدلال على الله سبحانه، وعلى صحّة النُّبُوَّةِ معا (¬4)؛ لأنها في الردِّ على فرعون في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين} [الشعراء: 23]، كما هو صريحٌ في أوَّلِ الآية، فكذلك (¬5) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين} [يس: 77]، وقوله في الاحتجاج بمعجز القرآن الكريم: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ¬
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24]. قالوا: فإذا القدر منَ الأدلَّة تَطَابقَ على صِحته العَقْل (¬1) والسَّمعُ الَّذي هو النَّص والإجماعُ، والتمسُّك به أسلم (¬2)، والتَمسُّك بالطُرق المبتدَعة على أساليب أهلِ الفلسفة تُوقِعُ في الحَيْرَةِ، وتجرُ إلى البدعة، ويتولُّدُ منه تقرير قواعد غلطية (¬3) تُخَالِفُ فِطَرَ العُقول، ونُصوصَ المنقولِ. فهولاء كتابُهُمُ القرآنُ، وتفسيرُهُمُ الأخبارُ، والآثار، ولا يَكَادُ يُوجد لهم كتاب في العقيدة، فإنْ وُجِدَ، فالَّذي فيه إنما هو بمعنى الوصيَّة المحضةِ بالرُّجوع إلى الكتاب والسُنَّة، وهم لا يَعنونَ بالرُّجوع إليهما (¬4) نفيَ النَّظر، وتركَ العقل، والاستدلالِ البَتّة، وقد صَرَّحوا بالنظر والاستدلال العقلي كما ذكره صاحب " الوظائف " (¬5)، والزنجاني في قصيدته الرائية، وفي شرحها، وهي القصيدة الشهيرة التي أولها: تَمسَّكْ بِحَبْلِ اللهِ واتَّبع الأثَرْ كما أنَّه قد صرَّح بذم الكلام خلقٌ مِمَّن خاض في لُجَجه، وبَرَّزَ في حججه كما يأتي ذكرُه إن شاء اللهُ تعالى. ¬
أحدهما: القول بأن النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {بَادِيَ الرَّأي} [هود: 27] (¬1): "أي بمجرد ما دعوتَهم استجابوا لك من غير نظر" (¬2)، و (¬3) هذا الَّذي ذمُّوهم به هو عين ما يمدحون به فإنَّ الحَقّ الظَّاهِر لا يحتاج إلى رَوِيّةٍ، ولا فكر، ولا نظر، بل يجبُ اتِّباعُه والانقيادُ إليه متى ظهر، ولِهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادِحَاً الصِّدِّيق (¬4): " ما دعَوْتُ أَحَداً إلى الإسْلامِ إلاَّ كَانَتْ لَهُ كَبْوَة غيرَ أبي بكرٍ، فإنّه لَمْ يَتَلَعْثَمْ " (¬5). وإنَّما يُنكرون مِنْ عِلْمِ النَّظَرِ أمرين: أحدهما: القولُ بأنَّ النَّظر فيما أمر اللهُ تعالى بالنظر فيه، وجرت به عادةُ السَّلف غَيْرُ مفيدٍ للعلم، إلاَّ أنَّ يُرَدَّ إلى ما ابتدع من طريق المتكلمين، بل هو عندهم كافٍ شافٍ (¬6)، وإن خالف طرائقَ المتكلمين (¬7). وثانيهما: أنَّهم يُنكرون القولَ بتعيُّنِ طرائقِ المنطقيِّين والمتكلِّمين للمعرفة، وتجهيلِ مَنْ لم يَعْرِفَها، وتكفيرِه، فَهُمْ في إنكار عِلْمِ الكلام، ¬
وأساليبِ النُّظَّار (¬1) أَقَلُّ غُلُوَّاً مِنْ أهلِ المعارف الضَّروريَّة مِنْ علماء الكلام، لأنَّ هذه (¬2) الطائفة (¬3) من المتكلِّمين زعموا أنَّ العلمَ بالله تعالى ضروريٌّ غير محتاجٍ إلى النّظَر، وهم -مع ذلك- يُبِالغونَ في نفيِ التَّشبيه بأجمعهم. وقد تقدَّم حكايةُ النَّواوي لذلك عنهم في ذكر براءةِ أحمدَ بنِ حنبل مِنْ ذلك، وعلى هذه الطريقةِ كان أئِمَّةُ العِتْرَة القُدَماء، وأئمَّةُ الفقهاء الأربعة، وجماهيرُ حُفَّاط الحديث، وأئِمَّة الفقه، والتفسير، وعلوم الشَّريعة. ولذلك لا نجدُ لهم في علم الكلامِ ذكراً بنفيٍ ولا بإثبات (¬4). فهؤلاء الإقدامُ على تكفيرهم كالإقدامِ على تكفير أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم بإحسان، إذ لا مستند لمَنْ يكفِّرُهم إلاَّ عَدَمُ خوضهم في الكلام، وعَدَمُ تصريحهم بتأويل المتشابه، وهذه العلَّة حاصلةٌ في الصحابة والتَّابعين، وذنبُ المكفر لهذه الطَّائفة من المسلمين (¬5) هو ذنبُ الخوارج، بل أقبحُ، لأنَّ أصلَ مذهب الخوارج تكفيرُ المسلمين بالذنوب، وإن غَلِطُوا فيما يعتقدونه ذنباً، وأصل هولاء تكفير المسلمين بسبب الإِيمانِ الصَّادر عن غيرِ تحريرٍ لطرائقهم في الاستدلالِ، وهذا يَعُمُّ الصحابة، والتَّابعين، والصَّالحين، وقد ورد في الخوارج بسببِ تكفيرِ المسلمين مِنَ التَّشديد ما لم يرِدْ في غيرهم، فنعوذُ بالله من غضب الله. وقد نصر هذا القولَ الفقيهُ العلاَّمَة المحدِّثُ محمدُ بن منصورٍ الكوفي (¬6) الشيعيُّ محبُّ آل محمدِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ¬
وصنَّف فيه كتابَه المعروف بكتاب " الجملة والألفة "، ونقل فيه عن قدماء أئمة أهل البيت عليهم السَّلامُ الذين عاصرهم، كأحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، والقاسم عليهم السلامُ فأطال وأطاب وأفاد وأجاد (¬1)، وسيأتي مِنْ ذلك قطعة وافرة في (¬2) آخِرِ الكلام في مسألة القرآن، وهي خاتمةُ الكلام في الصِّفات، ويأتي بعضُه في مسألة (¬3) نفوذ (¬4) إرادة الله (¬5) تعالى، وقد جمعتُ فيه أيضاًً كتاباً لطيفاً سميتُه " ترجيح أساليب القرآن لأهل الإيمان على أساليب اليونان في أصول الأديان وبيان أن (¬6) ذلك إجماعُ الأعيان ". وممَّن نصر (¬7) ذلك: الغزالي في كتابه " الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين " (¬8)، مع أنَّه من أئمة المتكلمين لولا أنَّه خالف السنة (¬9) في نسبة الغرور إلى الخلق (¬10) أجمعين، فقال ما لفظه: وفرقةٌ أخرى اشتغلوا بعلم الكلام، والمجادلة، والردِّ على المخالفين، وتتبع مناقضاتهم، فاستكثروا منَ المقالات (¬11) المختلفة، واشتغلوا بتعليم الطريق في مناظرة أولئك وإفحامهم، ولكنَّهم على فرقتين: الأولى مُضلة ¬
ضالة (¬1)، والأخرى مُحِقَّةٌ. أمَّا غرور الفرقة الضالة، فلغفلتها عن ضلالتِها، وظنِّها بنفسها النَّجاة، وهم فِرَقٌ كثيرة، يُكَفِّرُ بعضُهم بعضاً، وإنَّما ضلُوا من حيث إنهم لم يُحْكِمُوا (¬2) شرائطَ الأدلة، ومنهاجها (¬3)، فرأوا الشبهة دليلاً، والدليل شبهة (¬4). وأما غُرور الفرقة المحقة فمن (¬5) حيث إنهم ظنُّوا (¬6) بالجدل أنَّه أَهَمُّ الأمور، وأفضلُ القربَاتِ في دين الله، وزعمت أنَّه لا يَتمُّ لأحدٍ دينُه ما لم يَفْحَصْ، ولم يبحث، وأنَّ من صَدَّقَ اللهَ من غير بحثٍ وتحريرِ دليلٍ، فليس بمؤمنٍ، أو ليس بكامل (¬7)، ولا مُقرَّب عند الله، ولم يلتفتوا إلى القرن الأوَّل، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم خَيْرُ الخلقِ، ولم يطلب منهمُ الدَّليل، وروى أبو أمامة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم " ما ضَلَّ قَوْمٌ قَط إلا أُوتُوا الجَدَلَ " (¬8). انتهى. ¬
وفيه إيهامُ قبح (¬1) الجدل مطلقاً، وليس كذلك، فإنّ الجدل عَنِ الحقِّ مما وصف اللهُ به أنبياءَه وأولياءه، وأمر به رسولَه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكمَةِ والمَوْعظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [العنكبوت: 46]. إنَّما القبيح المِراءُ، وهو ما يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّه يُهِيجُ الشَّرِّ، ولا يَقْصِدُ به (¬2) صاحبه إلاَّ حظَّ نفسه في غلبة الخُصوم. وقد يَشْتَمِلُ الجَدَلُ على ألفاظٍ بشعة، فلا بقْبُحُ مع الحاجةِ إليها، وحسْنِ (¬3) القصد فيها، كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود: 13]، وكما حكى من أقوالِ الكفار، كقول أهل الكتابين: إنَّ عزيراً ابنُ الله، وإنّ المسيح ابن الله، وإن الله ثالثُ ثلاثة، وإنَّ الله فقيرٌ، تعالى عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيراً. وقال شيخُ الإِسلام، ناصِر السنةِ، أبو إسماعيل، عبد الله بن محمد الأنصاري الحنبلي في كتابه الشهير بـ " منازلِ السائرين إلى اللهِ تعالى " (¬4) في باب المعرفة: إنَّ الدرجة الأولى منها (¬5) معرفةُ النعوت والصِّفات التي ¬
وردت أساميها بالرسالة، وظَهَرَتْ شواهدُها في الصَّنعة بتبصيرِ النُّورِ الدائم في السِّرِّ، وطيبِ حياة العقل لزرع الفكرِ، وحياةِ القلب: بحسن النظرِ بين التَعظيم وحسنِ الاعتبار، وهي (¬1) معرفةُ العامة التي لا تنعقِدُ شرائطُ اليقين إلاَّ بها، وهي على ثلاثة أركان: إثبات الصفة (¬2) باسمها من غير تشبيه، ونفي التشبيه عنها (¬3) من غير تعطيل، والإياسُ مِن إدراكِ كُنهها (¬4)، ومن ابتغاء تأويلها (¬5). وهذه جملة شرحُها في الكلامِ الآتي بعدَها في الوظائف (¬6) إن شاء الله تعالى وهذا أخصر كلام وجدتُه من كلام الطائفة الأولى من المحدثين وهم جمهورهم، والظاهر أن صاحبَه (¬7) أخفى نفسه، إمّا لِتَخْلُصَ له نيَّته فيه لنصيحة (¬8) المسلمين أو لِيَسْلَمَ من ألسنة المتكلِّمين (¬9)، وقد نقلته جميعَه بألفاظه إلا القليل (¬10)، وأنا أنَبِّهُ على ذلك (¬11) القليل غالباً، كما زِدْت (¬12) فيه زيادات يسيرة قد نبهت (¬13) عليها، وإذا تأملتَه وتأملتَ ما ذكره ¬
ذكر بابين: حقيقة مذهب السلف، والبرهان على أن الحق في ذلك مذهب السلف
ابنُ تيمية وسائرُ متكلمي أهل (¬1) السنة في مسألَتي الصِّفات والأفعال، وجدتَ الجميع كالشرح لما روي عن عليٍّ عليه السلامُ أنَّه قال (¬2): التوحيد: أن لا توهّمه، والعدل: أن لا تَتَّهِمَهُ، فيا له مِن كلامٍ ما أبلغه، وأوجزه، وأجمعَه، وأنفعَه، فإنه لا يَضُرُّ تقريرُ الظواهر معه، ولا ينفعُ التعمق (¬3) في النظر والتأويل إلا به، إليه يفيء الغالي، وبه يلحق التالي، وما يَعْقِلُها إلا العالمونَ، وهو ثمرةُ شجرة الكتب المبسوطات، ودُرَّةٌ صدفِ التآليف المطولات، ولُبابُ قشرِ العبارات (¬4) المختلفات، ولا يلزم معه شنَاعَاتُ الجبر والتشبيه، ولا ينفع دونَه دعاوي العدلِ والتنزيه، فشُدَّ عليه يديك (¬5)، وأَلْقِمْ به الحَجَرَ كُلَّ معترضٍ عليك. قال المصنِّفُ (¬6) بعد الخطبة: وها أنا أُرَتِّبُ ذلك على بابين: بابٍ في بيانِ حقيقة مذهب السَّلف في الآي والأخبار، وباب في البرهان على أنَّ الحقَّ في ذلك مذهبُ السّلَفِ. الباب الأول: اعلم أنَّ مذهب السَّلف أنّ كُلَّ من بلغه حديثٌ من أحاديث الصِّفات، يجب عليه فيه سبعةُ أمور: التَّقديسُ، ثمَّ التَّصديقُ، ثمَّ الاعترافُ بالعجز، ثمَّ السُّكوتُ، ثم الإمساكُ، ثم الكَفُّ، ثم التَّسليمُ. أمّا التقديسُ، فتنزيهُ الله تعالى عن مشابهةِ المخلوقات جميعها. ¬
الوظيفة الأولى: التقديس
وأمَّا التَّصديقُ، فهو الإيمانُ بأنَّ ما ذكره حق (¬1) على الوجه الذي قاله وأرادَه. وأما الاعترافُ بالعجز، فهو أن يُقِرَّ بأنّ معرفةَ (¬2) مراده عليه السَّلامُ ليس مِنْ شأنِهِ. وأمّا السُّكوتُ: فهو أن لا يسألَ عن معناه، ولا يخوضَ فيه، ويَعْلَمَ أنّ سؤالَه عنه بدعةٌ، وأنَّهُ في خوضه فيه مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ، وأنه يُوشِكُ أن يكفر لو خاض فيه، وهو لا يشعُرُ. وأمّا الإِمساكُ: فلا يتصرَّفُ في تلك الألفاطِ بالتَّصريفِ، والتبديل، والزيادةِ فيه، والنُّقصانِ منه، والجمعِ والتفريق، بل لا يَنْطقُ إلاَّ بذلك اللفظ، وعلى ذلك الوجه. وأما الكَفُّ: فإنَّهُ يَكُفُّ باطِنَه عَني البحث عنه، والتَّفَكُّرِ فيه. وأمّا التَّسلِيمُ: فأن لا يَعْتَقِدَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ وتابعيهم تُهْمَةً، ولا يُوَجِّهَ إليهم ظِنَّة، لقيامِ الدليل على صدقه - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفتِهِ بما يجوزُ على الله تعالى مِمّا لا يجوز، وعدالةِ الصَّحابة وتابعيهم، وثناءِ الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وشهادتِهِ لهم بأنَّهم خيرُ القرون بَعْدَه. فهذه سَبْعُ وظائف اعتقد كافةُ السلفِ وجوبَها، فلنشرحها بعون الله تعالى. الوظيفة الأولى: التقديس: وهو أنَّهُ إذا سَمِعَ ذكرَ اليدِ في كتاب الله ¬
الوظيفة الثانية: الإيمان والتصديق
تعالى، وفي سُنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يَحْمِلْ ذلِكَ على الجارحةِ المركَّبة مِنَ اللّحْم، والدَّم، والعظم، والعَصَب في الجسم المخصوص، ولا على اليَدِ المستعارة مِنْ نحو القُدْرَةِ، والنِّعمة، وما أشبهه، وأن يعتقِدَ أنّ اليَدَ صِفَةٌ لذي الجلال والإكرام، لا تتكيَّف للمخلوق، ولا يعْلَم كنهُ حقيقتها (¬1)، وليس عليه في ذلِكَ تكليف أصلاً، وكذلِكَ سائر صفاتِ الله تعالى الواردة في كتابه، وعلى لسانِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله: فإن خَطَرَ له أنّه لم يرد هذا المعنى، فما المعنى؟ فينبغي أن يَعْلَمَ أنَّ ذلِكَ لم يُؤْمَرْ به، بل أُمِرَ أن لا يخوضَ فيه، فإنه ليس على قدر طاقته، وأنّ ذلِكَ ليس بِعُشِّكَ فادْرُجْ (¬2)، واشْتَغِلْ بعبادتِكَ أو حِرْفَتِك (¬3)، واسْكتْ، فقد خفَّفَ الله عنك. الوظيفة الثانية: الإِيمانُ والتصديق: وهو أن يَعْلَمَ قطعاً أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في وصف الله تعالى بذلك صَادِقٌ (¬4) وليقل: آمنّا وَصدَّقْنَا. ¬
فإن قيل: التصديقُ لا يكونُ إلا بَعْدَ التَّفَهُّمِ، وهذه الألفاظُ إذا لم يَفْهَمِ العبْدُ معانِيَهَا، كيف يعتقِدُ صِدْقَ قائِلِهَا فيها؟ والجوابُ: أنَّ التصديقَ بالأمور الجُمْلِيَّةِ ليس بمحالٍ، كالتصديقِ بالله تعالى، وملائكَتِهِ، وكتبه، ورسلِهِ مِن غيرِ تفصيل، ويُمْكِن أن يُفْهَم مِنْ هذِهِ الألفاظِ أُمورٌ جُمْلِيَّةٌ غَيْرُ مفصَّلةٍ، كما لو قال قائل: في البيت حيوانٌ، أمكنَ أن يصدق دون (¬1) أن يعرفَ أنَّه إنسانٌ، أو فرس، أو غيره، بل لو قال: في البيت شيءٌ، أمكن تصديقُهُ، وإن لم يعرف ما ذلِكَ الشيءُ، فكذلِكَ الاستواءُ على العرشِ، فُهِمَ على الجملةِ، وأمكن التصديقُ به قَبْلَ أن يُعرف (¬2) معنى الاستواء، يعني على التفصيل. فإن قيل: فقد قال اللهُ تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل: 43]. فالجواب: أنَّه أمر (¬3) بسؤالهم فيما يُطِيقُونَهَ، وأمّا ما لا يطيقونه ولا يعلمونه، فقد قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، و {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]. قلت: وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. قال الشيخ: ولكن تقديسَه سبحانه ينبغي أن يكون مُفَصَّلاً، وهو نفي ¬
مشابهة المخلوقات جميعها (¬1). قلت: يعني أنّه لا يلزم من الوقف في تفسير آياتِ الصِّفات عَدَمُ الجزمِ بأنّ الله تعالى لا يمَاثِلُ شيئاً منَ المخلوقات، وذلِكَ لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] من المُحْكَمَاتِ. وقد ترك الشيخ سؤالاً مشهوراً للمتكلمين، وهو: أنَّه يجب في حكمة الله أن لا يُخَاطبَنَا بما لا نَعْرِفُ معناه، وقد أُجِيبَ عن ذلك بأمورٍ كثيرة تأتي إن شاء اللهُ تعالى في آخر هذا الكتابِ عندَ الكلام على التَّأويل، فلا نطولُ بذكره ها هُنا، ومِنْ أخصرها وأحلاها أنَّهم إن أرادوا أنّ الله تعالى لا يُخَاطبُنَا بما لا نفهم منه شيئاً البتة، لا جملةً ولا تفصيلاً، فمسلَّمٌ ولا يَضُرُّ تسليمه؛ لأنّا لم نحتج إلى القولِ به، وإن أرادوا أنّه لا يجوز أن يُخَاطِبَنا بما لا نفهمه تفصيلاً، وإن فهمناه جملةً فممنوع (¬2)، فإنه قد ورد في كتاب الله تعالى مِمَّا يجب علينا الإيمانُ به، ذكر ما لا يُفْهَمُ إلا جملةً، وذلِكَ أمورٌ عديدة. منها: معرفتُهُ سبحانه والإِيمانُ به، ولا يَصِحُّ إلا جملةً، كما قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]. ومنها: ملائكتُه، وكتُُُبه، ورسُلُه على العموم، والدار الآخرة، ولو لم يصحَّ ذلك، لم يصح إيمان العجمي ببلاغة القرآن وإعجازه، ولا إيمان (¬3) العاميِّ بالمتشابه، ولوجب على عوامِّ المسلمين أن يكونوا منَ الرَّاسخين، وعلى الرَّاسخين أن لا يتوقَّفُوا في معنى شيءٍ مِنْ كتاب ربِّ ¬
الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجز عن معرفة حقيقة هذه المعاني
العالمين، وكلُّ ذلِكَ خلافُ المعلوم. الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجزِ عن معرفةِ حقيقة هذه المعاني، فإنَّه إنِ (¬1) ادَّعى ذلِكَ، كذب. وهذا معنى قولِ مالكٍ رحمه الله: الكيفيَّةُ مجهولة، يعْني: التفصيلُ المرادُ به غير معلوم. قلت: العَجْزُ عن المعرفة التفصيلية في ذاتِ الله وصفاته (¬2) ضروري؛ لأنَّ كلَّ ما لَمْ يُشَاهَدْ، ولا مثْلَ له في المشهوداتِ، استحال تصوُّره في الذَّهن، وما استحال تصوُّره، استحال أن يُعْرفَ إلاَّ على سبيل الجملة، ولو (¬3) لم نعرف النُّورَ أو غيره، وسمعنا ذكرَه، ما أمكن تصوُّرُه، ولو تصوَّره متصوِّرٌ مِنْ غيرِ معرفة، وقع في الخطأ، ولذلِك لا يُمْكِنُ تعريفُ الصغير لَذَّة النَّكاح على التَّفصيل، وَمَنْ قال له: إنَّه حُلْوٌ كالسُكَّرِ على جهة التَّقريب له، أخطأ، فكيف لا يجب الاعترافُ (¬4) بالعجز (¬5) وهو ضروري؟ قال الشيخ: الوظيفة الرابعة: السُّكوت؛ لأنَّهم بالسُّؤال متعرِّضُون لمَا لا يُطِيقونه، وخائِضُون فيما ليس هُمْ أهلاً له، فإنْ سأل السَّائل، جاهلاً، زاده جوابُهُ جهلاً، وربما ورَّطه (¬6) في الكُفْرِ مِنْ حيث لا يشعر، وإنْ سألَ عالماًً، عَجَزَ عن تفهيمه (¬7)، لِقصور فهمه هو، فالعامَّةُ والخاصَّةُ ¬
عاجزون عن معرفة كيفيَّة الأمور الإِلهية، قاصِرُونَ عن إدراكها، فَمنْ فعل ذلك، وجب على السُّلطانِ زجْرُه، ومنعُهُ، وضربه بالدِّرَّة، كما فعل عُمَرُ رضي الله عنه بِمَنْ يسألُ عَنِ الآياتِ المتشابهة (¬1)، وكما فَعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنكار على قوم رآهم يخوضُونَ في القدر، ويسألون عنه فقال: " أبِهذا أُمِرْتُمْ؟ " (¬2) وقال عليه السَّلام: "إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكمْ كَثْرَةُ ¬
الوظيفة الخامسة: الإمساك عن التصرف في الألفاظ الواردة من أربعة وجوه
مسَائِلِهِمْ" (¬1). قلتُ: الحديثِ الثاني متَّفَقٌ على صحَّته، والأول جاء بأسانيد كثيرة (¬2) مجموعها يقضي بقوتها (¬3) كما يأتي عند ذكر القدر في مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى. قال الشّيْخُ: الوظيفة الخامسة: الإمساكُ عَنِ التَّصَرُّفِ في الألفاظِ الواردة. وشرحُ ذلكَ: أنَّهُ يجبُ الجُمودُ على ألفاظِ هذِه الأخبار، والإمساكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فيها من أربعة أوجه: التَّفسير، والتَّأويل، والتَّصرُّف، والتَّفريع. ¬
التصرف الأول: التفسير
أمّا التَّفسيرُ: فأعني به تبديلَ اللّفْظِ بلغةٍ أُخرى يقوم مقامَها بالعربية (¬1) أو يُؤَدِّي معناها بالفارسية أو (¬2) التُّركية، بل لا يجوز النطقُ إلا باللفظِ الوارِدِ، لأن منْ ألفاظ العربيّةِ ما لا يوجَد له فارسيةٌ مُطابقةٌ، ومنها ما يُوجدُ له فارسيةٌ مُطابقة، لكنْ ما جَرَتِ عادةُ الفرس باستعمالها في المعاني الّتي جَرَتْ عادةُ العرب باستعمالها فيها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربيَّة، و (¬3) لا يكون في العَجَمِيَّةِ كذلِكَ، ثمَّ إذا انقسمت هذه الأشياء إلى ما يجوز، وما لا يجوز، وليس إدراك التمييز بينها (¬4)، ولا الوقوف على دقائق التّمييز بينها، ولا الوقوف على دقائق (¬5) التفاوت (¬6) جلياً سهلاً (¬7) يسيراً، بل يَكْثُرُ فيه الإِشكالُ، ولا يتميزُ محل التَّفاوت عن مَحَلِّ التَّعادل، فَحَسْم الباب احتياطاً -إذ لا حاجَةَ ولا ضرورةَ إلى التَّأويل- أوْلى منْ فتح الباب، وإقحام (¬8) الخلقِ وَرْطَةَ الخطر. فليت شعري: أيُّ الأمرين أحزمُ، وأحوط، وأسلمُ، والمتصرّف فيه ذاتُ الله وصفاته، وما عندي أنَّ عاقلاً متديِّناً يخفى عليه أنَّ هذا الأمرَ مُخْطِرٌ (¬9)، وأن الخَطَرَ في الصِّفات الإلهية يجبُ اجتنابُهُ، وقد أوجبَ الشَّرعُ على الموطوءة العِدَّة لِبَراءة الرَّحم، والحذر مِنْ خلطِ الأنسابِ ¬
التصرف الثاني: التأويل، ويقع في ثلاثة مواضع
احتياطاً لحكم الوراثة (¬1)، والولاية وما يترتَّبُ على النّسَبِ، فقالوا مع ذلك: تجبُ العِدَّةُ على العقيم، والآيسة، والصَّغيرة، وعِنْدَ العَزْل؛ لأنَّ باطِنَ الأرحام إنَّما يَطَّلِعُ عليها علاَّمُ الغُيوب، فلو فتحنا بابَ النَّظر في التَّأويل، كُنَّا راكبين مَتْنَ الخطر، فكما أن إيِجابَ العِدَّةِ حُكْمٌ شرعيٌّ يَثبتُ (¬2) بالاجتهاد ويترجَّح (¬3) طريقُهُ بالأولى، فنعلم أن هذا الاحتياط في الخَبَر عَنِ الله تعالى، وَعَنْ صفاته أهمُّ وأوْلَى مِنَ الاحتياطِ في العِدَّةِ، و (¬4) في كلِّ ما احتاط الفقهاءُ فيه مِنْ هذا القبيل. وأمّا التَّصَرُّف الثَّاني: وهو بالتَّصرف بالتَّأويل، وهو بيانُ معناه بعدَ إزالة ظاهرِه، فهذا إمّا أن يَقَعَ مِنَ العامِّيِّ مع نفسه، أو مِنَ العالِمِ مع العامِّيِّ، أو مِنَ العالِمِ مع نفسه، بينَه وبَيْنَ ربه، فهذه ثلاثةُ مواضع. الأول: تأويلُ العامِّيِّ على سبيلِ الاستقلال بنفسه، فهو حرامٌ، يُشْبِهُ خوضَ البحرِ المغرقِ (¬5) مِمَّن لا يُحْسِنُ السَّباحة، فلا شكَّ في تحريمه، وبَحْرُ معرفة ذاتِ الله وصفاته أبعدُ غوراً، وأكثرُ معاطِبَ ومهالك من بحر الماء. الموضع الثاني: أن يكونَ ذلِكَ مِنَ العالِمِ مع العامِّيِّ، وهو أيضاً ممنوع، ومثاله: إنْ بحَّرَ الغواصُ (¬6) مع نفسِهِ عاجزاً عَنِ السِّباحَةِ، مضطربَ القلب والبدنِ، وذلك حرامٌ، لأنَّهُ يعرِّضه لخطرِ الهلاك، فإنَّه لا ¬
يقوى على حفظه في لُجَّةِ البحر، لقلَّة علمهِ بِعُمْقِ البحر، وتماسيحه وقُروشِهِ، وإن قَدَرَ على حفظه بالقُرْبِ مِنَ السَّاحل، إلى قوله: وفي معنى العامي: الأديبُ، والنَّحويُّ، والمُفَسِّر، والفقيهُ، والمتكلم. قلت: في " صحيح البخاري " (¬1) عن عليٍّ رضوان الله عليه: لا تُحَدِّثوا النّاسَ بما لا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُهُم، أتُحِبُونَ أن يُكذَّبَ اللهُ ورسولُهُ؟! وصحَّ أيضاً عن معاذ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاه أنْ يُخْبِرَ بالخبر الحقِّ الذي أخبره (¬2) به - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَجَاةِ مَنْ مات يشهدُ أن لا إله إلا الله مُخْلِصاً بها قلبُه (¬3)، وجاءَ النَّهي عَنِ الخبر بمثل ذلِكَ كثيراً؛ وذلك لأجل المصلحة، ¬
الموضع الثالث: تأويل العالم مع نفسه في سر قلبه
فلا يمتنع كَتْمُ شيءٍ مِنَ الحقِّ الَّذي لا تَعَلَّقُ المصلحةُ بظهوره، ولا تَمَسُّ الحاجةُ إليه (¬1)، بل في قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، ما يدُلُّ على أنَّ جهل بعضِ العُلوم أولى، ويدلُّ على هذا مفهومُ قوله تعالى: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيه} [الزخرف: 63]، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، ومنه منعُ الملائكة مِمّا عُلَّمَهُ آدمُ مِنْ علم الأسماءِ، ومنعُ موسى مِمّا عُلّمَهُ الخَضِرُ مِنْ علمِ التّأويل، وفي الصحيح " أنَّ الخَضِرَ قال لموسى: إِنَّك على عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، فلا ينبغي لي أنْ أعْلَمَهُ، وإنِّي على علمٍ من عِلْمِ الله، لا ينبغي لَكَ أنْ تعلمَهُ " (¬2). قال الشيخُ: الموضعُ الثالث: تأويلُ العالِمِ مع نفسِه في سِرِّ قلبه بينَه وبَيْنَ ربِّه، وذلك لا يخلو مِنْ ثلاثةِ أوجه: إما أن يكونَ الذي انقدح في سِرَّه هو المرادُ به مقطوعاً به، أو مشكوكاً فيه، أو مظنوناً ظنّاً غالِباً، فالمقطوعُ به معدومٌ؛ لأن معرفته مِنْ ¬
قِبَل (¬1) الله تعالى، أو مِن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك غيرُ موجودٍ، وإنْ كان مشكوكاً فيه، فَلْيَجْتَنِبْهُ، ولا يَحْكُمَنَّ على مرادِ الله تعالى، ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - باحتمالِ معارضة (¬2) مثلِه مِن غيرِ ترجيحٍ، بَلِ الواجبُ على الشَّاكِّ (¬3) التَّوقُّفُ. وإنْ كان مظنوناً، فإنَّ الظنَّ إذا انقدح في النَّفس، فلا يَدْخُلُ تحتَ الاختيارِ دَفْعُهُ، فإنَّ للظَّنِّ أسباباً ضرورية لا يُمْكِنُ دفعُها، ولا تُكَلَّفُ النَّفسُ إلا وُسْعَهَا، لكن عليه وظيفتان: أَحَدَهُما: أن لا يدَعَ نفسَه تطمئنُّ إليه، ولا ينبغي أن يَحْكُمَ مع نفسه بموجب ظَنِّه، لنهيِ الله تعالى عَنْ ذلك فيما هو دُونَ هذا، فكيف بهذا (¬4) الأمر العظيم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنّ} [الحجرات: 12] الآية. قلت: لو احتجَّ بالأحاديثِ المتضمِّنة للنَّهي عَنِ التَّفسير بالرَّأي، كان أصرح، وأسانيدُها تقوى بانضمامِ بعضها إلى بعضٍ، وخرج منها العملياتُ بإجماعِ الصَّحابة الظني السُّكوتيِّ التَّقريريِّ، حيث قرَّروا الصَّدِّيقَ رضي الله عنه على قوله في الكَلاَلَة: أقول فيها برأيي (¬5)، بل يمكن ¬
أن لا يكونَ كلامُ الصِّدِّيق تفسيراً، ولذلك قال: " برأيي " حتى يكون بريئاً مِنَ الخبر عَنِ الله تعالى في مُراده، وإنَّما قَصَدوا العملَ لأجل الضرورة فيه، لا الخبر عن الله تعالى، لأن الخبر عنه بالرّأي بمنزلة النُّبُوَّةِ بالرّأي، والوحيِ بالرأي، فالعمل يتفرَّع على الظن، ويترتَّبُ عليه؛ لأنَّ في مخالفة الظَّنَ بالعمل مَضَرَّةً مظنونةً، وركوبُ مثل ذلك قبيحٌ بفطرةِ العقول (¬1)، وشواهدِ المنقول، وفي الصَّحيح أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " أَرأيْتُمْ لَوْ أَنْذَرْتُكُمُ الجَيْشَ " (¬2) الحديثَ، فهم (¬3) عاملون بالظَّنِّ، غيرُ مخبرين عَنْ مُرادِ اللهِ، وذلك لا يتناقض، بل قد صحَّ إنّ ما سمَّاه أبو بكر رأياً هو معنى الكَلالةِ في اللُّغَةِ، وليس ذلك بِرأْيٍ على الحقيقة، لكِنَّهُ -لِشدَّةِ ورعه واحتياطه- سمَّاه رأياً، حيث تَمَسَّكَ بالظاهر مِنْ غير نصٍّ ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشيخ: الثانية: أنَّه إنْ ذَكَرَه، لم يطلق القول بأنَّ المراد منه كذا وكذا، لأنَّه حكم بما لا يَعلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: 36]. ولا يجوز التَّحدُّثُ به مع الخلق؛ لأنَّهُ قادرٌ على تركه، وهو في ذكره ¬
متصرِّفٌ في ذات الله تعالى بالظنِّ، أو في مراده بكلامه، وفيه حظر، وإباحةُ ذلك لا تعرف إلاَّ بالنَّصِّ أو الإجماع، ولم يَرِدْ شيءٌ من ذلك، بل ورد قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}. فإن قيل: يدلُّ على جواز الظَّنِّ ثلاثة أمورٍ: الأوَّل: الدَّليل الذي دلَّ على إباحة الصِّدق، وهو صادق، فإنَّه لا يُخْبِرُ إلا عن ظَنِّهِ، وهو ظانٌّ. الثّاني: أقاويل المفسِّرينَ في القرآن بالظَّنَ، إذ كلُّ ما قالوه غير مسموعٍ مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل مُستنبَطٌ بالاجتهاد ولذلك كَثُرتِ الأقاويلُ فيه، وتعارضت. والثَّالث: إجماعُ التابعين على نقل الأخبارِ المتشابهةِ (¬1) الَّتي نقلها أجِلاَّء الصَّحابة، ولم تتواتر، وما اشتملت عليه الصِّحاحُ مِنَ الذي نقله العدلُ عَنِ العدلِ، فإنَّهم جوَّزوا روايتَه، ولا يَحْصُلُ بقولِ العدلِ إلا الظَّنُّ. فالجوابُ (¬2) عن الأول: أن المُباحٍ صدق لا (¬3) يُخشى فيه ضررٌ، وبث هذه الظُنونِ لا يخلو عَنْ ضررٍ، لأنَّه يحكم (¬4) في صفاتِ اللهِ تعالى بغير علم، وهو خطر، فالنُّفوس نافِرَةٌ عَنْ أشكال الظَّواهر، فإذا وجدتَ مستروحاً مِنَ المعنى -ولو مظنوناً- أخْلَدْت إليه، ورُبَّما يكونُ غلطاً، ¬
فيكون قد اعتقد في صفاتِ الله ما هو باطل، أو حكمَ عليه في كلامه بِمَا لم يُرِدْهُ. قلت: لو احتجَّ الشَّيخُ هنا بالنُّصوص الواردة في النَّهي عن تفسير القرآن بالرأي، لكان جيِّداً، لأنها تقتضي ظنَّ التحريم في هذا الموضع دون سائِرِ المواضع المظنُونَة، فإنْ كان الظَّنُّ حجة، كان التَّمسُّكُ بها أولى لخصوصها بهذا الموضع، ورفعها للعمومات الدالةِ على أنَّ الظن حُجَّةً، فلا مانعَ من ورود (¬1) السمع بمنع الظَّنِّ لمصلحةٍ، كما منع من الرجم، والحكمِ بالزنى بشهادة أقل مِنْ أربعة، مع حُصول الظَّنِّ بشهادة الواحد، وهذا الوجه جيِّدٌ في الجواب في المواضع الثَّلاثة الَّتي ذكرها الشَيخُ. قال رحمه الله تعالى: وأما الجواب على الثاني -وهو أقاويلُ المفسرين- فإنَّا لا نسلِّمُ ذلك فيما هو مِن صفات الله تعالى. قلت: أو في صفاته مِمَّنْ يستحِلُّ ذلك، ويقلُّ وجودُه في المتقدِّمين، وَيكثُرُ في المتأخِّرين، ومستحلُّ ذلك بعضُ الأُمَّة، ولا حُجةَ في قولِ البعضِ، ولا يَصِحُّ منه شيءٌ عَنِ الصَّحابة وكُبراء التَّابعين. قال الشَّيخ: بل لعلَّ ذلك في الأحكام الفقهية، أو في حكايات أحوالِ الأنبياء عليهم السَّلام، والكفارِ، والمواعظِ، والأمثالِ، وما لا (¬2) يُعْلَم خَطَرُ الخطأ فيه. وأمَّا الجوابُ عن إجماع التّابعين على نقل الأخبار المتشابهة الّتي نقلها أجلاَّءُ الصَّحابة رضي الله عنهم، فقد قال قائلون (¬3): لا يجوز أن يُعْتَمَدَ ¬
في هذا البابِ إلاَّ على ما ورد في القرآن، أو تواترَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمَّا أخبار (¬1) الآحاد، فلا يُشْتَغَلُ بتأويلها عند من يميلُ إلى التَّأويل، ولا روايتها عند من يعتمد على الرواية بالمظنون؛ لأنَّ ذلك حُكْم واعتمادٌ عليه، وما ذكره ليس ببعيد، لكنه مخالفٌ لظاهر ما دَرَجَ عليه السَّلَفُ رضي الله عنهم، فإنَّهم قَبِلُوا هذه الأخبار مِنَ العدول، ورَوَوْهَا وصحَّحُوها. فالجواب (¬2): من وجهين: أحدهما: أن التَّابعين قد عَرَفُوا مِنْ أدلَّة الشَّرع أنَّه لا يجوز اتِّهام العَدْلِ بالكذب، لا سيَّما في صفات الله تعالى. قلت: وقد يمتنع حَمْلُ الرَّاوي على السهْوِ في ذلك بقرائنَ ضروريَّةٍ لا يُمْكِنُ التعبير عنها، لا سِيَّما عند تكرُّرِ ذلك منه، أو سؤاله عنه، وعدم تردُّدِه عندَ موجباتِ التَّردُّدِ مِنْ سماعه للخوض في ذلك، والاختلافِ الشديد بسبب روايته. قال الشيخ: فإذا روى الصدِّيق رضي الله عنه خبراً، وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كذا، فَرَدُّ ذلك تكذيبٌ له، ونسبة (¬3) له إلى الوضع أو السَّهو، فقَبِلُوه، وقالوا: قال أبو بكر: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا التَّابعون. فالآن إذا ثَبَتَ عنهم بأدلَّة الشَّرع أنّه لا سبيلَ إلى اتِّهام العدلِ التَّقِيِّ مِنَ الصَّحابة، فَمنْ أينَ يَجِبُ أن لا تُتهم ظنونُ الآحادِ، وأن يُنزل الظَّنُّ منزلةَ نقلِ العدل عن العدل، مع أنَّ بعضَ الظن إثْمٌ؟ فإذا قال لهم الرسول: ما أخْبَرَكُمُ العدلُ، فصدِّقوه، وانقُلُوه، واظهِرُوه، ولم يقل: ¬
ارْوُوا عَنْ ظُنونكم، وضمائِركم، ونفوسِكم ما قالَتْهُ، وليس هذا في معنى المنصوص (¬1)، فلهذا نقولُ: ما روي عن غيرِ العدل مِنْ هذا الجنسِ ينبغي أن نُعْرِضَ عنه، ولا يُروى، ونحتاط (¬2) فيه أكثر مِمَّا نحتاط في المواعظ والأمثالِ، وما يجري مجراها. قلت: بل أكثر ممَّا يُحتاط في أحكام التَّحليل والتَّحريم. والفرق بينَ خبرِ الواحد وسائرِ الظنون مجمعٌ عليه، فالأمَّةُ مُجْمِعَةٌ على أنَّ النص الذي يجبُ العملُ به، ولم يُعَلَّ (¬3) بما يَقْدَحُ فيه مانِعٌ مِنَ الظَّنِّ الناشىء عن الاجتهاد، ومقدَّمٌ عليه. ومنْ ها هنا وجب اعتبارُ الشهاداتِ حيث لا تُعْتَبرُ الظنون، فيحكُم الحاكمُ في الحقوق بشهادةِ عدلين، ولا يحكم بقيامِ قرينتين ظنيَتين، وفي حدِّ الزنى بشهادة أربعةٍ عدول لا بظهور (¬4) أربع (¬5) قرائن ظَنية. ومُنتهي الأمرِ أن الشَّرع منع بعض الظنون، وأباح بعضها، وذلك تفصيل لِمَا أشارَ إليه سبحانه وتعالى في قوله: {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ} [الحجرات: 12]. ثمَّ قال الشيخُ: الجواب الثاني: أنَّ تلك الأخبارَ رواها الصَّحابة، لأنَّهم سمعوها مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيناً، فما نَقَلُوا إلا ما تَيَقَّنُوه، وكذلك ¬
التابعون، فإنهم عَلِمُوا (¬1) أنَّ الصحابة رَوَوْا ذلك، فَرَوَوْهُ عنهم، وما قالوا: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بل قالوا: قال فلانٌ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فكانوا صادقين، ولم يُهْمِلُوا روايتَه لاشتمالِ كُلِّ حديثٍ عَلَى فَوائِدَ لا نَقِفُ على حقيقتها. قلتُ: ونطلب (¬2) التَّوابعَ والشَّواهد، لعلها تَوَاتَر، كما قد كان (¬3) ذلك، فأنَّى يُساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس. قلت: ولأنَّ العقول كما تحكم بالاحتياطِ في الخَبرِ عن ذات الله تعالى وصفاته ومرادِه في كتابه، وُيمنع (¬4) إطلاق ظنونِ الخلق (¬5) على كثرتها وتعارضِها لِمَا يَشْتَمِلُ ذلك عليه مِنَ المفسدة، فإنَّها -أيضاًً- تحكم بأنَّ ردَّ أخبارِ الثقات الذين لم تلحقْهُمُ التُّهمة بوجهٍ مِنَ الوُجوه أشدُّ مفسدة مِنْ ذلك، ولا سيَّما والقرآن شاهدٌ لأخبارهم في ذلك، إمَّا تفصيلاً، أو جملةً، فالتَّفصيلُ حيث تَوَارَدُ الأخبارُ والآياتُ على صِفَةٍ واحدة، والجملةُ حيث يَرِدُ الأثرُ بوصفٍ وردَ القرآن بنحوه، لا بمثلهِ، وأيضاً فمجموعُهَا يتواتر، ولو في المعنى الجُملِيِّ، كما قيل في شجاعة علي عليه السّلام، وجودِ حاتم. قال الشَّيخ: وهذا تمامُ الكَفِّ عن التَّأويل والخوض فيه. ¬
التصرف الثالث: التصريف
التَّصرُّف الثالث: الذي (¬1) يجبُ الإِمساكُ عنه: التصريفُ، وشرحه: أنَّه إذا ورد قولُه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [السجدة: 4]، فلا ينبغي أن يُقال: مستوٍ ويستوي، لأنَّ في تغيير التَصاريف ما يُؤثِّرُ في تغيير الدلالات والاحتمال (¬2)، فليجتنب التصرف كما يجتنب الزيادة، فإن تحتَ الزيادة نقصاناً وزيادة. قلت: وعلى هذه القاعدة، فلا يُقال: إن الله تعالى مُرِيدٌ للقبائح، بل يُقتصر على أنَّه لو شاء ما عُصِيَ، وأنَّه (¬3) لو شاء، لهدى الخلق أجمعين من غير تأويلٍ لذلك، ونحوه ممَّا ورد به السَّمعُ المعلوم، فإن مخالفةَ عبارات السَّمع تحتمِلُ أمرين: إما تغييرَ المعاني، وهو واضح ها هنا، فإنّ قولنا: " ما شاء اللهُ كان " مدحٌ عظيم لَا يَصْدُقُ إلا على ربِّ العِزة جلَّ وعَزَّ، ولا يُشارِكه فيه غيرُه البتَّة، فكيف يستلزمُ وصفه بأنه مريدٌ للقبائح، وهذه صفةٌ يشتركُ فيها جميعُ أهل العجز والنقص مِنَ الخلق، ويختصُّ بها مفردةً أهلُ الخسَّةِ مِن الخلق، وما (¬4) أفحشَ ما رامت المبتدعةُ مِنْ إلزام أهلِ السُّنَّةِ مثلَ ذلك، وقطعهم بأنَّ من قال: " ما شاء الله كان " مثلُ مَنْ قال: " إنَّه (¬5) مريد للقبائح " وسيأتي بيانُ بطلان ذلك في مسألة الإِرادة، فمِنْ ثمَّ منعنا مِنَ الرواية بالمعنى في القطعيَّات، وخصوصاً في الأسماء والصِّفات، وإنِ اعتقدَ المعترض أنَّها سواء، وإن قلنا: إنَّ ذلك لا يجوز إلا لعالم بما ¬
يُحيل (¬1) المعاني؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ من الخائضين حسنُ الرَّأي في نفسه، فقد يعتقد بعضُ النَّاسِ أنَّه مِنَ العارفين بذلك، وليس منهم، فيجبُ سَدُّ هذا الباب، كما اختاره مالكٌ وغَيْره في تحريمِ رواية الحديث بالمعنى (¬2)، وإن لم يتعلَّق بصفاتِ الله تعالى، فكيفَ إذا تعلَّق بذلك؟ وثانيهما: سُوءُ الأدبِ على تسليم عدمِ تغيير المعنى، فقد تَحْرُمُ بعضُ العبارات، كما لا يُقال في الدعاء: يا ربَّ الكلابِ والخنازير على الإفراد، بل يَجِبُ التعظيمُ أو التَّعميمُ، فالتعظيم مثل: يا ربَّ العرش الكريم، والتَّعميم مثل: يا ربَّ كُلِّ شيء، كما ورد السَّمعُ بذلك، ولذلك ورد وصفه تعالى بأنَّ بيده الخيرَ وهُو على كُلِّ شيءٍ قدير، فدخل الشَّرُّ في التَّعميم، ولم يُذكر بالتَّخصيص، فيقال: بيدِهِ الشَّرُّ وهو على كل شيء قديرٌ (¬3)، ولذلك قال العلماء: لا يُفْرَدُ (¬4) الضَّارُّ عَنِ النَّافع في أسمائه الحسنى، لأنَّه تعالى نافع، بِعَيْنِ (¬5) ما هو به ضار، مثالُه: مضرَّتُه ¬
التصرف الرابع: القياس والتفريع
للظالم، فإنَّها عَيْنُ منفعته للمظلوم، ولهذه الأسرارِ وجب الاقتصارُ على ما ورد به السمع، وحرم التَّصرف فيه، والله أعلمُ. قال الشيخ: التصرفُ الرابع الذي يجبُ الإمساكُ عنه: القياسُ والتفريع، مثل: أن يَرِدَ لفظ اليدِ، فلا يجوز (¬1) إثباتُ الكفِّ (¬2) والساعد استدلالاً بأن هذا مِنْ لوازمِ اليَدِ. فأهمُّ المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله تعالى وصفاته، وأحق المواضع بإلجام اللِّسان، وتقييده (¬3) عَنِ الجريان ما عَظُمَ فيه الخَطَرُ، وأيُّ خطرٍ أعظم من الكفر؟ قلتُ: والأصلُ في هذا وأمثاله ما ثبت من طريق الحسنِ بنِ علي عليهما السَّلامُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " دع ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ " (¬4) وما في معناه. قال الشَّيخ: الوظيفة السادسةُ في الكفِّ بعد الإمساك للِّسان، وأعني بالكفِّ: كفَّ الباطن عَنِ التفَكرِ في هذه الأمور، فذلك واجبٌ عليه، وهذه أثقلُ الوظائفِ، وهي واجبة كما وجب على العاقلِ أن لا يخوضَ غَمْرَةَ البحرِ اتِّكالاً على عادته في السِّباحة، فإنَّ معاطب البحر كثيرة، ومهالِكَه جمَّة، ويتفكَّرُ في أنَّه -وإن فاتته نفائسُ البحر وجواهرُه- فلم تفُته إلاَّ زياداتٌ وتوسعات (¬5) في المعيشة، وهو مستغنٍ عنها، وإن ¬
غرِقَ أو التقمه التمساحُ، فاته (¬1) أصل الحياة. قلت: وللإمامِ المؤيَّدِ بالله عليه السَّلامُ نَحْوُ هذا الكلامِ في آخر كتابه " الزِّيادات " (¬2) ذكره في (¬3) التحذير في (¬4) الزِّيادة على قدرِ (¬5) الحاجة في هذه الأمور. قال الشيخ: فإن قيل: فإن لم ينْصَرِفْ قَلْبُهُ عن التفكر؟ فالجواب: أنَّ طريقه أن يَشْغَلَ نفسه بعبادة اللهِ تعالى، وبالصَّلاة، والقرآن، والذكر، فإن لم يَقْدِرْ، فبعلمٍ آخر لا يُناتسِبُ هذا الجنس من فقهٍ أو غيره، فإن لم يُمْكنْه، فَبِحِرْفَةٍ أو صناعة، ولو الحِراثة أو الحياكة، فإن لم يقدر، فليحدِّثْ نفسه بهولِ القيامة، والحشرِ، والنَّشرِ، والحساب (¬6)، فكلُّ ذلك خيرٌ له مِنَ الخوض في هذا البحر البعيد عُمْقُهُ، العظيم خَطَره وضَرَرُهُ، بل لو اشتغل الإنسانُ بالعادات (¬7) البدنية، كان أسلم له مِنْ أنْ يخوضَ في البحث عن تأويلِ صفات الله تعالى، فإنَّ ذلك عاقِبَتُه الفسقُ، وهذا عاقبتُه الشِّرْكُ، و {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و116]. فإنْ قيل: إنَّ (¬8) الإِنسانَ لا تركَنُ نفسُه إلى الاعتقادات الدِّينيَّة إلاَّ ¬
بدليل، فهل يُجوز أنْ يُذْكَرَ له الدليلُ (¬1)؟ فإن جوَّزتَ ذلك، فقد رخّصت له في التَّفكُّرِ والنَّظر، وأيُّ فرق بينَ النَّظرِ وبَيْن غيره؟ وإن منعته (¬2)، فكيف تمنعُهُ ولا يتِمُّ إيمانُه إلاَّ به؟ فالجواب: إنَّه يجوز له أن يسمع الدَّليلَ على معرفةِ الخالق سبحانه ووحدانيَّته، وعلى صِدقِ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى اليوم الآخرِ، ولكن بشرطين: أحدُهما: أن لا يُزادَ على أدلَّة القرآن والسُّنَّةِ، ولا يُسْلَكَ به طريقةُ المتكلِّمين وتشطيحاتهم. والآخر: أن لا يُماريَ فيه إلاَّ مراءً ظاهراً، ولا يتفكَّرَ فيه إلاَّ تفكُّراً سهلاً جليَّاً، ولا يُمْعِنَ في التَّفكُّر، ولا يُوغِلَ فيه غايةَ الإِيغال، وأدلَّةُ هذه الأمور الأربعة ما ذُكِرَ في القُرآن. أمَّا الدليل على معرفة الخالق سبحانه، فمثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31]. وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 6 - 10]. ¬
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 24 - 31]. وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا -إلى قوله- وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 6 - 16]. وأمثال هذه الآيات -وهِيَ قريبٌ (¬1) من خمس مئة آية- ينبغي للخلق أن يعرفوا جلالَ الله وعظمته بقوله الصادِقِ المعجز، لا بقولِ المتكلمين: إِنَّ الأعراضَ حادثةٌ، وإنَّ الجواهر لا تخلو مِنَ الأعراض الحادثة، فهي حادثة، ثم الحادثة (¬2) تفتقِرُ إلى مُحْدِثٍ، فإِنَّ تلك التقسيمات والمقدمات الرسمية تُشَوِّشُ قُلوب المؤمنين، لا سيما وهي صادرةٌ مِنْ غَيْرِ مَلِيٍّ بالدين (¬3)، ولا مضطلع بحملِ شريعة سيِّد المرسلين والأولين والآخرين صلَّى الله عليه وعلى آله أجمعين. والدِّلالات الشَّرعيّةُ الصَّادرةُ عَنِ الله اللَّطيفِ الخبير، وعن رسوله البشيرِ النَّذيرِ تُقْنِعُ وتُسَكِّنُ النُّفُوسَ، وتَغْرِسُ في القلوب الاعتقاداتِ الصَّحيحةَ الجازِمةَ، ولقد بَعُدَ عَنِ التوفيق مَنْ سلك طريقة (¬4) المتكلِّمين، وأعرض عن كتاب ربِّ العالمين. وأما الدليل على وحدانيته سبحانه، فيُقنع فيه بما في القرآن مِنْ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. ¬
وبقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (¬1) [الإسراء: 42]، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (¬2) [المؤمنون: 91]. وأمَّا صِدْقُ رسوله صلى الله عليه وسلم، فَيُسْتَدَلُّ عليه بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ ¬
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]. وبقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. وبقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وأمثاله. وأمَّا اليوم الآخر: فَيُسْتَدَلُّ عليه بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79]. وبقوله عزَّ وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40]. وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 5 - 6] وأمثالُ ذلك في القرآن كثير. فهذه أدلَّة قاطعة جليَّة (¬1)، تسْبِقُ إلى الأفهام (¬2) ببَادي الرَّأي، وأوَّلِ النَّظرِ، وَيشتَرِكُ كافَّةُ الخلق في دِرْكِهَا، ولأجل ذَلك كانت هَادِيةً نافعةً، فأدلَّة القرآن والسنَّة مثلُ الغذَاءِ، يَنْتَفِعُ به كُل إنسان، وأدلّة المتكلمين مثلُ الداءِ: يتضرر به كل إنسان، بل أدلَّة القرآنِ والسنَّة كالماء الَّذي ينتفِعُ به الصَّبيُّ الرضيعُ، والرجُلُ القويُّ، وأدلة المتكلِّمين كالسُّمِّ الذي يضرُّ كُلَّ ¬
أحدٍ، ولهذا قلنا: إِنَّ أدلَّة القرآن جليَّةٌ سابقة إلى الأفهام، ألا ترى أنَّ (¬1) منْ قدر على الابتداءِ، فهو على الإعادة أقدر {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وأن التَّدبيرَ لا ينتظمُ في دارٍ واحدة بمدبرَيْنِ، فكيف ينتظِم في جميع العالم؟ وأن من خلق عَلِمَ ثُمَّ خَلَقَ (¬2)، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فهذه أدلَّةٌ تجري مجرى الماء الَّذِي جعل الله منه كلَّ شيْءٍ حيّ، وما أحدثه المتكلِّمُون وراء ذلك من تنقيرٍ، وسؤالٍ، وإلزامٍ، وتوجيه إشكال، ثمَّ اشتغال بحلِّه، فهو بدعةٌ، وضررُه في حقِّ عمومٍ الخلق بَيِّنٌ بالمشاهدة (¬3) والتجرِبة، وما أثار مِن الفتن (¬4) بَين الخلق منذ نَبَغَ المتكلمون، وفشا صناعةُ الكلام، مع سلامة العصر الأول مِنَ الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين (¬5) عن ذلك، ويدلُّ عليه أيضاًً: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه بأجمعهم ما سلكوا في المُحَاجَّةِ مسلكَ المتكلِّمين في تقسيماتهم وتشطيحاتهم، لا لعجز منهم عن ذلك، ولو علموا (¬6) أنَّه نافع، لأطنبُوا فيه، ولخاضوا في تحرِّي الأدلَّة خوضاً يَزِيدُ على خوضهم في مسائلِ الفرائضِ، ولقد صدق أبو يوسفُ رحمه الله تعالى في قوله: مَن (¬7) طلب الدينَ بالكلام (¬8) تزندق. ¬
فإن قيل: إنَّما أمسك الصحابةُ رضي الله عنهم عن ذلك لِعدم الحاجة، فإِن البدع إِنَّما نَبَغَتْ من بعدهم، فَعظُمَتْ حاجةُ المتأخِّرين إليه، ومعرفةُ الكلام راجعة إلى معرفةِ معالجة المرضى بالبدع، فلمَّا قلَّت في زمانهم (¬1) أمراضُ البدع، قلَّت عنايتُهم بجمع (¬2) طرق المعالجة. فالجوابُ من وجهين: أحَدُهُما: أنَّهم في مسائل الفرائِض ما اقتصروا على شأن حكم الوقائع، بل وضعوا المسائلَ، وفرضُوا فيها ما تنقضي الدُّهُورُ ولا يَقَعُ مِثْلُهَا، لأنَّ ذلك ممَّا أمكن وقوعُه، فصنَّفوا حكمه ورتبوه (¬3) قبلَ وقوعه، إذ ظنَّوا أنَّه لا ضررَ في الخوض فيه، وفي بيانِ حكم الواقعة قبل وقوعها، وكانت (¬4) العنايةُ بإزالةِ البدعِ ونزعها من النفوس أهمَّ (¬5)، إلاَّ أنَّهم ثم يتخِذُوا ذلك صناعةً، لعلمهم (¬6) أنَّ الاستضرارَ بالخوض فيه أكثرُ مِن الانتفاع، ولولا (¬7) أنَّهم كانوا قد حذَّروا مِنْ ذلك، لما فَهِمُوا تحريمَ الخوضِ فيه، وقصَةُ عمر مع صَبيغ بن عَسَلِ معروفة (¬8)، وقصة الخوارج، وذكر الفرق عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتحذيره منها مشهورٌ غيرُ منكرٍ. الجوابُ الثاني: أنَّهم كانوا محتاجين إلى محاجَّةِ اليهودِ والنصارى في إثبات النبوَّة نُبُوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلى إثبات الإلهية مع عَبَدَةِ الأصنام، ¬
وإلى إثباتِ البعث مع منكريه، فما ركبوا ظهر الحِجَاجِ في وضع المقاييسِ العقلية، وترتيب المقدِّمات، وتحرير طُرُق (¬1) المجادلات، كلُّ ذلك لعلمهم بأنَّ ذلك مثارُ الشرِّ، ومنبعُ الفتنة، بَلِ اقتبسوا -رضي الله عنهم- أدلةَ (¬2) القُرآن، فمن أقنعه ذلك خَلَّوْهُ، ومن لم يقْنَعْ به، قتلوه، وعدلوا إلى السيف والسِّنان، لأنَّه ليس بَعْدَ بيانِ الله تعالى بيان، على أنَّا نُنْصفُ الخَصْمَ، ولا نُنكِرُ أنَّ حاجة المعالجة تَزيدُ بزيادةِ المرض، فإنَّ لِطُولِ الزَّمان، وبُعْدِ العهد عن عصر النُّبُوَّة تأثيراً في إثارة الإشكالات (¬3)، وإنَّ للعلاج طريقين: أحدهما: البيانُ والبرهانُ، وإلى أن يصلح واحد، قد (¬4) فسد إثنان فصلاحه بالإضافة إلى الأكياسِ، وهو فسادٌ بالإضافة إلى البُلْهِ، وما أقَلَّ الأكياسَ، وما أكْثَرَ البُلْهَ، والعنايةُ بالأكثر أولى. الطريق الثاني: طريقُ الكفِّ، والسُّكوت، والعُدول إلى الدِّرَّة، والسوط، والسيف، وذلك ممَّا يَنْفعُ الأكثرين، وإنْ كان لا يُقْنِعُ الأقلِّين، وآيةُ إقناعه أن (¬5) مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الكافر من الإماء والعبيد تراهم يُسلمون تحتَ ظلالِ السيوف (¬6)، ثمَّ يستمرون عليه حتَّى يصيرَ طوعاً ما كان كَرهاً في البداية، ويصير اعتقاداً جزماً ما كان في الابتدإء إِمْرَاً (¬7) وَشَكَّاً، وذلك بمشاهدة أهلِ الدِّين، والمؤانسةِ بهم، وسماعِ كلامِ الله تعالى، ورؤيةِ ¬
الوظيفة السابعة: التسليم لقول الله تعالى، ولحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الصَّالحين، وقرائنَ مِنْ هذا الجنس تُناسِبُ طباعَهم مناسبةً أشدَّ مِنْ مناسبة الجدل والدّليل. فإذا كان كلُّ واحدٍ من العِلاجَيْنِ يُناسِبُ قوماً دونَ قوم، وجبَ ترجيحُ الأنفعِ في الأكثر، والمعاصرون لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيَّدِ بروح القدس، المكاشَفِ مِنَ الله سبحانه بالوحي بأسرارِ عباده وبواطنهم أعرفُ بالأصوبِ والأصلحِ قطعاً، فسلوكُ سبيلِهم -إذن لا محالة- أفضلُ وأصوبُ وأعدلُ. الوظيفةُ السابعة: التسليمُ لِقولِ الله تعالى، ولحديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأصحابه، وتابعيهم النَّاقلين إلينا شريعتَه عليه السَّلام، وأن لا نَتَّهِمَ منهم أحداً، لثبوت عدالتهم في سائرِ لوازِم الشريعة، فإنَّهم نقلوها عن معْدِنِ النبوة، وعُنصرِ الرِّسالة، ولنعلمَ أنَّ البيانَ لا يجوزُ تأخيره عِنْدَ الحاجة، وقد بيَّن لهم - صلى الله عليه وسلم - جميعَ ما أرسله الله تعالى به، حتى قال فلان: عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُم كُلَّ شيْءٍ حتى الخراءة، فقال الصَّحابي: أجل، وذكر الحديث (¬1)، وحتى قال عليه السلامُ في خُطبة الوداع: " إِنَّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السماوات والأرْضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: [ثلاثةٌ مُتَوالِياتٌ] ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّم، ورَجَبُ [مُضَرَ] الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " (¬2). هذا فيما لا يضُرُّ جهله، ¬
الباب الثاني: في إقامة البرهان على أن الحق هو مذهب السلف وعليه برهانان: عقلي وسمعي، والعقلي: كلي وتفصيلي
كيف في أمر التوحيد؟ فلو عَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحاجة داعيةٌ إلى تأويل صفات الله، وأنَّه يلزمُ الخلقَ كيفيَّةُ معرفتها، لَمَا وَسِعَهُ إِلاَّ البيانُ، وفي عَدَمِ ذلك دليلٌ على كَذِب مُدَّعيه، فلا يرفع أحدٌ طَرْفَه إلى كيفيّة معرفة صفات الله من قِبَلِ عقله إِلاَّ غضَّه الدَّهَشُ والحيرة، فانقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسيرٌ، فهذا ما يجبُ على المسلمين أن يُؤمنوا به جُملةً، وأنْ يُحيطوا به تفصيلاً، فهذه هي الوظائفُ السَّبْعُ الواجبةُ على الخلق في الآي والأخبارِ، وهي مذهبُ السَّلف، والآن فنقيمُ الدَّليل على أنَّ الحقَّ هو مذهبُ السَّلفِ دونَ المتكلِّمين. الباب الثاني: في إقامة البرهان على أنَّ الحقَّ هو مذهبُ السَّلفِ، وعليه برهانان: عقليٌّ وسمعيٌّ، أمَّا العقليُّ، فمعنيان: كليٌّ وتفصيليٌّ، أمَّا البُرهانُ الكليُّ، فينكشفُ بتسليمِ أربعةِ أصول هي مسلَّمَةٌ عندَ كُلِّ عاقل. الأول: أنَّ أعرفَ الخلقِ بصلاحِ أحوالِ العبادِ هُوَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ جميع ما يَنْفَعُ في الآخرة أو يَضُرُّ لا سبيلَ إلى معرفته بالتَّجرِبَةِ كَمَا عُرِفَ الطِّبُّ بالتَّجرِبَةِ، إذ لا مجالَ للعلومِ التَّجرِيبية إلا بما يشاهد (¬1) على سبيل التَّكررِ، ومَنِ الَّذِي رجع مِنْ ذلك العالَم، فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضرَّ، فأخبر عنه، ولا يُدْرَكُ بقياس العقل، فإنَّ العقولَ قاصرةٌ عَنْ ذلك، والعقلاءُ بأجمعهم معترفون بأنَّ العقل لا يَهْدِي إلى ما (¬2) بعد الموت، ولا يُرْشِدُ إلى وجه ضررِ المعاصي، ونفعِ الطاعات، لا سيَّما على سبيل التَّفصيل والتَّحديد، كما وردت الشَّرائع، فأقرَّوا بجملتهم أنَّ ذلك لا يُدْرَكُ ¬
إلاَّ بنور النُّبُوَّة، وهي قوَّةٌ وراء قوَّةِ العقل، يُدرك بها مِنْ أمرِ الغَيْبِ في الماضي والمستقبل أمورٌ، لا على طريق التَّعريفِ بالأسرارِ العقلية، ونذكر ها هنا خبرَ المبعث، وشقَّ جبريل لقلبه عليهما السلام، وغسلَه بماءِ زمزمَ، وحشوَه السَّكينَة والحكمَةَ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فَكأنَّما أشَاهِدُ الأمْرَ مُشاهَدةً " (¬1). ¬
الأصل الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - بلغ الخلق ما أوحي إليه من صلاح العباد
قلتُ: وقولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرؤيا واختصام الملأ الأعلى: " فَعَلِمْتُ ما في السَّمَاواتِ والأرْضِ " (¬1). قال: وهذا مِمّا اتَّفق عليه الأوائلُ مِنَ الحُكماء، فضلاً عَنِ الأولياءِ من الحُكماء الرَّاسخين، القاصرين نظرهم على الاقتباسِ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المعترفين بقصورِ كُلِّ قوَّةٍ سوى هذه القوة. الأصل الثاني: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - بلّغَ (¬2) الخَلْقَ ما أُوحِيَ إليه من صلاحِ العبادِ ¬
الأصل الثالث: أن أعرف الناس بمعاني كلامه هم الذين شاهدوا الوحي والتنزيل
فيِ مَعادهم ومَعاشهم، وأنَّه ما كتمَ شيئاً مِنَ الوحي، ولا طواه عَنِ الخلق، فإِنَّه لم يُبْعَثْ إِلاَّ لذلك، فلذلك كان رحمةً للعالمين، ولم يكن مُتَّهَماً فيه، كيف، واللهُ تعالى يقول: {وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِظَنِين} (¬1) [التكوير: 24]، وعُلِمَ ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - علماً ضرورياًً في سائِرِ أحواله مِن حرصه على (¬2) إصلاح الخلق، وشغفِه بإرشادهم إلى صلاح مَعادهم ومَعاشهم، ما ترك شيئاً مِمَّا يقرِّبُهُم إلى الجَنة، ويرضي الله، إِلاَّ دلَّهم عليه، وأمرهم به، وحثّهم عليه، ولا شيئاً مِمَّا يقربُهم إلى النَّار وإلى (¬3) سَخَطِ الله، إِلاَّ حذَّرهم منه، ونَهاهم، وذلك في العلم والعمل (¬4) جميعاًً. الأصلُ الثالث: أَنَّ أعرفَ النَّاس بمعاني كلامه، وأحراهم بالوقوف على كُنهه، ودرْكِ أسراره، هُمُ الَّذِين شاهدوا الوحي والتَّنزيل، وعاصروه وصَحِبُوه، بل لازموه آناءَ الليل والنهار، مستمرِّين لِفَهْمِ معاني كلامه، وَتَلَقِّيه بالعمل به أوَّلاً، والنَّقلِ إلى من بَعْدَهم ثانياً، والتَّقرُّب إلى الله تعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره. فليت شعري أيُّها المتكلمون، تتَّهمونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخفائه، وكِتمانه عنهم (¬5)، حاشا منصحت النُّبوَّةِ عن ذلك، أم (¬6) تتهمون أولئك ¬
الأصل الرابع: أنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى البحث
الأكابرَ في فِهم كلامه، وإدراك مقاصدِه، أو تَتَّهمونهم في إخفائه وسَتْره بعد الفَهْمِ، أو تتَّهمونهم في معاندته من حيث العمل، ومخالفته على سبيل المكابرة مع الاعتراف بتفهُّمه وتكليفه، فهذه الأمور لا يَتَّسِعُ لعاقل (¬1) ظنها. الأصلُ الرابع: أنَّهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دَعَوا الخَلْقَ إلى البحث، والتفتيشِ (¬2)، والتَّنقير، والتَّأويل، والتَّعرض (¬3) لمثل هذه الأمور، بل بالغوا في زجر مَنْ خاض فيه، وسأل عنه على سبيل ما سنذكره عنهم. فلو كان ذلك مِنَ الدِّين، أو مِنْ مدارك علوم الدِّين، لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً، ودعَوْا إليه أولادَهم وأهليهم، ولَشَمَّروا عن ساقِ الجَدِّ في تأسيسِ أُصوله، وشرحِ فُروعه وقوانينه تشميراً أبلغَ مِنْ تشميرهم في تمهيد قواعدِ الفرائضِ والمواريثِ، وتمثيلهم لذلك، وسؤالِ بعضهم المباهلة فيها، وتقاسمهم فيها (¬4)، ويَناظرهم عليها، ونذكر ها هنا تمثيلَ عليٍّ، وزيدٍ رضي الله عنهما للجَدِّ والأخوة، وقولَهم في الكلالة، وقولَهم في الجَدِّ، إلى سائر ذلك، فيعلم بالضرورة مِنْ هذه الأُصول أنَّ الحَقَّ ما قالوه، والصوابَ ما أرادوه، ولا سِيَّما وقد أثنى عليهم صلوات الله عليه، فقال: " خَيْرُ الناسِ قرْني، ثمَّ الذين يَلونَهُمْ، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ " (¬5). البرهان الثاني: وهو التَّفصيلي، وهو أنْ نقول: ادَّعينا أنَّ الحقَّ هو ¬
مذهبُ السلَفِ، وأنَّ مذهبهم (¬1) هو توظيفُ الوظائف السَّبع، وقد ذكرنا بُرهان كُلِّ وظيفة منها، فَمَنْ خالَفَ، فليت شعري، أَيُخَالِف في قولنا الأول: إِنه يجبُ تقديسُ الله وتنزيهه عَنِ المخلوقات ومشابهتها، أم في قولنا الثاني: إِنه يجبُ عليه التَصديق والإِيمان بما قاله الرَسولُ - صلى الله عليه وسلم - على المعنى الذي أراده؟ أم في قولنا الثالث: إنَّه يجبُ عليه الاعترافُ بالعجز عن كُنْهِ ذات الله تعالى وصفاته؟ أم في قولنا الرَّابع: إِنه يجبُ عليه السُّكُوتُ عَنِ السُّؤال، والخوض فيما وراء طاقته؟. أم في قولنا الخامس: إنه يجبُ عليه إمساكُ اللِّسانِ عن تعبير الظَّواهر بالزِّيادة والنُّقصان؟ أم في قولنا السَّادس: إنَّه يجب عليه كفُّ القلبِ عَن التَفَكُّر فيه مع عجزه عنه، وقد قال لهم (¬2) عليه السلام: " تَفَكَّرُوا في خَلْقِ الله وَلَا تَفَكَّروا في ذاتِ اللهِ " (¬3)؟ أم في قولنا السابع: إِنه يجبُ عليه التسليم لله تعالى، ولرسوله ¬
البرهان السمعي: وطريقه أن نقول: الدليل على أن الحق هو مذهب السلف أن نقيضه بدعة
- صلى الله عليه وسلم -، ولأصحابه النَّاقلين عنه لوازم الشَّريعة. فهذه الأمور بيانُها برهانُها، ولا يَقْدِرُ أحد على جَحدها، وإن كان كارهاً، إن كان من أهل التَّمييز، فضلاً عَنِ العُقلاء العلماء، فهذه هي البراهين العقلية. النمط الثاني: البرهان السمعي على ذلك، وطريقه أن نقول: الدليلُ على أنَّ الحق هو مذهبُ السلف: أنَّ نقيضَه بدعةٌ، والبدعةُ مذمومةٌ، وضلالة، والخوضُ في التأويل بدعة، فكان نقيضُه -وهو (¬1) الكف عن ذلِك- سنَّة محمودة، فهذه ثلاثة أصول: أحدها: أنَّ البحث والتفتيش والسُّؤال عن هذه الأمور بدعة. الثاني: أنَّ كل بدعةٍ مذمومةٌ. الثالث: أنَّ البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضُها -وهو (¬2) السُّنَّة القويمةُ- محمودةً، ولا يُمْكنُ النِّزاعُ في شيْء من هذه الأصولِ، وإذا (¬3) سُلِّمَ، أنتج (¬4) أنَّ الحقَّ مذهبُ السلَفِ. فإن قيل: لِمَ تُنكرون على من يمنعُ كونَ البدعة مذمومة، أو يمنع (¬5) كونَ البحثِ والتفتيش بدعة، فَيُنَازع في الأصلين الأولين، ولا يُنازع في الثَّالث لظهوره؟ فالجواب (¬6) أن نقول: الدليلُ على إثباتِ الأصلِ الأولِ: اتفاقُ ¬
الأمَّة قاطبةً على ذمِّ البدعة، وزجرِ المبتدع، وتعييرِ من يُعْرَفُ بالبدعة، وهذا مفهومٌ على الضرورة مِنَ الشَّرع، وذلك غير واقعٍ في محل الظن، وذَمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدعة عُلِمَ بالتَّواتر بمجموع أخبارِ آحاد تُفِيدُ العلمَ القطعيَّ جملتُها، وإِن كان الاحتمالُ يتطرق إلى آحادها، وذلك كَعِلْمنَا بشجاعةِ عليٍّ عليه السلام، وسخاءِ حاتِم، وحُبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها، وبِمَا جرى مجراه، فإنَّه عُلِمَ قطعاً بأخبارِ آحادٍ بلغت في الكثرة مبلغاً لا يحتمل كَذِبُ ناقِلِها، وإِن لم تكن آحادُ تلك الأحاديث متواترةً مثل ما رُوِيَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال (¬1): " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدي، عَضُّوا عَلَيْها بالنوَاجذ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ، فَإِنَّ كل مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ، وَكل بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " (¬2). ¬
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " اتَّبعوا ولا تَبْتَدِعُوا، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قبلَكمْ لمَّا ابْتَدَعُوا في دِينِهِمْ، وَتَرَكُوا سُنَنَ أَنْبيَائِهِمْ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ماتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، فقَدْ فُتِحَ عَلى الإسلامِ فَتْحٌ " (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ مَشَى إلى صَاحِبِ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَه، فَقَدْ أَعَان عَلى هَدْمِ الإِسْلاَمِ " (¬3). ¬
وقال عليه السلام: " مَنْ أعرض عن صَاحِبِ بدْعةً بُغضا له في اللهِ، ملأ اللهُ قلْبه أمناً وإيماناً، ومَنِ انتهر صَاحِبَ بدعةٍ، رفع الله له مئة درجة، ومَنْ سلَّم على صاحب بدعة أو لَقِيَهُ بالبشرى، فَقَد استخفَّ بمَا نُزِّلَ (¬1) على محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬2). " إِنَّ الله لا يَقْبَلُ لِصاحِبِ بِدْعَةٍ صَرْفَاً ولا عَدْلاً، ويَخْرُجُ مِنَ الإِسلامِ كما يَخْرُجُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّة، أو كما يخْرُجُ الشَّعْرُ من العَجِينِ " (¬3). قلتُ: هذه الأحاديث غرائبُ أو مناكير، إِلاَّ الأوَّلَ، وفي كُتب الأئمَّة السِّتّة وغيرِهم مِنْ حُفَّاظ الإِسلام ما يغني عنها، ويَزيدُ عليها. قال الشَّيخ: فهذا وأمثالُه ممَّا تجاوزَ حدَّ الحصر أفاد علماً ضرورياًً بِكَوْنِ البدعةِ مذمومة. فإن قيل: لا نسلم أنَّ كُلَّ بدعة مذمومة، ولكن ما دليلُ الأصلِ الثاني، وهو أنَّ هذا بدعة؟ والبدعة عبارة عن كلِّ مُحْدَثٍ، فلم قال الشَّافعي رحمه الله: إنَّ الجماعة في التَّراويح بِدْعَةٌ، وهي بدعة حسنة (¬4)؟ وخوضُ الفقهاء في تفاريع المسائل، ومناظرتهم فيها مع ما ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
أبدعوه من نقضٍ وكسر، وفساد وضع، وتركيب، وفنون مجادلة، وإلزام، كلُّ ذلك مُبدعٌ لم يُرْوَ عن الصحابة شيءٌ من ذلك، فدلّ أنَّ البدعة المذمومة ما رفع سُنَّةً مأثورة، ولا نُسلِّمُ أن هذا رافعٌ لسنَّة مأثورةٍ، ولكنَّه مُحدثٌ ما خاض فيه الأوَّلون، إمَّا لاشتغالهم بما هو أهمُّ منه، وإما لسلامة القلوب في العصر الأول عن الشكوك والتَّردُّدات، فاستغنوا عن الخوض فيه، وخاض فيه من بعدهم، لحدوث الأهواء، والبدع، ومسيس الحاجة إلى إبطالها، وإفحام منتحليها (¬1). والجواب: أنَّ ما ذكره أنَّ البدعة المذمومة كل مُحدَثٍ رفع سُنَّة قديمة هو الحق، وهذه بدعة رفعت سنة قديمة، إذ كان سنة الصحابة رضي الله عنهم المنع من الخوض فيه، وزجرَ من سأل عنه، والمبالغة في منعه، ففتحُ باب السؤال عن هذه المسائل، والخوضُ في غمرة هذه المشكلات على خلاف ما تواتر عنهم، بدعةٌ، وقد صحَّ ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم بتواتر النَّقل عن التابعين من نقلة الآثار، وسير السلف صحة لا يتطرق إليها ريب، ولا يتخالجها (¬2) شكٌّ، كما تواتر خوضهم في مسائل الفرائض، ومشاوراتهم (¬3) في أحكام الوقائع الفقهية العملية، وحصل العلم به أيضاً بأخبار آحاد لا يتطرق الشك إلى مجموعها، وإن تطرق الاحتمال إلى آحادها كما ذكرنا في ذم البدعة، وكما نقل عن عمر رضي الله عنه إلى قول الشيخ: فإذن، قد عُرِفَ على القطع أنَّ هذه بدعة ¬
مخالفة لسنة السلف، لا كخوض الفقهاء في التفاريع، فإنَّ ذلك -وإن كان محدثاً- فليس فيما نقل عن السلف زجرٌ عن الخوض فيه، بل نقل عنهم الإمعان في الخوض في مسائل الفرائض، فعرف جواز الخوض فيه. وأما ما أُبدع من فنون المجادلات، فهو بدعةٌ مذمومةٌ عند أهل التحصيل، وذلك أن ما يشوِّشُهُ الجدل (¬1) أكثرُ مما يمهِّده، وما يفسدُهُ أكثر ممَّا يصلحه، والجدل يضاهي (¬2) ضرب الشجرة بالمدَقَّة من الحديد رجاء تقويتها، وهو يكسر (¬3) أجزاءها ويفسدها، والمشاهدة تكفيك في هذا بياناً، وناهيك بالعيان برهاناً، فَقِسْ (¬4) عقيدة أهل الدين، والصلاح والتقى من عوام الناس، فضلاً عن خواصِّهم بعقيدة المتكلمين والمتجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ، لا تحركه الصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس عقيدته بتقسيمات (¬5) الجدل كخيطٍ مُرسل في الهواء تُفيئه الريحُ مرة هكذا، ومرة هكذا. قلت: إنما يعني (¬6) هذا الجنس الخاصَّ من العامة، وهم أهل التقوى، والصلاح، والتمييز إذا شكك عليهم في جنسٍ مخصوصٍ من العقائد، وهو المعلوم من الدين بالضرورة من ثبوت الرب سبحانه، وصفات الكمال له، وثبوت (¬7) النبوة، ونحو ذلك، ولم يُرد أنَّ جميع العوام لا يشكون في دقائق العقائد، فإنهم لم يثبتوها أوَّلاً، فكيف لا ¬
من ذهب إلى تحريم الكلام وذمه
يشكون فيها ثانياً؟ قال الشيخ: وقد ذهب إلى تحريم الكلام، وذمه أئمة الدين، وهم عمدة الإسلام والمسلمين، منهم الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وجميع أهل الحديث. قال الشافعي رضي الله عنه: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير من أن يلقاه بشيءٍ من الكلام (¬1). وقال: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويطاف عليهم في العشائر والقبائل، ويقال (¬2): هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً ممن نظر في الكلام إلا وفي (¬3) قلبه دَغَلٌ. ¬
وقال مالك: أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه، أيدع دينه كل يوم لدين جديد، يعني: أن أقوال المتكلمين تتقاوم. وقال: لا يجوز شهادة أهل البدع والأهواء. فقال بعض أصحابه في تأويل كلامه: إنه أراد بأهل الأهواء: أهل الكلام على أيِّ مذهبٍ كانوا. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق (¬1). وقال الحسن: لا تُجالسُوا أهل الأهواء، ولا تُجادلوهم، ولا تسمعوا منهم. وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم فيه (¬2) من التشديد. قلت: ونقل محمد بن منصور الكوفي (¬3) نحو (¬4) هذا عن الإمام القاسم (¬5) بن إبراهيم وغيره من قدماء أهل البيت عليهم السلام، ذكره في كتاب " الجملة والألفة "، ونقله عنه (¬6) السيد الشريف العلامة أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع الكافي "، ونقلتُ منه كثيراً في مسألة القرآن من (¬7) هذا الكتاب، وهو نقلٌ مفيد. ¬
فصل: ولعلك تقول: الكف عن السؤال والإمساك عن الجواب من أين يغني
قال الشيخ: فصل: ولعلك تقول: الكف عن السؤال، والإمساك عن الجواب من أين يغني؟ وقد شاع في البلاد هذه الاختلافات، فظهرت التعصبات، فكيف سبيل هذه المسائل؟. فإن (¬1) الجواب في كل مسألة يسأل عنها: ما قال مالك رحمه الله في مسألة الاستواء، إذ (¬2) قال: الاستواءُ معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة (¬3)، لينحسم سبيل الفتنة، ولا يقتحم ورطة الخطر، لأنا لا ندري ما الذي أراده الله تعالى، ولم نكلف نحن ولا أنت أيها السائل معرفة ذلك، ومن لم يقنع بما ذكرناه، لم يزده الإكثار إلا تحيُّراً، فهذه صفة مذهب السلف، ولا عدول لأحدٍ عنه، ولا بدل (¬4) منه إلى قول الشيخ (¬5). فصل: ولعلك تقول: لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه (¬6) الأسباب، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء، وقد كُلِّفَ الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقادٍ هو من جنس الجهل، لا يميز فيه الباطل عن الحق. ¬
فالجواب (¬1): أنَّ هذا غلط ممَّن ذهب إليه، بل سعادة الخلق أن (¬2) يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقاداً جازماً لجبلَّة (¬3) قلوبهم على موافقة الحق، لأنه ليس المطلوبُ الدليل المفيد، بل الفائدة هي حقيقة الحق على ما هي عليه، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه، ويُنصِّرانه، ويُمجسانه " (¬4)، فمن اعتقد حقيقة الحق في الله تعالى، وفي صفاته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فهو سعيدٌ، وإن لم يكن ذلك بدليل مجرد كلامي، ولم يكلف الله عبادة إلا ذلك، وذلك معلوم، على الضرورة بجملة أخبارٍ متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في توارد (¬5) الأعراب عليه، وعرضِه الإيمان عليهم، وقبوله ذلك (¬6)، وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم التفكر في المعجزه، ووجه دلالتها، في حدوث العالم، وإثباث محدثه، وسائر الصفات، بل الأكثر من أجلاف العرب لم يفهموا ذلك، ولم يدركوه بعد طول المدة، بل كان الواحد منهم يُحلِّفُه عليه السلام فيقول: [أنشدك] بالله آلله أرسلك ¬
رسولاً؟، فيقول: " اللهُ الله أرسلني رسولاً " (¬1)، فكان (¬2) يصدقه (¬3) بيمينه وينصرف، ويقول الآخر إذا قدم عليه، ونظر إليه: والله ما هذا وجه كذاب (¬4)، وأمثال ذلك مما لا يحصى، بل كان يُسلِمُ في غزوةٍ واحدةٍ في عصر الصحابة آلاف، لا يفهم الأكثرون منهم أدلة الكلام، ومن كان يفهم، فيحتاج أن يترك صناعته، ويختلف إلى مُعلِّمِهِ مُدَّةً، ولم ينقل قط شيءٌ من ذلك. فعلم (¬5) علماً ضرورياً أن الله تعالى لم يكلف الخلق الإيمان والتصديق على طريقة المتكلمين. ¬
قلت: فهذا من السمع، ومن النظر: أنَّ (¬1) الدليل كالطريق، والوسيلة إلى الاعتقاد الصحيح، فمن حصل الاعتقاد الصحيح، لم يجب التشاغل بالطريق، مثل سائر الوسائل، خصوصاً إذا خيف من الاشتغال بالوسيلة فوات الأمر المتوسل إليه بالقرائن والتجارب (¬2)، وربما انتهى الأمر إلى تحريم الخوض في ذلك، حيت يغلب على الظن أن فيه مضرة مظنونة للاتفاق على أن دفع المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، وسيأتي لهذا مزيد بيان وتحقيق إن شاء الله تعالى. ثم المتكلمون هنا (¬3) مختلفون، فمنهم من يخلع رِبْقَةَ المراعاة لأحوال السلف، ويصرح بتكفير العامة، فيقعُ في الحديث المتفق على صحته: " إذا قال المُسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدُهُمَا " (¬4). وهؤلاء قسمان: منهم من يعتقد هذا ولا يُظهرُهُ، ومنهم من يظهره، والطائفة الأخرى: منهم الذين يراعون ظاهر أحوال السلف، فيقعون في المناقضة، لأنهم يجيبون بأن الأدلة جليَّةٌ، تعرف بالفطرة مع أدنى تأمل، وجوابهم هذا يستلزم إمَّا الاستغناء عن علم الكلام -وهو المقصودُ- وإما دعوى أن أدلة علم الكلام كذلك، وهو باطل بالضرورة، والتجربة تدل على ذلك، فإنا نُحضر أذكى العامة، بل أذكى علماء الفنون غير الكلام، فلا يستطيعُ فهم أدلتهم بالفطرة في المدة اليسيرة، وقد ذكرت فيما مضى ما ذكره الرازي في " المحصول " في دفع هذا بقوله: إنه يستحيل أن يكون العلم بالبرهان جملياً، قال: لأن البرهان إذا تركب من عشر مقدمات، ¬
فإن قيل: بم يميز المقلد بين نفسه وبين اليهودي المقلد
فيستحيل ممن علم تسعاً، وقلَّد في العاشرة أن يكون عالماً، ويستحيل ممَّن علم العشر المقدمات أن يزيد فيها، وهذا الذي ذكره ضروري، وهو يمحو تخيُّلهم في الجواب بالمرة (¬1). قال الشيخ: فإن قيل: بم يميز المقلد بين نفسه، وبين اليهودي المقلِّد؟ فالجواب: أن المقلد لا يعرف التقليد، ولا يعرف أنه مقلد من (¬2) يعتقد في نفسه أنه محق عارف، ولا شك في معتقده (¬3)، ولا يحتاج في نفسه إلى التمييز، لقطعه (¬4) بأن (¬5) خصمه مُبطِلٌ وهو محق، ولعله - أيضاً- مستظهر بقرائن وأدلة ظاهرةٍ يرى نفسه مخصوصاً بها، ومميزاً بسببها عن خصمه، وإن كان اليهودي يرى نفسه مثل ذلك، فإنَّ ذلك لا يشوش على المحق اعتقاده، كما أن العارف الناظر يزعم أنه يميز نفسه عن (¬6) اليهودي بالدليل، واليهودي (¬7) المتكلم الناظر يزعم أنه مميز عنه بالدليل، فدعواه تلك لا تُشككُ الناظر العارف، فكذلك لا يُشكك المقلد القاطع، ويكفيه في الإيمان أن لا تشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه، فهل رأيت عامياً قط قد اغتمَّ وحزن من حيث تعسَّر عليه الفرقُ بين تقليده وتقليد اليهودي؟ بل لا يخطر ذلك ببال العوام، وإن خطر ببالهم وشوفهُوا به، ضحكوا من قائله، وقالوا: ما هذا إلا هذيان، ¬
وكأن بين الحق والباطل مساواةٌ حتى تحتاج إلى الفارق، الفرق أنه على الباطل وأنا على الحق، وأنا متيقن لذلك، غير شاك فيه، فكيف أطلب الفرق حيت يكون الفرق معلوماً قطعاً من غير طلب؟ فهذه حالة المقلِّدين الموقنين، وهذا إشكالٌ لا يقع لليهودي المبطل، لقطعه بمذهبه مع نفسه، فكيف يقع للمقلد المسلم الذي وافق اعتقاده ما هو عند الله تعالى؟ فظهر بهذا على القطع أنَّ اعتقاداتهم جازمة، وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك. انتهى كلامه رحمه الله. وأقول: إن الله تعالى قد فطر الخلق على معرفته، كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، وأوضح ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وزاده بياناً بقوله: " كل مولود يولد على الفطرة " (¬1)، واتفق الكل على صحته، وهذه الفطرة تقتضي الإيمان بنفسها، وترجحه على ما ينافيه، سواءٌ كانت علماً ضرورياً، كما قاله أهل المعارف من المعتزلة، أو نظرياً (¬2) جلياً كما يقوله الجمهور، أو يقيناً ظنياً يقتضي من سكون النفس ما يقتضيه النظر، فمن قبلها، ولم يعارضها بما هو دونها من شُبَهِ (¬3) المبطلين، أثابه الله الزيادة في إيمانه، ومن عصى بعنادٍ، أو تقليدٍ لأبويه أو شيوخه، استحق العقوبة، كما قال تعالى: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة} [الأنعام: 110]، وكما قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 211]، وقد أوجبت المعتزلة الخاطر على الله تعالى، وهو زيادة على الفطرة، فكيف لا يفترق ¬
فإن قيل: قد شكيت الوسوسة على عهد رسول الله وهي تنافي الجزم
الحال بين الفطرة وضدها مع وجوب الخاطر عند اعتقاد الباطل دون الحق. جواب آخر: وهو أن الخلاف قد ثبت في العلوم الضرورية، وللمخالفين (¬1) في ذلك سُنة معروفة، يصعب جوابها على العامة ضرورة، وأما (¬2) الخاصة، فإنما يسلكون في ردها مسلك السنة وأهلها في الرد على المبطلين، وذلك لأن ردها بالاستدلال محال، فإنها تشكك (¬3) في مقدماته الضرورية التي نشأ عليها، فثبت أن أهل الكلام رجعوا إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله " (¬4) الحديث. فإن قيل: قد شكيت الوسوسة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تنافي الجزم، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن النظر في الأدلة لا يقطع الوسوسة، وقد قال الخليل عليه السلام: {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260}، وهذا مشترك الإلزام، فما أجابوا به فهو جوابنا. ¬
والثاني: أنها لا تناقض (¬1) الجزم؛ لأن متعلقها مختلفٌ غيرُ متَّحدٍ، والجزم من فعل الله تعالى إن كان ضرورياً، ومن فعل العبد أو آثار فعله إن لم يكن ضرورياً، والوسوسة ليست من فعل العبد قطعاً؛ لأنَّها ضرورية، غير واقفةٍ على اختياره، وهي من فعل الشيطان، لما (¬2) ورد من النصوص الصحاح في الأمر بالتَّعوُّذ (¬3) منه عند ذلك، ولما يشهد بذلك من القرآن الكريم من نسبة جميع ما يعارض الحق والنبوات إلى الشيطان، وهذا (¬4) في حق من لا ذنب له، والسمعُ دلَّ (¬5) على أن من هذا حالُه، فإنَّ الله يهديه، ويشرح صدره للإسلام، ويمنع (¬6) رجحان ظن الباطل. والعقلُ عند المعتزلة يوجبُ ذلك مع السمع في حقِّ المطيع والعاصي، فلا يخاف من هذا على قواعدهم مطلقاً. وأما من يستحق العقوبة بسلب اللُّطف عند أهل السنة، فقد يُعَاقَبُ من جهة الله تعالى بذلك (¬7)، وبأكثر منه (¬8)، كما لم يُؤمنوا به أوَّل مرَّة كما قال تعالى، وكما خالفوا الفطرة التي فطرهم عليها وغيَّرُوها، وكما حكى سبحانه من التيسير للعسرى، وكما سيأتي (¬9) مشروحاً واضحاً في مسألة الأفعال، ومسألتي الأقدار والمشيئة، وبيان ذلك وقوع الوسوسة في الضروريات مع الموسوسين. ¬
وأما الطمأنينة التي تنتفي معها الوسوسة، فإنها موهبة من الله تعالى بالاتفاق، لأنها ضرورية غير واقفة على اختيار العبد، وقد يكون سببها مشاهدة الخوارق كما في قصة الخليل عليه الكلام، وقد يكون سببها كثرة اليقين والتصديق بوقوع الخوارق حتى يكون (¬1) السامع للأخبار كالمعاين. وأساس هذا كثرة المعرفة لكتب معجزات الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم، ومن أنفس ما صُنِّفَ في ذلك: كتاب " الشفاء " (¬2) للقاضي عياض، وأنفس منه أوائل " البداية والنهاية " (¬3) لابن كثير. وقد يكون سببها كثرة الصلاح. وأبعد أسبابها النظر على طريقة المتكلمين، بل هو منافر لها، لأنه عند أهله مبني على الشك، إذ لا يصح النظر عندهم في المقطوع بصحته. والجواب عليهم (¬4): أن معرفة الله جلية في الفطرة، سابقةٌ للشك كما قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [إبراهيم: 10]، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث، والشك لا يحل إلا أن يقع بغير اختيار، فيعفى عنه لقول الخليل: {ولكن ليطمئن قلبي}، وللنصوص الصحاح. ¬
وهنا (¬1) جواب آخر على أصل السؤال وهو قولهم: بم يُميِّزُ المقلِّد المسلم نفسه عن اليهودي المقلِّد، وذلك أن نقول (¬2): هذا السُّؤال مبنيٌّ على التسوية بين الظنون والقرائن، وذلك غير مسلم، والتفرقة بين ذلك جلية فطرية، لأن الله تعالى خلق الخلق على فطرة الإسلام كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. واتفق الجميع على صحة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كل مولود يولد على الفطرة (¬3)، وإنَّما أبواه يهودانه وينصِّرانه "، وهذه الفطرة عند أهل المعارف علمٌ ضروريٌّ، وعند غيرهم ما يقاربه ويُسمى باسمه، ولا يكاد يتميز عنه من اليقين (¬4) المستند إلى مجموع قرائن لا يمكن التعبير عنها، فكيف لا يتميز الفرق بين ذلك وبين ما يُعارضه من وسواس الشياطين، وكيف لا نُدركُ الفرق بين ذلك بضرورة الفطرة المخلوقة بعدل الله تعالى، وفضله، وحكمته، وكمالِ حجته. والتحقيق على أصل الجميع أن ظن الباطل لا يكون راجحاً في الابتداء، ولا يترجح إلا بالعقوبة المستحقة، وما لا يكون راجحاً، لا يكون في مخالفته مضرَّة (¬5) مظنونةٌ، ولا يجبٌ الاحتراز منه، وظن الحق ¬
راجحٌ بالفطرة الأولة (¬1)، وفي مخالفته مضرة مظنونة، ودفع المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، وقد أخبر الله تعالى أنه كفَّر سيئات الذين آمنوا بما نُزِّل على محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحق من ربهم تعالى، وأصلح بالهم (¬2)، وعلل ذلك بأنهم اتبعوا الحق من ربهم، بخلاف الذين كفروا واتبعوا الباطل (¬3)، والذين (¬4) اهتدوا زادهم هُدى وآتاهم تقواهم (¬5). والعاميُّ يدرك ذلك، فإن العامي إذا أخبره كثير ممَّن يثق به غاية الثقة بأمرٍ موافقٍ للفطرة والشُّهرة، ثم عارضه من يستند إلى معرفة العامي أنه كذابٌ، أو يكون عند العامي مجهول الحال، فإن العامي يدرك التفرقة بين ظنَّه المستند إلى خبر الثقة المخبور المأمون، الموافق للفطرة والشهرة، وبين ظنِّ مخالفة المستند إلى قول الكذَّاب، أو المجهول، بل لا يُسمِّيه ظناً حتى يحتاج إلى فارقٍ، بل يقطع أنَّه باطل، وهذا مثالٌ نقيس عليه سائر القرائن (¬6)، فإنَّ التفرقة بين الظُّنون والقرائن ضروريةٌ غير مفتقرةٍ إلى الطلب، وقد دلَّ على ذلك السمع، حيث قال الله تعالى: {إن بعض الظن إثمٌ} [الحجرات: 12] فلو لم يكن بين الظن الصحيح والظن الباطل فرق، لكان الظن كله حراماً أو حلالاً، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الظن المحرم هو الذي لا (¬7) يستند إلى قرينةٍ صحيحةٍ، ¬
والظنُّ الجائز مخالفة منهم (¬1)، فقد تطابق العقل، والسمع (¬2)، والخاصة، والعامة على التفرقة بين الظنون والقرائن، وكيف لا يكون ذلك، وجميع أفعال العقلاء مبنيَّةٌ على الظنون والترجيح بين المتعارض (¬3) منها، فعمَّال الآخرة يعملون على ظن الإصابة، والقبول، وحسن الخاتمة، وعمال الدنيا كذلك، فالزراع يزرع على ظن التمام، والتاجر يسافر على ظن الفائدة، والملوك يحاربون على ظن النصر، والفقهاء يفتون على ظنِّ الإصابة، والمراض (¬4) يتداوون على ظنِّ النفع، والمؤرخون يؤرخون على ظن التصديق، وأهل العلم يحكون ما قالوهُ على ظن الصدق، والخلق يسأل بعضهم بعضاً، ويكتب بعضهم إلى بعضٍ، كل ذلك على أن الظنون معمول بها، ومتميز راجحها من مرجوحها، وقويُّها (¬5) من ضعيفها، وغالبُها من مغلوبها (¬6)، وربما احتفّ (¬7) بالخبر من القرائن ما يرفعه إلى مرتبة الضرورة، ولا سيما في معرفة الله تعالى، وصدق رسله (¬8) التي هي الفطرة بالنص الصحيح (¬9)، ولا سيما وطائفة جلَّةٌ من حُذَّاق المتكلِّمين يقولون: إن معرفة الله تعالى ضرورية، والطائفة الأخرى يقولون: إنها قرينة جلية، فلا شكَّ في قوة القرائن الموافقة لذلك الَّتي مادُّتها من كلمات الله التي لا ينفدها البحر يمُدُّه من بعده سبعة أبحر، والتي (¬10) مثَّلها الله تعالى في كثرة موادِّها، لا في ¬
مقدارها {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، ومثَّلها سبحانه بكلمةٍ طيبةٍ أصلُها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلها كُلَّ حين، فيا عجباً، كيف يدق الفرق بين الظن الموافق، وظن كلمة الباطل المشبهة بشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟ وبظلماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ، يغشاه موجٌ، من فوقه موج، من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نُورٍ. بل المعلوم للعقلاء أنَّه لا يحصلُ ظنٌّ راجح بما خالف الفطرة والبراهين الجلية، اللهم إلا أن يعاندوا في أول الأمر، ويعارضوا الظن الراجح بالشك المساوي، بل الوهم المرجوح، فيخذلهم الله كما لم يؤمنوا به أول مرة، ويعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، ويكونوا من الذين في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضاً. الآيات في أول البقرة، ومن الأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فهؤلاء لا يعدلون عن آيات الله تعالى بعد أن جاءتهم مبصرة، واستيقنتها أنفسهم إلى الشُّبه الخيالية، والمتشابهات الوهمية التي يتبعها الذين في قلوبهم زيغٌ ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وقد أخبر الله تعالى في مُحكَم كتابه: إنما أنزل المتشابه ليهدي به كثيراً، ويضل به كثيرا، وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين. فكيف لا يعرف العاميُّ الفرق بين الفطرة والبدعة، والفرقُ بينهما ضروري من جملة الفطرة، فإنَّ الدين الحق إذا كان هو الفطرة، فمعرفته،
والطمأنينةُ به، وشرح الصدر، ونكارة ضده من الفطره أيضاً. فإذا تقرَّر أنَّ معرفة العامي للفرق بين القرائن أمر جلي فطري، كان فرقه بين القرائن المولِّدة لظنِّه من قبيل العلوم الضرورية، فإنه -وإن لم يعلم أن ظنه مطابق لمظنونه- فإنه يجزم باعتقاد ذلك، ويعلم أن القرينة الدالة على حسن العمل بظنه قرينة صحيحة مقتضية لحسن العمل به بالفطرة الضرورية، كما أن الناظر يعتقد أن استدلاله -وإن كان يصحبه الوسوسة، وتجويز ورود الشُّبهة عليه- فإنه قد بناه على قواعد علمية، ومقدماتٍ يقينيةٍ، بل ضرورية عند المحققين. ومثال ما ذكرناه في حق المقلد: ما يذكره المتكلِّمون، وأهل الأصول في تجويز التقليد في الفروع للمسلم العامي متى قلَّد مسلماً عالماً بالفقه، وتحريم مثل ذلك على اليهودي العامِّي متى قلَّد يهودياً عالماً بشريعة موسى عليه السلام، وكما أن العامي المقلد للعالم المسلم يجوز له ذلك، ونجد فرقاً بين ذلك، وبين تقليد العامي اليهودي للعالم اليهودي، فكذلك العامي المسلم المقلد في الأصول للأنبياء والصالحين وعلماء المسلمين الذين يعرفهم، وتتحقَّق أمانتهم، ونجد خبرهم موافقاً (¬1) للفطرة الضرورية التي فطره وربُّه سبحانه عليها، نجد فرقاً بما (¬2) عرفه من ذلك وبين اليهودي المقلد في أصول دينه للخرَّاصين والمجاهيل من كذبة اليهود وكفرتهم الذين عُلِمَ كذِبُهم أو جُهِلَ حالهم، وإن كان العامي اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك، فالعامي المسلم يعلم فساد اعتقاده، كما يعلمه الناظر المسلم، وذلك بما قدَّمنا من أن علمه بصحة قرائنه وقوتها ورجحانها ¬
فطريٌّ ضروريٌّ، وإن كان المتولِّد عنه ظناً، إذ لا رابطة عقلية بين القرائن المعلومة ضرورة، وبين مدلولاتها المظنونة، بل المسلم العامي المقلد في الأصول للأنبياء كالعامي المسلم المقلِّد في الفروع للعلماء في التمكن (¬1) من معرفة الظن الراجح والمرجوح، والتَّفرقة بينهما، وفي أنه لا بد من تسلسل هذه الظنون إلى علومٍ فطرية جلية، وهي (¬2) إما العلم بحسن العمل بالظن الصحيح الذي لم يعارض المعلومات أو العلم بصحة القرينة، ولذلك سُمِّي الفقهاء علماء، فإنَّ طرق الفقه وإن كانت ظنيَّة - لكن وجوب العمل بها مستند إلى العلم القاطع، فالظن حصل في طريقها (¬3)، لا في وجوب العمل بها. جواب آخر: بل القرائن المقتضية لظن الأمر تقتضي بالضرورة ظن بطلان معارضه، ويستحيل الجمع بين ظن صحة أمر، واعتقاد صحة ظن (¬4) ما يضاده، فكيف يقال فيما يستحيل اجتماعهما: ما الفرق بينهما؟ بل نقلب السؤال على من سأل عن الفرق، فيقال: من أين جاء الاشتباه؟ فإن قال: من حيث إنَّ كلَّ واحد من المُحِقِّ والمبطل يعتقد ذلك في نفسه ومخالفه. قلنا: وكذلك (¬5) أهل النظر من المحقِّين والمبطلين يشتبهون من هذه الحيثية، فكما أن النظر الصحيح يميز الفاسد في العلماء، فكذلك ¬
الظن (¬1) الصحيح يميز الفاسد في العامة. وجواب آخر: وذلك (¬2) أنه لو لم تكن الظنون وقرائنها ومراتبها متميزة بعضها عن بعض، لم يمكن (¬3) المجتهدون (¬4) من علماء الفروع أن يرجِّحوا قولاً على قول، ولاتسعت المناظرة بينهم، بل قد صح تمييز المقلدين لهم لمراتبهم، حتى أوجب بعض أهل (¬5) النظر على العامي تقليد الأعلم الأورع -في ظنَّه- على الإجمال، أو الأقوى (¬6) دليلاً في المسألة على التفصيل، وممَّن (¬7) اختار ذلك المؤيد بالله، نصَّ عليه (¬8) في " الزيادات "، ولا يعارض هذا بالقول بتصويب كلٍّ من المجتهدين، فإنه إنَّما قيل به بالنَّظر إلى مطلوب الرَّبِّ سبحانه منهم، لأنه سبحانه إنما طلب منهم أن يجتهدوا في طلب الصواب، لا في إصابته، كما طلب من رماة المجاهدين أن يجتهدوا في إصابة الكفار، ولم يطلب منهم أن يُصيبوا في رميهم، وذلك من عدل الله سبحانه ورحمته، حيث علم أنه لا طريق لهم، ولا طاقة سوى الطلب، فقد أصابوا مُراد الله تعالى، وهو الاجتهاد في طلب الإصابة، ولم يصيبوا مطلوبهم الذي هو الإصابة، فالذي تحرَّى القِبْلَةَ كالذي يرمي الكُفَّار في الجهاد، يصيب ويخطىء، وهو في إصابته وخطئه مصيبٌ لمراد الله في طلب الصواب، فبان أنَّ ها هنا مطلوبين اثنين: ¬
أحدهما: لله تعالى، وهو طلب الإصابة للحق لا سوى. وثانيهما: مطلوب المجتهد، وهو إصابةُ عين ذلك الحق المشروع المطلوب، كالكعبة به في تحري القبلة، والخطأ الذي يطلق على المجتهد، بل على المعصوم هو الخطأ الذي نقيضه (¬1) الإصابة كخطأ الرامي للكافر مع أيه مصيب لمراد الله تعالى في رميه متعين الخطأ الذي نقيضه الصواب كفعل المحرمات. فأما القول بأنه لا مطلوب متعين، فمحال، لأن الطلب يفتقر إلى مطلوبٍ سابقٍ للطلب يتعلق به الظن، كالكعبة في تحرِّي القبلة، وهذا التلخيصُ مما ألهم الله سبحانه إليه، ولم أقف عليه لأحدٍ من العلماء، ولا عرضتُه على من عرف معارضاتهم (¬2) في هذه المسألة إلاَّ استجاده لتقريره لأدلَّة الفريقين، ورفعه لِمَا أورد بعضهم على بعض من الإشكالات الصعبة، ولله الحمد والمنة. ثم إني وقفت عليه بعد مده طويلة اختياراً للعلاَّمة محمد بن جرير الطبري، رواه عنه ابن بطال (¬3) في أواخر شرح " صحيح البخاري " أظنه في الكلام على مُحاجَّة آدم وموسى في أبواب القدر، فعرفت ما كنت ¬
أظنه من أنَّ مثل ذلك في وضوحه لا يخلو من قائل يقول به. وأما القول بأنَّ بعض الخطأ في الظنون يُعفي عنه، كالخطأ في فروع الإسلام، وبعضها لا يعفى عنه، كالخطأ في مخالفة الإسلام، فلذلك متعلق آخر، ودليل يرجع إلى السمع، وله من النظر وجهٌ واضحٌ، وهو أن العمل بالظن حَسَنٌ عقلاً، ما لم يعارض العلم بل لم يعارض ما رجحانه عليه كلمةُ إجماع، أو بيِّن (¬1) مكشوف القناع، وكلُّ ذلك مما ليس فيه نزاعٌ، ولا يجهلُه أحدٌ من الرعاع (¬2)، فَمَنْ عَلم الله أنه عاند الحق المعلوم أو المظنون، فهو الذي يستحقُّ العقوبة، وإن ظن بعد عناده أنه مُحِقٌّ، ثم الذين عاندوا منهم من أعلمنا الله تعالى بأنه علم عناده كالكفرة، فيقطع بذلك، ومنهم من لم يُعلمنا سبحانه بذلك في حقِّهم (¬3)، مثل المبتدعة من المسلمين، وكل أمرهم إلى الله تعالى، وستأتي الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى تعجيل يوم الفصل قبل يوم القيامة، وأنه لا يُخرجُ اللجاج من أدمغة أهل المِراء إلاَّ الحديد الذي أنزل الله تعالى مع القرآن، بل حكى سبحانه في محكم كتابه عن المعاندين إصرارهم على العناد يوم القيامة بما لا يُمْكِنُ تأويله، وذلك قولهم لجوارحهم حين أنطقها الله تعالى: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21]، فبان بما ذكرنا هنا مع ما تقدم عند ذكر الظنون وحسن العمل بها، والجواب عن من يردُّ على ذلك: أنَّ عامة المسلمين على سبيل هذا، ¬
اعتراض صاحب الرسالة المردودة بدعوى مخالفة إجماع أهل البيت، وجوابنا عليه
والحمد لله رب العالمين. وقد اعترض صاحب هذه الرسالة المردودة بهذا الجواب على هذه (¬1) الطائفة من أهل السنة في تركهم للخوض في الكلام بأمورٍ ذكرها في رسالة أخرى، فمنها دعوى (¬2) مخالفة إجماع (¬3) أهل البيت عليهم السلام. والجواب عليه: أنه (¬4) إمَّا أنْ يدَّعي إجماع القُدماء من أهل البيت عليهم السَّلام أو المتأخرين، وكلاهما ممنوع أمَّا القدماءُ (¬5) فقد وردت عنهم النصوص الكثيرة بمذهب (¬6) أهل الحديث، وصنف في ذلك محمد ابن منصور الكوفي كتابه المعروف بكتاب " الجملة والألفة " كما تقدم، وسيأتي. ورواه نصاً (¬7) من كلام عبد الله بن موسى، والقاسم عليهم السلامُ، وغيرهما من أئمَّة العترة الطاهرة عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام، وسيأتي من ذلك طَرَفٌ صالح في مسألة القرآن، وذلك موجود في كتب أهل البيت عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام، ومن لم يثبت عنه في ذلك (¬8) قولٌ، فعمله (¬9) بمقتضى مذهبِ أهل الحديثِ، وكيف يصحُّ له ¬
القطعُ بذلك، وهذه نصوصُ أمير المؤمنين علي عليه السلام وأفعاله في تقرير العامة تدلُّ على ما ذكرناه كما جاء مسنداً من رواية السيد أبي طالب عليه السلام في " أماليه "، ومرسلاً من رواية صاحب " نهج البلاغة "، وذلك قوله عليه السلام: فعليك أيُّها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته، وتقدَّمك فيه الرسل (¬1) بينك وبينَ معرفته إلى قوله في صفة الراسخين: اعلم أيَّها السائِلُ أنَّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السُّدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: آمنَّا به كُلٌّ من عند ربنا، فمدح اللهُ اعترافهم بالعجز عن تناولِ ما لم يُحِيطُوا به علماً، وسمَّى تركهمُ التَّعمُّق فيما لم يُكلِّفهُم منهم رسوخاً، فاقتصر على ذلك (¬2). انتهى كلامه عليه السلام. وأصرحُ منه قوله في وصيته لولده الحسن عليهما السلام، وهي مستكملة في النُّسخ الصحيحة من " النهج " كما شرحها ابن أبي الحديد بكمالها، لم يُسقِطْ منها شيئاً (¬3)، وفي بعض نُسخ الشرح سقوط أشياء منها يسيرة، وفي " أمالي " السيد أبي طالب عن السيد أبي العباس عليهما السلام قطعةٌ وافرةٌ منها، وإشارة إلى روايات لم يورداها بذلك الإسناد. وقد شرح ابن أبي الحديد هذا القدر الذي نقلتُه، ولم يطعن في ثُبوته مع مخالفته لمذهبه، وركُوبه العناد في تأويله، وهو قوله عليه السلام: ورأيت حين (¬4) عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن ¬
يكون ذلك وأنت مُقْبلُ العمر مُقتَبَل (¬1) الدَّهر، ذو نيّةٍ سليمةٍ، ونفسٍ صافيةٍ، وأن أبتدئك بتعلم كتاب الله عزَّ وجل، وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامِه، وحلاله وحرامه، لا أُجاوِزُ ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن (¬2) يلتبس عليك ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام (¬3) ذلك على ما كَرِهتُ من تنبيهك له أحبَّ إليَّ من إسلامك إلى أمرٍ لا آمنُ عليك فيه الهَلَكَةَ، ورجوت أن يوفقك الله فيه لرُشدك، وأن يهديك لقصدك، واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذٌ به [إلي] من وصيَّتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأوَّلون من آبائك والصالحون (¬4) من أهل بيتك، فإنهم لم يُدعُوا أن ينظروا (¬5) لأنفسهم كما أنت ناظرٌ، وفكروا كما أنت مُفكِّرٌ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمَّا لم يكلفوا، وإن أبت نفسك (¬6) أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلُّمٍ، لا بتورط الشبهات، وغُلُوِّ الخصومات إلى آخر ما ذكره عليه السلام في هذا المعنى وتأوَّله ابن أبي الحديد بما يستحيى من ذكره من أن ذلك لعلم عليٍّ عليه السلام بقصور الحسن عليه السلام عن درك هذا ¬
العلم. فكفى شاهداً ببطلان هذه البدعة ما أدَّت إليه من تفضيل شرِّ القرون على ريحانة سيِّد البشر، وعلى سيدي شباب أهل الجنة شَبِير وشَبَّر (¬1)، وكونها لا تصِحُّ إلا مع (¬2) تعسُّف التَّأويلات الباردة (¬3) لكتاب الله عز وجل، ثم لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لِظواهر أحوال السلف، وأفعالهم، وتقريراتهم، ثم لنصوص الأئمة من أهل بيت رسول الله (¬4). وكيف يظن بأمير المؤمنين أنه يجعل وصيته لولده الذي تخوَّف عليه الشبهات، ونصيحته التي يُخلِّفها له ولمن بعده بعد الممات من أغمض المتشابهات، وأدقِّ الشبهات، هيهات هيهات، لولا دفعُ الضرورات، وابتغاءُ الفتنة بالتَّأويلات كما هو شعارُ (¬5) الذين في قلوبهم زيغٌ بنصِّ أمِّ الآيات المُحكَمات. وأمّا المتأخرون منهم، فقد ذكر (¬6) المنصورُ بالله عليه السلام في " المجموع المنصوري ": أنّه لا يمكن معرفة اجتماعهم كما سيأتي لفظه في ذلك، واحتجاجه، وهذا هو اختيار الإمام يحيى بن حمزة، والرازي والمحققين، وهو الذي تقومُ عليه الأدلة الوجدانية. وقد ذكر ابنُ حزم في " جمهرة النسب " في أنساب الطَّالبية، ¬
وغيرُ ابنِ حزم من النَّسابين ما يعلَمُ العارِفُ به صدق قولِ المنصور عليه السلامُ، ومن قال بقوله. ولنذكر هنا طرفاً يسيراً من ذلك على جهة التنبيه على ما عداه، فنقول: ذكر ابنُ حزم في " جمهرته " (¬1) من دُعاة أهل البيت، وساداتهم، ومحدِّثيهم خلقاً كثيراً، وأشار إلى ما لا يُحصى من ذُرِّياتهم، وجملة من سمَّى من دعاتهم الذين لا يُعرفُون في بلادنا، وعندَ علمائنا قَدْر خمسةٍ وعشرين داعياً أكثرهم في الغرب، وذكر أنه لهم في اليمامة دار مُلكٍ (¬2)، وأنهم فيها داع (¬3) بعد داع غير هؤلاء الخمسة والعشرين (¬4)، وذكر (¬5) من سادتهم الذين لم يدعوا جعفر بن عبيد (¬6) الله بن الحسين بن علي بن الحسين (¬7) كانت (¬8) له شيعة يُسمُّونه (¬9) حجة الله، وسيأتي ذلك مبسوطاً عند ذكر (¬10) ردِّ دعوى الإجماع على تكفير أهل الأثر الذين يؤمنون بالجُمل، ولا يتكلمون في تأويل القرآن، ودع عنك كلام ابن حزم، فإن السيد العلامة أبو عبد الله الحسني ذكر في كتابه " الجامع الكافي " (¬11) على مذهب (¬12) الزيدية عن محمد بن منصور، والحسن بن يحيى بن الحسين ¬
ابن زيد بن علي عليهم السلام، وأحمد بن عيسى، وكثير من قدماء العترة مثل مذاهبِ أهل السنة كما مضى بعضُه ويأتي بعضه، وذكر الحسن بن يحيى في الفُروع كلها ولا يعرفه أهل الديار اليمنية الآن (¬1) ولا يروون (¬2) مذاهبه (¬3). وقد أشار جماعة جلة من أهل البيت عليهم السلام إلى الاقتصار على الجُمَل في العقائد، ومنعوا من التعمق في علم الكلام، والخوض فيه، وصنف في ذلك محمد بن منصور كما تقدم، وصرَّحوا بتضليل المعتزلة والجبرية، والغُلاة، والروافض، والنواصب، وأمثالهم، وصنَّفوا في ذلك الكُتُب، وقالوا فيه الأشعار والنُّخَبَ (¬4)، فمن ذلك قولُ السيد الإمام (¬5) يحيى بن منصور بن العفيف (¬6) بن مُفَضَّل رحمه الله في ذكر المعتزلة: ويرون ذلك مذهباً مُستعظماً ... عن طول أنظارٍ وحُسنِ تفكُّر ونسُوا غنا الإسلام قبل حدوثهم ... عن كل قولٍ حادث مُتأخِّرِ ما ظنُّهم بالمصطفى في تركه ... ما استنبطوه ونهيه المُتكرِّر أعلى صوابٍ أمْ على خطأٍ مضى ... فَمَنِ المُصِيبُ سوى البشير المنذر؟ أيكُونُ في دين النَّبيِّ وصحبه ... نقصٌ، فكيف به ولمَّا يشعرِ؟ ¬
أوليس كان المصطفى بتمامه ... وبيانه أولى، فَلِمْ لم يُخبرِ؟ ما بالُهُ حتى السواك أبانه ... وقواعد الإسلام لم تتقرَّرِ إن كان رب العرش أكمل دينه ... فاعجب لمبْطِنِ قوله والمظهر أو كان في إجمال أحمدَ غُنْيَةٌ ... فدع التكلف للزيادة واقصِرِ ما كان أحمدُ بَعدَ منعٍ كاتماً ... لهدايةٍ كلا وربِّ المِشْعرِ بل كان ينكر كلَّ قولٍ حادثٍ ... حتى الممات فلا تشك وتمتري وكذا القرابة والصحابة بعده ... ما بين راوٍ ضابطٍ ومُفسرِ أو بين هادٍ للأنام بعلمه ... أو مُوردٍ لغريبة أو مُصدِر كخليفة المختار وارث علمه ... رب العلوم أبي شبير وشبّر ما كان منهم من يرى بتعمقٍ ... كلا، ولا نقلوه عنه فَقَصِّر بل جاء عنه وعنهم مُتواتراً ... حظرُ التعمق والغُلُوِّ لمُبْصر عن خبرةٍ وبصيرةٍ وتيقنٍ ... لا عن قُنُوعٍ قاصرٍ وتَعَذُّر لكن تأسٍّ منهم بمحمد ... وتدبُّر للذكر أيّ تدبُّر فالزم بعُروة دينهم مُتمسِّكاً ... فلقد هُديتَ إلى سبيلٍ نيِّر لا يخدعنَّك زُخرفٌ وتصورٌ ... شتَّان بين تيقُّن وتصوُّر إنَّ الخلاف بكلِّ فنٍّ مُمكنٌ ... إلا الأصول فإنه لم يُؤثَر فدع الخلاف إلى الوفاقِ تورُّعاً ... فطريقة الإجماع غير مُنكَّرِ كم بين مُعتمدٍ لقولٍ ظاهرٍ ... ومقالِ حقٍّ واضح لم يُنكَر ومجاوزٍ حدَّ الوفاق مُخَاطِرٍ ... قد صار بين مُفسِّقٍ ومُكفِّر من خارجٍ أو مُرجىءٍ أو رافضٍ ... أو ذي اعتزالٍ مُبدِعٍ أو مُجبِر أو غير ذلك من مذاهبَ جَمَّةٍ ... حدثت ودينُ مُحمَّد منها بَرِي يكفيك من جهة العقيدة مُسلم ... ومن الإضافة أحمديٌّ حيدَري (¬1) ¬
وهذا السيد هو يحيى بنُ منصور بنِ العفيف بن مفضّل كان عالماً فاضلاً، مُبرِّزاً في الكلام، صنف فيه قدر أربعين مُصنَّفاً، والظاهر أنها كلها مختصرات، والمشهور (¬1) منها " جمل الإسلام " (¬2)، وكان شديداً على غُلاة المتكلمين، وسائر المبتدعين، رحمه الله تعالى. ومن شعره أيضاً: يا طالب الحقِّ إنَّ الحق في الجُمَلِ ... وفي الوُقُوفِ عن الإفراط والزَّلَلِ هي النَّجاةُ فلا تطلُب بها بدلاً ... بذا أتاك حديثُ السادةِ الأُوَلِ (¬3) وقال السيد الإمام حُميدان بن يحيى [بن] القاسم (¬4) رحمه الله، مع أن في كلامه ما لا أذهبُ إليه من التُّهمة بقصد العناد: زال (¬5) أهل التفعيل والانفعال ... وأُدِيلَ التطريفُ بالاعتزال حرَّفُوا مُحكَمَ النُّصُوصِ، فصارُوا ... قُدوةً في التلبيس والإضلال ولهُم في التَّوحيد أقوالُ زورٍ ... مُزرِيَات في الزُّور بالأقوال (¬6) رانقاتٍ بالمَينِ كُلَّ محيل (¬7) ... فائقات في النُّكرِ كُلَّ مُحَالِ ¬
شاهداتٍ لمفرغ (¬1) الوهم فيها ... باعتداء المحدود والإيغالِ (¬2) أصَّلُوا للقياس أصل اصطلاحٍ ... جلَّ عن أصل صُلحهم ذُو (¬3) الجلالِ لَقَّبُوا الجسم بالذَّواتِ ليقضُوا ... باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ وادَّعوا أنَّ للمُهيمن ذاتاً ... شاركت، ثمَّ فارقت في خِلالِ ثم قاسوا ما فرَّعُوهُ وخاضُوا ... في شُرُوح لهُم عراضٍ طِوال باختراصٍ في قولهم وابتداعٍ ... وبظنٍّ في زعمهم وانتحالِ واحتيالٍ في فرقهم للمعاني ... بيِّنٍ ليسَ فيه فرقٌ بحالِ نحو ما قد جمعتُ منها مثالاً ... ها هنا فاستمع لضرب المثال أزلي ثبوته وقديم ... ووجود ما إن له من زوالِ وكذا الفرقُ بين أمرٍ وشيءٍ ... واشتراكِ الذوات والأمثالِ ومزيدٍ على الذوات وغير ... واقتضاء الأحكام والإعلالِ أي فرقٍ ما بين اثنين منها ... في صحيحِ الذَّكا وفرطِ المقالِ ليس إن قيل ثابتٌ أزليٌّ ... هُو إلا لربنا المُتعالي مثل من قال: لم يزل كلُّ (¬4) شيءٍ ... ذا ذواتٍ ثوابتِ الأحوالِ ما أتى في التكليف قولٌ بهذا ... في مقالٍ يُروى ولا في فعال بل أتى الأمرُ بالتَّفكُّر في الصُّنـ ... ـعِ وتَركِ اتِّباع رأي الرِّجَالِ غير من كان مُصطفي ذا اعتصامٍ ... أو حكيماً في قولِهِ غيرَ غالي إلى آخر ما ذكره رحمه الله. وقال أيضاً في أُرجوزته المشهورة التي سمَّاها الإمامُ المتوكِّلُ المطهر ¬
ابن يحيى عليه السلام " المُزَلزِلَة لأعضادِ المعتزلة "، قال في أوَّلها: إنَّ الشيوخ المفترين في الدُّول ... والمُوهمين أنَّهم فوضَى هَمَلْ ما دينُهُم أكثرُهُ إلا حِيَلْ (¬1) ... وشاهِدُ النِّيات (¬2) في صِدْقِ العمل فعالمٌ ضلَّ وأغوى من أضل ... وراهبٌ للسُّحتِ بالصدِّ أكَلْ وكُلُّهُم برفضِهِم نالُوا الأمَلْ ... من لم يكُن مُحارباً منهُم خَذَل وشرُّهُمْ مكيدةً من اعتَزَل ... وحرَّف الحقَّ وسمَّاه جَدَل وخاض في العلم برأيٍ مُغرِقِ ... مُجاوِزٍ لحدِّهِ مُدَقِّقِ مُغَلغِلٍ (¬3) في لُجَّةِ التَّعمُّق ... وتابعٍ لأهلِ علمِ المنطق في وصفه للعلم بالتعلُّق (¬4) ... بثابتٍ من قَبْلِ أن لم يُخْلَقِ وفي اشتراكِ مُبدِعٍ مُلَفِّقِ ... في اللفظِ بالذَّات ووصفٍ مُطلقِ ليُثبتَ التَّجنيسَ للمُحقِّق ... والفَصْل بالتَّنويعِ للمُفَرِّقِ (¬5) وكي يقِيسَ ربَّهُ بشاهِدِ ... من يقرن الذَّات إلى الزَّوائد ويُوهم التَّفريق بالفوائدِ ... معوِّلٌ على قياسٍ فاسدِ لبعض أوصاف القديمِ الواحد ... سُبحانهُ عن فِريَةِ المُنادِدِ (¬6) وعن قياس كُلِّ غاوٍ عانِدِ ... ينظُرُ في الصَّانع كالمُشَاهَدِ وليس في قياسه بواحد ... إلا لمجبولٍ (¬7) على التَّزايُدِ وما الذي ألجاهُمُ إلى الخَطَرْ ... والخوضِ في علمِ الغُيُوبِ بالنَّظَرْ ¬
وما يقال فيه للمخطي: كَفَرْ ... وفي النبيِّ أُسوةٌ ومُعتبرْ وقدوةٌ محمودةٌ لمن شَكَرْ ... ولم يُخالف بالوُهُومِ (¬1) والفِكَر فإنَّهُ للفكرِ (¬2) في الله حَظَرْ ... وفي عجيب الصُّنْعِ بالفكر أمَر فمن يكونُ بعدهُ مِنَ البَشَرْ ... أدرى بمَا يأتي به وما يَذَرْ ليس الإلهُ الواحدُ القُدُّوسُ ... كما يظُنُّه الذي يقيس من وصفُه التشريكُ والتَّجنيسُ ... بل قولُهُم مشاركٌ تلبيسُ إذ كُلُّ فِكرٍ دُونَه محبُوسُ ... وكلُّ ما تَخَالُهُ النفوسُ فمُدركٌ مُكيَّفٌ محسوسُ ... فاحذر شُيُوخاً علمُها تلبيسُ وهمُّها (¬3) التَّدقيق والتدلِيسُ ... قد حازَها دون الهُدى إبليسُ ما الفرقُ بينَ مُقتضٍ وعِلَّهْ ... وزائدٍ وكثرةٍ وقلَّه إلاَّ اصطلاحُ سادةٍ مُضلهْ ... قد سلكوا في طُرُقٍ مُزِلَّهْ فاقنَعْ بنِحْلَةِ النبيِّ نِحلَه ... قُنُوعَ ذي دينٍ مُسلِّمٍ له فالمُصطفي من أهلِ كلِ مِلَّه ... أعلمُ بالمَدلُول والأدِلَّه وبالفُرُوضِ الواجباتِ لله ... والشيخُ أدْنَى أن يَكُونَ مِثْلَهْ إلى آخر ما ذكره في الأرجوزة، وله رحمه الله رسائل كثيرة في مجلد محتوٍ من الحثِّ على ترك التعمق في الكلام والبدع في الإسلام على ما لا مزيد عليه، وفي " مجموعه " هذا تقرير أئمة أهل البيت وساداتهم عليهم السلام لما ذكره، وتقريره على أن ما ذكره هو (¬4) مذهبُ أهلهم، ومِمَّن ¬
روى ذلك عنه: الإمامُ المهدي الشهيد أحمد بن الحسين القاسمي، والإمام المتوكل المطهَّر بن يحيى عليهما السلام، وقرر ذلك بعدهم السيد الإمام العلامة محمد بن يحيى القاسمي، وصنف كتاباً معروفاً، وكتب الإمام المهدي محمد بن المطهر بن يحيى على كتاب السيد محمد بن يحيى القاسمي أنه معتقدُهُ إلاَّ الجوهر، فإنَّ له فيه نظراً (¬1). ومما قاله في ذلك (¬2) جدي المرتضى بن المفضل (¬3) رحمه الله تعالى: دعْ عنك ذِكرَ بُثينةٍ وجميلِ ... وحديث كلِّ خليلةٍ وخليلِ واتلُ الكتابَ وكُنْ لهُ متدبِّراً ... يا حبَّذا من قائِلٍ ومقُولِ هُو شافعٌ ومُشفَّعٌ ومُصدَّقٌ ... ومُنزَّهٌ حقاً من التَّبديل وهو الشفاء لكلِّ داءٍ مُعضِل (¬4) ... نَطَقَ النبيُّ بذاك عن جبريل فالزم بعُروتهِ ومُتَّ بحَبلِهِ ... فلقدْ نجوتَ وحُزتَ خيرَ سبيل وعليكَ من بعدِ الكتابِ بعترةٍ ... تنجُو من الآثام والتضليل لا يخدعنَّك كلُّ قولٍ حادثٍ ... قد نمَّقته الناسُ بالتعليل وتكلَّفُوا ما لم يكونوا كُلِّفُوا ... لا في الحديث ومُحكَمِ التنزيل وصفُوا الإلهَ بكلِّ وصفٍ زائدٍ ... يُنبي عن التَّكثيرِ والتَّقليلِ جعلُوه من جنسِ الذواتِ وَخَالفُوا (¬5) ... مِنْ بعْدِ ما وَصَفُوهُ بالتَّمثيلِ زعمُوا بأن الوصفَ لا شيءٌ ولا ... لا شيء هذا قولُ كلِّ مُحيلِ ¬
ولهُم من الأقوالِ كَمْ مِنْ بدعَةٍ ... في الوعدِ والتوحيدِ والتعديلِ مالُوا عن الحقِّ القويمِ وما لهُم ... سَبَبٌ سِوَى الإبدَاعِ في التَّفصيلِ تَبِعُوا (¬1) الشيوخَ فلم يَرَوا أنَّ الذي ... قالُوه إلاَّ غاية التَّحصيلِ من لم يكُن آلَ النبيِّ هُداتُهُ ... لم يأتِ فيما قالهُ بدليلِ بل شُبهةٌ وتظنُّنٌ وتوهُّمٌ ... وتحيُّرٌ في الغّيِّ والتعطيل فاحذر تَحِيدُ عن الصراط، فإنه ... نهجُ الأئمةِ جاء في التأويل هم بابُ حطةَ للأنامِ وسُفْنُهَا ... ونجاتُها من مُؤلِم التنكيل وإذا أردتَ سلامةَ الأصلِ الذي ... هُو دينُهُمْ فَعَليْك بالتِّجمِيلِ فهُو الذى كان النَّبيُّ يَدِينُهُ ... مِنْ دُونِ بدعَتِهِم وكُلُّ رسُولِ (¬2) وتابعهم على هذا السيد الإمام الواثق المطهر بن محمد بن المطهر، وقال في ذلك قصيدته البليغة التي أولها: لا يَستَزِلَّكَ أقوامٌ بأقوالِ ... مُلفَّقَاتٍ حريَّاتٍ بإبطالِ لا ترتضي (¬3) غيرَ آل المُصطفي وزراً ... فالآلُ حقٌّ وغيرُ الآلِ كالآلِ (¬4) فآيةُ الوُدِّ والتطهيرِ أُنْزِلَتَا (¬5) ... فيهم كَمَا قد رُوي مِنْ غيرِ إشكالِ و" هل أتى " (¬6) قد أتى فيهِم فما لهُمُ ... من الخلائق من ندٍّ وأشكالِ ¬
وهُم سفينةُ نُوحٍ كُل (¬1) من حَمَلَتْ ... نَجَّته من أزلِ أهواءٍ (¬2) وأهوالِ والمصطفى قال: إنَّ العلمَ في عَقِبِي ... فاطلُبْهُ ثَمَّ وخلِّ الناصِبَ الغالي لم يُثبتُوا صفةً للذَّاتِ زائدةً ... ولا قَضَوا باقتضا (¬3) حالٍ لأحوال ولا قَضَوْا بثباتِ الذَّات في أزلٍ ... وليس لله إلاَّ صنعةُ الحال دانُوا بأنّ إله العرش دونَهَا ... بلا احتذاءٍ على حدٍّ وتمثالِ ما كان يخطرُ هذا من ركَاكَتِهِ ... للمصطفي صفوةِ الباري على بالِ (¬4) ولا عليٍّ ولا ابنيه وزوجتِهِ ... فقولُهُم عن أباطيلِ الهُذا خالي انظُر بإنسانِ عينِ الفكرِ في خُطبٍ ... لَهُمْ ومنثُورِ لفظٍ سلسلٍ حَالِ قَدْ لحَّبُوا (¬5) طُرُقاً للسَّالكينَ بِهَا ... وبيَّنُوها (¬6) بتفصِيلٍ وإجْمَالِ ¬
ثم سرد (¬1) أسماء الأئمة عليهم السلام، راوياً عنهم الموافقة على إنكار هذه المذاهب المبتدعة، فذكر علي بن الحسين (¬2)، وولديه الباقر (¬3) و (¬4) زيداً (¬5) وجعفراً الصادق (¬6)، والقاسم، وابنه (¬7) محمداً، وحفيده الهادي يحيى بن الحسين، وولديه أحمد الناصر، ومحمداً المرتضى، والناصر الأُطروش، والقاسم بن علي، وأحمد بن سليمان، والمنصور بالله، وأحمد بن الحسين، والإمام الحسن بن محمد، والمطهر بن يحيى، ومحمد بن المطهر. نقلتُ ذلك من شرح هذه القصيدة المسمى " باللآلي الدُّرِّية في شرح الأبيات الفخرية " للسيد العلامة شيخ العترة ترجمان الموحدين محمد بن يحيى بن الحسن القاسمي (¬8)، وقد طوَّل في شرحها، وبيَّن في ¬
ذلك طرق الرواية عنهم عليهم السلام، وأفاد وأجاد رحمه الله تعالى، وما زال علماء أهل البيت عليهم السلام على هذا (¬1) قديماً وأخيراً، ومن الشواهد لذلك أنه ليس لهم في علم الكلام مُصنَّف مبسوط (¬2)، كتواليف المتكلمين الحافلة، إلاَّ ما صنفه بعضُ العجم (¬3) منهم في ذلك متابعة لقاضي القضاة، وهو السيد مانكديم، وهو الكتاب الموجود في ديار الزيدية في اليمن المسمى " بشرح الأصول الخمسة " (¬4)، ويدل على انفراده بذلك من بين سلفه: أنه لم ينقل عنهم فيه حرفاً واحداً، وإنما نقل كلام (¬5) شيوخ الاعتزال، ومذاهبهم، وأدلتهم، إلا أن يكون حكى مذهبهم وأدلتهم في فروع الكلام السمعية كالأسماء (¬6)، والشفاعة، والإمامة. وإذا كان هذا كلام أهل البيت من الزيدية والشيعة، فما ظنك بأهل ¬
البيت من أهل الأثر، والفرق الأربع (¬1)، ويوضح ذلك تأليفهم المختصرات المشهورة في ذلك، واقتصارهم (¬2) على الإجمال والإشارات، من أشهر ذلك ما أودعه محمد بن سليمان رحمه الله في أول " المنتخب " على مذهب الهادي عليه السلام، فإنه سأله عليه السلام عن ما يكفي في معرفة الله تعالى، ودليل ذلك، فأوجز له الكلام في مقدار عشرة أسطر. وكذلك كلامات علي عليه السلام في ذلك. وللمؤيَّد بالله عليه السلام في ذلك كتاب " التبصرة " مختصر جداً، وله في آخر " الزيادات " تزهيدٌ في هذا الفنِّ كثيرٌ، وقد نقلته بألفاظه في كتابي " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان "، وبسطتُ القول في هذا المعنى، فليراجع هنالك (¬3) وبالله التوفيق. وما أحسن كلام المنصور بالله عليه السلام في الرد على من ادعى إجماع أهل البيت عليهم السلام، حيث قال في " المجموع المنصوري ": وإن شئت أن ترجع إلى أهل البيت، فتشتتهم كان في أيام عبد الله بن الحسن، ولحاقِ إدريس بن عبد الله بالغرب، وبعضُهم بالمشرق، وتشتَّتوا تحت كُلِّ كوكب، وفيهم العلم ووراثة النُّبوة، وليس لكل منهم تصنيف مع علمه إلى آخر ما ذكره، وسيأتي كلامه عليه السلام مستوفى في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى. وقد مرَّ في أول هذا الكتاب ذكر جماعة من علمائهم ممن ليس من (¬4) ¬
الشيعة، ذكرتُه في المسألة الأولى (¬1) عند دعوى المعترض لخُلُوِّ العالَم من العلماء من بعد الإمام الشافعي رحمه الله، وبينت هناك (¬2) قبح هذه الزَّلَّة، وما تؤدي إليه من تجهيل أئمة الإسلام، وفي ذكرهم إشارة إلى عدم صحة الطريق إلى دعوى إجماعهم في كثيرٍ من المواضع التي (¬3) يُدعى ذلك فيها فيجبُ على المؤمن أن يُراعي قول الله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به عِلمٌ} [الإسراء: 36]، فيما يرويه عن الأُمَّة والعِتْرةِ، كما يُراعي ذلك فيما يرويه من كلام الله تعالى، وكلام رُسُله عليهم السلام. وقد كان من الحسين بن القاسم مبالغة في تعظيم فن الكلام، وتصانيفه فيه، وتابَعَتْهُ على ذلك طائفة من ضُعفاء العقول (¬4)، وأنكرت عليهم ذلك الزيديةُ، وجاهدوهم حتَّى أبادوهم، ولم يبق منهم -وللهِ الحمد- بقيةٌ. وذكر بعضُ أئمةِ العترة -أظُنُّه المطهر بن يحيى عليه السلام- أنَّه اختلَّ عقلُ الحسين بن القاسم، وتَوَسْوَسَ، وهو المرجوُّ إن شاء الله تعالى. فأمَّا أتباعُه من الغُلاة، فمرقُوا من (¬5) الإسلام، وفضَّلُوا كلامه على كلام الله تعالى، وفضلوه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن شبهتُهم إلاَّ أنَّ علم الكلام -كما زعمت المعتزلة- هو أساس الإسلام، وأنه ليس في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي من ذلك العلم، ويُجزِىء ¬
قوله: قلت في الابتداء: " أصول ديني كتاب الله لا العرض ... " وأردت بهذا البيت معنيين
عنه. ولا كلامَ أنَّ التوحيد وأدلَّتَه أساسُ الإسلام، هذه كلمةُ (¬1) إجماعٍ، ولكن البدعة في قول الحُسينيَّة ومن وافَقَهُم: إنَّه لم يَرِدْ في كتاب الله تعالى، وسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما فيه غَناء وكفاية. وقد كنتُ قلتُ أبياتاً في الحثِّ على استنباط الأدلَّة العقليَّة في التَّوحيد من كتاب الله تعالى، وذكرتُ أن ذلك يُغني عن الكلام، فعارضني بعضُ من يدَّعي علمَ الكلام (¬2) العصريِّين، وكاد جوابُه يُلبسُ على كثيرٍ من (¬3) الضعفاء، فنقضتُ جوابه نقضاً شافياً، كشف الغِطاء عن بدعته، وأجمعتْ (¬4) كلمةُ المعاصرين من المتكلمين (¬5) على إنكار كلامه إلاَّ من لا ينظر (¬6)، وقد رأيتُ أن أُورِدَ من ذلك ما أرجو أن ينفع اللهُ تعالى به، وأُنَبِّهَ على شيءٍ يسيرٍ ممَّا يحتاج إلى الشرح. قلت في الابتداء: أُصُولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ ... وليسَ لي في أُصولٍ غَيره (¬7) غَرَضُ وأردتُ بهذا البيت معنيين: أحدهما: أنَّ القرآن مُعجِزٌ، وكُلُّ معجزٍ (¬8) لا يَقْدِرُ عليه أحدٌ مِنَ ¬
البشر، فإنَّه يُعلم بدليلِ العقل أنَّه من عند الله تعالى، وذلك يقتضي صحَّة النبوة، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدقَ ما جاء به عن الله تعالى عَلى كُلِّ مذهب. أما الأشعرية، فعندهم أن العلم بصدقه بعد المعجز ضرُوريٌّ، لا يحتاج إلى استدلال (¬1)، وأنَّ العلم بالإعجاز ضروريٌّ سواء كان من جنس مقدور العباد، أو مِن غير جنسه، والذي من جنسِ مقدورهم مِنْ قسمِ العاديات (¬2) من الضروريات. وكذلك طائفة من المعتزلة، وهم أهل المعارف الضرورية، ومن مذهبهم أن العلم بالله تعالى ضروري، ولكن فيهم طائفة يوجبون النظر، ويقولون: إنه شرط اعتيادي (¬3)، بمعنى أن الله يخلق العلم الضروري عنده، لا به كما يخلق الإنسان عند قرار النطفتين في الرحم لا بذلك، وهو (¬4) أقربُ إلى مذاهب (¬5) أهلِ السُّنَّة، فإنهم يوجبون النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه من المعجزات والمصنوعات من غير ترتيب المقدمات على الأساليب (¬6) المنطقيات، ويقولون: إن الله تعالى يهبُ لمن يشاء من عباده عقيبَ ذلك النظر (¬7) من اليقين والمعرفة ما لا يُقْدَرُ قَدْرُه، ولا يُحْصَرُ حَدُّه، فأعلاه ما لا يَعْرِضُ معه الوسواسُ، وأدناه ما يَعْرِضُ (¬8) معه الوسواسُ إلى ¬
أن ينتهي إلى ما قدَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدنى من مثقال (¬1) حبَّةِ خردلٍ، كما جاء في أحاديث الشفاعة (¬2)، ويدينُون بأنَّ الإيمان يزيدُ وينقُصُ، وعلى المؤمن التَّعرُّضُ لما يزيدُ إيمانَه من التَّفكُّر في المصنوعات، ومُعجزات الأنبياء، وأحوالِهم، وسِيَرهم، والقرائن الدالَّة على صدقهم، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، والتَّلقِّي لما وَهَبَ الله تعالى له من الإيمان، واليقين بعد ذلك بالشكر. وأمَّا النظرُ في الطُّرق المبتَدَعَةِ، فلا تجبُ عِنْدَ أحدٍ من (¬3) أهل السُّنة، وظاهِرُ مذهبِ الإمام المؤيَّد باللهِ عليه السَّلامُ موافقٌ لمذهبهم في ذلك، فإنه يُجيز حصول العلم الضروري بالله لمن شاء الله من أوليائه، والعلم الاستدلالي لمن دونهم من أهل النظر، ومُجرَّد الظَّنِّ لمن دون الأولياء، وأهل (¬4) النظر من ضعفاء العامة، وقد نص على هذا الأخير في آخر " الزيادات "، واحتجَّ عليه، وأطال القول فيه، فلا يمكن تأويله، ونَسَبَهَ إلى أبي القاسم البلخي البغدادي شيخ الاعتزال، ولكن حكى عنه أنه يُسمِّيه علماً، ولا طائل تحت الاختلاف في مجرد العبارات. وفي " مقالات " أبي القاسم ما يؤيد (¬5) هذه الرواية، فإنه ذكر العامة، وأنها فرقة مستقلة، وقال: هنيئاً لهم السلامة. ¬
وعن ابن تيمية أن الرازي (¬1) ذكر لبعض مشايخ الصوفية أنه أملى في التوحيد كذا بُرهاناً، فقال له الشيخ: ليس ذلك بالتوحيد. قال الرازي: فأفدني يا سيدي، فقال له: التوحيدُ وارداتٌ تَرِدُ على النُّفوس تَعْجِزُ النفوسُ عن ردِّها، قال: فجعل الرازي يتحفَّظ هذه الكلمات ويُردِّدُها حتَّى خرج من عند الشيخ. وقد (¬2) ذكر هذا بعضهم في شرح قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في كلامه لكُمَيْل بن زياد (¬3)، حيث قال عليه السلام في وصف ¬
العلماء: " هَجَمَ (¬1) بهمُ العِلْمُ على حقيقةِ الأمر، فاستلانُوا ما استوعرهُ المترفون، وأَنِسُوا (¬2) بما استوحش منهُ الجاهلون " فإنَّ الهُجوم إنما يُستعمل فيما حصل (¬3) دفعةً واحدة من غير كدِّ الخواطر في الدقائق، والتَّولُّج من الأنظار في مضايق المزالق، وقال في " ضياء الحلوم ": هجم [على] القوم: إذا أتاهم بغتةً، وهَجَمَ على العدو هجوماً، وهجم على ما في نفسِ فلان. وأما على مذاهب (¬4) النُّظَّار مِنْ متكلّمي الشيعة والمعتزلة، فإن النظر في كتاب الله تعالى يدل على قدرة الله تعالى على كل شيءٍ، وكذلك كل معجزٍ لجميع الخلق عندهم، والذي في القرآن من الإحكام البليغ، والتحسين والتقبيح يدل عندهم على علمه سبحانه بكل شيءٍ عموماً، كما تدل أحكام المحكمات عندهم، ويدل على علمه سبحانه بقُبح الكذب، وعلى علمه بقُبح تصديق الكاذب خصوصاً، وبعد علمنا بذلك يجبُ القطع بأنه لا يصح صدور الكذب، وتصديق الكاذب منهُ سبحانه، لعلمه ¬
بقبحه (¬1)، واستغنائه عن فعله بقدرته على كلِّ شيء، وذلك لأنَّ الكذب ليس بمشتهي لذاته، وإنما يتوصَّل به العاجز إلى منافعه، أو يفعله الجاهل بقبحه، بدليل أنه لو قيل لبعض العقلاء: إن صدقت، فلك درهم، أو كذبت، فلك درهم، فإنَّه يختار الصدق لا محالة إجماعاً، فهذا في آحاد المخلوقين، فكيف برب العالمين القادر على كل شيءٍ، العليم الحكيم. وإلى هذا الدليل أشار قوله تعالى. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وأمثالها، وقد ألمَّ بهذا المعنى مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى " (¬2) في آخر الطريق الرابع من ¬
الباب الثاني في إثبات الصَّانع، ولكن لم يُلخِّصهُ هذا التَّلخيص ذكره آخِرَ الاستدلال على نفي الوسائط. فإن قيل: ما المانعُ أن يكون القُرآن العظيم من كلام الملائكة أو الجنّ، لأنه من جنس مقدور الخلق، وذلك مثل نَتْقِ الجبال، وليس من المعجزات التي ليست من مقدور الخلق، كإحياء الموتى، وقلب العَصَا حيَّة؟ فالجواب: أمَّا على مذهب الأشعريّة، وأهلِ السُّنَّة، فإنا نعلمُ عجز الخلق أجمعين بالضرورة العادية، وذلك أنا نعلمُ أن العرب الفُصحاء المعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَعْجِزُوا عن معارضته (¬1) لأجل وقتٍ مخصوص، ولا صورة مخصوصة، ولا بيِّنة مخصوصة (¬2)، بل لكونِهِ معجزاً في نفسه، فإنا لو قدَّرنا زمانهم تقدَّم أو تأخّر، أو أجسامهم كبرت أو (¬3) لطفت، أو صورهم اختلفت، أو انعكست، لبقي عِلمُنَا بعجزهم عن حاله، وكذلك البينةُ المخصوصةُ، فإنّا نعلمُ أنّه ليس علَّة عجزهم تركيبهم من اللحمية والدمية، ونُجوِّزُ أنّهم لو كانوا ممن لا نَفْسَ لهُ سائلة، قدروا على مِثْلِهِ، وكذلك أنا نجزمُ على عجز المتأخرين من البشر، ليس إلاَّ لأنّه علمٌ عاديٌّ كعلمنا أنّ الزُّجاج ينكسر بالحديد (¬4)، سواءٌ كان الكاسر له من الجنِّ أو من الإنس، وفي قديم الزمان وحديثه، وفي شرقِ الأرض وغربها، وهذا العلم الضروري نشأ من العلم الضروري بأنّ فُصحاء العرب ¬
قد بلغوا في لغتهم الغاية القصوى (¬1)، التي لا يُعجِزُهم كُلَّهم فيها مخلوق، وإنه لو كان مخلوقٌ (¬2) يقدِرُ عليه، لقضت العادةُ بقُدرة بعض بُلغاء العرب عليه، لأن العادة لم تجرِ بتفاوت المخلوقين فيما يشتركون في معرفته والقدرة عليه تفاوتاً يبلغ هذا الحدَّ، وهذا هو الموافق لكلام الله عز وجل، فإنه (¬3) قال تعالى في خطاب العرب: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]. وكذلك في (¬4) غير هذه الآية مما عُلِمَ أنه تعالى رتَّب علمهم (¬5) بأنّه معجزٌ من عند الله تعالى على عجزهم عن الإتيان بمثله، لا على عجزِ جميع الجنِّ، والملائكة، والرُّوح، وما لا يعلمونه غير هؤلاء من خلق الله تعالى، الذي لا سبيل إلى حصره في هذه الأجناس، ولو كان الأمرُ كما زعمت المعتزلة، لكانت هذه الآيات (¬6) القرآنية معترضةً، ومن جاء بها مُفحَماً منقطع الحجة، وقد اتفق الجميع على امتناع (¬7) ذلك بأدلة قاطعة، فثبت فساد ما أدَّى إليه. وإذا حقَّقت النَّظر في جميع ما يُقَدَّرُ اختلاف الجنِّ والإنس فيه مما يرجع إلى الفصاحة، وجدتَهُ مساعداً لهذا العلم الضروري العادي، كما أنا لو (¬8) سلمنا أن (¬9) العلم الضروري العادي لم يحصل في هذا المقام، ¬
لادعيناه في مقام آخر، وذلك أنا نقول: أما تقدير أن القرآن من كلام الملائكة، فغفلةٌ فاحشةٌ، لأن الملائكة اسمٌ موضوعٌ في التقدير لمن لا يصدُرُ عنه الكذب، وأما تقديرُ أنه من الجن، فهو بمعنى (¬1) تقدير أنه من كلام الشياطين، لأنهم هم مردة الجن وفسقتهم، ونحن نعلم بالضرورة العادية أن فسقة الشياطين ومردتهم لا يعتنون في ظهور مثل القرآن الكريم لما فيه من نقضِ مقاصدهم في الفساد، فإنَّ العمل بمقتضاة بإجماع العُقلاء من المسلمين وغيرهم من أعظم أسباب الصلاح، وحسم مواد الفساد، فإنَّه اشتمل (¬2) على النَّهي عن الظُّلم، والعُدوان، والبغي، واللهو واللعب، والغفلة، وسائر أسباب الشر، والأمر بالبر، والإحسان، والعفو والرحمة، والرفق، والتعاون على الخير، وفعل جميع أسباب الخير، مع ما فيه من سبِّ الشياطين، ولعنهم، وتبكيتهم (¬3)، فكيف يجوز أنه منهم، وقد ثبت بالبراهين الصحيحة العقلية أنه لا يقع الفعل من القادر بمجرد قدرته عليه؟ ولذلك أجمعت المعتزلة على امتناع صدور القبائح من الله مع قدرته عليها، وإذا تقرَّر ذلك، فمنتهى الأمر أنا نُجوِّزُ قدرة الشياطين على ذلك -وحاشا وكلاّ- فليس لهم داعٍ إليه البتَّة، بل الصَّوارِفُ لهم عنه معلومةٌ بالضرورة من دون مُعارض، وقد نطقت النصوص القرآنيةُ بالردِّ على من زعم ذلك، وأشارت إلى الوجه الأول، أو إلى الوجهين (¬4) معاً، قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]، ¬
وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 25 - 27]، وأيضاً، لو جاز ذلك عقلاً، لوجب بطلانُهُ عقلاً أيضاً، وذلك أنه يجب أن يكون الجن مختلفي المقاصد والطبائع، كما اطَّرد الاختلافُ بين جميع الأجناس في ذلك، فكان يجب أن يكون في الجن من يُعارض الذي أتى بالقرآن، ويُحِبُّ تكذيبه (¬1) في دعواه، لعجز الجن والإنس عن ذلك، ويجب أن يهدي من أضلَّه الكاذب لذلك، ولا يجوز اجتماع طبائعهم على ذلك في عقل عاقلٍ (¬2)، وهذا من أنفس ما يُعارضُ به هذا الهذيان إن أصغى إليه مبطلٌ أو جاهل، كما نبَّه القرآن على ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] بل عليه بعينه في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، بل أعظمُ منه دلالة وهو (¬3) أنّه تعالى أوجب من تعدُّد الآلهة وقوع الاختلاف في غير آية والله أعلم. وأمّا على قواعد المعتزلة، فقد أجابوا بوجوهٍ: منها: أن العلم بالملائكة والجنِّ إنَّما حصل بالقرآن. ومنها: أنَّ تقدير مثل هذا يفتح (¬4) باب الجهالات. ومنها: أنَّ القرآن العظيم مشتملٌ من (¬5) علم الغيوب على ما ليس بمقدورٍ لغير الله، وهو أحسنُ ما احتجُّوا به، وهو صحيح على قواعد ¬
أهل السنة أيضاً، وتجويزُ استناد ذلك إلى ما استرقته (¬1) مردةُ الشياطين باطلٌ بالضرورة العادية كما نعلم في المفتي (¬2) بالصواب أنه فقيهٌ، ولا نُجوِّز أنه عامي، وإنما يتلقَّن (¬3) من بعض الشياطين، ولا مستند إلى القطع (¬4) بأنه فقيه (¬5) إلا الضرورة العادية، وكذلك نعلم (¬6) فصاحة الفصحاء، وقوة الأقوياء، وذكاء الأذكياء، مع تجويز إعانة الجن في ذلك في بعض الأحوال النادرة، بل معرفتنا لمن نعرفه من الناس مع تجويز أن (¬7) يتصور بعض الجن على صورته بإذن الله، بل تجويز أن يخلق الله بشراً مثله، إنما مستند ذلك جميعه العلوم العادية الضرورية، ولو رفعناها، دخلنا في السفسطة، وكثير من الناس يغلَطُ فيها، لأنَّ التَّجويز يدخُلُ فيها بالنظر إلى قدرة الله، لا بالنظر إلى الواقع، وقد نعلم بالضرورة العادية كثيراً من البواطن من جوع الجائع، وغضب الغضبان، وإخلاص أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين، فإنا نجزمُ بنفي النفاق عنهم، ولا نجدُ إلى تجويز ذلك سبيلاً، ومستند ذلك العلم الضروري العادي بأن المنافق لا يستمر له إظهار ذلك، وأيضاً فاستراق السمع متفرِّعٌ على ثبوت الرب تعالى، وتفرُّده بعلم الغيب، وهذا متفرِّعٌ على أن القرآن كلام الله تعالى، لأن هذه الأمور لا تُعلمُ إلا منه، وبالجملة فمن ابتُلي بالوسوسة في الضروريات، شكَّ فيها، مثل الموسوسين في الطهارات، نعوذ بالله من الخذلان. ¬
وأما الدليل الذي تُعوِّل عليه المعتزلة فيما كان من جنس مقدور (¬1) بعض المخلوقين من المعجزات، كتحريك الجبال عندهم، فإنه من مقدور الملائكة والجن، فهو أن حكمة الله تعالى توجبُ منعهم من فعل ذلك تصديقاً للكاذبين، وقد نازعهم الرازي في إيجاب ذلك على تقدير تسليم قاعدة التحسين العقلي، وقال: إن المنع مما يُوهِمُ غير الصَّواب لا يجب على الله، ولو كان يجب عليه، لقَبُحَ إنزال المتشابه، والتمكين من السحر، وزعم أنَّه لا جواب لهم، وأنه لا بُدَّ لهم من الرجوع إلى مذهب أهل السُّنَّة في أن مستند العلم في هذه الأشياء هو (¬2) العلوم العادية، لا سوى، ومن ثَمَّ ألزم المعتزلة خاصة أن يكون القرآن من كلام الجن، والحق أنه لا يلزمهم، لما ذكرناه عنهم من الأجوبة، لا سيما الاحتجاج بما فيه من علم الغيب. وأما احتجاجُهم بوُجُوبِ المنع من ذلك على الله، ففيه مباحثُ، مع أنه يشهد له قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]. ولكن (¬3) يَرِدُ عليه أن الله لم يقُل: إن ذلك واجبٌ عليه (¬4)، ويمكن أن يفعل من ذلك سبحانه ما لا (¬5) يجب عليه، فليس جميع أفعاله سبحانه واجبة، مع أنه سبحانه لم يفعل ذلك مع كُلِّ كذَّابٍ من المُدَّعين للنبوَّة، إمَّا لأنه لا يجب، وإمّا لأنه لم تظهر عليهم معجزاتٌ ¬
تُوجب تكذيبهم عليه سبحانه. أما (¬1) المتشابه، والسحر، والدَّجَّال، فقد ذكرها الله تعالى ورسوله، وكذلك يمكن أن يقال: قد ثبت أنه لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبرهان القاطع، فأغنى ذلك (¬2) عن تكذيب الكاذبين بأكثر منه، ولله سبحانه الحجة البالغة، ولا أحد أحبُّ إليه العذرُ منه سبحانه، وبنحو هذه الأمور يُجابُ عن قول من قال: إنّ النُّبُوَّات (¬3) من قبيل الخواص مثل النفوس التي من خواصها التأثير في الآلام المسمَّاة بالعين، وهو أن يقال: إنّ الأمارات الضرورية قد دلَّت على صدق الأنبياء، وعدم تعمُّدهم الكذب، ودلَّ اجتماعهم على تصديق بعضهم لبعض، ومخالفتهم النُّظَّار في ذلك على عصمتهم عن الخطأ، ورفيع منزلتهم، وتميُّزهم عن أجناس المختلفين وأنواعهم، والخواص من قبيل الطبائع التي لا يتأتَّى منها صُدورُ الأمور المُحْكَمَةِ على الدوام، إلاَّ لو كانوا (¬4) متهمين بالتَّزوير، وترويج الباطل، وقد يضُرُّ (¬5) المعاين ولده ونفسه، وتحرق النار (¬6) أكثر من (¬7) المقصود مرةً ودونه أخرى (¬8). وأما الجاحظ، فقد مال إلى أنه لا جواب على هذا (¬9)، إلاّ أنه يجبُ ¬
على الله المنعُ منه، وليس بجيِّدٍ لوضوحِ هذا الجواب، وعدمِ الوفاقِ على وجوب ما ذكره (¬1). فإذا تقرَّر صحةُ الاحتجاج عقلاً بإعجاز القرآن على ثُبوت الرَّبِّ سبحانه، أو بغير القرآن من سائر المعجزات، وعلى عِلمِهِ بقُبح الكذب، وقبح تصديق الكاذب، واستغنائه عن ذلك، جاز الاستدلالُ بالسَّمع بعد ذلك على سائر العقائد حتى على (¬2) كونه سبحانه غنيّاً عن كل شيءٍ على الإطلاق، فإنه لو (¬3) لم يتقرر بإعجاز القرآن إلا غناهُ سبحانه عن الكذب، لا سوى، بدليل قدرته على كل شيءٍ من غير واسطة الكذب، مع علمه بقُبحه، فيجب الجزمُ بصدقه، وصدق من صدَّقهُ، ويشهدُ لذلك ما عُلِمَ من أديان الأنبياء من تقرير المسلمين على الإسلام بعد ظهور المعجِزِ، وفي الاستدلال بالمعجزات السَّلامة مِنَ النَّزاع في الحدوث، وفي الطبع، لأن شرط المعجز أن لا يكون وقوعُه سابقاً لدعوى النبوة، ولا موافقاً للعادة، وكثيراً ما يجعل الله المُعْجِزَ من جنس ما يعرفه المعاصرون لصاحب النبوة، ليعلموا أنه متميِّزٌ عن السحر، وعن مَقدورات العباد، مثل تَلَقُّفِ عصا موسى لما جاءت به السَّحرةُ، لمَّا كان السحرُ صنعة أهل ذلك العصر، وإحياء عيسى عليه السلام للموتى، لمّا كان الطِّبُّ صنعة أهل عصره، وإتيان محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن العظيم، لمّا كانت الفصاحةُ صنعة (¬4) أهل زمانه. ومتى عجز أهلُ العصر، وتواتَرَ عجزُهُم، عُلِمَ من بعدهم الإعجازُ بالتواتر، وإن لم يكن من أهل الصنعة، كالعَجَمي، يعلم إعجازَ ¬
الأمر الثاني: النظر في الأدلة التي أمرنا الله تعالى أن ننظر فيها أو حثنا على النظر فيها
القرآن، لما تواتر لهُ من عجز بُلَغَاء الخلق عن معارضته، وَمَن لا يعرف السحر، يعرف (¬1) باعتراف السحرة أنّ ما جاء به موسى ليس بسحرٍ، ومن لا يعرف الطبَّ، يعلم بعجز الأطباء عن إحياء الموتى أنَّ ما جاء به عيسى عليه السلام ليس بطب، وكذلك ما يجري للأنبياء عليهم السلام من الكرامات زمن (¬2) الطفولة، وأيام التربية، فإنه (¬3) يُميِّزهم من السحرة (¬4)، وكذلك ما يكونُ لهم من الصدق، والزهادة، والعِفَّة، والجلالة، ولذلك (¬5) كان معرفة سيرهم وأحوالهم من موجبات الإيمان، وقد جمعتُ في ذلك كتاباً سميته " البرهان القاطع في إثبات الصانع، وجميعِ ما جاءت به الشرائع "، وأشرت إلى أنّ الفرق بينهم عليهم السلام وبين السحرة بذلك أولى من النظر في الفرق بين السحر والمُعجز، لتوقُّفِ ذلك على معرفة السحر (¬6)، ثمَّ شَغَبَ بعضُ أهل العصر في ذلك بمباحث، فألَّفتُ كتاب (¬7) " ترجيح أساليب القرآن " وتقصَّيتُ فيه الجواب على المباحث في ذلك (¬8)، فليُطالعهُ من أراد تحقيق هذا المهم. والأمر الثاني مما أردته بقولي: أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ النظر في الأدلة التي أمرنا الله تعالى أن ننظُر فيها، أو حثَّنا على النَّظَرِ ¬
فيها، كقوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]، وقوله تعالى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ -إلى قوله- ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج: 5 - 6]، وكذا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - إلى قوله- لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وما لا يأتي عليه العدُّ، وهذا أمرٌ لا يصلح أن يكون فيه خلاف بين المسلمين (¬1) البتة، ومن أدّاهُ الغُلُوُّ إلى تقبيح الاكتفاء بهذه الأدلة، وجب على جميع المسلمين النَّكيرُ عليه، والإغلاظُ له، وقد ظهر لي أنّه قولُ أئمَّة الكلام، فضلاً عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام. قال الحاكم في " شرح العيون ": وأمّا الفصلُ السابعُ فيما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخوض في الكلام، فلا شُبْهَةَ أنّه دعاهم إلى هذه الأُصول، والنَّظَرِ في الأدلَّة بمَا تلا عليهم من الآيات في أدلَّة التَّوحيد، والعدل، والنُّبُوَّات. وذكر مختار في " المجتبى " الاستدلال بطريقة الأحوال في الطريق الرابع من الباب الثاني، ثمَّ قال: وقد جمعها الله تعالى في قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ -إلى قوله- لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]. وقال الرَّازي في كتابه " الأربعين " (¬2) في الكلام على النُّبُوَّات في عرض الكلام في المعجزات العقليَّة: بل أقرَّ الكُلُّ بأنّه لا يُمكِنُ أن يُرادَ ¬
في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن، فهؤلاء الغلاة في الكلام يصرحون بذلك، فلا تلتفت إلى قول من ينكره منهم عند استظهار أهل السنة عليهم في الحجة بذلك، لأن إقرارهم بذلك يلزمهم ترك الخوض فيه، ولزوم منهاج أهل السنة، وذلك واضح، ولله الحمد. وقال الغزالي في " القدسية " (¬1) في الأصل الأول من الركن الأول في معرفة وجوده تعالى: وأوَّل ما يُستضاء به من الأنوار، ويسلك من طريق النظر والاعتبار بما أرشد إليه القرآن، فليس بعد بيان الله بيان. ثم ساق الآيات القرآنية، وكذلك فعل يحيى بن منصور في كتابه " الجمل الإسلامية "، فإنه صدر الاحتجاج فيها بالآيات القرآنية، كما ذلك معروف. وقال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في أوائل كتاب " التمهيد " في القول في وجوب النظر ما لفظه: وكيف يقال: إنهم مُنكرون للخوض في هذه الأدلة، وأكثر القرآن مُشتملٌ على ذكرها وشرحها، ولنذكر منها واحدة يُقاسُ بها الباقي، وهي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] إلى آخر السورة، فالله تعالى حكى في هذه الآية إنكار المنكرين للإعادة (¬2)، وقرَّر وجه شبهتهم، وأجاب عن كل واحدة منها بوجه يخصُّه، وطوَّل في بيان ذلك إلى قوله: فأمَّا الآيات الدالة على إثبات الصانع وصفاته، والنبوة، والرد على منكريها، فأكثرُ من أن تُحصى. ¬
وقال قاضي القضاة في المجلد الرابع من " المحيط في النبوات " في ذكر إعجاز القرآن ما لفظه: واتَّفق فيه أيضاً استنباطُ الأدلة التي تُوافقُ العقول، وموافقة ما تضمنه لأحكام العقل على وجه يَبْهَرُ ذوي العقول، ويحيِّرهم، فإن الله سبحانه يُنبِّهُ (¬1) على المعاني التي يستخرجها المتكلمون بمعاناةٍ وجهدٍ بألفاظ سهلةٍ قليلةٍ، تحتوي على معانٍ كثيرةٍ، كما ذكره عزَّ وجلَّ في نقض مذاهب الطبائعيين في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} الآية [الرعد: 4]، وفي الآيات التي ذكرها في نفي الثاني، وفي غير ذلك من الأبواب التي لا تكادُ تحصى. انتهى بحروفه. وقال القاضي عياض في " الشفاء " (¬2): ومنها جَمْعُهُ لعلوم (¬3) ومعارف لم تَعهَدِ العربُ عامةً، ولا محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوَّته خاصة (¬4) بمعرفتها، ولا القيام بها، ولا يُحيطُ بها أحدٌ من علماء الأُمم، ولا يشتمل عليها كتابٌ من كُتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طُرق الحُجج العقليات، والرد على فِرَقِ الأمم ببراهين قوية، وأدلة بيِّنةٍ، سهلة الألفاظ، موجزة المقاصد، رام المتحذلقون بعد أن ينصبوا (¬5) أدلة مثلها، فلم يقدروا عليها، كقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، و {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] إلى ما حواه من علوم السير، وأنباء الأمم، والمواعظ، والحكم. ¬
وقال محمد بن منصور في كتاب " التوحيد والجملة ": وإنما جاءت الرسل بغاية الحجة على من سألها بما بين الله لها، وأنزل في كتبه إليها، لم تَعْدُ ذلك إلى غيره، ولن تُكون حجةٌ أبلغ في الدلالة على الله من حُجج أنبياء الله التي أبلغها عن الله خلقه، ولا أهدى لهم إن قبلوها، قال الله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ثم ساق مُحاجَّة إبراهيم إلى قوله: وقالوا عند مسألة فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} الآية [طه: 49 - 50]، وقال فرعون أيضاً: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23 - 24]، وفي آية {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فلم يتعدَّ موسى في الجواب عند مسألة فرعون غير ما أنبأه (¬1) اللهُ به في الكتاب، وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - حين سأله قومه: مَنْ يُعيدُنا؟ فأمره الله بالجواب {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، فلم يُكلِّفْهُ من الحجة والجواب غير ما قال له في الكتاب، ولمَّا قالوا له: انسُب لنا ربَّك، نزل عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخر ما ذكره في كتاب " الزيادات " (¬2) من المجلد السادس من " الجامع الكافي ". ولما وقف هذا المشارُ إليه على أبياتي هذه، حسب أنِّي استدللتُ على السمع بالسمع (¬3)، وظنَّ أنَّ مُرادي " أصول ديني ": السمعُ لا العقل، وظن أنَّ أهل السُّنة لا يرون العقل شيئاً، كأنَّه لا يعلم إجماع المسلمين أنه لا تكليف على صبيٍّ ولا مجنون، ولا بُدَّ من نظر العقل، ¬
ولذلك أمر الله بتدبر كتابه، فبأيِّ شيء يتدبَّرُهُ إلاَّ بالعقل؟ وإنما منعوا من وضع النظر في غير موضعه، ومن الطرائق (¬1) المبتدعة الضارة، نسأل الله الهداية (¬2)، وهذا تمام الأبيات: أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ ... وليس لي في أُصولٍ غيره غَرَضُ لولاه بالنصِّ ما كان الرسولُ درى ... ما هو الكتابُ ولا الإيمانُ يَفتَرِضُ ما احتجَّ قطُّ نبيٌّ في الكتابِ بما ... قالوا كأن لم يكُن في وقتهم عَرَضُ جاء الهُدى والشِّفا فيه وموعِظةٌ ... ورحمة قولُ ربٍّ ليس ينتقِضُ إشارة إلى قوله تعالى في يونس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58]. وفي توهمهم إن الخليل به اسـ ... ـتدل أفحش وهم ليس يرتحض ما الفرق في ذاك بين النيرات وما ... بين الأفولين للنظار لو محضوا وما لهم عن دليل المعجزات أما ... في الشمس عن زحل للمهتدي عوض دليل موسى لأهل السحر عرفهم ... في ساعة فغنوا عن علمهم ورضوا وما تحقق ما أوجبتم سنة (¬3) ... إلا ذكي حريص ليس يغتمض وذاك أوضح ما حج الكليم به ... فرعون في الشعرا والكفر ينخفض وعلل الله أعلام الأنام بأهـ ... ـل الكهف بالعلم (¬4) تعليلاً هو الغرض كما تقرر في الكشاف وهو من الـ ... ـخصوم، لكن أمر الحق منتهض ¬
إشارة إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (¬1) [الكهف: 21]. تجري على ألسُنِ الأعداء مُتَّضِحَاً ... عساهُ يشفي الذي في قلبه مرضُ فما لهم إن جرى ذكرُ الكلام ... وإن ذكرنا كلام الله ينقبض وليتهُم إذ دَرَوْا علمَ الكلام دروا ... أنَّ الشفاءَ الذي ظنُّوا به مَرَضُ (¬2) قالوا: السُّكُونُ (¬3) وجودٌ ثابتٌ عَرَضٌ ... وقطعُهُم فيه بالتَّشكيك مُنْتَقَضُ لعلَّ وُجْدانه من ضدِّهِ عدمٌ ... كالجهلِ والموت للأحياء يعترضُ قالوا: فذاتُ كلا الكونين لبثهما ... ولا دليلَ لهُم في ذاك ينتهِضُ وكيف يتَّحِدِ الضدان من جدلٍ (¬4) ... والأوَّليّ ببحثٍ ليس ينقرِضُ بل السكوتُ هو اللبثُ الذي زعموا ... والاحتراكُ بذاك اللبثِ يُرتَفَضُ إذِ السكوتُ بسيطٌ يستحيلُ لهُ ... فضلٌ ومعناهُ بالتقييد ينتقِضُ ألا ترى أنه في طُولِ مدَّته ... فرد على الفرضِ منَّا أنَّه غَرَضُ وقيدُهُم لبثُه وقتاً بنقلته ... في الاحتراك ركيك ليس ينتهضُ إن كان ذا القيد شيئاً كان ذاك هو الـ ... ـتحريكُ أو لم يكن شيئاً فما الغرضُ فإن تقولوا انتفى الماضي فذا عدمٌ ... ووصفُه بحدوث الذات معتَرَضُ وإن تقولوا: هو المجموع فهو بنا الـ ... ـموجود من عدمٍ والخلف ينتقض (¬5) إنَّ البَسَائطِ لا تركيب يدخُلُها ... إذ كُلُّ ما رُكِّبَتْ أفرادُهُ فَضَضُ وكُلُّ ذاك إضافاتٌ وحاصِلُها ... تخيُّلٌ لذواتٍ ليس تُمْتَحَضُ ¬
كوصفهم لمقالٍ لا وجود لهُ ... معاً فما وصفُ حرفٍ بالذي فرضُوا وبعضُ مُحتركِ الأجسامِ أثقلُ مِنْ ... بعضٍ وفي ذاك بحثٌ ليسَ يغتمضُ سريعُها لابثٌ وقتاً بكُلّ جها ... ت الكونِ حتَّى لُمُوع البرقِ إذ يفِضُ وضدُّه لابثٌ ضعف (¬1) السريع بلا ... ريبٍ -على زعمِهِم- والحقُّ مُفترضُ فكان في جهة (¬2) وقتين مُحترِكاً ... وجمعُ ذا باضطرار العقلِ يُنتقضُ ولو تَحَلَّل في ذاك السُّكُون لَمَا ... خفي إذا كان أضعاف الذي يَفِضُ (¬3) وكان عن قصدِنَا فيما يكونُ لنا ... لا سيما في الذي ينهَى ويفترِضُ فانفد (¬4) حدودهم الأكوان إنَّ بها ... مُزيَّفاً باطلاً بالنقدِ يُرتَفَضُ فإن قضينا ببُطلانِ الحدودِ، فَذَا ... وإن نقُل باعتباراتٍ، فذا الغَرَضُ ويشهدُ الظلُّ والنَّجم البطيء لقو ... ل الاعتبار إذا خرَّ الذي يفضُ (¬5) صحَّ السُّكُونَ طويلاً فيهما لُغَةً ... والاحتراكُ لمحضِ العقل مُمتحضُ والحقُّ أنَّ السكونَ والبقاء ردِيـ ... ـفَاً للَّبثِ والكون في المعنى هو الغَرَضُ وقولُنا الكونُ ذاتٌ غيرُ مُتَّضحٍ ... لأنه باعتبار الوقت مُعتَرضُ وهو الوجودُ يُسمَّى باعتبارهما ... اسماً وما كُلُّ لفظٍ تحتهُ غَرَضُ ولا دليلَ عليه وهو مُحتَمَلٌ ... والاحتمالُ بميلِ الظِّلِّ ينتهض (¬6) ونُقْلَةُ الجسم والتحريك قطع مسا ... فة ترادُفُها ما ليس يُعتَرَضُ فالكونُ في حالةِ التحريكِ يُطلقُ لا ... يُقالُ: لبثٌ له، فاللبثُ يُنتَقضُ إذ فيه معنى السُّكونِ وهو مُحتَرِكٌ ... كما تقدَّم في المبطي وما يَفِضُ ¬
قوله: ومعنى البحث الوارد بعد قولي: " قالوا السكون وجود ثابت عرض ... "
والنَّجم والنَّبْتُ (¬1) والظلُ الجميعُ سكو ... نهُنَّ كالطفلِ بالبرهانِ مُعتَرَضُ هذا المُطابِقُ والموضُوعُ في لُغةٍ ... وأوهمُوا فيه بالملزُوم فاعترضوا فلا تظُنَّ اختلافَ اللفظِ يلتزمُ الـ ... أشيا ولا كُلَّ معنى تحتَهُ غَرَضُ فالجهلُ لفظٌ لهُ معنى وليس لهُ ... ذات، كذلك موتُ الحيِّ لا المَرَضُ يعني الجهل اللُّغوي، وكذلك النوم والسهو، والجنون، وكذلك الموت، لأنه زوالُ الحياة، ولو كان معنى، لزم أن يكون للجمادِ معنى بكونه جماداً، بل العدمُ المحضُ لفظٌ له معنى معقول (¬2)، وليس بشيءٍ ضرورة. والعَدمُ المحضُ معقولٌ تجدُّدُه ... لفظاً ومعنى ولا وصفٌ ولا غَرَضُ فلا ترُدَّ نُصوصَ الذِّكر مُعتمداً ... على خيالٍ لأذكى منك يَنتَقِضُ ورُبما جاء أذكى مِنكُما فَغَدَا الـ ... إسلامُ في كُلِّ يومٍ وهو يُرتَفَضُ فَقِفْ على الجُمَلِ المعلُومِ صحَّتُها ... ولا تُجَاوِزْ، وقولُ النَّصْحِ مُفتَرَضُ ومعنى البحث الأول الوارد بعد قولي: قالوا السُّكونُ وجودٌ ثابتٌ عَرَضٌ ... وقطعُهُمْ فيه بالتَّشكيك ينتقض أنهم جعلوا مُجرَّد كون الجسم في الجهة لبثاً فيها، سواء كان قاطعاً لها بالحركة والنقل، أو قاراً فيها وقالوا: لا فرق بين الحركة والسكون بالنظر إلى ذاتهما البتَّة، فإنَّ ذاتهما واحدةٌ، وهي اللبث عندهم، ولكن ذلك اللبث إنِ استمرَّ وقتين فصاعداً، وإن قصر، فهو السُّكون، وإن لم يستمر (¬3) وقتين وكان (¬4) بعد نقله، فهو الحركة، وإن كانت بطيئة، وهذا ¬
فاسد من وجهين: أحدهما: ما ذكرتُه من فساد تركيب المعاني البسيطة. وثانيهما: ما نظمته (¬1) في هذه الأبيات، وتلخيصُه: أنا إذا فرضنا محتركين في جهاتٍ مستوية الأطراف، وكان أحدهما يقطعها في ساعة، والآخر في ساعتين أو أكثر، وكان مُجرَّد الكون في الجهة لُبثاً فيها، استلزم بالضرورة أنَّ البطيء (¬2) قد لبث في كلِّ جهة وقتين قصيرين من أوقات سريع الحركة الذي قطع تلك الجهات كلها في ساعة، وهذا يستلزم أحد أمرين: إمَّا أنَّ البطيء يُسمَّى محتركاً ساكناً معاً باعتبار الجهتين، أعني: متحرِّكاً باعتبار قطع المسافة، ساكناً باعتبار ما هو أسرعُ منه، كما يصحُّ تسمية الظل والنجم ساكنين (¬3) باعتبار الرؤية، ومحترِكَيْنِ باعتبار البرهان، وحينئذٍ يحصُلُ الغرضُ، وهو أن الأكوان ليست أشياء حقيقةً، لأنَّ الأضداد الحقيقية لا تجتمعُ، كالسَّواد والبياض، بخلاف الإضافيَّة، كالقبلية والبعدية في اليوم، بالنظر إلى أمسِ وغدٍ. وهم يعتذرون عن هذا بأنَّ في الحركة الثقيلة سكوناتٍ (¬4) متخلِّلة، وقد أبطله الرازي في " الملخص " بوجوه: منها، ما أشرتُ إليه في الأبيات، وهذا لفظُ الزازي، قال: لو كان ¬
كذلك، كان نسبةُ السكنات المتخلِّلة من حركات الفرس التي (¬1) تعدو من أول اليوم إلى الظهر خمسين فرسخاً إلى حركاته، كنسبة فضل حركة الفلك الأعظم إلى حركاته، لكن الفلك الأعظم قطع قريباً من ربع مقداره، ومعلومٌ أنه أزيدُ من المسافة المذكورة ألف ألف مرة، فيجبُّ أنْ تكون سكنَاتُ هذه الفرس أزيد من حركاته ألف ألف مرة، ولو كان كذلك، لما ظهرت الحركات الفرسية (¬2) ما بين خَلَلِ تلك السكنات، لكن الأمر بالعكس، فإنَّا (¬3) لا نُشاهدُ في (¬4) حركاته (¬5) سكناتٍ أصلاً، فيجب أن لا يكون البطءُ المتخلل (¬6) السكنات، انتهى من التقسيم الثاني في تقسيمات الحركة. وإمَّا أن ينتقض قولهم: إنَّ مجرَّد السكون (¬7) لُبث، ويكون الُّلبث مُرادفاً للسكون، بل هو في عُرْفِ اللغة أطول منه، قال في " الضياء ": هو الإقامة، قال الله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23]. والذي يقوم عليه الدليل أنَّ اللبث والسكون يُضادَّان النُّقلة وقطع المسافة، وأنَّ (¬8) الكون في المكان كالجنس، وهو المسمى في عُرفهم بالكون المطلق، فإن طال حتَّى اتَّصف بما يُناقضُ النقلة ويضادها، فهو اللبث والسكون بالنظر إلى المكان، والبقاء والدوام بالنظر إلى الزمان، وإن لم ¬
يطُل طولاً يناقض مُطلق النقلة السريعة والبطيئة، فهو كونٌ مطلقٌ في كلِّ جهةٍ، ولا يُوصفُ بلُبْث، كما لا يُوصف بسكون، ولا فرق بين كونه في المكان وبين وجوده فيه إلاَّ في العبارة. وحاجته إلى المكان لا توجب حاجته إلى ذاتٍ تحُلُّهُ، كما أن حاجته إلى الزمان لا تُوجب ذلك عند الخصم، ولو سلَّمنا جواز ذلك، فلا يثبتُ بمُجرَّد التجويز. والاستدلال بمثل قولهم: إنَّ المتحرك إذا سكن، فقد حدث، أمرٌ باطل، لوجهين: الوجه (¬1) الأول: ما ذكره الرازي في كتابه " الملخص في الجواهر والأعراض "، فإنه ذكر أنَّه ضعيفٌ؛ لأنَّ الحادث بشرط كونه مسبوقاً بالعدم يمنَعُ أن يكون صِحّةُ حصوله على هذا الشرط أزلية، وإلاَّ اجتمع النفي والإثباتُ، فهو قد كان ممتنعاً، ثمَّ صار مُمكناً، وقد ثبت بالدلالة أن الامتناع والإمكان يستحيلُ كونُ واحدٍ منهما أمراً ثُبوتياً، ولأن الشيء أن حدوثه (¬2) حادث، وغيرُ باقٍ، ثمَّ يصيرُ بعد ذلك باقياً، ويزولُ عنه كونه حادثاً، مع أن الحدوث قد كان يستحيل أن تكون صفتُه ثُبوتيّةً، وإلاَّ لزم التسلسل، والبقاء أيضاً ليست صفة ثبوتية، وإلاَّ لَزِمَ الدَّوْرُ، وكذا القول في جميع الأحوال الاعتبارية التي لا ثبوت لها في الخارج. انتهى بحروفه منسوباً إلى زيتون، ذكره في الفنِّ الخامس في الحركة والزمان من الباب الثاني في بقيَّة المقُولات. الوجه الثاني: سلَّمنا أنَّ أحدهُما ثبوتيٌّ، فلا يلزمُ أنَّ المتحرِّكَ إذا سكن فيه حدوثُ (¬3) أمرٍ لجواز أنَّهُ عدمُ أمرٍ، كالجهل، والموت، والظلِّ ¬
بعد الشمس، وما لا يُحصى. ومجرَّدُ اختلاف الأسماء لا يدلُّ على الذوات كما قدَّمنا، وكالسُّرعة (¬1) والبطء في الحركة، وكذلك الأحكام الشرعية كلُّها، وهي الوجوب، والنَّدْبُ، والإباحةُ والحظر، والكراهة. فإذا عرفت معنى اللُّبث والسُّكون، والبقاء والدوام، فاعرف أنَّ الحركة هي قطعُ المسافة، وهي النُّقلة، وليست اسماً للكون في الجهة من حيث هو كون، ولا يدلُّ على ذلك دليلٌ، ولذلك اشترطوا في حدها النقلة، لعلمهم أنهم لو لم يشترطوه، لبطل قولهم ضرورةً، ومع اشتراطه وثُبوتِ الحركة به، وانتفائها بانتفائه، يتعيَّنُ القول بأنه الحركة، والحمد لله. وبيان ذلك بعرضه على دلالتي المطابقة والالتزام، فإنَّ الحركة في دلالة المطابقة الوضعية في الحقائق الثلاث تدلُّ على النُّقلة، وقطع المسافة من حيث هي كذلك، ولا تدلُّ على الكون في الجهة من هذه الجهة (¬2) البتة، وإنَّما يدلُّ على ذلك بدلالة الالتزام العقليَّة، كدِلالة الجسم على ذلك محقَّقاً، وهم عكسوا ذلك عكساً مُحقّقاً. فرضٌ على مِثْلِ هذا النَّقل (¬3) قولُهُمُ ... تَجِدْهُ مِثْلَ شَرابٍ شُربُهُ حَرَضُ هذا وإنِّي على ردِّي لِقَولِهِمُ ... أحنُوا عَلَيْهِمْ وإنْ عابُوا وإن بَغَضُوا إخوانُنَا وعلى الدِّين الحنيف وإنْ ... أخطَوْا، فَمَا الشمُّ يومَ الرِّيحِ تَنْتَقِضُ لهُم سوابِقُ مِنْ علمٍ ومِنْ عَمَلٍ ... فَكَمْ أَصَحُّوا وكَمْ صحُّوا وإن مَرِضُوا ¬
ولي ذُنُوب إذا قِيسَتْ بذَنبِهِم ... رُدَّتْ عليَّ ردوداً (¬1) ليس يَنْتَقِضُ فاللهُ يُوسِعُنِي فَضْلاً ويوسِعُهُمْ ... فَمَقْصِدُ الكُلِّ أنَّ الحَقَّ يَمْتَحِضُ وإنَّما نظمتُ هذه المباحث في الأكوانِ على كراهتي للخوض في هذا العلم، لأنَّها لا تَعَلَّقٌ بالكلام في ذات الله تعالى وصفاته، ورجوتُ انتفاع بعضهم بمعرفة ذلك، ومعنى بقية هذه (¬2) المباحث أنَّ دليلَهم مبنيٌّ على أنَّ الأكوانَ ذواتٌ ثابتةٌ غيرُ عدميَّة، ومن المُمْكِنِ أن يكون السُّكون عدم الحركة، كما أن الجهل عدم العلم، إلا (¬3) أنه أمرٌ ثبوتيٌّ، فلا يصحُّ قولهم: إنه إذا سكن المحترك، فقد حدث أمرٌ لجواز أن يكون الصواب أنه عدمُ أمرٍ، كما لو عدم العالم، وقد أضربوا عن هذا السُّؤال في كُتُبِهِمْ مثل: " الشرح وتعاليقه "، " والخلاصة وتعاليقها "، وذكره الرازي في " الأربعين "، وحاولوا (¬4) الجواب عنه بالتزامِ (¬5) أنَّ الحركة والسكون ذات (¬6) واحدة، وهي من قبيل (¬7) اللُّبث، لكن إن استمرَّ وقتين فصاعداً، فهو السُّكُونُ، وإلاَّ فإن كان بعد نقله، فهو الحركة، وإلاَّ فهو الكونُ المطلق، ولبثُ الحركة عندهم في الوقت الثاني ينقلِبُ سكوناً، وهذه (¬8) منهم غفلةٌ عظيمةٌ، فإنَّ انقلاب الذوات محالٌ، والمعاني كُلُّها بسيطةٌ، لا تركيب فيها كالعلم، والسكون عندهم متركِّبٌ مِنْ لُبثين (¬9) فصاعِدَاً، وعلى ¬
هذا يصحُّ أن يكونَ له نصف، ويلزمُ أنَّه لو طال، لكان سكونات كثيرة، وهم لا يقولون به، ثم الحركةُ عندكم متركِّبة من لُبْثِ المتحَيِّز وقتاً واحداً في المحلِّ الثاني، ومِنْ عدم لُبثها في المحلِّ الأوَّل، والذوات الثبوتية الحقيقية (¬1) لا تُرَكَّبُ من العدم، والعَدَمُ لا يُوصَفُ بالحدوث. فإن نازعوا في هذه المعاني، نازعوا في الضرورة، وإن سلَّموها، وزعموا أنهم اصطلحوا هذه الأسماء لهذه المُسمَّيات، فاختلاف الأسماء لا يُحيلُ الذوات ويقلب المعاني، ويتركَّب عليه الدليل، ثم يلزمهم في البقاء أن يكون معنى كالسكون (¬2)، لأن استمرار الوجود يسمى بالنظر إلى الزمان بقاءً، وبالنظر إلى المكان سُكوناً، ثم إنهم يقولون في الكون المقارب لحدوث الجسم: إنه فعل الله. فإما أن يكون الجسم (¬3) مقدوراً من غير كون، لَزِمَ صحةُ خُلوه عنه، وإما أن يكون غير مقدورٍ إلاّ به، لزم نفيُ اختيار الله تعالى في خلقه الجسم منفرداً، وفي هذا منع القادر على كل شيء من مقدور معلوم أنه يقدر عليه إلاَّ بأن يخلُقَ معه شيئاً (¬4) آخر من غير برهان قاطع. وأما كونه لا بُدّ أن يكون في جهةٍ معيَّنةٍ فذلك بالفاعل، لا بمعنى كما أنه لا بد أن يكون وقت مُعين، وذلك بالفاعل لا بمعنى اتفاقاً، وقال لهم منازعوهم: ما المانعُ من أنّ المؤثر في هذه الأشياء هو الفاعل من غير واسطة معنى؟ قالوا: المانعُ من ذاك أنا رأينا كلامنا لمّا كان مقدوراً لنا، قدرنا على ¬
أن نُوجده على صفاته كلها من نحو كونه خبراً وأمراً ونهياً، وكلامُ الغير لما لم يكن مقدوراً لنا، قدَّرنا لم نقدر (¬1) على جعله صفةً، فثبت أن كل ما لم يكن مقدوراً، كان مثل كلام الغير، والموجود غير مقدور، فلو قدرنا على جعله على صفةٍ قدرنا على جميع صفاته، فنجعله أسود وأبيض، وحلواً ومُرّاً. وأجاب منازعوهم: بأن هذا القياس يتركب (¬2) على غلطٍ واضحٍ، فإن وصف الكلام بأنه خبرٌ وإنشاء ونحو ذلك ليس بوصفٍ ثبوتيٍّ حقيقيٍّ، بدليل أنه لا يصحُّ أن يُوجد من الكلام إلاَّ حرفٌ بعد حرفٍ، والمعدوم من الحروف لا يُوصفُ، والموجود منها ليس إلا حرف واحد (¬3)، والحرف الواحد ليس بكلامٍ وفاقاً (¬4)، فكيف يُوصفُ ما ليس بكلامٍ بأنّه خبرٌ أو إنشاء، ويكون ذلك الوصف حقيقياً؟ وإذا كان هذا حال الميزان المقيس عليه، فكيف حال الموزون به؟ ثم ما المانع أن تكون بعض الصفات مقدوراً دون بعض؟ كالأعراض عندكم، وما الجامع بين الأكوان، والألوان، والطعوم؟ فدلَّ على أن هذه الصفات إضافيةٌ لا حقيقة لها، أو أن (¬5) بعضها كذلك، وبعضُها ثبوتيٌّ، والصحيح أن الحركة قطعُ المسافة، والمرجع بالإجماع، والافتراق إليهما، وهذه إشارةٌ لطيفةٌ على حسب اختصار الأبيات، وتمكن الصارف من البسط في هذا العلم، ومن أحبَّ معرفة المباحت في هذه المسألة، ¬
فعليه بكتاب " منهاج السنة النبوية " (¬1)، وكتب ابن تيمية الكلامية، وفي كتب الرازي، وأصحاب أبي الحسين شيء منها غير مستوفى، وكتب الرازي أكثر من غيرها، وأما كتبُ المتكلمين من الزيدية والبهاشمة (¬2) في عصرنا، فما فيها من هذا ما يُغني البتة، وإنما ذكرتُ هذا لإرشاد (¬3) من لا بُدَّ له من البحث، مع أنَّ الأولى تركُ هذه الوساوس والخيالات، والإقبال على أدلة الكتب السماوية، والسنن النبوية المحروسة من الزَّيغ، المصونة من الوهم (¬4). نسألُ الله السلامة. ولأهل علم المعقولات أسلوبٌ آخر في الاستدلالِ بالحركة وتقسيمها إلى ستِّ حركات يجمعها الابتداء من كل تغير (¬5)، وهي حركة الكون (¬6)، والفساد، والنُّمو، والنُّقصان، والاستحالة، والنقلة، وهي طبيعية وقسرية (¬7)، وكلاهما إما أن يتحرَّك المتحرك بكلِّه كانت حركته مستقيمة (¬8) أو بجزئيه (¬9) كانت مستديرة، وقد كنت أثبتُّ الجواب ونقضه هنا، ثم رأيتُ ترك ذلك وإفرادَه في (¬10) مؤلَّفٍ. ¬
وقد اعترض بعض غلاة المتكلمين من أهل العصر على أهل الأثر، فينبغي تأديبه وذلك بذكر بضعة عشر وجها على سبيل التقريع والتأديب
وقد اعترض بعضُ غُلاة (¬1) المتكلمين من أهل العصر على أهل الأثر بأنه إنما قال بذلك من هو جامِدُ الفطنة مثل مالكٍ، وبُلْهِ المحدثين، لقلَّةِ ممارستهم للعلوم، واقتصارهم على فنِّ الحديث، وكلامه هذا من فضلات الكلام المؤذي الذي ليس تحته أثارةٌ من علم، وقد قصد به ذم المحدِّثين كلِّهم، ووصمهم (¬2) بالبَلَهِ، لأن القول الذي نسبه إلى البُله منهم هو قول جلتهم وأئمتهم (¬3)، ولأنه صرح بنسبة البله إلى إمامهم: إمام دار الهجرة النبوية المُجمع على إمامته وورعه واجتهاده، ذلك شيخ الإسلام الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فكيف بمن دونه منهم، ولأنه علَّل ذلك بعلةٍ تعُمُّهم، وهي ترك (¬4) ممارسة علوم أهل النظر والجدل، فينبغي تأديبُه على هذه الكلمات المؤذية الزائدة على القدر المحتاج إليه من عبارات المتناظرين في طلب المعرفة، وذلك بذكر بضعة عشر وجهاً على سبيل التَّقريع والتَّأديب: الأول: أن عادة أهل العلم والفضل، وأهل الإسلام والخلف والسلف، وأهل البدع والكلام، وأهل كتب المقالات في الملل والنِّحل، كلهم استمرت على نسبة الأقوال إلى أهلها من غير زيادة سخريةٍ، ولا غمصٍ، ولا أذى (¬5)، ولا استهانة، مُنَزِّهين لألسنتهم عن خَبَثِ (¬6) السَّفه، ولمصنفاتهم عمَّا يدلُّ على قلة التمييز والمناصفة، فترى ¬
الثاني: أنك عللت جمود فطنهم بقلة ممارستهم للعلوم النظرية
المتكلمين يقولون: ذهبت الثَّنوية إلى كذا، وذهبت النصارى إلى كذا، وكذلك سائر أهل المقالات علماً من المحصِّلين أنه لا حاصل تحت السَّفه، وأنه مقدورٌ لأدنى السُّوقة، وإنما يُوجَدُ ذلك في كلام كثير (¬1) من العلماء عند الانتصاف من البادي (¬2) بالعدوان، قال الله تعالى في مثل ذلك (¬3): {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]. الثاني: أنك علَّلتَ (¬4) جُمود فِطَنِهِمْ وبَلَهَهُم بقلةِ ممارستهم للعلوم النظرية، والأساليب الجدلية، وهذه هفوةٌ عظيمة، لأن هذه العلة قد شاركهم فيها خِيرَةُ الله من خلقه من الملائكة المقربين، والأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والتابعين، والأبدال والصَّالحين. فإن كان هذا المعترض يجعل هذه العلة مؤثِّرة صحيحة، ويستلزمُ ما أدت إليه من الزِّراية على كُلِّ من ترك الخوض في الكلام والجدل والممارسة لأساليب العلم المنطقي، فقد تعرَّض للهلاك، وارتبك في الغباوة أيَّ ارتباكٍ، وانتظم في سلكِ الحسينية المخذولين (¬5) المفضِّلين لبعض المتكلمين على الأنبياء والمرسلين، وإن كان يأبى ذلك (¬6) إباء المسلمين، ويأنَفُ منهُ أنَفَة المؤمنين، فقد تبيَّن له أن من كان له أُسوةٌ في ترك الممارسة لهذه الفنون بالملائكة المقرَّبين، والأنبياء والمرسلين (¬7)، ¬
الثالث: البله وجمود الفطنة من أفعال الله التي أجرى العادة أن لا يسلبها جميع أفراد الطائفة
وسائر من ذكرنا من الصالحين، فهو حريٌّ بالتبجيل والتعظيم والتوقير والتكريم، فيا سيَّال الذهن، ووقَّاد القريحة، مَنِ الأبلهُ الآن؟ هل من علَّل بهذا التعليل العليل (¬1)، وقال: إن إيمانه كإيمان جبريل؟ أم من تأدَب بآداب التنزيل، ولم يتعرَّض لما لا يعلمه البشر من التعليل واقتدى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترك التعمق في الدين، والإعراض عن الجاهلين؟ الثالث: البله وجمود الفطنة من أفعال الله تعالى التي أجرى العادة أن لا يسلُبها جميع أفراد الطائفة العظيمة الذين لا يحصرهم عددٌ، ولا يجمعهم نسبٌ، ولا بلدٌ، وذلك كالطول والقِصَرِ، والسواد والبياض، والجمال والدمامة، فالقول عليهم بذلك من قبيل التحري على البُهت الذي هو عادةُ البطَّالين، وكلُّ مُنْصف يعلمُ أن في كلِّ طائفةٍ فطناء أذكياء، وقد خاطب الله تعالى عُبَّادَ الحجارة بقوله: {وأنتم تعقلون}، {وأنتم تعلمون}. الرابع: من المعلوم أيضاً أن في كل طائفة عظيمة بلهاء بُلداء، وإنّ في الزيدية، وسائر الشيعة، والمتعاطين للعلوم الدقيقة من هو عريض القَفَا، جامدُ الطبع، فما بالُ المعترض يَصِمُ المحدثين بأمرٍ قد اشترك فيه الناس، وما أمن المعترض أنه من بُلداء (¬2) الزيدية، وأهل الدعاوي الباطلة، وإن كان لشدة بَلَهِهِ لا يعلمُ بعيب نفسه، فإنّ من البُلْه من يبقى معه من الفهم ما يُدركُ به قصورَ باعه، وغِلَظَ طباعه، وإنما شديدُ الغباوة، بليغُ البَلَهِ من لم يبقَ لهُ شعورٌ بأحوالِ نفسه، ولا ٌ لمقدار كُنهه، فتراه يتيه على العُظماء وهو حقيرٌ، ويزدري الكُبَرَاء وهو صغيرٌ. الخامس: أنّ رسائلك أيُّها المعترضُ مناديةٌ عليك نداءً صريحاً ¬
السادس: أن الفلاسفة تدعي من التحذلق مثل ما أنت مدع
بجمود الفطنة، وكثرة البله، وكل إناءٍ بالذي فيه يرشُحُ (¬1)، ولو كنتَ من أهل المغاصات الغامضة، والأذهان السَّيَّالة، والقرائحِ الوقادة، لظهر ذلك في رسائلك، فلا مخبأ بعد بوس، ولا عِطرَ بعد عَرُوس (¬2)، فكيف تعيبُ الخصوم بعيبٍ أنت بمثله موصوم؟ وكيفَ يَعيبُ العُورَ من هُو أعوَرُ السادس: أنّ الفلاسفة تدَّعي من التَّحذلق مثل ما أنت مُدَّعٍ، ونعتقد في علماء المتكلمين من المسلمين كلهم من البله مثل ما أنت معتقد في المُحدثين، فإنهم يدَّعون أن المسلمين غيرُ ممارسين للعلوم العقلية على ما ينبغي، وأنهم همُ السُّبَّاق إلى تأسيس علم المعقول، ووضع قوانين البراهين في فنِّ المنطق، وأنّهُمُ المستبدُّون بذلك، لصفاء أذهانهم، وشدَّة غوصهم على الغوامض، وكما أن ذلك -وإن كان حقّاً- لا يوجب صحة ما كنتم عليه من الكفر المعلوم، وكذلك تشبُّثُ كثيرٍ من المتكلمين ببعض أساليب الفلاسفة في النظر والجدل لا يُوجِبُ صحَّة ما هم عليه من البدع، هذا إن سلَّمتَ أنّ المدقِّق قد يَضِلُّ الطريق، ولا ينفعه التدقيق، وإن لم تُسلِّم ذلك، فاتخذهم أئمة، وانسلخ عن هذه الأُمة، وفي هذا أكبرُ دليلٍ على نقض ما توهَّم المعترِضُ من تعليل إبطال المبطلين بعدم مُمارسة دقائق العلوم. ¬
السابع: علم من النبي ومن الخلفاء الراشدين أن الذي كان عليه المسلمون في أعصارهم هو سبيل الهدى
السابع: كان المسلمون أمةً واحدةً في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيَّام الخلفاء الراشدين، ليس (¬1) بينهم خلافٌ في أمر العقيدة، وعُلِمَ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الخلفاء الراشدين أن الذي كان عليه المسلمون في أعصارهم هو سبيل الهدى، ومنهجُ الحق، وطريق (¬2) السلامة، حتَّى مارستم هذه العلوم، وتركتم الجمود، وسالت أذهانكم بالحقائق، وغُصتم على خفيات الدقائق، وضلت من ثلاثٍ وسبعين فرقةً اثنتان وسبعون فرقة، ولم يبق من الأمة ببركة هذه الممارسة على الهدى عُشرُها ولا عُشرُ عُشرِها، وأنتم تدَّعُون أن المعتزلة منها، فالمعتزلةُ عشرُ فِرَقٍ كما ذكره إمامُ علومهم عليُّ بنُ عبد الله بن أبي الخير وغيره، وهم مختلفون في عقلياتٍ تجب (¬3) عندكم وعندهم القطع بقبح الاختلاف فيها، وتحريم أحد القولين، واحتمال الفسق في ذلك الاختلاف عند جميعكم، ومن أجاز منكم ومنهم كفراً لا دليلَ عليه، جوَّز في جميع ذلك الخلاف أن يكون كُفراً. والشيعة أكثر فِرَقَاً، وأشدُّ اختلافاً من المعتزلة. والزيديةُ فرقةٌ واحدةٌ من الشيعة (¬4) قد تفرَّقت إلى مخترعة، ومطرفيَّة، وجاروديَّة (¬5)، وصالِحِيَّة (¬6)، وحُسينيَّة، وفي الفُروع مؤيّدية، ¬
وهادَوِيَّة (¬1)، وناصِرِيَّة (¬2)، وقاسِمِيَّة (¬3)، وأهلُ الكوفة منهم على مذهب أحمد بن عيسى (¬4)، والحسن بن يحيى، ومحمد بن منصور كما ذكره صاحب " الجامع الكافي "، ووقَعَ بينهم تفسيق وتأثيم على الاختلاف في ¬
الفروع -كما حكاه السيد أبو العباس في تلفيقه رحمه الله، دَعْ عنك الأصول- واشتد اختلافُهم (¬1) من بعد الإمام المنصور بالله عليه السلامُ في الأئمَّة، فافترقوا على الإمام الدَّاعي، وعلى الإمام المهدي أحمد بن الحسين افتراقاً قبيحاً كفَّر (¬2) بعضُهم بعضاً. وعامَّة هذه البدع والشِّيع (¬3) إنما كانت بسبب ترك (¬4) الجمود، وسيلان الأذهان، فلا عَدِمَكُمُ المسلمون، زيدُوا في هذا السيلان والممارسة لعلوم اليونان، فما يحصُلُ منها غداً إلاَّ مثلُ ما حصل منها أمس، فقد عرفتُ مضرتها بأعظم التجربة، وما عُرِفَ الداء الذي يجبُ اجتنابه في الطب احترازاً على الأبدان إلا بدون هذه التجربة، فكيف لا يحترز على الأديان من هذه المضرَّة العظمى بعد مثل هذه التَّجارِب الدائمة؟ فإن كان المحدِّثون ما استحفُّوا منك السُّخرية والاستهانة إلاَّ لعدم دخولهم معكُم في هذه الممارسة، فالأمرُ في ذلك مجبور (¬5)، ولهم أُسوة يُعزُّون بها أنفُسهم بالصحابة، والتَّابعين، بل بالأنبياء والمرسلين، وأمَّا الأعذارُ الموجبة عندكم لهذه الممارسة، فسوف يأتي بيانُها والجوابُ عنها قريباً إن شاء الله تعالى. ¬
تم بعونه تعالى الجزء الثالث من العواصم والقواصم ويليه الجزء الرابع وأوله: أخبرنا ما سبب توهمك لاختصاصك بالذكاء دون المحدثين.
الجزء الرابع
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء الرابع مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 4
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الثامن: رد على السيد توهمه لاختصاصه بالذكاء دون المحدثين
الثامن: أخبِرنَا ما سببُ توهُّمك لاختصاصك بالذكاء دون المحدثين، هل فَهمُك " للخُلاصة " و" شرح الأصول " أو تبريزُك في علم المعقول على الفحول؟ وإن كان الثاني، فلم يظهر منك آثاره، ولا لاحت عليك أنواره، وإن كان الأوَّل، فهو أمرٌ (¬1) يسير، والساعي فيه بالتِّيه الكثير غير جدير، والظاهر من أحوال أئمة السنة أنَّهم غير عاجزين عن الانتظام في سلك هذا المعترض، فلتُطالع تراجمهم في " تهذيب الكمال "، و" النُّبلاء " (¬2)، وسائرِ تواريخ الرجال، ويُنظر فيما كان لهم (¬3) من الذكاء الكثير، والعلم الغزير، فإنَّ المكان (¬4) لا يتسع من ذلك لذكر اليسير. التاسع: أخبرنا ما هذه العقائد التي لا تُدرَكُ إلاَّ بعلوم الكلام، فإنا رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجمعت الأمة على صحة عقائدهم قبل هذه الممارسة. فإن قلت: إن هذه العقائد هي اعتقاد الصانع جل وعز، وأنه عالمٌ، ¬
قوله: إن العقائد التي لا تدرك إلا بالممارسة، هي قول شيوخكم من المعتزلة
قادرٌ، موصوفٌ بجميع صفات الكمال، غيرُ مُمَثلٍ بشبيه ولا مثال، فقد أمكن الصدر الأوَّل إدراك هذا من غير ممارسة، ولم يَصِمهُم أحدٌ بالبَلَه وجُمود الفطنة ممن هو أذكى منك قلباً، وأرجحُ لُبَّاً، وأصلبُ ديناً، وأتمُّ يقيناً. وإن قلت: إنَّ العقائد التي لا تُدركُ إلاَّ بالممارسة، هي قولُ شيوخكم من (¬1) المعتزلة: إن الله تعالى لا يعلمُ من نفسه إلاَّ ما يعلمونه، وإن الأجسام، والأعراض، والصِّفات غيرُ مقدورة لله تعالى على الحقيقة، وإنَّما مقدورُه شيءٌ يدقُّ تصوُّره، أو لا يُتَصَوَّرُ البتة، وقد سمَّوهُ بالأحوال (¬2)، وذلك أن ذات الموجود عندكم غيرُ مقدورة، وصفةُ الوجود كذلك، وكلاهما غيرُ مقدورين عندهم، والمقدورُ عندهم أمر رابع، وهو يُسمَّى حالاً، وهو عندهم كونُ الذات على الصفة، وبإجماعهم أن (¬3) هذا الحال لا يُسمَّى شيئاً، فحصل من مجموع هذا أن الله عندهم لا يقدر على شيءٍ، وهم يُصرِّحون أن العالم كله لم يزل ولا يزال، وأنه ثابت فيما لم يزل، ولكنه غير موجود فيه، ويفرِّقون بمجرَّد اصطلاحهم بين الثبوت والوجود، وكل هذا حتى يتعلق علم الله تعالى بالأشياء في الغيب قبل حدوثها بأمورٍ ثابتة مُحقَّقةٍ، فليتهم قَنِعُوا في متعلق علم الله تعالى بمثل ما قَنِعُوا به في متعلق قدرته من كونها لا تتعلق بشيءٍ ثابت مُحقَّقٍ فيما لم يزل، أو ساووا بينهما، فجعلوا متعلَّقهما كُلَّ ما يُسمَّى شيئاً حقيقةً أو مجازاً على عموم ما نطق به القرآن، وقام عليه البرهان. ¬
إن العدم المضاف إلى الموجودات هو الذي يعلم، ويخبر عنه، وفيه نظر لوجهين
ثم صفة الوجود إن (¬1) كانت عندهم معلومةً لله تعالى قبل خلقِ المخلوقات، فليست بشيءٍ عندهم، لأن كل شيء عندهم ثابتٌ (¬2) فيما لم يزلْ، فلو كانت شيئاً، لزم ثبوتُها فيه، وذلك تصريحٌ بقدم العالم، وكذلك الأحوالُ التي هي أَثَرٌ قدرة الله تعالى عندهم إن كانت معلومة لله سبحانه في القِدَمِ، فليست ثابتةً فيه، ولا هي أشياء. ولذلك قال الرازي في " المُلَخَّص " (¬3): وعمدتُهم أنَّ المعدومَ معلومٌ، وكُلُّ معلومٍ ثابت، والكبرى منقوضةٌ بالممتنعات والخيالات، ونفس الوجود إلى قوله: العدم كيف يعلم ويُخبر عنه؟ المشهور (¬4) أن العَدَمَ المطلق لا يُعلم، ولا يُخبر عنه، بل العَدَم المضافُ إلى الموجودات هو الذي يُعلم، ويُخبر عنه، وفيه نظر لوجهين. الأول: قولنا: العَدَمُ المطلق لا يُخبر عنه، إخبارٌ عنه. الثاني: العَدَمُ (¬5) المطلق جزءٌ من المضاف، ولو لم يعرف، لم يُضف، وفي قوله: معلوم (¬6)، إشكال، لأنه لا تعيُّن له، ولا ثبوت، ولا امتياز، إلى قوله: فهذا مقامٌ مُشكِلٌ، نسأل الله أن يُوفِّقَنَا للوقوفِ عليه. انتهى. فإن تعلق بعضُهم بتأويلاتٍ لمعنى علمه سبحانه في القِدَمِِ بالصفات ¬
والأحوال، فلمنازعهم أن يتأوَّل علم الله تعالى بالذوات بمثل ذلك، وإن لم تكن هذه الصفات الحادثة والأحوال عندهم معلومة لله تعالى (¬1) -وهو مذهبُهم-؛ لَزِمهُم (¬2) تخصيصُ علمه سبحانه بالذوات، وذلك مع مخالفة (¬3) ضرورة الدين مُخالِفٌ لدلالة العقل، فإنَّ الإحكام في أفعاله الذي دلَّ على علمه سبحانه ليس بذاتٍ عندهم، ولا يصحُّ إلاَّ من عالمٍ به، ولا يصحُّ تعلُّقُ العلم بالأحكام بغيره. وقد جوَّد أبو الحسين البصري وأصحابه الردَّ عليهم، وسيأتي طرفٌ منه إن شاء الله تعالى في الوهم الذي بَعْدَ هذا. وقال الشيخُ مختار في كتابه " المجتبى " في المسألة السادسة من خاتمة أبواب العدل في رد قولهم: إنَّ الصفة لا تُعلم، وإنَّما يُعلم الدَّالُّ (¬4) عليها ما لفظه: البرهان الثالث: لو لم تكن الصفة معلومة لتعطلت دلائل صفات الباري وغيره من إفادة العلم، وأنه ممتنع، لا يقال: لو كانت الصفة معلومةً، لانقلبت ذاتاً، لأنا نقول: إنما تنقلِبُ ذاتاً لو انحصرت المعلوماتُ في الذوات، وهو عينُ النزاع على أن هذا يؤدِّي إلى مفاسِدَ تنبو الأسماع عنها، وتنفِرُ الطباع منها. منها (¬5): أن العالِمَ (¬6) بجميع المعلومات لا يفعل إلاَّ الوجودَ في الجوهر (¬7)، والأعراض، والوجودُ صفةٌ غيرُ معلومةٍ، فيلزم أن لا يعلم الله ¬
تعالى جميع ما يفعلُه، وإنَّما يعلم بعض ما لا يفعله كالذوات، وقد أجبنا عن المدافعة بالملافظة، وأنه بفعل الذوات على الوجود، لأن المراد إن كان أنه (¬1) بفعلهما، أو بفعل الذات، فهو محال عندهم لاستغناء الذات عن الفاعل، أو بفعل الوجود، فيلزمُ الإلزام الشنيع. ومنها: أنه يريد وجود الجوهر لا الذات، فيلزمُ أن لا يعلم جميع ما يُريده، وإنَّما يعلم ما لا يُريده. ومنها: أن لا يكون في العالم معلوم أصلاً، لأن تعريف الذوات بالصفات، وهي غير معلومة. ومنها: أن لا يعلم الله تعالى قيام الساعة، لأنَّها نفيُ الوجود عندهم (¬2) لا الذات. ومنها: أن لا يعلم الله صفاته وأحواله، مع أنها ثابتةٌ له، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، إلى آخر ما ذكره. وكذلك يقولون: إنَّه سبحانه لا يَقدِرَ على شيءٍ من أعيان مقدورات العباد، وإنما يقدرُ على أمثالها مع قولهم في مقدورات العباد: إنها ذواتٌ ثابتة في العدم، فيجوِّزون أن يكون في العدم ذوات ثابتة ممكنة غير مقدورة للقادر على كل شيءٍ، وكل هذا حتى لا يجوِّزوا مقدوراً (¬3) بين قادرين. وقد شنَّع أبو الحسين في (¬4) ذلك، وسيأتي تمام الكلام فيه في مسألة أفعال العباد. ¬
وكذلك يقولون: إنَّه ليس في مقدوره سبحانه هداية أحدٍ من المذنبين، ويُخالِفون في ذلك المعقول والمنقول، كما يجيء تحقيقه في آخر الوهم الثامن والعشرين. وكذلك قولهم: إن الله تعالى غير قادر على إكساب (¬1) شيءٍ من الموجودات صفةً إلاَّ بواسطة معنى، ولا قادرٍ على إعدامٍ لون، ولا طعم إلا بواسطة طُرُوِّ ضدِّه (¬2) على محلِّه، وقد مرَّ قريباً ذكرُ شيءٌ من ذلك وإبطالُه، وتعويلُهم فيه على القياس على الكلام حيث ذكرت أبياتي التي أولها: أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ وأيضاً هو (¬3) على خلاف المعقول في نفي الضِّدِّ بطُرُوِّ ضِدِّه عليه كالسواد والبياض، فإن أحدهما لو كان منفياً بضده، لا بقُدرة الله تعالى من غير واسطةٍ، لكان حين انتفي لا يخلو، إمَّا أن يكون ضدُّه نفاه بعد أن حل في محله أو قبل، والأول يستلزم إجتماع الضدين في محل واحد، وهو محال، وإن كان ضده نفاه قبل أن يحُلَّ في محلِّه، فذلك باطل بالاتفاق، لأنهما لا يتنافيان إلاَّ على اتحاد المحل. وذكر مختار في " المجتبى " (¬4) مثل هذا التمانع في إيجاب المعنى الزائد، لكون المتحرك ساكناً، فخذه من موضعه، وقد نقلته منه إلى كتابي " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان " (¬5). ¬
وكذلك قولهم: إن الله تعالى يريد بإرادةٍ موجودةٍ لا في محلٍّ مثل وجود ذاته سبحانه، فأثبتوا عَرَضاً لا في محل. وكذلك قولهم: إن الله تعالى غيرُ مختارٍ في أحكام الشريعة الخمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحظر (¬1)، وليس له أن يُرخِّص في فعل حرام (¬2)، ولا تركِ واجب، لأنَّ هذه الأحكام تثبت عندهم لأنفسها، والله سبحانه وتعالى ورسلُه، وأهلُ الفتيا على (¬3) سواءٍ في الإعلام بها، والتعريف لها من غير اختيار في المحو والتثبيت. ومن ذلك قولهم: إن الله تعالى لا يحسُنُ منه أن يتفضَّل على أحدٍ من عباده بمغفرة ذنبٍ واحدٍ، وإنَّه يجب عليه عقابُهُم بكُلِّ ذنبٍ وجوباً يقبُحُ خلافُه. وأما قبول التوبة، فذلك واجبٌ عليه عندهم، وكذلك تكفير الصغائر بالطاعة، وإنما كلامنا في مغفرة التفضل التي قبَّحوها حتى لو زادت سيئات المسلم يوم القيامة على حسناته (¬4) مثقالَ حبَّةٍ من خردل، لقبُحَ من الله تعالى مسامحتُه فيها (¬5)، وتشفيعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجب (¬6) تخليده في النار كتخليد فرعون وهامان، ويردُّون ما تواتر (¬7) في الرجاء لأهل التوحيد من الأحاديث الخاصَّة، ويتمسَّكُون ببعضِ الألفاظِ العامة، ويُحافِظُون ¬
على صدق عمومات الوعيد دونَ عموماتِ الوعد، فذلك يُفيدُ (¬1) القطع معهم، وهذه لا تفيدُ الظنَّ، ولا التجويزَ، ولا الوهم، هذا فِعْلُهم لا اعتقادُهم (¬2). وإذا قيل لهم: إنَّ الخصوص مُقدَّمٌ على العموم، اعتلُّوا بعللٍ باردَةٍ (¬3)، ثم إذا جاء العموم عليهم خصَّصُوه. مثال ذلك: أنهم يحتجون على نفي الشفاعة لعصاة المسلمين بعمومِ قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، ويُقدِّمونه على خصوص قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86، 87]، وخصوص {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ويتأوَّلون هذه الأدلَّة الخاصة مع ما في السُّنَّة من النصوص التي لا يمكن تأويلها، ويتركون البحث عن السنن حتى يحكموا على المتواتر بالآحاد، ويبالغون في أن العموم لا يتأوَّل في الوعيد، فيردُّ عليهم العموم الذي ورد فيه نفيُ الشفاعة مطلقاً عن المطيع والعاصي كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقوله: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فيتأولونه بما هو أخصُّ منه (¬4) فلا تستمِرُّ لهم قاعدةٌ، ولا يستمرون على أصل، ويقطعون في هذا الموضع الظَّنِّي مع كثرة المعارضات، وسَعَةِ (¬5) المُبيِّنات المُحكَمَاتِ المُخَصِّصَاتِ قرآناً وسنة، ¬
واحتمال العمومات على ردِّ المأثور، وتكذيب الثقات معتقدين للتحقيق الذي فات مَن سواهم، والسبق الذي لا يُدرِكُهُ فيه مَن عداهم، وهذا كلام البصرية والبهاشمة (¬1). وأما البغداديةُ، فجَحَدُوا الضرورة، وقالوا: العفوُ عن الذنب قبيحٌ عقلاً، ولو لم يصدُر قبلَه وعيدٌ، ولا تهديدٌ، بل أفحشُ من هذا أنهم قالوا: إنَّ الأصلح للعباد واجبٌ على الله تعالى في الدنيا والآخرة حتى التزموا أنَّ خلود أهل (¬2) النار فيها أصلحُ ما في مقدرات (¬3) الله تعالى للعباد، وأنه واجبٌ على الله، لأنه أصلحُ، وأعجبُ من هذا وأغرب أنهم لم يوجبوا (¬4) الثواب، لأنه أصلحُ، وذلك لأن العبادات عندهم شكرٌ على ماضي النعم، وكذلك قالت البغدادية من المعتزلة: إن الله ليس بسميعٍ ولا بصيرٍ ولا مريدٍ حقيقةً، وإنَّما ذلك مجازٌ، وحقيقته أنه عالمٌ لا سوى. وقالت البغدادية أيضاً: إن جميع أخبار الثقات مردودةٌ ما لم تَواتَرْ، ولا يدرون ما يُؤَدِّي ذلك إليه، ولا يدرون ما في ذلك من المفاسد، ويعتقدون أن ذلك متابعة (¬5) لمحض العقل وهو مكابرةٌ لمحض العقل، كما ردَّ عليهم ذلك أبو الحسين، والمنصور، وأبو طالب (¬6) وغيرُ واحدٍ. ومن عجائبهم أنه لا دليل لهم على ذلك إلاَّ أدلة (¬7) ظنيَّة من (¬8) ¬
عمومات وَرَدَ فيها ذمُّ الظن، أو قياسٌ عقليٌّ على العمل بالشك المساوي (¬1)، أو على العمل بالظنِّ المعارض للعلم، أو في موضع القطع، فإن كان الظنُّ حراماً، حرُمَ عليهم تحريم خبر الواحد بالظن أيضاً (¬2)، والظن الذي ذمَّه الله تعالى هو الشكُّ، وهو يُسمَّى ظناً في اللغة كما نصَّ عليه أئمَّةُ اللغة، وأما (¬3) الظنُّ الراجح، فلم يَرِدْ ذمُّه، بل سمَّاه الله علماً في غير موضع. ومن العجائب أن شيخهم أبا القاسم البلخيَّ (¬4) يُجيزُ العمل بالظن في معرفة الله تعالى، لكنه يُسمِّيه علماً نقله عنه المؤيَّدُ بالله في " الزيادات "، فانظر إلى هؤلاء كيف يمنعون من العمل بالظن في فروع الشرع، ويَخرِقُون (¬5) إجماع الصحابة المعلوم، ويرُدُّون ما عُلِمَ ضرورةً (¬6) من إرسال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للآحاد إلى المسلمين، كمعاذٍ إلى اليمن، وقبول أهل اليمن (¬7) لمعاذ (¬8) معلوم، وتقرير النَّبي - صلى الله عليه وسلم - له على تبليغهم، ولهم على قبوله، ثم يُجيزون العمل بالظَّنِّ في معرفة الله، ويَدَّعُون أنهم بَلَغُوا في التحقيق مبلغاً عظيماً، وشأواً بعيداً إلى أمثالٍ كثيرةٍ لا يَتَّسَعُ الموضعُ لِذِكرِها. فإن (¬9) كان مُرادُ (¬10) المعترض على أهل السنة بالجمود، وعَدَمِ ¬
قوله: إن أهل الحديث أيضا قد وقعوا في أمثال هذه الشنع
سيلان الأذهان أراد أنهم ما شاركُوا أهل الكلام في هذه العقائد الدقيقة، ولا أُشرِبَتْ قلوبُهم العُجْبَ بهذه المغاصات اللطيفة، فلقد أراد أن يَذُمَّ، فَمَدَحَ، وأن يَفضَحَ، فافتُضِحَ، فلقد صان الله عصابة الإسلام، وركن الإيمان من الصحابة والتابعين، وحملة سنة سيد المرسلين عن سماع هذه الأباطيل، وابتلانا بمعرفتها ومعرفة أهلها، والردِّ عليهم، فإنَّا لله، وإنا إليه راجعون، والسعيد -والله- من لم يَعْرِفُ عُلُومَكم التي سلبت أذهانكم إلى هذا الحدِّ. فإن قلت: إن أهل الحديث أيضاً قد وقعوا في أمثال هذه الشُّنعِ، وارتكبوا (¬1) نظائر هذه البدع من الجبر والتشبيه، ونسبةِ القبائح إلى الله تعالى، مثل تكليف ما لا يُطاقُ، والتعذيبِ بغير ذنب. فالجواب: من وجوهٍ. الوجهُ (¬2) الأول: أنهم منزَّهون من جميع ما ذُكِرَ، وقد مرَّ تنزيهُهُمْ من التشبيه في أوَّل هذا الكلام، وهو الكلام (¬3) على الوهم الخامس عشر وسيأتي براءة المتكلمين منهم (¬4) عن ذلك في آخر هذا الكلام، وسيأتي أيضاً في الوهم الثامن والعشرين براءتُهم من الجَبْرِ، وفيما بعده براءتُهم من تكليف ما لا يُطاق، والتعذيب بغير ذنبٍ ونحو ذلك بنقل نصوصهم من كُتُبِهم المشهورة الموجودة في ديار الزيدية، ومن كلام علماء المعتزلة والزيدية في بعض هذه المسائل. ¬
الوجه الثاني: أنَّ ذلك إن وجد فيهم، فهو (¬1) في فِرَقٍ قد أنكروها وردُّوا عليها في وقتهم (¬2) كالمطرفية (¬3) والحسينية في الزيدية، بل كالباطنية الكفرة في شيعة علي عليه السلام. الوجه الثالث: أنَّ ذلك إنما وقع مع بعض من يُنسَبُ إليهم من فيض علومكم هذه التي افتخرتُم بممارستها بسبب الخوض فيها، والتعويل عليها، ومن بَقِيَ منهم على ما كان عليه (¬4) السلف الصالح سَلِمَ من جميع ما حَدَثَ من التعمُّق في الأنظارِ والتكلُّف في المذاهب. الوجه (¬5) الرابع: أن شرط المحدث السُّني أن لا يُحدِثَ في العقيدة مذهباً (¬6) لم يكن معروفاً في وقت (¬7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجرد النظر، فإنَّ الدين قد تمَّ وكَمُلَ بنصِّ كتاب الله تعالى حيثُ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فمن أوجب في العقائد التي هي أصول الإسلام أمراً لم يكن مذكوراًَ عند السلف، فقد خرج من (¬8) أهل السنة ولحق بأهل الممارسة للكلام، والأذهان السَّيَّالَة. الوجه الخامس: أن المحدِّث إنما يستلزم المُشكل حيث ورد السمع ¬
به قطعاً، وإنما نشأ إشكالُه من جهة (¬1) الاستبعاد العقلي مثل إثبات القِدَمِ لله تعالى مع عدم تصور العقل لماهيته، ومثل إشكال (¬2) إثباتِ الفاعلية لله تعالى في حال القدم، وإشكال إحالة الفاعلية له سبحانه أيضاً. وكذلك إثباتُ العذاب الأُخروي، ودوامُه على كل مذهب، فالمحدِّثُ لكمال معرفته بالأحوال النبوية يعلم ضروراتها التي جحدُها كُفرٌ، فيؤمن بها، ويَكِلُ المشتبهات (¬3) إلى الله تعالى، ويلتزم من محارات العقول، ومستبعداتها ما التزمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء به، فَيَسْلمُ من الكفر. والمتكلم لبعده عن الاشتغال بعلم النقل رُبَّما يمكن الاستبعاد العقلي معه، فاعتقده علماً ضرورياً من العقل، ثم اعتقد المعلوم ضرورةً من الدين (¬4) آحاداً، لأجل تقصيره في البحث، وشُغله وقته بالنظر، فيقع بذلك من الكفر أو الإثم في أعظمِ خطرٍ، ومعرفةُ هذا وتأمُّلُه بعين الإنصاف هو من أعظم المرجِّحات للاشتغال بعلم الأثر، فإن مدة العمر قصيرة، وقلَّ من جمع الإمامتين في العِلْمَين، ومن ثمَّ قيل: إنَّ عِلْمَ السلف أسلم، والله سبحانه أعلم. ومن أمثلة ذلك: شكُّ الباطنية في المعاد مع تواتره، وشكُّ كثير من المبتدعة في كثيرٍ من الصفات مع تواترها، كنفي المعتزلة لنفوذ مشيئة الله وإرادته وقدرته على هداية الخلق، ونفي الأشعرية لحكمته سبحانه، ¬
العاشر: إن المحدثين هم أهل العناية بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ونفيهم (¬1) الجميع لحقائق كثيرٍ من أسمائه الحسنى، كالرحمن الرحيم العلى العظيم. وكل هذا يتعذر اعتقاده على أئمة الأثر، ولا يُتصوَّر صدوره منهم إلاَّ من بُلي منهم بشيءٍ من الكلام، فإن الوسوسة قد ثبتت في الضروريات ضرورةً، مثل وسوسة كثيرٍ في الطهارة، وعكس هذا اعتقاد (¬2) أن ما لا أصل له ضرورى من الدين، كاعتقاد الروافض لتواتر النصِّ على اثنيّ عشر إماماً، وتواتر فسقِ كبار الصحابة أو (¬3) كفرهم. الوجه السادس: أن كلامنا إنما هو في فوائد ممارسة علم الكلام، والمحدِّث إذا ابتدع، فلم يُؤتَ من الجمود، بل من سيلان الذهن واتباع وساوس النظار، فبان لك بمجموع ما نبهتُك عليه وبَالُ هذه الفَيْهَقَة (¬4) التي توهمَتها لك، وهي عليك. العاشر: من الأصل أن المحدثين هم أهل العناية بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أي فرقةٍ كانوا كالنُّحاة والمتكلمين، وهذه للمحدثين صفةٌ شريفة، ورُتبة مُنيفة، وتعليقُك للسخرية (¬5) والانتقاص بأهلها دليلٌ على ¬
اتصافك (¬1) أنت بما رميتَهم به (¬2) من البله، لأنَّ تعليق الذمِّ على الأوصاف الحميدة تغفيل، فلا يقول الفطناء متى أرادوا الذمَّ والانتقاص لأحد: أنه من بُلْهِ المتقين والمقربين، ونحو ذلك. ومن العجب أن كلامه ذلك (¬3) يقتضي ذمَّ طائفةٍ (¬4) كثيرٍ من أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم، لأنَّ من المعلوم أنَّ منهم محدِّثين كما يجبُ أن يكون من كلِّ فرقةٍ (¬5) من فرق الإسلام، وقد أوضحتُ أسماء جماعةٍ من أئمة الحديث من الشيعة والمعتزلة في هذا الكتاب، وذكر ابن حزم جماعة من محدثي أهل البيت في " جمهرة النسب "، وكذلك الحاكم في كتابه " علوم الحديث "، بل ذكر ذلك الأمير الحسين في كتابه " شفاء الأوام " فقال في حرب البغاة ابتداءً في غير وقت الإمام (¬6) ما لفظه: وهو قول السيد الإمام الحسن بن إسماعيل الجُرجاني قال: وهو الذي ذهب إليه محصلو محدثي أصحابنا. انتهى. فانظر كيف أثبت لنا أصحابا مُحدِّثين، وجعل منهم مُحصِّلين مجتهدين، ولم يصمهُم بالبَلَه والجُمُود أجمعين بمجرَّد كونهم محدثين، والحمد لله رب العالمين. وقد خاطب الله تعالى المشركين بأنهم يعقلُون، وأنهم يعلمون، بل ¬
الحادي عشر: إن لأهل كل فن من العلوم الإسلامية منة على كل مسلم توجب توفير أهل ذلك الفن
بأنهم {قوم خصمون} [الزخرف: 58]، فكيف يعجِزُ عن ذلك (¬1) المحدثون مع نور الإيمان، ومعارف السنة والقرآن. الحادي عشر: أنَّ لأهل كُلِّ فنٍّ من العلوم الإسلامية منَّةً على كل مسلم تُوجِبُ توقير أهل ذلك الفن وشكرهم والدعاء لهم، لما (¬2) مهَّدوا من قواعد العلم، وذلَّلوا من صعوبته، وكثَّروا من فوائده، وقيَّدوا من شوارده، وقرَّبوا من أوابِدِه (¬3) لا سيما من انتفع بعلومهم، ونظر في حوافِلِ تآليفهم (¬4)، والمُعترِضُ ممن قرأ كتب الحديث، ونقل في تواليفه منها، واستند في الرواية إليها فبئس ما جَزَيْت من أحسن إليك بارتكاب ما لا يحِلُّ لد، وترك ما يجب عليك. ومن (¬5) آداب العلماء والمتعلمين أن يبتدئوا القراءة في كل مجلس (¬6) بالدعاء لمشايخهم ومعلميهم، وأهلُ كل فنٍّ هم مشايخ العالم فيه، وأدلة المتحير في جوابه (¬7). الثاني عشر: العجب من المعترض كيف يذُمُّهم، وهو متحلٍّ بفرائد علومهم، ومُرتوٍ من موارد تواليفهم، ومتصدِّرٌ للتدريس فيها، وعاشٍ (¬8) في تواليفه إلى ضوء أنوارها (¬9)، ومُهتدٍ في معارفه بنجوم أئمتها ¬
لا سيما في تفسيره للقرآن وعلومه، فإنه نَقَلَ فيه منها، ومن " تفسير الفخر الرازي "، ونقل فيه من " الكشاف "، وصاحبُ " الكشاف " ينقُلُ منها مع أنه ليس من الزيدية، ولذلك لا يذكُر فيه خلافهم في الفقه، ولا يذكر أحداً من أئمتهم إلاَّ من لا يسلم لهم أنه منهم. وكان اللائق به أن يأنف من استعارة علوم المخالفين ومعارف أهل الجمود والبدع من الناس أجمعين، ويقتَصِرَ على ما في تفسير جده وجدنا الجميع الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم عليهما السلامُ، وما في تفاسير سائر الأئمَّة، ولا سيما تفسيرُ الحسين بن القاسم، فإنَّه كثير الشواهد اللغوية، مثل ما حثَّ على ترك تواليف غيرهم في سائر العلوم. فهلاَّ تجنَّب في تفسيره ذِكْرَ القُراء السبعةِ، فإنَّهم ليسوا من أئمَّة الزيدية، وكذلك أئمة النحاة المتكلمون على وجوه القراءات، وأئمة المعاني والبيان الخائضون في لطائف البلاغة، وحفَّاظُ اللغة المعتمدون في نقل اللغات، وعلماء التفسير من التابعين المشحونة بذكرهم جميع التفاسير (¬1)، الناقلين لأقوال الصحابة، وكذلك علماء التاريخ، فما أعلم في بلاد الزيدية تاريخاً من تأليف أئمتهم، وإنما يعتمدون " تاريخ محمد بن جرير الطبري " (¬2)، وفي الأزمنة الأخيرة دخلها " تاريخ عز الدين بن الأثير " (¬3)، و" النبلاء " للذهبي. ¬
الثالث عشر: إن جميع أئمة الفنون المبرزين فيها قد شاركوا المحدثين في عدم ممارسة علم الكلام
والخلف والسلف مجتمعون (¬1) على قبول العلوم من أهلها، والسيدان الإمامان المؤيَّد وأبو (¬2) طالب أخذا علم الحديث عن أهله، فأخذا عن غير واحدٍ من أئمتهم ورواتهم كما تقدَّم بيانُ طرفٍ منه (¬3) أول هذا الوهم، وأكثر المؤيد بالله عن الحافظ الشهير محمد بن إبراهيم المعروف بابن المقري، والسيد أبو طالب أكثر عن الحافظ الجرجاني (¬4) أحمد بن عبد الله بن عديّ صاحب كتاب " الكامل في الجرح والتعديل ". فمن أين جاء لهذا المعترض الغناء التام عن المُحدثين؟ ومن قال بقولهم من النحاة، واللغويين، والمفسرين، والقراء، والمؤرّخين؟ لا والله ما استغنى عنهم، ولا بَرِحَ كلاًّ عليهم، وما أقبح بالإنسان أن يكون، من كفار النَّعم وأشباه النَّعم ولله من قال (¬5): أقلُّوا عليهم (¬6) لا أبا لأبيكُمُ ... مِنَ الَّلوْمِ أوسُدُّوا المكان الَّذي سدُّوا الثالث عشر: أنَّ جميع أئمة الفنون المُبرِّزين فيها قد شاركوا المحدثين في عدم ممارسة علم الكلام، وإن لم يُشاركوهم في كراهة الخوض فيه، لكن علة جمودهم، ورميهم بالبَلَه هي عَدَمُ الممارسة، والممارسة لا تحصُلُ بمجرد الاعتراف بفضيلة العلوم، فأخبرنا: هل مارس علم الكلام جميع أئمة الفقه كالشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، والثوري ومن لا يأتي عليه العدُّ، وأئمة النحو كالخليل وسيبويه ونحوهما، وأئمَّةِ القُرَّاء ¬
واللغويين، وأهل التفسير، وسائر علوم الإسلام؟! فإن قلت: كلُّ أهل الفنون الإسلامية قد مارسوا الكلام ما خلا (¬1) المحدثين لم يُستفد إلاَّ إعلامُ الغير بأنك معانِدٌ، وإن اعترفت بعدم ممارسة الأكثرين منهم (¬2)، وإن مارس بعضهم فكذلك المحدِّثون قد مارس بعضهم دون الأكثرين منهم، ولم ينفعهم هذا من داء البَلَهِ، وجمود الفطنة، وسوء الأذى، وفُحش السخرية، والكِبْرِ، ويلزمُكَ أن تُشْرِك سائر علماء الإسلام في ذلك الملام ما خلا أهل الكلام، وما أقبح ما يجُرُّ (¬3) إليه هذا الجهلُ من الكبر الفاحش (¬4)، فإنَّه قد ثبت في الحديث الصحيح " أنَّ الكِبْرَ غَمْصُ الناس " (¬5) وهذا غمص (¬6) أئمة الناس، فاستعذ بالله من الجمع (¬7) بين النقص والكبير فإنَّ تكبُّر النَّاقص أفحشُ من تكبر الكامل، ولهذا كان الفقير المتكبِّرُ من أبغض الخلق إلى الله كما ورد في الصحيح (¬8)، فكيف إذا كان كِبْرُهُ على من هو خيرٌ منه، وقد ورد ¬
الرابع عشر: تصريح السيد بوصم شيخ الإسلام مالك بن أنس، دليل على أنه الجامد الفطنة
في مطلقِ الكبر وأخَفِّه وأقلِّه أنه يمنع رحمة الله ودخول جنته، ففي الصحيح أنه " لا يشُمُّ رائحة الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر " (¬1) الرابع عشر: تصريحك بوصم (¬2) شيخ الإسلام، وإمام دار هجرة المصطفى عليه السلام مالك بن أنسٍ رضي الله عنه دليلٌ على أنك أنت الجامدُ الفطنة، الكثيرُ البطنة، وأنك لا تدري ما يخرج من رأسك، ولا ما يطيش من دماغك. ومَنْ جَهِلَتْ نفسُهُ قدْرَهُ ... رأي غيرُهُ مِنْهُ ما لا يرى (¬3) كأنك لا تدري ما قدر الأمة، ولا مَحَلُّ إجماعها، أو لم (¬4) تعرف أن الأمة المعصومة عن الخطإِ أجمعت على أنه أحد المجتهدين المعتبرين، ¬
وأنه شيخ سُنة سيد المرسلين، وأنها خضعت بين يديه كراسي علماء المسلمين (¬1)، وأنه لا يصح انعقاد الإجماع مع خلافه، دع عنك الكثير الطيب مما في كتب الرجال من جلائل مناقبه، وخصائص فضائله، وقد جاء في الأثر: " أن الرجل كان إذا حفظ الزَّهراوين (¬2) جدَّ فينا " وجاء في تعظيم العلماء والمتعلمين ما لا يتَّسِعُ له هذا المكان من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ولو لم يكن في ذلك إلاَّ ما وردَ من بَسْطِ الملائكة أجنحتها لطالب العلم (¬3)، فهذا في طالب العلم (¬4) فكيف بالعالم، فكيف يا سيَّال (¬5) الذهن بشيخ الإسلام، وإمام دار الهجرة النبوية على صاحبها السلام بإجماع العلماء الأعلام، وقد صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " وَجَبَتْ "، فيمن أثنى عليه جماعةٌ يسيرة، أي: وجبت له الجنة، وقال: " أنتم الشهداء " (¬6)، وفسَّر ذلك بمن (¬7) شهد له ثلاثة أو اثنان (¬8)، فكيف بمن تطابق على إمامته علماء الإسلام؟! وكيف لم يهتد ¬
ذهنُك هذا (¬1) السيال إلى أنه عارٌ عليك أن تذُمَّ من لا تستفيدُ بذمِّه إلاَّ كشف الغطاء عن حماقتك، وخلع جلباب الحياء عن وجه خلاعتك؟ وانظر (¬2) إن بَقِيَ لك مُسْكَةٌ من عقلٍ، أو التفاتٌ إلى تمييز، هل لك مطمعٌ في إجماع الأمة على اجتهادك، والاعتداد بأقوالك، والتعظيم لك، والثناء عليك؟! ومن الذي حَصَلَتْ له هذه المرتبة الرفيعة العُظمى من أعيان الأئمة والعلماء؟ ومن أنت حتى ترفع رأسك إلى القدح في أهل هذه المرتبة العزيزة؟ بل قد بان بكلامك أنك قصرت عن العلم بأنهم فوقك، وكيف تطمع في أنك من أهل مرتبةٍ لم تعرفها، ولم تعرف مكانك في البُعد منها، وما أنصفت (¬3) في جوابك عن (¬4) الإمام مالكٍ. أتهجُو ولستَ لهُ بكُفءٍ ... فشرُّكُما لخيرِ كُمَا الفداءُ (¬5) ¬
الرد على طلب الكفرة بمقامين: المقام الأول وجوابه من وجوه:
قال: يقال للمخالف ما تقول: إذا وَرَدَتْ عليك شُبُهَات الملحدين، ومشكلات المُشبِّهَة والمُجبرة المتمردين؟ وقد ساعَدَك الناس إلى إهمال النظر في علم الكلام، وهل هذا إلاَّ مكيدةٌ للدين إلى آخر ما ذكره. أقول: لا يخلو الكفرة إما أن يطلبوا منا تعريفهم بأدلتنا حتى يُسلِمُوا، أو يُوردوا علينا شُبَهَهُم حتى نترُك دين الإسلام، فهذان مقامان: المقام (¬1) الأول: أن يسألونا (¬2) بيان الأدلة على صحة الإسلام حتى يدخلوا فيه، والجراب (¬3) من وجوهٍ: الوجه (¬4) الأول: معارضة مشتملةٌ على تحقيق، وهي أن نقول للمتكلمين: ما تقولون إذا قال الكفرة: إنَّ أدلَّتكم المُحَرَّرة في علم الكلام شُبَهٌ ضعيفة، وخيالاتٌ باردةٌ كما قد (¬5) قالوا ذلك أو (¬6) أمثاله؟ فما أجبتم به عليهم بعد الاستدلال والنزاع والخصومة، فهو جوابنا عليهم قبل ذلك كله، فإن قالوا: إنَّه يحسُنُ منا بعد إقامة البراهين (¬7) أن نحكم عليهم بالعناد، ونرجع إلى الإعراض عنهم أو إلى الجهاد، وأما أهل الأثر وترك علوم الجدل والنظر، فإنه يقبُحُ منهم ذلك قبل إقامة البراهين (7). ¬
جواب في أن الحجة لله تعالى قد تمت قبل نصبنا ونصبكم للبراهين
فالجواب: أنَّ الحجة لله تعالى قد تمَّت قبل نَصْبِنَا ونصبكم للبراهين (¬1) بما خلق (¬2) الله لهم من العقول، وأرسل إليهم من (¬3) الرسل، فكما إنهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم (¬4) لهم، حسن من الله تعالى أن يعذبهم، فكذلك يحسن (¬5) منا قبل المناظرة قتالهم قاطعين بأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، مقتدين في ذلك برسله الكرام وسائر أئمة الإسلام، ويقال للمتكلمين: هل تحكمون على الكفار قبل مناظرتكم لهم وفي خلالها بأنهم معذورون لا إثم عليهم أو لا؟ إن قالوا بالأول، خالفوا الإجماع، بل ضرورة الدين. وإن قالوا بالثاني، فالحكم الذي حكمتم به عليهم بعد المناظرة قد كان حاصلاً لهم قبلها، وإن كان (¬6) قصدكم بالمناظرة أن تعلموا عنادهم، فهو أيضاً معلومٌ قبلها إذ لو لم يكونوا معاندين، كانوا معذورين، كما قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِر} [الإسراء: 102]، وإن كان قصدُكم بمناظرتهم تمكينهم (¬7) من معرفة الله تعالى فقد مكنهم الله تعالى من ذلك، وهو غيرُ مُتَّهَمٍ في عدله وحكمته، وإقامة حجته (¬8)، وفي الحديث الصحيح أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحدٌ أحبَّ إليه العُذرُ من الله، من أجلِ ذلك أرسل الرُّسُل ¬
وأنزل الكتب" أو كما قال، رواه البخاري (¬1) وغيره، وقال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، إلى أمثال ذلك من النصوص الدالة على أن حجة الله قد وضحت، وقامت على الخلق من قبل مناظرة الدَّرَسَة، وخيالات المبتدعة، ووساوس المتكلمة، وتحكُّمات المتكلّفة، ولكنهم كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِين} [النمل: 13]، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام لما قال له (¬2) فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101، 102]، وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. وإن كان مرادُكم الفصل بين المختلفين، وجمع كلمة العالمين (¬3) أجمعين فذلك غير مقدورٍ عند أهل السنة لأحد من المخلوقين (¬4)، ولا يَقْدِرُ عليه عندهم، ولا يفصل بينهم إلاَّ ربُّ العالمين كما قال سبحانه في كتابه المبين: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [الحج: 17]، ولهذا سمَّى الله يوم القيامة يوم الفصل، والعَجَبُ من المعتزلة أنَّ مذهبهم أن هداية الكفار والضلال غير مقدورةٍ (¬5) ¬
الوجه الثاني: معارضة أيضا، وهي لبعض المتكلمين ألزم، لأن في المتكلمين من المعتزلة طوائف
لله سبحانه وتعالى عما يقولون (¬1) عُلُوّاً كبيراً، ثم يوجبون على المخلوق الضعيف التعرض لهدايتهم. فإن كانت غير مقدورة له، فهذا لا يجوز إيجابه بالرأي، والنصُّ عليه غير موجود، ومتى انتهى إلى حد المراء، فالنصوص على المنع منه متواترة، وإن كان هداية الكفار مقدورة للعبد، فكيف لا تكون مقدورة لله تعالى؟!. فإن قلت: هم يلتزمون (¬2) أيضاً أن الله سبحانه عن مقالتهم غير قادر على مقدورات العباد، لأن ذلك يؤدي إلى تجويز مقدور بين قادرين. قلت: نعم، ولكنهم يجوزون قدرته سبحانه على أمثالها دون أعيانها، وسوف يأتي البرهان القاطع على بُطلان كلامهم عند الكلام على أفعل العباد، وأمَّا إلزامنا لهم هنا (¬3)، فهو خروجُ قدرة الرب سبحانه عن التعلق بمقدور العباد، وبمثله (¬4) أيضاً، فهو أفحش من مذهبهم حاشا أبا (¬5) الحسين وأصحابه فإنهم يوافقون أهل السنة في هذه المسألة. الوجه الثاني: معارضة أيضاً، وهي (¬6) لبعض المتكلمين ألزم، وذلك أن في المتكلمين من المعتزلة طوائف لا يوجبون النظر في علم الكلام. ¬
الطائفة الأولى: من قال بأن المعارف ضرورية
الطائفة الأولى: من قال بأن المعارف ضرورية، لقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]، ولغير ذلك كما سيأتي، ويجعل النظر (¬1) شرطاً اعتيادياً (¬2) غير مؤثرٍ، وهم أقوى هذه الطوائف حجة لأنهم لم يسقطوا وجوب النظر في الجملة، ولا طرحوا المعلوم من ثمرته بالفطرة، ولا جحدوا المعلوم منه عن سلف الأمة، ومع ذلك، فلم يبتدعُوا القول بوجوب النظر في الدقائق، والطرائق المبتدعة، وإنما يوجبون من النظر ما يوجبه أهل السنة، وهو النظر فيما أمر الله بالنظر فيه، وفيما عُلِمَ من الأنبياء وأصحابهم وخير أسلافهم أنهم اعتمدوه من النظر في المعجزات، والمخلوقات من غير شعورٍ بترتيب المقدمات على الشرائط المنطقيات، وما ذكره الغزالي في " القسطاس " (¬3) من كون تلك المقدمات معلومة لجميع العقلاء، واردة (¬4) في المعنى في كتاب الله تعالى لا يستلزم وجوب الخوض في المنطق والكلام، بل يوجب الاستغناء عن ذلك بالفطرة كما أن من يعرفُ وزن الشعر بالفطرة، ويقوله على أبلغ الوجوه لا يحتاج إلى قراءة علم العروض، ولا يمتنعُ أن يرد الشرع بالمنع عمَّا يستغنى عنه لحكمةٍ استأثر الله بعلمها، كما ورد بالنهي عن كثيرٍ مما لم يُدرك بالعقل قُبْحُهُ، بل ورد بالنهي عن كثيرٍ ممَّا ظاهِرُهُ قُرْبَةٌ، كصلاة الحائض (¬5)، ¬
والوِصال في الصوم (¬1)، والصلاه في الأوقات المكروهة (¬2)، وتلاوة الجُنُب للقرآن (¬3). وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البدع (¬4)، وأمر عند حدوثها بالتعوُّذ من الشيطان، والفَزَعِ إلى القرآن، ولو خُلينا وقضايا ¬
العقول، ما مُنِعْنَا الخوض في لطيف الكلام لأجل تقوية أدلة الإسلام، والنظر في المخلوقات الوارد في الكتاب والسنة لم (¬1) يُقَيَّدْ بوجهٍ مخصوصٍ، وهو طريقة المتكلمين، بل فُهِمَ منه تعلُّقه بما يُوقِفُ النفس على الحقِّ اليقين، ويُخرجها من ظلمات دعوى المبطين إلى أنوار معارف المُحقِّين، وربما اختلفت الأدوية على حسب اختلاف الأدواء، وكثيرٌ من الأذكياء الذين يقعون في الحيرة والوسوسة لا ينتفعون من النظر إلاَّ بأمرين. أحدُهُما: توقيف النفس على أنه قد وقع في الشهادة ما لم يكن ليقر به العقل، وكان في الغيب، وهو جود هذا العالم العجيب المحكم على ما أشار الله تعالى إليه، وقد قرره الجاحظ في " العبر والاعتبار " فإنه لو لم يكن مخلوقاً لله تعالى كما جاء به الإسلام، لم يكن بد من القول بالمحارَات، الوقوع في المحالات، فإنه يلزمُ حينئذٍ إمَّا القول بِقَدَمِ العالم، والقِدَمُ بنفسه هو أعظم المحارات، أو القول بحدوثه من غير مُحدِثٍ ولا مُرَجِّحٍ، وذلك من أعظم المحالات، فحينئذ تخضع النفس للاستسلام لبراهين الإسلام. وثانيهما: تخويف النفس -من الوقوع- في عظيم (¬2) العذاب، فإنها كما لا تُؤمن (¬3) به، فإنَّها لا تأمن منه، لأن طبيعتها عدم الإيمان بالغيب، وعدم الأمان منه، ولذلك أمر الله تعالى أن يحتج بهذا المعنى على المشركين في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ -إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأحقاف: 10]، وسيأتي ¬
الطائفة الثانية:: من يقول: إن المعارف ضرورية مطلقا
تقرير هذا في بيان (¬1) الحكم في تقدير الشرور، وهو من أنفع ما تُكسر به سورة النفس عند نُبُوِّها عما لا تألفه ولا تعرِفُه ممَّا جاءت به النبوات، وهو داخلٌ فيما أمر بأنه (¬2) من النظر في ملكوت الأرضين والسماوات. الطائفة الثانية: من يقول: إنَّ المعارف ضروريةٌ مطلقاً، وذلك بعد تمام العقل وخطورها في الخاطر، وزوال السهو عن تصورها، وهؤلاء لا (¬3) يحمِلُون الأمر بالنظر والفكر على مُجرَّد ترك السهو والغفلة، فإنَّ الساهي عن العلم الضروري غير عالم به في حال سهوه عنه، ولذلك شبَّه الله الغافلين بالأنعام، فقال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} [الفرقان: 44]، قالوا: وليس الأمرُ بالنظر يُناقِضُ كونَ المنظور فيه معلوماً بالضرورة، ولذلك شرع الله للمكلفين الفكر في الموت والمرض ونحوه مع أنه معلومٌ بالضرورة، وأجمعت الأمة على استحباب التفكر فيه، وأخبرنا الله تعالى به، بل أدخل المؤكِّدات على الجبرية، فقال سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون} [المؤمنون: 15]، وفيه بحث لطيف، وهو أن المؤكِّدات لا تدخُل على المعلومات (¬4)، فلا يحسُنُ أن نقول: والله إن السماء لمرتفعة فوق الأرض، وإنما حَسُنَ ذلك في الآية (¬5) لتنزيل المخاطبين لشدة غفلتهم منزلة الجاحدين المنكرين له، كما ذكره علماء المعاني والبيان في قول الشاعر: ¬
جاء شقيقٌ عارضَاً رُمحَه ... إنَّ بني عمِّك فيهم رِمَاحٌ (¬1) وقال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن} [التوبة: 126]. وقال سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} [الأنعام: 11]. وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الأنعام: 40]. وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46]. وقال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِه} [الأنعام: 99]، وكثيرٌ ما يَرِدُ في كتاب الله تعالى، وقد يعظُمُ الانتفاع بالنظر في الضروريات حتَّى قال المؤيد بالله عليه السلام في كتابه " سياسة المرتدين ": إنَّ الفكر في الموت والقبر والبلى أنفع (¬2) من الفكر في عذاب النار وأمثاله (¬3)، وعلَّل ذلك بكون الموت وأحواله ضرورية. وعلى الجملة، فإن الانتفاع باستحضار تصور العلوم الضرورية النافعة، ودوام تصورها معلومٌ بالضرورة، والتضررُ بدوام الغفلة عنها معلومٌ بالضرورة، ولما يفترِقِ الحال بين أهل الصلاح وغيرهم، وتفاوت المراتب إلاَّ بذلك، وعامة ما اشتملت عليه كتبُ الرقائق المُبكية، ¬
والمواعظ المُشجية هو التذكير بالضروريات، بل جاء ذلك في أشعار العرب وعقله من لم يعرف النظر قال مُتمِّمٌ (¬1): وقالوا أتبكي كُلَّ قبرٍ رأيتَهُ ... لِقَبْرٍ (¬2) ثَوَى بين اللِّوَى فالدَّكَادِكِ (¬3) فقُلتُ لهم إنَّ الأسى يبعَثُ الأسى ... دعُونِي فهذا كُلُّهُ قبرُ مالِكِ ولو بسطتُ هذا المعنى، لجاء في مجلداتٍ، وقد أشار الله تعالى ¬
إلى فضيلة أهل الرِّقَّة والخشوع التي هي من آثار استحضار تصوُّر الضروريات فقال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون} [المائدة: 82]. ثم وصفهم بالمعرفة، ووصف معرفتهم بما يوجب ملازمة (¬1) الخشوع العظيم، فقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} [المائدة: 83]، وهذه صفة معرفة الصالحين لا صفة معرفة الجدليين والمنطقيين وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]، فكيف يقال: إن من اعتقد أن المعارف ضروريةٌ يلزمه إهمال الفكر (¬2) والنظير وردُّ القرآن والخبر والأثر. ولقد صنَّف الجاحظ -وهو من أهل هذه المقالة- كتات " العبر والاعتبار " (¬3)، فأتى فيه بما يقضي له بعُلُوِّ القدر في علم النظر من التفكر في عجائب المخلوقات الضروريات. وكذلك النظر في علم التشريح، وعجيب خِلقة الإنسان والتأمل لما يُدْرَكُ من (¬4) ذلك بالتواتر والعيان. وقد حثَّ الله تعالى على النظير في المشاهدات وهي من ¬
الضروريات، فقال: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]. وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين} [يس: 77]. وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم} [لقمان: 10]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]. فالحث على النظر في المعلومات معلومٌ، لكن المخالف يقول: إنَّ المراد بالنظر فيها استنباطُ علومٍ غيرها بطريق استدلالية تنبني على مقدماتٍ متركبةٍ تركيباً مخصوصاً على وجهٍ يُنتج العلم على سبيل الاختيار، وأهل المعارف يقولون: إنَّ المراد بالنظر فيها؛ إمَّا ما يحصُلُ عنده من تعظيم المعبود، والخشوع له، والرِّقة، والإجلال، والخوف والرجاء كما يحصُلُ بذكر الموت ونحوه. وإمَّا ما يهجُمُ على القلوب بعد ذلك من صرف اليقين ورسوخ
الطائفة الثالثة: من المعتزلة والشيعة من يجيز أهل الحق
الإيمان من غير اختيار. وإما مجموعُهُما (¬1)، ويتفاوت الحاصل من (¬2) ذلك تفاوتاً عظيماً لا يقف على حدٍّ، ولا يجري على قياسٍ على حسب حكمة الله واستحقاق العبد، وربما أبكى، وربَّما أقلق، وربَّما لم (¬3) تحتمله القوى البشرية، فيُصعَقُ العبد كما صعق موسى عليه السلام، وربما زاد على ذلك فقتل، فسبحان من هو على كل شيءٍ قدير، وبكل شيء بصير. الطائفة الثالثة: من المعتزلة والشيعة من يجيز تقليد أهل الحق، وهو قول شيخ البغدادية أبي (¬4) القاسم البلخي الكعبي حكاه عنه السيد الإمام المؤيد بالله عليه السلام في " الزيادات "، وذكر أبو القاسم ما يدل عليه في " المقالات " وهو قوله فيها عند ذكر العامة، وقد عدَّهم فرقة مستقلة، وذكر ما يجتمعون عليه من إضافة صفات الكمال إلى الله، وتنزيهه عن صفات النقص أو كما قال، ثم قال بعد ذلك. فهنيئاً لهم السلامة. وهذا القول مرويٌّ عن الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وصرح به السيد المؤيد بالله عليه السلام في آخر كتاب " الزيادات " تصريحاً لا يحتمل التأويل البتة؛ لأنه احتج عليه، فطوَّل (¬5) الكلام فيه، بما لا يمكن معه خفاءُ مقصوده، وقد حاول المعترض إنكار ذلك عن المؤيد بالله، وعارضه بقوله في الإفادة بوجوب المعرفة، فأمَّا المعارضة، فجهل، إذ ليس يمتنع أن يكون للعالم قولان صحيحان عنه، وأما إنكار ¬
إن لللطف المقرب وجوه
ذلك، وتأويله، فعنادٌ لا يساوي شيئاً، ولا يستفيد مُنكرُه إلاَّ أذى نفسه. وقد اعتمد المؤيد (¬1) بالله في " الزيادات " على الدليل المعلوم من فِطَرِ العقول، وهو حُسْنُ العمل بالظن كما ذكره في خبر الواحد كثير من المحققين، منهم أخوه السيد أبو طالب في " المجزي "، والإمام المنصور بالله في " الصفوة "، والشيخ أبو الحسين في " المعتمد " (¬2)، وهو دليل قوي، والعلم به فطري أوَّلي كما تقدم في آخر الوظائف. وقد تمسك من أوجب العلم بوجوه عقلية وسمعية أشفُّها كون العلم بالله تعالى لُطفاً مقرباً إلى طاعته تعالى، ومعنى المقرِّب: ما يكون المكلَّف (¬3) معه أقرب إلى أداء ما يجب عليه وترك ما يحرُمُ عليه. وقد ذكر المؤيد بالله في " الزيادات " أنه يحصُلُ بالظن مثل ذلك (¬4)، ومن السمع قوله تعالى: {فاعلم أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ} [محمد: 19]، وما جاء من ذم الظن والإجماع على تحريم الجهل بالله، بل (¬5) على أنه كفر، وللمخالفين فيها أنظار ومعارضات، أمَّا اللطف المقرب فمن وجوه: الوجه الأول: وجوبه إمَّا ضروريٌّ عند المعتزلة، كوجوب قضاء الدَّين، وردِّ الوديعة، وهذا ممنوع لوجدان التفرقة الضرورية، وعدم منازعة الخصم. وإمَّا استدلالي، ولا دليل يتصور على ذلك متركب من مقدمتين ¬
الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى
ضروريتين أو منتهيتين إلى ضروريتين، فلم يبق إلاَّ أنه مجرد دعوى أو ظن، فإن كان مجرد دعوى لم تُسمع، وإن كان ظناً، لم يكن مانعاً من ظنٍّ آخر هو أرجح منه بالنسبة إلى من لم يُسلم رجحانه، وكثيرٌ من أدلة الكلام ودعاوي أهله تنهار إذا اعتبرتها بهذا الاعتبار، وإنما هي (¬1) أقيسةٌ مبنية على اعتقاد صحة الحصر والسَّبْرِ (¬2) والتلازم في الثبوت، والانتفاء، لا على القسمة الدائرة بين النفي والإثبات، وأمثالِها من الضروريات بل قد يعللُ بعضُ المعتزلة بمجرد إمكان التعليل، ويقولون: ما أمكن تعليله بأمرٍ، وجب، وهذا في غاية السقوط. وقد ذكر الإمام (¬3) المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام هذه الأشياء أو أكثرها وزَيفَها، وأوضح بطلانها في مقدمة كتابه " التمهيد " (¬4)، وهي مردودة عند جميع المنطقيين وأهل التحقيق. وقد تعرَّض الفقيه يحيى بن حسن القرشي لتصحيحها في أول مصنفه في الكلام، فما أنصف، وهذا عارضٌ، ومن أحبَّ التحقيق فيه، نظر كلام الفريقين في كتبهم الحافلة. الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى، فلا يخلو إما أن يكون الملطوفُ فيه واقعاً عنده قطعاً (¬5) كالداعي الرَّاجح على معارِضِه أو لا. ¬
الأول: مسلَّم وجوب تحصيله متى كان مقدوراً، ولكنَّ العلم بالله تعالى ليس كذلك إجماعاً وضرورة، لأنَّ كثيراً ممَّن يعرِفُ الله تعالى يعصيه. والثاني: ممنوعٌ وجوبه، لأنه غيرُ مؤثِّر في وجود الفعل كالقدرة ولا شرط في تأثيرها، والفعل يقع مع حصوله تارةً، ولا يقع مع حصوله أخرى، وهو حين وَقَعَ الفعلُ غير مؤثِّر فيه، وحين لم يقع غيرُ مانع منه، فوجودُه وعدمُه على سواءٍ بالنسبة إلى وجود الفعل وعدمه، ولا فائدة بعد تحقق (¬1) ذلك، لاعتقادنا أنَّ المكلَّف معه أقربُ، فإنَّ مجرد القرب وصفٌ مُلغى مطَّرح ولا فرق (¬2) بين وجوده وعدمه مهما لم ينته إلى الرُّجحان المستمر وقوع الفعل عنده. فإن قلت: يجب تحصيله، لأنه يجوز أن ينضمَّ إليه غيره، فيكون الفعل مع المجموع راجحاً واقعاً مستمراً. قلتُ: التجويز لا ينتهضُ (¬3) دليلاً على الوجوب. فإن قلت: يجب، لأنه يُلازمُ الطاعة غالباً، أو في الأكثر، وعدمه يُلازِمُ الجُرأة كذلك، والظن يتبع الغالب، والأكثر في جلب (¬4) المصالح ودفع المضار، ولا يلتفت العقلاء إلى النادر، وإنكار نفع العلم في الغالب، والأكثر خلاف المعلوم عقلاً وسمعاً. قلت: هذا صحيح، ولكن فيه مباحث، منها ما (¬5) يأتي قريباً في ¬
الوجه الثالث: إن اللطف المقرب يمكن حصوله بالظن
مسألة المشيئة في كلام الرازي من عدم ظنِّ القُدرة عليه والتحصيل له. ومنها أن نظائره لا تجب إجماعاً من ملازمة الزهد، والخلوة، وقوانين علم الرياضة التي عُلِمَ بالتجربة الضرورية أن المكلف معها أقرب إلى الخير غالباً، وأن نظره معها (¬1) في العلوم أكثر صواباً. ومنها ما يأتي الآن في الوجه الثالث من قيام الظن مقامه في العمل لا سيَّما الظنُّ المقارب للعلم المُسمَّى علماً في اللغة. الوجه الثالث: سلَّمنا كون المقرب واجباً، لكنَّ مثل هذا اللطف يمكن حصوله بالظن، فيقوم مقام العلم، فإنا نعلم بالضرورة أن المكلف مع الظن لثبوت الرَّبِّ (¬2) سبحانه وثوابه وعقابه أقرب إلى الطاعة، ولا يجبُ العلم، لكونه معه أشدَّ قرباً، كما لا يجبُ العلم بالأدلة الكثيرة، لأنه معها أشدُّ قرباً من العالم بدليلٍ واحدٍ ونحو ذلك. وقد ذكر المؤيد بالله عليه السلام هذا المعنى في " الزيادات " وذهب إليه، وقد ذكر الفقيه قاسمٌ في تعليق شرح الأصول إشكالاً غيره، وهو: أنه يَلزَمُ أن لا تَجِبَ المعرفةُ في حق من علم الله تعالى أنه لا يعصيه، وإن لم يعرفها بالدليل، وفيه مباحث أكثر من هذا، وقد نبهتُك على أصولها، وإذا كان هذا هو أساسَ علم الكلام، وأصل وجوب الخوض فيه، فما ظنُّك بفروعه!! وأما قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وسائر الأدلة السمعية فلا يصحُّ عند (¬3) المعتزلة الاستدلالُ بها قبل إثبات ¬
للجواب على من استدل بالآية {فاعلم أنه لا اله إلا الله} وجوه
الصانع وعلمه وحكمته. والجواب على من استدل بهذه الآية من وجوه: الأول: أن كون الأمر يُفيدُ الوجوب ظنِّيُّ. الثاني: أن الظن يُسمى علماً، وإن مَنَعَ من ذلك مانعٌ (¬1) فهو ظنّي. الثالث: أنّ نفي الثاني ممَّا يَصِحُّ الاستدلالُ عليه بالسمع عند المعتزلة، والأشعرية، فيجوز أن يكون العلم المأمور به فيه مستنداً في الدلالة إلى هذا (¬2) السمع المنصوص فيه التوحيد كما لو أمره بالعِلم (¬3)، بشيءٍ من السَّمعياتِ المحضةِ التي لا تُدركُ بالعقل كعددِ الركعات، حُمِلَ على ذلك. فإنُ قيل: الآيةُ تدلُّ على أنه لا يحصُلُ العلم بالاحتجاج بالسمع حتى يكون السمع معلوماً. قلنا: إن أردتُم دلالة المطابقة، فممنوعٌ قطعاً، إذ لم يقُل: اعلم عقلاً، وإن أردتُم دلالة الالتزام، فممنوعٌ احتمالاً، إذ هو مَحَلُّ النزاع، إذ لا مانع من كون الشيء معلوماً ضرورةً من الدين عند العامي مع كون أصل الدين مظنوناً معه، ولا شكَّ أنَّ العلم في موضعٍ مع الظن في غيره، أو في أصله خيرٌ من الظنِّ فيهما معاً. الرابع: أن الخطاب خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعديه إلى غيره بطريق ظني، فأمَّا قولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه ¬
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]، فإنها في معنى التأكيد للخبر بكون عجزهم عن المعارضة دليلاً مُفيداً للعلم بأن القرآن أُنزل بعلم الله، وبصحة ما فيه من توحيد الله، ونفي كل آلهةٍ سواه، وقرينة ذلك وقفه للأمر بالعلم على شرط أن لا يستجيبوا، وذلك كقولك لمن يُناظرك: ائت بمثل كلام الله، فإن عجزت، فاعلم أنَّه حقٌّ، وإن لم تقطع بهذا المعنى يكون محتملاً، وبيان ذلك أن العجز عن المعارضة للقرآن دليلُ إعجازه، فمتى حَصَلَ العجز بعد التحدي، وتحقَّق، حصل العلم، فيكون الأمر حينئذ بتحصيل العلم مجازاً، لأنه لا يصح الأمر (¬1) بتحصيل الحاصل، وهذا على المختار أن حصول العلم بعد النظر في الدليل على الوجه الصحيح ضروري غير اختياري، ونظير ذلك قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 49 - 50]، والله سبحانه أعلم. الخامس: أنه معارض بأدلة المخالفين المتقدمة (¬2) فكيف يُستنتج العلم مما ترتَّب على هذه الظُّنون، وحَصَلَت فيه مع ذلك المعارضة؟ وكفي في معارضته بقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [الحجرات: 14]، فقد وعدهم بقبول أعمالهم في الإسلام مع عدم الإيمان الصادق الذي ¬
يُنافي الشكَّ، وإن لم يكن عن أدلة تفصيلية كإيمان كثير من الصالحين والعامة، فكيف مع حصوله من غير خوضٍ في الكلام؟ وهذا إذا لم يُضمِرُوا (¬1) نقيض الإيمان، فإنَّ ذلك هو النفاق الذي هو شرُّ من الشرك. نعوذ بالله منه. وإمَّا قولُه في آخر الآيات: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، فإنه لم يُطلق ذلك، بل شرطه (¬2) بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الحجرات: 17]، وهذا الشرط لم نعلم نحن حصوله، بل أول الآية نص على عدمه، فكأنه لما نفى ما ادَّعوا من الإيمان: قال وعلى تقدير صدقكم في دعواكم، فالمنَّة لله تعالى في ذلك، فيكون في المعنى كقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [البقرة: 93]، فلم يلزم أن لهم إيماناً مع قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} (¬3)، كذلك لا يلزم أن لأولئك الأعراب إيماناً مع قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين}. وعلى تسليم أنه إيمانٌ، فيحتمل أن يكون في غيرهم، وأن يكون فيهم، والمنفيُّ عنهم الإيمان الكامل، والمثبت لهم القليل منه، فقد صح اختلافه، وتقدير أقلِّه بمثقال حبةٍ من خردل من إيمان، يوضحه أن القليل منه لو انتفى، لكانوا في حكم المنافقين، وهو أحد القولين، والأول قول الجمهور ذكره ابن تيمية، ويوضِّحه قوله تعالى بعد ذكرهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا -إلى قوله- أُولَئِكَ هُمُ ¬
الصَّادِقُون} [الحجرات: 15]، فدلَّ على أن هذا الإيمان الصادق هو (¬1) المنفي عن أولئك لا أقل ما يُسمى إيماناً مما ورد في أحاديث الشفاعة الصحاح أنَّ أهله يخرجون من النار بعد دخولها (¬2) والله سبحانه أعلم. وقد ورد في كتاب الله تعالى ما يدلُّ على زيادة الإيمان ونقصانِه كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (¬3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وكذلك الإسلام يزيد وينقص، وبذلك جمع العلماء بين الآيات المختلفة والأحاديث المتعارضة في تفسير الإيمان والإسلام. وأما ذمُّ اتباع الظن، فسيأتي الجواب عنه، ويدخُلُ في ضمنه الدليل على أن التمسك بالظن الراجح تقليداً أو (3) استدلالاً، ليس يُسمى في اللغة جاهلاً بالله كما لا يُسمى الفقهاء المجتهدون جهالاً بالأحكام الظنية، ولعلَّ المخالفين (¬4) أسعد بدعوى إجماع الصحابة والسلف على عدم وجوب الخوض في علوم النظر، ولعلَّ هذا يتكرَّر، وقد مرَّ منه شيء أو سيأتي. فإن قيل: هذا حسنٌ ولكنه يؤدي إلى حُسن تقليد الكفار لأسلافهم متى ظنوا صحة ما هم عليه، فسيأتي الجواب عن هذا في آخر هذا ¬
الكلام (¬1)، ونكتَتُه على سبيل الإجمال: أن الله يمنعُ الظن الراجح بذلك في ابتداء التكليف، بما نَصَبَ من القرائن القاضية بنقيضه، وبما بعث من الرُّسل، وأظهر عليهم من المعجزات، بل أوجبت المعتزلة الخاطر الداعي على (¬2) الله تعالى، فمتى عاندوا، ورجَّحُوا (¬3) المرجوح في الابتداء، جاز أن يُعاقبهم الله تعالى كما لم يُؤمنوا به أوَّل مرة، وهو سبحانه عدلٌ حكيم، وبعباده خبيرٌ بصير، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]، فيخلي سبحانه بينهم وبين الشياطين تؤُزُّهُم أزّاً، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقد أشار سبحانه إلى ذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، ونبَّه على ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح حيث قال: " كل مولودٍ يولد علن الفطرة وإنَّما أبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه " (¬4) وفي هذا أحاديث كثيرة، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} [فاطر: 8]، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون} [الأنفال: 23]، وقد مضى في آخر الوظائف تحقيق الكلام في هذا مبسوطاً، فخُذهُ من هنالك. ¬
وممَّا يُحتج به لأهل هذا القول ما أجمع عليه المسلمون من جواز وقوع الوسوسة في أمر العقائد الدينية، وورد (¬1) القرآن بذلك في قوله تعالى لخليله عليه السلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقال علماء الاعتزال: إن العلم الاستدلالي لا يرفع الوسوسة. وقال إمام العلوم العقلية والسمعية الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة " (¬2): وفي الفرق بين ما يقع من ذلك (¬3)، وما لا يقع إشكالٌ. انتهى. وقيل في جواب ذلك: إنَّ الوسوسة إن كانت في أركان الدليل، كانت شكّاً يُزيلُ العلم، ووجب تجديد النظر، وهو قول أبي هاشم وأصحابه الذين لا يوجبون الانتهاء في النظر إلى المقدمات الضرورية بل يُجيزون (¬4) الاقتصار عند سكون النفس بأركان الدليل، ولا يُبالون بالوسوسة إلاَّ فيها. وهذا إن صح عندهم (¬5) نازلٌ جداً، فإنه يستحيل أن تكون أركانٌ الدليل التي هي عبارة عن المقدمات يقينية معلومة لا شكَّ ¬
فيها، ثم يعرِضُ الشكُّ في النتيجة. وقد أجمع أهلُ التحقيق من المتكلمين والمنطقيين على بطلان هذا، يوضحه أن البهاشمة (¬1) يفرقون بين الضروري والاستدلالي بتجوبز ورود الشك والشبهة (¬2) على الاستدلالي، وهذا التجويز لا يصحبُ العلم البتة، فإنَّ التجويز في هذا الوقت على المعلوم استدلالاً فيه أنه ينكشِفُ بطلانُه فيما بعد (¬3)، شكٌّ تأخَّر في هذا الوقت، وكونُه شكاً ضروري، فكيف خَفِيَ مثل هذا على أئمة علم الكلام من البهاشمة (¬4) وجلة المعتزلة؟! وقد زدتُ هذا البحث وضوحاً في " ترجيح أساليب القرآن " (¬5). وإذا كان هذا ميزان معارف (¬6) جِلَّة المتكلمين، فما ظنُّك بالموزون به؟ فلو نظرت بعين الإنصاف والوَرَع في كثير من دعاويهم، لانكشف لك العجبُ، ولكنَّك حسنُ الظنِّ بالقوم، ومتى (¬7) قطع بصحة أمر لم ينظر فيه، وهذا عارض، فإذا تقرَّر إجماع المسلمين على أنه لا يكفر من عرضت له الوسوسة مع بذله لجهده في النظر، دلَّ على أن الوصول إلى اليقين الموجب لسكون النفس بالأدلَّة القاطعة (¬8) ليس بمفروضٍ، أو ليس بمقدورٍ لتخلفه كثيراً مع توفّر الدواعي إليه، وإنَّما المقدور النظر، والمتولَّد عنه مختلِفٌ. ¬
وأمَّا وقوع النظر على الوجه الصحيح دون غيره، ففي كونه مقدوراً مطلقاً نظرٌ، وإنَّما يقطعُ بذلك حيث يقطع بوجوب معرفة الصواب، واستحقاق المتأوّل للعقوبة قطعاً. والصحيح أن ذلك لا يقطع به إلاَّ في مخالفة الضروريات من الدين لاسيما العامة، والبُلَدَاء على جميع قواعد أهل النظر المقدمة، وإنَّما العلم من الفضائل والمراتب الرفيعة يؤيِّدُهُ أن العلم من الأعراض التي تزُولُ بالنوم والسهو، ولا يجب تحديدُ النظر في الأدلة عقيب كُلِّ غَفوَةٍ، وكُلِّ غفلة، ومن ادَّعى ذلك، فقد خالف الضرورة الدينية، ويؤيد ذلك ما عُلِمَ بالضرورة من تقرير الأنبياء عليهم السلام لطَغَامِّ العوام والعبيد والنسوان والجُفاة والبُلداء على قبول الإسلام من غير بحث عن الاستدلال والاختبار لهم ولا بيِّنة. فإن قيل: هلاَّ جوزتُم في العامة أنهم يعرفون الأدلّة الجُملية وأنَّ الأنبياء علموا ذلك منهم، أو حملوهم عليه، فقرروهم على العلم، لا على الظن، ولا على الجهل؟ فالجواب: أن هذا (¬1) لا يصحُّ إلاَّ عند من يقولُ: إن المعارف ضرورية أو ظنية. وأما من يقول: إنها نظرية قطعية، فالجواب عليه ما ذكره الرازي في " المحصول " من أن الدليل إذا تركب من عشر مُقدِّماتٍ استحال من العالم الزيادة فيها، ولم يحصل للجاهل العلم متى قلد في واحدة منها، وهذا ضروري، فدلَّ ¬
على أن العلم الاستدلالي لا يتبغَّضُ وينقسم وكذلك سائر العلوم، بل سائر المعاني البسيطة، وهي التي لا تركيب فيها، وإنَّما الممكن أن يَهَبَ الله تعالى لهم علماً ضرورياً ابتداءً أو عقيب النظر، أو ظناً قوياً لا يكاد يتميَّزُ من العلم إلاَّ للخاصة، يحصُلُ لهم معه من الطمأنينعة ما لا يحصُلُ للمتكلم بالاستدلال الذي يجوز معه ورودُ الشكِّ والشبهة، بل العاميُّ والمُحدِّث وأمثالهم من أهل الطمأنينة أسعدُ حالاً من المتكلم، لسلامتهم من تكفيرِ عامَّة المسلمين ومِن التكبّر على عموم المؤمنين، وممَّا يلحقُهُ من العار في وقوعه في الوسوسة مع دعواه لأرفع مراتب المعرفة، وفي عَدَمِ تمييزه بين الظُّنُون الغالبة حتى حَسِبَها علوماً، وبين العلوم اليقينية المنتهية إلى المقدمات الضرورية حتى رفع إلى مرتبتها الظُّنون الغالبة (¬1)، والتخيلات الكاذبة، ودليل صحة ذلك أنهم من أشدِّ الناس وسوسةً، بل ما عُلِمَ (¬2) أنه ارتدَّ عن الإسلام أحدٌ من أئمَّة القرآن والحديث، وقد ارتدَّ من أئمة الكلام غيرُ واحد. وممَّا يُقوي هذا المذهب ظواهِرُ السمع، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث: (من كان في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردل من إيمان) (¬3)، وقوله تعالى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} [البقرة: 46]، ونحو ذلك. وأمَّا حملُ العامة على أنهم يَعرِفُونَ الأدلة المَعْرِفَة (¬4) التفصيلية فلا ¬
وأما قوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا} فالجواب من وجوه
يصحُّ، لأنه عنادٌ لما يعلم عادةً من امتناع ذلك من غير تعلُّم، كما يُعلم امتناعُ معرفة سائر الصناعات الدقيقة، وإتقانُها من غير تعلُّمٍ (¬1)، بل يُعلمُ امتناعُ معرفة أسهل من ذلك مثل صنعة الطعام المتقنة من غير تَعَلُّمٍ، مع أن الأنبياء عليهم السلام أنصح الخلق (¬2) لخلقه، فكما أنَّ العالم في الكلام المتدين الشفيق على ولده لا يُمكِّنُه على (¬3) غِرته وجهله، وهو يرى قرائن أحواله تدُلُّ على الغباوة حتى يمحَضَهُ النُّصح في ذلك، فالرسل عليهم السلام أولى وأحقُّ بذلك، وكذلك أصحابهم وتابعوهم، ولا يمكن أن تمضي الأعوام، وهم مضربون عن هذا المُهِم الأعظم لو كان مُهماً حقاً، وهذا يُفيد العلم الضروريَّ العادي (¬4) مع التأملِ والإنصاف، والله أعلم. وأما قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. فالجواب (¬5) عند هؤلاء عن ذلك (¬6) من وجوه: الأول: وهو المُعوَّلُ عليه أن اللغويين نقلوا أنَّ الظن في اللغة هو الشكُّ، فثبت (¬7) بذلك أنه لفظة مشتركة، فحيث يُذمُّ، يرادُ به الشكُّ المعلوم في فِطَرِ العقول ذمُّ التعويل عليه، وحيث يُمدَحُ يُراد به الراجح المعلوم في فِطَرِ العقول حُسنُ العمل به، وقد أوضح الله تعالى انقسامَهُ، ¬
وعدم تعميم الحكم فيه بقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم} [الحجرات: 12]، والقرآن العظيم (¬1) يُفسِّرُ بعضه بعضاً، ويُردُّ متشابهه إلى مُحكمِه مع الإمكان، ويوضِّح أنه حيث يُذمُّ يراد به الشَّكُّ المساوي دون الغالب الراجح، قوله تعالى في ذم المشركين: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} [الأنعام: 116]، وفي آية أخرى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 148 - 149]. ودلالتُها من وجوه: أحدها: أن عبادة الحجارة ليست راجحةً في العقل، فتكون مظنونة. وثانيها: أنه حَصَرَ اتِّباعهُم في الظن، فلو أراد الراجح، لكان فيه تنزيهُهُم من اتِّباع الشكِّ المساوي، وهم إليه أقربُ. وثالثها: قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون}، فإنه من صفات من يتجرأ على محض المباهتة دون من لا يعمل إلاَّ بالظن الراجح، فإنه من صفات أهل الحق لا سيما (¬2) وقد قصرهم عليه مبالغةً. ورابعها: قوله في أول الآية: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فإنَّ أكثر من في الأرض لا يعملون بالظن الراجح، بل الذي يعمل به من العلماء هم أهلُ الورع والتحرّي، ألا ترى أنَّ من (¬3) مذاهب العُلماء في مواضِعَ كثيرةٍ التمسك بالأصل، كالطهارة ¬
وعدم العمل بظن النجاسة، وهم يستحبون (¬1) العمل هنا بالظن. وخامسها: أن الله تعالى قد وصف الأكثرين بما يدُلُّ (¬2) على هذا، فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، فكأنَّه عبَّر عن أهوائهم بالظن تارة، وعبر عن الظن بأهوائهم أخرى، وكذا وصفهم بالسَّفَه والافتراء في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140]. وسادسُها: أن أفعالهم تدلُّ على ذلك، فإنهم لو توقَّفُوا على الظن الراجح لما قالوا أشياء لا يهتدي إليها العقلُ، ولا وَرَدَ بها شرعٌ، كقولهم: إنَّ الملائكة بنات الله، ومثل إفكِهِم في التحليل والتحريم على ما حكى الله في (¬3) البحيرة والسائبة والحام (¬4) فهذه الوجوه مع نقل اللغويين لذلك تُوجب ترجيح حمل الآيات على الظن المساوي والمرجوح دون الاصطلاحي الذي يختصُّ بالراجح القوي الذي ثبت (¬5) في الكتاب ¬
الوجه الثاني:: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم
والسُّنَّة والعُرْفِ واللُّغة تسميتُه علماً ومعرفة، ولذلك قال الله في سورة الأنعام بعد أن حكى كثيراً من ذلك: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144]، ويُوضِّحُهُ أن الله تعالى قَصَرَهُم على اتباع الظن، ثم قصرهم على الخرص (¬1)، فلو أراد الظن الراجح، لتناقض، لأن المقصور على الخرص، وهو محضُ الكَذِبِ لا يكونُ مقصورا على العمل بالراجح بالضرورة. الوجه الثاني: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم، وهو ظن المشركين لصحة شركهم بدليل قوله: {لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وهذا (¬2) يدلُّ على أنه ظنُّ غير الحق، فكيف يُحتج بذلك على قبحِ العمل بظنِّ الحقِّ الصادر عن الأمارة الصحيحة الموجبة للرُّجحان المقبول في فِطَرِ العُقول الخالي عن المعارضة!. الوجه الثالث: أنها من العموم المخصوص بمن ورد فيه بدليل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون} [يس: 21] وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيّ} [الأعراف: 157]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90]. فإن قلت: هذا تجويزٌ للجهل بالله تعالى. قلت: كلاَّ، فإنَّ الله تعالى قد سمَّى الظن علماً، وذلك صحيحٌ وقد أقرَّ به الزمخشريُّ في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ ¬
مُؤْمِنَات} (¬1) [الممتحنة: 10]، وكذلك في قوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (¬2) [يوسف: 81]، وأجمع المسلمون على تسمية فقهاء الفروع علماء، وإن كانت ظنية. وقال المؤيد بالله في " الزيادات " عن أبي القاسم البلخي: إنَّه يُجيزُ العمل بالظنِّ في معرفة الله، ولكنَّه يُسميه علماً. وكذلك ذهب جماعةٌ من الجِلَّة إلى تسمية حديث الثقة الحافظ المتقن معلوماً، وكذلك يقول أهل الفطر العقلية السالمة من الشوائب: علمنا بكذا، إذا جاءهم به خبرٌ مظنونٌ، ويقولُ أحدُهم لصاحبه: أعلمني بما في نفسك، وقد أعلمتُك بما في نفسي، فكيف يُتركُ الكتاب، والفِطَرُ، واللغة لِعُرف بعض المتكلمين؟! فإذا تقرَّر أن هذه الطوائف الثلاث من جِلَّة علماء الكلام، بل من أهل الاعتزال والتشيع خاصةً مع إطباق المخالفين من المعتزلة لهذه الطوائف على (¬3) إجلالهم وتوقيرهم، وأنهم من علماء الإسلام، فما بالُهم يعترِضُون على المحدثين، ويُشنِّعُون عليهم في القول بعَدَمَ وجوب النظر في الكلام؟! فيُقال لصاحب السؤال: ما كان جوابُ مشايخكم هؤلاء المسقطين (¬4) للنظر في الكلام على الفلاسفة والمُجبرة والمشبِّهة، فهو بعينه جوابُ المحدثين، فلا تُسرف في التشنيع على أهل الأثَرِ، فقد شاركهم فيما ¬
شنعتُم به عليهم جماعةٌ من أئمة علم النظر، وهذه كُلُّها معارضات، ويُؤيِّدُ ذلك ما ظَهَرَ من كثير من أئمَّة المعقول، وأعيان المتكلمين، وحُذَّاق الفلاسفة مما يدلُّ على أنَّ العلوم الإلهيات لا تُدرَكُ بالمسالكِ النظريات، وإنما تكون مواهب ربانيات داخلةً في حيِّز الضروريات، أو معارِف ظنيات غير بالغة إلى مراتب الضروريات، ولا مرتبة عندهم بين الظنيات والضروريات، وقد نقل هذا الرازي في " المحصول " (¬1) عن كثيرٍ من الفلاسفة، فقال في آخر الفصل الثامن: فإن قلت: بل أعرِفُ بضرورة عقلي وجوب النظر عليَّ. قلت: هذا (¬2) مكابرة، لأنَّ وجوب النظر يتوقَّفُ على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهيَّة يُفيدُ العلم، وذلك ليس بضروري بل نظريٌّ خفيٌّ، فإنَّ كثيراً من الفلاسفة قالوا: فِكرَةُ العقل تُفيدُ اليقين في الهندسيات والحسابيات، فأمَّا في الأمور الإلهية، فلا تفيد إلاَّ الظن، ثم بتقدير أن يثبُت كونُه مفيداً للعلم، فلا يجبُ الإتيانُ به إلاَّ لو عَرَف (¬3) أن غيره لا يقومُ مقامه في إفادة العلم، وذلك ممَّا لا سبيل إليه إلاَّ بالنظر الدَّقيق، فإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفاً على ذَيْنِكَ المقامين النظريين، فالموقوف على النظري أولى أن يكون نظرياً. قلتُ: وهذا (¬4) مما (¬5) يدلُّ على أن الرازي يرُدُّ على من يوجب البلوغ إلى العلم في الإلهيات على العامة دون أن (¬6) يُجيز لهم العمل في ¬
ذلك على الظن، كالمؤيد بالله، وأبي القاسم، وأشار إليه الرازيُّ في وصيته (¬1)، ¬
ويأتي (¬1) في مسألة الأفعال شيء منها، ومما يدل على أنه مذهبه قوله: العلمُ للرحمن جل جلاله ... وسواه في جَهَلاتِه يَتَغَمْغَمُ ما للتُّراب وللعلوم وإنَّما ... يسعى ليعلم أنَّه لا يعلمُ وقد أشار إلى توقُّفه في مسألة الأفعال، وتردُّده في " مفاتح الغيب " وتأتي حكاية لفظه في ذلك، ومن ذلك قول ابن أبي الحديد المعتزلي: طلبتُك جاهداً خمسين عاماً ... فلم أحصُل على برد اليقين فهل بعد الممات يكُ اتصالٌ ... فأعلَمَ غامِضِ (¬2) السرِّ المَصُون نوى قذفٌ وكم قد مات قبلي ... بحسرته عليك من القرون (¬3) ¬
ومن ذلك قول الشهرستاني في أول " نهايته " (¬1) يصف المتكلمين: وقد طُفتُ في تلك المعاهد (¬2) كلها ... وسيَّرتُ طرفِي بين تلك المعالم فلم أر إلاَّ واضعاً كفَّ حائرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارعِاً سِنَّ نادِمِ (¬3) ومنه قول الشيخ تقي الدين: تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى ... وسافرت واستبقيتهم في المفاوز وخُضتُ بحاراً ليس يُدركُ قعرُها ... وسيَّرت نفسي في قسيم المفاوز ولجَّجت في الأفكار ثُمَّ تراجَعَ اخـ ... ـتياري إلى استحسان دين العجائز رواه الذهبي في ترجمته من " النبلاء " فقال: انشدني الفضل (¬4) بن قنديل الغابر من سنوات، قال: أنشدنا إسماعيل بن ركاب، أنشدنا (¬5) علم الدين سليمان بن يوسف الواعظ، أنشدني الإمام أبو الفتح ابنُ دقيق ¬
العيد لنفسه الأبيات. وقال الرازي أيضاً: نهايات إقدام العقول عِقَالُ ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ (¬1) وقال غيره: وكم في البرية من عالمٍ ... قويِّ الجدال سديد (¬2) الكَلِم سعى في العلوم فلمَّا يُفِدْ ... سوى علمه أنه ما علم وقال ابن الجوزي في كتاب " تلبيس إبليس " (¬3) بعد المبالغة في ذم الكلام، ونقل كلام السلف في ذلك: وقد نُقل إلينا إقلاع متقدمي المتكلمين (¬4) عما كانوا عليه منه لما رأوا من قُبْح غوائله، ونقل عن الوليد بن أبان الكرابيسي أنه لما حضرته الوفاة، قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام منِّي؟ قالوا: لا، قال: فتتَّهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحابُ الحديث، فإني رأيتُ الحق معهم. قال: وكان أبو المعالي الجُويني يقول: لقد جرَّبت (¬5) أهل الإسلام ¬
وعلومهم، وركبتُ البحر الأعظم، وغُصتُ في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، والهَرَبِ من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكُلِّ إلى كلمة الحق: " عليكم بدين العجائز " (¬1)، فإن لم يدركني الحقُّ بلُطف برِّه، فالويل لابن الجويني. وكان يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام (¬2) يبلغ بي (¬3) ما بلغتُ، ما تشاغلتُ به. وقال أبو (¬4) الوفاء بن عقيل (¬5) لأصحابه: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر ولا العَرضَ، فإن (¬6) رضيت أن تكون مثلهم فكُن، وإن (¬7) رأيت طريق المتكلمين أولى [من طريقة أبي بكر وعمر]، ¬
فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام ببعض أهله (¬1) إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد تُشمُّ روائحه من فلتات (¬2) كلامهم، و (¬3) [أصل] ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقول إدراك ما عند الله من الحكم التي (¬4) انفرد بها، ولا أخرج الباري (¬5) لخلقه جميع ما علمه من حقائق الأمور. قال: ولقد بالغتُ في الأصول عمري، ثم رجعت القهقرى إلى مذهب المكتب إلى آخر كلام ابن الجوزي في ذلك. وكان ابن عقيل من أذكياء العالم، وكبار علماء المعقول والمنقول، جمع بين الإمامة في مذهب الحنابلة والمعتزلة (¬6)، وله كتاب " الفنون " (¬7) ثلاث مئة مجلد (¬8) وغير ذلك. ¬
وأشار إلى ذلك الغزالي حيث قال في " التهافت " (¬1) أو في " المنقذ مِن الضلال " ما معناه: إنَّ مَنْ وقف على كلام الفلاسفة في علم المنطق، وشرائط إنتاج المقدِّمات، والانتهاء إلى الضرورة فيها، اغترَّ بهم، وظنَّ أن أدلتهم في الإلهيات ونحوها مبنيةٌ على مثل ذلك التحقيق، وليس كذلك. وهذا (¬2) عندي من أنفس الكلام لمن كان من العارفين قد غلط في ظن تحقيقهم، فتأمله. وبالغ الغزالي في كتبه في أن الطريق إلى اليقين من كتب الكلام مُسدَّد (¬3)، وأشار إلى أنه حصل له اليقين بعد طلبه من الله تعالى بطريق الموهبة بعد الخلوة والتخلي من الدنيا وشواغلها، والإقبال بالكلية على الله تعالى (¬4) وإنما قل (¬5) ذكر مثل ذلك في كلام المعتزلة لقنوعهم بالاستدلال الذي يصحبه تجويز ورود الشكِّ والشبهة، واعتقادهم أنه ¬
علم، وذلك مردودٌ عليهم كما مرَّ تقريره، فكأنهم في الحقيقة قَنِعُوا بالظن، وحسبوه علماً، وقطعُوا باستحالة حصول أكثر منه بخلاف من طلب العلم المستند إلى المقدمات الضرورية، فإنه يحسنُ تفقدُ مطلوبه عند الوسوسة. وقد تقدَّم قول شيخ الاعتزال أبي القاسم البلخي في العامة: هنيئاً لهم السلامة، وهو من هذا القبيل، بل فيه إشارة إلى وصف أهل النظر بالخطر، وهو كقولهم: إن طريقة (¬1) السلف أسلم وطريقة (¬2) الخلف أعلم، ولا يعدِلُ السلامة شيء، نسأل الله السلامة. وقال إمام المعقول والمنقول عز الدين عبد العزيز (¬3) بن (¬4) عبد السلام في أوائل " قواعده " (¬5) ما لفظُهُ: وما أشدَّ طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سبيلاً كلما (¬6) نظروا فيه، وحرصوا عليه، ازدادوا حيرةً وغفلةً، فالحزم (¬7) الإضراب عنه، كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار، فمن حرصَ أن يرى ببصره ما وارته (¬8) الجبال، لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر (¬9)، فكذلك تحديق البصائر إلى ما غيَّبه الله تعالى عنها، وستره بالأوهام، والظنون، والاعتقادات ¬
الفاسدة، وكم من (¬1) اعتقادٍ جزم المرء به، بالغ في الإنكار على مُخالفه، ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه. انتهى بحروفه. وفيه بيانُ العلة في ترك السلف، ومن اقتدى بهم من الخلف لعلم الكلام، وأنها قلة جدواه، لا قصور أفهامهم عن أفهام أهل البدع والغُلاة. وقد أشار علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام إلى طلب ذلك من الله تعالى بالدعاء والخضوع، وقد مرَّ طرفٌ منها. ومنها (¬2) قوله: واعلم يا بني أن أحبَّ ما أنت آخذ به (¬3) من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك (¬4) والصَّالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدَّعوا أنهم نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكَّروا كما أنت مفكِّر، ثم ردَّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمَّا لم يكلَّفُوا، وإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبُك ذلك بتفهُّم وتعلُّم، لا بتوسُّط الشبهات وعُلوِّ الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبةٍ أولجتك في شبهة أو (¬5) أسلمتك إلى ضلالةٍ (¬6). فإذا كان هذا المنقول عن أمير المؤمنين الذي أسند (¬7) إليه جماعة ¬
الوجه الرابع: من الجواب وهو التحقيق
المتكلمين، ثم عن شيخ الاعتزال أبي القاسم الكعبي (¬1)، ثم عن أذكى الخائضين في هذا العلم باتفاق العارفين، فما سبب تخصيص المعترض (¬2) للمحدثين إلاَّ شدة جهله، وقلَّة تمييزه (¬3). الوجه الرابع: من الجواب وهو التحقيق، وقد مرَّ في الوجه الأول طرفٌ منه، وهو أن نقول: قد أكمل الله الحجة على المكلفين بخلق العقول، وبعث (¬4) الرُّسل مبشرين ومنذرين، فتمَّت حُجَّته سبحانه عقلاً وسمعاً، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165]. وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ} [الأنعام: 104]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: 32]. فأخبر عن الكافرين بأنه قد تبين لهم الهدى، وما كفرُوا إلاَّ بعد ذلك. ¬
وفي آية أخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]. وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]. وقال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]. فمن قال لنا: إنَّه ما عَرَفَ الدليل .. قلنا له: انظُر بعقلك في معجزات المرسلين، أو (¬1) في السماوات والأرضين، وعجائب مخلوقات ربِّ العالمين تعلم صحة ما جاؤوا به من الهُدى والدِّين. فإن قال: إنِّي قد نظرتُ، فلم أعرف قطعنا على كذبه كما يقطع المتكلمون على ذلك بعد مناظرتهم له وكفره (¬2)، وإنما قطعنا بذلك لخبر الله تعالى حيث يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة} [الأنعام: 149]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة} [النساء: 165]، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25]، أو (¬3) قوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وغير ذلك. فإن قلت: قد يكون في الناس من هو بليد، لا يستطيع النظر إلاَّ ¬
قوله: قد يكون في الناس من هو بليد، لا يستطيع النظر إلا بتعليم، فيجب تعليمه
بتعليمٍ، قيجب تعليمه، فالجواب من وجوه. الأول: لا سبيل إلى العلم القاطع بذلك، فإن أنواع الأدلة كثيرة، وبعضها أجلى من بعض، والذي لا يفهم الدليل الدقيق لا يفهم الشبهة الدقيقة، فتلك بتلك، ومن فهم الجميع (¬1)، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه يُرِي عباده من آياته ما يقع معه لهم البيان، ولا أصدق وعداً من الرحمن سبحانه (¬2) في مُحكم القرآن {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [فصلت: 53]. وما أعظم هذا الوعيد الذي ختمت به هذه الآية على من عاند، وادعى أنه لم يتبين له ما أخبر الله أنه بيَّنه، فنعوذ بالله من الخذلان ومصادمة نصوص القرآن. سلَّمنا، فإنه يجب على الله تعالى عندكم تمكينه وإلهامُه. سلمنا أن ذلك لا يجب، فيجب خلق (¬3) العلم الضروري له عند علم الله بعجزه، وبذله جُهده. سلمنا فمن أين أن الظن الراجح لا يكفيه، وقد تقدم ما فيه من الأدلة. الوجه الثاني: أن تقول قد يكون في الناس أيضاً من لا يفهم بالتفهم لشدَّة غباوته، فجوابُنا هنالك مثل جوابكم هنا. فإن قلتم: الأدلة تمنع وجود هذا (¬4)، فإن وُجِدَ، فغيرُ مكلَّفٍ. ¬
الوجه الثالث: أنا نعلمه ما نعرفه بفطر العقول
فلنا أن نُجيب بمثل ذلك، وقد قال الشيخ مختار في الفصل الثامن من مقدمات (¬1) كتابه " المجتبى " ما لفظه: وقال شيخنا خاتمة أهل الأصول رُكنُ الدين الخوارزمي رحمه الله في " الفائق " في الجواب عن شُبهة العجز (¬2): إنهم كُلِّفُوا أن يسمعوا أوائل الدلائل التي يتسارع إلى فهمها كلُّ عاقل، فإن فهموا ذلك، كفاهم علماً (¬3)، ولسنا نُكلِّفُهُمْ تلخيص العبارة (¬4)، وذلك مُمكن لكل عاقل، فإن لم يُمكنهم الوقوفُ عليها، فإنهم غير مكلفين بها أصلاً ونصره مختار، وقد أوضحت الحق في ذلك في كتاب " ترجيح أساليب القرآن " (¬5) ولله الحمد والمنة. الوجه الثالث: إنا نعلمه ما نعرِفُه بِفِطَرِ العقول، وما أمر الله تعالى ورسولُه بالنظر فيه، وإن لم يُمارِس علم الكلام، فإن نفعه ذلك، وإلاَّ لم يجب علينا أكثر منه، كما أنَّ المتكلم يعرِضُ على الفلسفي ما حصَّله من النظر والجدل، فمتى سخر منه، واستحقر ما معه أعرض عنه. وقد حكى الله تعالى عن الهُدهد، وهو من العالم البهيمي أنه وحَّد الله، واحتج بأن (¬6) الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض فاحتج بحدوث المطر والنبات، فكيف يقطعُ بعجز عاقلٍ ناطقٍ مكلفٍ عن مثل ذلك؟! وقد ذكرتُ في غير هذا الموضع الحُجَّة على بُطلان تأويل ذلك، ¬
وهذا الوجه يصلُحُ أن يكون جواباً مستقلاً لكني (¬1) تركتُ إفراده، إذ كان المعلوم أن من لم يمخض (¬2) في علوم الجدل والمنطق من المسلمين لا يكادُ يوثِّر في كلامهم مع الفلاسفة، وأهل الشُّبَهِ الدقيقة، وإن كان صحيحاً في نفسه نافعاً لمن نظر في معناه دون تراكيبه، فإنه لا يليق بذله إلا حيث يظن نفعه، ومن كان لا ينتفع به، فالصيانة له بالإعراض عن المعجبين بالخذلان والإصرار أولى ولا سيما إذا كان من كتاب الله، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السفر بكتاب الله إلى أرض العدُوِّ (¬3)، وشرط السلف في عهود أهل الذمة أن لا يتعلَّموا القرآن. وفي " البخاري " (¬4) عن علي عليه السلام: " لا تُحدثوا الناس بما لا تحتمِلُهُ عقولُهم، أتُحبون أن يُكذبَ الله ورسوله؟ فكَرِهَ عليه السلام من العلم ما يعرف أنه يكون سبباً في التكذيب، وإن كان حقاً في نفسه (¬5)، وقد قال الله (¬6) تعالى في هذا المعنى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم} [الأنعام: 108]. ¬
وقد روي: لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، فينبغي من صاحب القرآن والسنة صيانتهما عن ذكر أدلتهما لمن لا يُنصِفُ من كافرٍ ومبتاع ولا يعرضهما لمن هو أحذقْ منه بالجدل، وأبرعُ في المراء، فقد روى النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تُجادلوا بالقرآن، ولا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فوالله إن المؤمن ليُجادل بالقرآن فَيُغْلَبُ، وإنَّ المنافق ليُجادلُ بالقرآن فَيَغْلِب " ذكره الذهبي في " تذكرته " (¬1) في ترجمة أبي اليمان الحكم بن نافع الحمصي (¬2) أحد رجال الجماعة الستة، ثم قال: هذا أورده الحافظ أبو موسى المديني في ترجمة ¬
الجواب الرابع: أن نقول: النظر في ذلك واجب كالصلاة
ابن أبي عاصم. وقال أبو نُعيم: حدثنا به أبو الشيخ، حدثنا ابن أبي عاصم، حدثنا محمد بن خلف، ثم قال: هذا غريب جداً مع قوة إسناده. قلت: وروى أحمد بن حنبل معناه عن ابن عباس موقوفاً، وعن ابن عمرو بن العاص مرفوعاً، وروى حديث (مِراءٌ في القرآن كفرٌ) عن أبي هُريرة، وعن أبي الجهيم يرفعانه، وعن ابن عباس، عن عُمر بن الخطاب بمعنى الحديث الأول موقوفاً، ذكرها الذهبي في ترجمة أحمد من " النبلاء " (¬1) وما أحسن كلام العلامة القرطبي في شرح " مسلم " في هذا المعنى، وسيأتي طرف منه في المقام الثاني إن (¬2) شاء الله تعالى. الجواب الرابع: أن نقول: النظر في ذلك واجبٌ كالصلاة، وقضاء الدين، والقدرة، والتمكين (¬3) شرطٌ في الوجوب (¬4). وإن لم يُمَكِّن (¬5) الله المكلف، سقط الوجوب، وتبين أنه تعالى غير مؤاخذٍ للعبد بتركه، ولم يرد في (¬6) الأدلة العقلية والسمعية دليل على وجوب السعي في تحصيل المكلف لشرط الواجب كالعادم للماء، فإنَّه إذا وجب عليه طلبه للوضوء، لم يجب على المتوضىء أن يُعينه بطلب الماء معه، ليؤدي فرضه. فكذلك من عرف الله، واطمأنَّ قلبه لا يجب عليه أن يطلب ما يرفع ¬
فإن قيل: قد ورد في السمع وجوب البيان على العلماء
الوسواس عن (¬1) من ابتُلي به إمَّا عقوبة له على التعنُّت، وتركِ الإيمان بما يوجب الإيمان (¬2) أوَّل مرة أو غير ذلك. فإن قيل: قد وَرَدَ في السمع وجوبُ البيان على العلماء، فالجواب من وجوه: أحدها: أن ذلك محمولٌ على بيان ما لم يُبينه تعالى من السمعيات. ألا ترى أنَّ ما بيَّنه بعض العلماء لم يجب على الباقين القيام ببيانه؟ فكذلك (¬3) ما بينه الله تعالى أولى وأحرى؛ ولأنه تحصيلُ الحاصل، فلا يجِبُ، وغايةُ ما في هذا أنه تخصيصٌ بدليل العقل، فهو جائزٌ، بل التخصيص بالقياس الظني جائز عند كثيرٍ من أهل العلم، منهم أئمَّة الإسلام الأربعة رضي الله عنهم. الوجه الثاني: أنا نخصُّ هذا العام بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يشتغل ببيان كيفية النظر في الأدلة، وترتيب المقدمات وتحرير العبارات، بل دعا الناس إلى الإسلام، وقاتلهم عليه، وبلَّغ ما أوحى الله إليه، والعلماءُ ليس هُم بأبلغ من الأنبياء، وقد قال تعالى (¬4) في حق الأنبياء: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17]. فكذلك العلماء، وإنما العلماء ورثة الأنبياء، وأهل الكتاب والسنة قد قاموا بالوراثة النبوية على التمام والكمال، ورأوا أن الزيادة عليها من قبيل (¬5) البدَع، بل من قبيل المنافاة لها، ونسبة التقصير إلى الموروث، عليه أفضل الصلاة والسلام، ¬
وقد أجمع النَّقَلَة، وأجمع أهل الملة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلُب من المؤمنين إظهار الأدلَّة بعد الإقرار، وكذلك المَلَكان في فتنة القبر لم يطلُبَا ذلك؛ رواه البخاريُّ، ومسلمٌ وأبو داود، والنسائيُّ عن أنس (¬1)، والترمذي (¬2) عن أبي هريرة، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي (¬3) عن البراء (¬4)، وأبو داود وحدَهُ عن البراء (¬5) وفيه: " فيقُولان: وما يُدرِيك؟ فيقُولُ: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدَّقتُ " (¬6). وهذه مُعلَّةٌ، لأنها زيادةٌ في حديث البراء، وقد خرَّجه الحفاظ (¬7) بغيرها، وخرَّج مسلم (¬8) في حديث أنس أنه إذا قال: " كنت أعبُدُ الله وقال: محمد عبدُ الله ورسوله، لم يُسأل عن شيء بعدها ". وهذا يُعارِضُ هذه الزيادة، وعلى تقدير ثبوتها، فليست ممَّا يقول به أهل الكلام، بل هي عليهم، لا لهم، وكُلُّ المؤمنين يستنِدُون في إيمانهم إلى كتاب الله، ومعجزات أنبياء الله جُملة. وإنما قبلت لتمييز (¬9) المنافق من ¬
الجواب الخامس: أنها وردت نصوص تقتضي العلم أو الظن
المؤمن، بل حكى الله عن الرسل أنهم قالوا لمن قال: إنه شاكٌّ: أفي الله شكٌّ (¬1)، كما سيأتي. والمتكلم الجاهل يطلب أن يكون فوق الأنبياء والملائكة، فكذلك فليكن العلوُّ، أجمعوا (¬2) على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يُوجب مناظرة الكفار قبل قتالهم، وإنَّما أمَرَ بدعائهم قبل قتالهم، هذا في أول الإسلام حتى اشتهرت الدعوةُ النبوية، واستفاضت، وقاتل عليه الصلاة والسلام قبل الدعاء. ومِنَ المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعذر الكفار، ولو اعتذروا بعد الدعوة النبوية بعدم وضوح الأدلة العقلية، وجاؤوا بفيلسوفٍ، فناظر عنهم، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتالهم حتى يتعلموا (¬3) أدلَّة الكلام، ويفهموا الجواب، ولن يفهموا الجواب على ما ينبغي حتى يتعلموا (¬4) السؤال، ولو جاز أن يُمهلهم ساعة أو (¬5) يوماً جاز شهراً وعاماً والعمر كله لاختلاف أفهام الناس، ولعذر (¬6) المرتد متى توقَّف، وادَّعى شُبهاً عويصة (¬7) أوجبت عليه النظر، وأزال التهمة ببيان تلك الشبهة، وعجز الأكثرين عنها، وتعب أفراد (¬8) الخواص في معرفة دقيق جوابها. الجواب الخامس: أنها وردت نصوصٌ تقتضي العلم أو الظن أن ¬
الخوض في الكلام على وجه التحكيم (¬1) في الشُّبَهِ (¬2)، والإصغاء إليها، والبحث عمَّا لم يعلم (¬3) منها، والتقصِّي عن مذاهب (¬4) الفلاسفة، وأهل البدَع مضرةٌ عظيمة في الدنيا بما يُوقِعُ فيه من الكُفر أو (¬5) الحيرة والبدعة (¬6)، ولو في حقِّ الأكثرين، وعضدها ما تواتر من عمل (¬7) السلف بمقتضاها، وفي الآخرة بما يقع على ذلك من العقوبة، ودفع المضرة ولو مظنونة واجبٌ عقلاً بإجماع الخصوم. ويعضد ذلك من النظر الصحيح (¬8)، والتجربة أن أوائل الأدلة أقوى من المباحث الغامضة التي زَعَمَ أهلُ الكلام أنها متوقِّفة عليها، ولذلك صحَّح الشيخ محمود، والشيخ مختار وغيرهما من محققي المعتزلة أنه يتسارع إلى فهمها كُلُّ عاقل، ومن لم يفهمها، فليس بمكلفٍ البتة، كما تقدَّم قريباً في الوجه الثالث، فقد أجمع (¬9) الفريقان على أنها قوية صحيحة ممكنة (¬10) في فِطَرِ العقول، فكيف ينبني على وجوب النظر في مداحض الأذكياء وخفيَّات المدارك العميقة التي ضلَّ الأكثرون بسبب البحث عنها. ¬
ألا ترى أن تعلُّقَّ أفعالنا بنا بديهي؟ ومتى استدللنا بتوقفها على دواعيها أدَّى إلى البحث عن الدواعي، وإنَّها إن كانت فعلاً لنا، احتاجت إلى دواعٍ (¬1) أُخر، وأدَّى إلى التسلسل، وإن كانت من فعل الله، خرجنا إلى أنَّ الداعي موجب (¬2) و (¬3) إلى تفسير الموجب، وتعارض الدواعي حتى نشك في الجليِّ. وأيضاً فقد انتهى الأذكياء إلى المحارات الغامضة، وقالوا في ذلك الأشعار السائرة كما ذكرته في هذا الكتاب حتى ضل ابن عربي بسبب ذلك، وقال فيه: صورة (¬4) الكون محال، وهو حق في الحقيقة وذهب إلى تجويز المحال، وخالفت طوائف في العلوم الضرورية، وأوردوا في ذلك الشبه المعروفة، ولم يمكن الرد عليهم بالدليل، لاستحالة الاستدلال على الضروريات، لأنها قواعد النظر التي لا (¬5) ينتهي إليها، فرجعوا إلى مثل ما رجع إليه أهل السنة، وورد به الحديث حيث (¬6) قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال (¬7) الناس يتساءلون حتَّى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمنْ خَلَقَ الله " الحديث (¬8). ¬
فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام مضرة أيضا
وقد بدّله أهل الكلام بأنَّه واجبُ الوجودِ غيرُ معلل، والمعنى واحد فإنَّما كلامهم هذا جمودٌ محضٌ (¬1)، وهو الذي عابوا (¬2). فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام مضرة أيضاً. فالجواب: أنَّ تسمية تجويز المضرة المرجوح خوفاً غيرُ مسلم، وإلاَّ لسمينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة القوية (¬3). سلمنا تسميته خوفاً، لكن ليس الواجب دفع المضرة المخوفة، بل الواجب دفع المضرة المظنونة لا الموهومة المرجوحة، ولا المجاوزة المساوية. سلمنا أن دفع المضرة المخوفة واجبٌ، وإن لم تكن راجحة، لكن بشرط أن لا تُدفَعَ تلك المضرة المرجوحة بفعل ما يستلزِمُ مضرةً راجحة (¬4) قوية مظنونة. فإن قُلتَ: وما هذه المضرة المظنونة في الخوض في علم الكلام؟ قلتُ: هي أمران: أحدُهُما: ما شهدت به التجارب مع النظر المقدَّم، وضلَّ بسببه اثنتان (¬5) وسبعون فرقة من ثلاثٍ وسبعين. وثانيهما: ما أشار إليه يحيى بن منصور رحمه الله في قوله (¬6) في ¬
قصيدته المتقدمة: بل جاء عنه وعنهُمُ مُتواتراً ... حظْرُ التَّعمُّقِ والغُلُو لِمُبْصِرِ وهذه الإشارة إلى مجموع أشياء كثيرة: منها: النَّواهي عن المراء مطلقاً (¬1). ومنها: النواهي عن المراء في القرآن خاصة (¬2). ومنها: النواهي عن المراء في القدر خاصة. ومنها: النواهي عن البدع (¬3). ومنها: النهي عن التفكر في الله. ومنها: الأوامر عند الوسوسة بما يُنافي الكلام، وطرائق أهله، وفي ذلك خمسةَ عشر حديثاً في " الصحيحين "، و" السنن الأربع "، و" مجمع الزوائد " (¬4). منها (¬5): حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خَلَقَ كذا؟ من خَلَقَ كذا (¬6)؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟، فإذا بلغه: فليستعذ بالله وليَنْتَهِ " (¬7) رواه البخاري ¬
ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وألفاظهم مختلفة، والمعنى متقارب. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً رواه الطبراني في " الصغير " (¬1) ¬
برجال الصحيح، خلا شيخ الطبراني منتصر. وموقوفاً رواه أبو داود (¬1) من طريق أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي. ومرفوعاً من طريق أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية (¬2). وعن خُزيمة بن ثابت مرفوعاً من طريق ابن لهيعة (¬3). ¬
وعن عائشة مرفوعاً بثقات (¬1). وعنها مرفوعاً من طريق شهر بن حوشب (¬2). وعن أبي بكر مرفوعاً، وفيه أبو الحويرث أيضاً. وعن أنس مرفوعاً برجال الصحيح (¬3). وعن ابن عمرو (¬4) مرفوعاً برجاله خلا شيخ الطبراني أحمد بن محمد بن نافع الطحان (¬5). وعن أُمِّ سلمة مرفوعاً، وفيه سيفُ بن عميرة (¬6). ¬
وعن ابن مسعود مرفوعاً بثقات (¬1). وعن معاذ مرفوعاً، وفيه انقطاع (¬2). وعن عمارة بن أبي الحسن عن عمه مرفوعاً (¬3) بثقات أئمة (¬4). وعن أبي هريرة أيضاً بثقات (¬5). ¬
ومنها: أحاديث الإيمان والإسلام المتواترة التي تقتضي قواعدُ الكلام منافاتِهما إلاَّ مَعَ التأويلات المتعسِّفة المستكرهة، وأمثال ذلك. وعن جُنْدُبٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه، فقوموا عنه " (¬1) رواه البخاري ومسلم، والنسائي. ومن ذلك قصَّة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم في اختلافهما في القراءة، ورفعها (¬2) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمره كل واحدٍ منهما أن يقرأ كما سمع منه - صلى الله عليه وسلم -، ونهيه لهما عن الاختلاف الذي هو المناكرة، والمعاداة، رواه الجماعة (¬3)، وله طرق جمة عرفت (¬4) منها ثماني عشرة (¬5) طريقاً عن ثمانية عشر صحابياً (¬6). وهذه الأحاديث كالشرح، لقوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} وأمثالها ممَّا قدمته في ديباجة هذا (¬7) الكتاب، فإن النهي عن التفرُّق نهي عن أسبابه ¬
المقام الثاني: وهو ورود الشبه الدقيقة من الفلاسفة، وغيرهم على علماء القرآن والحديث، وقول السائل: ما تصنعون عند ذلك؟
المجربة، ويشهد لأحاديث الاستعاذة المتقدمة من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [غافر: 56]. فإذا أمر بالاستعاذة بالله في حقِّ المجادلين، فأولى في وسواس (¬1) الشياطين، ومن أحب معرفة ذلك، طَالَعَ (¬2) كُتُب الحديث الحافلة، مثل " جامع الأصول " لابن الأثير، و" مجمع الزوائد " للهيثمي، فإن أحبَّ التضلُّع (¬3) من العلم، نظر الأسانيد، والطرق، والكلام في الرجال، فإنه (¬4) يعلم بالضرورة من الدين أشياء كثيرة ليس مع كثير من المتكلمين منها خبر، وهذا مما يحتملُ تأليفاً مستقلاً، وليس القصد (¬5) الاستيفاء، وإنما (¬6) القصد الإشارة الواقعة من قلب المنفي (¬7) موقع الخاطر الذي يُوجبه المعتزلة، والله الهادي. وأمَّا المقامُ الثاني: هو ورودُ الشُّبَهِ الدقيقة من الفلاسفة وغيرهم على علماء القرآن والحديث، وقولُ السائل: ما تصنعون عند ذلك. فالجواب من وجهين. الوجه الأول: معارضة، وهو (¬8) أن نقول: ما يصنع الصحابة، ¬
والتابعون وأهل المعارف الضرورية، وأول من ابتكر (¬1) علم الكلام، فإنه يمكن المحدثين (¬2) أن يصنعوا مثلهم، فإن قالوا: إنه كان في الصحابة، وفي كل من ذكرتم من يتمكن من ذلك من غير تعليمٍ ورياضةٍ في النظر والجدل، وذلك لفرط ذكائهم، وكمال عقولهم. قلنا: وما المانع أن يكون (¬3) في كل عصر من هو كذلك، مثل أوائل مشايخ الكلام، بل أوائل الفلاسفة، والبراهمة (¬4)، بل المعروف أنه لا يزال في (¬5) الناس كذلك، بل من (¬6) لم يكن منطقي الذهن، لم يكن منطقي الفنِّ، والذي يدلُّ على ذلك أن الجمَّ الغفير يشتركون في طلب العلم، وبذل الجهد، فلا ينتفعُ إلاَّ بالقليل، ولا يتميزُ عن الأقرانِ إلا الأفراد. وبالجملة فليس يفهم مقاصد أهل الكلام على الوجه المرضي بحيث يفهم ما بينها من التفاوت في القوة، والضعف، وعلى ما أثبتت عليه من القواعد، وما يَرِدُ عليها من المعارضات، والمناقضات إلاَّ من هو كذلك، وهذا هو الذي يصلح للرد على الفلاسفة والمبتدعة وغيره، وإن قرأ فما درى، وإن ناظر عن الإسلام، كان أعظم خاذلٍ له، وأكبر ناصرٍ ¬
لعدوِّه، وإن أُثيِبَ على نيته. وما مثل العلماء في علمهم، إلاَّ مثل المجاهدين في جهادهم، فمنهم القوي القلب والبدن، النافع للإسلام، الضارُّ لأعدائه بمجرد ما أعطاه الله تعالى، فإذا انضمَّ إلى ذلك كثرةُ خِبَرةٍ، وطُولُ ممارسةٍ، وتجويد للرياضة في صناعات الرمي، والفراسة، والبَصَر بكيفية الحروب، وما اشتمل عليه علمُ الشطرنج (¬1)، وإن لم يكن من أهله، وكذلك البصر بأخبار الشجعان ووقعاتهم (¬2) وكمال ذلك أن يتمكن من الآلات العظيمة من الخيل الجياد، والسلاح الشاكي، والأتباع، عظمت مضرَّتُهُ للعدو، وذلك بنصر الله وتوفيقه، ومن كان على عكس هذه الصفات، فإنه متى بَرَزَ بين شُجعان الأعادي، لم يزد على أن يكون عاراً على أصحابه، وسبباً لقوة أعدائه، وكان كالباحث عن حتفه بِظِلْفِهِ، والجادع مَارِنَ (¬3) أنفه بكفِّه، وكذلك العلماء فتأمَّل ذلك. واعلم أنَّ أصل الأمور راجعةٌ إلى العطايا الربانية، وأن الله تعالى لا يُخلي عباده وبلاده من قائمٍ لله بحجةٍ على ما أشارت إليه الأخبار (¬4)، ¬
وذهب إليه العلماء الأحبار (¬1)، ولا شك في اختلاف الناس، وتباعد مراتبهم في أمرين: أحدهما: الفهم. ثانيهما: حسن التعبير عن المفهوم، ألا ترى ما أحسن فهم زيد بن عمرو بن نُفيل (¬2)، وما أحسن تعبيره عما فهم حيث قال في قصيدته التي أوردها ابن إسحاق أول السيرة، وقال ابن هشام (¬3): هي لأمية بن أبي الصلت (¬4)، والمقصود منها قوله: ¬
وأنت الذي من فَضْلِ مَنٍّ ورحمةٍ (¬1) ... بعثت إلى مُوسى رسُولاً مُناديا فقلتَ لموسى اذهب وهارون فادعوا (¬2) ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا وقُولا له آأنت سوَّيت هذه ... بلا وتدٍ حتى اطمأنَّت كما هيا وقولا له آأنت رفَّعت هذه ... بلا عَمَدٍ أرفق إذاً بك بانيا (¬3) وقولا له آأنت سوَّيت وسطها ... مُنيراً إذا ما جنَّهُ اللَّيلُ هاديا وقولا له من يُرسِلُ الشمس غُدوةً ... فيُصبِحَ ما مسَّت من الأرض ضاحيا وقولا له من يُنبتُ الحبَّ في الثَّرَى ... فيُصبحَ منه البَقْلُ يهتزُّ رابيا ويخرُجَ منه حبُّهُ في رُؤُوسه ... وفي ذاك آياتٌ لمن كان واعيا وروى الذهبي لزيد رحمه الله في ترجمة ولده سعيد (¬4) قوله أيضاً: [و] أسلمتُ نفسي لمن أسلمتْ ... له المُزْنُ تحمل عذباً زُلالا ¬
إذ سُقِيَتْ بلدةٌ من بلا ... د سيقتْ (¬1) إليها فسَحَّتْ سِجَالا وأسلمتُ نفسي لمن أسلمتْ ... له الأرضُ تحمِلُ صخراً ثقالا دحاها فلمَّا استوت شدَّها ... سواءً وأرسى عليها الجبالا (¬2) على (¬3) أن المتكلمين قد يضطرون إلى أشياء ركيكةٍ لا يعجز عن مثلها أهلُ الأثر والجمود، مثل (¬4) قولهم: لا نُجيب بلا، ولا نعم، ولا نفي، ولا إثباتٍ في قول خصومهم: إنَّ تقدير ووقوع الأفعال على خلاف علم الله محالٌ، ونحو ذلك. وقد شنَّع الشيخ مختار في كتابه " المجتبى " عليهم في ذلك، وهو مشهورٌ في كتبهم، قال الشيخُ مختار: ولولا وجوده في كتبهم، ما صُدِّقَ مثل ذلك عليهم (¬5)، وأحسن الجواب عن ذلك، والمعارضة بأفعال الله تعالى، فإنها معلومةٌ، ومع كونِها معلومةً لم تخرُج عن كونها مقدورةً ممكنة (¬6)، وجوَّد القول في ذلك، وكم لهم أمثال ذلك (¬7) من المحارات، ومواقف العقول، وإنَّما بدأ أهل الأثر بما رجع إليه أهل الكلام. ¬
الوجه الثاني: إن أصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك
الوجه الثاني (¬1): إنَّ أصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك، إذ كان عندكم أن النظر واجبٌ على العبد، والبيان واللطف واجبان على الله تعالى. فنقول: لا حاجة على هذا إلى تعلم الكلام، بل يترك الخوضُ فيه حتى ترد الشبهة القادحة، ثم نفعل ما يجب علينا، وهو النظر، والله سبحانه يفعل ما يجب عليه عندكم، وهو البيان لنا، واللطف بنا، ومع ذلك تجلى المشكلات، ونَسْلَمُ من مداحض الشبهات. فإن قيل: فهل تقولون بقُبح النظر فقد أبطلتم كل النظر ببعضِ النظر، لأن أدلتكم هذه نظرية، وهذا متناقض. فالجواب: أنه لا سبيل إلى إنكار النظر جميعه، ومعرفة وجوبه عند رجحان الخوف مطلقاً عقليةٌ جلية، وفي (¬2) الإسلام، وصدق الأنبياء عليهم السلام خصوصاً سمعيةٌ ضروريةٌ. وقول الرازي في " المحصول ": " إن وجوب النظر مبنيٌّ على أنه يفيد العلم في الإلهيات " -وذلك في غاية الدقة- مردودٌ عليه بأن النظر يجب، وإن لم يحصل منه سوى الظن، بل العاقل ينظر مع تجويز أن لا (¬3) يحصل له ظن ولا علم، ولكن ليبلغ طاقته في دفع الضرر عن نفسه، وأهل السنة لا ينكرون النظر، بل أهل المعارف الضرورية، وإنما يختلف الناس في النظر النافع دون الضار، فعند أهل السنة أن النظر النافع: هو ¬
فيما (¬1) أرشد الله تعالى إلى النظر فيه من معجزات الأنبياء وبدائع المصنوعات على منهاج الأنبياء وأصحابهم، وهذا القدرُ من النظر نافع بإجماع الأمة من المحدثين والمتكلمين، والذي يختص به أهل الكلام مختلف فيه، والمجمع عليه أولى من المختلف فيه. وقد تقدم الكلام في فائدة النظر عند أهل المعارف، ومن يكتفي بالظن، فخذه من موضعه (¬2). فتلخيص الجواب أن هذا إبطالُ (¬3) بعض النظر ببعضه في مواضع القطع ببطلان طرائق المتكلمين، واستغناءٌ (¬4) ببعض النظر عن بعض في مواضع في (¬5) الوقف في طرائقهم، واستغناءٌ بالوقف عن النظر في مواضع الوقف من محارات (¬6) العقول، ومواقفها، وتعارض السمعيات من غير ظهور ترجيح، ولا بُدَّ من هذه الأشياء، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: 36]، وأهل الكلام يبطلون بعض الأنظار ببعض، كالأنظار على الوجوه الفاسدة، فإنهم يبطلونها بالأنظار على الوجوه الصحيحة، والوقف في المحارات إجماعُ العُقلاء. وها هنا حكاية باردة (¬7) يستروِحُ كثير من أهل الكلام إليها، ويعتمدون في احتقار علماء السمع عليها، وذلك أنه يروى أن الروم سألوا هارون الرشيد المناظرة، فأرسل إليهم بمُحدِّثٍ، فسألوه الدليل على الصانع، ¬
كم من ولي لله تعالى قد ارتوى قلبه من اليقين الصرف، وهو غير بصير بقوانين الجدليين، وذلك يظهر بوجهين
فروى لهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بناء الإسلام على الشهادتين (¬1) أو ما يشبهه، فكتبوا إلى هارون يذكرون ذلك، فأرسل إليهم بمتكلم فدسُّوا له من فهمه (¬2) قبل وصوله إليهم، فوجدوه على ما يحذرون، فسمُّوه قبل وصوله إليهم، ولهم أمثال هذه الحكاية. والجواب: عليهم في مثل هذه الأشياء -وإن لم تصح- أن يقال لهم: ما أردتم بذلك؟ فإن أردتم الاستدلال على أنكم أجدل من المحدثين، وأحذق بصناعات الجدليين، فذلك مُسلَّمٌ لكم، بل مُسلَّمٌ لكم أنكم أجدل من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وإن أردتم أنكم أعلم بالله، وأفضل عند الله، فغيرُ مسلَّمٍ، فإنه لا ملازمة بين الحذق بالجدل، والعلم بالله عز وجل، فكم من فيلسوف (¬3) كافرٍ قديرٍ في علم الجدل، وصار فيه إماماً للأذكياء، وكم من وليٍّ لله تعالى قد ارتوى قلبه من اليقين الصِّرف، وهو غير بصيرٍ بقوانين الجدليين، وذلك يظهر (¬4) بوجهين. الوجه الأول: أن السائل جهل المقصود بالنبوة، وظن أن الحكمة في بعثة الرسل هي بيان الأدلة على الله وأسمائه (¬5)، وجدال المخالفين في ذلك، وإنما بعثوا مبشرين، ومنذرين، ومعلمين للشرائع، بل قد نصَّ ¬
الوجه الثاني: إنه لو حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضرت المهرة من أئمة علوم الفلسفة فإنهم يكونون أحذق في المناظرة من رسول الله
القرآن على أن المراد بهم الإنذار، بل قد قَصَرَهُم على ذلك مبالغةً، والآيات في ذلك لا تحصى، منها قوله تعالى حاكياً عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]، وقد أوضح الله الحجة بخلق العقول، ثم قطع الأعذار بالإنذار على ألسنة الرسل، والعلماء ورثة الأنبياء، وهذه نُكتة نفيسة فتأمَّلها. الوجه الثاني: أنا نعلمُ وكُلُّ مُنْصِفٍ (¬1)، أنه لو حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضرت المَهَرَةُ من أئمَّة علوم الفلسفة، وأهل الدِّرية التامة بدقائق المنطق والكلام، وحضر أئمة علم الكلام من أهل الإسلام، وأرادوا المناظرة في الأدلة: أن أهل (¬2) الكلام (¬3) من المسلمين يكونون أحذق في المناظرة من رسول الله، وقد ذكر معنى هذا (¬4) الإمام يحيى بن حمزة (¬5) في بعض كتبه. فإن قيل: إنه (¬6) يلزم من هذا أن يكونوا أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جميع الأنبياء، وهذا معلوم القُبح والبطلان. قلنا: معاذ الله أن يكون أحدٌ أعلم بالله، وبالأدلة عليه، وبالعلوم ¬
النافعة كلها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نقول: إنهم أعلم بالعلم المبتدَع الذي كَرِهَهُ السلف، ومنتهى حال العالم (¬1) به عند من يُوجبهُ أن يكون توسَّل به للضرورة إلى بعض معارف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يتوسل طالب النحو والإعراب بقراءة كتب النحاة إلى معرفة بعض مقاصده - صلى الله عليه وسلم - في كلامه البليغ، ومعلومٌ أن رسول الله وأصحابه لا يُوصفون بمعرفة ما ابتدع النحاةُ من الأسماء الاصطلاحية، ولكن السلف ردُّوا هذا بأنَّ اللغة تغيَّرت، وتحققت الضرورة إلى حفظ اللغة بابتداع عِلْمِ العربية مع ما رُوي (¬2) في أصل وضعه عن علي عليه السلام (¬3) بخلاف علم الكلام، فإن العقول لم تختلَّ، ولو اختلَّت، بَطَلَ التكليف، ولم يمكن وضع قوانين الأدلة، ولا يُنكَرُ أن تكون المبتدعةُ أعرف بما لا فضيلة فيه من الأنبياء، كما أن أهل الصناعات أعرف (¬4) بصناعاتهم، والنساء أعرف بما يخُصُّهنَّ من صنعةِ الطعام، وإنما ينكر أن يكونوا أعرفَ بالعلم النافع في تقرير الإسلام، والإيمانِ، والشرائع والأديان، وليس يجهلُ هذا الأمر إلاَّ من جهل أحوال الأنبياء عليهم السلام، أو جهل علم الجدل. وقد تعرَّض ابن الزِّبَعْري لمناظرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه حتى نزل الردُّ عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (¬5) [الأنبياء: 101]. ¬
وكذلك فعل مع أبي سفيان بن حرب يوم إسلامه، كما هو معروف (¬1). وكذلك فعل مع الوليد بن المغيرة حين أجاب عليه بتلاوة سورة السجدة (¬2). ¬
وكذلك فعل مع نصارى نجران حين دعاهم إلى المباهلة (¬1). وكذلك فعل جعفر بن أبي طالب مع النجاشي وأصحابه (¬2). ¬
وكذلك قد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - دِحيةَ بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم الروم بكتاب ليس فيه براهين، ولا جدل، وإنما فيه: " أسلم تسلم، وإن لم تسلم، كان عليك إثمُ الأريسيّين "، وفيه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} [آل عمران: 64] الآية (¬1)، مع توجيه هذا الرسول بهذا الكتاب إلى أئمة المنطق والبرهان، ولم يُعَلِّم رسوله ما يُجادِلُهُمْ به، ولا لقَّنَهُ أي شيء يُجيبُ به عليهم، فهو مثل المحدث الذي زعموا أن هارون أرسله إن صح ذلك (¬2). وكذلك سائر (¬3) رسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه بَعَثَ إلى النجاشيِّ (¬4) وإلى ¬
المقوقِس صاحب الإسكندرية (¬1)، وبعث أبا عبيدة رضي الله عنه إلى البحرين (¬2)، ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن (¬3)، وبعث إلى سائر الملوك. وكذلك كُتُبُه عليه السلام التي نَفَّذَهَا إلى الآفاق لم يُضَمِّنْها أشياء (¬4) من هذا القبيل الكلامي. فأهل الحديث أشبه المسلمين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه. وقد قالَ القُرطبي في " شرح مسلم " (¬5) في ذكر أكثرِ المتكلمين: ¬
إنَّهم أعرضوا عن الطرق التي أرشد الله تعالى إليها إلى طُرُقٍ مبتدعةٍ، ومناقشاتٍ لفظية (¬1) يرِدُ بسببها على الأخذ فيها شُبَهٌ يُعجَزُ عنها، وأحسنُهُم انفصالاً عنها أجدَلُهُم لا أعلمُهم، فكم من عالمٍ بفساد الشُّبهةِ لا يقوى على حَلِّها، وكم من منفصلٍ عنها لا يُدرِكُ حقيقةَ علمِها. وقد أنصف الحافظ (¬2) المحدِّث ابن خزيمة حينَ ناظر جماعةً من المتكلمين، فقال لمنصور الصيدلاني: ما صنعتك؟ قال: عطَّارٌ، قال: تُحسِنُ صنعَةَ الأساكفة؟ قال: لا، قال: تُحْسِنُ صنعة النجارين؟، قال: لا، قال: فإذا كان العطار لا يُحسِنُ غير ما هو فيه، فما تُنكرونَ على فقيهٍ راوي حديثٍ أنه لا يُحسِنُ الكلام (¬3). وكذا رُوِيَ عن الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي أنه أُخبر بما جرى بنيسابور بين ابن خزيمة وأصحابه، فقال: ما له والكلام، إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلَّم فيما لم نتعلمه (¬4)، رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " (¬5). وذكر الذهبي: في تاريخ " النبلاء " (¬6) في الكلام على المِحنَةِ من ترجمة أحمد بن حنبل أنه كان يناظرُ على الكتاب والسنة. قال صالحٌ عن أبيه: فإذا جاء شيءٌ من الكلام ممَّا ليس في الكتاب والسنة؟ قلتُ: ما أدري ما هذا، انتهى. ¬
وما أحسَنَ الاحتجاج على حُسنِ هذا الأدب بقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، فهذا أمر علماء الحديث غير مدعين له، ولا راغبين فيه (¬1)، والذي ذكره المحدث هو الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتبه إلى الخصوم، ومحاوراته للكفار، أو قريبٌ منه، وإنما العلماء ورثة الأنبياء، وعلى الوارث أن يحفظ تراث الموروث، وأيُّ عار على قومٍ لو حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكانوا أشبه الخلق به وبأصحابه هدياً وعِلْماً، وفهماً وحُكماً. وكذلك هم أعلمُ الطوائف بأحواله - صلى الله عليه وسلم - الضرورية، وأحوال أصحابه لشدة عنايتهم بمعرفة ذلك، وقطع أعمارهم فيه، وهذه (¬2) النكتة النفيسة في التضلع من علم الآثار والإمامة فيه، وبها يسلَمُ المُحدِّثُ من أمرين خطيرين (¬3) جليين. أحدهما: جحد المعلوم من الدين ضرورة، والشك فيه. وثانيهما: اعتقاد ما ليس بضروري من الدين ضرورياً، كما هو عادة كلِّ فرقةٍ من المبتدعة، فإن كل طائفة منهم قد تَلَقَّوا عن أشياخهم، وأهلِ بلدهم أموراً نسبها خلفُهم عن سلفهم إلى الدين، وهم عدد كثير، فاعتقدوا أنها ضرورية منه (¬4)، ولو كان مثل هذا يوجب الضرورة، تعارضت الضرورات لثبوت مثله في كل بدعة، فتأمل ذلك، فإنه نفيسٌ جداً. ¬
وقد رأيتُ بعض الباطنية تمسك بهذا بعينه (¬1)، وهذا ما لا يعجز عنه أحد ولولا علوم الحديث، والسير، والتواريخ، لاختلط حقُّ ذلك بباطله. وليس يلزم أن لا يكون في المحدثين أذكى من هذا الذي كُذِبَتْ عليه هذه الحكاية، فالمحدثون يتفاضلون كما أن الصحابة يتفاضلون (¬2)، بل قد فاضَلَ الله سبحانه بين الأنبياء عليهم السلام قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، وقال (¬3) موسى في أخيه عليهما السلام: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34]، وانظر إلى ما حَكَى الله سبحانه في سورة هود وغيرها من مجادلات الأنبياء للكفار ومراتبها في الوضوح، وانظر هل يَعْجِزُ محدثٌ عن مثلها، بل عن نقلها بلفظها، وهل يقنع الملحدون بذلك، هيهات إن هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون، بل لم ينفع فيهم (¬4) مع ذلك علمُ الكلام، وتحريرُ البراهين. وما أحسن كلام الغزاليِّ حيثُ قال: إن الله لمَّا عَلِمَ أنَّ في الناسِ مَنْ لا ينفعُه الكتابُ الذي أنزله (¬5) الله هُدى للناس، أنزلَ مَعَ الكتاب الحديد فيه بأسٌ شديد لعلمِه أنه لا يُخرِجُ المِراءَ (¬6) من أدمغة أهل اللَّجاج إلاَّ الحديدُ، أو كما قال (¬7). ¬
واعلم أن العلة (¬1) في إضراب الأنبياء عليهم السلام عن علم الجدل، وتعلُّم صناعات أهل النظر، ما هو إلاَّ قلة جدواه، بل قد وَرَدَ ما يدُلُّ على مَضَرَّتِه، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَمِنَ لمن تَرَكَ المِرَاءَ -وهو محقٌّ- ببيتٍ في الجنة (¬2)، وقد جربتُ مضرَّته وصرفَه عن الحقِّ، وقد قال الله سبحانه في كتابه: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال سبحانه: {قَدْ فَصَّلنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُوْنَ} [الأنعام: 97]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (¬3) لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104]، وقال تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68 - 69] (¬4)، وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ (¬5) اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِين ¬
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 15 - 16]. وما أوضح قوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} في ذلك، فإن (¬1) كان المجادل معانداً ممارياً أعرض عنه، فقد مدح الله المعرضين عن الجاهلين، وأمر بذلك، وذكر في غير آية أعظم الزجر عن الطمع في هدايتهم. فمن ذلك قوله سبحانه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف: 146]. وقال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]. وأمثالها، وقال: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6]. وقال تعالى في ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]. وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (¬2) وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]. وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ ¬
الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]. وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل: 91 - 92]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51]. وقال: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68 - 69]. وقال (¬1): {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي ¬
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 8 - 10]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 145 - 146] وأمثالها. وإن كان ممن يظهر منه طلب (¬1) الهداية، خُوطِبَ بما ورد في كتاب الله تعالى عن الأنبياء، فإنهم عليهم السلام قد بلغوا الغاية في ذلك، ومن يُؤمِن بالله يهدِ قلبه، والله بكل شيء عليم، ومن عَلِمَ الله (¬2) فيه خيراً أسمعه كما قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]. وقد بين الله تعالى الجدال الذي جادل به (¬3) رسوله (¬4) - صلى الله عليه وسلم - خصومه، وكذلك سائر الأنبياء وهو تفسيرٌ للمجادلة بالتي هي أحسن، فإن الجدال قد ورد مطلقاً ومقيداً بالتي هي أحسن، والعمل بالمقيد في الأوامر (¬5) واجب بالإجماع بخلاف النواهي، ففيه خلافٌ مبينٌ في أصول الفقه. فإذا أردنا أن نعرف الجدال بالتي هي أحسن (¬6) باليقين تتبَّعنا كلامات (¬7) الأنبياء صلوات الله عليهم، ولا أصح من كتاب الله تعالى، ¬
ولا أصدق من كلامه. وقد قال تعالى في بيان ذلك ومراده منه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213]. وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19 - 20]. وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 67 - 68]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬1) [سبأ: 46 - 47]. وقال تعالى: {قَالُوا سِحْرَانِ (¬2) تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 48 - 50]. ¬
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]. وقال سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] الآية (¬1). وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 50 - 52]. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} إلى قوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91]. وقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104]. وقال (¬2) تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]. ¬
وقال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101]. وقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. وقال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} إلى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 80 - 83]. وسمى الله سبحانه ذلك حجة بالنسبة إلى كلامهم الذي هو جواب عليه، وذلك يقتضي أنهم خوَّفوه من أربابهم لأجل توحيده، فخوَّفهم من ربه الحق لأجل شركهم، ولذلك قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]. ونبه الله تعالى على الكثير الطيب من الأدلة العقلية بأوضح عبارة، وأفصح كلام، وأبلغ بيان. فمن ذلك قوله تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20]. إلى آخر الآيات. وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 9 - 10].
وقال تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139]. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 17 - 18]. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]. وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]. وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]. والقرآن العظيم مُفْتَنٌّ في أساليب الردِّ عليهم، وتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتارةً يردُّ بالبراهين العقلية القطعية كقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} على ما مرَّ تقريره في اشتراط رُجحان الداعي في وقوع المقدورات، وتارةً يأتي بما يفحم الخصم، ويُلقِمُهُ الحَجَرَ، كقول إبراهيم عليه السلام للقائل: أنا أُحيي وأُميت: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا
مِنَ الْمَغْرِبِ} إذ كان المتقرر عند الكافر والمسلم حينئذٍ (¬1) أن الربَّ هو القادر على التصرف في ذلك، فهذا بالنسبة إلى كلام هذا الكافر من أصحِّ الجدل وأجوده، وهو بالنسبة إلى المؤمن، والناظر لنفسه من أصحِّ البراهين على الله تعالى، لأن حال الكواكب يشهد لصانعها (¬2)، وذلك أنها متحركة حركةً مستمرةً بالضرورة، فلو لم تكن مسخَّرةً مدبرة ما صحَّ ذلك أبداً، لأنها إما حيوانٌ أو لا، والحيوان المختار يحترك (¬3) مرةً، ويسكن أخرى، ويحتركُ مرةً يميناً، ومرةً شمالاً، ومرةً حركةً (¬4) سريعةً، ومرةً حركةً بطيئة، والجماد لا يحترك البتة إلاَّ بمحرِّكٍ، وقد تحيَّر الفلاسفة في هذا، وأنشد ابن أبي الحديد في كلامهم فيه أبياتاً في شرح (¬5) " النهج " أولها: تحيَّر (¬6) أربابُ النُّهي وتبلَّدُوا ... من الفَلَكِ الأقصى لِماذا تَحَرَّكا فسبحان من أودع كتابه الكريم أصحَّ البراهين، و (¬7) أوضح الآيات. وتارة ورد بالوعيد كقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 29 - 30]. وتارةً جاء بالمباهلة، وهي الملاعنة، ومنه مسألة المباهلة في ¬
الفرائض، وهي مسألة العول (¬1)، أراد ابن عباس أن يُباهل فيها من خالفه، وقد باهل غيرُ واحد، وطلب المباهلة غير واحد، قال الله تعالى في ذلك: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. وتارة أمره (¬2) بمعارضة قولهم بمجرد النص على تكذيبه أو ما يقتضيه مع ما تقدم من حجة المعجزة من غير ذكرٍ للحجة، كقوله لما قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 16 - 18]. وتارةً أمره بالصبر من دون أمرٍ آخر، كقوله لما قالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 16 - 17]. وتارةً أمره بالاستعاذة بالله كما ورد في الأحاديث المتقدمة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56] وأمثال ذلك. وتارةً وَرَدَ (¬3) بالتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والنهي له عن الاحتفال بهم، ¬
كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 32 - 35]. وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]. وقال: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 52 - 53]. وقال تعالى (¬1): {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60]. فالعالم يتأسَّى برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتَّعِظُ بمواعظ الله ولا يكبُرُ عليه إعراضُ المعرضين (¬2)، ولا يطمع في هداية المعاندين المتمردين إلاَّ من شاء اللهُ ربُّ العالمين. وانظر كيف حكى الله تعالى إصرارهم على المجاحدة يوم القيامة بما ¬
لا يمكن لمتأوله تأويله، وذلك قولهم (¬1) لجوارحهم حين أنطقها الله: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. فَمَنْ بَلَغَ هذا الحدِّ في العناد واللَّجاج، كيف يطمعُ السُّنيُّ أو الجَدَليُّ أن يهديه ويُفحِمَه ويُقرِّره بالحق، وقد قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 53] وقال تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60]. ولهذا وعد الله بالفصل بين المختلفين يوم القيامة، وسمَّاه يوم الفصل، والمتكلم المغفل يحاول أن يكون الفصل بين الخلق على يديه، وأن يجعل يوم الفصل على زعمه، وأن يُشغل نفسه والمسلمين في غير فائدة، بل ربما ورد السمع بأن فيه مضرة، والحكيم الخبير قد أنبأنا عن عناد كثيرٍ من الخلق بل أكثرهم بما لم نكُن نعرفه لولا تعريفه. فقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]. ¬
بل قال تعالى في حق أهل النار بعد مشاهدتها يوم القيامة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقد تأوَّلها بعض المعتزلة بما أفاد من جهله بالعقل والسمع ما لم يكن يظنه لولا تأويله، وكم من جاهلٍ في كشف ما ستره الله من مساوئه، نسأل الله الستر والعافية. فالحكمة أن يُوكَلَ الخلقُ إلى خالقهم العالم بسرائرهم، القادر على تصريفهم الذي جعل نفوذ مشيئته فيهم أعظم من قيام القيامة، ومشاهدة كل آيةٍ، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]. وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. وقال (¬1): {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]. وقال في الوجه في ترك هداية بعض من تركه، وبيان حكمته في ذلك: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوجه في ترك هداية بعضهم: " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون، فيستغفرون فيُغفرُ لهم " (¬2). ¬
وقال الله تعالى في حكمته في كثيرٍ منهم أو في نحوها مُخاطباً للملائكة عليهم السلام: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]. وقال تعالى في إقامة الحجة عليهم بخلق العقول، وبعثة الرسل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. فبهذه (¬1) الآيات وأمثالها يعرف السُّنيُّ ما يأتي وما يذرُ، ويستغني عن علم الكلام، ودقيق النظر، وقد ظهر الآن للمعترض رجوع فيهقتِه (¬2) عليه، وخروج الحق من يديه، حيث قال في ترك علم (¬3) الكلام: إنه مكيدة للدين، لا والله ما كاد الدين من احتجَّ بالقرآن، وعقل ما فيه من البُرهان، واقتدى برسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم الذي أقسم أصدق القائلين إنه على صراطٍ مستقيم، ولو كان ذلك يا بطَّال (¬4) مكيدة للدين، لكان سيد المرسلين أول من كاد الدين (¬5)، وكذلك جميع الصحابة والتابعين، وهذا آخر ما أردت الإشارة إليه من جُمَلِ عقائد المحدثين، وهم الطائفة الأولى. ¬
الطائفة الثانية: أهل النظر فى علم الكلام
الطائفة الثانية: أهل النظر في علم الكلام، والمنطق، والمعقولات وهم فرقتان: أحدهما الأشعرية، وكُتُبُهُم مشهورةٌ في ديار الشيعة، وقد نقلتُ جُلَّ كلامهم في مسألة أفعال العباد، والأطفال، وتكليف ما لا يُطاق، والإرادة، ونفي الداعي (¬1) عن أفعال الله تعالى، وفي التحسين (¬2) والتقبيح، وهذا جُلُّ ما يُخالفون فيه. الفرقة الثانية من المتكلمين منهم الأثرية كابن تيمية (¬3) وأصحابه، فهؤلاء من أهل الحديث لا يُخالفونهم إلاَّ في استحسان الخوض في الكلام، وفي التجاسُر على بعض العبارات (¬4)، وفيما تفرَّدُوا به من الخوض في الدقائق (¬5) الخفيات، والمحدِّثون ينكرون ذلك عليهم؛ لأنه ربما أدى ذلك (¬6) إلى بدعةٍ، أو قدحٍ في سُنَّةٍ. وأنا أُوردُ شيئاً يسيراً من كلامهم يشير (¬7) إلى طريقتهم في النظر، فمن أخصر ما يليقُ بهذا الموضع ألفاظٌ مُختصرةٌ من جواب مسألةٍ لشيخ الحنابلة العلاَّمة المتكلم أحمد بن تيمية الحراني، رحمه الله، وقد يعرض فيها من الألفاظ الشنيعة ما تعافه نفوسُ المؤمنين، ولكنه لا بأس بذكرها عند أهل الجدل للحاجة مع حُسن القصد كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، وكما حكى الله تعالى عن اليهود من نسبة ¬
جواب ابن تيمية على المسألة التدمرية بأصلين
الولد، ونسبة الفقر إليه، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وكما حكى (¬1) عن (¬2) النصارى من التثليث، وعن سائر طوائف الكفر حتى قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، ثُمَّ عاملهم يوم القيامة بالعدل في إحضار الشهود والكتب والميزان. قال الشيخ العلامة الحافظ شيخ الحديث والكلام (¬3) أحمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي في أثناء جواب المسألة المعروفة بالتدمرية (¬4) لورودها من تدمر ما لفظه -بعد حذف قطعة من أول كلامه للاختصار-: ويتبيَّنُ هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين (¬5) -ولله المثل الأعلى (¬6) - وخاتمة. أمَّا الأصلان: فأحدهما: أن يُقال (¬7): القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطبُ ممَّن (¬8) يُقِرُّ بأنَّ الله حيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بعلم، قديرٌ بقُدرة، سميعٌ بسمعٍ، بصيرٌ ببصر، متكلمٌ بكلام، مريدٌ بإرادة، ويجعل ذلك كلَّه حقيقةً، وينازع في محبته، ورضاه، وغضبه، وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً، ويُفسِّرُه إمَّا بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات. ¬
قيل له: لا فرق بين ما نفيتَه وبين ما أثبتَّه. فإن قلت (¬1): إنَّ إرادته مثلُ إرادة المخلوقين، فكذلك (¬2) محبتُه ورضاه وغضبُه، وهذا هو التمثيل. وإن قلت: إرادةٌ تليقُ به. قيل له: وكذلك له محبةٌ، ورضاً، وغضبٌ يليق به. فإن قال: الغضب غليانُ دم القلب لطلب الانتقام. قيل له: والإرادة ميل (¬3) النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرَّةٍ. فإن قلت: هذه إرادةُ المخلوق. قيل لك: وهذا غضب المخلوق، وكذلك يلزم بالقول (¬4) في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقُدرته. فإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلاَّ ما يختصُّ بالمخلوقين، فيجب نفيُه عنه. قيل له: وهكذا السمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة. فإن قال (¬5): تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل، [الحادث] دلَّ على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دلَّ على العلم، وهذه الصفات مُستلزمة للحياة، والحيُّ لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضدِّ ذلك. ¬
قال له سائر أهل (¬1) الإثبات لك جوابان: أحدهما: أن يُقال: عدم الدليل [المعين] لا يستلزِمُ عدم المدلول المعين، فهب (¬2) أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يُثبته، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليلُ كالمثبت، والسمع قد دلَّ عليه، ولم يعارض ذلك معارِضٌ عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض. الثاني: أن يُقال: يُمكنُ إثبات هذه الصفات: بنظير ما أثبت به (¬3) تلك من العقليات -إلى قوله-: وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات (¬4)، ويُقِرُّ بالأسماء كالمعتزلي الذي يقولُ: إنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ، وينكر أن يتَّصف بالحياة والعلم والقدرة (¬5) قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات، فإنَّك إن قلت: إثبات الحياة، والعلم، والقدرة (¬6) يقتضي تشبيهاً أو تجسيماً لأنَّا لا نجدُ في الشاهد مُتَّصفاً بالصفات إلاَّ ما هو جسمٌ. قيل لك: ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى: حيٌّ عليم قديرٌ إلاَّ ما هو جسمٌ، فإن نفيت ما نفيت لكونك (¬7) لم تجده في الشاهد إلاَّ لجسمٍ فانفِ الأسماء، بل وكُلَّ شيءٍ، لأنك لا تجدُه في الشاهد إلاَّ لجسمٍ (¬8)، ¬
فكل ما يحتج به من نفي الصفات، يحتجُّ به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً (¬1) لذلك، كان جواباً لهذا. أقول: للمعتزلة كلام في الفرق بين المعاني التي تحتاج إلى محل كالقدرة والعلم، وبين الصفات كالعالم والقادر، وقد نازعهم الرازي في صحة التفرقة بكلامٍ طويلٍ ليس هذا موضع ذكره، وذكر جوابه وتنقيح القوي، وأمَّا ابنُ تيمية فإنما أراد أن يردَّ على من ألزمه التشبيه بإثبات الصفات بالنظر إلى هذا الإلزام من هذا الوجه فقط، ولم يتعرض لسائر أدلة المعتزلة، والله أعلم. قال ابن تيمية: وإن كان المخاطب من الغُلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول: هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي (¬2) مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم. قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات. فإن قال: أنا (¬3) أنفي النفيَ والإثبات. قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنَّه يمتنع أن يكون الشيءُ موجوداً معدوماً (¬4)، أو لا موجوداً، و (¬5) لا معدوماً. ¬
فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والمَلَكَةِ لا تقابُلَ السلب والإيجاب، فإنَّ الجدار لا يُقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذْ ليس بقابلٍ لهما. قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في العدم والوجود، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم (¬1) من رفع أحدهما ثبوت الآخر، وأمَّا ما ذكرته من الحياة، والموت، والعلم، والجهل، فهذا اصطلاحٌ اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون، والاصطلاحاتُ اللفظية ليست دليلاً على الحقائق العقلية، وقد قال الله (¬2) تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم. وقيل لك ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف (¬3) بالحياة والموت، والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبلُ الاتصاف (¬4) بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت (¬5) من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات (¬6) التي لا تقبل ذلك. وأيضاً فما لا يقبَلُ الوجود والعدمَ أعظمُ امتناعاً من القابل لهما، ومن ¬
اجتماعهما ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبولهما، كان أعظم امتناعاً مما نفيتهما، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول، كان هذا أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل (¬1) العدم، هو أعظم الممتنعات (¬2) وهذا غاية التناقض والفساد. وقيل له أيضاً: اتفاق المسمّين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات (¬3)، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق فما (¬4) يختصُّ بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يجوز أن يَشْرَكَهُ (¬5) مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى. وأما ما نفيته، فهو ثابتٌ بالعقل والشرع، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهَّال الذين يظنون أن كل معنى سماه مُسمٍّ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو شاع هذا لكان كل مُبطلٍ يسمي (¬6) الحق بأسماءٍ ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناسُ بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغيِّ والضلالة. وإن قال نُفاةُ الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيبٌ ممتنعٌ. ¬
الأصل الثاني: أن يقال: القول في الصفات كالقول في الذات
قيل: وإذا قلتم: هو موجودٌ واجب، وعقل وعاقل ومعقول، فليس (¬1) المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا. فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تُثبتونه وتسمونه توحيداً. فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة، وليس هذا تركيباً ممتنعاً. قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيدٌ في الحقيقة، وليس هذا (¬2) تركيباً ممتنعاً، وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول من الصفات لا ينفي شيئاً فراراً (¬3) مما هو محذورٌ، إلاَّ وقد أثبت ما يلزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه، فلا بد في آخر الأمر من (¬4) أن يثبت موجوداً واجباً قديماً (¬5) مُتَّصفاً بصفاتٍ تُميِّزُهُ عن غيره، ولا يكون فيها (¬6) مماثلاً لخلقه. فيقال له: هكذا القول في جميع الصفات، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدرٍ تتواطأُ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فُهِمَ الخطاب، ولكن يُعلم أن ما اختص الله به، وامتاز به عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال، ويدور في الخيال. وهذا يتبين (¬7). الأصل الثاني: وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في ¬
الذات، فإنَّ الله ليس كمثله شيءٌ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذاتٌ حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات (¬1) متصفة بصفاتٍ حقيقةً لا تُماثِلُ صفات سائر الذوات. فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له: كما قال ربيعةُ ومالك وغيرهما (¬2): الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عن الكيفية بدعة (¬3)، لأنه سؤالٌ عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته. قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابعٌ له، فكيف تُطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تُقِرُّ بأن له ذاتاً (¬4) حقيقة ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات ¬
الكمال لا يُماثِلُها شيءٌ، فسمعُه وبصرُه وكلامُه ونزوله واستواؤه هو ثابت في نفس الأمر، وهو مُتصف بصفات الكمال التي لا يُشابهُهُ فيها سمع المخلوقين، وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم، وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً، ونفى شيئاً بالعقل، إذاً أُلزم (¬1)، فيما نفاه من الصفات (¬2) التي جاء بها الكتابُ والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو (¬3) طُولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا، لم يجد بينهما فرقاً، ولهذا لا يوجد (¬4) لنُفاة بعض الصفات دون بعض الذين يُوجبون فيما نَفَوه إمَّا التفويض وإمَّا التأويل المخالف لمقتضى اللفظ قانونٌ مستقيم. فإذا قيل لهم: لم تأوَّلتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جوابٌ صحيح، فهذا تناقضُهم في النفي، وكذلك تناقضُهم في الإثبات، فإن (¬5) من تأوَّل النصوص على معنىً من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص من المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر لزمهم في المعنى المصروفِ إليه ما كان يلزَمُهم في المعنى المصروف عنه. فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه هو إرادتُه للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظيرُ ما يلزَمُه في الحُبِّ والمَقْتِ، والرِّضا والسخط. ¬
ولو فسر ذلك بمفعولاته، وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزَمُه في ذلك نظيرُ ما فَرَّ منه. فإنَّ الفعل المعقول (¬1) لا بُدَّ أن تقوم أولاً بالفاعل، والثوابُ والعقاب المعقول (¬2) إنما يكون على فعل ما يُحبُّه ويرضاه، ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه المثيب المعاقِبُ فهُم إن أثبتوا الفعل (¬3) على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد، مثَّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات. وأمَّا المثلان المضروبان -إلى قوله في المثل الأول-: وهو دارُ الآخرة، وما اشتملت عليه مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر (¬4)، والله سبحانه لا تُضربُ له الأمثال التي فيها مُماثلةٌ لخلقه، فإن الله لا مِثْلَ (¬5) له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك (¬6) هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في (¬7) قياس شمولٍ يستوي أفراده، ولكن يُستعملُ في حقِّه المثل الأعلى وهو أن كل ما اتصف ¬
به المخلوق (¬1) من كمالٍ فالخالق أولى به، وكل ما يُنَزَّهُ عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه (¬2) عنه. فإذا كان المخلوق (¬3) مُنَزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن يُنَزَّه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقةٌ في الاسم، وهكذا نقول في المثل الثاني، وهو الروحُ التي فينا، فإنها قد وُصِفَتْ بصفاتٍ ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوصُ أنها تعرُجُ من سماءٍ إلى سماءٍ، وأنها تُقْبَضُ من البدن، وتُسَلُّ منه (¬4) كما تُسَلُّ الشعرة من العجين، والناس مضطربون فيها: فمنهم طوائف من أهل الكلام (¬5) يجعلونها جُزءاً من البدن، أو (¬6) صفةً من صفاته كقول بعضهم: إنَّها النفس أو الريح الذي يتردَّدُ (¬7) في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة، أو المِزَاجُ، أو نفس البدن (¬8). وفيهم (¬9) طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، فيقولون: لا هي داخل (¬10) البدن، ولا مباينةٌ له، ولا ¬
مداخلةٌ، ولا متحركة، ولا ساكنة، ولا تصعد، ولا تهبِطُ، ولا هي جِسمٌ ولا عَرَضٌ. وقد يقولون: إنَّها لا تُدرِكُ الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنَّما تدرك الأمور الكلية المطلقة. وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له (¬1)، ولا مداخلة له (¬2)، وربما قالوا: ليست داخلةً في أجسام العالم ولا خارجةً عنها مع تفسيرهم للجسم بما يقبلُ الإشارة الحسِّيَّة، فيصفونها بأنه (¬3) لا يمكنُ الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع. وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنعٌ في ضرورة العقل. قالوا: بل هذا ممكنٌ بدليل أن الكليات موجودة، وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلاَّ في الأذهان لا في الأعيان فيعتمدون في ما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال (¬4) الذي لا يخفى فسادُه على غالب الجهال (¬5). واضطرابُ النفاة والمثبتة في الروح كثيرٌ، وسببُ ذلك أن الروح التي تُسمَّى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هي من جنس هذا البدن، ولا ¬
من جنس العناصر والمُوَلَّدات (¬1) منها (¬2)، بل هي (¬3) من جنسٍ آخر مخالفٍ لهذه الأجناس (¬4)، فصار هؤلاء لا يُعرِّفونها إلاَّ بالسَّلُوب التي (¬5) لا يوجبُ مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ، وإطلاق القول عليها بأنها جِسْمٌ أو ليست بجسم يحتاجُ إلى تفصيلٍ، فإنَّ لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غيرُ معناه اللغوي، فأهل اللغة يقولون: الجسمُ: هو الجسدُ والبَدَنُ (¬6)، وبهذا الاعتبار فالرُوح ليس جسماً، ولهذا يقُولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]، وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ و َالْجِسْمِ} [البقرة: 247]. وأما أهلُ الكلام فمنهم من يقولُ: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المُرَكَّبُ من المادة والصورة، وكل (¬7) هؤلاء يقولون: إنَّه مشارٌ إليه إشارةً حسيةً. ومنهم من يقول: ليس بمركبٍ لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه، ويقال: إنه هنا أو هناك، فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه (¬8) ويتبعُهُ بصرُ الميت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الروح إذا خَرَجَ تَبِعَه ¬
البَصَرُ" (¬1) وأنها تُقْبَضُ ويُعرَجُ بها إلى السماء (¬2)، كانت الروحُ جسما بهذا الاصطلاح. والمقصود أنَّ الروح إذا (¬3) كانت موجودة (¬4) حية عالمة قادرة سميعة بصيرة تصعد وتنزِلُ، وتذهب وتجيءُ ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تُدْرَكُ حقيقتُه إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح مُتَّصفةً بهذه الصفات مع مُماثلتها لما يُشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقُّه من أسمائه وصفاته، وأهلُ العقول أعجزُ عن أن يحدوه أو يُكيفوه منهم عن أن يحُدُّوا الروح أو يكيفوه (¬5)، فإذا كان من نفي صفات الروح جاحداً مُعَطِّلاً لها، ومن مثَّلها بما يُشاهدُهُ من المخلوقات جاحداً لها، ممثلاً لها بغير شكلها وهي مع ذلك ثابتةٌ بحقيقة الإثبات (¬6) مستحقةٌ لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفي صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به (¬7) ممثلاً، وهو سبحانه ثابتٌ بحقيقة الإثبات مستحقٌّ لما له من الأسماء والصفات. ¬
فصل: الخاتمة الجامعة وفيها قواعد نافعة
فصلٌ: وأمَّا الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة. القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوفٌ بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره سبحانه أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميعٌ بصير ونحو ذلك. والنفي كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدحٌ ولا كمال إلاَّ إذا تضمَّن إثباتاً؛ لأن النفي المحض عدمٌ محضٌ (¬1)، والعدم المحض ليس بشيءٍ، وما ليس بشيء هو (¬2) كما قيل: ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً وكمالاً (¬3)، ولأنَّ النفي المحض يُوصَفُ به المعدوم والممتنع، وهما لا يُوصفان بمدحٍ ولا كمالٍ، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدحٍ كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، فإنه يتضمن كمال الحياة والقيام، وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، فإنه مستلزم لكمال قُدرته وقوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] مستلزم لعلمه بكل ذرة، وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] (¬4) مستلزمٌ كمال القدرة ونهاية القوة، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قال أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدحٌ، وإلا لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح ¬
في كونه لا يُحاط به وإن رُئي (¬1)، كما أنه لا يُحاط به، وإن عُلمَ، فكما أنه إذا عُلِمَ لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رُئيَ لا يُحاطُ به رؤيةً، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفه كمال. وإذا تأملت، وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يَصِفِ (¬2) الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلاَّ بالسُّلوب، لم يُثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنَّه لا يتكلمُ و (¬3) لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباينٍ للعالم، ولا محايثٍ (¬4) له إذ هذه الصفات يمكن أن يوصَفَ بها المعدوم، وليست هي مُستلزمةً صفة ثبوت. ولهذا قيل لمن ادَّعى ذلك في الخالق: ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تُثبتُه، وبين المعدوم. وكذلك كونه لا يتكلم ليس فيه صفةُ مدحٍ ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيهٌ له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتَّصفُ به إلاَّ المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلاَّ الجماد أو الناقصُ، فمن قال: لا هو مباينٌ للعالم ولا مداخلٌ له، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائمٌ بنفسِهِ ولا بغيره، ولا قديمٌ ولا مُحْدَثٌ، ولا متقدمٌ على العالم ولا مقارنٌ له، ومن قال: إنَّهُ ليس بحيٍّ ولا سميع، ولا بصيرٍ، ولا ¬
متكلمٍ، لزمه أن يوصف بنقائضها من الموت والصَّمم والعمى والبكم. فإن قال: العمى عدم البصر عمَّا (¬1) شأنُه أن يقبل البصر، وما لم يَقبَلِ البصر كالحائط لا يُقالُ له: أعمى ولا بصير. قيل له: هذا اصطلاحٌ اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعُجمة، قال الله تعالى في صفة الأصنام: {أمواتٌ غيرُ أحياءٍ} [النحل: 21]. وأيضاً فكلُّ موجود يقبلُ الاتصاف بهذه الأمور ونقائِضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيّاً كما جعل عصا موسى حيَّةً ابتلعت الحبال والعِصِيَّ. وأيضاً فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممَّا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد (¬2) الذي لا يوصفُ بالبصر، ولا العمى، ولا الكلام، ولا الخرس أعظم نقصاً من الحيِّ الأعمى الأخرس. فإذا (¬3) قيل: إنَّ الباري لا يمكن اتصافه بذلك لأجل هذه العلة، كان في (¬4) ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وُصِفَ بالخرس والعمى ¬
والصمم، ونحو ذلك، مع أنه إذا جُعِلَ غير قابل لهما كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبلُ الاتصاف بواحدٍ منها، فكيف يُنكِرُ من قال بذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيهٌ بالحي، وليس بتشبيهٍ (¬1). وأيضاً فنفسُ نفي هذه الصفات نقصٌ، كما أنَّ إثباتها كمالٌ، فالحياة من حيث هي هي مع قطع النظرعن تعيين الموصوف بها صفةَ كمالٍ. وكذلك العلمُ، والقدرةُ، والسمع، والبصر، والكلام، والفعل ونحو ذلك، وما كان صفة كمالٍ فهو سبحانه وتعالى أحقُّ أن يتَّصف به من المخلوقات، فلو لم يتَّصِف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً. واعلم أن الجهميَّة المحضة كالقرامطة، ومن ضاهاهم ينفُون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولوا: ليس بموجود، ولا ليس بموجود، ومعلومٌ أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول كالجمع بين النقيضين. وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليسَ بحيِّ، ولا سميع، ولا بصير، وهؤلاء أعظمُ كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظمُ كفراً من هؤلاء من وجه. فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت، والصَّمَمِ، والبَكَمِ، قالوا: إنَّما يلزم ذلك لو كان قابلاً لذلك، وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً. ¬
القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربه فإنه يجب الإيمان به
وكذلك من ضاهي هؤلاء، وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا بخارجه. إذا قيل لهم: هذا ممتنعٌ في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديمٍ، ولا محدثٍ، ولا واجب، ولا ممكن، ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، قالوا: هذا إذا كان قابلاً لذلك، والقبول إنَّما يكونُ من المتحيز، فإذا انتفى التحيُّزُ (¬1) انتفى قبول هذين المتناقضين. فيقال لهم: علمُ الخلق بامتناع هذين النقيضين، هو علمٌ مطلقٌ لا يُستثنى منه (¬2) موجود، والتحيز المذكور إن أريد به (¬3) كونُ الأحياز الموجودة محيطةً به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها متميزٌ عنها، فهذا هو الخروج، فالمتحيز يراد به تارةً ما هو داخل العالم، وتارةً ما هو خارجه، فإذا قيل: ليس بمتحيزٍ، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه، فهم غيَّروا العبارة، فيتوهم من لا يفهم حقيقة قولهم أنَّ هذا معنىً آخر، وهو المعنى الذي عُلِمَ فسادُه بضرورة العقل، كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحيٍّ، ولا ميت، ولا موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل. القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربِّه فإنَّه يجب الإيمان به، سواء عَرَفنا معناه أو لم نعرف، فما جاء في الكتاب والسنة، وجب الإيمانُ به، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وما تنازع فيه المتأخرون فليس على أحد، بل ولا له أن يُوافِقَ على إثبات لفظٍ أو (¬4) نفيه حتى يعرِفَ مراده، فإن أرادَ حقّاً قُبِلَ، وإن أراد باطلاً رُدَّ، وإن اشتمل ¬
القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد أو ليس بمراد
كلامه على حق وباطل لم يُقبل مطلقاً، ولم يُرَدَّ جميع معناه، بل يوقف اللفظ، ويُفسَّرُ المعنى كما تنازع الناس في الجهة، والتحيز، ونحو ذلك إلى آخر كلامه في نفي حاجة الله سبحانه إلى الجهة المخلوقة، والمنع من ذلك ومن تحيزه في مخلوقاته سبحانه وتعالى. القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مرادٌ أو ليس بمراد. فإنه يقالُ له: لفظ الظاهر فيه إجمالٌ واشتراكٌ، فإن كان القائل يعتقدُ أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أنَّ هذا غيرُ (¬1) مراد، ولكنَّ السلف والأئمة لم يكونوا يُسَمُّون هذا ظاهرها (¬2)، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله أحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلاَّ ما هو كفرٌ أو ضلال (¬3)، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون (¬4) من وجهين: تارةً يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويلٍ يُخالِفُ الظاهر، ولا يكون كذلك. وتارةً يرُدُّون المعنى الحق الذي هو ظاهرُ اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل، فالأول كما قالوا: في قوله: " عبدي جعتُ فَلَمْ تُطعِمْني " (¬5)، وفي الأثر الآخر "الحجرُ الأسودُ يمينُ الله في الأرض، فمَنْ صافَحَه ¬
وقبَّلَه، فكأنَّما صافَحَ الله وقبَّل يمينه" (¬1)، وقوله: " قلوبُ العبادِ بَيْنَ أُصبَعَينِ من أصابعِ الرحمنِ " (¬2). فقالوا: قد عُلِمَ أنه ليس في قلوبنا أصابع الحق. فيقال لهم: لو أعطيتُم النصوص حقَّها من الدلالة لعلمتُم أنها لم تدُلَّ إلاَّ على حق، فقوله: " الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله، فكأنَّما صافحَ الله وقبَّل يمينه " صريحٌ في أن الحجر ليس هو صفةً (¬3) لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: " يمينُ الله في الأرضِ "، وقال: " فمن قبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه " (¬4)، ومعلوم أن المشبَّه ليس هو المشبَّه به، ففي نفس الحديث بيان أنَّ مُستَلِمَه ليس مصافحاً لله، وأنه لي هو (¬5) هذا الحديث إنما يعرف عن ابن ¬
عباس، يعني موقوفاً عليه (¬1) لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأمَّا الحديث الآخرُ فهو في الصحيح مُفَسَّراً بقول الله: " عبدي جُعْتُ فلم تُطعمني، فيقول: ربِّ كيف أُطعمُك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي، عبدي مَرِضْتُ فلم تَعُدْني، فيقول: ربِّ كيف أعودُك، وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فُلاناً مَرِضَ، فلو عُدْتَه لوجدتني عندَه "، وهذا صريحٌ في أنَّ الله تعالى لم يمرض، ولم يجُع، ولكن مَرِضَ عبدُه (¬2) وجاع، فجعل جوعَه جوعَه، ومرضَه مرضَه مُفَسِّراً لذلك، بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عُدْتَه لوجدتني عنده، فلم يبقَ في الحديث لفظٌ يحتاجُ إلى تأويل (¬3). انتهى (¬4). وأما قوله: " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصبع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرتُه ليديه، وإذا قيل: السحاب المسخَّرُ بين السماء والأرض لم يقتضِ أن يكونَ مماسّاً للسماء والأرض، ونظائرُ هذا كثيرةٌ. ¬
وممَّا يُشبِهُ هذا أن نجعلَ اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75]، فقيل: هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: {فبما كَسَبَتْ أيْدِيْكُمْ} [الشورى: 30]، وهناك أضاف الفعل إليه، فقال: {لِمَا خلقتُ} ثم قال: {بِيَدَيّ}. وأيضاً هنا ذكرَ نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَداه مبسوطتان} [المائدة: 64]، وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة (¬1) الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بأَعْيُنِنا} [القمر: 14]، وهذا في الجمع نظيرُ قوله: {بِيَدِهِ المُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ الخَيْرُ} [آل عمران: 26]، في المفرد، فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارةً بصيغة المفرد مُظهَراً أو (¬2) مُضمراً، وتارةً بصيغة الجمع كقوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً} [الفتح: 1] وأمثال ذلك، ولا يذكُرُ نفسه بصيغةِ التثنيةِ قط، لأنَّ صيغةَ الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقُّه، ورُبَّما تدلُّ على معاني أسمائه. وأما صيغة التثنية، فتدل على العدد المحصور، وهو مقدسٌ عن ذلك، فلو (¬3) قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي (¬4)، [لما] (¬5) كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدينا} [يس: 71]، وهو نظيرُ قوله: {بيده ¬
الملك} و {بيدك الخير}، ولو قال: لما خلقت بيدي بصيغة -الإفراد- لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: {خلقتُ بِيَديَّ} بصيغة التثنية، هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع السلف على مثل ما دلَّ عليه القرآن، كما هو مبسوطُ في موضعه مثل قوله: " المُقْسِطُون عند الله على منابرَ من نورٍ عن يمينِ الرحمنِ -وكلتا يديه يمينٌ- الذين يعدِلُون في حُكمِهم وأهليهم وما وَلُوا " (¬1)، وأمثال ذلك. وإن كان القائلُ يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنسِ ظاهر النصوص المتَّفق على معناها، فالظاهرُ هو المراد في الجميع، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيءٍ عليمٌ، وأنه على كل شيءٍ قديرٌ، واتَّفق أهلُ السنَّة، وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهره مرادٌ، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه مثلَ علمنا، وقدرتُه كقدرتنا. وكذلك لما اتَّفقوا على أنه حي حقيقةً، عالمٌ حقيقة (¬2)، قادرٌ حقيقة لم يكن مرادهم (¬3) إنه مثل المخلوق الذي هو حي عالم قادر. فكذلك إذا قالوا: في قوله: {يُحبُّهُم ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {رَضِيَ اللهُ عنهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وقوله: {ثُمَّ استَوَى على العرشِ} [الأعراف: 54] أنه على ظاهره لم يقتضِ ذلك أن يكونَ ظاهرُه استواء كاستواء المخلوق (¬4)، ولا حُبّاً كحبه، ¬
ولا رِضاً كرضاه. فإن كان المستمعُ يظنُّ أنَّ ظاهرَ الصفات يماثلُ صفاتِ المخلوقين، لَزِمَه أن لا يكون شيءٌ من ظاهر ذلك مراداً، وإنْ كان يعتقد أنَّ ظاهرها هو ما يليق بالخالق، ويختصُّ به، لم يكن له نفيُ هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلاَّ بدليل يدُلُّ على النفي، وليس في العقل، ولا في السمع ما ينفي هذا إلاَّ من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكونُ الكلام في الجميع واحداً. وبيانُ هذا أن صفاتنا منها ما هو أعيانٌ وأجسامٌ، وهي أبعاضٌ لنا كالوجهِ، واليد (¬1)، ومنها ما هو معان وأعراض، وهي قائمة بنا كالسمع، والبصر، والعلم، والكلام، والقدرة. ثمَّ من المعلوم أن الربَّ لما وَصَفَ نفسه بأنَّه حيٌّ، عليم، قدير لم يقل المسلمون إن ظاهر هذا غيرُ مراد، لأنَّ مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، وكذلك (¬2) لما وَصَفَ نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يُوجِبْ ذلك أن يكون ظاهرُه غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقِّنا (¬3)، بل صفةُ الموصوفِ تُناسبُه. فإذا كانت ذاتُه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، وصفاته (¬4) كذاتِه ليست كصفاتِ المخلوقين، ونسبةُ صفة المخلوق إليه كنسبة (¬5) صفةِ ¬
الخالق إليه، وليسَ المنسوب كالممنسوب، ولا المنسوبُ إليه كالمنسوب إليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ترون ربَّكُم كما تَرَوْنَ الشَّمْسَ والقَمَرَ " (¬1) فَشَبَّهَ الرؤيَةِ بالرؤيةِ لا المرئيَّ بالمرئيِّ (¬2). قلتُ (¬3): قالوا: الصفات قد تَخَصَّصَتْ بأنواعٍ غيرِ مختلفة، وهي: العلمُ، والقُدرة، فإنَّ العلمَ غيرُ مختلف، وكذلك القدرةُ وسائر الصفات عند هؤلاء. قلنا: بل هي مختلفةٌ كما يأتي محقَّقاً في القاعدة السادسة، وللزمخشري شعرٌ أشعر فيه بالتجاهُل، والتحامل الكثير (¬4) على أهل السنة شنَّع فيه العبارةَ، وأفحشَ في سوء الأدب مع أئمَّة السنة (¬5)، بل أئمَّةِ الإسلام، وخَرَجَ فيه عن أساليب العلماء الأعلام، فقال فيه: لِجَمَاعَةٍ سَمَّوا هَواهُم سُنَّةً ... وجماعةٍ حُمْرٍ لَعَمْرِي مُوكَفَهْ قَدْ شَبَّهُوهُ بخلقِه وتَخَوَّفُوا ... شُنَعَ الوَرَى فَتَسَتَّرُوا بالبَلْكَفَهْ (¬6) وله أجوبةٌ كثيرة منها قولُ بعضهم: ومُبَلْكِفٍ للذاتِ طالَ تَعَجُّبي ... من شِدَّة استنكارِه للبَلْكَفَهْ ¬
إن كنت تُنِكرُها فكيِّف ذاتَه ... أيضاً وقُلْ هي كالذَّوات مُكَيَّفه بل أنت تِثْبِتُها ولا تدري كَمَا ... لم تدْرِ قطُّ مَنِ الحَمِيرُ المُوكَفَهْ ولَقَدْ هَجَوتَ وَمَا دَلَلْتَ وإنَّما ... أبداً تدُلُّ على الحِمَارِ العَجْرَفَهْ وقال آخر أيضاً في الجواب عليه: يا عائباً من جَهْلِه للبلكفه ... هي قولُكم في الذَّات دَعْ عنك الصِّفه واللهُ ليس كمثله شيءٌ وذا ... هُو ما اعتَرضْتَ به فَدَعْ عنك السَّفه من لم يقُل بمقالِنا فيها شَرَى ... بنُصُوصِ وَحْيِ الله رأيَ الفَلْسَفَهْ ولبعض المغاربة: لجماعة جعلوا الشرائعَ بدعةً ... وحماقةً حُمْرٍ لَعَمْري مُوكَفَهْ قد عطَّلُوا أسماءَه وتبدَّلُوا ... بنُصُوصِ وَحي الله رأي الفلسفه كفروا كأهل الشركِ بالرَّحمن إلـ ... لا في مجازٍ أبدَعُوه زَخْرَفَهْ وقَضَوا بأنَّ الحقَّ قطعاً نفيُهُ ... وبأنَّهُ لإلهنا بِئْسَ الصِّفَهْ في (¬1) عدِّه عشرين من أسمائه الـ ... ـحُسْنَى رواها خِزْيَة مُسْتَنْكَفَهْ أيُذَمُّ ربُّ الحمدِ في الصَّلَوات والـ ... ـسبْعِ المثاني إنَّ ذا لهُو السَّفَه واللهُ ليس كمثله شيءٌ وذا ... هو نفسُ ما قدْ لَقَّبُوْهُ (¬2) البَلْكَفَه تَعِسَ الذي اعتزَلَ الكتابَ وكذَّبَ الـ ... أسْمَا وبدَّلَهَا بمحْضِ (¬3) العَجْرَفَهْ وجوابُنا لكُم نظيِرُ جوابِكُم ... لِقَرَامطٍ لا يُثبِتُونَ له صِفَهْ كفرُوا بكُلِّ اسمٍ له وكفرتُمُ ... بالبَعْضِ قِسْمَة جُرأةٍ ومُجَازَفَهْ فإذا أفادَكُمُ المَجَازُ أفادَهُم ... إن كان بينكُمُ حقاقُ (¬4) مُنَاصَفَهْ ¬
القاعدة الرابعة: إن كثيرا من الناس يتوهم في بعض الصفات أنها تماثل صفات المخلوقين
فالكلُّ يعلَمُ من ضرُورةِ دِيْنِنا ... مَدْحَ الإلهِ بهِ بغَيْرِ مُخَالَفَهْ قلت: وكذاكَ يلزَمُ نفعُ كل تجوُّزٍ ... في ذاتِ خالقِنا وأوجبَ معرِفَه فتكونُ مُثبَتَةً مجازاً مؤمناً ... إيمانَكم في نفي معلُومِ الصِّفَه وتكفيرُ أهل القبلة خطأٌ، فيصلح البيت الثالث: انِفُوا من الرَّحمن كالماضينَ إلـ ولعلَّه أراد كفراً دونَ كُفر. انتهى (¬1). قال: وهذا يتبيَّنُ من: القاعدة الرابعة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهَّم في بعض الصفات، أو كثيرٍ منها، أو أكثرها، أو كُلِّها أنها تُماثلُ صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فَهِمَه فيَقَعُ في أربعة أنواع من المحاذير. أحدها: كونه مثَّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنَّ (¬2) أن مدلول النصوص هو التمثيل. الثاني: أنه إذا جعل ذلك مفهُومها (¬3)، وعطَّله (¬4)، بقيت النصوصُ معطلةً عمَّا دلَّت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنِّه السيىء الذي ظنَّه بالله ورسوله حيث ظن أن ¬
الذي يُفهَمُ من كلامهما هو التمثيل الباطل، وقد عطَّل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى. الثالث: أنه (¬1) ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون مُعطِّلاً لما يستحقُّه الربُّ. الرابع: أنه يَصِفُ الربَّ بنقيض تلك الصفات من صفات الموات (¬2)، والجمادات، أو (¬3) صفات المعدومات، فيكون قد عَطَّلَ صفاتِ الكمال التي يستحقُّها الرب جلَّ وعزَّ، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عمَّا دلَّت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمعُ في الله، وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون مُلحِداً في أسماء الله (¬4) وآياته. مثال ذلك: أن النصوصَ كلها دلَّت على وصف الإله (¬5) بالعُلُوِّ والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش. فأمَّا علوُّه ومباينته للمخلوقات، فيُعلمُ بالعقل [الموافق للسمع]. وأمَّا الاستواء (¬6) على العرش، فطريق العلم به هو (¬7) السمع، ¬
وليس في الكتاب والسنة وصفٌ له بأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباينه، ولا مداخله، فيظنُّ المتوهم أنه (¬1) إذا وصف (¬2) بالاستواء على العرش، كان استواؤُهُ كاستواء الإنسان على ظهور الفُلكِ والأنعام ... إلى قوله: وليس في اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدَّر فَهَدَى، كما (¬3) ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأنَّه بَنى السماء بأيدٍ إلى قوله: فلمَّا قال تعالى: {والسماءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ} [الذاريات: 47}، فهل يُتوهَّمُ أنَّ بناءه (¬4) مثلُ بناء الآدمي المحتاج الذي يحتاج إلى زنبيلٍ، ومجارِفَ، وأعوانٍ، وضرب لبنٍ، وجبلِ طين، ثم قد عُلِمَ أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عالية مفتقراً إلى سافله، فالهواء والسحاب فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، فالعليُّ الأعلى ربُّ كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه؟! أو (¬5) إلى عرشه!، أو كيف يستلزم علوُّه على خلقه هذا الافتقارَ!؟. وكذلك قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] من توهَّم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهلٌ ضالٌّ بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إنَّ الشمس والقمر في السماء (¬6) يقتضي ذلك، فإنَّ حرف " في " متعلقٌ بما ¬
القاعدة الخامسة: لقائل أن يقول: لا بد في هذا الباب من ضابط يعرف به ما يجوز على الله مما لا يجوز في النفي والإثبات
قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف، والمضاف إليه، ولهذا نُفرقُ بين كون الشيء في المكان، وكونِ الجسم في الحيِّز، وكون العَرَضِ في الجسم (¬1)، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الوَرَقِ، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصةً يتميزُ بها عن غيره، وإن كان حرفُ " في " مستعملاً في ذلك. إلى قوله: ولما (¬2) كان قد استقرَّ في نفوس المخاطبين أنَّ الله هو العليُّ الأعلى، وأنه فوق كُلِّ شيء، كان المفهوم من قوله: إنه في السماء، أنه في العُلُوِّ، وأنه (¬3) فوق كل شيء. وكذلك الجارية لمَّا قال لها - صلى الله عليه وسلم -: " أين الله؟ "، قالت: في السماء (¬4)، إنَّما أرادت العُلُوَّ مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة. إلى قوله كما قال: {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وكما قال: {فسِيْرُوا في الأرْضِ} [النحل: 36]، وكما قال: {فَسِيْحُوْا في الأرْضِ} [التوبة: 2]، ويقال: فلانٌ في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيءٍ فيه (¬5) إلى أن قال: القاعدة الخامسة: لقائلٍ أن يقول: لا بُدَّ في هذا (¬6) الباب من ضابطٍ يُعرفُ به ما يجوزُ على الله مما لا يجوزُ في النفي والإثبات، إذ ¬
الاعتمادُ في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو الإثبات من غير تشبيه ليس بسديدٍ (¬1)، وذلك أنه ما من شيئين إلاَّ بينهما قدرٌ مشترك، وقدرٌ مميز. فالنافي إن اعتمد في ما ينفيه على أنَّ هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثلٌ له من كل وجه، فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابهٌ له من وجه دون وجه، أو مشاركٌ له في الاسم، لزِمَكَ هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه، فإنَّه يجوزُ على أحدهما ما يجوزُ على الآخر، ويمتنعُ عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له. ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا المعنى ممَّا لا يقولُه عاقلٌ يتصورُ ما يقول، فإنَّه يُعلمُ بضرورة (¬2) العقل امتناعُه، ولا يلزَمُ من نفي هذا نفيُ التشابه مفسراً بمعنىً من المعاني، ثم كل من أثبت ذلك المعنى، قالوا: إنَّه مشبه، ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه، وقد يُقرنُ بين لفظ التشبيه والتمثيل، وذلك أنَّ المعتزلة ونحوهم من نُفاةِ الصفات يقولون: كل من أثبت للهِ صفةً قديمة، فهو مشبِّهٌ ممثِّلٌ. فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو (¬3) قدرةً قديمة، كان عندهم مشبهاً ممثلاً، لأنَّ القِدَمَ عند جمهورهم هو أخصُّ وصف الإلة، فمن أثبت له صفةً قديمة، فقد أثبت له مثلاً قديماً، فيسمونه (¬4) ممثلاً (¬5) بهذا ¬
الاعتبار، ومثبتة (¬1) الصفات لا يوافقونهم (¬2) على هذا، بل يقولون: أخصُّ وصفه ما لا يتَّصِفُ به غيره مثل كونه ربَّ العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، ونحو ذلك، والصفةُ لا توصف بشيء من ذلك. ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقولون: الربُّ بصفاته قديمٌ. ومنهم من يقول: هو قديم وصفاته قديمة، ولا تقولُ: هو وصفاته قديمان. ومنهم من يقول: هو وصفاتُه قديمان، ولكن يقولُ: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإنَّ القِدَمَ ليس من خصائص الذات المجردة، بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلاَّ فالذات المجردةُ لا وجود لها عندهم فضلاً عن أن يختصَّ بالقِدَمِ. وقد يقولون: الذاتُ متصفةٌ بالقدم، والصفاتُ متصفةٌ بالقدم (¬3)، وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أنَّ النبي مُحدَثٌ، وصفاتِه محدثةٌ، وليست صفاتُه نبياً فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل كان هذا بحسب اعتقادهم الذي يُنَازِعُهم فيه أولئك. ثم يقول لهم أولئك: هَبْ أنَّ هذا المعنى قد يُسمَّى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفِه عقلٌ ولا سَمْعٌ، وإنَّما الواجب ¬
نفيُ ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى مُسَمَّى المثل والكفؤ والنِّدِّ ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف، ولا كفؤه ولا نِدَّه، فلا تدخل في النص. وأمَّا العقلُ فلم ينفِ (¬1) مسمَّى التشبيه في اصطلاح المعتزلة، وكذلك يقولون: إن الصفات لا تقوم إلاَّ بجسمٍ متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفاتُ للَزِمَ أن يكون مماثلاً لسائرِ الأجسام، وهذا هو التشبيه. وكذلك يقولُ هذا كثيرٌ من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون عُلُوَّه على عرشه، وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقومُ بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم، فلا يصحُّ إلاَّ إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوَّه للزم أن يكون جسماً، وحينئذٍ فالأجسام متماثلة، فيلزم التشبيه، فلهذا تجد هؤلاء يُسمُّون من (¬2) أثبت العلو مُشبهاً، ولا يسمون من أثبت السمع، والبصر، والكلام ونحوه مشبهاً، كما يقوله صاحب " الإرشاد " (¬3) وأمثاله. وكذلك يوافقُهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو ¬
يعلى (¬1)، وأمثالُه من (¬2) مثبتة الصفات والعلو، ولكن (¬3) هؤلاء قد يجعلون العُلوَّ صفةً خبرية كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكونُ الكلام فيه كالكلام في الوجه. وقد يقولون: إنَّ ما تثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه (¬4) في سائر الصفات، والعاقل إذا تأمَّل، وجد الأمر في ما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فَرْقَ. وأصلُ كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزمٌ التجسيم، والأجسامُ متماثلة، والمثبتون يُجيبون عن هذا تارة بمنعِ المقدمة الأولى، وتارةً بمنع المقدمة الثانية، وتارةً بمنع كلٍّ من المقدمتين (¬5)، وتارةً بالاستفصال، ولا ريبَ أنَّ قولهم: بتماثل الأجسام باطلٌ سواء فسَّروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهُيُولى (¬6) والصورة أو نحو ذلك. أما إذا فسَّروه بالمركب من الجواهر المنفردة، وعلى أنها متماثلة، ¬
فهذا ينبني (¬1) على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر المنفرد (¬2)، وعلى أنه متماثل (¬3)، وجمهورُ العقلاء يخالفونهم في ذلك. والمقصود أنهم يُطلقون التشبيه على ما يعتقدونه (¬4) تجسيماً بناءً على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كإطلاق الرافضة النصب على من تَوَلَّى أبا (¬5) بكر وعمر رضي الله عنهما بناءً على أن من أحبهما، فقد (¬6) أبغض عليّاً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي. وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى، ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين يشتبهان من وجه، ويختلفان من وجه. وفي (¬7) " تاريخِ ابن خلكان " (¬8) في حرف الهاء منه في ترجمة البديع الأسطرلابي (¬9) أن أصل هيئة الفَلَكِ أن تكون في الكُرة التي هي ¬
جسم (¬1) لأنها تشتملُ على (¬2) الطول والعرض والعُمق، وتوجدُ في السطح الذي هو مركبٌ من الطول والعرض بغير عمق، ويوجدُ في الخط الذي هو عبارةٌ عن الطول فقط بغيرِ عرض ولا عمق، ولم يبقَ سوى النقطة، ولا يتصوَّر أن يعمل فيها شيء، لأنها ليست جسماً، ولا سطحاً، ولا خطّاً، بل هي طرفُ الخط كما أنَّ الخطَّ طرفُ السطح، والسطح (¬3) طرفُ الجسم، والنقطةُ لا تُجزَّأُ انتهى. قلت: الظاهرُ أنَّ النقطة في عُرفِ هؤلاء هي الجوهر في عرف المعتزلة، وأنَّ السطح (3) عبارةٌ عن الطول والعمق من غير عرضٍ، لأنه سطح (3) الجسم، والله أعلم، والمعتزلة أخذت من هذه الاصطلاحات أنَّ الجسم هو الطويل العريضُ العميق، وتوهَّم كثير من المتكلمين أن هذا تفسير الجسم في اللغة حتى استشهدوا عليه بقول الشاعر: وأجسَمُ مِنْ عَادٍ جُسُومُ رجالِهم ... وأكثرُ إن عُدُّوا عديداً من التُّرْبِ والعجبُ ممَّن يدَّعي أنه من أهل النظر، ثم يُجوِّزُ أنَّ أهل الوضع اللغوي يعنون بألفاظهم ما يعلم الجميع أنه لم يخطُر لهم على بال، بل لعلَّ كثيراً من منتحلي علم الكلام لم يُحرر فهمَه بعد طولِ البحثِ، فالله المستعانُ. تمَّت. قال الشيخُ (¬4): "وأكثرُ العقلاء على خلافِ ذلك، وقد بَسَطْنَا الكلام ¬
على هذا في غيرِ هذا الموضع (¬1)، وبُيِّن (¬2) فيه حُجَجُ من يقولُ بتماثل الأجسام، وحججُ من نفي ذلك، وبُيِّنَ (2) فسادُ قول من يقول بتماثلها، وأيضاً فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتمادٌ باطل، وذلك إنه إذا ثبت تماثلُ الأجسام فهم لا ينفُون ذلك إلاَّ بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أنَّ هذا يستلزِمُ الجسم، وثَبَتَ امتناعُ الجسم، كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاجُ نفيُ ذلك إلى نفي مُسمَّى التشبيه، لكن نفي التحيّز يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه بأن يُقال (¬3): لو ثبت كذا وكذا، لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام (¬4) مثماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجبُ، ويجوز، ويمتنع، وهذا ممتنعٌ عليه، لكن حينئذٍ يكونُ من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلكٌ آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يُفِيدُ، إذ ما من شيئين إلاَّ يشتبهان من وجه، ويفترقانِ من وجهٍ بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك ممَّا هو سبحانه مقدسٌ عنه، فإنَّ هذه الطريقة (¬5) صحيحة. وكذلك إذا أُثبت (¬6) له صفاتُ الكمال، ونُفِيَ مماثلةُ غيره له فيها، فإنَّ هذا نفي المماثلة في ما هو مستحقٌّ له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن ¬
لا يشرَكَهُ (¬1) شيءٌ من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكُلُّ صفةٍ من صفات الكمال فهو متَّصفٌ بها على وجهٍ لا يُماثِلُه فيها أحد. ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمَّتها إثبات ما وصف الله به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيءٍ من المخلوقات. فإن قيل: إنَّ الشيء إذا شابَهَ غيره من وجه، جاز عليه من ذلك الوجه ما جاز عليه، أو وَجَبَ له ما وَجَبَ له، أو امتنعَ عليه ما امتنعَ عليه. قيل: هَبْ أنَّ الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدرُ المشترك لا يستلزمُ إثبات ما يمتنِعُ على الربِّ سبحانه، ولا نفيَ ما يستحقُّه لم يكن ممتنعاً، كما إذا قيل: إنَّه موجودٌ، حي، عليم، سميع، بصير، و (¬2) قد سمَّى بعض عباده حيّاً عليماً سميعاً بصيراً. فإن قيل: يلزَمُ أنه يجوزُ عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه حياً عليماً سميعاً بصيراً. قيل: لازمُ هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على (¬3) الربِّ، فإنَّ ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً ممَّا يُنافي صفات الربوبية، وذلك أنَّ القدر المشترك هو مُسمَّى الوجود، أو الموجود، أو الحياة، أو الحيّ، أو العلم، أو العليم، والقَدَرُ المشتَرك مطلقُ كُلِّي لا يختصُّ بأحدهما دون الآخر، فلم يَقَعْ بينهما اشتراكٌ لا في ما يختصُّ بالممكن المحدث، ولا في ما يختص بالواجب القديم، فإنَّ ما يختصُّ به ¬
أحدُهما يمتنعُ اشتراكُهما فيه. فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمالٍ كالوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدُلُّ على شيء من خصائص المخلوقين كما لا يدلُّ على شيء من خصائص الخالق، لم يكن في إثبات هذا محذورٌ أصلاً، بل إثباتٌ هذا من لوازم الوجود، فكُلُّ موجودين لا بُدَّ بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمَهُ تعطيلُ وجودِ كُلِّ موجود. ولهذا لما اطلعَ الأئمَّةُ على أنَّ هذا حقيقةُ قولِ الجهمية سمَّوهم مُعطَّلةً، وكان جَهْمٌ ينكرُ أن يُسمَّى (¬1) اللهُ شيئاً (¬2)، وربما قالتِ الجهميةُ: هو شيء لا كالأشياء. فإذا نُفِيَ القدرُ المشترك مطلقاً، لَزِمَ التعطيلُ التام، والمعاني التي يوصف بها الربُّ تعالى كالحياة، والعلم، والقدرة (¬3)، بل والوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، تجب له لوازمها، فإنَّ ثبوت الملزوم يقتضي ثبوتَ اللازم وخصائص المخلوق التي يجبُ تنزيهُ الربِّ عنها ليست من لوازم ذلك أصلاً، بل تلك من لوازمِ ما يختص بالمخلوق من وجودٍ، وحياةٍ، وعلمٍ، ونحو ذلك، والله سبحانه مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوق، وملزوماتِ خصائصه، وهذا الموضع من فَهِمَه، وتدَبَّرَهُ زالتْ عنه عامةُ الشبهات، وانكشف له غَلَطٌ كثيرٍ من الأذكياء في هذا المقام، وقد بُسِطَ هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها أن القدر المشترك ¬
الكُلِّي لا يوجد في الخارج إلاَّ معيناً مُقيَّداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمرٍ من الأمور هو تشابُهها (¬1) من ذلك الوجه، وأنَّ ذلك المعنى العامَّ يطلق على هذا وهذا إلاَّ أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها (¬2) الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله. ولما كان الأمر كذلك، كان كثير من الناس يتناقضُ في هذا المقام، فتارة يظنُّ أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حَذَراً من التشبيه، وتارة يتفطَّن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيبُ به فيما يثبته من الصفات على من احتج به من النفاة (¬3). ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائدٌ على ماهيته، وهل (¬4) لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، أو (¬5) بالتواطؤ، أو التشكيك كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟، وفي وجود الموجودات هل هو زائدٌ على ماهيتها أم لا؟ وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات (¬6)، فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين (¬7)، ويُحكى عن الناس مقالات ما ¬
قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير، وقد بسطنا من الكلام في هذه المقالات ما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة (¬1) ما لا تتَّسع له هذه الجمل المختصرة، و (¬2) بيَّنَّا أن الصواب هو (¬3) أن وجود كل شيء في الخارج هو (¬4) ماهيته الموجودة في الخارج بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مُغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الذات، والشيء، والماهية، والحقيقة ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة. فإذا قيل: إنَّها مشككة (¬5) لتفاضل مقامها (¬6) فالمشكك نوعٌ من المتواطىء العام الذي يراعى فيه دلالةُ اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده أو متماثلاً، وبيَّنَّا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به. وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجودٌ في الأذهان، وليس في الأعيان إلاَّ (¬7) الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه (¬8) بذلك وتختلف به. ¬
فصل: في ما يسلكه كثير من نفاة الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر
وأمَّا هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جُملٍ مختصره جامعة من فهمها، عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكانُ إغلاق باب الضلال، ثم بسطُها وشرحُها له مقام آخر، إذ لكل مقامٍ مقالٌ، والمقصود هنا: أن الاعتماد على هذه الحجة فيما يُنفى عن الرب ويُنَزَّهُ عنه كما يفعله كثيرٌ من المصنفين خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة. فصل: وأفسدُ من ذلك ما يسلُكُه (¬1) كثير من نُفَاة الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجبُ تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحُزنِ والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه تعالى بكى على الطُّوفان حتى رَمِدَ، تعالى الله عما يقولون عُلُوّاً كبيراً، والذين يقولون بإلاهية بعض البشر، فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم (¬2) أو التحيز أو (¬3) نحو ذلك، وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة نفاة الأسماء والصفات فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوهٍ: الوجه (¬4) الأول: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهرُ فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم (¬5)، فإنَّ هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء (¬6) ما ليس في ذلك، وكفرُ صاحبِ هذا (¬7) ¬
الوجه الثاني: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريق
معلومٌ بالضرورة من دين الإسلام، والدليلُ مُعَرِّفٌ للمدلول (¬1)، ومبينٌ له، فلا يجوز أن يُستَدَلَّ على الأظهر الأبين بالأخفي كما [لا] (¬2) يفعلُ مثل ذلك في الحدود. الوجه الثاني: أن هؤلاء ينفُون صفات الكمال بمثل هذه الطريق، واتصافُه بصفات الكمال واجبٌ ثابتٌ بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة. الوجه الثالث: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكُلُّ من أثبت شيئاً منهم ألزم (¬3) الآخر بما يُوافِقُه فيه من الإثبات، كما أن من نفى شيئاً منهم ألزم (3) الآخر بما يُوافقُه فيه (¬4) من النفي. فمثبتة الصفات كالعلم، والقدرة إذا قال لهم النفاة المعتزلة: هذا تجسيمٌ، لأن هذه الصفات أعراضٌ، والعرض لا يقوم إلاَّ بالجسم، أو لأنَّا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلاَّ جسماً، قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حيٌّ عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً حياً عالماً قادراً إلاَّ جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتُّم حياً بلا حياة، عالماً بلا علم، قادراً بلا قدرة، وهذا تناقضٌ يعلم بضرورة العقل. إلى قوله: ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً لم يسلُكه أحدٌ من السلف والأئمة، فلم يَنْطِق ¬
فصل: وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضا أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه
أحدٌ منهم في حق الله بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز (¬1) ونحو ذلك؛ لأنها عباراتٌ مجملة لا تُحِقُّ حقاً، ولا تُبْطِلُ باطلاً. ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكر على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع (¬2). يعني حين ردَّ (¬3) عليهم قولهم: {عزيرُ ابنُ الله} [التوبة: 30]، وكذلك قول النصارى في المسيح، وكذا (¬4) قولُ مشركي العرب بإلهية الأصنام، ولمَّا تحاجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنصارى في المسيح، احتجَّ عليه السلام عليهم بأن المسيح عليه السلام كان يأكل ويشرب والله تعالى لا يأكل ولا يشرب، وكذلك قال الله تعالى في المسيح وأمِّه عليهما السلام: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] وأمثال هذا كثيرة (¬5) جداً. قال: فصل: وأما في (¬6) طرق (¬7) الإثبات فمعلومٌ أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى ذلك، لجاز أن يُوصَفَ سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يُحصَى مما هو ممتنعٌ عليه مع نفي التشبيه عنه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجُوزُ عليه مع نفي التشبيه عنه، كما لو وَصَفَه مُفْتَرٍ بالأكل والشرب، وقال: إنَّه يأكُلُ لا كأكل العباد، ويشربُ لا كشربِهِم. إلى قوله: فإنه يُقالُ لنا في ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها ¬
من الصفات؛ ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات، فلا بُدَّ من إثبات فرقٍ في نفس الأمر. فإن قال: العمدة في الفرقِ هو السمع، فما جاء السمعُ به أثبتُّه دون ما لم يجىء به. قيل له: أولاً: السمع هو خبرُ (¬1) الصادق عمَّا الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به، فهو حقٌّ من نفيٍ أو إثباتٍ، والخبرُ دليلٌ على المخبَرِ عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه (¬2)، فما لم يَرِدْ به السَّمْعُ يجوزُ أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع. إلى قوله: فيقال: كل ما نفى (¬3) صفات الكمال الثابتة لله تعالى فهو منزهٌ عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر. فإذا عُلِمَ أنه موجودٌ واجبُ الوجود بنفسه، وأنه قديمٌ واجبُ القِدَمِ، عُلِمَ امتناعُ العدم والحدوث عليه، وعُلِمَ أنه غنيٌّ عمَّا سواه، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما تحتاج إليه نفسه (¬4) ليس موجوداً بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاجُ إليه نفسه (¬5)، فلا يوجَدُ إلاَّ به، وهو سبحانه غنيٌّ عن كل ما سواه، فكلُّ ما نافى غناه، فهو مُنَزَّهٌ عنه، وهو سبحانه قديرٌ قويٌّ، فكل (¬6) ما نافى قدرته وقوته، فهو منزَّهٌ عنه، وهو ¬
سبحانه حي قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته، فهو منزَّهٌ عنه. وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى، وصفات الكمال ما قد ورد، فكلُّ ما ضادَّ ذلك فالسمعُ ينفيه كما ينفى عنه المثل والكُفء، فإن إثبات الشيء نفيٌ لضده، ولما يستلزِمُ ضده، والعقل يَعْرِفُ نفيَ ذلك كما يعرفُ إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفيٌ للآخر، ولما يستلزِمُه، فطرق النفي (¬1) لما تنزَّهَ الرب سبحانه عنه (¬2) متسعةٌ لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير الذين تناقضُوا في ذلك، وفرَّقُوا بين المتماثلين حتى إن كل (¬3) من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه. وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، وقالوا: لا يُقالُ: موجود، ولا ليس بموجودٍ، لأن ذلك تشبيهٌ بالموجود أو المعدوم، فلزمهم نفيُ النقيضين، وهذا أظهر الأشياء امتناعاً، ثم إنه يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات أعظم ممَّا فرُّوا منه، وقد تقدَّم أن ما يُنفَى عنه سبحانه يُنفىلِتُضمُّنِ النفي الإثبات، إذ مجرد النفي المحض لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يُشبِهُ الموجود، وليس هذا مدحاً له، بل مشابهةُ الناقص في صفات النقص نقصٌ مُطلقاً، كما أنَّ مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيلٌ وتشبيهٌ يُنَزَّهُ عنه الربُّ تبارك وتعالى، والنقصُ ضِدُّ ¬
الكمال، وذلك مثلُ أنه قد عُلِمَ أنه حي، والموتُ ضدُّ ذلك فهو منزهٌ عنه (¬1). وكذلك النومُ والسنَةُ ضدُّه كمال الحياة، فإنَّ النوم أخو (¬2) الموت، وكذلك اللُّغوبُ نقصٌ في القدرة والقوة، والأكلُ والشربُ، ونحو ذلك من الأمور فيه افتقارٌ إلى موجودٍ غيره، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع، كقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] والصمدُ: الذي لا يأكُلُ ولا يشرب ولا جوف له، وهذه السورةُ هي نسبُ الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب. ولهذا كانت الملائكة صمداً لا تأكلُ، ولا تشربُ، وقد تقدَّم أنَّ كُلَّ كمالٍ، فالخالقُ أولى به، وكلَّ نقص فالخالقِ أولى بالتنزيهِ عنه. وقد قال سبحانه في حقِّ المسيح وأمه (¬3): {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، فجعل ذلك دليلاً على نفي الأُلوهيه، فدلَّ ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى، فهو سبحانه مُنزَّهٌ (¬4) عن ذلك، وعن آلاتِه وأسبابِه. وكذلك البكاءُ والحزنُ هو (¬5) مستلزمٌ للضعف (¬6) والعجز الذي ينزه الله عنه، إلى قوله: وأيضاً فقد ثبت بالعقل ما بيَّنه السمع من أنه سبحانه ¬
لا كُفُؤ له، ولا سَمِيَّ له، وليس كمثله شيءٌ، فلا يجوزُ أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاتِه كحقيقة شيء من صفات المخلوقين، فيُعلَمُ قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة، ولا السماوات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا (¬1) أبدانهم، ولا أنفُسِهم، ولا غير ذلك، بل نعلمُ أنَّ حقيقته عن مماثلة شيء من المخلوقات أبعد من سائر الحقائق، فإن الحقيقتين إذا تماثلتا، جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، فيلزَمُ أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المُحْدَثِ المخلوق من العدم والحاجة، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه، غير واجبٍ بنفسه، وذلك جمعٌ بين النقيضين، وهذا مما يُعلَمُ به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بَصَرٌ كبصري ونحو ذلك. وليس المقصود هنا استيفاء ما ثبت (¬2) له، وما تنزّه (¬3) عنه، واستيفاء طرق (¬4) ذلك، لأنَّ هذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يُثبتُه ولا ينفيه، سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت (¬5) ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكُتُ عن ما لا (¬6) نعلم نفيه ولا إثباته، والله أعلم. انتهى كلام ابن تيمية. ¬
الفصل الثالث: في الإشارة إلى حجة من كفر هؤلاء
الفصل الثالث: في الإشارة إلى حُجة من كفَّر هؤلاء، وما يَرِدُ عليها واعلم أنه لا يصلُح (¬1) إيراد الحُجَّة على التكفير إلاَّ بعد معرفة (¬2) مذاهبهم، وإيراد الحجة على بُطلان قولهم، لأن التكفير فرع البطلان، وقد تقدم من كلام ابن تيمية ما إذا رآه من ليس له خوض في علم الكلام، ودِرْيَةٌ بفنِّ النظر تطلَّع إلى معرفة الأدلَّةِ من الجانبين، وقد اشتمل كلام ابن تيمية على الإشارة إلى زُبْدَةِ أدلة المعتزلة، والشيعة، والأشعرية، ولكنه على وجهٍ لا يُفِيْدُ إلاَّ الخاصة، ولا يعرِفُه إلاَّ أهل الدِّرية، لكونه أدخل ذلك في ضمن الردِّ عليهم، ولم يُميِّزه عن غيره، ولا شكَّ أن كلام هذه الطوائف العظيمة، أعني: الشيعة والمعتزلة والأشعرية في هذه المسألة هو المشهور في هذه الأعصار، وخاصة في هذه الديار حتى لا يكاد يخفى على أحدٍ، ولا يختص ببلد دون بلد، فلذلك (¬3) تركت التطويل بذكره مستوفى خوف الإملال، ولم أُحِبَّ ذكر اليسير منه خشية الإخلال، وإنما ذكرت كلام متكلمي أهل الحديث لغرابته في ديارنا، وظهور جهل صاحب الابتداء به. وأما معرفة مذاهبهم، فقد تقصَّاها علاَّمة المعتزلة عبد الحميد بن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " لكنه طوَّله تطويلاً كثيراً، واقتصرت منه على المقصود هنا. وأقول (¬4): قال الشيخ: واعلم أن التكفير المجمع على صحته ¬
هو تكذيبُ خبر الله عز وجل: أو خَبَرِ رسوله (¬1) - صلى الله عليه وسلم - المعلوم لفظه بالتواتر، ومعناه بالنصوصية الجلية، فَمَنْ كفَّرهم جعلهم مكذبين لما هو كذلك عنده من السمع، وهو قوله تعالى: {ليس كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ} [الشورى: 11]، وقد تقدم في كلام ابن تيمية في الفصل الثاني جوابهم عن هذا، وإنما أوردته مستوفىً لأجل معرفة هذه النكتة، والمخالفون (¬2) يعكسون السؤال على المعتزلة، ويوردون (¬3) عليهم ممَّا يخالفونه من الآيات القرآنية ما هو (¬4) أكثر من هذه الآية وأصرح، فما أجابت به (¬5) المعتزلة أجابوا بمثله. وقد صنف قاضي القضاة عبد الجبار بن (¬6) أحمد المعتزلي كتاباً كبيراً في تأويل متشابه القرآن، من وقف عليه عَلِمَ كم خالفت المعتزلة منه، وفي ما تقدَّم من كلام ابن تيمية كفايةٌ في هذا المعنى لمن أنصف وفهم معناه وتأمَّله. وذكر ابن عبد السلام كلاماً نفيساً في عَدَمِ التكفير، وإعذار الغالطين في كتابه " القواعد " (¬7) موضعُه رأسُ الثُّلث الأول من القواعد تقريراً أو (¬8) قبله بقليل ما لفظُه: ¬
التنبيه على معرفتين:
الفصل الثامن فيما اختلف فيه من تقديم حقوق الله تعالى، ومضمونه: أن كل طائفة من المسلمين نفت عن الله تعالى ما يُعتقد أنه نقصٌ، وإنما يكفُرُ من عَكَسَ هذا، وأزيدُ التنبيه على معرفتين: المعرفة الأولى: أن شرط التكفير بمخالفة السمع أن يكون ذلك السمعُ المخالفُ معلوماً علماً ضرورياً من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى فأما اللفظ -وهو الشرط الأول-، فلا إشكال فيه، لأنه يمتنع ثبوته على جهة القطع بغير التواتر، والتواتر ضروري. فأما الأحاديث الظنية في أصلها المجمع على صحتها، فلا خلاف في (¬1) أنه لا يكفُرُ مخالفها على جهة التأويل، وإنما اختلف أهل العلم في تلقيها من الأمة بالقبول، هل يدل على القطع بصحتها أم لا؟ فذهب الأكثرون والمحققون إلى أنه لا يُفِيدُ العلم القاطع، ممَّن عزا ذلك إلى الأكثرين والمحققين (¬2) النواويُّ في كتابه في " علوم الحديث " (¬3)، وذهب بعضهم إلى أنه يدلُّ على القطع بصحتها، واختاره ابن الصلاح (¬4)، ¬
وابن طاهر، وأبو نصر. وسِرُّ المسألة هل تجويز الخطأ في ظن المعصوم (¬1) لمطلوبه لا لمطلوب الله منه يُناقِضُ العصمة أم لا، والحق أنه لا يُنَاقِضها، كتحري الوقت في الصوم والصلاة، بل كرمي الكُفَّار في الجهاد، والدليل عليه وجوه: الأول: لو امتنع الخطأ في ظن المعصوم لبَطَلَ كونُه ظناً، والفرض أنه ظنٌّ، هذا خلفٌ، وفيه بحث، وهو أنَّ الخطأ امتنع في العلم لنفسه، وفي ظن المعصوم لغيره وهو العصمة. الثاني: قولُ يعقوب عليه السلام في شأن (¬2) أخي يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18 و83]، كما قال ¬
ذلك في شأن يوسف. الثالث: قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاها سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]. الرابع: حديث " فمن حكمتُ له بمال أخيه فإنما أقطع له قِطعَةً من نارٍ " (¬1). الخامس: ما تواتر وأجمعت عليه الأمة من ثبوت سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته (¬2)، فثبت أنه لا يمكن العلم القاطع بشيءٍ من السمع إلاَّ المتواترات، ولكن ها هنا لطيفة: وهي أن المتواترات نوعان: ¬
المتواترات نوعان:
أحدهما: ما عَلِمَهُ العامة مع الخاصة، كمثل (¬1) كلمة التوحيد، وأركان الإسلام، فيكفُرُ جاحده مطلقاً (¬2)، لأنه قد بلغه التنزيل، وإنما رده بالتأويل، وإن لم يعلم هو ثبوت ما جحده من الدين بسبب ما دخل فيه من البدع والشُّبه التي ربما أدت إلى الشك في الضرورات، ودفع العلوم والحجة على التكفير بذلك مع الشكِّ قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثُ ثلاثةٍ} [المائدة: 73]، والمعلوم أنهم ما قصدوا تكذيب عيسى، بل قصدوا تصديقه، ويدل على هذا التعليل بالبلوغ، وعلى أن الجهل قبله عذرٌ لا بعده قوله تعالى: {ذلك أنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مهلكَ القُرى بظُلْمٍ وأهلُها غافلون} [الأنعام: 92] وهي من أوضح الأدلة على ذلك ولله الحمد. وثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلاَّ الخاصة، فلا يُكفرُ مستحلُّه من العامة، لأنه لم يبلُغه، وإنما يكفر من استحلَّه وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض (¬3) إلى أمثالٍ لذلك كثيرة، وقد شرب ¬
الخمر مُستحلاً متأولاً قُدامة بن مظعون الصحابي البدري (¬1) فجلده عمر، ولم يقتله ويجعل ذلك رِدّةً، وأقرت الصحابة عمر على ذلك (¬2)، وكان شبهته في ذلك قوله تعالى بعد آية الخمر في المائدة: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناحٌ فيما طَعِمُوا} [المائدة: 93] فدلَّ على أنَّ الشُّبهة قد تدخلُ في بعض الضروريات. وأصحُّ من حديثِ قُدامة حديث الرجل الذي أوصى أن يُحْرَقَ ويُسْحَقَ ويُذْر حتى لا يَقْدِرَ الله عليه، فإنه إن قدر عليه عذَّبه عذاباً لا يعذبه أحداً، ثم غَفَرَ الله له لخوفه، متفق على صحته عن أربعة من الصحابة (¬3)، وله طرق متواتره ذكرها في "مجمع ¬
الشرط الثاني: أن يكون معنى المتواتر معلوما بالضرورة
الزوائد" (¬1) فينبغي التفطن لهذا النوع الذي يختلف العلم به، فلا يقع التكفير به في العقائد، والله أعلم. الشرط الثاني: أن يكون معنى المتواتر معلوماً بالضرورة على الصحيح كما يأتي في الوجه الثاني من المعرفه الثانية، وهذا الشرط إنما يعتبر في حق من أقر بالتنزيل، وإنما خالف في معناه، أما من كذب اللفظ المنزل، أو جحده (¬2)، كفر متى كان ممن يعلم بالضرورة أنه يعلمه بالضرورة، وإنما الكلام في طوائف الإسلام الذين وافقوا على الإيمان بالتنزيل، وخالفوا (¬3) في التأويل، فهؤلاء لا يكفر منهم إلاَّ مَنْ تأويلُه تكذيبٌ، ولكنه سمَاه تأويلاً مخادعة للمسلمين ومكيدة للدين كالقرامطة الذين أنكروا وصف الله تعالى بكونه موجوداً وعالماً (¬4) وقادراً ونحو ذلك من الصفات التي (¬5) علم الكافة بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بها على ظاهرها. والدليل على أنه لا يكفُرُ أحدٌ من المخالفين في التأويل إلاَّ من بلغَ هذا الحدَّ في جحد المعاني المعلوم ثبوتُها بالضرورة أنَّ الكُفْرَ: هو تكذيبُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إمَّا بالتصريح أو بما يستلزمُه استلزاماً ضرورياً لا ¬
استدلالياً، ومثال ذلك قول هؤلاء وأمثالهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم من تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقولون: إنه لا يوصف البتة، ويتأولون الصفات الربانية بأن المراد بها الإمام حتى تُوجَّهَ العبادة إلى الإمام، لأن توجيه الصلاة إلى الله يقتضي عندهم (¬1) التشبيه، إذ كان في التكبير وصفُه بالكبر، وفي الفاتحة وصفُه بالحمد، والرحمة، والربوبية، والمُلك، والعبادة، والإعانة، والهداية، والإنعام، والغضب، وهذا كلُّه عندهم تشبيهٌ، وتمثيلٌ، وكفرٌ، وضلال فأُروا (¬2) أن توجيه هذه الصلاة إلى الله (¬3) أعظمُ الكفر (¬4)، وأوجبُوا توجيهها إلى أئمَّة كُفرِهم، أو (¬5) إلى بعض أئمَّة الإسلام الذين هُم أبغضُ الخلقِ لهم تمويهاً على المسلمين، وخديعةً للدين، فأيُّ كفرٍ أعظمُ من كفرهم؟ وأيُّ كيدٍ أضرُّ من كيدهم؟ وأما أهل البدع الذين آمنوا بالله وبرسله وكتبه واليوم الآخر، وإنما غَلِطُوا في بعض العقائد لشُبهَةٍ قَصَرَت عنها أفهامُهم، ولم تبلُغ كشفَها معرفتُهم، فلا دليل على كفرهم، ومن كفَّرهم، فقد اغترَّ في تكفيره من الشبهة بمثل ما اغتروا به في بدعتهم من ذلك. ألا ترى أنهم يُلزِمُونَ من أقرَّ بالاستواء مع نفيه التشبيه الكفر من حيث إنه جاحدٌ، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وكيف يصح نسبةُ الجحودِ لهذه الآية إليه، وهو يُقِرُّ بها ¬
المعرفة الثانية: أن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه، وذلك من وجهين
بعينها، ولا يتأوّلها ويقول: إنه تعالى يستوي كما أراد، لا كاستواء الأجسام، وأكثر ما يقول: إنَّه جسمٌ لا كالأجسام، فقوله: لا كالأجسام تصديقٌ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وشرطُ الكفر أن يكون تكذيبُه بالآية معلوماً علماً قاطعاً (¬1)، وقيل: ضرورياً، وهو الصحيح، وأيُّ قطعٍ على تكذيبه بها، وهو يقول: لا كالأجسام، ويقول: إنها صحيحة المعنى، محكمة غير مأولة (¬2)، وهذا الذي اختاره الإمام يحيى بن حمزة في " التمهيد "، وحكى شارح " جمع الجوامع " لابن السبكي عن أحمد بن حنبل أن من قال: جسمٌ لا كالأجسام فهو كافرٌ. المعرفة الثانية: أن التكفير سمعي محضٌ لا مدخل للعقل فيه، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أنه لا يكفر بمخالفة الأدلة العقلية وإن كانت ضروريةٌ، فلو قال بعضُ المُجَّان وأهل الخلاعة: إن الكلَّ أقلُّ من البعض لكانت هذه كذبةٌ، ولم يحكم أحدٌ من المسلمين بردته مع أنه خالف ما هو معلومٌ بالضرورة من العقل، وما لا يُوجَدُ في العلوم العقلية أوضح منه. ولو قال: إنَّ صلاة الظهر أقلُّ من صلاة الفجر، لكفر بإجماع المسلمين، فإن خالف العقل والسمع معاً، مثل قول القرامطة: إنَّ المؤثر في وجود الموجودات يجب أن لا يكون موجوداً ولا معدوماً، كفر (¬3) لأجل مخالفة السمع فقط، إذ لو قال بمثل هذه الضلالة فيما لم يَرِدْ به السمع لما كفر، مثل الكلام في الماهيات الكليات الذهنيات كماهية الإنسان التي في ¬
الوجه الثاني: أن الدليل على الكفر والفسق لا يكون إلا سمعيا قطعيا
الذهن، فإنَّ من قال: إن لها وجوداً في الخارج، أو لا وجود لها فيه، بل هي معدومةٌ، أو قال: لا يُوصَفُ بواحدٍ منهما، لم يستحق الكفر سواء كان خطأ معلوماً بالضرورة أم لا، ما ذلك إلاَّ لأن السمع لم يرد في ذلك بأمر يكون رادُّه مكذباً له، فتأمل ذلك. فإذا تقرَّر ذلك، فاعلم أن أبعَدَ الناس من الكفر من عظَّم السمع وعظَّم الإيمان بما فيه مع (¬1) البُعد من التمثيل والتشبيه، وإن اطلع أهل الأنظار العقلية على غَلَطِه أو رِكَّةِ بعض أدلته، فقد يكون إيمان بعض المؤمنين صحيحاً مؤمناً له من عذاب الله، مُقَرِّباً له من الله، ويكون عليه في تَصَرُّفِه في النظر والاستدلال مؤاخذاتٌ لا سيما في العبارة، وذلك لعدم ارتياضه (¬2) على تهذيب العبارات، وقلَّة دريته بتحرير المقدِّمات، لا لضعف إيمانه، ولا لضعف دليله، وقد يوردُ المتحذلِقُ في علم (¬3) الجدل الشُّبَهَ، فيكسوها من حسن الترصيف، وجودة الترتيب ما يُموِّهُ به على كثير من المتعاطين لعلم النظر، والمنقطعين في فنِّ الكلام، فإيَّاك والاغترار بذلك، فإن أكثر المعاني المشوَّهة تُسْتَرُ بالعبارات المموّهة. الوجه الثاني: أنَّ الدليل على الكفر والفِسْقِ لا يكون إلاَّ سمعياً قطعياً ولا نزاع في ذلك، وإنَّما النزاع في بعض الأدِلَّةِ على التكفير، هل هو قاطعٌ أم لا؟، وأنت إذا عَرَفْتَ معنى القاطع، عرفتَ الحقَّ في تلك الأدلة المعينة. واعلم أن القطعَ لا بُدَّ أن يكون من جهة ثبوت النصِّ الشرعي في ¬
نفسه، ومن جهة وضوح معناه. فأمَّا ثبوتُه فلا طريق إليه إلاَّ التواتر الضروري كما تقدم. وأما وضوح معناه، فهل يمكن أن يكون قطعياً، ولا يكون ضرورياً؟ في كلام كثيرٍ من الأصوليين ما يقتضي تجويز ذلك، وفي (¬1) كلام بعضهم ما يمنع من ذلك، وهو القويُّ عندي أن (¬2) القطع على معنى النصِّ من قبل (¬3) النقل عن أهل اللغة أنهم يعنُونَ باللفظ المعين معناه المُعيَّن دون غيرِه، وهذا (¬4) طريقُه (¬5) النقل لا النظر، وما كان طريقه النقل لا النظر لم يدخله القطع الاستدلالي، وإنَّما يكون من قبيل المتواترات وهي ضروريةٌ، ويُؤيِّدُ هذا أن شرط القطع، بمعنى النص مع تواتُرِ معناه لغةً القطع ينفي الاشتراك، والتجوز، والإضمار، والمعارضة، والنسخ، والتخصيص، والاستدلال القاطع على عدم هذه متعذرٌ، لأنه لا مستند لذلك إلاَّ عدمُ الوجدان بعد الطلب، وذلك لا يُفِيدُ القطع البتة، ومنتهى ما يفيد الظن لا سوى، كما ذلك مقررٌ في العلوم النظرية بل مقررٌ في العلوم (¬6) الفِطرية، فإن كل عاقل يُجَرِّبُ مثل ذلك، فلِمَ يطلب الإنسان الشيء فلا يجده ثم يجده؟. وقد أورد الرازي هذا السؤال في باب اللغات من " محصوله " (¬7) ¬
مُهذَّباً مُطوَّلاً، وأجاب عنه بما معناه: أن العلم بالمقاصد يكون مع القرائن ضرورياً، فإنا نعلم مراد الله سبحانه بالسماوات والأرض بالضرورة (¬1)، لا بكون (¬2) لفظ السماء موضوعاً لِمُسماه، لدخول الاشتراك والمجاز والإضمار في الأوضاع اللغوية. فإذا تقرَّر هذا، ثبت أن (¬3) الدليل القطعى على التكفير ليس هو إلاَّ العلم الضروري بأن هذا القول المعين كفرٌ، وهذا غير موجود إلاَّ في مثل من قدمنا ذكره من القرامطة، ألا ترى أن من أوضح الألفاظ في هذا المعنى لفظ الكفر، وقد جاء بمعنى كفر النعمة، وحَمَلَه على ذلك كثيرٌ من العلماء في أحاديث كثيرةٍ، وجاء في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف النساء بالكفر، قالوا: يا رسول الله، يكفرن بالله، قال: " لا، يكفرن العشير " (¬4) وهو الزوج، وجاء في الحديث إطلاق الكفر على النياحة والطعن في الأنساب (¬5)، والانتساب إلى غير الأب (¬6)، ومن ثم اختلف الناس في تكفير قاطع ¬
الصلاة لورود النص بكفره (¬1). والقصد التنبيه (¬2) على أن لفظ الكفر الموضوع في الشرع لمضادة الإسلام إذا لم يكُن قاطعاً في معناه الشرعي، فكيف بكثيرٍ من الاستخراجات البعيدة والاستنباطات المتكلفة، والإلزامات المتعسفة، والمفهومات المُتخيلة (¬3)، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (¬4)، ولا ملجأ للمسلم إلى التعرُّض لمثل هذا الذنب العظيم، والخطأ في العفو أولى من الخطأ في العقوبة، وتقوى الله نِعْمَ الوازِعُ، نسأل الله أن يجعلنا من المتقين. وهذا الكلام الذي ذكرته في شرائط التكفير والتفسيق هو على قواعد المعتزلة والشيعة وجُلِّ سائر المتكلمين، وهو عندي صحيح في من يُرادُ القطع بكفره، وأما من لا يراد القطع بكفره ففيه لي (¬5) نظر ليس هذا مَوْضِعَ ¬
ذكره، وقد ذكره الفقيه حميد في " العمدة " (¬1) وقوَّاه وعزاه إلى الإمام المنصور بالله (¬2)، والله سبحانه أعلم. وهذا الكلام كله يتعلق بتكفير المعتزلة أو بعضهم لبعضِ مثبتي الصفات بسبب مخالفة المعلوم من السمع، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] والمعنى المعلوم بالضرورة من الدين في هذه الآية الشريفة المجمع عليه بين المسلمين: هو تكفير من أثبت لله تعالى مثلاً في الربوبية، أو في صفات الربوبية، أو في بعض صفاتها التي هي من خواصِّ الربوبية دون من أثبت سائر صفات الكمال التي يُمْدَحُ الربُّ جل جلاله بالاتصاف بها وسماها المثل الأعلى، وتمدَّح بها في قوله عزَّ وجلّ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] ومدحه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجميعُ سلفِ الأمةِ مُتقربين إليه بمدحه بها (¬3) وتسميته ووصفِه في صلواتهم، وتلاواتهم، وخُطَبهم، ومواعظهم، ومناجاتهم مجمعين على إطلاقها من غير تأويلٍ، ولا تنبيه على ذلك، كيف وهذا أمير المؤمنين الذي يدَّعي عليه كثيرٌ (¬4) من ¬
أهل البدع موافقتهم فيها (¬1). نقول: فيما رواه السيد الإمام الناطق بالحق أبو طالب الحسني رحمه الله في كتابه " الأمالي ": أخبرنا أبي، أخبرنا (¬2) عبد الله بن أحمد بن سلام، أخبرنا أبي، أخبرنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا عليُّ بن الخطاب الخَثْعَمي، حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري، عن بشير، عن زيد بن أسلم، أن رجلاً سأل علياً عليه السلام في مسجد الكوفة، قال: هل تَصِفُ لنا ربَّنا؟ فَغَضِبَ وخطب خطبته التي أولها: الحمد لله الذي لا يضره المنع، ولا يُكديه الإعطاء، وفيها دلالة (¬3) على معنى ما رُوِيَ عنه عليه السلام من أن الله تعالى لا يوصَفُ إن كان صح ذلك عنه، وذلك قوله عليه السلام في هذه الخطبة بعد أن وصف الله سبحانه بالصفات الحميدة، ثم قال عليه السلام: فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته، وتقدَّمَكَ فيه الرسلُ بينك وبين معرفته. وكذلك وصيتُه عليه السلام لولده الحسنِ بن علي عليهما السلام، وما اشتملت عليه من تعظيم القرآن، وما جاءت به الرسل، ووجوب الرجوع إليه، والاعتماد عليه، رواها السيد الإمام أبو طالب الحسني رحمه الله في " أماليه "، فقال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، أخبرنا محمد بن العباس بن الوليد الشامي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن عقبة الأسدي الكوفي، أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم بن إسماعيل القطَّان، أخبرنا إسماعيلُ بن مِهْران، أخبرنا عبد الله بن الحارث ¬
الهمداني، عن جابرٍ الجُعْفي، عن أبي جعفر محمد (¬1) بن علي الباقر، عن أبيه عليهما السلام، أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى ابنه الحسن بعد انصرافه من صِفِّين إلى قناصرين (¬2): من الوالدِ الفَانِ المُقِرِّ للزمان، وساق جملةً صالحةً من الوصية، ولم يستوفها كلها كما في " النهج " (¬3)، وفيما أورده منها قوله عليه السلام: وَدَعِ القول فيما لا تعرف، والنظر فيما لم تُكَلَّفْ، وأمسك عن طريقٍ إذا خِفْتَ ضلالته (¬4)، فإن الوقوف عند حَيْرَةِ الطريق خيرٌ من ركوب الأهوال، وهي معروفة في " نهح البلاغة " وغيره. وقد تكلم عليها ابن أبي الحديد في " شرحه " (¬5) بكلام يستفرغ العجب من صدوره (¬6) من مثله، خلاصته: أن عليّاً كرَّم الله وجهه عرف من الحَسَنِ القصورَ عن درك حقائق علم الكلام، فأوصاه بالجُمل، فإنا لله إن كانت ذهبت المعارف، فأين الحياء، أيكون أفضل أهل عصره الذين هم من خير القرون بالإجماع، وإمامُهم المجمع على انعقاد إمامته قاصراً عن مرتبة ابن أبي الحديد وشيوخه المستأخرين قدراً وزماناً بالنصِّ والإجماع عن مراتب ركنِ الإيمان، وعِصَابَةُ الإسلام من رعية سيِّد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، فكيف بإمامهم المقطوع على ¬
إمامته وولايته وعلمه وجلالته؟!، فكيف يفضُلُ (¬1) عليه في معرفة الله تعالى التي هي أساس الإيمان وأفضلُه (¬2) من لم يتخلّص من البدعة، ولم يستضىءْ بنور السنة، بل من اشتدَّ النزاع في حكمه بين كثيرٍ من أهل الملة؟! ولو كان إثباتُ ما تمدَّح الله به من أسمائه الحسنى أو إثبات بعض ذلك تشبيهاً، لكان الحق قول الباطنية الذين نَفَوْا جميع ذلك، فلمَّا أجمعنا على بُطلان قولهم: إن ذلك تشبيهٌ، كان جواب أهل السنة لمن نسب إليهم التشبيه بسبب إيمانهم بما تمدَّح الله به هو جواب المعتزلة على الباطنية حين نَسَبَتِ (¬3) الباطنيةُ التشبيه إلى المعتزلة بسبب وصفهم لله تعالى ببعض ما تمدَّح (¬4) به سبحانه، فافهم ذلك. ومما (¬5) تقف عليه من كلام أمير المؤمنين وسائر الصحابة والتابعين في الفزع إلى القرآن والاعتقاد أنه أعظم برهان (¬6)، والوصف لله تعالى بما وصفه به في (¬7) الفرقان، وما (¬8) ¬
من قال: إن الإجماع قطعي. وهذه غفلة عظيمة لوجوه
وصَفَتْهُ به رسلُه مما تواتر عنهم في جميع الأديان يُعلم بطلان الوجه الثاني الذي تمسَّك به بعضُ المعتزلة في تكفير بعض الصفاتية الذين (¬1) افتري عليهم اسمُ (¬2) المجسمة، وهو الإجماع، فإنَّ كثيراً منهم اسْتَرَكَّ الاستدلال على كفرهم بردِّ المعلوم من السمع لأنهم أشدُّ الناس إيماناً بالسمع، وإنما كفَّرَهُم هؤلاء لشدة ملاحظتهم للسمع، فعرفوا أن طريق (¬3) تكفيرهم برد السمع الذي هو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ركيكٌ لا سيّما عند من يعرِفُ شروط الأدلَّة القاطعة (¬4)، ويعرِفُ أنَّ التكفير لا يكونُ إلاَّ بجحد (¬5) معلوم ضروري أو بدليل معلوم قطعي، فعَدَلُوا عن ذلك إلى الإجماع لما شاع بينهم من أن الإجماع قطعي، وهذه غفلة عظيمة لوجوه. الوجه الأول: أن (¬6) المدعى بالإجماع هو كفرُ المُشَبِّهةِ، وهذا صحيح لكن فيه غِلاظٌ خفي، وهو أنه مبنيٌّ على مقدمتين: إحداهما (¬7): أن هؤلاء مُشبِّهةٌ. وثانيهما: أن المشبِّهَة كفارٌ، وموضع الإجماع هو المقدمة الأولى فسكتُوا من تصحيح الإجماع فيها وأغفلوها، وهي موضعُ النِّزاع (¬8)، ¬
الوجه الثاني: أن خصومهم الذين قضوا بكفرهم من الأمة، هم أشبه الأمة بسلفها الصالح
فتأمل ذلك فعند أهل السنة أن نفي التشبيه عن الله تعالى بتعظيم صفاته في كمالها، ونفي كلِّ نقصٍ عنها. وعند الملاحدة أنه ينفيها، والمعتزلة فرَّقوا بينها، ففي بعضها قالوا بقول أهل السنة، وفي بعضها قالوا: بقولِ الملاحده الباطنية، ويشهدُ لقول أهل السنة: {وهو السميعُ البصيرُ} بعد قوله: {ليسَ كمثلِه شيءٌ}، وقولُه: {وله المثلُ الأعلى} [الروم: 27]، وما تقدَّم في الوهمُ الخامس عشر (¬1) و (¬2) سيأتي في الكلام على الرؤية. الوجه الثاني: أنَّ خصومهم الذين قضَوْا بكفرِهم من الأمة، بل الذين هم أشبهُ الأمة بسَلَفِها الصالح المُجْمَعِ على سلامتهم، ولا يشُكُّ في ذلك من يعرفُ أخبار السلف وبُعدَهم من الكلام، فإجماع مخالفيهم على كفرهم إجماعُ بعضِ الأمة لا إجماع الأمة، بل (¬3) هؤلاء المدعى كفرُهم بالإجماع يدَّعُون كُفْرَ مكفرِهم بالإجماع، وينقُلُون عن السلف في ذلك ما لا يتَّسِعُ له هذا الموضع، ويعضدُون ذلك بالحديث الصحيح " إذا قالَ المسلمُ لأخيهِ يا كافر، فقَدْ باء بها أحدُهُما ". وعلى الجَهْدِ (¬4) أنَّ مكفِّرَهم يَتَخَلَّصُ من دعوى الإجماع على كفرهم (¬5)، ونحن -ولله الحمد-، نرُدُّ على الطائفتين في تكفيرِ كُلِّ طائفة للأخرى. ¬
فنقول: إنَّه لا يتحققُ تصريحُ أحدٍ من السلف بشيءٍ، من ذلك، فكيف يُدَّعى العلمُ بتصريحِ كلٍّ منهم بذلك، بل لا يتحققُ إجماعُ كُلِّ طائفة من هؤلاء المختلفين على تكفيرِ خصومهم، لأنَّ التنصيصَ على كفرهم إنما كان في الأعصار المتأخرة بعد انتشار الإسلام، وتباعد أقطاره، وتبايُنِ أطرافه، واتِّساع مملكته، وقد مَنَعَ جماعةٌ جِلَّةٌ من المحققين (¬1) من تَحَقُّقِ الإجماع بعد ذلك، منهم الإمامانِ المنصورُ بالله والمؤيد بالله يحيى بنُ حمزة من أئمَّة الزيدية، والرازيُّ من أئمَّة الأشعرية، والجاحظ من أئمَّة المعتزلة، وأحمدُ بنُ حنبل من أئمة أهل السنة، ومن لا يأتي عليه العَدُّ، واحتجُّوا بما لا يَخْفَى على مميِّزٍ من تَعَذُّرِ العلمِ القاطع بمعرفة أعيانهم فضلاً عن أقوالِهم، وكيف يتصوَّرُ العاقلُ أنه يُمْكِنُه العلمُ القاطع بالإجماع، وهو نَقْلٌ مَحْضٌ لا يدخُلُه الاستدلال، وإنما تدخلُه الضرورةُ، فإذا بَطَلَتْ، كان ظنياً، والعلم الضروري بالإجماع يحتاجُ إلى العلمِ الضروريِّ بانحصار العلماء، بل بانحصار المسلمين ثم تواتر النصِّ الذي لا يحتملُ التأويلَ عن كلِّ فَرْدٍ منهم، وإنما قلنا: بل بانحصارِ المسلمين (¬2) لأنَّ إجماع العُلَماءِ دون العامةِ حجَّةٌ ظنيةٌ مختَلَفٌ فيها بين العلماء، لأنَّ ظاهر أدلَّة الإجماع يشمَلُ العامة، فإخراجُهم إنَّما كان بدليلٍ ظني وهو عَدَمُ علمِهم بالمسألة، وعدمُ تكليفهم بها، ومن أدخلَهم يقول: لهم طريقٌ إلى الموافقة بالتقليد عند الجمهور، وبالاجتهاد عند البغدادية، فإذا لم يُقَلِّدوا وَجَبَ عليهم الاجتهاد، أقصى ما فيه أن يجوز ضلالُ العامة بعدم التقليد، وضلالُ العُلَماءِ بخطأ الدليل، ¬
لكن يجوز أن يكون خطأُ العلماء مغفوراً بالاجتهاد، ولم يدُلَّ الدليل على عصمةِ الأمةِ من الخطأ المغفور، وإنَّما القدرُ المتحققُ عصمتُهم ممَّا يُسَمَّى ضلالةً، مثلُ الكفر، سلَّمنا، فلم يدُلَّ الدليل على عصمة الأمة مفترقة، فيجوز ضلالها كُلِّها حين (¬1) لا تجتمِعُ، وظاهر بعض الأحاديث يمنع هذا (¬2)، لكنَّه ظنيٌّ، ودخولُ العامي في مسائل التكفير أقوى، لأن عند الخصم أنه مكلفٌ بها، متمكنٌ منها. ولما قَوِيَ هذا السؤالُ، أراد جماعةٌ دَفْعَه، منهم: ابن الحاجب بأنا نعلم تقديمهم للقاطع على الظني، وهذا لا يُساوي سماعه، فإنا لم نعلم ذلك عنهم بنقلٍ، ولكنا نعلم أن كل عاقل يقول ذلك، كما أنا نعلم إجماع من سيوجد على ذلك ممن لم يخلُقْهُ الله الآن، وذلك مثلُ ما نعلم أن كل عاقلٍ يقول: إنَّ العشرة أكثر من الخمسة. وقد قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان ما لفظه: وأما الكلام في الوجه الثالث وهو نفي دعوى الإجماع في هذه المسألة بمجرد ما يوجد في كتب المتقدمين، أو يُسمعُ من آحاد المجتهدين ... إلى قوله: وإجماع الأمة فيها غيرُ ممكن، لأنها حَدَثَتْ بعد تباعُدِ أطراف الإسلام، واتِّساع نطاقه، وقد صار طرفُ الإسلام طَرَسُوسَ (¬3)، ومضيق ¬
قُسطنطينيَّة، وبلد الهند، وفي الشرقِ إلى ما وراء النهر يعني جيحون (¬1)، فكيف يمكنُ ادعاءُ علمِ ما عندهم مع أنَّ العلماء فيهم كثرة (¬2)، وإن شئت أن ترجع إلى أهل البيت، فتشتتُهم كان في أيام عبد الله بن الحسن (¬3)، ولحاق إدريس بن عبد الله بالغرب (¬4)، وبعضهم بالمشرق (¬5)، وتشتتوا تحتَ كُلِّ كوكبٍ، وفيهم العِلمُ ووراثة النبوة، وليس لكل منهم تصنيفٌ مع علمه، وكان أكثرُ ما يُقالُ في ذلك: إنَّا لم نَجِدْ قولاً. فنقول: إن الذي لم تجدوا أكثر من الذي وجدتُم، أيَّدكم الله تعالى .. إلى قوله: ومِن أين الطَّريقُ لنا إلى العلم بقول كلِّ واحدٍ منهم، والحال هذه وسكوتُه لا يُوَلِّدُ لنا حُكماً، ولا يُعرِّفُنا له قولاً، لأن من الجائز أن يكون عنده غيرُ ما ظهر، ولا يُظهِرُه لعلمه أنَّ قول غيره، وإن خالف اجتهادَه حقٌّ (¬6)، ولا (¬7) تَخطُرُ له تلك المسألة ببالٍ. انتهى (¬8). ذكره في " المجموع المنصوري "، وقد نُسِبَ إلى مخالفة الإجماع. وذكر الإمام يحيى بن حمزه مثل كلام المنصور واختاره، وذكر ¬
أنه (¬1) الذي عوَّل عليه أئمة الزيدية وأكثر المعتزلة، ومال إليه أهل الظاهر، وارتضاه الشيخ أبو حامد الغزالي، ثم طوَّل في الاحتجاج عليه (¬2)، ذكره في " المعيار ". وهذه المسألة (¬3) ظنيَّةٌ (¬4) وربما قيل فيها بالإجماع السُّكُوتي، فكيف بالمسائل القطعية التي يلزَمُ في الاحتجاج بالإجماع فيها ثُبُوتُ نصٍّ لا يحتمل التأويل بالتواتر (¬5) في الطرفين والوسط عن كل فردٍ من جميع المسلمين، ومن علمائهم بعد العلم الضروري بانحصارهم، ولعزة الإجماع وتساهُل كثيرٍ من الثقات في نقله لمجرد (¬6) توهُّم موافقة الأكثرين لمن تَكَلَّم لمذهبه (¬7) فسكتُوا، تجدُ العلماء يتكاذبون في ذلك، فهؤلاء المعتزلة والشيعة مع ثناء بعضهم على بعض، وتوثيق بعضهم لبعض (¬8) يتكاذبون في روايات ثقاتهم في الإمامة، فالمعتزلة تروي بأجمعهم إجماع الصحابة على خلافة الثلاثة، والشيعةُ تكذِّبُهم في هذه الدَّعوى. وكذلك الشيعة تدَّعي ثبوتَ (¬9) الخلاف في ذلك و (¬10) ترويه، والمعتزلة يكذبونَهم في ذلك وأمثال ذلك ما (¬11) في ذلك لا يُحصَى. ¬
وقد اختار الإمامُ يحيى بن حمزة في كتابه " التمهيد " عدم إكفار أهل القبلة من المُشَبِّهَة والمُجَبِّرة وغيرهم، واحتج على ذلك، ثم ذكر حجج المكفرين للمشبهة والجَبْرِيَّةِ، وجعل الإجماع أحدها، ثم قال: وفي كل واحد من هذه الوجوه نَظَرٌ، ثم قال: حقّاً على كل من تكلم في الإكفار أن يُنْعِمَ النظر فيه، ويتقي الله، فإن موردَه الشرعُ، والخطأ فيه عظيمٌ، وإذا لم يتَّضِحِ الدليل فالوقوف فيه أولى (¬1) انتهى بحروفه. وقال الشيخ مختار المعتزليُّ في كتابه " المجتبى " في المسألة التاسعة من التكفير في المشبهة ما لفظه: كَفَّرَهُم شيوخُنا وأكثرُ أهل السنة والأشعرية لأنهم شبَّهُوا الله تعالى بخلقه في الجُلوس والقعود والصعود والنزول (¬2) وذلك كفرٌ لأنهم (¬3) عنده كَعَبَدةِ الأصنام، لأنه عندَهُم جسمٌ (¬4) ذو أبعاد (¬5)، وعبادة الصنمِ كفرٌ، ولم يُكَفِّرْهُم صاحب " المعتمدِ " (¬6)، وهو اختيار الرازي من الأشعرية، قال: لأنهم عالمون بذات الصانع القديم على الجملة وبصفاته، ومُقِرُّون (¬7) به وبصفاته (¬8) وبكافة الأنبياء عليهم السلام والكتب، فجاز أن لا يبلغَ عقابُهم عقابَ الكافر. وأما المجسمة فإن (¬9) عَنَوا بكونِهِ جسماً كونه ذاتاً قائمة، فلا شكَّ في ¬
عدم تكفيرهم، وإن عَنَوْا به جسماً ذا أبعادٍ، فَهُمْ والمشبهةُ سواءٌ. وقال في آخره (¬1): الفقهاءُ وأصحابُنا لا يُكَفِّرونَ من قال: بأنه كان في جهةٍ وليس بجسمٍ ولا شاغلٍ للجهة. انتهى. وتقدم تنزيهُ ابنِ أبي الحديد لأحمدَ بن حنبل (¬2) من التشبيه والتجسيم، وأنه إنما كان يُطلِقُ الآيات ولا يتأوَّلها ويقِفُ على {وما يَعْلَمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ} [آل عمران: 7]، وأن ذلك ليس بتشبيهٍ ولا تجسيمٍ، وأكثرُ ما يلزمُ أهلَ الأثرِ التشبيهُ والتجسيم من ذلك، فاعرِفْ (¬3) هذه الفائدة. وكذا (¬4) حكى الشيخ مختار، عن الشيخ أبي الحسين صاحب " المعتمد ": أنه لا يُكَفِّرُ الصفاتية الذين يقولون: إن لله تعالى علماً وقدرةً وحياة وإرادة قديمة، قال: وادعى مُكَفِّروهُم الإجماع على كُفْرِ من أثبت مع الله قديماً. وأجاب الشيخ أبو الحُسينِ عن هذا الإجماع بأنه يحتمل أن أهل الإجماع إنما أجمعوا على كُفر من أثبت مع الله قديماً واجب الوجود بالذات، لأنه أثبت لله تعالى مثلاً، والصفاتية لا يقُولون بذلك. قال الشيخ مختار: وهو الحق، لأنهم يقولون: هذه المعاني لا هي الله، ولا غيرُ الله، ولا جزءُ الله (¬5) فلم يُثبتُوا قديماً من الله، قال: ¬
والعجب من أبي هاشم وأصحابه فإنهم (¬1) يثبتون الأحوال، وهي مثل المعاني، بل أشنع، لقولهم: إنَّه لا يعلمُ ما هيته إلى آخره. فكيف تصحُّ دعوى الإجماع مع (¬2) ذلك ومن (¬3) خلافِ مثلِ (¬4) هذا الإمام الجليل من أئمَّة أهل البيت فإنه نصَّ على عدم تكفير المُشَبَّهة أول الفصل الثاني في طريق معرفة الكفر، واحتج عليه فيه، وفي النظر الثاني في حكم المخالف للحق من أهل القبلة. ثم بيَّن (¬5) الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى " أن ترك التكفير هنا أولى فقال (¬6) في المسألة (12): الواجب على المفتي أن لا يُفتي بكفر أحدٍ لم يرد فيه دليلٌ على كُفره، واختلف الناس فيه واشتبه الأمر عليه، وأن يكتب في فتواهُ: لا يكفُر، و (¬7) يُجدد الإسلام ثم النكاح لأن الحكم بكفره حكمٌ بسقوط العبادات عنه والحقوق (¬8)، والاحتياط في إثباتها، والحكم بتجديد عقد النكاح بعد تجديد الإسلام حكمٌ (¬9) بتحريم الفُروج، وحرمة الفُروج يُحتاطُ في إثباتها. وعن بعض السلف أنه كان يكتب: لا يكفُرُ، وغيري يُخالفني. ¬
وفي " البحر المحيط " (¬1)، وعن أبي عليٍّ الجُبَّائي، وهو قول محمدٍ والشافعيِّ: إنَّه لا يكفُرُ بشيءٍ من ألفاظ الكُفر التي تبدُرُ من (¬2) الإنسانِ إلاَّ أن يعلَمَ المتلفّظ بها أنه يكفُرُ بها. قال الشيخ مختارٌ: وبه نُفْتي (¬3). و (¬4) قال في المسألة (11) بعد الاحتجاج على عدمِ كُفر المُجبرة: فثبت (¬5) أنَّه لا (¬6) يجوزُ تكفيرُ أحدٍ من أهل القبلة إلاَّ من ثَبَتَ بالتواتر أو الإجماع كفرُه، وقد ذكرتُه (¬7) مستوفىً حيث ذكرتُ كفر المجبرة والاختلاف فيه (¬8) في المجلد الثالث بعد هذا .. ويُؤيِّدُ ما اختاره الإمامانِ المنصور بالله، والمؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليهما السلام من تَعَذُّرِ العلم (¬9) بالإجماع في الأعصار الأخيرة سواءٌ كان إجماع الأمة أو العترة، أنا نظرنا في أقربهما إلى الانحصار، وهو إجماع العِترة فوجدناه مُتَعذِّراً كما ذكره الإمام (¬10) المنصور بالله، ومن أراد ¬
معرفة ذلك من غير تقليدٍ، فليطالع كتب تاريخ (¬1) الرجال، وكتب الأنساب والمُشَجَّرات، فإنه يرى خلقاً كثيراً منهم ممَّن يُنسبُ إلى العلم، ولا يُعرَفُ لهم مذهبٌ ولا كتابٌ، وقد ذكرتُ منهم جماعةً وافرةً ممَّن لم يعرفهم كثيرٌ من علماء العصر في الرد على السيد، حيث زعم أن الاجتهاد قد انقطع من بعد الشافعي رضي الله عنه، وبينتُ هناك (¬2) فُحْشَ هذه الدعوى، وأنها تؤدِّي إلى تجهيل القاسم بن إبراهيم، ومن بعده من أئمة العِترة الطاهرة، فإنهم الجميعُ بعد الشافعي، لأنه تُوفي في سنة أربعٍ ومئتين رضي الله عنه من الهجرة النبوية، فذكرت منهم فوق العشرة من أكابر العلماء: أولهم السيد الإمام العلامة الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام إمام الزيدية في الكوفة، ذكره محمد بن منصور، وإنه مِمَّن أجمعت عليه الفِرَقُ، وله مذاهب في الفروع كلها مذكورٌ في كتاب " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، وهو كثيرُ الموافقة لأهل السنة في الفروع والأصول (¬3). وذكر محمد بن منصور عنه (¬4) أنه كان يترحَّمُ على من يُوافِقُه، وعلى (¬5) من يخالفه من سَلَفِه، وفي (¬6) هذا إشارة إلى اختلافهم، في ذلك العصر وقبله، إلى آخر من ذكرتُ هناك (¬7)، وأزيدُ هنا إشارةً مختصرةً إلى ¬
من ذكر منهم العلاَّمة ابنُ حَزْمٍ في كتابه " جمهرةِ النَّسَبِ " (¬1) مع اختصاره. فذكر: مِنْ أولاد الحسن بن علي عليهما السلام: الحسن بن زيد بن الحسن بن علي أمير المدينة في أيام المنصور العباسي، ولدُه ثمانية، منهم إبراهيم ولإبراهيم هذا محمدٌ، ومن ولد محمدٍ هذا حفيده محمد بن الحسن بن محمد القائم بالمدينة النبوية، والنقيبُ محمدُ بن الحسن الملقب بالداعي الصغير القائم بالرَّيِّ وطبرستان، وكان بينه وبين الأطروش الحسيني (¬2) حروبٌ، والحسن ومحمد (¬3) ابنا (¬4) زيد الداعيان وعَقْبُ محمدٍ منهما: إسماعيل (¬5) بن المهدي بن زيد بن محمد المذكور، وعمُّهُما أحمد بن محمد القائم بالحجازِ المحاربُ لبني جعفر بن أبي جعفر (¬6) الشجوي (¬7) ابن القاسم بن الحسن بن زيد، وابنُ عمهما أبو لكا بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن الشجوي (¬8)، وابن أخيه شراهيكُ بن أحمد بن الحسن بن محمد بن جعفر تَسَمَّوا (¬9) بأسماء الدَّيْلَم لمداخلتِهم، ومحمد بن علي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن الحسن القائم بالمدينة (¬10) وله عَقْبٌ عظيم جداً يتجاوزُ المئتين، ولهُم ¬
بالحجازِ ثورةٌ وجموعٌ، ومحمد بن إبراهيم أخو القاسم قام مع أبي السرايا، وللقاسم عليه السلام أولادٌ منهم النقيبان أحمد وإبراهيم ابنا محمدٍ النقيب بن إسماعيل بن القاسم. ومنهم القائمون بصعدة منهم: جعفرٌ الملقبُ بالرشيد، والحسن المنتجب (¬1)، والقاسم المختار، ومحمد المهتدي (¬2) بنو أحمد الناصر، ولهم أخٌ يُسمَّى عبد الله، لكن أمَّه أمُّ ولد، وهو اليماني القائم بمارِدَةَ، المقتول يوم البركة بالزهراء سنة ثلاثٍ وأربعين وثلاث مئة، ولهم أخوةٌ منهم سليمان، ويحيى، وإبراهيم، وهارون، وداود الساكن بمصر، وحمزة، وعبد الله، وأبو الغطمش، وأبو الجحاف، وطارق بنو أحمد الناصر، ولداود منهم الساكن بمصر ولدٌ يقال له: هاشم، ومنهم الشاعر الأصبهاني محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن طباطبا، ولهذا الشاعر ابنان عليٌّ والحسن. ومن أولاد الحسن بن (¬3) جعفر بن الحسن جماعة عجم بناحية متِّيجَة (¬4) وسوق حمزة، ومنهم زهيرٌ وعلي ابنا محمد بن جعفر كانت لهما أعمالٌ بالغرب من جهة سوق حمزة (¬5). وأولادُ عبد الله بن الحسن: محمدٌ القائمُ بالمدينة، وإبراهيمُ القائمُ ¬
بالبصرة، ويحيى القائم بالدَّيلم، وإدريس الأصغر القائم بالغرب، وسليمان وموسى وعَقْبُ هؤلاء الثلاثة كثيرٌ جداً. ولمحمد بن عبد الله ويلقب الأرقط: عبد الله الأشتر قُتِلَ بكابُل، وله ولدٌ يُسمَّى محمداً (¬1)، والعَقْبُ فيه، وللأشتر عَقْبٌ ببغداد وغيرها يعرفون ببني الأشتر. ومحمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن صاحب اليمامة المقيم (¬2) بها وهم باليمامة (¬3) ودارُ ملكهم بها، وهم بها (¬4) قائمٌ بعدَ قائمٍ. وعبد الرحمن بن فاتك عبد الله بن داود بن سليمان بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن له اثنان وعشرون ذكراً بالغون سكنوا كلهم أَذَنَةَ إلاَّ ثلاثةً منهم سكنوا أمج (¬5) بقرب (¬6) مكة. ومنهم جعفر بن محمدٍ غلبَ على مكة إيام الإخشيديَّة، وولده إلى اليوم ولاة مكة، وهو ابن (¬7) محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (¬8) بن علي بن أبي طالب عليهم السلام (¬9). ¬
ولسليمان بن عبد الله بن الحسن ولدٌ، وهو محمد القائم بالمغرب، وله عقبٌ منهم أبو العيش عيسى بن إدريس صاحب جُرَاوَةَ، وابنه الحسن سكن قرطبة، وإدريس بن إبراهيم صاحب آرسقول، وكان مُنقطعاً إلى الناصر صاحب الأندلس، وأحمد بن عيسى صاحب سوق إبراهيم، والحكم وعبد الرحمن ابنا علي بن يحيى، سكنا قرطبة وأعقبا بها، وأولاد يحيى بن محمد بن إبراهيم (¬1) دخلوا الأندلس كلُّهم، وكان سليمان منهم رئيساً في تلك الناحية، ومنهم القاسم بن محمد صاحب تِلِمْسان، ومنهم بطوش بن حنابش (¬2) بن الحسن بن محمد بن سليمان، وهم بالمغرب كثيرٌ جداً، وكانت لهم بها ممالك عدة، ومنهم جُنُّون القائم بالمغرب (¬3) أحمد ومحمد ابنا أبي العيش عيسى بن جنون، كانا ملكين بالمغرب (¬4)، وإبراهيم لقبُه أبو غبرَةَ كان مَلِكاً بالمغربِ، وكان لجنون منهم عشرون ذكراً، منهم القاسم الأصغر فنون بن جنون القائم بالمغرب (¬5)، وأخوه عليٌّ الأصغر القائم بعده، ومحمد بن جنون القائم على ابنه بالبصرة، والحسن بن جنون الأعور ادعى النبوَّة بتيدلي (¬6)، ومنهم الحسن بن محمد بن القاسم الحجام، سُمِّي بذلك لكثرة سفكِه للدماء، ومن ولده القاسم بن محمد بن حسن الفقيه الشافعي بالقيروان المعروف بابن بنت الزيدي، ومنهم إبراهيم بن القاسم صاحب البصرة ¬
كان عمر بن حفصون يخطب لهم (¬1)، ومنهم المسمَّى بالمأمون، وعلي المسمى بالناصر تَسَمّيَاً بالخلافة بالأندلس، ومحمد بن القاسم صاحب الجزيرة تسمى بالخلافة، وولِيَ الجزيرة (¬2) بعده ابنه القاسم ولم يَتَسَمَّ بالخلافة، وكان حَصُوراً لا يقرَبُ النساء، وأخو محمد بن القاسم الحسن بن القاسم تَنَسَّك ولَبِسَ الصوف وحجَّ، وولد الناصر يحيى وإدريس تسميَّا بالخلافة في الأندلس، ومحمد بن إدريس خليفةٌ تسمي بالمهدي، وحارب ابن عمِّه إدريس بن يحيى وكلاهما تسمى بالخلافة، وكان بدء أمرهم سنة أربع مئة، وبَقِيَ أمرُهم ثمانيةً وأربعين سنة. ومنهم صاحبُ تامدلت (¬3)، وصاحب صنهاجة الرِّمال (¬4)، وصاحب مِكْناسة. وذكر من أولاد الحسين عليه السلام: عبد الله بن علي بن الحسين الأرقط، له ولدان إسحاق ومحمد، لهما عَقْبٌ كثيرٌ، منهم الكوكبي اسمه الحسين، وأحمد (¬5) بن محمد بن إسماعيل كان من قُوَّاد الحسن بن زيد بِطَبَرِسْتان. ومن أولاد عمر بن علي بن الحسين: محمد بن القاسم بن علي بن عمر، و (¬6) كان فاضلاً في دينه يميلُ إلى الاعتزال قام بالطَّالَقَان (¬7)؛ فلما ¬
رأي الأمر لا يَتِمُّ إلاَّ بسفك الدِّماء؛ هَرَبَ واستَتَرَ إلى أن مات. ومنهم: زيدٌ، وجعفرٌ (¬1)، ومحمد (¬2): بنو الحسن الأُطروش الذي أسلم الدَّيْلَمُ على يديه، وهو ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر. وكان للحسن الأطروش من الإخوة: جعفرٌ، ومحمدٌ، وأحمدُ المكنَّى بأبي هاشمٍ، وهو المعروفُ بالصوفي؛ والحسينُ المحدثُ، يَرْوي عنه ابن الأحمر وغيره. قال ابن حزم: وكان هذا الأُطروش حَسَنَ المذهب، عَدْلاً في أحكامِه، وكان الحسنُ بنُ محمد بن علي، وهو ابنُ (¬3) أخي الأُطروش، قد قام بطبرستان وقَتَلَه جيوش (¬4) بها (¬5) سنة اثنتى (¬6) عشرة وثلاث مئة. وأولاد الحسين بن علي بن الحسين (¬7) ستةٌ، كلُّهم أعقبَ عقباً عظيماً منهم عبدُ الله يُعْرَفُ بالعقيقي، وَمِنْ ولدِه الذي قَتَلَه الحسن بن زيد صاحب طبرستان. ومنهم: جعفرُ بنُ عبيد (¬8) الله بن الحسين بن علي بن الحسين كانت له شيعة يُسَمُّونَه حُجَّة الله. ومنهم: حمزة بن الحسن ملك هان (¬9) في المغرب، وملك قطيعاً ¬
من صِنهاجة، وإليه يُنسبُ سوقُ حمزة، وولدُه بها كثيرٌ، وكذلك ولد أخويه في تلك الجهة؛ وكان عمُّه الحسن بن سليمان من قُوَّادِ الحسن بن زيد، وهو الذي غَزَا له الرَّيَّ، وكان شاعراً. ومنهم المحدث المشهور بمصر ميمون بن حمزة بن الحسين بن محمد بن الحسين (¬1) بن حمزة (¬2). ومنهم الملقب بمسلم (¬3) الذي كان يريدُ مصر أيام كافور، واسمه محمد بن عبد الله بن طاهر بن يحيى المحدث، وابن عمه طاهر بن الحسين بن طاهر الذي مدحه المتنبي بقوله: أعِيْدُوا صَبَاحي فَهْوَ عِنْدَ (¬4) الكَوَاعِبِ (¬5) القصيدة التي قال فيها: إذا عَلَوِيٌّ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ طاهِرٍ ... فَمَا هُوَ إلاَّ حُجَّةٌ للنواصِبِ وأبو مسلمٍ هذا قامَ بالشام بعد كافور، وتسمَّى (¬6) بالمهدي، واستنصر بالقرامطة، والحسن بن محمد بن يحيى المحدِّث المذكور تجاوَزَ تسعين سنةً، وكان بالكوفةِ حُمِلَ عنه العلم. ومنهم محمد بن عبيد الله كان له قدرٌ بالكوفة، ومنزلة ¬
بالديالمة (¬1) يُعارضُ بها منزلة بني عمر العلويين بالكوفة وهو الذي مَدَحَه المتنبي بقوله: أهلاً بِدارِ سَبَاك أَغْيَدُهَا (¬2) انتهى مختصراً ممَّا ذكرَه ابنُ حَزْمٍ في " جَمْهَرةِ النسب "، وهي مختصرةٌ ليس يذكرُ فيها إلاَّ العيون الأكابر المشاهير. وجملةُ مَنْ ذكره (¬3) الدعاة القائمين غير (¬4) دعاة اليمامة قدر ثلاثين داعياً لا يُعْرَفُ منهم إلاَّ قدرُ خمسةٍ: محمد بن إبراهيم وأولاده (¬5)، وأولاد عبد الله بن الحسن، فهؤلاء تُعرفُ (¬6) أسماؤهم، ولا تُعرفُ تصانيفهم ولا مذاهبُهم، فكيف بدُعاة اليمامة المستمرين قائماً بعد قائم، وممَّن أُهمِل من ساداتهم المتفرغين للعلم (¬7)، وقد ذَكَرَ منهم أربعةً من أئمة الحديث، وحجة الله الذي تقدم ذكره، وذكر منهم كثيراً (¬8) باسمه، ولم يذكره بالعلم لظنِّه أن اسمه يكفي، لأنه مشهورٌ كالمحدث العقيقي، يروي السيد الإمامُ أبو طالب في " أماليه " كثيراً عن أبيه عنه. وجماعةٌ من رواة الحديث رَوَى عنهم (¬9) السيد أبو طالب كابنه (¬10) ¬
الحسين، وحمزة بن القاسم العلوي، وأبي عبد الله محمد بن زيد الحسيني، وأبي محمد الحسن (¬1) بن حمزة الحسيني، بل تركَ ذكرَ كثيرٍ (¬2) من أكابر عُلماء العِتْرة مثل: عمر بن إبراهيم الزيدي، راوي " مجموع زيد بن علي "، ذكره الذهبي في " الميزان " (¬3) وأثْنَى عليه، ومثل: مصنف " الجامع الكافي " أبي عبد الله الحسني (¬4) من بحور العلم، ومثل العلاَّمة الشجري (¬5)، ذكره ابنُ خِلِّكان وغيرهما (¬6). ولقد ذكر العلاَّمة السُّبكيُّ في كتابه " طبقات الشافعية " جماعةً وافرةً من عُلماءِ العترة (¬7) ممن كان يُعَدُّ في أتباع الإمام الشافعي لملازمة الدرس في كتب الشافعية، وإن كانوا مِنَ (¬8) العلماء المبرزين، فكم في أصحاب الشافعي وأتباعه من منسوب إليه غير (¬9) مقلّدٍ في العلم كما في سائر أهل المذهب (¬10). وقد ذكر الإسنويُّ (¬11) مناقِبَهُم وتآليفهم وعُلُومَهم في طبقاته، ومَنْ ¬
منهم كان قُطباً (¬1) في الاجتهاد، وعلى اختصاره. وكذلك مع كُلِّ طائفةٍ من عُلماء الإسلام من أهل البيت عليهم السلامُ علماء بحور، وأئمَّة صدور، لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يدَّعي الإجماع وهو لا يدري بأحوالهم (¬2)، كما أشار إليه الإمام (¬3) المنصور بالله في مسألةٍ سهلةٍ (¬4) ظنية، فكيف (¬5) في القطعيات؟، كيف في التكفير؟ الذي هُو أعظمُ القطعيات (¬6) خَطَراً، وأجلُّها في الدين أثَراً. وقد قال الأميرُ الحسينُ في " الشِّفاء "، في فصلٍ ذكره في قصد أهل الحرب إلى ديارهم، ما لفظه: وهو قول السيدِ الإمام الحسن بن إسماعيل الجرجاني عليه السلام (¬7). قال الأمير: قال - يعني: هذا السيد الإمام الجرجاني (¬8): وهو الذي ذهب إليه (¬9) مُحَصِّلُو محدثي أصحابنا. انتهى بلفظه. ¬
فأفاد برواية هذا السيد (¬1) أنَّ (¬2) لأصحابنا مُحَدِّثين مجتهدين في تلك البلاد، ولهم مذاهب واختيارات، فلا ينعقد إجماع العترة دون معرفة أقوالهم، بل ليس للزيدية وسائرِ الشيعة نهمة (¬3) في تدوين أخبار سادات أهل البيت، وعلماء شيعتهم من أهل مذهبهم، دَعْ عنك غيرهم (¬4)، ولا عَلِمْتُ لأحدٍ منهم في ذلك مُصنَّفاً (¬5) إلاَّ ما صنفه مسلم اللحجي المطرفي من كتاب " الطبقات "، ولقد أجاد فيه لو استوفى، لكنَّه اقتَصَر على أهل مذهبه، وفي تركهم ترك علومٍ كثيرة، فإنهم أفرغ للعلم من الدُّعاة الذينَ اقتَصَرَتِ الزيديةُ على ذكرِ بعضِهم. ولقد ذَكَرَ الإمامُ المؤيَّدُ بالله عليه السلامُ في " الزيادات "، أنَّ تقليد ساداتهم الذين لم يشغلهم الجهاد عن التفرغ للعلم أولى، فكيف يُتركُ ذكرُ مثل هؤلاء (¬6) حتى لا يُعرفوا؟، فكيف بمذاهبهم (¬7)؟، وكيف يُدعى إجماعُ العِتْرة مع هذا؟، وهل قال أحدٌ قطُّ: بأن المعتبر في (¬8) الإجماع هم (¬9) الخلفاء من العترة دونَ غيرهم؟، ولو قال بذلك قائلٌ، ما ساعدَه الدليلُ خصوصاً في القطعيات (¬10). ¬
الوجه الثالث: أنا لو سلمنا ثبوت إجماع ظني سكوتي في هذا الموضع، فإنه معارض بثبوت الأخبار الصحيحة المتواتر معناها
واعلم أن رواية الإجماع مثل رواية الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب على المسلم أن يتثبَّتَ فيها، فإنَّه مسؤولٌ عمَّا يرويه وما (¬1) أكثر التَّساهل في هذا، فنسأل الله السلامة، وهو المستعان. الوجه الثالث: أنا لو سلَّمنا ثبوت إجماع ظني سكوتي في هذا الموضع، فإنَّه مُعَارَضٌ بثبوتِ الأخبار الصحيحة الصريحة (¬2) المتواتر معناها القاضية بإسلام من شَهِدَ أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحجَّ البيت، وصام رمضان، وثبوت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يُمْكِنُ معرفةُ أقواله بالطرق الصحيحة أولى وأرجحُ من تخيُّلِ ما لا يمكن من الإحاطة بأقوال الأمة، وظنِّ موافقة (¬3) السكوت لمن تكلَّم بغير قرينةٍ صحيحة، والله سبحانه أعلم. فإن قيل: فما تقول (¬4) في مَنْ كفَّر مسلماً مُتأوِّلاً أو مجترئاً، هل يكفر المكفِّر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال المسلمُ لأخيه يا كافرُ فقد باء بها أحدُهما "؟ قلت: أما المعتزلة والشيعة، فتمنع من تكفيره (¬5)، لأن الحديث ظني، وإن كان صحيحاً، أمَّا أهل الحديث (¬6)، فقد قال البخاري في الصحيح (¬7): باب: من كفَّر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، واحتجَّ في ¬
الباب بحديثِ ابن عمر وأبي هريرة (¬1) المقدم، " فقد باءَ بها أحدهما " وبحديث ثابت بن الضحاك " مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذباً فهو كما قال " (¬2). ثمَّ قال: باب من لم يَرَ إكفار (¬3) من قال ذلك متأوِّلاً، أو جاهلاً، وأورد فيه حديث عمر في قوله لِحَاطِب: إنَّه منافق، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ: " وما يُدريك ... " (¬4) الحديث. وبحديث جابرٍ بقولِ معاذٍ للمتجوز (¬5) في صلاته خلفه: إنه منافقٌ (¬6). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ حين قال (¬7) ذلك: " أفتانٌ أنت " (¬8). ¬
وبحديث أبي هريرة: " من حَلَفَ منكم، فقال في حَلِفِه: باللات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلاَّ الله " (¬1). وبحديث ابن عمر: " إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالِفاً، فليحلف بالله أو لِيَصمُتْ " (¬2) قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أدرك ركباً فيهم عمرُ، وهو يَحْلِفُ بأبيه. انتهى. قلت: ويدلُّ على هذا أيضاً حديث عتبان بن مالك، وقول الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل: إنه منافقٌ، فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله " (¬3) الحديث. ويدل عليه ما في الوجه الثاني المقدَّم. ويدل عليه: " رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطَأ والنِّسيانُ وما استُكرِهُوا عليه " (¬4). وما في معناه مِنَ القرآن. ويدُلُّ عليه الأحاديث التي (¬5) احتجُّوا بها على عَدَمِ كُفْرِ الخوارج، مثل حديث " دَعْهُ، فإنَّ له أصحاباً ليست قراءتكم إلى قراءتِهم " (¬6). ¬
وحديث الخارجي الذي قال لعليَّ عليه السلام وهو في الصلاة: لَئِنْ أشرَكت لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ (¬1)، وقول علي عليه السلام له: لكم علينا ثلاث، ومطالبة علي عليه السَّلام لهم بدم ابنِ خباب (¬2). وادَّعى الخطابيُّ (¬3) الإجماع على أنهم غيرُ كفارٍ (¬4)، وصَنَّفَ ابنُ حزم في عدم تكفيرِ المتأولين مجلداً ذكره الذهبي في ترجمته من "النبلاء" (¬5). ¬
الفصل الرابع: في ذكر نبذ من سيرة أحمد بن حنبل
الفصل الرابع (¬1): في ذكر نُبَذٍ (¬2) من سيرة أحمد بن حنبل، والتعريفِ بأحواله الشريفة، ومناقبه الغزيرة (¬3)، ومحلِّه في الإسلام، وذكر عقيدته، وما ثبت عنه من ذلك، وما لم يثبُت، والقصد بذكر ذلك تعريفُ من وقف عليه بأن هذا الإمام الجليل حريٌّ بالحمل على السلامة، والتثبت فيما يُنْسَبُ إليه، بل حريٌّ بالتعظيم والتجليل. وقد اخترت لنقل سيرته كتاب " النبلاء " للذهبي لوجهين: أحدُهما: كونُ الذهبي شافعيَّ المذهب، وليس بحنبلي، فيُتَّهَم بشدة العصبية (¬4)، لإمامه الذي نشأ على تعظيمه. وثانيهما: كون الذهبي معروفاً بتزييفِ ما يمُرُّ عليه من الأشياء الواهية، وأنت إذا قرأت هذه الترجمة عَرَفْتَ ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا جملة ما ذكره الذهبي في ترجمته في " النبلاء " (¬5) قال ما لفظه مع اختصارٍ كبير (¬6): هو الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حَيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذُهْلِ الذُّهلي (¬7) الشيباني المَرْوَزي ثم البغدادي، أحد الأئمة الأعلام. هكذا ¬
ساق نسبه ولده عبد الله، واعتمده أبو بكرٍ الخطيب في " تاريخه " وغيرُه. وقال ابن أبي حاتم في كتاب " مناقب أحمد ": حدَّثنا صالح بن أحمد، قال: وجدت في كتاب أبي نَسَبَه، فساقه كما مَرَّ، وقال: ابن هذيلُ بن شيبان، وهو وَهمٌ، وزاد بقية النسب إلى إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما. وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا صالح بن أحمد فذكر النسب، فقال فيه: ذُهل على الصَّواب. وهكذا نقل إسحاقُ الغَسيلي عن صالح. وأما قول عباس الدوري، وأبي (¬1) بكر بن أبي داود: إنَّ الإمام أحمد من بني ذُهل بن شيبان فَوَهْمٌ، غَلَّطهما (¬2) الخطيبُ، وقال: إنما هو من بني شيبان بن ذُهْلِ بن ثعلبة، ثم (¬3) قال: وذُهل بن ثعلبة هو عمُّ ذُهْلٍ بن شيبان بن ثعلبة (¬4). فينبغي أن يقال فيه: أحمد بن حنبل الذهلي على الإطلاق، وقد نسبه البخاري إليهما معاً. وأمَّا ابن ماكولا، فمع بصره بهذا الشأن وَهِمَ أيضاً، وقال في نسبه: مازن بن ذُهل بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وما تابعه على هذا أحدٌ. وقال صالحٌ: قال لي أبي: وُلِدْتُ سنة أربعٍ وستين ومئة. وكذا قال أبو داود، عن يعقوب الدَّورقي، عن أحمد. قال حنبل: سمعتُ أبا عبد الله، يقول: طلبتُ الحديثَ سنة تسعٍ وسبعين، فسمعتُ بموتِ حمادِ بن زيد، وأنا في مجلس هُشيمٍ. ¬
فصل في شيوخه
قال صالح: قال أبي: ثَقَبَتْ أُمي أُذُنيَّ، فكانت تُصيِّرُ فيهما لؤلؤتين، فلمَّا ترعرعتُ، نزعتهما، فكانتا (¬1) عندها، ثم دَفَعَتْهما إليَّ، فبِعْتُهما بنحوٍ من ثلاثين درهماً. فصلٌ في شيوخه: طلب العِلْمَ وهو ابنُ خمس عشرة سنة، في العام الذي مات فيه مالكٌ، وحمادُ بن زيد. فسَمِعَ من إبراهيم بن سعدٍ قليلاً، ومن هُشيم بن بشير فأكثر، وجوَّد، ومن عبَّاد بن عباد المهلبي، ومعتمر (¬2) بن سُليمان التيمي، وسفيان بن عيينة الهلالي، وأيوب بن النجار، ويحيى بن أبي زائدة، وعليِّ بن هاشم بن البريد، وقُرَّان بن تمَّام، وعمَّار بن محمد الثوري، والقاضي أبي (¬3) يوسف، وجابر بن نوح الحِمَّاني، وعلي بن غُراب القاضي، وعمر بن عبيد الطنافسي، وأخويه يعلى، ومحمدٍ، والمطلب بن زياد، ويوسف بن الماجِشَون، وجريرِ بنِ عبد الحميد، وخالد بنِ الحارث، وبشر بن المفضل، وعبَّاد بن العوام، وأبي بكر بن عيَّاش، ومحمد بن عبد الرَّحمن الطُّفاوي، وعبدِ العزيز بن عبد الصمد العمِّي (¬4)، وعبدة بن سليمان، ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، والنضر بن إسماعيل البجلي، وأبي خالد الأحمر، وعلي بن ثابتٍ ¬
الجزري، وأبي عُبيدة الحداد، وعَبِيدَة بن حميد الحذاء، ومحمد بن سلمة الحرَّاني، وأبي معاوية الضرير، وعبد الله بن إدريس، ومروان بن معاوية، وغُنْدَر، وابن عُلَيَّة، ومَخْلد بن يزيد الحراني، وحفص بن غياث، وعبد الوهاب الثقفي، ومحمد بن فُضيل، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والوليد بن مسلم، ويحيى بن سُلَيْمٍ حديثاً واحداً، ومحمد بنِ يزيد الواسطي، ومحمد بن الحسن المُزَني الواسطي، ويزيد بن هارون، وعلي بن عاصم، وشعيب بن حرب، ووكيعٍ فأكثر، ويحيى القطان فبالغ، ومسكين بن بُكَير، وأنس بن عِياض الليثي، وإسحاق الأزرق، ومعاذ بن معاذ، ومعاذ (¬1) بن هشام، وعبد الأعلى السامي (¬2)، ومحمد بن أبي عدي، وعبدِ الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر، وزيد بن الحباب، وعبد الله بن بكر، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأبي عاصم، وعبد الرزاق، وأبي نعيم، وعفَّان، وحسين بن علي الجُعفي (¬3)، وأبي النضر، ويحيى بن آدم، وأبي عبد الرحمن المقرىء، وحجاج بن محمد، وأبي عامرٍ العَقَدي، وعبد الصَّمَد بن عبد الوارث، وروح بن عبادة، وأسود بن عامر، ووهب بن جرير، ويونس بن محمد، وسليمان بن حرب، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وخلائق إلى أن ينزل في الرواية عن قتيبة بن سعيد (¬4)، وعليِّ بن المديني، وأبي بكر بن أبي شيبة، وهارون بن معروف، وجماعة من أقرانه. ¬
فعدَّة شيوخه الذين روى عنهم في " المسند " مئتان وثمانون ونيِّف. حدَّث عنه البخاري حديثاً، وعن أحمد بن الحسن عنه حديثاً آخر في المغازي، وحدَّث عنه (¬1) مسلم، وأبو داود بجملةٍ وافرة، وروى أبو داود أيضاً، والنسائي والترمذي، وابن ماجة عن رجلٍ عنه، وحدث عنه (¬2) أيضاً ولداه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، وشيوخه: عبد الرزاق، والحسن بن موسن الأشيب، وأبو عبد الله الشافعي، لكن الشافعي لم يُسمِّه، بل قال: حدثني الثقة. وحدَّث عنه علي بن المديني، ويحيى بن معين، ودُحيم، وأحمد بن صالح، وأحمد بن أبي الحواري، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وأحمد بن الفرات، والحسن بن الصَّبَّاح البزار، والحسن بن محمد بن (¬3) الصباح الزعفراني، وحجَّاج بن الشاعر، ورجاء بن المرجَّى، وسلمة بن شبيب، وأبو قِلابة الرقاشي، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن منصور الطوسي، وزياد بن أيوب، وعباس الدوري، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وإسحاق الكَوْسج، وأبو بكر الأثرم، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر المرُّوذي، وأبو زرعة الدمشقيُّ، وبقيُّ بن مَخْلَدٍ، وأحمدُ بنُ أصرمَ المُغَفَّلي، وأحمد بن منصور الرمادي، وأحمد بن ملاعب، وأحمد بن أبي خيثمة، وموسى بن هارون، وأحمد بن علي الأبَّار، ومحمد بن عبد الله مُطَيَّن، وأبو طالب أحمدُ بن حميد، وإبراهيمُ بن هانىء النيسابوري، وولده إسحاق بن إبراهيم، وبَدْرٌ المغازلي، وزكريا بن ¬
يحيى الناقد، ويوسفُ بن موسى الحربي (¬1)، وأبو محمد فوران، وعُبدوس بن مالك العَطَّار، ويعقوبُ بن بُختان، ومهنى بن يحيى الشامي، وحمدان بن علي الوراق، وأحمد بن محمد القاضي البِرتي، والحسين بن إسحاق التُّسْتَري، وإبراهيم بن محمد بن الحارث الأصبهاني، وأحمد بن يحيى بن ثعلب، وأحمدُ بن الحسن بن عبد الجبار الصُّوفي، وإدريس بن عبد الكريم الحداد، وعمر بن حفص السدوسي، وأبو عبد (¬2) الله محمد بن (¬3) إبراهيم البُوشَنْجي، ومحمد بن عبد الرحمن السامي، وعبدُ اللهِ بن محمد البَغَوي، وأممٌ سواهم. وقد جَمَعَ أبو محمد الخلاَّل جزءاً في تسمية الرواة عن أحمد سمعناه من الحسن بن علي، عن جعفر، عن السِّلفي، عن جعفر السَّرَّاج عنه، فعدَّ فيهم وكيع بن الجراح، ويحيى بن آدم. قال الخطيب في كتاب " السابق " (¬4): أخبرنا أبو سعيدٍ الصيرفي، حدثنا الأصمُّ، حدثنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن يحيى بن سعيد، عن شُعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارقٍ، أن عمر قال: إنما الغنيمة لمن شَهِدَ الوقعة (¬5). قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرعة أن أحمد أصلُه بصريٌّ، ¬
وخِطَّتُه بمرو، وحدثنا صالح سمعت أبي يقولُ: مات هُشيمٌ فخرجت إلى الكوفة سنة ثلاثٍ وثمانين وأول رحلاتي إلى البصرة سنة ستٍ، وخرجت إلى سُفيان سنة سبع، فقدِمْنَا وقد مات الفضيل بن عياض، وحَجَجْتُ خمس حجج، منها ثلاثٌ راجلاً، أنفقت في إحداها ثلاثين درهماً، وقَدِمَ ابن المبارك في سنة تسعٍ وسبعين، وفيها أول سماعي من هُشيم، فذهبت إلى مجلس ابن المبارك، فقالوا: قد خَرَجَ إلى طَرَسُوس، وكتبت عن هُشيمٍ أكثر من ثلاثة آلافٍ ولو كان عندي خمسون درهماً، لخرجت إلى جريرٍ إلى الرَّي. قلتُ: قد سمع منه أحاديث. قال: وسمعتُ أبي يقول: كتبت عن إبراهيم بن سعد في ألواح، وصليت خلفه غير مرةٍ، وكان يُسلِّمُ واحدةً، وقد روى عنه من شيوخه ابن مهدي. فقرأتُ على إسماعيل بن الفراء، أخبرنا ابن قُدامة، أخبرنا المبارك بن خضير، أخبرنا أبو طالب اليُوسُفي، أخبرنا إبراهيم بن عمر، أخبرنا عليُّ بن عبد العزيز، حدَّثنا ابن أبي حاتم، حدثنا أحمد بن سِنان، سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: كان أحمد بن حنبل عندي، فقال: نظرنا فيما كان يُخالِفُكم فيه وكيعٌ، أو فيما يخالف وكيعٌ الناس، فإذا هي نيِّفٌ وستون (¬1) حديثاً. ومن صفته: كان شيخاً طُوالاً أسمر شديد السُّمرة (¬2). وقال المَرُّوذيُّ: رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت خاشعاً، ¬
رحلته وحفظه
فإذا كان بَرّاً (¬1)، لم يتبين منه شِدَّةُ خُشُوعٍ، وكنتُ أدخل، والجزء في يده يقرأُ. رحلته وحفظه: قال صالحٌ: سمعت أبي يقول: خرجت إلى الكوفة، فكنت في بيتٍ تحت رأسي لبنةٌ، فحُمِمْتُ (¬2)، فرجعت إلى أمي، ولم أَكُنِ استأذنتُها. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله، يقول: تزوَّجتُ وأنا ابن أربعين سنة، فَرَزَقَ الله خيراً كثيراً. قال أبو بكر الخلال في كتاب " أخلاق أحمد "، وهو مجلد: أملى عليَّ زهير بن صالح بن أحمد، قال: تزوَّج جدي عباسة بنت الفضل من العرب، فلم يُولَدْ له منها غيرُ أبي. وتُوفيت فتزوَّج بعدها ريحانة، فولدت عبد الله عمي، ثم تُوفيت، فاشترى حُسْنَ، فولدت أُمَّ علي زينب، وولدت الحسن والحسين توأماً (¬3)، وماتا بقرب ولادتهما، ثم ولدت الحسن ومحمداً (¬4)، فعاشا حتى صارا من السنِّ نحو أربعين سنة، ثم ولدتْ سعيداً. قيل (¬5): كانت والدة عبد الله عوراء، وأقامت معه سنين. ¬
قال المَرُّوذي: قال لي أبو عبد الله: اختلفتُ إلى الكُتَّاب، ثم (¬1) اختلفتُ إلى الديوان، وأنا ابنُ أربع عشرة سنة. وذكر الخلالُ حكاياتٍ في عقل أحمد وحياته في المكتب ووَرَعِه في الصِّغر. حدثنا المرُّوذيُّ: سَمِعْتُ أبا عبد الله، يقولُ: مات هُشيم ولي عشرون سنةً، فخرجتُ أنا والأعرابيُّ -رفيقٌ كان لأبي عبد الله- قال (¬2): فخرجنا مُشاةً، فوصلنا الكوفة، يعني: في سنة ثلاث (¬3) وثمانين، فأتينا أبا معاوية، وعنده الخلق، فأعطى الأعرابي حَجَّة بستين درهماً، فخرج وتركني في بيتٍ وحدي، فاستوحشتُ، وليس معي إلاَّ جِرابٌ فيه كتبي، كنت أضعه فوق لبنة، وأضعُ رأسي عليه، وكنت أذاكِرُ وكيعاً بحديث الثوري، وذكر مرة شيئاً (¬4)، فقال: هذا عند هُشيمٍ؟ فقلت: لا. وكان ربَّما ذكر العشر أحاديث، فأحفظُها، فإذا قامَ، قالوا لي، فأُمْليها عليهم. وحدثنا عبد الله بن أحمد، قال لي أبي: خذ أيَّ كتابٍ شئت من كُتُبِ وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أُخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أُخبِرَكَ أنا بالكلام. وحدثنا عبد الله بن أحمد: قال لي أبي (¬5) سمعتُ سفيان بن وكيعٍ، ¬
يقول: أحفظُ عن أبيك مسألةً من نحو أربعين سنةً. سُئل عن الطلاق قبل النكاج، فقال: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عليٍّ وابن عباس ونيِّفٍ وعشرين من التابعين، لم يَرَوْا به بأساً، فسألتُ أبي عن ذلك، فقال: صَدَقَ، كذا قلت. قال: وحفظتُ أني سمعتُ أبا بكر بن حماد، يقول: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة، يقول: لا يُقَالُ لأحمد بن حنبل: من أين قُلْتَ؟ وسمعت أبا إسماعيل التِّرمِذِيَّ، يذكر عن ابنِ نُمَيْر، قال: كنت عند وَكيعٍ، فجاءه رجلٌ أو قال: جماعةٌ من أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: ها هنا رجل بغدادي يتكلَّم في بعض الكوفيين، فلم يَعْرِفْهُ وكيعٌ، فبينا نحن إذ طلع أحمد بن حنبل، فقالوا: هذا هو، فقال وكيعٌ: ها هنا يا أبا عبدِ الله، فأفرجوا له، فَجَلُوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي يُنْكِرُوْنَ، وجَعَلَ أبو عبد الله يحتجُّ بالأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا لوكيع: هذا بحضرتِك تَرَى ما يقول؟ فقال: رجلٌ يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيشٍ أقول له؟ ثم قال: ليس القول إلاَّ كما قُلْتَ يا أبا عبدِ الله، فقال القومُ لوكيع: خَدَعَكَ والله البغدادي. قال عارم: وضعَ أحمدُ عندي نفقته، فقُلْتُ له يوماً، يا أبا عبدِ الله، بَلَغَني أنَّك من العرب. فقال (¬1): يا أبا النعمان، نحن قومٌ مساكينٌ فلم يَزَلْ يُدَافِعُني حتى خَرَجَ، ولم يقلْ لي شيئاً. قال الخلالُ: أخبرنا المَرُّوذي: أنَّ أبا عبد الله، قال: ما تَزَوَّجْتُ إلاَّ بعدَ الأربعين. ¬
وعن أحمد الدَّوْرَقي، عن أبي عبد الله، قال: نحنُ كتبنا الحديث في ستَّة وجوهٍ و (¬1) سبعة لم نَضْبِطْهُ، فكيف يضبطه (¬2) من كتَبَه من وجهٍ واحد؟!. قال عبدُ الله بن أحمد: قال لي أبو زرعة: أبوكَ يحفظُ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرتُه، فأخذتُ عليه الأبواب. فهذه حكايةٌ صحيحة في سَعَةِ علم أبي عبد الله، وكانوا يعُدُّون في ذلك المُكَرَّر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فُسِّر، ونحو ذلك. وإلاَّ فالمتونُ المرفوعة القوية لا تبلُغُ عُشْرَ مِعشارِ ذلك ... إلى قول الذهبي (¬3): قال صالحُ بنُ أحمد (¬4): قَدِمَ المتوكلُ، فَنَزَلَ الشمَّاشِيَّة (¬5) يُريدُ المدائن، فقال لي أبي: أُحِبُّ أنْ لا تذهبَ إليهم تُنَبِّهُ عليِّ، فلمَّا كان بَعْدَ يومٍ أنا قاعد، وكان يوماً مطيراً، فإذا بيحيى بن خاقان قد جاءَ في مَوْكبٍ عظيم، والمطرُ عليه، فقال لي: سبحان الله لم تَصِرْ إلينا حتَّى تُبَلِّغَ أمير المؤمنين السلام عن شيخِك، ثم نَزَلَ خارج الزُّقاق، فجَهَدْتُ به أن يدخُلَ على الدابةِ فلم يفعَلْ، فجعل يخوضُ في المطير. فلمَّا وَصَلَ نزع جُرْمُوقَه (¬6)، ودخل، وأبي في الزاوية عليه كِسَاءَ، فسلَّم عليه، وقبَّل ¬
جبهتَه، وسأَلَهُ عن حالِه، وقال: أميرُ المؤمنين يُقرِئُك السلام، ويقول: كيف أنت في نفسك؟ وكيف حالك؟ وقد أَنِسْبُ بقربك (¬1) ويسألُك أن تدعو له، فقال: ما يأتي عليّ يومٌ إلاَّ وأنا أدعو الله له. ثم قال: قد (¬2) وجَّه معي ألف دينار تُفَرِّقُها على أهل الحاجة، فقال: يا أبا زكريا، أنا في بيتٍ منقطعٍ، وقد أعفاني من كل ما أكرهُ، وهذا مما أكره (¬3) فقال: يا أبا عبد الله، الخلفاءُ لا يحتملون هذا. فقال: يا أبا زكريا، تلطَّف في ذلك، فدعا له، ثم قام، فلما صار إلى الدار، رجع، فقال: هكذا لو وجَّه إليك بعضُ إخوانك كنت تفعل؟ قال: نعم، فلما صِرنا إلى الدهليز، قال: قد أمرني أمير المؤمنين أدفعها إليك تُفَرِّقُها، فقلت: تكون عندك إلى أن تمضي هذه الأيام. أحمد بن محمد بن الحسين بن معاوية الرازي، حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب، سمعت المِسْعَرَ بن (¬4) محمد بن (¬5) وهب، قال: كنتُ مُؤدِّباً للمتوكل، فلمَّا استخلف، أدناني، وكان يسألُني وأُجيبُه على مذهب الحديث والعلم، وإنه جلسَ للخاصة يوماً، ثم قام، حتى دخل بيتاً لَهُ من قوارير، سقفُه وحيطانُه وأرضُه (¬6)، وقد أُجري له الماء فيه، يتقلَّبُ فيه (¬7). فمن دَخَلَه، فكأنَّه في جوفِ الماء جالسٌ. وجَلَسَ عن يمينِه الفتحُ بنُ خاقان، وعبيد الله بن يحيى بن خاقان (¬8)، وعن يسارِه بُغا ¬
الكبير، ووصيف، وأنا واقفٌ إذ ضحك، فأرمَّ (¬1) القوم، فقال: ألاَ تسألوني مِنْ ما ضَحِكتُ؟! إنِّي ذات يومٍ واقفٌ على رأسِ الواثق، وقد قَعَدَ للخاصة، ثم دَخَلَ هنا، ورمتُ الدخول فَمُنِعْتُه ووقفت حيث ذاك الخادمُ واقفٌ، وعنده ابن أبي دُوَاد، وابنُ الزيات، وإسحاقُ بن إبراهيم. فقال الواثق: لقد فكرت فيما دعوت إليه الناس من (¬2) أن القرآن مخلوقٌ، وسرعةِ إجابة من أجابنا، وشدة خلاف من خالفنا مع الضرب والسيف، فوجدتُ من أجابنا رَغِبَ فيما في أيدينا، ووجدتُ (¬3) من خالفنا معه دينٌ وَوَرَعٌ، فدخل قلبي من ذلك أمرٌ وشكٌّ حتى هممتُ بترك ذلك. فقال ابن أبي دُوَاد: الله الله يا أمير المؤمنين! إن تُميتَ سُنَّةً قد أحييتها، وأن تُبْطِلَ ديناً قد أقمته. ثم أطرقوا، وخاف ابن أبي دُوَاد، فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن هذا القول الذي تدعو الناس إليه لهو الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله، وبعث به نبيَّه، ولكنَّ الناسَ عَمُوا عن قبوله. قال الواثق: فَبَاهِلُوني (¬4) على ذلك. فقال أحمد: ضربَهُ الله بالفالج إن لم يكُن ما يقُولُ حقاً، وقال ابن الزيات: وهو فَسَمَّرَ الله يديه (¬5) بمسامير في الدنيا قبل الآخرة إن لم يكن ما يقول أمير المؤمنين حقاً بأن القرآن مخلوق. وقال إسحاق بن إبراهيم: وهو فأنتن اللهُ ريحَه في الدنيا إنْ لم يكن ما يقولُ حقاً، وقال نجاح: وهو فقَتَلَه اللهُ في أضيق محبسٍ، وقال إيتاخ: وهو فَغَرَّقَهُ الله، وقال الواثق: وهو فأحرق الله بدنه بالنار إن لم يكن ما يقول حقاً من أن القرآن مخلوقٌ، فأضحكُ أنه لم ¬
يَدْعُ أحدٌ منهم يومئذٍ إلاَّ استُجِيْبَ. أمَّا ابن أبي دواد، فقد ضربه الله بالفالج، وأمَّا ابن الزيات، فأنا أقعدته في تنُّورٍ من حديد، وسمَّرتُ يديه (¬1) بمسامير، وأما إسحاق، فأقبل يَعْرَقُ في مرضه عرقاً (¬2) مُنْتِناً حتى هرب منه الحميمُ والقريب، وأما نجاح، فأنا بنيتُ عليه بيتاً ذراعاً في ذراعين حتى ماتَ، وأمَّا إيتاخ، فكتبتُ إلى إسحاق بن إبراهيم، وقد رَجَعَ من الحجِّ فقيَّده وغرَّقه، وأما الواثق، فكان يُحِبُّ الجماع، فقال: يا ميخائيل: أبغني دواء الباه (¬3) فقال: يا أمير المؤمنين؛ بدنَك فلا تَهُدَّه، لا سيما إذا تكلَّفُ الرجل الجماع. فقال: لا بدَّ منه، قال: عليك بلحم السبع، يُؤخَذُ رِطْلٌ فيُغلى سبع غليات بِخَلِّ خَمرٍ عتيقٍ. فإذا جلستَ على شُربك، فخذ منه زِنَةَ ثلاثة دراهم، فإنك تَجِدُ بُغيتك. فلها أياماً، ثم قال: عليَّ بلحم سبعٍ الساعة، فأُخرج له سبعٌ، فذُبح واستعمله. قال: فسُقي (¬4) بطنُه، فجُمِعَ له الأطباء، فأجمعوا على أن لا دواء له إلاَّ أن (¬5) يُسْجَر له تنورٌ بحطبِ الزيتون، حتى يمتلىء جمراً، ثم يُكسَحَ ما فيه، ويُحشى بالرُّطبة، ويقعد فيه ثلاث ساعات، فإن طَلَبَ ماءً لم يُسْقَ، ثم يخرجُ، فإنه يَجِدُ وَجَعَاً شديداً، ولا يُعَادُ إلى التنور إلاَّ بعد ساعتين، فإنه يجري ذلك الماء، ويخرُجُ من مخارج البول، وإن هو سُقِيَ أو رُدَّ إلى التنور، تَلِفَ. فسُجِرَ له التنور، ثم أُخرج الجمرُ، وجُعِلَ على ظهر التنور، ثم ¬
حُشِيَ بالرُّطبة. فعُرِّيَ الواثق، وأُجْلِسَ فيه، فصاح، وقال: أحرقتموني، اسقُوني ماءً، فمُنِعَ (¬1)، فتنفَّط (¬2) بدنُه كلُّه، وصارَ نُفاخاتٍ (¬3) كالبِطِّيخ، ثم أُخرج وقد كاد أن يحترق، فأجلسه الأطباء فلمَّا شَمَّ الهواء اشتدَّ به الألم، فأقبل يصيحُ ويخورُ كالثور، ويقول: ردُّوني إلى التنور، واجتمع نساؤه وخواصُّه، وردوه إلى التنور، وَرَجَوْا له الفَرَجَ. فلما حَمِيَ، سكن صياحُه، وتفطَّرَت تلك النفاخات (¬4) وأُخرج وقد احترق واسوَدَّ، وقضى بعد ساعة. قلت: راويها لا أعرفه. وعن جرير بن أحمد بن أبي دواد، قال: قال أبي: ما رأيتُ أحداً أشدَّ قلباً من هذا، يعني: أحمد بن حنبل، جعلنا نكلمه، وجعل (¬5) الخليفة يكلمه، يسميه مرة ويكنيه أخرى (¬6)، وهو يقول: يا أمير المؤمنين، أوجدني شيئاً من (¬7) كتاب الله أو سنة رسوله حتى أُجيبَك إليه. أبو يعقوب القرَّاب: أخبرنا أبو بكر بن أبي الفضل، أخبرنا محمد بن إبراهيم الصَّرَّام، حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدَّثني الحسن بن عبد العزيز الجَرَوي، قال: دخلتُ أنا والحارث بن مسكين على أحمد (¬8) حِدْثَانَ ضَرْبِه، فقال لنا: ضُرِبْتُ فسقطتُ، وسمعتُ ذاك - ¬
يعني: ابن أبي دُوَاد- يقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضالٌّ مُضِلٌّ. فقال له الحارت: أخبرني يوسف بن عمر، عن مالك، أن الزهري سُعِيَ به حتى ضُرٍبَ بالسياط، وقيل: عُلِّقَتْ كتُبُه في عُنُقِه. ثم قال مالك: وقد ضُرِبَ سعيد بن المسيب، وحُلِقَ رأسُه ولحيتُه، وضُرب أبو الزناد (¬1)، وضُرِبَ محمد بن المنكدر، وأصحابٌ له في حمَّام بالسياط. وما ذكر مالكٌ نفسه، فأُعجب أحمد بقول الحارث. قال مكيُّ بن عبدان: ضَرَبَ جعفرُ بن سليمان مالكاً تسعين سوطاً سنة سبع وأربعين ومئة. البيهقي: أخبرنا الحاكم، حدثنا حسان بن محمد الفقيه، سمعت إبراهيم بن أبي طالب، يقول: دخلت على أحمد بن حنبل بعد المحنة غير مرة، وذاكرته (¬2) رجاء أن آخذ عنه حديثاً، إلى أن قلت: يا أبا عبد الله، حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " امرُؤُ القيس قائدُ الشعراء إلى النار " (¬3). فقال: قيل: عن الزُّهريِّ، عن أبي سلمة، فقلتُ: مَنْ عن الزهري؟ قال: أبو الجهم، فقلت: من رواه عن أبي الجهم؟ فسكت، فلما عاودتُه فيه، قال: اللهُمَّ سلِّم. ¬
قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي، أخبرنا الفضل بن زياد، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شَفَا هَلَكَةٍ. أبو مسلم محمد بن إسماعيل: أخبرنا صالح بن أحمد، قال: مضيت مع أبي يوم جُمعةٍ إلى مسجد الجامع، فوافَقَنا الناسَ قد انصرفوا، فدخل إلى المسجد (¬1)، فتقدَّم أبي فصلَّى بنا الظهر أربعاً، وقال: قد فَعَلَه ابنُ مسعود بعَلقمة والأسود (¬2)، وكان أبي (¬3) إذا دَخَلَ مقبرةً، خَلَعَ نعليه، وأمسكَهما بيده. إبراهيم بن محمد بن سفيان: سمعت عاصم بن عصام البيهقي، يقول: بِتُّ ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بماءٍ فوضَعَه، فلمَّا أصبح، نظر إلى الماء بحالِه، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له وِردٌ بالليل. الطبراني: أنشدنا محمد بن موسى بن حماد لمحمدِ بن عبد الله بن طاهر: أضحى ابنُ حنبل مِحْنَةً مَرضِيَّةً ... وَبِحُبِّ أحمدَ يُعْرَفُ المُتَنَسِّكُ وإذا رأيتَ لأحمدٍ مُتَنَقِّصاً ... فاعلم بأنَّ سُتُورَه سَتُهَتَّكُ أحمد بن مروان الدِّينَوَرِيُّ: حدثنا إدريس الحداد، قال: كان ¬
أحمدُ بن حنبل إذا ضاق به الأمرُ، أجَّرَ نفسه من الحاكة، فسوَّى لهم، فلمَّا كان أيام المحنة، وصُرِفَ إلى بيته، حُمِلَ إليه مالٌ، فردَّه وهو محتاجٌ إلى رغيف، فجَعَلَ عمُّه إسحاق يحسُبُ ما ردَّ، فإذا هو نحو من خمسِ مئةِ ألف. قال: فقال: يا عمّ، لو طلبناه لم يأتِنا، وإنَّما أتانا لما تركناه. البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظُ، حدِّثنا الزُّبيرُ بن عبد الواحد الحافظ، حدثنا إبراهيم بن عبد الواحد البَلَدي، سمعتُ جعفر بن محمد الطيالسي، يقول: صلَّى أحمدُ بن حنبل ويحيى بنُ معين في مسجد الرُّصافة، فقام قاصٌّ، فقال: حدثنا أحمدُ بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قال: لا إله إلاَّ الله، خلق الله من كل كلمة طيراً، منقارُه من ذهبٍ، وريشُه من مرجان ". وأخذ في قصةٍ نحواً من عشرين ورقة (¬1)، وجَعَلَ أحمدُ ينظرُ إلى يحيى، ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته بهذا؟ فيقول: والله ما سمعت به إلاَّ الساعة، فسكتا حتى فَرَغَ، وأخذَ قِطاعه، فقال له يحيى بيده: أن تعال. فجاء مُتَوَهِّماً لنوالٍ. فقال: من حدثك بهذا؟ فقال: أحمد وابن معين، فقال: أنا يحيى، وهذا أحمد، ما سمعنا بهذا قطُّ، فإن كان ولا بُدَّ ¬
والكذب، فعلى غيرنا، فقال: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمعُ أن يحيى بن معين أحمق، ما علمت إلاَّ الساعة، كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل غيركما!! كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين غيركما. فوضع أحمدُ كُمَّه على وجهه، وقال: دَعْه يقومُ، فقامَ كالمستهزىء بهما. هذه الحكاية اشتهرت على ألسنةِ الجماعة، وهي باطلةٌ. أظن البَلَدِي وَضَعَها، ويعرف بالمعصوب. رواها عنه أبو حاتم بن حبان (¬1) فارتفعت عنه الجهالة (¬2). ذكر المَرُّوذيُّ عن أحمد، أنه بقى بسَامَرَّاء ثمانية أيام، لم يشرب إلاَّ أقل من ربع سَويقٍ. أحمد بن بندار الشعار: حدثنا أبو يحيى بن الرازي، سمعت علي بن سعيد الرازي، قال: صِرنا مع أحمد إلى باب المتوكل، فلما أدخلوه من باب الخاصة، قال: انصرِفُوا، عافاكم الله. فما مَرِضَ منا أحدٌ بعد ذلك اليوم. الكُدَيمي: حدثنا علي بن المديني، قال لي أحمد بن حنبل: إنِّي لأشتهي أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعُني إلاَّ خوفُ أن أمَلَّكَ وتَمَلَّني. فلمَّا ودعته، قلت: أوصِني، قال: اجعلِ التقوى زادك، وانصِب الآخرة أمامك. ¬
قال أبو حاتم: أول ما لقيت أحمد بن حنبل سنة ثلاث عشرة ومئتين، فإذا قد أخرج معه إلى الصلاة " كتاب الأشربة " (¬1)، و" كتاب الإيمان " (¬2) فصلى، ولم يسأله أحد، فرده إلى بيته. وأتيتُه يوماً آخر، فإذا قد أخرج الكتابين، فظننت أنه يحتسب في إخراج ذلك، لأن كتاب الإيمان أصل الدين، وكتاب الأشربة صرفُ الناس عن الشِّرِّ، فإن كل شرٍّ من السُّكر. الدارقطني: حدثنا جعفر الخُلْديُّ (¬3)، حدِّثنا العباس بن يوسف، حدَّثني عمي محمد بن إسماعيل بن العلاء، حدثني أبي، قال: دعاني رزق الله بن الكَلْوَذَاني، فقدَّم إلينا طعاماً كثيراً، وفينا أحمد، وابن معين، وأبو خيثمة فَقُدِّمَتْ لوزينج أنفق عليها ثمانين درهماً. فقال أبو خيثمة: هذا إسرافٌ فقال أحمد بن حنبل: لو أن الدنيا في مقدار لُقمة، ثم أخذها مسلم، فوضعها في فم أخيه، لما كان مُسرفاً. فقال له يحيى: صدقت. وهذه حكاية منكرة. الخلال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: رأيت كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدثين، وبني هاشم وقريش والأنصار، يُقّبِّلون أبي، بعضُهم يدَه، وبعضُهم رأسه، ويُعظِّمونه تعظيماً لم أرَهُم يفعلون ذلك بأحدٍ من الفقهاء غيره، ولم أرَهُ يشتهي ذلك، ورأيتُ الهيثم بن ¬
خارجة، والقواريري، وأبا معمر، وعلي بن المديني، وبشاراً (¬1) الخفاف، وعبد الله بن عون الخرَّاز، وابن أبي الشوارب، وإبراهيم الهروي، ومحمد بن بكار، ويحين بن أيوب، وسريج (¬2) بن يونس، وأبا خيثمة، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبة، وعبد الأعلى النرسي، وخلف بن هشام، وجماعةٌ لا أُحصيهم، يُعظِّمونه ويُوقِّرونه. الخلال: أخبرنا المَرُّوذيُّ، سمعت عبد الوهَّاب الورَّاق، يقول: أبو عبد الله إمامنا، وهو من الراسخين في العلم، إذا وقفتُ غداً بين يدي الله، فسألَني بمن اقتديت، أيَّ شيءٍ أقولُ؟ وأيُّ شيءٍ ذهبَ على أبي عبد الله من أمر الإسلام؟! قال صالحُ بن علي الحلبي: سمعت أبا همَّام، يقول: ما رأي أحمدُ مثل نفسه. قال الخلال: بُلينا بقومٍ جُهَّالٍ، يظنون أنهم علماء (¬3)، فإذا ذكرنا فضائل أبي عبد الله، يُخرِجُهم الحسد، إلى أن قال بعضُهم فيما أخبرني ثقة عنه: أحمد بن حنبل نبيُّهم. قال الخلال: أخبرنا المروذي، سمعت أبا عبد الله، يقول: الخوف منعني أكل الطعام والشراب، فما اشتهيته، وما أبالي أن لا يراني أحدٌ ولا أراه، وإني لأشتهي أن أرى عبد الوهَّاب. قل لعبد الوهاب: أخمِلْ ذكرَك، فإني قد بُليتُ بالشهرة. ¬
الخلال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يزيد الوراق، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما شَبَّهْتُ الشباب إلاَّ بشيءٍ كان في كُمِّي فسقط. قال إسحاق بن هانىء: مات أبو عبد الله، وما خلَّف إلاَّ ستَّ قطعٍ في خِرقةٍ قدر دانقين. وقال عبد الله: سمعت أبي، يقول: ربما أردتُ البكورَ في الحديث، فتأخذُ أمى بثوبي، وتقول: حتى يؤذن المؤذن. وقال عباس الدوري: سمعت أحمد يقول: أول ما طلبت اختلفت إلى أبي يوسف القاضي. قال عبد الله: كتب أبي عن أبي يوسف ومحمدٍ الكتب، وكان يحفظُها، فقال لي مُهَنِّا: كنت أسأله فيقول: ليس ذا في كتبهم، فأرجع إليهم، فيقولون: صاحبك أعلمُ منا بالكتب. قال عبد الله: سمعت أبي يقول: رأيت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، وكان رجلاً صالحاً (¬1). وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: حدثتنا أمُّ عمر ابنة حسان عن أبيها، قال: دخلت المسجد، فإذا علي بن أبي طالب على المنبر، وهو يقول: إنما مثلي ومثل عثمان كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا ¬
ما في صُدورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (¬1) [الأعراف: 43] و [الحجر: 47]. الخلال: أخبرني أبو بكر بنُ صدقة، سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي، قال: أتيت أحمد بن حنبل أنا وعبد الله بن سعيد الجمال، وذاك في آخر سنة مئتين، فقال أبو عبد الله للجمال: يا أبا محمدٍ، إن أقواماً يسألوني (¬2) أن أُحَدِّث، فهل ترى ذلك؟ فسكت. فقلت: أنا أُجيبكُ. قال: تكلَّمْ. قلت (¬3): أرى لك إن كنت تشتهي أن تُحَدِّثَ، فلا تحدِّث، وإن كنت تشتهي أن لا تحدث فحدث، فكأنه استحسنه. عبد الله بن أحمد: سمعتُ نوح بن حبيب القُومَسي، يقول: رأيت أحمد بن حنبل في مسجد الخَيْفِ سنة ثمان وتسعين وابن عيينة حيٌّ، وهو يفتي فتوى واسعة، فسلَّمت عليه. قال عبد الله: سمعت أبي سنة سبع وثلاثين ومئتين (¬4)، يقول: قد استخرتُ الله أن لا أُحدِّث حديثاً على تمامه أبداً، ثم قال: إن الله يقول: {يأيُّها الذين آمنوا أَوْفُوا بالعُقُود} [المائدة: 1]، وإني أعاهد الله أن لا أحدث بحديث على تمامه أبداً، ثم قال: ولا لك، وإن كنت تشتهي، فقلت له بعد ذلك بأشهرٍ: أليس يُروى (¬5) عن شريك، عن ¬
يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، قال: " العهدُ يمينٌ " (¬1)؟ قال: نعم. ثم سكت فظننت أنه سيُكَفِّر. فلمَّا كان بعد أيام قلت له في ذلك، فلم ينشط للكفارة ثم لم أسمعه يُحدِّث بحديث على تمامه. قال المروذي: سمعت أبا عبد الله في العسكر، يقول لولده: قال الله تعالى: {أَوْفُوا بالعُقُود} [المائدة: 1] أتدرون ما العقودُ؟ إنَّما هو العهود وإنِّي أعاهد الله جلَّ وعزَّ، ثم قال: والله، والله، والله، وعليَّ عهد الله (¬2) وميثاقُه أن لا حدَّثتُ بحديثٍ لقريبٍ ولا لبعيد حديثاً تاماً، حتى ألقى الله، ثم التفت إلى ولده، وقال: وإن كان هذا يشتهي منه ما يشتهي، ثم بَلَغَه عن رجلٍ من الدولة وهو ابن أكثم، أنه قال: قد أردتُ أن يأمرَهُ الخليفة أن يُكَفِّرَ عن يمينه، ويحدث، فسمعت أبا عبد الله يقول لرجل من قبل صاحب الكلام: لو ضربت ظهري بالسياط، ما حدثت. الخلال: حدثنا محمد بن المنذر، حدثنا أحمد بن الحسن ¬
الترمذي، قال: رأيت أبا عبد الله يشتري الخبز من السوق، ويحمله في الزِّنْبِيلِ، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة، ويجعله في خِرْقَةٍ، فيحمله آخذاً بيدِ (¬1) عبد الله ابنه. الميموني: قال لي أبو عُبيد (¬2): يا أبا الحسن، قد جالست أبا يوسف ومحمداً، وأحسِبُه ذكر يحيى بن سعيد، ما هِبْتُ أحداً ما هِبتُ أحمدَ بن حنبل. قال عبد الله بن محمود بن الفرج: سمعتُ عبد الله بن أحمد، يقولُ: خرج أبي إلى طَرَسُوسَ، ورابط بها، وغزا، ثم قال أبي (¬3): رأيت العِلْمَ بها يموتُ. وعن أحمد، أنه قال لرجلٍ: عليك بالثَّغْر، عليك بقَزوين، وكانت (¬4) ثَغْراً. الخلال: حدثنا (¬5) المَرُّوذيُّ: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجلٌ: من هنا إلى بلاد الترك يدعون (¬6) لك، فكيف تؤدِّي شكر ما أنعم الله عليك، وما بثَّ لك في الناس؟ قال: اسأل الله أن لا يجعلنا مُرائين. أخبرنا المسلم بن علاَّن (¬7) وغيره كتابةً أنَّ أبا اليُمن الكندي ¬
أخبرهم، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر الخطيب، حدثنا محمد بن الفرج البزاز (¬1)، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدثنا (¬2) جعفر بن شعيب الشاشي، حدثني محمد بن يوسف الشاشي، حدثهم إبراهيم بن أمية، سمعت طاهر بن خلف، سمعت المهتدي بالله محمد بن الواثق، يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً، أحضرنا، فأتي بشيخٍ مخضوبٍ مُقَيَّدٍ، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه، يعني (¬3): ابن أبي دُوَاد، قال: فأُدخِل الشيخ، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلم الله عليك، فقال: يا أمير المؤمنين: بئس ما أدَّبك مُؤدِّبوك، فإن الله تعالى يقول: {وإذا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بأحسَنَ منها أَوْ رُدُّوها} [النساء: 86]. فقال ابن أبي دواد: الرجل متكلم. قال له: كلمه، فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال: لم يُنصفني (¬4)، ولي السؤال قال: سَلْ، قال: ما تقول في القرآن؟ [قال: مخلوق] (¬5)، قال الشيخ: هذا شيءٌ عَلِمَه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر، ¬
والخلفاء الراشدون، أم شيءٌ لم يعلموه (¬1)؟ قال: شيء لم يعلموه (¬2). فقال: سبحان الله! شىء لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، علمتَه أنت؟ فخَجِلَ. فقال: أَقِلْني، قال: المسألة بحالها. قال: نعم عَلِمُوه، قال: علموه (¬3)، ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم. قال: أفلا (¬4) وسعك ما وَسِعَهم؟ قال: فقام أبي، فدخل مجلسنا (¬5)، واستلقى، وهو يقول: شيءٌ لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت! سبحان الله! شيء علموه، ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! (¬6) ثم أمر برفع قيوده، وأن يُعطى أربع مئة دينار، ويُؤذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دواد ولم يمتحن بعدها أحداً. هذه قصة مليحة، وإن كان في طريقها من يُجهل ولها شاهد. وبإسنادنا إلى الخطيب: أخبرنا ابنُ رزقويه، أخبرنا أحمد بن سندي الحداد، حدثنا أحمد بن الممتنع، أخبرنا صالح بن علي الهاشمي، قال: حضرت المهتدي بالله، وجلس لينظر في أمور المظلومين - إلى قوله: قال -يعني المهتدي-: ما زلتُ أقول: إن القرآن مخلوقٌ صدراً من أيام الواثق، وساق نحواً من القصة المتقدمة. قال الذهبي: كان صغيراً زمن الواثق، والحكاية فمنكرة. ¬
عن الحسين بن إسماعيل، عن أبيه، قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء (¬1) خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت. ابن بطة: سمع النَّجاد، يقول: سمعت أبا بكر بن (¬2) المطوعي، يقول: اختلفتُ إلى أبي عبد الله، ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ " المسند " على أولاده، فما كتبت عنه حديثاً واحداً، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه. قال حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسي: يقال: لم يكن أحدٌ من الصحابة أشبه هدياً وسمتاً ودلاً من ابن مسعود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وكان أشبه الناس به علقمة، وكان أشبه الناس بعلقمة إبراهيم، وكان أشبههم بإبراهيم منصور بن المعتمر، وأشبه الناس به سفيان الثوري، وأشبه الناس به وكيع، وأشبه الناس بوكيع فيما قاله محمد بن يونس الجمال: أحمد بن حنبل. الخلال: أخبرني محمد بن الحسين، أخبرنا المروذي، قال: قال جارنا فلان: دخلت على الأمير فلان وفلان، ذكر سلاطين، ما رأيت ¬
أهيب من أحمد بن حنبل، صِرْتُ إليه أكلمه في شيء، فوقعت علي (¬1) الرِّعْدَة من هيبته. ثم قال المروذي (¬2): ولقد طرقه الكلبي -صاحب خبر السر- ليلاً. فمن هيبته لم يقرعُوا بابه، ودقوا باب عمِّه. عبد الله بن محمد الورَّاق: كنت في مجلس أحمد بن حنبل، فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس أبي كُرَيْبٍ، فقال: اكتبوا عنه، فإنه شيخ صالح، فقلنا: إنه يطعن عليك. قال: فأي شيء حيلتي، شيخٌ صالح قد بُلِيَ بي. ابن المنادي، عن جدِّه أبي جعفر، قال: كان أحمد من أحيى الناس، وأكرمهم، وأحسنهم عشرةً وأدباً، كثير الإطراق، لا يُسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقارٍ وسُكونٍ، ولفظ حسن. وإذا لقيه إنسان، بشَّ به، وأقبل عليه. وكان يتواضع للشيوخ شديداً، وكانوا يعظمونه، وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم أره يعمل لغيره من التواضع والتكريم والتبجيل، كان يحيى أكبر منه بسبع سنين. وقالب الميموني: كان أبو عبد الله حسن الخُلُق، دائم البِشْرِ، يحتمل الأذى من الجار. علوان بن الحسين: سمعت عبد الله بن أحمد، قال: سُئِلَ أبي: لم لا تصحب الناس؟ قال: لِوحشة الفراق. ابن بطة: حدثنا محمد بن أيوب (¬3)، حدثنا إبراهيم الحربي، ¬
سمعت أحمد بن حنبل، يقول لأحمد الوكيعي: يا أبا عبد الرحمن: إئي لأحبك، حدثنا (¬1) يحيى، عن ثور، عن حبيب بن عبيد، عن المقدام، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أحب أحدُكم أخاه، فليُعْلِمْهُ " (¬2). فصل: قال ابن الجوزي: خلَّف له أبوه طرزاً وداراً يسكنُها (¬3)، فكان يكري تلك الطرز، ويتعفَّفُ بها. قال ابن المنادي: حدثنا جدي، قال لي أحمد بن حنبل: أنا أذرَعُ هذه الدار، وأُخرجُ الزكاة عنها في كُلِّ سنةٍ. أذهبُ إلى قول عمر في أرض السواد (¬4). قال المرُّوذي: سمعت أبا عبد الله، يقول: الغلَّة ما يكون قوتنا، وإنما أذهب فيه إلى أن لنا فيه شيئاً، فقلت له: قال رجل: لو ترك أبو عبد الله الغلة، وكان يصنع له صديق له، كان أعجب إلي. فقال: هذه طعمة سوءٍ، ومن تعوَّد هذا، لم يصبر عنه. ثم قال: هذا أعجب إلي من غيره، يعني: الغلة. وأنت تعلم أنها لا تُقيمنا، وإنما أخذها على الاضطرار. ¬
قال ابن الجوزي: ربما احتاج أحمد، فخرج إلى اللِّقاط (¬1). قال الخلال: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا المروذي، حدثني أبو جعفر الطرسوسي (¬2)، حدثني الذي نزل عليه أبو عبد الله، قال: لما نزل علي، خرج إلى اللِّقاط، فجاء وقد لَقَطَ شيئاً يسيراً. فقلت له: قد أكلت أكثر مما لقطت، فقال: رأيت أمراً استحييت منه، رأيتهم يلتقطون، فيقوم الرجل على أربعٍ، وكنت أزحف. أحمد بن محمد بن عبد الخالق: حدثنا المروذي، قال أبو عبد الله: خرجت إلى الثَّغْرِ على قدمي، فالتقطت، لو قد رأيت قوماً يُفسِدُون مزارع الناس، قال: وكنا نخرج إلى اللقاط. قلت: وربما نسخ بأجرةٍ، وربما عمل التِّكَكَ، وأجَّر نفسه لجمال. رحمة الله عليه. فصل: قال إبراهيم الحربي: سُئل أحمد عن المسلم يقول للنصراني: أكرمَكَ الله. قال: نعم، ينوي بها الإسلام. وقيل: سئل أحمد عن رجلٍ نذر أن يطوف على أربع، فقال: يطوف طوافين، ولا يطُف على أربعٍ. قال ابن عقيل: من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهَّال، أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحدَّثٌ. قال: وهذا غاية ¬
حكاية موضوعة
الجهل، لأنه له اختياراتٌ بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم، وربما زاد على كبارهم. قلت: ما أحسِبُهم يظنُّونه مُحدِّثاً وبس (¬1)، بل يتخيَّلُونه من بابة محدثي زماننا، ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رُتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، وفي الزهد والورع رتبة الفضيل، وإبراهيم بن أدهم، وفي الحفظ رُتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني، ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟!!. حكاية موضوعة: لم يستح (¬2) ابن الجوزي من إيرادها، فقال: أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا ابن الطيوري (¬3)، أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسين، أخبرنا القاضي همام بن محمد الأُبُلِّي، أخبرنا أحمد بن علي بن حسين بن الخطيب، حدثنا الحسين بن بكر الوراق، أخبرنا أبو الطيب محمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: لمَّا أُطلِقَ أبي من المحنة، خشي أن يجيء إليه إسحاق بن راهويه، فرحل إليه. فلما بلغ الرَّيَّ، دخل مسجداً، فجاء مطرٌ كأفواه القِرَبِ. فقالوا له: اخرُج من المسجد لنغلقه، فأبى، فقالوا: اخرُجْ أو تُجَرَّ برجلك، فقلت: سلاماً، فخرجت، والمطر والرعد، ولا أدري أين (¬4) أضع رجلي، فإذا رجل قد خرج من داره، فقال: يا هذا: أين تمر؟ فقلت: لا أدري. قال: فأدخلني إلى ¬
بيتٍ فيه كانونُ فحم ولُبُود (¬1) ومائدة، فأكلتُ. فقال: من أين أنت؟ قلت: من بغداد، فقال: تعرف أحمد بن حنبل؟ فقلت: أنا هو، فقال: وأنا إسحاق بن راهويه. إنما قال الذهبي: إنها موضوعة، لأن أحمد، وإسحاق صديقان يتعارفان من قبل المحنة، وهذا أمرٌ لا يخفى على مثل (¬2) ابن الجوزي، فلعلَّه سها وما تأمل والله أعلم. قال الذهبي: سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت أبا زُرعة، يقول: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبي نصر التَّمار، ولا يحيى بن معين، ولا أحدٍ (¬3) ممن امتُحِنَ فأجاب. أبو عوانة: سمعتُ الميموني، يقول: صحَّ عندي أن أحمد لم يحضُر أبا نصرٍ التَّمار لمَّا مات. فحسبتُ أن ذلك لإجابته في المحنة. وعن حجاج بن الشاعر، سمع أحمد يقول: لو حدثت عن أحدٍ ممن أجاب، لحدثت عن أبي معمرٍ وأبي كُريب (¬4). قلت: لأن أبا معمر الهذلي نَدِمَ، ومقت نفسه، والآخر أجْرَوْا له دينارين بعد الإجابة، فردهما مع فقره. أحمد بن علي الأبَّار: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، سمعت ¬
بشر بن الحارث، يقول: وددت أن رؤوسهم خُضِبَت بدمائهم، وأنهم لم يُجيبوا. نقل أبو علي بن البناء، عن شيخٍ (¬1)، عن آخر، أن هذه الأبيات لأحمد في علي بن المديني: يا ابن المديني الذي عُرِضت له ... دنيا فجاد بدينه ليَنَالَهَا ماذا دَعَاكَ إلى انتحال مقالةٍ ... قد كنتَ تزعُمُ كافراً مَنْ قالَها أمرٌ بَدَا لك رُشْدُهُ فَتَبِعْتَهُ ... أم زهرةُ الدنيا أردتَ نَوالَهَا ولقد عَهِدْتُكَ مرَّةً مُتشدداً ... صعب المقالةِ للتي تُدْعَى لها إنَّ المُرَزَّى من يُصابُ بدينِه ... لا من يُرَزَّى ناقةً وفِصَالَها (¬2) قال الذهبي في ترجمة ابن المديني: قيل ليحيى بن معين. ارتدَّ ابنُ المديني؟ فقال: ما ارتدَّ ولكن خاف، فقال: انتهى (¬3). قال الذهبي: قال صالح: قال لى أبي: كانت أُمُّك تغزل غزلاً دقيقاً، فتبيع الأستار (¬4) بدرهمين أو نحوها، وكان ذلك قوتنا. قال صالح: كنَّا ربما اشترينا الشيء، فنستُرُه منه لئلاَّ يُوَبِّخَنا عليه. الخلال: أخبرنا المروذي، قال: رأيت أحمد بن عيسى المصري ومعه قوم (¬5) من المحدثين، دخلوا على أبي عبد الله بالعسكر، فقال له ¬
أحمد: يا أبا عبد الله، ما هذا الغم؟ الإسلام حنيفية سمحة، وبيتٌ واسع. فنظر إليهم، وكان مُضطجعاً، فلمَّا خرجوا، قال: ما أريدُ أن يدخل عليَّ هؤلاء. الخلال: أخبرنا محمد بن علي السِّمسَار، حدَّثني إسحاق بن هانىء، قال لي أبو عبد الله: بكِّر حتى نُعارِضَ بشيءٍ من الزُّهد. فبكَّرتُ إليه، وقلت لأم ولده: أعطيني حصيراً ومِخَدة، وبسطتُ في الدِّهليز، فخرج ومعه الكتب والمِحْبَرة، فقال: ما هذا؟! فقلت: لتجلس عليه، فقال: ارفعه، الزهد لا يحسن إلاَّ بالزهد. فرفعته، وجلس على التراب. وقال الميموني: كان منزل أبي عبد الله ضيقاً صغيراً، وينام في الحرِّ في أسفله. وقال لي عمُّه: ربما قلت له تنام فوق، فلا يفعل. وقد رأيت موضع مضجعه وفيه شاذكونة (¬1) وبرذعة (¬2)، قد غلب عليها الوسخ، وقيل: كان على بابه مِسْحٌ من شعر. الخلال: حدثنا المروذي، عن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري، قال لي الأمير: إذا حلَّ إفطارُ أبي عبد الله، فأرنيه. قال: فجاؤوا برغيفين: خبز وخُبَّازة، فأريته الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يُعِفُّه. قال المروذي: قال أبو عبد الله في أيام عيدٍ: اشتروا لنا أمس ¬
باقِلَّى، فأيُّ شيءٍ كان به من الجودة، وسمعته يقول: وجدتُ البرد في أطرافي، ما أراه إلاَّ من إدامي الملح والخَلِّ. قال أحمد بن محمد بن مسروق. قال لي عبد الله بن أحمد: دخل عليَّ أبي يَعُودني في مرضي، فقلت: يا أبةِ، عندنا شيء مما كان يَبَرُّنا به المتوكل أفأحُجُّ منه؟ قال: نعم. قلت: فإذا كان هذا عندك هكذا، فلِمَ لا (¬1) تأخذُ منه؟ قال: ليس هو عندي حرام (¬2)، ولكن تنزَّهتُ عنه. رواه الخُلدِي (¬3) عنه. فصل: قال ابنُ الجوزي: كان الإمام لا يرى وضع الكتب، ويَنْهَى عن كتبة كلامه ومسائله. ولو رأي ذلك، لكانت له تصانيفُ كثيرةٌ، وصنَّف " المسند " وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا " المسند "، فإنه سيكون للناس إماماً (¬4). " والتفسير " وهو مئةٌ ¬
وعشرون ألفاً، و" الناسخ والمنسوخ "، و" التاريخ "، و" حديث شعبة "، و" المقدَّم والمؤخر في القرآن "، و" جوابات القرآن "، و" المناسك " الكبير والصغير، وأشياء أُخَرَ. قلت: وكتاب " الإيمان "، وكتاب " الأشربة "، ورأيتُ له ورقةً من كتاب " الفرائض ". فتفسيره المذكور شيءٌ لا وجود له. ولو وُجِدَ، لاجتهد الفضلاء في تحصيله، ولاشتهر، ثم لو ألَّف تفسيراً، لما كان يكون أزيدَ من عشرة آلاف أثر، ولاقتضى أن يكون في خمس مجلدات. فهذا تفسير ابن جرير الذي جَمَعَ فيه فأوعى لا يبلُغُ عشرين ألفاً. وما ذكر تفسير أحمد أحدٌ (¬1) سوى أبي الحسين بن المنادي. فقال في " تاريخه ": لم يكن أحدٌ أروى في الدنيا عن أبيه من عبد الله بن أحمد، لأنه سَمِعَ منه " المسند " وهو ثلاثون ألفاً، و" التفسير " وهو مئةٌ وعشرون ألفاً، سَمِعَ ثلثيه والباقي وِجادة (¬2). ¬
ابن السَّمَّاك: حدثنا حنبل، قال: جمعنا أحمد بن حنبل، أنا وصالح وعبد الله، وقرأنا عليه " المسند " ما سمعه غيرُنا. وقال: هذا الكتاب: جمعته وانتقيته من أكثر (¬1) من سبع مئة ألفٍ وخمسين ألفاً (¬2)، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلاَّ فليس بحجة. قلت: في " الصحيحين " أحاديث قليلة، ليست في " المسند "، لكن قد يقال: لا تَرِدُ على قوله، فإنَّ المسلمين ما اختلفوا فيها (¬3)، ثم ما يلزم من هذا القول: أن ما يوجد فيه يكون حجةً، ففيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسُوغُ نقلُها، ولا يجب الاحتجاج بها. وفيه أحاديثُ معدودة شِبْهُ موضوعة ولكنها قطرةٌ في بحر (¬4). وفي (¬5) غضون " المسند " زيادات جمّة لعبد الله بن أحمد. قال ابن الجوزي: وله -يعني: أبا عبد الله- من المصنفات كتاب " نفي التشبيه " مجلدة، وكتاب " الإمامة " مجلدة صغيرة، وكتاب ¬
" الرد على الزنادقة " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الزهد " (¬1) مجلد كبير (¬2)، وكتاب " الرسالة في الصلاة " -قلت: هو موضوعٌ على الإمام- قال: وكتاب " فضائل الصحابة " (¬3) مجلدة. قلت: وفيه زياداتٌ لابنه عبد الله، ولأبي بكرٍ القطيعي صاحبه. وقد دوَّن عنه كبار تلامذته مسائل وافرةً في عدة مجلدات، كالمَرُّوذي، والأثرم، وحرْب، وابن هانىء (¬4)، والكوسج، وأبي طالب، وفُوران، وبدرٍ المغازلي، وأبي يحيى الناقد، ويوسف بن محمد الحربي، وعبدوس العطار، ومحمد بن موسى بن مُشَيش (¬5)، ويعقوب بن بُختان، ومُهَنَّا الشامي، وصالح بن أحمد، وأخيه (¬6)، وابن عمهما حنبل، وأبي الحارب أحمد بن محمد الصائغ، والفضل بن زياد، وأبي الحسن الميموني، والحسن بن ثواب، وأبي داود السِّجستاني (¬7)، وهارون الحمال، والقاضي أحمد بن محمد البِرْتي، وأيوب بن إسحاق بن (¬8) سافري، وهارون المستملي، وبِشْرِ بن موسى، وأحمد بن ¬
القاسم صاحب أبي عُبيد، ويعقوبَ بنِ العباس الهاشمي، وحُبَيْش بن سِندي، وأبي الصقر يحيى بن يزداد الورَّاق، وأبي جعفر محمدِ بن يحيى الكَحَّال، ومحمد بن حبيب البَرَّاز، ومحمد بن موسى النَّهْرُتيري، ومحمد بن أحمد بن واصل المقرىء، وأحمد بن أصرم المُزَني، وعبدوس الحربي قديمٌ، عنده عن أحمد نحوٌ من عشرة آلاف مسألةٍ لم يُحَدِّث بها، وإبراهيم الحربي، وأبي جعفر محمد بن الحسين بن هارون بن بَدِينا، وجعفر بن محمد بن الهُذيل الكوفي، وكان يُشبهونه في الجلالة بمحمد بن عبد الله بن نمير، وأبي شيبة إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله مُطيَّن (¬1)، وجعفر بن أحمد (¬2) الواسطي، والحسن بن علي الإسكافي، والحسن بن علي بن بحر بن برِّي القطَّان، والحُسين بن إسحاق التُّسْتَري، والحسن بن محمد بن الحارث السِّجِسْتَاني، قال الخلاَّلُ: يقرُبُ من أبي داود في المعرفة وبصر الحديث والتفقه - وإسماعيل بن عمر السِّجزي (¬3) الحافظ، وأحمد بن الفُرات الرازي الحافظ. وخلقٍ سوى هؤلاء، سماهم الخلال في أصحاب أبي عبد الله نَقَلُوا المسائل الكثيرة والقليلة. وجمع الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد، وفتاويه، وكلامه في العلل، والرجال، والسنة، والفروع، حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرةً. ورحل إلى النواحي في تحصيله، وكتب عن نحوٍ من مئةِ نفس من أصحاب الإمام. ثم كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب ¬
وصيته
أصحابه، وبعضه عن رجلٍ، عن آخر، عن آخر، عن الإمام أحمد، ثم أخذ في ترتيب ذلك، وتهذيبه، وتبويبه. وعَمِل كتاب " العلم "، وكتابَ " العلل " وكتاب " السنة "، كل واحدٍ من الثلاثة في ثلاث مجلدات. ويروي في غضون ذلك من الأحاديث العالية عنده، عن أقران أحمد من أصحاب ابن عُيينة ووكيعٍ (¬1) وبقية مما يشهدُ له بالإمامة والتقدم. وألَّف كتاب " الجامع " في بضعة عشر مجلدةً، أو أكثر. وقد قال: في كتاب " أخلاق أحمد بن حنبل " لم يكُن أحدٌ علمتُ عني بمسائل أبي عبد الله، ما عُنيتُ بها أنا إلاَّ رجلٌ بهَمْدَان، يقال له: متويه، واسمه محمد بن أبي عبد الله، جَمَعَ سبعين جُزءاً كباراً. أولادُه: الحسنُ والحسين ماتا صغيرين، ثم الحسنُ ومحمدٌ عاشا نحو الأربعين، وصالحٌ وعبدُ الله وأمُّ علي زينب. قال الخلاَّل: حدثنا (¬2) محمد بن علي بن بحر، قال: سمعت حُسْنَ أُمَّ ولد أبي عبد الله، تقول: لما ولدتُ حَسَناً، أعطى مولاتي (¬3) كرامةً درهماً، فقال: اشتري بهذا رأساً، فجاءت به، فأكلنا. فقال: يا حُسْنُ، ما أملِكُ غير هذا الدرهم. قالت: وكان إذا لم يكن عنده شيء، فَرِحَ يومَه. وصيتُه: عن المروذي سمعته يقول: وأشهدَ على وصيته: هذا ما أوصى به ¬
مرضه
أحمد بن محمد، أوصى أنه يشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وإنَّ محمداً عبده ورسوله. ورواها أيضاً ولده عبد الله كذلك. مرضه: قال عبد الله: سمعت أبي، يقول: استكملت سبعاً وسبعين سنة، ودخلتُ في ثمانٍ، فحُمَّ من ليلته، ومات اليوم العاشر. وقال صالح (¬1): صار الفتح (¬2) بن سهل إلى الباب (¬3) ليعوده فحجبتُه، وأتى ابنُ علي بن الجعد فحجبتُه، وكَثُرَ الناس. فقال: ما ترى؟ قلت: تأذنُ لهم، فيدعون لك. قال: أستخير الله، فجعل الناس يدخلون عليه أفواجاً، حتى تمتلىء الدار، وكثر الناس، وامتلأ الشارع، وأغلقنا باب الزقاق -إلى قوله- (¬4): وجعلَ يُحَرِّكُ لسانه، ولم يَئِنَّ إلاَّ في الليلة التي تُوفي فيها. ولم يزل يُصلي قائماً، أُمسِكُهُ فيركَعُ ويسجد، وأرفعه في ركوعه. واجتمعت عليه أوجاعُ الحصر، وغير ذلك، ولم يزل عقلُهُ ثابتاً. قال المَرُّوذي: مَرِضَ تسعة أيام، وكان ربما أذِنَ للناس، فيدخلون عليه أفواجاً، يُسلمون ويرُدُّ بيده، وتسامع الناسُ وكثروا، وسمع السلطان بكثرة الناس، فوَكَّل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطة وأصحاب ¬
الأخبار، ثم أغلق باب الزقاق، فكان الناس في الشوارع والمساجد، حتى تعطَّل بعضُ الباعة. وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه، ربما دخل من بعض الدور وطرز (¬1) الحاكة. ورُبَّما تَسَلَّق. وجاءه حاجب بن طاهرٍ، فقال: إن الأمير يُقرِئُك السلام، وهو يشتهي أن يراك. فقال: هذا مِمَّا أكرَهُ، وأميرُ المؤمنين قد أعفاني ممَّا أكرَهُ. وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه، وجَعَلُوا يبكون عليه (¬2). وجاء قومٌ من القضاة وغيرهم، فلم يُؤذَن لهم " ودخل عليه شيخ، فقال: اذكر وقوفك بين يديّ الله، فشَهِقَ أبو عبد الله، وسالت دموعُه. وأدخلت تحته الطَّسْتَ، فرأيت بولَه دماً عبيطاً. فقلت للطبيب، فقال: هذا رجلٌ قد فتَّت الحُزْنُ والغَمُّ جوفَه. واشتدَّت علتُه يوم الخميس ووَضَّأتُهُ، فقال: خلِّلْ بين (¬3) الأصابع، فلما كان ليلة (¬4) الجمعة، ثَقُلَ، وقُبِضَ صدر النهار. الخلال: أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، قال: أعطى بعضُ ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله، وهو في الحبس ثلاث شعرات، فقال: هذه من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يُجعل على كل عينٍ شعرةٌ، وشعرةٌ على لسانه. ففُعِل ذلك به عند موته. ¬
الخلال: حدثنا المَرُّوذي، قال: أُخْرِجَتِ الجنازة عند منصَرَفِ الناس من الجمعة. أحمد في " مسنده ": حدثنا أبو عامر، حدثنا هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ما مِن مسلمٍ يموتُ يومَ الجمعة إلاَّ وقاه الله فتنة القبر " (¬1). قال صالح بنُ أحمد: فُرِغَ من غَسلِه، وكفَّنَّاه، وحضر نحوُ مئةٍ من بني هاشمٍ، ونحنُ نكفنُه. وجعلوا يُقَبَِّلون جبهته حتى رفعناه على السرير. قال عبد الله: صلَّى على أبي محمد بن عبد الله بن طاهر، غلبنا على الصلاة عليه، وقد كُنَّا صلينا عليه نحن والهاشميون في الدار. ¬
قال صالح: ولم يعلم الناس بصلاة محمد بن عبد الله بن طاهر عليه، فلما كان في الغد عَلِمُوا، فجعلوا يجيئون، فيُصَلُّون على القبر. ومكث الناس ما شاء الله، يأتون، فيُصلُّون على القبر (¬1). الخلال: حدثنا محمد بن حصن، قال: بَلَغني أن أحمد بن حنبل لما مات، فوَصَلَ الخبرُ إلى " الشاش " سعى بعضهم إلى بعض، فقالوا: قوموا حتى نُصلِّي على أحمد بن حنبل كما صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، على النجاشي فَخَرَجُوا إلى المصلى فَصَلُّوا عليه. قال الخلالُ: سمعت عبد الوهَّاب الورَّاق، يقول: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا الإسلام مثله -يعني: من شهد الجنازة- حتى بلغنا أن الموضع مُسِحَ وحُزِرَ على الصحيح، فإذا هو نحوٌ من ألفِ ألفٍ وَحَزَرْنا على القبور نحواً من ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدُّروب، ينادون من أراد الوضوء. ثم روى الذهبي نحو هذا من سبع طرق. قال أبو بكرٍ البيهقيُّ: بلغني عن أبي القاسم البغويِّ أن ابن طاهرٍ أمر أن يُحزَرَ الخلقُ، فاتفقوا على سَبْعِ مئةِ ألف. قال صالح: ودخل عليه سوَّارٌ القاضي، فجَعَلَ يُبَشِّرُهُ ويخبرُه بالرُّخص، وذكر عن معتمر أن أباه، قال له عند موته: حدثني بالرخص. وفي جزء محمد بن عبد الله بن علم: الذي سمعناه، قال: سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: لما حَضَرَتْ أبي الوفاةُ، جلستُ عنده ¬
وبيدي الخِرقةُ لأفتقد (¬1) بها لحيته، فجعل يَغرَقُ، ثم يُفيقُ، ثم يفتحُ عينيه، ويقول بيده هكذا (¬2) لا بَعدُ لا بعد، ثلاث مرات. فلمَّا كان في الثالثة، قلت له: يا أبة، أيُّ شيء هذا الذي لَهِجْتَ به في هذا الوقت؟ فقال: يا بني، ما تدري؟ قلت: لا. قال: إبليس لعنه الله قائم، بحذائي، وهو عاضٌّ على أنامله، يقول: يا أحمد فُتَّني، وأنا أقول: لا بعد حتى أموت. فهذه حكاية غريبة، تفرَّد بها ابن عَلم، فالله أعلم. وقد أنبأنا الثقة، عن أبي المكارم التيمي، أخبرنا الحداد، أخبرنا أبو نُعيم، أخبرنا أبي، حدثنا (¬3) أحمد بن محمد بن عمر، قال: سُئِلَ عبد الله بن أحمد: هل عَقَلَ أبوك عند المعاينة؟ قال: نعم. كنا نُوَضِّئُه، فجعل يُشِيُر بيده، فقال لي صالح: أيُّ شيءٍ يقول؟ فقلت، هو ذا يقول: خلِّلوا أصابعي، فخلَّلْنا أصابعه ثم ترك (¬4) الإشارة، فمات من ساعته. وقال صالحٌ: جعل أبي يحرِّك لسانه إلى أن تُوفي. قال صالح: لم يحضُر أبي عند غَسلِه غريبٌ، فأردنا أن نُكفِّنَه، فغلبنا (¬5) عليه بنو هاشم، وجعلوا يبكون عليه، ويأتون بأولادهم فيُكبونهم عليه ويقبلونه. ¬
أقول: هذا دليلٌ على شدة موالاته لأهل البيت، وقيامه بحق القرابة، وقد وصفه بذلك الإمام المنصور بالله، فقال في " المجموع المنصوري " في الدعوة العامة إلى جَيْلان ودَيْلَمان ما لفظُه: وأما أحمد بن حنبل، فيكفيك في الاستقصاء عن أمره أنه ذُكِرَ له الحديث المُطَرَّقُ بعليِّ بن موسى بن جعفر، قال: أخبرني موسى العبد الصالح، عن أبيه جعفر (¬1) بن محمد الصادق، عن أبيه محمد بن علي باقر علم الأنبياء، عن أبيه عليِّ بن الحسين زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي (¬2) سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه علي بن أبي طالب سيد العرب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأوَّلين والآخرين، إنه قال: " الإيمان قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح ". فذكر هذا السند لأحمد بن حنبل، فقال: لو قُرِىءَ هذا على مجنونٍ لبرأ من جنونه (¬3). ¬
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: فهذا يكفيك عن التفتيش عن صحة ولاءه، وذكر موالاة بقية أئمة (¬1) الفقهاء الأربعة إلى آخر ما ذكره - فهذا عارضٌ ثم نعود إلى سيرته. قال الذهبي: أخبرنا إسحاق بن أبي بكر، أخبرنا ابن خليل، حدثنا اللبان، عن الحداد، أخبرنا أبو نعيم، سمعت ظفر بن أحمد، حدثني الحسين بن علي، حدثني أحمد بن الورَّاق، حدثني عبد الرحمن بن محمد (ح) وأخبرنا ابن الفراء، أخبرنا ابن قدامة، أخبرنا ابن خُضير، أخبرنا ابن يوسف، أخبرنا البرمكي، أخبرنا ابن مردك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثني أبو بكر محمد بن عباس المكي، سمعت الوركاني جار أحمد بن حنبل، قال: يوم مات أحمد أسلم (¬2) عشرون ألفاً. وفي رواية ظفر: عشرةُ آلاف من اليهود والنصارى والمجوس. هذه حكاية منكرة، تفرَّد بنقلها هذا المكي عن هذا الوركاني، ولا يعرف، وماذا بالوركاني المشهور محمد بن جعفر الذي مات قبل أحمد بن حنبل بثلاث عشرة سنة، وهو الذي قال فيه أبو زرعة: كان جاراً لأحمد بن حنبل. ثم العادة والعقل تُحيلُ وقوع مثل هذا. وهو إسلام ألوفٍ من الناس بموت وليٍّ لله (¬3)، ثم لا ينقُلُ ذلك إلاَّ مجهولٌ لا ¬
المنامات
يُعرف. فلو وقع ذلك، لاشتهر وتواتر لتوفُّر الهمم والدواعي على نقل مثله، بل لو أسلم لموته (¬1) مئة نفس، لقُضي من ذلك العَجَبُ. فما ظنُّك (¬2)؟!. المنامات: ذكر الذهبي مناماتٍ صالحةً رُؤيت لأحمد بعد موته في قدر أربعِ ورقات في نصف القطع، ثم قال: ولقد جمع ابن الجوزي فأوعى من المنامات في نحوٍ من ثلاثين ورقة، وأفرد ابن البناء جزءاً في ذلك، وليس أبو عبد الله ممن يحتاجُ تقرير ولايتِه إلى منامات، ولكنها جندٌ من جند الله تسُرُّ المؤمن ولا سيما إذا تواترت. المحنة (¬3): قال عمرو بن حكام، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ¬
ابن عباس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنعنَّ أحدكُم مخافة الناس أن يتكلم بحقِّ علمه ". تفرَّد به عمرو، وليس بحجة (¬1). وقال سليمان ابن بنت شُرَحبيل، حدثنا عيسى بن يونس، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنعنَّ أحدَكُم هيبةُ الناس أن يقول بالحقِّ إذا رآه أو سَمِعَهُ " (¬2). غريب فرد. ¬
وقال حماد بن سلمة، ومُعَلَّى بن زياد -وهذا لفظه-، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة أن رسول الله (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، قال: " أحبُّ الجهاد إلى الله كلمة حقٍّ تقال لإمامٍ جائرٍ " (¬2). إسحاق بن موسى الخطمي: حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن، حدثنا يعقوب بن محمد بن عبد القاري، عن أبيه، عن جده، أن عمر كتب إلى معاوية: أما بعد، فالزم الحق، يُنزِلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يُقضى إلاَّ بالحقِّ (¬3). وبإسنادٍ واهٍ إلى أبي ذر: أبى الحقُّ أن يترُك لي صديقاً. الصدع بالحق عظيمٌ يحتاج إلى قوةٍ وإخلاص، فالمخلص بلا قوةٍ يعجِزُ عن القيام به، والقويُّ بلا إخلاص يُخذَل، فمن قام بهما كاملاً، فهو صِدِّيقٌ، ومن ضعُف، فلا أقلَّ من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمانٌ، ولا قوةٌ إلاَّ بالله. سفيان الثوري: عن الحسن بن عمرو، عن محمد بن مسلم مولى ¬
حكيم بن حزام، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رأيتُم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم " (¬1). هكذا رواه جماعة عن سفيان. ورواه النضر بن إسماعيل، عن الحسن، فقال: عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً. ورواه سيف بن هارون، عن الحسن، فقال: عن أبي الزبير: سمعت عبد الله بن عمرو (¬2) مرفوعاً. سفيان الثوري: عن زُبَيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه ¬
أن يرى أمراً لله فيه مقالٌ، فلا يقول فيه، فيقال له: ما منعك؟ فيقول: مخافة الناس، فيقول: فإيَّايَ كنت أحقَّ أن تخاف" (¬1). رواه الفريابي، وأبو نُعيم، وخلاَّد عنه. حماد بن زيد: عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمَّة المُضِلُّون، وإذا وُضِعَ السيف عليهم، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة، ولا تزال طائفةٌ من أمتى على الحق ظاهرين، لا يضُرُّهُم من خالفهم أو خَذَلَهم حتى يأتي أمر الله " (¬2). ¬
الحُسين بن موسى: حدثنا الحسين بن الفضل البَجَلي، حدثنا عبد العزيز بن يحيى المكي، حدثنا سليم بن مسلم (¬1)، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لله عند إحداث كلِّ بدعة تَكيدُ الإسلام وليٌّ يذُبُّ (¬2) عن دينه " الحديث. هدا موضوعٌ، ما رواه ابن جريج. كان الناس أمةً واحدة، ودينهم قائماً في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد قُفْلُ باب الفتنة عمرُ رضي الله عنه، وانكسرَ الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذُبحَ صبراً، وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين. فظهرت الخوارج، وكفَّرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب. وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر (¬3) المأمون الخليفة -وكان ¬
ذكيّاً متكلماً، له نظرٌ في المعقول- فاستجلب كُتُب الأوائل، وعرَّب (¬1) حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبَّ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها. وآل به الحال إلى حَمْلِ الأمة على القول بخلقِ القرآن، وامتحن العلماء، فلم يُمهَلُ، وهلك لعامه، وخلَّى بعده شرّاً وبلاءً في الدين. فإن الأمة ما زالت على أنَّ القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله (¬2)، لا يعرفون غير ذلك، حتى نَبَغَ لهم القول بأنه كلام الله مخلوقٌ، وأنه إنما يُضافُ إلى الله تعالى إضافه تشريفٍ، كبيت الله، وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء -إلى قوله-: قال صالح بن أحمد: سمعت أبي، يقول: لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة، قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طَرَسُوس، يعني: المأمون، فكان فيما قُرِىءَ علينا: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] و {هو خالقُ ُكلِّ شيء} [الأنعام: 102] فقلت: {وهو السميعُ البصير} قال صالح: ثم امتحن القوم، ووَجَّهَ بمن امتنع إلى الحبس، فأجاب القوم غير أربعة: أبي، ومحمد بن نوح، والقواريري، والحسن بن حماد سجَّادة. ثم أجاب هذان، وبقي أبي ومحمدٌ في الحبس أياماً، ثم جاء كتابٌ من طرسوس بحملهما مُقَيَّدَيْنِ زميلينِ. الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبو معمر القطيعي، قال: لما أُحضِرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحضِرَ، فلما رأي الناس يُجِيبونَ، وكان رجلاً ليِّناً، فانتفخت أوداجه، ¬
واحمَّرت عيناه، وذهب ذلك اللين. فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشِرْ. حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن عبد الله بن جُمَيْعٍ، عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من إذا أريد على أمرِ دينه، رأيت حمالِيقَ عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون. أخبرنا عُمَرُ بن القوَّاس، عن الكندي، أخبرنا الكَرُوجي، أخبرنا شيخ الإسلام، أخبرنا أبو يعقوب، حدثنا الحسين بن محمد الخَفَّاف: سمعت ابن أبي أُسامة، يقول: حُكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله، أولا ترى الحقَّ كيف ظهر عليه الباطل؟ قال: كلاَّ، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهُدَى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمةٌ للحق. قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي: حدثنا الفضل بن زياد، سمعت أحمد بن حنبل يقول: أول يوم امتحنه [إسحاق] (¬1) لما خرج من عنده، فقعد في مسجده، فقال له جماعةٌ: أخبرنا بمن أجاب. فكأنَّه ثَقُلَ عليه، فكلَّموه أيضاً، قال: فلم يُجِب أحدٌ من أصحابنا، ولله الحمد. ثمَّ ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ممَّا (¬2) أرادوا. فقالوا: هو مجعولٌ محدث، وامتحنهم مرةً مرة، وامتحنني مرتين مرتين. قال لي: ما تقول في القرآن؟ قلتُ: كلام الله غير مخلوق، فأقامني وأجلسني في ناحية، ثم سألهم، ثم ردَّني ثانيةً، فسألني وأخذ بي (¬3) في ¬
التشبيه. فقلت: {ليس كمثله شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ} [الشورى: 11] فقال لي: وما السميع البصير؟ فقلت: هكذا قال الله تعالى. قال محمد بن إبراهيم البُوشَنجي: جعلوا يُذاكِرون أبا عبد الله بالرقة في التَّقِيَّةِ وما رُوِيَ فيها. فقال: كيف تصنعون بحديث خبَّاب: " إنَّ من كان قبلَكُم كان يُنشَرُ أحدهم بالمنشار، لا يصُدُّه ذلك عن دينه " (¬1) فأيسنا منه. وقال: لست أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلاَّ واحدٌ، ولا قتلاً بالسيف، إنما أخافُ فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله فما هو إلاَّ سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّيَ عنه. قال: وحدثني من أثِقُ به، عن محمد بن إبراهيم بن مصعب، وهو يومئذٍ صاحب شرطة المعتصم قال: ما رأيت أحداً لم يُدَاخِلِ السلطان، ولا خالط الملوك، كان أثبت قلباً من أحمد يومئذٍ، ما نحن في عينه إلا كالذباب. قال صالح بن أحمد: حُمِلَ أبي ومحمد بن نوح من بغداد مقيدين، فصرنا معهما إلى الأنبار. فسُئِلَ أبي: إن عُرِضْتَ على السيف، تُجِيبُ؟ ¬
قال: لا. ثم سُيِّرا، فسمعتُ أبي يقول: صِرنا إلى الرَّحبة (¬1)، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ قيل له: هذا، فقال للجمال: على رِسْلِك، ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل ها هنا، وتدخل الجنة ثم قال: أستودعك الله، ومضى، فسألت عنه، فقيل: رجلٌ من العرب من ربيعة يذكر بخيرٍ. أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال أحمد: ما سمعت كلمةً منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمةِ أعرابيٍّ كلَّمني بها في رحبة طوقٍ، قال: يا أحمد، إن يقتلكَ الحقُّ، مُِتَّ شهيداً، وإن عِشْتَ، عِشْتَ حميداً. فقَوِيَ قلبي. قال صالح: قال أبي: فلمَّا صِرْنا إلى أَذَنَة (¬2)، ورَحَلْنا منها في جوف الليل، وفُتِحَ لنا بابها، إذا رجلٌ قد دَخَلَ. فقال: البُشرى! قد مات الرجل يعني: المأمون. قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه. قال صالح: ومات محمد بن نوح، وصلَّى أبي عليه، وصار أبي إلى بغداد مقيداً. قال صالح: قال أبي: يُوجَّهُ إليَّ كُلَّ يوم برجلين يناظراني، ثم يُدعى بقيدٍ، فيُزادُ في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد، فلمَّا كان في الليلة الرابعة، وجَّه -يعني: المعتصم- ببِغُا الكبير إلى إسحاق، فأمره بحملي إليه، وأُدخلت على (¬3) إسحاق، وقال لي: يا أحمد إنها ¬
والله نفسُك، إنَّه لا يقتلُك بالسيف، إنه قد آلى، إن لم تجبه، أن يضربك ضرباً بعد ضربِ، وأن يقتُلك في موضع لا يُرى فيه شمسٌ ولا قمر. أليس قد قال الله تعالى: {إنَّا جعلناه قُرآناً عربياً} [الزخرف: 3] أفيكون مجعولاً إلاَّ مخلوقاً؟ فقلت: فقد (¬1) قال الله تعالى: {فجعلهم كعصفٍ مأكُولٍ} [الفيل: 5] أفخلَقَهم؟ فسكت فلمَّا صِرْنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت وَجِيءَ بدابةٍ، فأركبت وعليَّ الأقياد، ما معي من يُمسِكُني، فكدت غير مرة أخِرُّ على وجهي لثقل القيود. فجيء بي إلى دار المعتصم، فأدخلت حجرة، ثم أُدخلت بيتاً، وأقفل الباب علي في جوف الليل ولا سراج، فأردت الوُضوء، فمددت يدي، فإذا أنا بإناءٍ فيه ماءٌ، وطستٌ موضوع فتوضَّأتُ وصلَّيتُ. فلمَّا كان من الغد، أخرجت تِكَّتي، وشددت بها الأقياد أحملها وعطفت سراويلي. فجاء رسول المعتصم، فقال: أجب فأخذ بيدي، وأدخلني عليه، وإذا (¬2) هو جالس، وأحمد بن أبي دُوَاد حاضرٌ، وقد جَمَعَ خلقاً كثيراً من أصحابه، فقال لي المعتصم: ادنُهْ ادنُهْ، فلم يزل يُدنيني حتى قرُبتُ منه، ثم قلت: أتأذن في الكلام؟ قال: تكلَّم، قلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟ فسكت هُنيهةً، ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، قلت: فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ الله، ثم قلت: إن جدك ابن عباس يقول: لما قَدِمَ وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سألوه عن الإيمان، فقال: " أتدرون ما الإيمان؟ " قالوا: الله ¬
ورسوله أعلم، قال: " شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله (¬1) وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تُعطوا الخمس من المَغنم " (¬2) فقال المعتصم: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضتُ لك. ثم قال لهم: ناظِرُوه، كلموه، يا عبد الرحمن بن إسحاق كلِّمه. فقال: ما تقول في القرآن؟ فقلت: ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله: {الله خالقُ كُلِّ شيءٍ}؟ [الرعد: 16] والقرآن أليس شيئاً، فقلت: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلِّ شَيءٍ} [الأحقاف: 25] فدمَّرَت إلاَّ ما أراد الله؟! فقال بعضُهم: {ما يأتيهم مِنْ ذكرٍ من ربِّهم مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلا مخلوقاً؟ فقلت: قال الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فالذِّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام. وذكر بعضهم حديث عِمران بن حصين: " إن الله كتب الذكر " (¬3) واحتجوا بحديث ابن ¬
مسعود: " ما خلق الله من جنةٍ ولا نارٍ ولا سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسي " (¬1). فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض، ولم يَقَعْ على القرآن. فقال بعضهم: حديث خباب: " يا هَنَتاه تَقَرَّب إلى الله بما استطعت، فإنَّك لن تقرَّبَ إليه بشيءٍ أحبَّ إليه من كلامه " (¬2) فقلت: هكذا هو. وكان يتكلم هذا فأرُدُّ عليه، وهذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقولُ المعتصم: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به. قال حنبل: قال أبو عبد الله: لقد احتجوا عليَّ بشىء ما يقوى قلبي، ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتُهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يُرْغُون، يقول الخصم: كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله: {يا أَبَتِ لِمَ تعبُدُ ما لا يسمَعُ ولا يُبْصِرُ} [مريم: 42] فهذا منكرٌ عندكم؟ قالوا: شبَّه يا أميرَ المؤمنين، شبَّه. ¬
قال صالح، عن أبيه: فإذا جاء شيءٌ من الكلام ممَّا ليس في الكتاب والسنَّة، قلت: ما أدري ما هذا. فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجهت (¬1) الحُجَّةُ علينا، ثبت، وإذا كلَّمناهُ بشيءٍ، يقول: لا أدري ما هذا. فقال: ناظروه، فقال رجلٌ: أراك تذكر الحديث وتنتحِلُه، فقال: ما تقول في قوله: {يُوصيكُم الله في أولادِكم للذكَرِ مثلُ حظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]؟ قال: خصَّ الله بها المؤمنين، قلت: ما تقول: إن كان قاتلاً أو عبداً؟ فسكت، وإنما احتججتُ عليه بهذا، لأنهم كانوا (¬2) يحتجون بظاهرِ القرآن. فحيثُ قال لي: أراك تنتحل الحديث، احتججت بالقرآن، يعني: وإنَّ السنة خصَّصتِ القاتل والعبد، فأخرجتهما من العموم - إلى قوله: فلمَّا كانت الليلة الثالثة، قلت: خليقٌ أن يحدث غداً من أمري شيءٌ، فقلت للموكِّل بي: أريد خيطاً، فشددت به الأقياد، ورددتُ التِّكَّة إلى سراويلي مخافة أن يحدُثَ من أمري شيء، فأتَعَرَّى. فلما كان من الغد، أُدخلت إلى الدار، فإذا هي غاصَّةٌ، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع، وقومٌ معهم السيوف، وقومٌ معهم السِّياط، وغير ذلك، ولم يكن في اليومين الأولين كبير أحد (¬3) من هؤلاء. فلما انتهيت إليه، قال: اقعُد. ثم قال: ناظِرُوه، فلما طال المجلس، نحاني، ثم خلا بهم، ثم نحاهم، وردَّني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد! أجبني حتى أُطلِقَ عنك بيدي، فرددتُ عليه نحو ردِّي. فقال: عليك، وذكر اللعن، خذوه ¬
اسحبوه (¬1) خلِّعوه. فسحبت (¬2) وخُلِّعت. وجلس على كرسيٍّ، ثم قال: العُقَابين (¬3) والسياط، فجيء بالعُقابين، فمُدَّت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خُذ ناتىء الخشبتين بيديك، وشُدَّ عليهما. فلم أفهم ما قال: فتخلَّعت يداي. قال صالح: قال أبي فلما جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها. ثم قال للجلادين: تقدَّموا، فجعل يتقدم إليَّ الرجل منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شُدَّ، قطع الله يدك! ثم يتنحَّى ويتقدم آخر، فيضرِبُني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شُدَّ، قطع الله يدَك! فلما ضُربتُ تسعة (¬4) عشر سوطاً، قام إليَّ، يعني: المعتصم، فقال: يا أحمد، علام تقتُلُ نفسك؟ إنِّي والله عليك لشفيقٌ، وجعل عُجَيْف ينخسُني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وقال بعضهم (¬5): يا أمير المؤمنين دمُه في عُنقي، فقال: ويحكَ يا أحمد، ما تقول؟ فقلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله أقولُ به. فرجع وجلسَ. وقال للجلاد: تقدم، وأوجع، قَطَعَ الله يدك، ثم قام الثانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد: أجبني إلى شيءٍ فيه (¬6) أدنى فرجٍ حتى أُطلِقَ عنك بيديَّ، ثم رَجَعَ، وقال للجلاد: تقدَّم، فجعل يضرِبُني وذهب عقلي، ثم أفقتُ بعد، فإذا الأقياد قد ¬
أُطلقتْ عني. فقال رجلٌ ممَّن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارِيَّة (¬1) ودُسْنَاكَ! فما شعرت بذلك، وآتوني بسويقٍ، فقالوا: اشرب وتقيَّأ، فقلت: لا أُفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق، فحضرت الظهر، فتقدم ابن سماعه، فصلى! [فلما انفتل من صلاته] (¬2) وقال لي (¬3): صليتَ والدم يسيل في ثوبك؟ قلتُ: قد صلَّى عمر وجرحه يثعبُ دماً (¬4). قال صالح: ثم خُلِّي عنه، وصار إلى منزله، وكان لبثه منذ أُخِذَ إلى أن ضُرِبَ، وخُلِّيَ عنه، ثمانية وعشرون شهراً. قال حنبل: سمعته يقول: ذهب عقلي مراراً، فكان إذا رُفِعَ عني الضرب رجعت إليّ نفسي، وإذا استرخيت وسقطت، رُفِعَ الضرب، أصابني ذلك مراراً. الحسن بن محمد بن عثمان الفسوي، حدثنا داود بن عرفة، حدثنا ميمون بن أصبُغ، قال: نزل السراويل إلى عانة أحمد عند الضرب، وانقطعت تِكَّتُه، وكانت حاشية ثوبٍ، فرمى بطرفه إلى السماء وحرك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بَقِيَ السراويل لم ينزل، فدخلت عليه بعد أيام، فسألته ما قال: فذكر دعاءً. ¬
قال الذهبي: هذه حكايةٌ منكرةٌ، أخاف أن يكون داود وضعها. وذكر الذهبي، عن جعفر بن فارسٍ الأصبهاني، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أحمد بن الفرج نحوها. ثم قال: فهذه الحكايةُ لا تَصِحُّ، ولقد ساق صاحب " الحلية " (¬1) من الخرافات السَّمجة هنا ما يُستحيا عن (¬2) ذكره. فمن ذلك، ذكر بإسناده أن أحمد لما حرك شفتيه حين سقط سراويله، رأيت (¬3) يدين خرجتا من تحته، فشدَّتا السراويل، فلما فرغوا من الضرب، سألناه. فقال: قلتُ: يا مَنْ لا يُعلمُ العرش من أين هو، إن كنت على الحقِّ فلا تُبدِ عَورتي. أوردها البيهقي في " مناقب أحمد "، وما جَسَرَ على توهيتها (¬4)، بل روى عن أبي مسعود البَجَلِي، عن ابن جَهْضَم ذاك الكذاب، عن أبي بكر النَّجَّاد، عن ابن أبي العوام نحواً منها، وفيه فرأيت كفّاً من ذهب خرج من تحت مئزره بقدرة الله، فصاحت العامة. وعن صالح، عن أبيه: مررت بهذه الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فجعلتُ الميت في حِلٍّ، ثم قال: وما على رجلٍ أن لا يعذِّب الله بسببه أحداً. هذه نبذةٌ مختصرةٌ مما ذكره الذهبيُّ - إلى قوله: العجب من أبي ¬
القاسم عليِّ بن الحسن الحافظ (¬1) كيف ذكر ترجمة أحمد مُطوَّلةً كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمةً، مع صحة أسانيدها (¬2)، فإنَّ حنبلاً ألَّفها في جُزأين، وكذلك صالح بن أحمد وجماعة، ثم رجع إلى ذكر حال أحمد في أيام المتوكل. واعلم أن من وَقَفَ على تشدُّد أحمد في أمرِ المحنة ممن لم يعرف ما المقصود بقولهم: إن القرآن مخلوقٌ، أو غير مخلوق يطلع إلى معرفة حقيقة ذلك وغائلته التي حملت الفريقين على هذا الأمر العظيم، وقد رأيت أن أختم ترجمة أحمد بذكر كلام الفرق في هذه المسألة من غير تطويل بذكر الحُجَج، وسيأتي ذلك بعد ذكر كتاب أحمد إلى المتوكل، المشتمل على ذكر جملةٍ صالحةٍ من الآيات والآثار في ذلك، وهذا موضعه، ولكن بَقِيَت بقيةٌ من مناقب الإمام أحمد تليق بهذا الموضع (¬3): قال ابن أبي حاتم: قال سعيد بن عمرو: يا أبا زُرعة، أأنت أحفظ أم أحمد؟ قال: بل أحمد، قلت: كيف علمت؟ قال: وجدت كتبه ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه، فكان يحفظ كل جزءٍ ممن سمعه، وأنا لا أقدر على هذا. وعن أبي زرعة، قال: حُزِرَتْ كتب أحمد يوم مات فبلغت اثنيّ عشر حِمْلاً، وعِدْلاً (¬4)، ما كان على ظهرِ كتابٍ منها: حديث فلان، ولا ¬
في بطنه (¬1): حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفطه. وقال حسن بن مُنَبِّه: سمعت أبا زرعة، يقول: أخرج إليَّ أبو عبد الله أجزاءً كلها سفيان سفيان، ليس على حديثٍ منها: حدثنا فلان، فظننتها عن رجلٍ واحد فامتحنت (¬2) منها، فلما قرأ ذلك عليَّ جعل يقول: حدثنا وكيع ويحيى، وحدثنا فلان، فعَجِبْتُ، ولم أقدِر أنا على هذا. قال إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله، كأنَّ الله جمع له علم الأوَّلين والآخرين. وعن رجلٍ، قال: ما رأيتُ أحداً أعلَمَ بفقه الحديث ومعانيه من أحمد. أحمد بن سلمة: سمعتُ ابن راهويه، يقول: كنتُ أُجَالِسُ أحمد وابن معين، ونتذاكر، فأقول: ما فقهُهُ؟ ما تفسيره؟ فيسكتون إلاَّ أحمد. قال أبو بكر الخلاَّل: كان أحمدُ قد كتب كتب الرأي، وحفظها، ثم لم يلتفت إليها. قال إبراهيم بن شمَّاس: سألنا وكيعاً عن خارجة بن مصعب، فقال: نهاني أحمدُ أن أحدِّث عنه. قال العباس بن محمد الخلاَّل: حدثنا إبراهيمُ بن شمَّاس، سمعت وكيعاً وحفص بن غياث يقولان: ما قدِمَ الكوفة مثل ذاك الفتى، يعنيان: أحمد بن حنبل. ¬
وقيل: إنَّ أحمد أتى حسيناً (¬1) الجُعفي بكتابٍ كبير يشفع في أحمد، فقال: حسين: يا أبا عبد الله لا تجعل بيني وبينك مُنعِماً فليس تحمَّلُ عليَّ بأحدٍ إلاَّ وأنت أكبر منه. الخلال: حدثنا (¬2) المروذي، حدثنا (¬3) خَضِرٌ المروذي بطرسوس سمعت ابن راهويه، سمعت يحيى بن آدم، يقول: أحمد بن حنبل إمامنا. الخلال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا الأثرم، حدثني (¬4) بعض من كان يسمع مع أبي عبد الله أنهم كانوا يجتمعون عند يحيى بن آدم، فيتشاغلون عن الحديث بمناظرة أحمد يحيى بن آدم، ويرتفع الصوت بينهما، وكان يحيى بن آدم، واحد أهل زمانه في الفقه. الخلال: حدثنا المروذي، سمعت محمد بن يحيى القطان، يفول: رأيت أبي مكرِّماً لأحمد بن حنبل، لقد بذل له كتبه، أو قال: حديثه. وقال القواريري، قال يحيى القطان: ما قدم علينا مثل هذين أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. وما قدم عليَّ من بغداد أحبُّ إليَّ من أحمد بن حنبل. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: شقَّ على يحيى بن سعيد يوم خرجت من البصرة. ¬
عمرو بن العباس: سَمِعتُ عبد الرحمن بن مهدي، ذكر أصحاب الحديث، فقال: أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل. قال: فأقبل أحمد، فقال ابن مهدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري، فلينظُر إلى هذا. قال المرُّوذي: قال أحمد: عُنيتُ بحديث سفيان حتى كتبته عن رجلين، حتى كلَّمنا يحيى بن آدم، فكلم لنا (¬1) الأشجعيَّ، فكانت تخرج (¬2) إلينا الكتب، فنكتب من غير أن نسمع. وعن ابن مهدي، قال: ما نظرتُ إلى أحمد إلاَّ ذكرت به سفيان. قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: خالف وكيعٌ ابن مهدي في نحوٍ من ستين حديثاً من حديث سفيان، فذكرت ذلك لابن مهدي، وكان يحكيه عني. عباس الدوري: سمعت أبا عاصم يقول لرجلٍ بغدادي: من تعُدُّون عندكم اليومَ من أصحاب الحديث؟ قال: عندنا أحمدُ بن حنبل، وابن معين، وأبو خيثمة، والمُعَيْطِي، والسُّويدي، حتى عدَّ له جماعة بالكوفة أيضاً وبالبصرة، فقال أبو عاصم: قد رأيت جميع من ذكرت، وجاؤوا إليَّ، لم آر مثل ذاك الفتن، يعني: أحمد بن حنبل. قال شجاع بن مخلد: سمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: ما بالمِصْرَيْنِ (¬3) رجلٌ أكرم عليَّ من أحمد بن حنبل. ¬
وعن سليمان بن حربٍ، أنه قال لرجلٍ: سَلْ أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا، فإنه عندنا إمامٌ. الخلال: حدثنا عليُّ بن سهل (¬1)، قال: رأيت يحيى بن معين عند عفان ومعه أحمد بن حنبل، فقال: ليس هنا اليوم حديثٌ. فقال يحيى: تردُّ أحمد بن حنبل، وقد جاءك؟ فقال (¬2): الباب مُقفلٌ، والجارية ليست هنا. قال يحيى: أنا أفتح، فتكلم على القُفلِ (¬3) بشيءٍ، ففتحه. فقال عفان: وفشَّاش (¬4) أيضاً! وحدثهم. قال: وحدثنا (¬5) المروذي: قلت لأحمد: أكان أُغمي عليك أو غُشِيَ عليك (¬6) عند ابن عُيينة؟ قال: نعم في دهليزه (¬7) زحمني الناس فأُغمي عليَّ. وروي أن سفيان، قال يومئذٍ: كيف أُحَدِّثُ وقد مات خير الناس. وقال مُهَنَّا بن يحيى: قد رأيت ابن عيينة، ووكيعاً، وبقية، وعبد الرزاق، وضمرة، والناس، ما رأيت رجلاً أجمع من أحمد في علمه، وزهده، وورعه، وذكر أشياء. وقال نوحُ بن حبيب القُومَسي: سلَّمتُ على أحمد بن حنبل في سنة ¬
ثمانٍ وتسعين ومئةٍ بمسجدِ الخَيْفِ، وهو يُفتي فُتيا واسعة. وعن شيخٍ أنه كان عنده كتابٌ بخطِّ أحمد بن حنبل، فقال: كنا عند (¬1) ابن عيينة سنة ففقدت (¬2) أحمد بن حنبل أياماً، فدُلِلتُ على موضعه، فجئت، فإذا هو في شبيهٍ بكهفٍ في جياد (¬3). فقلت: سلام عليكم، أدخلُ؟ فقال: لا، ثم قال: ادْخُلْ، فدخلت، وإذا عليه قطعة لبدٍ خلقٍ، فقلت: لِمَ حجبتني؟ فقال: حتى استترتُ فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت (¬4) ثيابي، فبادرت إلى منزلي فجئته بمئة درهم فعرضتها عليه، فامتنع، فقلت: قرضاً، فأبى، حتى بلغتُ عشرين درهماً، ويأبى. فقمت، وقلت: ما يحِلُّ لك أن تقتل نفسك. قال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عُيينة؟ قلت: بلى. قال: تحبُّ أن أنسخه لك؟ قلت: نعم. قال: اشتر لي وَرَقاً. قال: فكتب بدراهم اكتسى منها ثوبين. الحاكم: سمعتُ بكران بن أحمد الحنظلي الزاهد ببغداد، سمعت عبد الله بن أحمد، سمعتُ أبي يقول: قَدِمْتُ صنعاء (¬5) أنا ويحيى بن معين، فمضيت إلى عبد الرزاق إلى قريته، وتخلَّف يحيى، فلما ذهبت أدُقُّ الباب، قال لي بقَّالٌ تُِجاه داره: مَهْ، لا تدُقَّ، فإنَّ الشيخ يُهاب. فجلستُ حتى إذا كان قبل المغرب، خرج فوثبت إليه، وفي يدي أحاديث ¬
انتقيتُها، فسلمت، وقلت: حدثني بهذه يرحمك الله، فإني رجلٌ غريب. قال: ومن أنت؟ وَزَبَرني. قلت: أنا (¬1) أحمد بن حنبل، قال: فتقاصر؟ وضمَّني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث، وجعل يقرؤها حتى أظلم، فقال للبقال: هلُمَّ المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يُؤخِّرُ صلاة (¬2) المغرب. الخلال: حدثنا الرمادي، سمعت عبد الرزاق، وذكر أحمد بن حنبل، فدَمِعَتْ عيناه، وقال: بلغني أن نفقته نفدت، فأخذت بيده فأقمته خلف الباب وما معنا أحدٌ، فقلتُ له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلَّة، أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها، وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيَّأ شيء. فقال لي: يا أبا بكرٍ، لو قبلت من أحدٍ شيئاً، لَقبِلتُ منك. وقال عبدُ الله: قلتُ لأبي: بلغني أنَّ عبد الرزاق عَرَضَ عليك دنانيرَ؟ قال: نعم، وأعطاني يزيدُ بن هارون خمس مئة درهم -أظُنُّ- فلم أقبل، وأعطى يحيى بن معين، وأبا مسلم فأخذا منه. وقال محمد بن سهل بن عسكر: سمعت عبد الرزاق يقول: إن يَعِشْ هذا الرجل يكُن خَلَفاً من العلماء. المروذي: حدثني أبو محمد النسائي، سمعت إسحاق بن راهويه، قال: كنا عند عبد الرزاق أنا وأحمد بن حنبل، فمضينا معه إلى المصلى يوم عيد، فلم يكبر هو ولا أنا ولا أحمد، فقال لنا: رأيت مَعْمراً ¬
والثوري في هذا اليوم كبَّرا، وإني رأيتكما لم تُكبِّرا، فلم أُكبِّر، فلِمَ لم تُكبِّرا؟ قلنا: نحن نرى التكبير، ولكن شغلنا بأي شيء نبتدىء من الكتب. أبو إسحاق الجُوزجاني، قال: كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق، فسها، فسأل عنه عبد الرزاق، فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئاً. رواها الخلال، سمعت أبا زرعة القاضي الدمشقي عن الجوزجاني. قال الخلال: حدثنا أبو القاسم بن الجَبُّلِي، عن أبي إسماعيل الترمذي، عن إسحاق بن راهويه، قال: كنت مع أحمد بن حنبل عند عبد الرزاق، وكانت معي جارية، وسكنا فوق، وأحمد أسفل في البيت، فقال لي: يا أبا يعقوب: هوذا (¬1) يُعجبني ما أسمع من حركتكم (¬2) قال: وكنت أطلع، فأراه يعملُ التِّكَكَ ويَبيعُها، ويتقوَّتُ بها هذا أو نحوه. قال المروذي: سمعت أبا عبد الله، يقول: كنت في أزْرِي من اليمن إلى مكة. قلت: أَكْرَيتَ نفسك من الجمالين؟ قال: قد اكتريت (¬3) لكتبي (¬4)، ولم يقل: لا. وعن إسماعيل بن عُلَيه: أنه أُقيمت الصلاة، فقال: ها هنا أحمد بن حنبل قولوا (¬5) له يتقدَّمُ يُصلِّي بنا. ¬
وقال الأثرمُ: أخبرني عبد الله بن المبارك شيخٌ سَمِعَ قديماً، قال: كنا عند ابن عُلَيَّة، فضَحِكَ بعضُنا، وثم أحمد بن حنبل، قال: فأتينا إسماعيل بعدُ، فوجدناه غضبان (¬1)، فقال: تضحكون وعندي أحمد بن حنبل! قال المروذي: قال لي أبو عبد الله: كنا عند يزيد بن هارون، فوَهِمَ في شيء، فكلَّمته، فأخرج كتابه، فوجده كما قلتُ، فغيَّره، فكان إذا جلس يقول: يا ابن حنبل، ادْنُ، يا ابن حنبل، ادنُ ها هنا. ومَرِضْتُ فعادَني، فنطحه الباب. المَرُّوذي: سمعت جعفر بن ميمون بن الأصبغ، سمعت أبي يقول: كنا عند يزيد بن هارون، وكان عنده المُعَيْطي (¬2) وأبو خيثمة (¬3)، وأحمد، وكان في يزيد رحمه الله مداعبة، فذاكره المعيطي (¬4) بشيء. فقال له يزيد: فقدتُك، فتنحنح أحمد فالتفت إليه، فقال: من ذا؟ قالوا: أحمد بن حنبل، قال: ألا أعلمتموني أنه ها هنا. قال المروذي: فسمعت بعض الواسطيين يقول: ما رأيت يزيد بن هارون ترك المِزَاحَ لأحدٍ إلاَّ لأحمد بن حنبل. قال أحمد بن سنان القطان: ما رأيت يزيد لأحدٍ أشدَّ تعظيماً منه لأحمد بن حنبل، ولا أكرم أحداً مثله، كان يُقْعِدُه إلى جنبه ويُوَقِّرُه، ولا يمازحه. ¬
وقال عبدُ الرزاق: ما رأيتُ أحداً أفقه ولا أورَعَ من أحمد بن حنبل. قلت: قال هذا (¬1)، وقد رأي مثل الثوري، ومالكٍ، وابن جريج. وقال حفص بن غياث: ما قَدِمَ الكوفة مثل أحمد بن حنبل. وقال أبو اليمان: كنتُ أُشبِّهُ أحمد بأرطاة بن المنذر. وقال الهيثم بن جميل الحافظ: إن عاش أحمد سيكون حجةً على أهل زمانه. وقال قتيبة: خيرُ أهل زماننا ابن المبارك، ثُمَّ هذا الشابُّ يعني: أحمد بن حنبل، واذا رأيت رجلاً يُحِبُّ أحمد فاعلم أنه صاحب سنةٍ، ولو أدرك عصر الثوري، والأوزاعي، والليث لكان هو المقدَّم عليهم. فقيل لقُتيبة: تضُمُّ أحمد إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين. وقال قتيبة: لولا الثوريُّ لمات الورع، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا. قلت: قد روى أحمد في مسنده عن قتيبة (¬2) كثيراً. وقيل لأبي مُسهر الغساني: تعرف من يحفظ على الأمة أمر دينها؟ قال: شابٌّ في ناحية المشرق، يعني: أحمد بن حنبل. قال المُزَنيُّ: قال لي الشافعي: رأيت ببغداد شابّاً إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صَدَقَ. قلت: ومن هو؟ قال: أحمد بن حنبل. ¬
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد فما خلَّفت بها رجلاً أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل. وقال الزعفراني: قال لي الشافعي: ما رأيت أعقل من أحمد، وسليمان بن داود الهاشمي. قال محمد بن إسحاق بن راهويه: حدثني أبي قال (¬1) قال لي أحمد بن حنبل: تعال حتى أُرِيكَ من لم تر مثله، فذهب بي إلى الشافعي، قال أبي: وما رأي الشافعي مثل أحمد بن حنبل. ولولا أحمد وبذْلُ (¬2) نفسه، لذهب الإسلام - يريد المحنة. وروي عن إسحاق بن راهويه، قال: أحمد حُجَّةٌ بين الله وبين خلقه. وقال محمد بن عبدويه: سمعتُ علي بن المديني، يقول: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لأن سعيداً كان له نظراء. وعن ابن المديني، قال: أعزَّ الله الدين بالصِّدِّيق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل وهو أفقههم، وذكر الحكاية. وقال أبو عبيد: إني لأتدين بذكر أحمد بن حنبل، ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه. ¬
وقال الحسن بن الربيع: ما شبَّهت أحمد بن حنبل إلاَّ بابن المبارك في سمته وهيبته. الطبراني: حدثنا محمد بن حسين الأنماطي، قال: كنا في مجلسٍ فيه يحيى بن معين، وأبو خيثمة، فجعلوا يُثْنُون على أحمد بن حنبل، فقال رجلٌ: فبعض هذا، فقال يحيى: وكثرةُ الثناء على أحمد تُستنكر! لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه، ما ذكرنا فضائله بكمالها. وروى عباس، عن ابن معين قال: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل. وقال النُّفيلي: كان أحمد بن حنبل (¬1) من أعلام الدين. وقال المروذي: حضرت أبا ثورٍ سُئِلَ عن مسألة، فقال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل شيخنا وإمامنا فيها كذا وكذا. وقال ابن معين: ما رأيت من يحدث لله إلاَّ ثلاثة: يعلى بن عبيد، والقعنبي، وأحمد بن حنبل. وقال ابن معين: أرادوا أن أكون مثل أحمد، والله لا أكون مثله أبداً. وقال أبو خيثمة: ما رأيت مثل أحمد، ولا أشد منه قلباً. وقال علي بن خَشْرمٍ: سمعت بشر بن الحارث، [يقول] (¬2): أنا أسأل عن أحمد بن حنبل، إنَّ أحمد أُدْخِلَ الكِيرَ، فخرج ذهباً أحمر. وقال عبدا لله بن أحمد: قال أصحاب بشر الحافي له حين ضُرِبَ ¬
أبي: لو أنك خرجت فقلت: إني على قول أحمد، فقال: أتريدون إن أقوم مقام الأنبياء؟!. القاسم بن محمد الصائغ: سمعت المروذي يقول: دخلت على ذي النون السجن، ونحنُ بالعسكر، فقال: أيُّ شيءٍ حالُ سيدنا؟ يعن: أحمد بن حنبل. وقال محمد بن حماد الطِّهراني: سمعت أبا ثور الفقيه يقول: أحمد بن حنبل أعلم أو (¬1) أفقه من الثوري. وقال نصر بن علي الجهضمي: أحمد أفضل أهل زمانه. قال صالح بن علي الحلبي: سمعتُ أبا همام السكوني (¬2) يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأى هو مثل نفسه. وعن حجاج بن الشاعر، قال: ما رأيت أفضل من أحمد، وما كنت أُحبُّ أن أُقتل في سبيل الله، ولم أُصَلِّ على أحمد، بلغ والله في الإمامة أكبر من مبلغ سفيان ومالك. وقال عمرو الناقد: إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديثٍ لا أبالي من خالفني. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عليِّ بن المديني، وأحمد بن حنبل، أيُّهما أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، إذا رأيت من يُحب أحمد، فاعلم أنه صاحبُ سنةٍ. ¬
وقال أبو زُرعة: أحمد بن حنبل أكبر من إسحاق وأفقه، ما رأيت أحداً أكمل من أحمد. وقال محمد بن يحيى الذهلي: جعلت أحمد إماماً فيما بيني وبين الله تعالى. وقال محمد بن مهران الجمال: ما بَقِيَ غير أحمد. قال إمام الأئمة ابن خزيمة: سمعت محمد بن سحتويه (¬1) سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي، وذُكِرَ أحمد بن حنبل، فقال: رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عُرِضَتْ له الدنيا، فأباها، والبدعُ، فنفاها. قال أبو حاتم: كان أبو عمير من عُبَّاد المسلمين، قال لي: أَمِلَّ عليَّ شيئاً عن أحمد بن حنبل. وروي عن أبي عبد الله البُوشنجي: قال: ما رأيتُ أجمع في كل شيء من أحمد بن حنبل، ولا أعقل منه (¬2). وقال ابنُ وارة (¬3): كان أحمد صاحب فقه، صاحب حفظ، صاحب معرفة. وقال النسائي: جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث، والفقه، والوَرَعَ، والزهد، والصَّبرَ. ¬
وعن عبد الوهاب الورَّاق: قال: لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فردوه إلى عالمه " (¬1) رددناه إلى أحمد بن حنبل، وكان أعلم أهل زمانه. وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، ولا يُذكرُ فيها شيءٌ من أمر (¬2) الدنيا، ما رأيتُه ذكر الدُّنيا قطُّ. قال صالح بن محمد جزرة: أفقه من أدركت في الحديث أحمد بن حنبل. وقال علي بن خلف: سمعت الحميدي، يقول: ما دمت بالحجاز، وأحمد بالعراق، وابن راهويه بخراسان لا يَغْلِبُنا أحدٌ (¬3). الخلال: حدَّثنا محمد بن ياسين البَلَدي، سمعتُ ابن أبي أُويس وقيل له (¬4): ذهب أصحاب الحديث، فقال: ما أبقى الله أحمد بن حنبل، فلم يذهب أصحابُ الحديث. وعن ابن المديني، قال: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أُحدِّث إلاَّ من كتابٍ. الحسين بن الحسن أبو معين الرازي: سمعت ابن المديني، يقول: ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد، وبلغني أنه لا يحدث إلاَّ من كتاب ولنا فيه أُسوةٌ. وعنه قال: أحمد اليوم حجة الله على خلقه. ¬
أخبرنا عمر بن عبد المنعم، عن أبي اليُمن الكندي، حدثنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب القرَّاب، أخبرنا محمد بن عبد الله الجَوْزَقِيُّ، سمعت أبا حامد الشرقي، سَمِعْتُ أحمد بن عاصم، سمعتُ أبا عبيدٍ القاسم بن سلاَّم، يقول: انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له، وإلى عليِّ بن المديني وهو أعلمهم به، وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له. إسحاق المنجنيقي: حدثنا القاسم بن محمد المؤدب، عن محمد بن أبي بشر، قال: أتيت أحمد بن حنبل في مسألةٍ. فقال: ائتِ أبا (¬1) عُبيدٍ، فإن له بياناً (¬2) لا تسمعه من غيره. فأتيتُه فشفاني جوابه. فأخبرته بقول أحمد، فقال: ذاك رجل من عمال الله نَشَرَ الله رداء علمه (¬3)، وذَخَرَ له عنده الزُّلفى، أما تراه مُحبباً (¬4) مألوفاً، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم، فإنه لكما قيل: يَزِينُكَ إمَّا غابَ عنك فإنْ دَنَا ... رأيتَ لهُ وجهاً يَسُرُّكَ مُقبِلاً ويحسنُ في ذاتِ الإله إذا رأي ... مَضيماً لأهل الحقِّ لا يسأمُ البَلاَ وإخوانُه الأدْنَوْنَ كُلُّ مُوفَّقٍ ... بَصيرٍ بأمرِ الله لا يسأمُ العُلاَ (¬5) وبإسنادي إلى أبي إسماعيل الأنصاري: أخبرنا إسماعيل بن ¬
إبراهيم، أخبرنا نصر بن أبي نصر الطوسي، سمعت علي بن أحمد بن خُشيش، سمعت أبا الحديد الصُّوفي بمصر، عن أبيه، عن المزني، يقول: أحمد بن حنبل يوم المِحْنَةِ، وأبو بكر يوم الرِّدَّة، وعمر يوم السَّقيفة، وعثمان يوم الدار، وعليٌّ يوم صِفِّين. قال (¬1) أحمد بن محمد الرُّشدِيني: سمعت أحمد بن صالح المصري، يقول: ما رأيت بالعراق مثل هذين أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الله بن نمير، رجلين جامعين لم أر مثلهما بالعراق. وروى أحمد بن سلمة النيسابوري، عن ابن وارة، قال: أحمد بن حنبل ببغداد، وأحمد بن صالح بمصر، وأبو جعفرٍ النفيلي بحرَّان، وابن نُمير بالكوفة، هؤلاء أركان الدِّين. وقال علي بن الجنيد الرازي: سمعتُ أبا (¬2) جعفرٍ النُّفيلي، يقول: كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين. وعن محمد بن مصعب العابد، قال (¬3): لسوطٌ ضُرِبَه أحمد بن حنبل في الله أكبر من أيام بشر بن الحارث. قلت: بشرٌ عظيمُ القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما الله يعلم ذلك. قال أبو عبد الرحمن النهاوندي، سمعت يعقوب الفَسَويَّ، يقول: كتبت عن ألف شيخٍ، حجتي فيما بيني وبين الله رجلان: أحمد بن ¬
حنبل، وأحمد بن صالح. وبالإسناد إلى الأنصاري شيخ الإسلام: أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا منصور بن عبد الله الذهلي، حدثنا محمد بن الحسن بن علي البخاري، سمعت محمد بن إبراهيم البوشنجي، وذكر أحمد بن حنبل، فقال: هو عندي أفقَهُ وأفضل من سفيان الثوري، وذلك أن سفيان لم يُمتَحَن بمثل ما امتُحِنَ به أحمدُ، ولا علمُ سفيان ومن تقدَّم من عُلماء الأمصار كعِلم أحمد بن حنبل، لأنه كان أجمع لها (¬1)، وأبصر بأغاليطهم وصدوقهم وكذوبهم، قال: ولقد بلغني عن بشر بن الحارث أنه قال: قام أحمد (¬2) مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتُحِنَ بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، وكان فيهما معتصماً بالله. قال أبو يحيى الناقدُ: كنَّا عند إبراهيم بن عَرْعَرَةَ، فذكروا علي بن عاصم، فقال رجلٌ: أحمد بن حنبل يُضعِّفُه. فقال رجل: وما يضره إذا كان ثقةً؟ فقال ابن عرعرة: والله لو تكلم أحمد في علقمة والأسود لضَرَّهُما. وقال الحُنَيْنِي: سمعت إسماعيل بن الخليل، يقول: لو كان أحمد ابن حنبل في بني إسرائيل، لكان آية. وعن علي بن شعيب، قال: عندنا المثل الكائن في بني إسرائيل، من أنَّ أحدهم كان يُوضَعُ المنشار على مفرِقِ رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه (¬3). ولولا أن أحمد قام بهذا الشأن، لكان عاراً علينا أن قوماً سُبكوا ¬
فلم يخرج منهم أحدٌ. قال ابن سَلْم: سمعت محمد بن نصر المروزي (¬1)، يقول: صِرتُ إلى دار أحمد بن حنبل مراراً، وسألته عن مسائل، فقيل له: أكان أكثر حديثاً أم إسحاق؟ فقال: بل (¬2) أحمد أكثر حديثاً وأورع. أحمد فاق أهل زمانه. قلت: كان أحمد عظيم الشأن، رأساً (¬3) في الفقه، وفي الحديث، وفي التألُّهِ، أثنى عليه خلقٌ من خصومِهِ، فما الظن بإخوانه وأقرانه؟!! وكان مَهِيباً في ذات الله، حتى لقال أبو عبيد: ما هِبْتُ أحداً في مسألةٍ، ما هبت أحمد بن حنبل. وقال إبراهيم الحربي: عالم وقته سعيد بن المسيب في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه، وأحمد بن حنبل في زمانه. قرأت على إسحاق الأسدي: أخبركُم ابن خليل، أخبرنا اللبان، عن أبي علي الحدَّاد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو بكر بن مالك، حدثنا (¬4) محمد بن يونس، حدثني سليمان الشاذكوني، قال: يُشَبَّه عليُّ بن المديني بأحمد بن حنبل؟ أيهات!! ما أشبه السُّك (¬5) باللُّك (¬6). لقد ¬
حضرتُ من وَرَعِه شيئاً بمكة: أنه أرهن سطلاً عند فامِيَّ (¬1)، فأخذ منه شيئاً لِيَقوتَه. فجاء، فأعطاه فِكَاكه، فأخرج إليه سطلين، فقال: انظُر أيُّهما سطلُك؟ فقال: لا أدري أنت في حِلٍّ منه، ومما أعطيتك، ولم يأخذه. قال الفامي: والله إنه لسطلُه، وإنما أردت أن أمتحنه فيه. وبه (¬2) إلى أبي نعيم حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الأبار: سمعت محمد بن يحيى النيسابوري، حين بلغه وفاة أحمد، يقول: ينبغي لكلِّ أهل دارٍ ببغداد أن يُقيموا عليه النياحةَ في دورهم. قلت: تكلَّم الذُّهلي بمقتضى الحُزن لا بمقتضى الشرع (¬3). قال أحمد بن القاسم المقرىء: سمعت الحسين الكرابيسي، يقول: مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل مَثَلُ قومٍ يجيئون إلى أبي قُبَيْسٍ (¬4) يُريدون أن يَهدِمُوه بنعالهم. الطبراني: حدثنا إدريس بن عبد الكريم المقرىء، قال: رأيتُ علماءنا مثل الهيثم بن خارجة، ومُصعبٍ الزُّبيري، ويحيى بن معين، ¬
وأبي بكرٍ بن أبي شيبة، وأخيه، وعبد الأعلى بن حماد، وابن أبي الشوارب، وعليِّ بن المديني، والقواريري، وأبي خيثمة، وأبي معمرٍ، والوَرْكاني، وأحمد بن محمد بن أيوب، ومحمدِ بن بكَّار، وعمرٍو الناقد (¬1)، ويحيى بن أيوب المقابري، وسُريجٍ (¬2) بن يونس، وخلف بن هشام، وأبي الربيع الزهراني، فيمن لا أُحصيهم، يُعظِّمون أحمد ويُجِلُّونه ويُوَقرونه ويُبَجِّلُونَه ويقصدونه للسلام عليه. قال أبو علي بن شاذان: قال لي محمد (¬3) بن عبد الله الشافعي: لمَّا مات سعيد بن أحمد بن حنبل، جاء إبراهيم الحربيُّ إلى عبد الله بن أحمد، فقام إليه عبد الله، فقال: تقومُ إليَّ؟ فقال: والله لو رآك أبي، لقامَ إليك، فقال إبراهيمُ: والله لو رأى ابنُ عيينة أباك، لقام إليه. قال محمد بن أيوب العُكْبَري: سمعت إبراهيم الحربي، يقول: التابعون كلهم وآخرهم أحمد بن حنبل -وهو عندي أجَلُّهم- يقولون: من حلف بالطلاق أن لا يفعل شيئاً ثم فعله ناسياً، كلهم يُلزِمُونَه الطلاق. وعن الأثرم، قال: ناظرت رجلاً، فقال: من قال بهذه المسألة؟ قلت: من ليس في شرقٍ ولا غربٍ مثلُه، قال: من؟ قلتُ: أحمد بن حنبل. وقد أثنى على أبي عبد الله جماعةٌ من أولياء الله، وتبرَّكُوا به، روى ¬
فضله وتألهه وشمائله
ذلك أبو الفرج بن الجوزي، وشيخ الإسلام (¬1) ولم يصح سند بعض ذلك. أخبرنا إسماعيل بن عُمَيرة، أخبرنا ابن قدامة (¬2)، أخبرنا أبو طالب بنُ خُضَير، أخبرنا أبو طالب اليُوسُفي، أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، أخبرنا عليُّ بن عبد العزيز، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا أبو زُرعة، وقيل له: اختيار أحمد وإسحاق أحبُّ إليك أم قول الشافعي؟ قال: بل اختيار أحمد وإسحاق، ما أعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه من أحمد بن حنبل، وما رأيت أحداً أجمع منه. في فضلِهِ وتألُّهِهِ وشمائله: وبه قال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد، قال: دخلت على أبي يوماً أيام الواثق -والله أعلم على أيِّ حال نحن- وقد خرج لصلاة العصر، وكان له لِبْدٌ يجلِسُ عليه، قد أتى عليه سنون كثيرةٌ حتى بَلِيَ، وإذا تحته كتاب كاغَدٌ (¬3) فيه: بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضِّيق، وما عليك من الدَّين، وقد وجَّهتُ إليك بأربعة (¬4) آلاف درهم على يدي فلانٍ، وما هي من صدقة ولا (¬5) زكاةٍ، وإنما هو (¬6) شيءٌ وَرِثْتُهُ من أبي. فقرأت الكتاب، ووضعتُه. فلما دخل، قلت: يا أبة، ما هذا ¬
الكتاب؟ فاحمَرَّ وجهُه، وقال: رفعتُه منك. ثم قال: تذهب بجوابه (¬1)؟ فكتب إلى الرجل: وَصَلَ كتابُك إليَّ، ونحن في عافيةٍ. فأما الدَّين، فإنه لرجلٍ لا يُرهِقُنا، وأما عيالُنا، ففي نعمة الله. فذهبتُ بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فلما كان بعد حين، ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فرد عليه (¬2) بمثل ما ردَّ (¬3). فلما مضت سنةٌ أو نحوها، ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها، كانت (¬4) قد ذهبت. وشهدت ابن الجَرَوِيِّ، وقد جاء بعد المغرب، فقال لأبي: أنا رجلٌ مشهور، وقد أتيتُك في هذا الوقت (¬5)، وعندي شيءٌ قد اعتدتُه لك (¬6)، وهو ميراثٌ، فأُحِبُّ أن تقبله، فلم يزل به. فلمَّا أكثر عليه، قام ودخل. قال صالح: فأُخبرتُ عن ابن الجروي أنه قال: قلت له: يا أبا عبدِ الله، هي ثلاثة آلاف دينار. فقام وتركني. قال صالح: ووجَّه رجلٌ من الصين بكَاغَدٍ صيني إلى جماعةٍ من المحدثين، ووجَّه بِقِمَطْرٍ (¬7) إلى أبي، فردَّه، ووُلِدَ لي مولودٌ فأهدى صديقٌ لي شيئاً. ثم أتى على ذلك أشهرٌ، وأراد الخروج إلى البصرة، فقال لي: تُكَلِّمُ أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة؟ فكلَّمتُه فقال: لولا أنَّهُ أهدى إليك، كنت أكتب له. ¬
وبه قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، قال: بَلَغني أن أحمد بن حنبل رَهَنَ نعلَه (¬1) عند خَبَّازٍ باليمن، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه، وعَرَضَ عليه عبدُ الرزاق دراهم صالحة، فلم يقبَلُها. وَبَعَثَ ابنُ طاهر حين مات أحمد بأكفانٍ وحَنوط، فأبَى صالح أن يقبَلَه، وقال: إنَّ أبي قد أعدَّ كفنَه وحنوطَه، وردَّه (¬2)، فراجعه، فقال (¬3): إن أمير المؤمنين أعفى أبا عبد الله ممَّا يكرَهُ، وهذا مما يكرَهَهُ (¬4)، فلستُ أقبله. وبه: حدثنا صالحٌ، قال: [قال] (¬5) أبي: جاءني يحيى بن يحيى قال أبي: وما أخرجت خُراسانُ بعد ابن المبارك رجلاً (¬6) يُشْبِهُ يحيى بن يحيى - فجاءني ابنه، فقال: إن أبي أوصى بِمَبْطَنَة له (¬7) لك، قال: يذكرُني بها. قلت: جِيءْ بها، فجاء برُزمةِ ثياب، فقلتُ له: اذهب رَحِمَكَ الله، يعني: ولم يَقْبَلْها. قلت: وقيل: إنَّه أخَذَ منها ثوباً واحداً. وبه: قال: حدثنا صالحٌ، قال: قلت لأبي: إنَّ أحمد الدَّوْرَقي أُعطيَ ألف دينار، فقال: يا بُني: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبْقَى} [طه: 131]. ¬
وبه: قال: حدثنا (¬1) أبي، حدثنا (1) أحمد بن أبي الحواري، حدَّثني عُبيد القاري، قال: دَخَلَ على أحمد عمُّه، فقال: يا ابن أخي، أيش هذا الغَمُّ؟ أيشٍ هذا الحزنُ؟ فرفع رأسه، وقال: يا عمُّ، طُوبى لمن أخملَ الله ذكره. وبه: سمعتُ أبي يقول: كان أحمد إذا رأيته، تعلمُ أنَّه لا يُظهِرُ النُّسُك، رأيت عليه نعلاً لا يُشْبِهُ نعال القُراءِ، له رأس كبيرٌ معقد، وشِراكُه مُسبَلٌ، ورأيت عليه إزاراً وجُبَّة بُرد مخططة. أي: لم يكن بزيِّ القُرَّاء. وبه: حدثنا صالح: قال لي أبي: جاءني أمسِ رجلٌ كنت أُحِبُّ أن تراه، بينا أنا قاعدٌ في نحرِ الظهيرة، إذ برجل سلَّم بالباب، فكأنَّ قلبي ارتاح، ففتحتُ، فإذا برجلٍ عليه فَروة، وعلى رأسه خِرقةُ، ما تحت فروه قميصٌ، ولا مَعَه رَكْوةٌ ولا جِراب ولا عُكَّازٌ، لقد لَوَّحته الشمسُ. فقلت: ادخُلْ، فَدَخَلَ الدهليز، فقلت: مِنْ أين أقبلت؟ قال: من ناحية المشرق، أريد الساحل، ولولا مكانك ما دخلت هذا البلد، نويتُ السلام عليك. قُلتُ: على هذه الحال؟ قال: نعم. ما الزهد في الدنيا؟ قلت: قصر الأمل، قال: فجعلت أعجب منه، فقلت في نفسي: ما عندي ذهبٌ ولا فضة. فدخلت البيت فأخذت أربعة أرغفةٍ، فخرجت إليه، فقال: أوَيَسُرُّك أن أقبل ذلك يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم، فأخذها، فوضعها تحت حِضنه، وقال: أرجو أن تكفيني إلى الرقة (¬2). وأستودعك الله. فكان يذكره كثيراً. ¬
وبه (¬1): كتب إليَّ عَبْدُ اللهِ بن أحمد: سمعتُ أبي (¬2)، وذكرَ الدنيا، فقال: قليلُها يجزئُ، وكثيرُها لا يجزئُ، وقال أبي: وقد ذكرَ عنده الفقر فقال: الفقيرُ معَ الخيرِ. وبه: حدثنا صالح، قال: أمسكَ أبي عن مُكاتبةِ ابن راهَويه، لما أَدخَل كتابه إلى عبدِ الله بن طاهر وقَرأَه. وبه قال: ذكر عبدُ الله بن أبي عمر البكري، سمعتُ عبد الملك بن عبد الحميد الميموني (¬3)، قال: ما أعلم أنِّي رأيت أحداً أنظفَ بدناً، ولا أشدَّ تعاهداً لنفسه في شاربه وشعرِ رأسه وشعرِ بَدَنه، ولا أَنْقَى ثوباً بشدة (¬4) بياضٍ، من أحمد بن حنبل رضي الله عنه. كان ثيابُه بين الثوبين، تَسوَى مَلْحَفَتُه خمسةَ عشر درهماً، وكان ثوبُ قميصه يُؤخذ بالدينارِ ونحوه، لم يكن له دِقة تُنكر، ولا غِلظُ ينكر، وكانت مَلْحَفَتُه مهذبةً. وبه حدثنا صالح، قال: ربَّما رأيت أبي يأخذ الكِسر، ينفض الغبار عنها، ويصيَّرها في قَصعةٍ، ويصُبُّ عليها ماءً، ثم يأكلها بالمِلحِ، وما رأيته اشترى رُمَّانًا ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة، إلاَّ أن يكون بطيخة فيأكلها بخبزٍ وعِنباً وتمراً. وقال لي: كانت والدتك في الغلاء (¬5) تغزِل غزلاً دقيقاً، فتبيع ¬
الأستار بدرهمين (¬1) أقلَّ أو أكثر، وكان ذلك قوتنا، وكنا إذا اشترينا الشيء، نستره عنه كيلا يراه، فيُوبِّخُنا (¬2)، وكان ربما خُبِزَ له، فيجعل في فخَّارة عدساً وشحماً وتمرات شِهريز (¬3)، فيجيء الصِّبيان، فيصوِّتُ ببعضهم، فيدفعه إليهم، فيضحكون ولا يأكلون. وكان يأتدِمُ بالخلِّ كثيراً. قال: وقال أبي: إذا لم يكن عندي قطعة، أفرح. وكان إذا توضَّأ لا يدعُ من يستقي له، ورُبَّما اعتللت فيأخذ قدحاً فيه ماء، فيقرأ فيه، ثم يقول: اشرب منه، واغسِلْ وجهَكَ ويديك. وكانت له قلنسُوةٌ خاطَها بيده، فيها قُطن، فإذا قام بالليل لَبِسَهَا. وكان ربما أخذ القدوم، وخرج إلى دار السكان، يعملُ الشيء بيده، واعتل فيعالج. وكان ربما خرج إلى البقَّال، فيشتري الجُرزَةَ الحطب والشيء، فيحملُه بيده. وكان يتنوَّر في البيت. فقال لي في يوم شتوي: أريدُ أدخلُ الحمامَ بعد المغرب، فقل لصاحب الحمام. ثم بعث إليَّ: إني قد أضربتُ عن الدخول. وتنوَّر في البيت. وكنث أسمعُه كثيراً يقول: اللهمَّ سلِّم سلِّم. ¬
وبه حدثنا أحمد بن سنان، قال: بعثت إلى أحمد بن حنبل حيث كان عندنا أيام يزيد جَوْزاً ونَبْقاً (¬1) كثيراً، فقَبِلَ، وقال: لي كل هذا؟ قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبي، وذكر عنده الشافعي رحمه الله، فقال: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه، ثم قال عبد الله: كل شيء في كتاب الشافعي أخبرنا الثقة فهو عن أبي. الخلال: حدثنا المروذي، قال: قَدِمَ رجل من الزهاد، فأدخلته على أحمد، وعليه فروٌ خَلَقٌ، وخُرَيْقَة على رأسه وهو حافٍ في بَرد شديد، فسلَّم، وقال: يا أبا عبد الله، قد جئتُ من موضعٍ بعيد، ما أردت إلاَّ السلام عليك، وأريدُ عبَّادان، وأريد أن أنا رجعت، أسلِّم عليك. فقال: إن قُدِّر. فقام الرجل وسلم (¬2)، وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله، حتى يقوم هو إلاَّ هذا الرجل، فقال لي أبو عبد الله: ما ترى ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه أبو عبد الله أربعة أرغفة مشطورة بكامخ (¬3)، وقال: لو كان عندنا شيءٌ، لواسيناك. وأخبرنا المروذي: قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، بأيِّ شيء هذا؟ قلت له (¬4): قدم رجل من طرسوس، فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هَدَأَ الليل، رفعوا ¬
أصواتهم بالدُّعاء، ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمُدُّ المنجنيق، ونرمي عن أبي عبد الله. ولقد رُمي عنه بحجرٍ، والعِلج على الحصن متترسٌ بدَرَقَة فذهب برأسه وبالدِّرَقَةِ (¬1) فتغيَّر وجهُ أبي عبد الله، وقال: ليته لا يكون استدراجاً. قلت: كلا. وعن رجلٍ قال: عندنا بخراسان يظنُّون أن أحمد لا يُشبِهُ البشر، يظنون أنه من الملائكة. وقال آخر: نظرةٌ عندنا (¬2) من أحمد تعدِلُ عبادة سنة. قلت: هذا غلوُّ لا ينبغي، لكن الباعث له حبُّ ولي الله في الله. قال المرُّوذي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهبٌ، فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله. وأدخلت نصرانياً على أبي عبد الله، فقال له: إنِّي لأشتهي أن أراك منذ سنين. ما بقاؤك صلاحٌ للإسلام وحدَهم، بل للخلق جميعاً، وليس من أصحابنا أحدٌ إلاَّ وقد رَضِيَ بك. قلتُ لأبي عبد الله: إني لأرجو أن يكون يدعى لك في جميع الأمصار. فقال: يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه، فما ينفعه كلام الناس. قال عبد الله بن أحمد: خَرَجَ أبي إلى طرسوس ماشياً، وحجَّ حجتين أو ثلاثاً (¬3) ماشياً، وكان أصبر الناس على الوحدة، وبِشْرٌ لم يكن يصبر على الوحدة. كان يخرج إلى ذا وإلى ذا. ¬
ومن آدابه
قال عباس الدوري: حدثنا علي بن أبي فزارة (¬1) جارنا، قال: كانت أمي مُقعدةً من نحو عشرين سنة. فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل، فسله أن يدعو لي، فأتيت، فدقَقْتُ عليه وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ فقلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء. فسمعت كلامه كلام رجلٍ مُغضبٍ. فقال: نحن أحوج أن تدعوا الله لنا، فولَّيت منصرفاً. فخرجتْ عجوز، فقالت: قد تركته يدعو لها. فجئت إلى بيتنا فدقَقْتُ الباب، فخرجت أمي تمشي على رجليها (¬2). هذه الواقعةُ نقلها ثقتان عن عباس. قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يُصلِّي في كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة. فلمَّا مَرِضَ من تلك الأسواط، أضعفته، فكان يُصلي كُلَّ يوم وليلة مئةً وخمسين ركعة. وعن أبي إسماعيل الترمذيِّ: قال: جاء رجلٌ بعشرة آلاف من ربح تجارته إلى أحمد فردَّها. وقيل: إن صيرفياً بذل له (¬3) خمس مئة دينار، فلم يقبل. ومن آدابه: وقال المروذي: قال لي أحمد: ما كتبت حديثاً إلاَّ وقد عملت به حتى مرَّ بي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجمَ وأعطى أبا طيبة ديناراً فأعطيت الحجام ¬
ديناراً حين احتجمتُ (¬1) وقال: رأيت أبا عبد الله قد ألقى (¬2) لِخَتَّانٍ درهمين في الطست. وقال عبد الله: ما رأيت أبي حدَّث من غير كتابٍ إلاَّ بأقل من مئة حديثٍ. وسمعت أبي يقول: قال الشافعي: يا أبا عبد الله: إذا صحَّ عندكم الحديث، فأخبرونا حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبرٌ صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً. قلت: لم يحتج إلى أن يقول حجازياً، فإنه كان بصيراً بحديث الحجاز، ولا قال مصرياً، فإن غيرهما كان أقعد بحديث مصر منهما .. الطبراني: حدثنا موسى بن هارون: سمعت ابن راهويه، يقول: لما خرج أحمد (¬3) إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ. ¬
أبو نعيم: حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا شاكر بن جعفر، سمعت أحمد بن محمد التستري، يقول: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طَعِمَ فيها، فبعث إلى صديق له، فاقترض منه دقيقاً، فجهَّزوه بسرعة، فقال: كيف ذا؟ فقالوا: تنَّورُ صالح مُسْجَرٌ، فخبزنا فيه، فقال: ارفعوا، وأَمَرَ بسدِّ بابٍ بينه وبين صالح. قلت: لكونه أخذ جائزة المتوكل. قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير. قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يقرأُ كُلَّ يوم سُبعاً، وكان ينامُ بعد العشاء نومةً خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يُصلِّي ويدعو. وقال صالح: كان أبي إذا دعا له رجلٌ، قال: ليس يحرز الرجل المؤمن إلاَّ حفرته، الأعمال بخواتيمها. وقال لي في مرضه: أخرج كتاب عبد الله بن إدريس، فقال: اقرأ عليَّ حديث ليث: إنَّ طاووساً كان يكره الأنين في المرض. فما سمعتَ لأبي أنيناً حتى مات .. وسمِعَه ابنه عبد الله يقول: تمنيت الموت: وهذا أمر أشدُّ عليَّ من ذاك، ذاك فتنةُ الضرب والحبس، كنت أحملُه، وهذه فتنةُ الدنيا. قال أحمد الدورقي: لما قَدِمَ أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق، رأيتُ به شُحوباً بمكة. ولد تبيّن عليه النَّصبُ والتَّعَبُ، فكلمته، فقال: هيِّن فيما استفدنا من عبد الرزاق. قال عبد الله: قال أبي: ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه إلاَّ المجلس الأول، وذلك أنا دخلنا بالليل، فأملى علينا سبعين حديثاً. وقد
جالس مَعْمَراً تسع سنين. وكان يكتبُ عنه كل ما يقول. .. قال عبد الله: من سمع من عبد الرزاق بعد المئتين، فسماعه ضعيفٌ. قال موسى بن هارون: سُئِلَ أحمد: أين نطلب البدلاء؟ فسكت ثم قال: إن لم يكن من أصحاب الحديث فلا أدري. قال المروذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت، خَنَقَتْه العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت، هان على كلُّ (¬1) أمر الدنيا، إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام (¬2) قلائل. ما أعدِل بالفقرِ شيئاً. ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكرٌ. وقال: أريد أن أكون في شِعْبٍ بمكة حتى لا أعرف، قد بُليتُ بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً. قال (¬3) المروذي: وذكر لأحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له (¬4). وقال: لقد استرحت (¬5)، ما ¬
جاءني الفرجُ إلاَّ منذ خلفتُ أن لا أحدِّث، وليتنا نُترَكُ، الطريق ما كان عليه بِشرُ بن الحارث. فقلت له: إنَّ فلاناً، قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، قال: زَهِدَ في الناس. فقال: ومن أنا حتى أزهَدَ في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ. وسمعتُه يكرهُ للرجل النوم بعد العصر، يخاف على عقله (¬1). وسُئِلَ عن القراءة بالألحان، فقال: هذه بدعةٌ لا تُسمع. قال الخلال: عن زهير بن صالح: كان لي أخٌ أصغر مني اسمه علي، فأراد أبي أن يَخْتِنه، فاتَّخذ له طعاماً كثيراً، ودعا قوماً، فوجَّه إليه جدي: إنك قد أسرفت، فابدأ بالضعفاء والفقراء. فلما أن كان من الغد، وحضر الحجَّام، وحضر أهلُنا، جاء جدي، وأخرج صُرّةً، فدفعها إلى الحجام، وقام فنظر الحجَّام في الصُّرَّة، فإذا درهم واحد، وكنا قد رفعنا كثيراً من الفُرُش. قال الميموني: كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله من الشيء، فيقول: لبَّيك لبيك. وعن المروذي: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد. كان مائلاً إليهم، مُقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حِلْمٌ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تَعْلوه السكينةُ والوقارُ. وإذا جلس [في مجلسه بعد العصر] للفُتيا لا يتكلمُ حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدَّر. ¬
ومن كرمه
قال عبد الله: رأيت أبي حرَّج على (¬1) النمل أن يُخْرَجوا من داره، فرأيت النمل قد خرجن بعدُ نملاً سُوداً، فلم أرهم بعد ذلك. ومن كرمه: الخلال: حدثنا عبد الله قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدِّب: كنت آتي أباك فيدفع إليَّ الثلاثة دراهم وأقل وأكثر ويقعدُ معي، فيتحدث، وربما أعطاني الشيء، ويقول: أعطيتك نصف ما عندنا. فجئت يوماً، فأطلت القعود أنا وهو. قال: ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة. فقال: هذا نصف ما عندنا. فقلت: هي أحبُّ إليَّ من أربعة آلاف من غيرك. وقال هارون المستملي: لقيت أحمد فقلت: ما عندنا شيء. فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها. قال المروذي: رأيت أبا عبد الله قد وهب لرجل قميصه، وكان ربما واسى من قُوتِه. وكان إذا جاءه أمرٌ يُهِمُّه من أمر الدنيا، لم يُفطر وواصل. وجاءه أبو سعيد الضرير، وكان قال (¬2) قصيدة في ابن أبي دواد، فشكا إلى أبي عبد الله، فقال: يا أبا سعيد، ما عندنا إلاَّ هذا الجَذَع. فجيء بحمَّال، قال فبِعْتُه بتسعةِ دراهم ودانِقين. وكان أبو عبد الله شديد الحياء، كريم الأخلاق، يُعجِبُه السَّخاء. قال المروذي: سمعتُ أبا الفوارس ساكن (¬3) أبي عبد الله، يقول: ¬
قال لي أبو عبد الله: يا محمدُ، ألقى الصبيُّ المقراض في البئر، فنزلتُ فأخرجته. فكتب إلى البقَّال: أعطه نصف درهم. قلت: هذا لا يسوى قيراط. والله لا أخذته. قال: فلما كان بعد، دعاني، فقال: كم عليك من الكِراء؟ قلت: ثلاثة أشهر. قال: أنت في حِلٍّ. الخلال: حدثنا الميموني ما رأيتُ أبا عبد الله عليه طيلسان قط، ولا رداء (¬1)، إنما هو إزارٌ صغير. وقال الفضل بن زياد: ربما لَبِسَ القلنسوة بغير عمامة. قال أبو داود: كنت أرى إزاره محلولة، ورأيتُ عليه من النعال والخفافِ غيرَ زوجٍ، فما رأيتُ فيه مخصراً، ولا شيئاً (¬2) له قبالان (¬3). الخلال: حدثنا محمد بن الحسين، أن أبا بكر المروذي حدثهم في آداب أبي عبد الله، قال: كان لا يجهل، وإن جُهِلَ عليه حَلُم واحتمل ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العَجُول، كثيرُ التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لينُ الجانب، ليس بِفَظٍّ، وكان يُحبُّ في الله، ويبغضُ في الله، وإذا كان في أمرٍ من الدين اشتدَّ له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران. وسرد الخلاَّل حكاياتٍ فيمن أهدى إلى أحمد، فأتى به بأكثر من هَدِيَّته. قال الخلال: حدَّثنا أحمد (¬4) بن جعفر بن حاتم، حدثني محمد بن ¬
الحسن بن الجُنيد، عن هارون بن سفيان المستملي، قال: جئت إلى أحمد بن حنبل حين أراد أن يفرق الدراهم التي جاءته من المتوكل، فأعطاني مئتيّ درهم. فقلت: لا تكفيني. قال: ليس هنا غيرها، ولكن هوذا، أعمل بك شيئاً أعطيك ثلاث مئةٍ تُفرِّقُها. قال: فلما أخذتها، قلت: ليس والله أعطي أحداً منها شيئاً، فتبسم. قال عبد الله: ما رأيت أبي دخل الحمَّام قَطُّ. الخلال: حدثنا عبد الله بن حنبل: حدثني أبي، قال [قيل] لأبي عبد الله لما ضُرِبَ وبرىء، وكانت يدُه وَجِعَة، وكانت تضرب عليه، فذكروا له الحمَّام، وألحُّوا عليه، فقال لأبي (¬1): كلِّم صاحب الحمام يُخليه لي، ففعل ثم امتنع، وقال: ما أريد أن أدخل الحمام. وقال المروذي: رأيتُ أبا عبد الله يقوم لورده قريباً من نصف الليل حتى يقارب السحر، ورأيتُه ركع فيما بين المغرب والعشاء. وقال عبد الله: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوامٍ بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويُخفيه، ويُصلي بين العشاءين. فإذا صلَّى عشاء الآخرة، رَكَعَ ركعاتٍ صالحة، ثم يوتر وينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيُصلي. وكانت قراءته لينةً، ربما لم أفهم بعضها. وكان يصوم ويُدْمِنُ، ثم يُفطر ما شاء الله. ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر، أدمن الصوم إلى أن مات. ¬
تركه للجهات جملة
تركه للجهات جُملةَ: عن محمد بن يحيى خادم المُزني عنه، قال: قال الشافعي: لما دخلت على الرشيد، قال: اليمن يحتاج إلى حاكم، فانظُر رجلاً نُوليه، فلما رجع الشافعي إلى مجلسه، ورأي أحمد بن حنبل من أمثلهم، كلمه في ذلك، وقال: تهيَّأ حتى أُدخِلَك على أمير المؤمنين. فقال: إنما جئت لأقتبس منك العلم، وتأمُرني أن أدخل في القضاء، ووبخه. فاستحيا الشافعي. قلت: إسنادها مظلمٌ. قال ابن الجوزي: قيل: كان هذا في زمان الأمين. وأخبرنا ابن ناصر، أخبرنا عبد القادر، أخبرنا البرمكي، أخبرنا أبو بكر عبد العزيز، أخبرنا الخلاَّل، أخبرني محمد بن أبي هارون، حدثنا الأثرم، قال: أخبرتُ أن الشافعي قال لأبي عبد الله: إن أمير المؤمنين، يعني، محمداً، سألني أن ألتمس له (¬1) قاضياً لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق، فقد نِلتَ حاجتك، وتقضي بالحق، فقال للشافعي: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ هذا منك ثانية، لم تَرَني عندك. فظننت أنه كان لأبي عبد الله ثلاثون (¬2) سنة، أو سبع وعشرون (¬3) سنة. الصَّنْدلي: حدثنا أبو جعفر الترمذي، أخبرنا عبد الله بن محمد البلخي أن الشافعي كان كبيراً عند محمد بن زُبَيْدة، يعني: الأمين، فذكر ¬
له محمد يوماً اغتمامه برجلٍ يصلح للقضاءِ صاحب سنة. قال: قد وجدت. قال: ومن هو؟ فذكر أحمد بن حنبل. قال: فلقيه أحمد، فقال: أخْمِل هذا وأعفني، وإلاَّ خرجتُ من البلد. قال صالح بن أحمد: كتب إليَّ إسحاق بن راهويه: إن الأمير عبد الله ابن طاهر وجَّه إليَّ، فدخلتُ عليه وفي يدي كتاب أبي عبد الله. فقال: ما هذا؟ فقلت: كتاب أحمد بن حنبل، فأخذه وقرأه، وقال: إني أحبه، وأحب حمزة بن الهَيْصَم البُوشنجي، لأنهما لم يختلطا بأمر السلطان. قال: فأمسك أبي عن مكاتبة إسحاق. قال إبراهيم بن أبي طالب: سمعت أحمد بن سعيد الرِّباطي، يقول: قدمت على أحمد بن حنبل، فجعل لا يرفع رأسه إليَّ، فقلت: يا أبا عبد الله، إنه يُكتب عني بخُراسان، وإن عاملتني بهذه المعاملة رَمَوا حديثي، قال: يا أحمد، هل بُدُّ يوم القيامة من أن يقال: أين عبد الله بن طاهر وأتباعه؟ فانظر أين تكون منه. قال عبد الله بن (¬1) بشر الطالقاني: سمعت محمد بن طارق البغدادي، يقول: قلت لأحمد بن حنبل: أستمِدُّ من محبرتك، فقال: لم يبلُغْ ورعي وورعك هذا، وتبسَّم. قال المروذي (¬2): قلتُ لأبي عبد الله: الرجل يقال في وجهه: أحييتَ السنة، قال: هذا فسادٌ لقلبه. الخلال: أخبرني محمد بن موسى، قال: رأيت أبا عبد الله، وقد ¬
قال له خُراساني: الحمد لله الذي رأيتُك، قال: أيُّ شيء ذا؟ من أنا؟ وعن رجل قال: رأيت أثر الغَمِّ في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخصٌ، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً. قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً. من أنا وما أنا؟! الخلال: أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي، قال: مسحت يدي على أحمد، وهو ينظر، فغضب، وجعل ينفُضُ يدَه ويقولُ: عمَّن أخذتُم هذا. وقال خطاب بن بشر: سألتُ أحمد عن شيء من الوَرَع، فتبيَّن الاغتمام عليه إزراءً على نفسه. وقال المروذي: سمعتُ أبا عبد الله وذكر أخلاق الورعين، فقال: أسألُ الله أن لا يَمْقُتنا. أين نحنُ من هؤلاء؟!! .. قال الأبَّار: سمعتُ رجلاً سأل أحمد، قال: حلفت بيمين (¬1) لا أدري أيش هي؟ فقال: ليتك إذا دَرَيْتَ دَريْتُ أنا. قال إبراهيم الحَرْبي: كان أحمد يجيب في العرس والختان، ويأكل. وذكر غيره أن أحمد ربما استعفي من الإجابة. وكان إن رأي إناء فضة أو منكراً، خرج. وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس، ويعودُ المريض، وكان يكرَهُ المشي في الأسواق، ويُؤثِرُ الوَحدة. قال أبو العباس السراج: سمعت فتح بن نوح، سمعتُ أحمد، يقول: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحدٌ من الناس. ¬
وقال الميموني: قال أحمد: رأيت الخلوة أروح لقلبي. قال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني أنا قد بُليتُ بالشهرة. وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكرَه أن يتبعه أحدٌ. قلت: إيثارُ الخمول والتواضع، وكثرة الوَجَل من علامات التقوى والفلاح. قال صالح بن أحمد: كان أبي إذا دعا له رجلٌ، يقول: الأعمال بخواتيمها. وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كَفافاً لا عَلَيَّ ولا لي. وعن المروذي قال: أدخلتُ إبراهيم الحُصري على أبي عبد الله -وكان رجلاً صالحاً- فقال: إن أمي رأت لك مناماً، هو كذا وكذا. وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا. وخرج إلى سفك الدماء. وقال: الرُّؤيا تسُرُّ المؤمن ولا تغُرُّه. قال المروذي: بال أبو عبد الله في مرض الموت دماً عبيطاً، فأريته الطبيب، فقال: هذا رجل قد فتَّت الغمُّ أو الخوف جوفه. ورُوي عن المروذي، قال: قلت لأحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربُّه؟ يُطالبُه بأداء الفرائض، ونبيُّه يطالبه بأداء السنة، والملَكَان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!
الخلال: أخبرنا المروذي، قال: مررت وأبو عبد الله متوكىء على يدي، فاستقبلتنا امرأة بيدها طُنبور، فأخذته فكسرته، وجعلت أدوسه، وأبو عبد الله واقفٌ منكس الرأس. فلم يقُل شيئاً، وانتشر أمر الطُّنبور. فقال أبو عبد الله: ما علمت أنك كسرت طُنبوراً إلى الساعة. قال الميموني: قال لي القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم (¬1) سَحَراً. وعن إبراهيم بن هانىء النيسابوري، قال: كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي. وذكر من اجتهاده في العبادة أمراً عجيباً. قال: وكنتُ لا أقوى معه على العبادة، وأفطَرَ يوماً واحداً، واحتَجَمَ. قال الخلال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا العباس بن أبي طالب: سمعت إبراهيم بن شماس، قال: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلامٌ وهو يُحيي الليل. قال محمد بن رجاء: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يقول يوماً: ما صليت اليوم غير الفريضة. استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي. وعن عبد الله بن أحمد، قال: كان في دهليزنا دكانٌ، إذا جاء من يُريد أبي أن يخلو معه، أجلَسه ثمَّ، وإذا لم يُرد، أخذ بعِضَادَتي الباب، وكلَّمه. فلما كان ذات يوم، جاءنا (¬2) إنسان، فقال لي (¬3): قل: أبو ¬
إبراهيم السائح. قال: فقال أبي: سلَّم عليه، فإنه من خيار المسلمين. فسلمت عليه، فقال له أبي: حدثني (¬1) يا أبا إبراهيم. قال: خرجت إلى موضع، فأصابتني علة، فقلت: لو تقربت إلى الدير لعلَّ من فيه من الرهبان يُداويني. فإذا بِسَبُع عظيمٍ يقصدني، فاحتملني (¬2) على ظهره حتى ألقاني عند الدير. فشاهد الرُّهبان ذلك فأسلموا كلهم. وهم أربع مئة. ثم قال لأبي: حدثني يا أبا عبد الله. فقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا أحمد، حُجَّ، فانتبهت، وجعلت في المِزْوَدِ فتيتاً، وقصدت إلى الكوفة. فلمَّا تَقَضَّى بعضُ النهار، إذا أنا بالكوفة. فدخلت الجامع، فإذا أنا بشابٍّ حسن الوجه، طيب الريح. فسلمت وكبرت، فلما فرغت من صلاتي، قلت: هل بقي من يخرج إلى الحج؟ فقال: انتظر حتى يجيء أخٌ من إخواننا، فإذا أنا برجلٍ في مثل حالي. فلم نزل نسير (¬3)، فقال له (¬4) الذي معي: رحمك الله، ارفُق بنا. فقال الشاب: إن كان معنا أحمد بن حنبل، فسوف يرفق بنا. فوقع في نفسي أنه خَضِر (¬5)، فقلت للذي معي: هل لك في الطعام؟ فقال: كل مما تعرف، وآكل مما أعرف. فلما أكلنا، غاب الشاب. ثم كان يرجع بعد فراغنا. فلما كان بعد ثلاث، إذا نحن بمكة. هذه حكاية منكرة. قال أبو يعلى: نقلتُ من خط أبي إسحاق بن شاقْلا: أخبرني عمر ¬
بن علي، حدثنا جعفر الرزاز جارنا، سمعت أبا جعفر محمد بن المدني (¬1)، سمعت عبد الله فذكرها. فلعلَّها من وضع الرزاز. أنبؤونا عن ابن الجوزي، أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، حدثنا عبد الله بن إسحاق البَغَوي، حدثنا أبو جعفر محمد بن يعقوب الصفار، قال: كنا عند أحمد، فقلت: ادع الله لنا. فقال: اللهم إنك تعلم أنك لنا على (¬2) أكثر مما نحِبُّ، فاجعلنا لك على ما تحبُّ. اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} [فصلت: 11]. اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلاَّ إليك، ومن الذل إلاَّ لك. رواتها أئمةٌ إلى (¬3) الصفار، ولا أعرفه. وهي منكرة. أخبرنا عمر بن القوَّاس، عن الكندي، أخبرنا الكرُوخيُّ، أخبرنا شيخ الإسلام الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا زاهر بن أحمد، حدثنا علي بن عبد الله بن مُبَشِّر: سمعت الرمادي، سمعت عبد الرزاق، وذكر أحمد، فدمعت عينه. وقال: قدم وبلغني أن نفقته نَفِدَتْ، فأخذت عشرة دنانير، وعرضتُها عليه، فتبسم، وقال: يا أبا بكر، لو قبلت شيئاً من الناس، قبلت منك. ولم يقبل مني شيئاً. الخلال: أخبرني أبو غالب علي بن أحمد، حدثني صالح بن أحمد، قال: جاءتني حُسْن، فقالت: قد جاء رجل بتلِّيسة (¬4) فيها فاكهة ¬
يابسة، وبكتاب. فقمت فقرأت (¬1) الكتاب، فإذا فيه: يا أبا عبد الله، أبضعت لك بضاعة إلى سمرقند، فربحت، فبعثت بذلك إليك أربعة آلاف، وفاكهة أنا لقطُتها من بستاني ورِثته من أبي. قال: فجمعت الصبيان ودخلنا، فبكيتُ وقلتُ: يا أبة، ما ترِقُّ لي من أكل الزكاة؟ ثم كشف عن رأس الصبية، وبكيت. فقال: من أين علمت؟ دع حتى أستخير الله الليلة. قال: فلما كان من الغد. قال: استخرتُ الله، فعزم لي أن لا آخُذَها. وفتح التلِّيسة ففرَّقَها على الصبيان. وكان عنده ثوبٌ عُشاري، فَبَعَثَ به إلى الرجل، وردَّ المال. عبد الله بن أحمد: سمعت فوران، يقول: مَرِضَ أبو عبد الله، فعاده الناس، يعني: قبل المئتين. وعاده عليُّ بن الجَعْد، فترك عند رأسه صُرَّة (¬2)، فقلت له عنها، فقال: ما رأيت. اذهب فردَّها إليه. أبو بكر بن شاذان: حدثنا أبو عيسى أحمد بن يعقوب، حدثتني فاطمة بنت أحمد بن حنبل، فقالت: وقع الحريق في بيت أخي صالح، وكان قد تزوج بغنية، فحملوا إليه جهازاً شبيهاً بأربعة آلاف دينار، فأكلته النار فجعل صالح، يقول: ما غمَّني ما ذهب إلاَّ ثوبٌ لأبي. كان يصلي فيه أتبرَّك به وأُصلِّي فيه. قالت: فطُفِىء الحريق، ودخلوا فوجدُوا الثوب على سرير قد أكلت النار ما حولَه وسَلِم. قال ابن الجوزي: وبلَغَني عن قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أنه حكى أن الحريق وقع في دارهم، فأحرق ما فيها إلاَّ كتاباً كان ¬
فيه شيء بخطِّ الإمام أحمد. قال: ولمَّا وقعَ الغرق ببغداد في سنة 554 (¬1)، وغرقت كتبي، سَلِمَ مجلدٌ فيه ورقتان بخط الإمام. قلت: وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مئة ببغداد عام على حفائر (¬2) مقبرة أحمد، وأن الماء دخل في الدِّهليز عُلُو ذِراعٍ، ووقف بقدرة الله، وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغُبارها، وكان ذلك آيةً. أبو طالب: حدثنا المروذي: سمعت مجاهد بن موسى، يقول: رأيت أحمد، وهو حدث، وما في وجهه طاقة، وهو يُذكَرُ. وروى حَرَمِي بن يونس، عن أبيه: رأيت أحمد أيامَ هُشيمٍ وله قَدْر. قال أحمد بن سعيد الرِّباطي سمعت أحمد بن حنبل، يقول: أخذنا هذا العلم بالذُّلِّ فلا ندفعه إلاَّ بالذل. محمد بن صالح بن هانىء: حدثنا أحمدُ بن شهاب الإسفراييني: سمعتُ أحمد بن حنبل، وسُئِلَ عمَّن نكتب في طريقنا، فقال: عليكم بهَنَّاد، وبسفيان (¬3) بن وكيع، وبمكة ابن أبي عمر، وإيّاكم أن تكتُبوا، يعني: عن أحدٍ من أصحاب الأهواء، قليلاً ولا كثيراً. عليكم بأصحاب الآثار والسُّنن. عبد الله بن أحمد: كتب إليَّ الفتحُ بن شَخْرَف (¬4) أنَّه سمع ¬
موسى بن حِزام الترمذي، يقول (¬1): كنت أختلفُ إلى أبي سليمان الجوزجاني في كتب محمد، فاستقبلني أحمد، فقال: إلى أين؟ قلت: إلى أبي سليمان. فقال: العجبُ منكم! تركتُم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يزيد عن حُميد، عن أنس، وأقبلتم على ثلاثة إلى أبي حنيفة، رحمه الله. أبو سليمان، عن محمد، عن أبي يوسف، عنه! قال: فانحدرت إلى يزيد بن هارون. ابن عدي: أخبرنا عبد الملك بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد: سمعت أبي، يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولَوَدِدْتُ أني أنجو كفافاً. الحاكم: حدثنا أبو علي الحافظ: سمعت محمد بن المسيب، سمعت زكريا بن يحيى الضرير، يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مُفتياً؟ يكفيه مئة ألف حديث؟ فقال: لا. إلى أن قال: فيكفيه خمس مئة ألف حديث؟ قال: أرجو. تقدم قول الذهبي في قول أبي زرعة: إن محفوظ أحمد كان ألف ألف حديث، كانوا يعُدُّون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي وما فسر، ونحو ذلك، وإلاَّ فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عُشْرَ معشار ذلك انتهى. ثم ذكر الذهبي سيرة أحمد في الفتنة، وما جَرَى معه مع (¬2) المأمون من الحبس قليلاً، ثم مات المأمون قبل امتحان أحمد، ثم وَلِيَ ¬
فصل في حال أحمد في دولة المتوكل
المعتصم، وضَرَبَه الضرب الشديد، حتى ظنَّ أنه يموت، فأخرجه لكي لا يموت في حبسه، فتثُور عليه العامة، ثم وَلِيَ الواثق فَنَهَى أحمد أن يُساكِنَه بأرضٍ، فاختفي مُدَّة حياته، ثم وَلِيَ المتوكِّلُ، وقد اختصرت (¬1) ما ذكره الذهبي في المحنةِ لطوله، فإنَّه ساقه في ست عشرة (¬2) ورقة، وإن كان فيه أعظمُ دليل على شِدَّةِ وَرَعِ هذا الإمام وتقواه، وبذله للروح فما دونه في مرضاةِ الله. وقال الذهبي بعد ذلك: العجب من أبي القاسم علي بن الحسن الحافظ، كيف ذكر ترجمة أحمد مطوَّلةً كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمةً مع صحة أسانيدها، فإنَّ حنبلاً ألَّفها في جزأين، وكذلك صالح بن أحمد وجماعة. فصلٌ في حال (¬3) أحمد في دولة المتوكل قال حنبل: وَلِيَ المتوكل جعفرٌ، فأظهر الله السُّنَّة، وفرَّج عن الناس، وكان أبو عبد الله يحدثنا ويُحدِّث أصحابه في أيام المتوكل. وسمعته يقول: ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا. إلى أن قال: فلما كان بعد أيام بينا نحن جلوسٌ بباب الدار، إذ بيعقوب أحد حجاب المتوكل قد جاء، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل، ودخل أبي ¬
ومع بعضِ غلمانه بَدْرَةٌ (¬1)، ومعه كتابُ المتوكل. فقرأه على أبي عبد الله: فأبى أن يَقْبَل المال، وقال: ما لي إليه حاجة. فقال: اقبل من أمير المؤمنين، فإنه خيرٌ لك عنده، فإنَّه إن رددتَه (¬2)، خِفتُ أن يظن بك سُوءاً. فحينئذٍ قَبِلَها، فلما كان من الليل، إذا أُمُّ ولد أبي عبد الله تدُقُّ (¬3) علينا الحائط، فخرجنا، فدخلنا عليه، فقال: يا عم، ما أخذني النوم، لأجل هذا المال، وجعل يَتَوَجَّعُ لأخذِه، وأبي يُسكِّنُه (¬4) ويُسهِّلُ عليه. وقال: حتى تُصبح، وترى فيه رأيك. فإن هذا ليل، والناس في المنازل، وخرجنا. فلما كان من السحر، وجَّه إلى عبدوس بن مالك، وإلى الحسن ابن البزار وحضر جماعةٌ، منهم: هارون الحمال، وأحمد بن منيع، وابنُ الدَّوْرَقي، وأبي، وأنا، وصالح، وعبد الله. فجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل السِّتْرِ والصلاح ببغداد والكوفة، فوجَّه منها إلى أبي كريب، وللأشج وإلى من يعلمون حاجته، ففرَّقها كلها ما بين الخمسين إلى المئة وإلى المئتين، فما بقي في الكيس درهم. فلما كان بعد ذلك، مات الأمير إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد. ثم ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله، فقرأ عليه كتاب المتوكل، وقال له: يأمرك بالخروج يعني: إلى سامَرَاء. فقال: أنا شيخٌ ضعيفٌ عليل. فكتب بما ردَّ عليه، فردَّ جواب الكتاب: أن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجَّه عبد الله أجناداً، فباتوا على بابنا أياماً، ¬
حتى تَهَيَّأ أبو عبد الله للخروج، فخرج ومعه صالح وعبد الله وأبي زُمَيْلَة (¬1). قال صالح: كان حمل أبي إلى المتوكل سنة سبعٍ وثلاثين. ثمَّ [و] (¬2) إلى أن مات أبي قلَّ يومٌ يمضي إلاَّ ورسول المتوكل يأتيه. قال حنبل: فأخبرني أبي، قال: دخلنا إلى العسكر، فإذا نحن بموكبٍ عظيم مُقبل، فلما حاذى بنا، قالوا: هذا وصيفٌ، وإذا بفارس مقبل، فقال لأبي عبد الله: الأمير وصيفٌ يُقرئُك السلام، وقال: إن الله قد أمكنك من عدوِّك، يعني: ابن أبي دُوَاد، وأمير المؤمنين يقبل منك، فلا تَدَعْ شيئاً إلاَّ تكلمت به. فما رد عليه أبو عبد الله شيئاً. وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ولوصيف. ومضينا، فأُنزلنا في دار إيتاخ، قال: حوَّلوني، اكترُوا لي داراً. قالوا: هذه دارٌ أنزلَكَها أمير المؤمنين، قال: لا أبيتُ ها هنا. ولم يزل حتى اكترينا له داراً. وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والثلج والفاكهة وغير ذلك، فما ذاق منها شيئاً، ولا نظر إليها. وكان نفقة المائدة في اليوم مئةً وعشرين درهماً. وكان يحيى بن خاقان، وابنه عبيد الله، وعليُّ بن الجهم (¬3) يختلفون إليه برسالةِ المتوكل. ودامت العلة بأبي عبد الله، وضعف شديد. وكان يواصل، ومكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب، ففي الثامن دخلت عليه، وقد كاد أن يُطفَأ، فقلت: ابن الزبير كان يواصلُ سبعة أيام، وهذا لك ثمانية أيام. قال: إني مُطيقٌ. قلت: بحقي عليك. ¬
قال: فإنِّي أفعل. فأتيته بسويق فشَرِبَ. ووجَّه إليه المتوكل بمال عظيم، فرده، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك (¬1). قال: هم مستغنون، فردَّها عليه [فأخذها] (¬2) عبيد الله، فقسمها على ولده، ثم أجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف. فبعث إليه أبو عبد الله: إنهم في كفاية، وليست بهم حاجة (¬3). فبعث إليه المتوكل: إنما هذا لولدك، فما لك ولهذا؟ فأمسك أبو عبد الله، فلم يزل يُجري علينا حتى مات المتوكل. وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي كلام كثير. وقال: يا عم، ما بقي من أعمارنا. كأنك بالأمر قد نزل. فالله الله، فإن أولادنا إنَّما يريدون أن يأكلوا بنا، وإنما هي أيامٌ قلائل، وإنما هذه فتنة. قال أبي: فقلت: أرجو أن يَؤمِّنك الله مما تحذر. فقال: كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم؟ ولو تركتموها، لتركوكم. ما ننتظر إنما هو الموت. فإما إلى جنةٍ، وإمَّا إلى نار. فطُوبى لمن قَدِمَ على خير. قال: فقلت: أليس قد (¬4) أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف (¬5) نفس، ولا مسألةٍ إن تأخذه؟ قال: قد أخذت مرة بلا إشراف نفس، فالثانية (¬6) والثالثة؟ ألم تستشرف نفسُك؟ قلت: أفلم يأخذ ابن عمر وابن عباس؟ فقال: ما هذا وذاك! وقال: لو أعلمُ أن هذا المال يُؤخذُ من وجْهِه، ولا يكون فيه ظُلمٌ ¬
ولا حَيْف لم أُبالِ. قال حنبل: ولمَّا طالت عِلَّةُ أبي عبد الله، كان المتوكلُ يبعث بابن ماسويه المتطبِّب، فيصفُ له الأدوية، فلا يتعالج. ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين ليست بأحمد عِلَّةٌ، إنما هو من قلة الطعام، والصيام والعبادة، فسكت المتوكل. وبلغ أمَّ المتوكل خبر أبي عبد الله، فقالت لابنها: أشتهي أن (¬1) أرى هذا الرجل، فوجَّه المتوكل إلى أبي عبد الله، يسألُه أن يدخل على ابنه المعتز، ويدعو له ويسلم عليه، ويجعله في حجره. فامتنع، ثم أجاب رجاء أن يُطلَق، فوجه إليه المتوكل خِلْعَةً، وأَتَوه بدابةٍ يركبها فامتنع، وكانت عليه مِيثرَةَ نُمُورٍ. فقدم إليه بغلٌ لتاجر، فركبه (¬2)، وجلس المتوكل مع أمه في مجلسٍ من المكان، وعلى المجلس سِترٌ رقيق. فدخل أبو عبد الله على المعتز (¬3)، ونظر إليه المتوكل وأمه. فلما رأته، قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل، فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله، فائذنْ له ليذهب، فدخل أبو عبد الله على المعتز، فقال: السلام عليكم، وجلس، ولم يسلم عليه بالإمْرَة ققال مؤدِّبه: أصلح الله الأمير، هذا هو الذي أمره (¬4) أمير المؤمنين يُؤدِّبُك ويعلِّمك؟ فقال الصبي: إن علمني شيئاً، تعلمتُه! قال أبو عبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره، وكان صغيراً. ¬
ودامت علة أبي عبد الله، وبلغ المتوكل ما هو فيه، وكلمه يحيى بن خاقان، وأخبره أنه رجلٌ لا يريد الدنيا، فأذن له في الانصراف، فانصرف. وكان ربما استعار الشيء من منزلنا ومنزل ولده، فلما صار إلينا من مال السلطان ما صار، امتنع من ذلك حتى لقد وُصِفَ له في علته قرعة تُشوى، فشُويت في تنُّور صالح، فعلم، فلم يستعملها ومثل هذا كثير. وقد ذكر صالح قصة خروج أبيه إلى العسكر، وتفتيش بيوتهم على العَلَوي، وورود يعقوب بالبَدْرَة، وأن بعضها كان مئتى دينار، وأنه بكى، وقال: سلِمْتُ منهم، حتى إذا كان في آخر عمري، بُليتُ بهم. وذكر أنه فرق (¬1) الجميع، ونحن في حالةٍ، الله بها عليم. فجاءني ابنٌ لي فطلب درهماً، فأخرجت قطعة، فأعطيته، فكتب صاحب البريد: إنه تصدَّق بالكل ليومه حتى بالكيس. قال عليُّ بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد تصدَّق بها (¬2)، وعلم الناس أنه قَبِلَ منك، وما يصنع أحمد بالمال؟! وإنما قُوتُه رغيفٌ. قال: صدقت. قال صالح: ثم أخرج أبي ليلاً ومعنا حراسٌ، فلمَّا أصبح، قال: أمعك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أعطهم. وجعل يعقوب يسير معه، فقال له: يا أبا عبد الله، ابن الثلجي بلغني أنه كان يذكرك. قال: يا أبا يوسف، سَلِ الله العافية. قال: يا أبا عبد الله، تريدُ أن نؤدِّيَ عنك ¬
رسالةً إلى أمير المؤمنين؟ فسكت، فقال: إن عبد الله بن إسحاق أخبرني أن الوابِصِيَّ (¬1)، قال له: إني أشهد عليه أنه قال: إن أحمد يعبُدُ ماني (¬2)! فقال: يا أبا يوسف يكفي الله، فغضب يعقوب، والتفت إلي فقال: ما رأيت أعجب مما نحن فيه. أساله أن يُطلَق لي كلمةً أُخبِرُ بها أميرَ المؤمنين، فلا يفعل!! قال: ووجَّه يعقوب إلى المتوكل بما عمل، ودخلنا العسكر، وأبي منكسُ الرأس، ورأسهُ مُغطَّى. فقال له يعقوب: اكشف رأسك، فكشَفَه. ثم جاء وصيفٌ يريد الدار، ووجَّه إلى أبي بيحيى بن هَرْثَمَة (¬3)، فقال: يُقرِئُك أمير المؤمنين السلام، وقال: الحمد لله الذي لم (¬4) يُشمِّتْ بك أهل البِدَع، قد علمت حال ابن أبي دواد، فينبغي أن تتكلَّم (¬5) فيه بما يجبُ لله. إلى قوله: وجعل يعقوب وغياث يصيران إليه، ويقولان له: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دُوَاد وفي ماله فلا يجيبُ بشيءٍ إلى قوله: ¬
ثم قال يعقوب: إن لي ابناً أنا به مُعجب، وإنَّ له في قلبي مَوْقِعاً، فأُحِبُّ أن تُحَدِّثَهُ بأحاديث، فسكت. فلما خرج، قال: أتراه لا (¬1) يرى ما أنا فيه؟!! .. وكان يختم القرآن من جمعة إلى جمعة، فلمَّا كان غداة الجمعة، وجَّه إليَّ وإلى أخي. فلمَّا ختم، جعل يدعو ونحن نؤمِّن. فلما فرغ (¬2)، جعل يقول: أستخير الله مراتٍ. فجعلت أقول: ما تريدُ؟ ثم قال: إني (¬3) أُعطي الله عهداً، إن عهده كان مسؤولاً، وقال (¬4) تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] إني (¬5) لا أحدِّث بحديثٍ تمامٍ أبداً حتى ألقى الله، ولا أستثني منكم أحداً، فخرجنا، وجاء عليُّ بن الجهم فأخبرناه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: إنما تريدون أحدِّث، ويكون هذا البلد حبسي، وإنما كان سبب الذين أقاموا بهذا البلد لما أُعطوا فقبلوا، وأُمروا فحدَّثوا، والله لقد تمنيتُ الموت في هذا وذاك. إن هذا فتنة الدنيا، وذاك فتنة الدين، ثم جعل يضُمُّ أصابعه، ويقول: لو كانت تفسي في يدي لأرسلتها [ثم يفتح أصابعه] (¬6). وكان المتوكل يُكثرُ السؤال عنه، وفي خلال ذلك يأمر لنا بالمال، ويقول: لا يُعلَمُ شيخُهم فيَغْتَمَّ، ما يريد منهم؟ إن كان هو لا يريد الدنيا، فلِمَ يمنعهم؟! ¬
وقال للمتوكل: إنه لا يأكل طعامك، ولا يجلسُ على فِراشك، ويُحرِّم الذي تشرب. فقال: لو نُشر لي المعتصم، لقال فيه شيئاً، لم أقبل منه. ثم ذكر الذهبي من شدة منعه لأولاده من قبول الأموال شيئاً عجباً (¬1) إلى قوله: أنبؤونا عمَّن سمع أبا علي المُقرىء، أخبرنا أبو نعيم (¬2)، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: كتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى أبي يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن القرآن، لا مسألة امتحان، لكن مسألة معرفة وتبصرة. فأملى عليَّ أبي: إلى عُبيد الله بن يحيى، بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلها، ودفع عنك المكاره برحمته، قد كتبتُ إليك، رضي الله عنك، بالذي سأل عنه أمير المؤمنين بأمر القرآن بما حضرني، وإني (¬3) أسال الله أن يُديمَ توفيق أمير المؤمنين، فقد كان الناس في خوضٍ من الباطل، واختلافٍ شديد ينغمسون فيه (¬4)، حتى أفضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين، فنفي الله به كلَّ بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس (¬5). ووقع ذلك من المسلمين موقعاً عظيماً، ودَعُوا الله لأمير المؤمنين [وأسأل الله أن يستجيب في أمير ¬
المؤمنين صالح الدعاء، وأن يُتمَّ ذلك لأمير المؤمنين] (¬1) وأن يزيد في نيته، وأن يُعْينَه على ما هو عليه. فقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: لا تَضرِبُوا كتاب الله بعضه ببعضٍ، فإنه يُوقِعُ الشك في قلوبكم. وذُكِرَ عن عبد الله بن عمرو، أن نفراً كانوا جلوساً عند باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضُهم: ألم يقل [الله] (¬2) كذا، وقال بعضهم، ألم يقل الله كذا (¬3)؟ فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج كأنما فُقِىءَ في وجهه حَبُّ الرُّمان، فقال: " أبهذا أُمِرتُم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلَّت الأمم قبلكم في (¬4) مثل هذا، انظروا الذي أُمِرتُم به، فاعملوا به، والذي نُهِيتُم عنه، فانتهوا عنه " (¬5). ورُوي عن أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ["مراءٌ في القرآن كفرٌ" (¬6) ¬
وروي عن أبي جهيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:] (¬1) " لا تَمَارَوْا في القرآن، فإنَّ مراءٌ فيه كفر " (¬2). وقال ابن عباس: قدم رجلٌ على عمر، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أُحِبُّ أن يسارعوا يومهم في القرآن هذه المسارعة. فزَبَرَني عُمر، وقال: مه. فانطلقت إلى منزلي كئيباً حزيناً، فبينا أنا كذلك، إذ أتاني رجلٌ، فقال: أجِبْ أميرَ المؤمنين. فخرجت، فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذَ بيدي، فخَلاَ بي، وقال: ما الذي كرهتَ؟ قلت: يا أمير المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعة، يحتَقُّوا (¬3)، ومتى ¬
يحتَفُّوا (¬1) يختصموا، ومتى يختصِمُوا يختلفوا، ومتى ما اختلفُوا يقتتلوا. قال: لله أبوك، والله إن كنتُ لأكتُمها الناس، حتى جئت بها (¬2). ورُوي عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعرض نفسه على الناس (¬3) بالموقف، فيقول: " هل مِنْ رجُلٍ يحمِلُني إلى قومه، فإنَّ قريشاً قد منعُوني أن أُبَلِّغ كلام ربِّي " (¬4). ورُوي عن جُبَير (¬5) بن نُفَير، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّكُم لن ترجعوا إلى الله بشيءٍ أفضَلَ ممَّا خَرَجَ منه " يعني: القرآن (¬6). ¬
ورُوي عن ابن مسعود، قال: جرِّدوا القرآن، لا تكتبوا فيه شيئاً إلاَّ كلام الله (¬1). وروي عن عمر أنه قال: هذا القرآن كلام الله، فضَعوهُ مواضعه (¬2). وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنِّي إذا قرأتُ كتاب الله، وتدبَّرته، كِدتُ أن أيأسَ، وينقطعَ رجائي، فقال: إن القرآن كلام الله، وأعمالُ ابن آدم إلى الضعف والتقصير، فاعمل وأبشر (¬3). ¬
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنتُ جاراً لخبَّاب، فخرجتُ يوماً معه إلى المسجد، وهو آخذٌ بيدي، فقال: " يا هَنَاه، تَقَرَّب إلى الله بما استطعتَ، فإنَّك لن تتقرَّب إليه بشيءٍ أحبَّ إليه من كلامه" (¬1). وقال رجلٌ للحَكَمَ: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات. وقال معاويةُ بن قُرَّة: إياكم وهذه الخصومات (¬2)، فإنها تحبط الأعمال. وقال أبو قِلابة: لا تُجالسوا أهل الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات. فإنِّي لا آمَنُ أن يَغمِسوكم في ضلالتهم (¬3)، ويُلبِسوا عليكم بعض ما تعرفون. ودخل رجلان من أصحاب (¬4) الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثُك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا. لَتَقومانِّ عني، أو لأقومَنَّهْ، فقاما. [فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟ قال ... ] (¬5). وقال (¬6): ¬
خَشِيتُ أن يقرأ آية فيحرفاها (¬1)، فَيَقَرَّ ذلك في قلبي. وقال رجُلٌ من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر أسألُك عن كلمة؟ فولَّى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة. وقال ابن طاووس لابنٍ له يكلمه رجلٌ من أهل البدع: يا بُني أَدْخِلْ أصبعيْك في أُذُنيك حتى لا تسمع ما يقُول. ثم قال: اشْدُد اشدد (¬2). وقال عمر بن عبد العزيز: مَن جعل دينه غرضاً (¬3) للخصومات، أكثر التنقل. وقال إبراهيم النَّخَعي: إن القوم لم يُدَّخَرْ عنهم شيء خُبِّىء (¬4) لكم لفضلٍ (¬5) عندكم. وكان الحسنُ يقول: شرُّ داءٍ خالط قلباً، يعني: الأهواء. وقال حذيفةُ: اتَّقُوا الله، وخُذوا طريق مَنْ كان قبلكم، والله لئِنِ استَقَمْتُمْ، لقد سَبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتُموه يميناً وشمالاً، لقد ضللتم ضلالاً بعيداً، أو قال: مبيناً. قال أبي: وإنما تركت الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حَلَفْتُ بها مما قد علمه أمير المؤمنين، ولولا ذاك، ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} ¬
كتاب " الرد على الجهمية " الموضوع على أحمد بن حنبل، وظواهر الوضع
[التوبة: 6]. وقال: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]. فأخبَرَ أن الأمر (¬1) غيرُ الخلق. وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان} [الرحمن: 1 - 4]. فأخبر أن القرآن من عِلْمه. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]. إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. فالقرآن من علم الله. وفي الآيات دليلٌ على أن الذي جاءه هو القرآن. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق (¬2)، وهو الذي أذهب إليه، لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلاَّ ما كان في كتاب الله، أو في حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود (¬3). فهذه الرسالة إسنادُها كالشمس، فانظر إلى هذا النَّفَس النوراني، لا " كرسالة الإصطخري " (¬4)، ولا " كالرد على الجهمية " الموضوع على ¬
أبي عبد الله (¬1)، فإن الرجل كان تقياً ورعاً لا يَتَفَوَّه بمثل ذلك. وكذلك رسالة المُسيء (¬2) في الصلاة باطلةٌ، وما ثَبَتَ عنه أصلاً وفرعاً، ففيه كفاية. ومما ثبت عنه مسألة الإيمان، وقد صَنَّفَ فيها. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الإيمان قول ¬
موضوع خلق القرآن وأقوال العلماء
وعمل، ويزيد وينقص، البِرُّ كله من الإيمان، والمعاصي تنقص الإيمان. أقول: هذا لفظُ الذهبي، ونصه بحروفه من خطه (¬1) المعروف، لكن فيه شيء مصلح بغير خطه، وأحسبُه لبعض المبتدعة، وقد حذفتُه، وهو ما لفظه: " ولعله قاله " صلَّحه عقيب قول الذهبي، فإن الرجل كان تقياً، ورعاً، لا يتفوَّهُ بذلك، وكان مكان هذا اللفظ المصلح لفظ غيره بخط الذهبي، وبدله بما يناقض كلام الذهبي، وما خَفِيَ ذلك ولله الحمد لوجوه: أحدها: الكشط الواضح. وثانيها: الخط المخالف. وثالثها: المعنى المناقض لما قبله، ولما بعده، ولما تكرر من نحو ذلك في غير هذا الموضع. من ذلك قول الذهبي بعد هذا بقليل. أنبؤونا عن محمد بن إسماعيل، عن يحيى بن مندَة الحافظ أخبرنا أبو الوليد الدَّرْبَنْدي سنة (¬2) أربعين وأربع مئة، أخبرنا (¬3) أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الأسود بدمشق، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر النَّهاوَنْدي، حدثنا (4) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن زُوران لفظاً، حدثنا (¬4) ¬
أحمدُ بن جعفر الإصطخري (¬1)، قال (¬2): قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: هذا مذهب أهل العلم والأثر، فمن خالف شيئاً من ذلك أو عاب قائلها، فهو مُبتدع. وكان قولهم: إن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ، وتمسكٌ بالسنة، والإيمان يزيد وينقصُ، ومن زعم أن الإيمان قول، والأعمال شرائع، فهو جهميٌّ، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان، فهو مُرجىء، والزنى والسرقة وقتل النفس، والشرك (¬3) كلها بقضاءٍ وقدرٍ من غير أن يكون لأحد على الله حجة. إلى أن قال: والجنة والنار خُلِقَتا، ثم خلق الخلقُ لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبداً. إلى أن قال: والله تعالى على العرش، والكرسيُّ موضعُ قدميه. إلى أن قال: وللعرش حَمَلَة. ومن (¬4) زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي. ومن لم يكفِّره، فهو مثله. وكلم الله موسى تكليماً من فيه. إلى أن ذكر أشياء من هذا الأنموذج المنكر، والأشياء التي -والله- ما قالها الإمام. فقاتل اللهُ واضعَها. ومن أسمجِ ما فيها قوله: ومن زعم أنه لا يرى التقليد، ولا يُقلِّد دينه أحداً، فهذا قول فاسقٍ عدو لله. فانظر إلى جهل المحدثين كيف يروون هذه (¬5) الخُرافة، ويسكتون عنها (¬6). ¬
انتهى كلام الذهبي بنصِّه، وحروفِه، فقد بان لك تَصَلُّب هذا الحافظ المطَّلعِ على القطع بتنزيه هذا الإمام من هذه الحموقات، والمنكرات مع عدم مُداهنته، وسطعه بالحق حتى في مثالِبِ الأصدقاء، ومناقب الأعداء، فما رأيتُ له شبيهاً في ذلك، والله يُحِبُّ الإنصاف. فإن قلت: ومن أين عَلِمَ صحة نفي ذلك عن أحمد حتى حَلَفَ عليه، والشهادة على النفي لا تَصِحُّ. قلت: مثل ما يَعْلَمُ الزيديُّ كَذِبَ ذلك، لو وَجَدَهُ مسنداً إلى أئمته، وكذلك المعتزلي. فإن قلت: إنَّ لأئمَّةِ الشيعة والمعتزلة من النصوص على ذلك ما يوجب القطع على براءتهم عن مثل هذا لو لُطِخُوا به. قلت: هل تُريدُ أن كُلَّ أحدٍ من المكلفين يعلم براءتهم من ذلك وإن لم يشتغل بعلومِهم، ويُطَالِعْ كتبهم، ويَعْرِفْ نصوصَهم فهذا ممنوعٌ، أو تريد أن كل من اشتغل بمعرفة علومهم، ومطالعة كتبهم عرف ذلك، فهذا مسلمٌ، ولكن للذهبي في معرفة مذاهب الفقهاء، والمعلوم منها، والمظنون مثل ما لكم في معرفة مذاهب أئمتكم، ألا تراه حكى أن لأحمد بن حنبل كتاباً في نفي التشبيه في مجلدة، ثم ذكر سائر تواليفه، ومن رواها، وما يَصِحُّ منها عنه، وما لا يَصِحُّ إلى أمثال ذلك ممَّا يُفِيدُ شِدَّة العناية بمعرفة أحواله، فلا ينكر بمن بالغ في معرفة أمر أن يختصَّ فيه بما لا يعرفه سواه، لأن قرائن الأحوال إذا كثُرت، أفادت علوماً ضرورية لا يمكن التصريح بمستندها، كما تُميِّزُ حُمْرَةُ الخجل وصفرة الوَجَل (¬1) من غيرهما ¬
بالقرائن ونحو ذلك. ولو لم يكن في ذلك من القرائن إلاَّ ما في قصة المِحنة لمن تأملها مما يدل على براءته من هذه العظائم، فإنهم حبسوا الإمام أحمد، وضربوه، وعذبوه على مسألة القرآن، وهي أسهل من مسائل التشبيه. وكان ابن أبي داود عَدُوَّ أحمد يتمنى ما يُشَنِّعُ به عليه، فكيف يكون في عقل عاقل: قد تظاهر أحمد بالتشبيه الفظيع، ثم ما ضربوه عليه ولا عاقبوه من أجله مع تعرُّضِهم لذلك فيما هو أهونُ منه، ثم إنه عَرَضَ في مناظرتهم ذكر التشبيه، فألزموه ذلك، كما يُلزَمُ المنكرُ الممتنع، وذلك يفيدُ العلمَ بعدم ظهوره عنه، لا يُقالُ أنه ترك إظهار ذلك تَقِيَّةً، لأن من عرف أمرَ المحنة، عَلِمَ أنه لو كان مُتَاقياً لتاقى (¬1) في مسألة القرآن، فقد خاف القتل فيها، بل توعَّده المعتصم به غير مرة، وظن ذلك أحمد، بل كان أحبَّ إليه من التعذيب، فهذا مع ما تقدَّم من تأليفه في (¬2) نفي التشبيه، وروايات ثقات أهل مذهبه، وثناءِ من يُكفِّرُ المشبهة عليه من سائر أهل المذاهب أوضح دليل على براءته. وأما الشهادة على النفي، فبابُ الشهادات غير ما نحن فيه، ولها أحكامٌ أُخَرُ. وأما أحكامُ المسلمين فإنَّما يُرجَعُ فيها إلى الظواهر، ومتعلق القطع والظن فيها هو الظواهر غالباً، ويجوز القطعُ بالنفي في باب الحمل على السلامة، لقوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ¬
أي فرق بين الخلق والحدوث حتى يكفر القائل بأحدهما دون الآخر؟
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (¬1) [النور: 16] وقوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]. ويلحق بهذا (¬2) فائدةٌ تتعلق بيان مقاصدهم في القرآن، فإن المغرب عنها إذا وقف على ما ذكرنا عنهم، قال بلسان الحال، أو بلسان المقال (¬3): كيف يَصِحُّ إنكارُهم لخلق القرآن، وقِدَمِه؟ وكيف كَفَّرُوا من قال: بخلقه؟ ولم يُكَفِّرُوا مَنْ قال: بحدوثه!! وهل (¬4) هذا إلاَّ محض الجهل ونقصانُ العقل؟! ومن بلغ به الجهل إلى هذا الحد لم يكن معدوداً من العلماء ولا مذكوراً في (¬5) " النبلاء "، وكيف يمكن سلبُ الخلق والقِدَم معاً وهو يستلزم سلب النفي والإثبات وارتفاعهما عن الشيء الواحد وذلك من المحالات الضرورية، وأيُّ فرقٍ بين الخلقِ والحدوث حتى يكفر القائل بأحدِهما دون الآخر. والجواب: من وجهينِ معارضةٌ وتحقيق: أمَّا المعارضة، فللمعتزلة من المتكلمين مثل ذلك، فإن أبا (¬6) هاشم (¬7)، يقول: إن إرادة الله حادثةٌ غير مخلوقة، ولا قديمة، والبغدادية تقول مثل ذلك في جميع أفعال العباد، لأنَّ المخلوق عندهم ما فُعِلَ بغير ¬
الوجه الثاني: تحقيق
آلة، وكذا أفعالُ الله عند أبي عبد الله، لأن الخلق عنده الفكر. الوجه الثاني: أنهم ما جَهِلُوا هذه العلوم الضرورية، والمعارف الأولية، التي لا يخلو مُكلَّفٌ من معرفيها، وإن كانوا ما حفظوا (¬1) اصطلاح أهل العقول في مجرد أسمائها الاصطلاحية، ولو كانوا مِمَّن يجهل جليات العقليات، ما صحَّ منهم استنباطُ الخفيات في الفقهيات (¬2)، فإليهم (¬3) المنتهى في الذكاء، وصفاء الأذهان، ومعرفة البرهان، وحفظ السنة والقرآن، ولكن العبارات مختلفةٌ منها: لغوية، واصطلاحية، وفصيحة، وركيكةٌ، وبسيطة، ووجيزة، وحقيقةٌ، ومجاز، وعامة، وخاصة (¬4)، وعامة (¬5) يُرادُ بها الخصوص، وخاصةٌ يُراد بها العموم، وجميع ذلك عربي شهير مستعملٌ كثير، بل اللغات عربية وعجمية، ومعربة وملحونة، ولكل أهل فنٍّ عُرْفٌ واصطلاح كما ذلك لكلِّ أهل زمنٍ (¬6) وبلد. وما أحسن قول العلاَّمة القرطبي في " شرح مسلم ": إن أكثر (¬7) المتكلمين أعرَضُوا عن الطرق (¬8) التي أرشد الله إليها إلى طرقٍ مبتَدَعةٍ (¬9)، ومناقشاتٍ لفظيةٍ يَرِدُ بسببها على الأخذِ فيها شُبَهٌ يُعجَزُ عنها، وأحسنهم انفصالاَّ عنها (¬10) أجدلُهم، لا أعلَمُهم، فكمْ من عالمٍ بفساد الشُّبهة لا ¬
كلام في الجدال وفي علم المنطق
يَقوَى على حلِّها، وكم مِن منفصلٍ عنها لا يُدرك حقيقة علمها. ونحو هذا كلام الذهبي في " زغلِ العلم " (¬1) حين ذكر علم المنطق والجدل، وفي كلامه ما معناه: أنها علوم يتمكن الماهر فيها من نُصرة الباطل، وترجيجه على الحقِّ، وإن كان يعلمُ أنه مبطلٌ. قلت: و (¬2) ذلك بالنسبة إلى بعض الناس ممَّن يُصغي إلى الوِسواس، فلا فرق بين وسواس الشيطان، وشُبَهِ اليونان، إلاَّ أن هؤلاء شياطين الإنس، وأولئك شياطين الجن يُوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القول غُروراً. وَرَوَى الذهبي في " الميزان " (¬3) في ترجمة أبي اليمان الحكم بن نافعٍ الحمصي، عن النواس بن سمعان مرفوعاً: " لا تُجادلوا بالقرآن، [ولا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض] (¬4) فوالله إن المؤمن ليُجَادل بالقرآن فيُغلَبُ، وإن المنافق ليُجَادِلُ بالقرآن فيَغْلِبُ " (¬5). ثم قال: غريبٌ جداً مع قُوةِ إسناده. قلت: وهذا بغير شكٍّ في بعض المؤمنين، لقوله: {وجَادِلْهُمْ بِالتي هي أحْسَنُ} [النحل: 125] وغير ذلك. وإذا كان هذا في الجدال بالقرآن، فكيف بعلوم اليونان، فيجب ¬
على من لا يُحْسِنُ الجدالَ عن الحق تركُه. فإذا تقرَّر هذا، فاعلم أنَّ أصل الخلاف في مسألة القرآن في زمن التابعين، وذلك أن المسلمين ما زالوا على أنَّ الله تعالى متكلمٌ (¬1)، وأن له كلاماً (¬2) على ظاهر ذلك (¬3) من غير تأويلٍ ولا تشبيهٍ (¬4)، تصديقاً للنُّصوص القرآنية، مثل قوله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164]، وقوله سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعضٍ منهُم مَنْ كَلَّمَ اللهُ} [البقرة: 253] برفع الله، أي: من كلَّمه الله (¬5)، وهي من أبين الآيات في الفرق بين الوحي والكلام، لأن الله أوحى إلى كُلِّ نبيٍّ، وخصَّ بعضهم بالتكليم (¬6)، وفضَّله بذلك. وقوله تعالى: {وإنْ أحدٌ من المشركين استجارَكَ فأجِرْهُ حتى يسمَعَ كلامَ اللهِ} [التوبة: 6]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174]. ¬
وقال في الذين يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً نحو ذلك. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. وذكر في غير آيةٍ من كتاب الله ما كلَّم به موسى مثل قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 13 - 14]. وقال تعالى: {يسمعون كلام الله (¬1) ثم يحرِّفونه} [البقرة: 75]. وقال: {يُريدُونَ أن يبدِّلوا كلامَ الله} [الفتح: 15]. وقال: {اتلُ ما أُوحِيَ إليكَ مِنْ كِتابِ ربِّكَ لا مُبدِّل لكلماتِه} [الكهف: 27]، وقال: {لا تبديلَ لكلمات الله} [يونس: 64]. وقال: {ويُريدُ الله أن يُحِقَّ الحقَّ بكلماتِه ويقطعَ دابرَ الكافرين} [الأنفال: 7]، وقال: (ويُحِق الله الحقَّ بكلماته ولو كَرِهَ المُجرمُون} [يونس: 82]. وقال: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربيِّ لَنَفِدَ البحرُ قبل أن تنفَدَ كلماتُ ربِّي} [الكهف: 109]، وقال: {ولو أنَّ ما في الأرضِ ¬
من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يمُدُّهُ مِنْ بعدِه سبعةُ أبحُرٍ ما نَفِدَتْ كلماتُ الله} [لقمان: 27]. وقال: {ولكن حقَّت كلمةُ العذابِ على الكافرين} [الزمر: 71]، وقال: {إنَّ الذين حقَّت عليهم كلمةُ ربِّك لا يُؤمنون ولو جاءتهُم كُلُّ آية حتى يَرَوُا العذابَ الأليم} [يونس: 96 - 97]، وقال: {وتمَّت كلمةُ ربِّك لأملأنَّ جهنَّم} [هود: 119]، وقال: {وتمَّت كلمةُ ربِّك الحُسنَى على بني إسرائيلَ بما صَبَرُوا} [الأعراف: 137]. وجاء في الأخبار النبوية، والآثار الصحابية من هذا ما لا يُحصى، وتكرَّر وشاع بين الخاصة والعامة، فاقتضى العلم الضروري بأنه على ظاهرِهِ بهذه القرينة، كما ثَبَتَ في نظائره، وكذلك نسبة القول إلى الله، وهو والكلامُ عبارتان عن معنىً واحدٍ، فمنه قوله سبحانه: {قال اللهُ يا عيسى} [آل عمران: 55]، وقال: {فالحَقُّ والحقَّ أقُولُ} (¬1) [ص: 84]، وقال: {ولكن حَقَّ القولُ مني} [السجدة: 13]، وقال: {لقد حَقَّ القولُ على أكثرِهم} [يس: 7]. وقال: {ومَن أصدقُ مِنَ اللهِ قيلا} [النساء: 122]، وقال: {ومَن أصدَقُ مِنَ اللهِ حديثاً} [النساء: 87]، وقال: {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58]، وقال: {قولُهُ الحقُّ} [الأنعام: 73]، وقال: {وإذْ قالَ ربُّك للملائكةِ} [البقرة 30]، {وقُلنا يا آدمُ اسكُنْ أنت وزوجُك الجنةَ} [البقرة: 35]. ¬
وذُكِرَ في غير موضعٍ ما كلَّم الله به ملائكته (¬1) ورسله وعباده، وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة: {قالوا ماذا قال ربُّكُم قالوا الحقَّ وهو العلي الكبير} [سبأ: 23]. وقال: {يومَ يجمَعُ الله الرُّسُل فيقولُ ماذا أُجِبْتُم} [المائدة: 109]، وقال: {ويومَ يُناديهم فيقولُ ماذا أجبتُمُ المُرسَلينَ} [القصص: 65] وفي هذه الآية لفظ المناداة (¬2). وكذلك لفظ السؤال قد ورد في قوله تعالى: {فلنسألنَّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنَّ المُرسَلِينَ} [الأعراف: 6]. وكذا ما ورد في القرآن على صيغة {يا عبادِ لا خوفٌ عليكم اليوم} (¬3) [الزخرف: 68]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (¬4) [الأنفال: 64]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]. بل قال تعالى في الاحتجاج على بطلان ربوبية عِجْلِ السامري: {أفلا يَرَوْنَ أن لا يَرْجِعَ إليهِمْ قولاً ولا يملِكُ لهُم ضَرّاً ولا نَفْعَاً} [طه: 89]، فدلَّ ذلك على أن من صفات الله الواجبة أن يكون متكلماً كلاماً حقيقياً، فكيف يَجِبُ عكس ذلك، ويُكَفَّرُ مَنْ قاله. وقال: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا ¬
هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 63 - 67]. وفيها أن من لا ينطق كمن لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع، وأنه لما نبَّهَهُم (¬1) على ذلك عرفوا أنه حقٌّ {فقالوا إنَّكُم أنتُم الظالمون ثم نُكِسُوا} فجحدوا الحُجَجَ الواضحة، أشار إليه الزمخشريُّ (¬2). إلى سائر ما وَرَدَ في الأخبار والآثار من ذلك مما (¬3) قد أشار (¬4) أحمد بن حنبل إلى بعضه في كتابه المُقدَّم إلى المتوكل، وذكر البيهقي منه طَرَفاً صالحاً في كتاب " الأسماء والصفات " (¬5)، فآمن المسلمون (¬6) ولم يعتقدوا فيه المجاز، ولا التشبيه، كلما آمَنوا بكلام الجمادات من غير تَجَوُّزٍ ولا تشبيهٍ، فإنه ليس للجمادات من أدوات الكلام ما للإنسان. فإذا صحَّ الكلام في الجماد (¬7) بالنصِّ والإجماع من الصدر الأول، والمحققين من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم مع عدم شبهه (¬8) للإنسان في أدوات الكلام، وكان ذلك حقيقةً غير مجاز، لم يمتنِعُ مثلُه في حقِّ الله تعالى، ويكون كلامه سبحانُه مُخالِفاً لكلام جميع المخلوقات، كما أنَّ إرادته عند كثيرٍ من المعتزلة فعلٌ له تعالى لا تُوصَفُ بأنها قديمةٌ، ولا ¬
مخلوقة، وتُوجِبُ له صفة، ويختصُّ به، ولا توجد في غيره، ولا تُوصَفُ بالحلول فيه، وهي حقيقةٌ غير مجاز، ممن قال بذلك أبو هاشم. فما المانع من مثل ذلك في كلامه؟ وما الفرق الضروري من الدين بين كلامه في الإرادة، وكلام الظاهرية في القرآن حتى يكفروا به؟ قال الله تعالى في كلام الجمادات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وقال تعالى: {وسخَّرنَا مع داودَ الجبالَ يُسَبِّحنَ والطيرَ} [الأنبياء: 79]. وقال تعالى: {ولقد آتينا دَاوُدَ مِنَّا فضلاً يا جبالُ أوبي معه والطير} (¬1) [سبأ: 10]. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5]. ومثل كلام الجمادات كلام الأعضاء التي ليست لها أدواتٌ، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 20 - 21]. والحجة في قوله تعالى: {الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عامةٌ في الجماد وغيره. ¬
وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. فكان المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وصدراً من زمن التابعين يُؤمنون بجميع هذه الأشياء على حقائقها مع علمهم باختلاف الكلام والمتكلمين (¬1)، فليس كلام الإنسان الناطق باللسان مثل كلام الجمادات، والأعضاء، ولا كلام ربِّ العالمين مثل كلام (¬2) شيء من خلقه أجمعين. فلمَّا حدثت بدعة الكلام والنظر على أساليب الفلاسفة والمشي وراء الخيالات العقلية، قالت المعتزلة وكثيرٌ من المتكلمين: إنَّ جميع ما تلوناه من كتاب الله تعالى من إضافة الكلام إليها، وكذلك القول وما في معناهما من المناداة، والسؤال، كله تشبيه لله تعالى بخلقه، وذمٌّ له عز وجل، وقدحٌ في ربوبيته، وكفرٌ به، وإلحادٌ في أسمائه إلاَّ أن يُتَأوَّل على ما لا تُساعِدُ عليه قواعدُ التأويل، ولا تبقى معه جلالة صوادع التنزيل، وسبحان الله أيكون أحدٌ أعرف بالله وأكره لما لا يليق به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله وأصحابه وتابعيهم. فكيف يسمعون ما ظاهره الكفر والإلحاد في أسماء الله والتشبيه له بخلقه، ولا يُنَبِّهُون (¬3) على تأويله أحداً من المتعلمين، ولا من المسلمين أجمعين. والعلمُ الضروريُّ يقتضي في كل ما شاع مثل هذا في أعصارهم، ولم يذكُرْ أحدٌ منهم (¬4) له تأويلاً البتة أنه على ظاهره على (¬5) ¬
حسبِ ما يليقُ بجلال الله من غير تشبيهٍ كعلم الله وقدرته، فإنهما صفتا كمالٍ بالإجماع. ولو قلنا: إنهما كعلم الخلق وقُدرتهم كان تشبيهاً قبيحاً، وكفراً صريحاً (¬1)، ومع ذلك فلا يَجِبُ تأويلُ ما ورد في الشرع من وَصْفِ الله تعالى بأنه عالمٌ قادر، ونحو ذلك من الحي السميع البصير. فتأمَّل هذه القاعدة التي ذكرتها لك فيما استفاضَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفاضةً متواترةً شائعةً (¬2)، ولم يُذكر له تأويل البتة، فإنها تميز لك الصحيح من العقائد من المُبتدَعِ الفاسد. وقال: من اعتقد استحالة الكلام من الله تعالى، أنه سبحانه لا يوصف بالقدرة على صدوره من ذاته، ولا تُضافُ إليه إلاَّ إضافة تشريفٍ كبيتِ (¬3) الله، وناقةِ الله، فاعتقد المجاز (¬4) في قوله تعالى: {وكلَّم اللهُ موسى تَكلِيماً} [النساء: 164]، واعتقدَ أن الحقيقة أن الله تعالى خَلَقَ الكلام في الشجرة المباركة التي ذكرها الله في كتابه، وأن الكلام صَدَرَ منها لا يصح غيرُ ذلك، وكانت النصوص القرآنية على عصر (¬5) التابعين على جلالتها لم تتبدَّل بكثرة التأويل، فعظُمَ على التابعين أن يكون ظاهرُ قول الله: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} قبيحاً وضلالاً مع أن الله سبحانه نسبه إلى ذاته المقدسة، واحتج على بطلان ربوبية العجل ¬
والأصنام بعدمه، لا بعدم القدرة على خلقه في غيرها. وكذلك بقوله: {تكليماً} مع ما شَهِدَ (¬1) لصحته من سائر الآيات والآثار وإجماع الصحابة على وصف الله تعالى بأنه متكلمٌ، وله كلامٌ من غير إشعارٍ بتأويل، فجَهَرُوا بتكفير من قال ذلك، إما لاعتقادهم أنه مُكَذِّبٌ (¬2) لهذه الآيات، أو أن كلامه يؤولُ إلى التكذيب، ولم يكُن قد عَرَضَ في زمن الصحابة و (¬3) التابعين ذكر الكلام النفسي وقدمه، فلم يذكر أحدٌ منهم هذه المسألة، وإنما كان كلامهم في اللفظيِّ الذي لم يقُل بقِدَمِه طائفةٌ من طوائِفِ المسلمين البتة، وإن شذَّ بذلك بعض المحدثين كما شذَّ أبو علي الجُبَّائي شيخ الاعتزال، فإنه قد شارك هذه الطائفة المخالفة للضرورة في شُبَهِهِم، ووقع من الرِّكَّة في مثلِ ركتِهم حيث قال: إن حكايته لكلام الله تعالى هي كلامه المبتدأ المعجِزُ، ثم انتهى به التدقيق إلى أن المسموع من القارىء شيئان. أحدهما: كلامه. والثاني: كلام الله تعالى، فأثبت حرفين مسموعين غير الصوت، حكاه عنه ابنُ متويه في " تذكرته " (¬4). فإذا كان هذا ضلال إمام النظارين، فأيُّ ملامةٍ على شواذِّ (¬5) ¬
المحدثين مع أنَّ كلام المنصور بالله يقتضي اختيار قوله في أن التلاوة هي المتلوُّ. وكذا ذَهَبَ أبو عليٍّ إلى بقاء الكلام في الكتابة، وكمونه (¬1) فيها، وأنه غيرُ الصوت، فإذا قارَنَه الصوتُ سُمِعَ، وإلاَّ كَمَنَ وبَقِيَ غيرَ مسموع. فقد بان لك الآن أن من أنكرَ قِدَمَ القرآن وخلقه، فلم يَقْصِدْ رفع النفي والإثبات، ولا جهلَ الضرورات، وإنما قَصَدَ أن الكلام الذي سَمِعَه موسى هو كلام الله على الحقيقة لا كلام الشجرة، فإنه لو كان مخلوقاً في الشجرة، كان كلام الشجرة على الحقيقة، وإنْ كان خلقاً لله، كما أنَّ الأعضاء لمَّا أنطقها الله يوم القيامة بدليلِ قولها: {أنطَقَنَا اللهُ الذي أنْطَقَ كُلَّ شيءٍ} [فصلت: 21] كان ذلك كلامَها لا كلام الله، فلذلك استشهدَها الله، ونسبَ (¬2) الشهادة إليها، وقال: {شَهِدَ عَلَيْهِم سمعُهُم وأبصَارُهُم} [فصلت: 20]. ومن قال بقِدَم القرآن فلم يقصِد قِدَمَ الأصوات والحروف المتعاقبة، وإنما قَصَدَ قدم الكلام النفسي الذي المرجعُ به عند المعتزلة إلى الإرادة أو العلم، كما ذلك مقررٌ في كُتُبِ الكلام. وقد روى الذهبي عن اللالكائي في " السنة " (¬3): حدثنا المخلصُ، حدثنا أبو الفضل شعيبُ بن محمد، حدثنا علي بن حرب بسام، سمعتُ شُعيبَ بن حرب، يقول: قلت لسفيان الثوري: حدِّث بحديثٍ في السنة ¬
هل القول بخلق القرآن كفر على الحقيقة أم لا، وفي هذا خلا ف العلماء
ينفعني الله به، فإذا وقفتُ بين يديه، وسألني (¬1) عنه، قلت: يا رب، حدثني بهذا سفيان، فأنجو أنا، وتُؤخذ (¬2). قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، منه بدأ وإليه يعودُ، مَن قال غير ذلك فهو كافرٌ. وقال الذهبي: هذا ثابتٌ عن سفيان، وشيخ المخلص ثقة، ذكره في ترجمة الثوري من " التذكرة " (¬3). وفي " الجامع الكافي " نحو هذا عن الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليه السلام إمام الزيدية في الكوفة فإنه قال: قال و (¬4) الله {يا موسى إنَّني أنا اللهُ لا إله إلاَّ أنا فاعبُدني} [طه: 14] فمن زعم أن الداعي إلى عبادته غير الله فقد ضل .. انتهى. وسيأتي مع أقوال سائر أهل البيت عليهم السلام. وهذا الجنس هو المعروف عن التابعين، وأئمة السنة من دون اعتقادٍ للقِدَمِ، كما ذكر الذهبي في ترجمة أحمد بن حنبل من " النبلاء " (¬5)، وابن تيمية في " منهاج السنة النبوية ". ولا شَكَّ أن القول بخلق القرآن بدعةٌ، وأمَّا (¬6) أنه كفرٌ فقد أطلقه جماهيرُ أئمة السنة وجِلَّتهم، وبعضُ أئمةِ أهل البيت كما سيأتي. ثم ¬
اختلفوا: هل هو كفرٌ على الحقيقة أم لا؟ قال البيهقي في " الأسماء والصفات " (¬1) بعد حكاية أقوال السلف في تكفير من قال بخلق القرآن: ورُوِّيناه في كتاب القَدَر عن جماعةٍ منهم أنهم كانوا لا يَرَوْنَ الصلاة خلف القَدَري ولا يُجيزون شهادته، وحكينا عن الشافعي رحمه الله في كتاب " الشهادات " ما دلَّ على قبول شهادة أهل الأهواء، ما لم تبلُغُ بهم المعصيةُ مبلغَ العداوة، فحينئذٍ تُرَدُّ بالعداوة. وحكينا عنه في كتاب " الصلاة " أنه قال: وأكرَهُ إمامة الفاسق والمُظْهِرِ البدع، ومن صلَّى خلف واحدٍ منهم أجزأتْهُ صلاته، ولم يكن عليه إعادةٌ إذا أقام (¬2) الصلاة. وقد اختلف علماؤُنا في تكفيرِ أهل الأهواء، منهم من كفَّرهم على تفصيلٍ ذكرَهُ في أهوائهم، ومنهم من لم يُكفرْهم، وزَعَمَ أن قول الشافعي في تكفيرِ مَنْ قال بخلق القرآن أراد به كُفراً دون كفر، كقول (¬3) الله عز وجلّ: {ومَنْ لَمْ يحكُم بما أنزَلَ اللهُ فأولئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44]، ومن قال بهذا جرى (¬4) في قبول شهادتهم، وجواز الصلاة خلفهم مع الكراهية، على ما قال الشافعي رحمه الله في أهل الأهواء، والمُظهِرِ البِدَع. ثمَّ حكى (¬5) عن الخطابي أنهُ لا يكفِّرُ من الخوارج والروافض (¬6) إلا ¬
من كفَّر الصحابة. ولا من القدرية إلاَّ من كفَّرَهُ. قال: وكانت المعتزلة في الزمان الأول على خلاف هذه الأهواء، وإنما أحدثها بعضهم في الزمان المتأخر. انتهى كلام البيهقي. وفي " المعالم " للخطابي: الميل إلى ترك (¬1) التكفير مُطلقاً، فإنه مال إلى عدم تكفير الخوارج، بل ادَّعى الإجماع عليه، مع تصريحهم بتكفير خلق كثير من الصحابة، بل تكفير خيرهم في عصره بالإجماع. وأقول: إن المختار ما أشار إليه الشافعي رحمه الله، لأنه لا بد من دليل على الكفر، ولا دليل هنا، لأن أدلة الكفر منحصرةٌ في ثلاثة أشياء، وهي: النصُّ، أو (¬2) التكذيب، أو ما يؤول إلى التكذيب على اختلافٍ فيما يؤول إلى التكذيب. أمَّا النصُّ فغير موجودٍ وفاقاً، أنا في القرآن فواضحٌ، وأما السنة فقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ، اتَّفق أهل الحديث على أنه موضوعٌ، لا أصل له، ومتنه: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فقد كفر (¬3). ¬
قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " (¬1): ونُقل إلينا عن أبي الدرداء مرفوعاً: القرآن كلام الله غير مخلوقٍ. ورُوِيَ أيضاً ذلك (¬2) عن معاذ بني جبل، وعبدِ الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله مرفوعاً. ولا يصح شيء من ذلك، أسانيدُه (¬3) مظلمةٌ لا ينبغي أن يحتجَّ بشيء منها، ولا يُستشهد بشيءٍ منها (¬4). انتهى بلفظه. وذكر الحافط زين الدين أبو حفص عمر بن بدر الموصِلِّيُّ (¬5) في كتابه " المغني عن الحفظ من الكتاب " بقولهم: لم يصح شيءٌ في هذا الباب ما لفظه: كلام الله قديمٌ غير مخلوق، وَرَدَ فيه أحاديث ليس فيها شيءٌ ¬
ثابت. وقال: قاله ابن الجوزي، نقل ذلك ابن النحوي في تلخيصه (¬1) لكتاب زين الدين المذكور. فهذه كلمة إجماعٍ بين حفاظ الحديث الأُمناء عليه، ومن العجب أن المعتزلة ترويه، وتؤوله بالمكذوب، وأئمة الحديث يُزَيِّفُونَه كما هو عادتُهم فيما كُذِبَ لهم، وذلك أعظم شاهدٍ لهم على أنهم أمناءُ الله على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَنْفُون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما ورد ذلك مرفوعاً في صفة حملة العلم (¬2). وأما الإجماع فهو أيضاً منتفٍ لما تقدَّم من تعذُّر العلم بالإجماع القاطع، ولأن الاختلاف في ذلك منقولٌ عن أئمة أهل السنة، كما ذكر البيهقيُّ. ولقد نقل الذهبي في " النبلاء "، و" الميزان "، و" الكاشف " (¬3) عن الحافظ علي بن الجعد أنه قال: من قال القرآن مخلوقٌ لَمْ أُعَنِّفْهُ. فهذا عليُّ بن الجعد يقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، كقول أهل الحديث، ومع ذلك خالف في تعنيف من قال: إنه مخلوقٌ. وقد حكى الذهبي الوقف عن جماعةٍ وافدة، فالمتوقف غيرُ مكفِّرٍ للمخالف، فمنهم من وقف وقف حيرةٍ وشَكٍّ، ومنهم من وَقَفَ وقف حَيْطَةٍ وَوَرَعٍ. ¬
قال الذهبي في " النبلاء " (¬1) في ترجمة إسحاق بن أبي إسرائيل، أحدِ الواقفة: هو الإمام الحافظ الثقة. قال شاهين بن السَّمَيْدَع: سمعت أحمد بن حنبل، يقول فيه (¬2): واقفيٌّ مشؤومٌ إلاَّ أنه كَيِّسٌ صاحبُ حديث. وقال السَّاجي: صدوقٌ، تركوه لموضع الوقف. قال (¬3): معنى قوله تركوه: أعرضُوا عن الأخذ عنه، لا أن حديثه في حيِّز المتروك المطَّرَح، قلت: أدَّاهُ وَرَعُه وجموده إلى الوقف، وقد ناظره (¬4) مصعب الزبيري، فقال: لم أقُل على الشكِّ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي. قال الذهبي: والإنصاف فيمن هذا حاله أن يكون باقياً على عدالته. وحكى ابن عبد ربه في " العقد " (¬5) في المجلد الرابع منه في كتاب الجوهرة في الأمثال في بيان قولهم في القرآن ما لفظه: كتب المريسي إلى أبي السري (¬6) منصور بن محمد: أكتب إلي: القرآن خالقٌ أو (¬7) مخلوقٌ؟ فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة وجعلنا وإياك من (¬8) أهل السنة (¬9)، ومن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأعْطِمْ بها ¬
مِنَّةً، وإن لا يفعل فهي الهلكةُ، وليس لأحدٍ بعد المرسلين (¬1) على الله حجةٌ، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعةٌ، يتكلَّفُ المجيبُ المحسن ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقاً إلاَّ الله، وما سوى الله تعالى مخلوقٌ، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سمَّاه الله بها فتكون من المهتدين، وذر الذين يُلحِدُون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون، ولا تُسَمِّ القرآن باسمٍ من عندك، فتكون من الظالمين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مُشفقون. فهذا فيه إشارةٌ بينةٌ إلى شبهتهم (¬2)، وتقدم جوابُها حيث أجبنا على المعتزلة إحالتهم تجرُّد القرآن عن الخلق والقِدَمِ معاً، ومراد الواقفية نحو هذا، وهو أنهم لا يسمونه إلاَّ بما سماه الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يوصف بأنه غير مخلوق، كما لم يكُن يوصف بأنه مخلوق (¬3) فسكَتُوا عن ذلك، وعن الطائفتين. فبان بهذا أنه لا يصح التمسك بالنص في تكفيرهم، لا نصِّ الكتاب ولا السنة، ولا الإجماع. وأمَّا التمسك بأنهم مكذبون لقوله تعالى: {وكلَّم اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164]، فيُعارِضُه أنهم يُقِرُّون (¬4) بكلام الله وتكليمه، ولكنهم يجعلونه مجازاً. وربما قال منهم قائلٌ بصحته على معنى ¬
الخلق حقيقة، وقد تكلَّم الأصوليون من أجل هذا في مسألة في اشتقاق اسم الفاعل، وهل مِن شرطه أن يكون المعنى المشتق منه قائماً (¬1) بالفاعل أم لا؟ وأجازت المعتزلة أن لا يكون قائماً بالفاعل ليصحَّ لهم تسميته (¬2) تعالى مُتكلماً بكلامٍ غير قائم بذاته، ولا صادرٍ منها، واحتجُّوا بتسميته (¬3) خالقاً، ومنعت ذلك جماعةٌ (¬4) من الأشعرية، وطوَّلها ابن الحاجب في " مختصر المنتهى " (¬5)، وأدقها، وهي لغويةٌ لا تحتملُ تلك الدِّقَّة التي تعلق (¬6) بها. وقد مال الرازي إلى تصحيح كلام المعتزلة، واحتج بصحة النسب، فإن قولنا في الرجل: مكي ومدني مشتقٌّ من مكة والمدينة (¬7). والحق أن هذه المسألة لغوية ليس فيها نظرٌ، ولا قياسٌ، وقد يشتقُّون مما ليس بقائمٍ بالفاعل مثلما ذكر الرازيُّ، ومثل: لابن، وتامر ولكن ما هذا مطرداً ولا قياساً بإجماع اللغويين، ولذلك لا يُسمَّى الله لابِناً وتامِراً مع ورود اللغة بكذلك في من يَملِك اللبن، والتَّمر، ولذلك لا يُسمَّى حجَّاراً ومُترباً لكونه خلق الحجار والتراب، ولا متحركاً ولا ساكناً لمثل ¬
الوجه الثالث: وهو التكفير بمآل المذهب
ذلك، فدلَّ على أن مسألة الكلام مستقلةٌ بنفسها لا ينقل الكلام فيها إلى غيرها. وكذلك كل لفظية (¬1) لغوية، فإذا نظرنا في متكلمٍ لم نجد أهل اللغة يطلقونه على من قام الكلام بغيره. وكذلك نَسَبَ الله كلام الأعضاء يوم القيامة إليها حقيقةً (¬2) لا إليه، وعلى كلام المعتزلة: هو له حقيقة ولها مجاز، وهذا نازلٌ (¬3) جداً فإنه لا يحسُنُ أن يُستشهد بكلامه على مثل هذه الصفة، ولكنَّ اشتراط قيام (¬4) المعنى المشتق منه بالفاعل في هذه المسألة، ليس مما عُلِمَ (¬5) ضرورة من الدين حتى يكفر من أخطأ في ذلك قطعاً، ويُعَدَّ مُكَذِّباً لكلام الله، وللتأويل، وللشبهة في هذا مجال نعوذ بالله من الشُّبَه والضلال، ويُقَوِّي هذا المعنى أنهم إنما قصدوا المحافظة على تصديق قوله سبحانه: " ليس كمثله شيءٌ " ومن قصد المحافظة على تصديق بعض السمع، فتأوَّل بعضه لتصديق بعضه لم يُسَمَّ مُكذِّباً بما أوَّلَهُ، بخلاف القرامطة الذين تأوَّلوا السمعَ (¬6) كُلَّه قاصدين لتبديله كلِّه، وتحريفه جميعه. وأما الوجه الثالث: وهو التكفير بمآل المذهب، ويُسمَّى التكفير بالإلزام، فقد ذَهَبَ إليه كثيرٌ، وأنكره (¬7) المحققون، منهم: محمد بن ¬
إن العمل بالظن لا يمتنع إلا بقاطع، ولا قاطع، والجواب أن ذلك الظن غير حاصل لوجوه
منصور الكوفي الشيعي العلامة، وألَّف في إنكاره كتاباً سمَّاه كتاب " الجملة والأُلفة " وحكى اختياره عن أكابر أئمَّة أهل البيت عليهم السلام وكبار المعتزلة، كما سيأتي بحروفه (¬1). ومنهم الشيخ تقيُّ الدين في شرح " العمدة " (¬2)، والرازي، والغزالي في " التفرقة " (¬3)، وغير واحد، وعليه مدار أكثر التكفير، وهو عندي في غايه الضعف لما تقدَّم من اشتراط القطع في التكفير عند المعتزلة والشيعة، وطوائف من الأمة، وهو كذلك في حقِّ من أراد القطع بالكفر. فإن قيل (¬4): إنه ينزل عن هذه المرتبة إلى مرتبة الظنِّ الراجح المستند إلى السمع الواضح، والعمل بالظن لا يمتنع إلاَّ بقاطعٍ، ولا قاطع (¬5)، فالجواب أن ذلك الظنَّ غير حاصلٍ أيضاً لوجوهٍ. الوجه الأول: أن التكفير بالإلزام، ومآل المذهب رأيٌ محضٌ لم يرد به السمعُ لا تواتُراً، ولا آحاداً (¬6) ولا إجماعاً، والفرض أن أدلة التكفير والتفسيق لا تكون إلاَّ سمعيةً، فانهدَّت القاعدة، وبَقِيَ التكفير به (¬7) على غير أساس. ¬
الوجه الثاني: لو سلمنا أنه دل على ذلك دليل سمعي خفي لكان معارضا بما هو أوضح منه
الوجه الثاني: لو سلَّمنا أنه دلَّ على ذلك دليلٌ سمعي خَفِي لكان معارضاً بما هو أوضح منه مما تقدمت الإشارة إليه في المنع من تكفير مُثبتي الصفات، وذلك ما ورد من النصوص المجمع على صحتها من أن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، إلى آخر الحديث (¬1)، وأمثاله، وشواهده. الوجه الثالث: إنا نعلم بالضرورة منهم ضِدَّ ما ألزموهم، فكيف يصح لنا أن نُلزمهم التكذيب، ونحن نعلم منهم التصديق؟! فهذا الإلزام إن لم يوجب العلم لم يُعارِض علمنا بتصديقهم، ولا يصِحُّ أن نوجب العلم، لأن علمنا بتصديقهم ضروريٌّ، والعلوم (¬2) لا تعارض (¬3). الوجه الرابع: أنا لو كفرنا بذلك لأمكن المعتزلة، والشيعة، والظاهرية تكفير من لم يقُل بحدوث القرآن لتأويله لقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} [هود: 17] ونحو ذلك. الوجه الخامس: أن النصوص قد تواترت بمروق الخوارج، ومع ذلك، فما كفَّرهم كثيرٌ من أهل السنة. وادعى الخطابي في " معالم السُّنن " الإجماع على عَدَمِ كفرهم، وجاءت أحاديث تدلُّ على ذلك، من ذلك: حديث أبي سعيدٍ الثابت في " الصحيحين " في قول عبد الله بن ذي الخُويصرة: اعْدِلْ يا رسول ¬
الوجه السادس: ما جاء في المتأولين من قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}
الله! فقال: " ويلُك، ومن يعدلُ إذا لم أعدِلْ؟ فقال عمر رضي الله عنه: ائذن لي فأضربُ عُنُقه! فقال: " دعه، فإن له أصحاباً يحقِرُ أحدُكُم صلاته مع صلاتِهِم " (¬1) الحديث. ومن ذلك ما رواه أبو القاسم البغوي، عن عليِّ بن الجعد، عن شريكٍ القاضي، عن عمران بن ظبيان، عن أبي تحيى، قال: صلَّى عليٌّ عليه السلام صلاة الفجر، فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأجابه عليٌّ في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] (¬2). الوجه السادس: ما جاء في المتأوِّلين من قوله تعالى (¬3): {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقوله تعالى: {ربنا لا تُؤاخِذنَا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، وحديث: " رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهُوا عليه " (¬4)، ولا شكَّ أن ترك التكفير أسلم، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في العُقوبة. الوجه السابع: أنه قد ورد من الأدلة السمعية ما يُعارضُ ذلك الظن لكفر أهل التأويل مما هو أرجح منه (¬5)، وذلك مثلُ حديث أنسٍ، قال: ¬
وأما قول من يقول: ما الفرق بين الخلق، والجعل، والحدوث
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ثلاثٌ من أصل الإيمان: الكفُّ عمن قال: لا إله إلاَّ الله، لا نُكفِّرُهُ بذنب، ولا نُخرِجُهُ من الإسلام بعَمَلٍ، والجهاد ماضٍ منذُ بعثني الله إلى أن تقاتل آخرُ أمتي الدَّجَّال، لا يُبطلُهُ جورُ جائرٍ؛ والإيمان بالأقدار " (¬1) رواه أبو داود (1)، وحكاه أحمد في رواية ابنه (¬2) عبد الله. فالظن الحاصل بهذا وما في معناه من الحديث أقوى من ظنِّ التكفير المستند إلى القياس. وقد صنَّف العلامة أبو محمد بن حزم الفارسي (¬3) مصنَّفاً حافلاً في المنع من تكفير أهل القِبلَة، وعقد البخاري باباً في " صحيحه " في ذلك (¬4)، وقد بسطتُ هذا في غير هذا الموضع في هذا الكتاب، والله الهادي وله الحمد والمنة. وأما قول من يقولُ: ما الفرق بين الخلق، والجعل، والحُدُوث حتى كفَّر أحمد بن حنبل وغيرُه من قال بخلق القرآن، ولم يُكفِّرُوا من قال بحدوثه من الظاهرية؟ فالفرق: أن من قال: بخلق القرآن (¬5)، إنَّما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم أنه مستحيل (¬6) على الله تعالى أن يكون متكلِّماً على الحقيقة كما ¬
تقدَّم، وذلك عند المكفِّرين لهم يقتضي ردَّ القرآن المعلوم، وتكذيبه، أو يؤول إلى ردِّه وتكذيبه بخلاف قول الظاهرية بحدوث القرآن وجعله، فإنهم لم يُخالفوا في كون الله تعالى متكلِّماً على الحقيقة، وإنما قالوا ما قالوه لقوله تعالى: {ومن قبله كتابُ موسى} [هود: 17]، وقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربِّهم مُحدثٍ إلاَّ استمعوه وهم يلعبون} (¬1) [الأنبياء: 2]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. فقوله (¬2): {مُحْدَثٍ} نكرة في سياقِ النفي، وذلك يُفيد العموم، والقرآن ذِكرٌ بدليل قوله تعالى: {وهذا ذكرٌ مباركٌ أنزلناه} [الأنبياء: 50]. واحتجُّوا -أيضاً- بما في فِطَرِ العقول من حدوثِ الأصوات، والحروف المتعاقبة؛ فإنها حجة عقلية ضرورية، وأهل السنة والظاهرية، وإن بعُدُوا من المباحث الكلامية، وبدعوا من خاض فيها، فإنهم (¬3) يعنون ما دقَّ الأمر فيه (¬4)، ولم يُؤمنْ أن يجُرَّ إلى بدعةٍ، وأما ما كان جلياً، فلا يمنعون من الاحتجاج به، فإنه لا بد من ذلك، ولولا ذلك، ما عرفنا صدق الأنبياء، كما أن المجنون لا يعلم صدق الأنبياء بالسمع. ولهذا تكلم البخاري، ومسلم، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " في مسألة اللفظ بالقرآن والتلاوة له، كما قرر ذلك الذهبي. وصنف البخاري في أن اللفظ مخلوق كتاب " أفعال العباد " (¬5) مع ¬
إمامته، وجلالته، ومبالغته في النَّهي عنِ البدع. وذكر البيهقي في " الأسماء والصفات " (¬1): اتفاق أهل السنة على ذلك في المعنى، وأن المخالف فيه إنما أساء العبارة. هذا أو (¬2) معناه، وقاله الغزالي في أول كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد " (¬3) وقد ذكر أهل الذَّكاء والفطنة من أهل (¬4) البدع في الفرقة الرابعة ما لفظه -مع اختصار-: فهؤلاء يجب التَّلطُّف بهم في استمالتهم إلى الحقِّ، لا في معرِض اللَّجاج والتَّعصبُّ، فإن ذلك يُهيِجُ بواعث التمادي والإصرار، وأكثر الجهالات إنما رسخت بتعصُّبِ جماعةٍ من أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين النَّحس والإزراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة، وتعسَّر على العلماء المتلطفين (¬5) محوها، حتى انتهى التعصُّب بطائفةٍ إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد، والتَّعصُّب. لما وُجِد (¬6) مثلُ هذا الاعتقاد مستقرَّاً (¬7) في قلب مجنون، فضلاً عن قلب عاقل. وقال الغزالي في " القدسية ": ومن لم يعقله عقلُه، ولا نَهاه نُهاهُ عن أن يقول: لساني حادثٌ، ولكن ما يحدُثُ فيه بقدرتي (¬8) الحادثة قديم، فاقطع عن عقله طمعك، وكُفَّ عن خطابه لسانك، ومن لم يفهم أن القديم ¬
عبارةٌ عمَّا ليس قبلهُ شيءٌ، وأنَّ الباء قبل السين في قوله: بسم الله، فلا يكون السِّين المتأخِّرُ عن الباء قديماً، فنزِّه عن الالتفات إليه قلبك. انتهى. وقد بالغ الذهبي في قُوَّة هذا مع مبالغته في النهي عن الكلام، لكن ليس من نهى عن علم الكلام، فقد نهى عن فِطَرِ العقول، كما قدمتُ في عقيدة أهل السنة، وإنما كرهوا الخوض فيما لا يُعلمُ، كما روى البيهقي في " الأسماء والصفات " (¬1) في هذه المسألة، عن الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرَّازي، أنه أُخْبِرَ بما جرى بنيسابور بين (¬2) ابن خُزيمة وأصحابه، فقال: ما له والكلام، إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلم فيما لم (¬3) نتعلَّمْهُ. وكذا روى البيهقي (¬4)، عن ابن خزيمة: أنه خرج يوماً، فقال لمنصورٍ الصَّيدلاني: ما صنعتك؟ قال: عطَّارٌ، قال: أتحسن (¬5) صنعة الأساكفة؟ قال: لا، قال: أتحسن (5) صنعة النَّجَّارين؟ قال: لا، فقال: إذا كان العطَّارُ لا يحسن غير ما هو فيه، فما تُنكِرون على فقيهٍ، راوي حديثٍ أنه لا يحسن الكلام. انتهى. قلت: لا نَكارة عليه في عدم حِذْقِ الجدليين، ولكن عليه أن يتأدب بقوله تعالى: {ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ} [الإسراء: 36]، ويصنع كما صنع الإمام أحمد يوم المحنة، فإن المتكلمين كانوا إذا راجعوه بعلمهم، قال: هذا شيءٌ لا أعرفه، ولا أدري ما هو، وإذا راجعوه بشيءٍ من كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خاضَ معهم خوض العارفين، فكذلك فليكن السَّنِّيُّ. ¬
فإن قلت: ما الذي منع أحمد بن حنبل من موافقة الظاهرية على حدوث القرآن مع أنه ظاهر الآيات
وأما الهجوم على الجزم باعتقاد أحد الأقوال في مسائل الخلاف النَّظريَّة من غير نصٍّ من كتاب الله تعالى، ولا سنَّةٍ (¬1) صحيحةٍ من مُحَدِّثٍ جامد، فيُعَرَّض للخزي في الدنيا والآخرة. نسأل الله السلامة. فإيَّاك أيُّها السُّنِّيُّ، وطول اللجاج، وشِدَّة الشَّكيمة في مسألة اللفظ (¬2)، وفي مسألة الحدوث، وفي مسألة القِدَمِ، واقتصر على أن القرآن كلامُ الله حقيقةً، وأنه كلَّم موسى عليه السلام، وكلَّم من شاء من أنبيائه، كما قال: منهم من كلم الله [البقرة: 253] مع الجزم بأن الله ليس كمثله شيءٌ، وسمِّ القرآن بما سمَّاه الله تعالى من الأسماء الشريفة، وكِلْ حُكْمَ من تعدِّى ذلك من المختلفين إلى الله تعالى. فإن قلت: ما الذي مَنَعَ أحمد بن حنبل وغيره من أهلِ الحديث من مُوافقةِ الظاهريَّة على حدوث القرآن مع أنه ظاهر الآيات، ومع أنه (¬3) لا يقتضي ردَّ قوله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ مُوسى تكليماً} وأمثالها، ومع كونهم لا يرون (¬4) تأويل الظواهر بالرأي، والتمحُّل (¬5) البعيد بغير موجبٍ؟ قلت: الذي فهمته مِنْ تكرارِ النظر في عباراتهم ومقاصدهم أحد وجهين، أو كلاهما: الوجه الأول: أنهم رأوا للحدوث معنيين: حدوثاً نسبيّاً، وحدوثاً مُطلقاً، فالحدوث النسبي (¬6) بالنظر إلى نزوله، ومجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجبريل عليه السلام، كقوله تعالى: {إنَّه لَقَوْلُ ¬
رسولٍ كريمٍ} [التكوير: 19] أي حكايته، والمَحكِيُّ كلام الله لقوله: {حتَّى يسمَعَ كلاَمَ اللهِ} [التوبة: 6]. والحدوث المطلق حدوثُ ذاته، فتركوا الخوض في حدوث الذات لما اختلف أهل الكلام في حقيقة ذات الكلام، هل هي (¬1) الصوت المقطع حروفاً مفهومةً؟ أو هي المعنى الذي في النفس الذي جعل اللفظ عبارةً عنه؟ فلمَّا شوَّش أهل الكلام عليهم معرفة الذات، ورأوا الحدوث النِّسبي صحيحاً بالإجماع والنص، اقتصروا على موضع الإجماع مع لطيفة نظرية (¬2)، وهي أن البلاغة تقتضي أن لا يَرِدَ اللفظ البليغ إلاَّ لإفادة معنى مُهِمٍّ أو خفيٍّ، أو ردٍّ على خصمٍ، ولا يَرِدُ بتعريف المعرَّفات، وكان حدوث الأصوات معلوماً في عهد (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يومئذٍ من يعتقِدُ قِدَمَ الأصوات فيعرف حدوثها، أعني القدم الاصطلاحيَّ الذي معناه نفيُ الأوَّليَّة، ولا مجرَّدُ الحدوث صفة مدحٍ، فيُمدحُ به القرآن، كما مُدِحَ بكونه ضياءً وشفاءً، وهدىً، ونُوراً، فلا بُدَّ من وجه لذكره، وأقربُ ما يكون أن (¬4) ذكر حُدوثه ردّاً لقول المشركين: إنَّه إفكٌ قديمٌ، وإنه أساطير الأولين، فقُوبل الإفك بالذكر، والقديمُ بالمحدث. فكان المراد بهذا الحدوث نقيضَ القِدَم (¬5) الذي أراده المشركون، ولا شكَّ أنهم أرادوا أنه أساطير الأولين اكتتبها (¬6) كما صرح به القرآن (¬7) لا القِدم الاصطلاحي، فكان المراد بهذا الحدوث هو حدوث نزوله ومجيئه مِنْ ¬
عند الله تعالى في زمن (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون من تقدمه من الرسل. وحدوثه بهذا المعنى هو الحدوثُ النسبي المُجمَعُ على صحته، وفيه مع ذلك تشريفٌ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين (¬2) كان هو المختصَّ بالمجيء به، وتبرئةٌ (¬3) له مما رَمَوْهُ به من اكتتاب أساطير الأوَّلين، واستراق محاسن المتقدِّمين، وهذا بيِّنٌ في سورةٍ الأحقاف في قوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 11 - 12]، فقابل (¬4) وصفهم له بالقِدَم بتقديم (¬5) كتاب موسى عليه، وبالإفك بتصديقه كتاب موسى الذي استقرَّ أنه إمامٌ ورحمةٌ، فرأوا الاقتصار على تفسيره بهذا أسلم، وإن كان غيره أعلم، لكنه (¬6) على تسليم هذا وصحَّته لا يمنع (¬7) من وصفه بالحدوث المطلق، أقصى ما فيه، أن يكون حدوث نزوله (¬8)، ومجيئه هو مدلول المطابقة، وهو اللُّغويُّ الوضعي، وحدوث ذاته هو مدلول الالتزام، وهو الذهني العقلي كما هو مذكور في علم المعاني والبيان، وعلم أصول الفقه، لكنه شوَّش هذا عليهم سماعهم شدَّة اختلاف المتكلمين في حقيقة ذات الكلام، كما قدمته، حتى قال شيخ الاعتزال أبو علي الجُبَّائي: إن كلام الله تعالى باقٍ (¬9) لا يجوز أن ¬
يَفنى، وأنه يحُلُّ في الخطِّ المكتوب، ويظهر مع الصَّوت، وهو غير الصوت. حكى هذا (¬1) عنه الشيخ ابن مثَّوَيه في كتابه " التَّذكرة ". فقد وافق أبو عليٍّ الأشعرية على تفسير كلام الله تعالى بأنه غير الصوت المسموع، فلما دق النظر في باب (¬2) الكلام تركه المحدثون على عادتهم في ترك أمثاله، وتركوا ما يترتَّب عليه، وإن كان الأمر في هذا قريباً (¬3)، ورأوا الحزم البُعد من مواضع التَّكفير، وإن نُسِبُوا في ذلك إلى الجهل فقد قيل: إن طريقة السلف، أسلَمُ، وطريقة الخلف أعلم، فالسعي في السلامة أولى من دعوى العلم، ومسألة الكلام (¬4) سهلة، ولكن هوَّلها المتكلِّمون بتجاسُرهم على تكفير المخالف فيها. فالله المستعان. وقد عوَّل البيهقي في " الأسماء والصفات " على هذا المعنى، وحام عليه ولم يقع، ولم تخلُص (¬5) له تلك النُّكتة اللَّطيفة في وجه ذِكْرِ حدوث القرآن، وسبب وروده فقال البيهقي (¬6): المراد بالذِّكر المُحْدَثِ ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، كل ذلك مُحْدَثٌ، والمذكور المتلوُّ المعلوم غير مُحْدَثٍ، كما أن ذِكْرَ العبد لله تعالى مُحْدَثٌ، والمذكور -سبحانه- غير مُحْدَثٍ. ¬
وقال أيضاً: وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]، يريد (¬1) والله أعلم: أنا أسمعناه (¬2) المَلَكَ، وأنزلنا الملك بما سمع. وقوله: {إنا نحنُ نزَّلنا الذكرَ وإنا لهُ لَحَافظون} [الحجر: 9] يريد حفظ رسومه وتلاوته. قلت: تأويل النزول لازمٌ على مذهب المعتزلة، لأن العَرَضَ عندهم لا يُوصف بالنزول وحده، ولا بُدَّ أن يحُلَّ في جسم، وهو (¬3) فيه، هذا في الأعراض الباقية، كالألوان، وأما الكلام عندهم (¬4)، فإنه يزول في الوقت الثاني إلاَّ أبا عليٍّ الجُبَّائي، فإنه يقول ببقائه كما تقدم. ويأتي في كلام الإمام الحسن بن يحيى بن الحسن (¬5) بن زيد بن عليٍّ عليهم السلام نحو كلام البيهقيِّ هذا (¬6)، فإنه ذكر أن القرآن مُحدَثٌ، ثم قال: قال الله تعالى: {ما يأتِيهِمْ مِنْ ذِكرٍ من ربِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، فأحدث في قلوب العباد بالرُّسل من تنزيل الكتاب ما لم يكونوا يعلمون. انتهى بحروفه، والله أعلم بمراده. قال البيهقيُّ: وأما الإنزال بمعنى الخلق، فغيرُ معقولٍ (¬7). قلت: صحيحٌ، ولكن تحقيقه ما ذكرته في مسألة الأفعال من أن الخلق لا يُطلق على كل فعلٍ، وهو قول البغدادية. وقد أوضحتُ الدليل ¬
عليه في موضعه مِنْ مسألة أفعال العباد في هذا الكتاب، وهذا يدل على موافقة البيهقي لما اخترتُه هنالك؛ لأن الإنزال فعل الله بغير شك، ومع هذا اعترف (¬1) البيهقي أنه لا يُسمى خلقاً في اللغة. وقال البيهقي (¬2) في قوله تعالى: {إنَّا جعلناهُ قُرآناً عربياً} [الزخرف: 3]: أي (¬3): سميناه، كقوله: {وجَعَلُوا الملائكة الذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحمن إناثاً} [الزخرف: 19]، أي: سموهم، وقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] إلى قول البيهقي: وأما النسخ، والإنساء والنسيان، والإذهاب، والترك، والتبعيض، فكلُّ ذلك راجعٌ إلى التلاوة والحُكم المأمور به (¬4). واحتجَّ البيهقيُّ على القِدَمِ، بقوله تعالى: {لله الأمرُ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 4] قال: وظاهره (¬5) يدل على أن أمره قبل كلِّ شيءٍ، وهو معنى القديم، وبقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وبقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، قال: فأخبر أنه كان موجوداً مكتوباً قبل الحاجة إليه (¬6) في أمِّ الكتاب، وبقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، فأخبر أنه كان في اللوح المحفوظ، يريد مكتوباً فيه، وذلك قبل الحاجة إليه، وإذا ثبت أنه كان موجوداً قبل الحاجة إليه، ¬
ثبت أنه لم يزلْ (¬1). قلت: هذا يصلحُ حُجَّةً على المعتزلة الذين يمنعون ثُبوته قبل الحاجة إليه (¬2)، أما من مَنَعَ القِدَمَ، كقدماء أهل السنة، والظاهرية والواقفية - لم يصلح هذا حجة عليه، وكلامه يُشعِرَ بتفسير الأمر في قوله {لله الأمرُ} بقول الله: {أقيموا الصَّلاة} ونحوه، وليس كذلك، وإنما الأمر هنا مثله في قول القائل: إن صاحب الأمر فلانٌ، أي صاحب الحلِّ والعقد، وهو قريبٌ من معنى الملك. واحتج البيهقي بقوله تعالى: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] فجعل الخلق مسخراً بالأمر، وبقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54] فإن أراد البيهقي الاحتجاج على قدم اللفظ، وعلى من لا يقول به من المعتزلة، وأهل السنة - كالبخاري ومسلمٍ، فضعيفٌ، خصوصاً مع مراعاة القطع بذلك، ولا سيّما متى عُورِضَ بأدلة الحدوث العقلية والسمعية، وقد ذكر الغزاليُّ أنه ضروري -أعني: حدوث اللَّفظ كما تقدم- وعبَّر عن ذلك بأحسن عبارةٍ وأجلاها. وإن أراد البيهقي قِدَمَ الكلام النفسي، فالخوض فيه من بدَع عِلمِ الكلام، ولا يليق بالسُّنِّيِّ الخوض فيما لا يعرفه كما سيأتي، وكما مضى، مع أن الخلاف فيه يرجِعُ إلى العبارة، فإن المعتزلة لم تنكره، وإنما قالوا (¬3): المرجع به إلى العلم، أو إلى الإراده، والله سبحانه عالم في القِدَمِ بالاتفاق، وهو مريدٌ عند الجمهور من المعتزلة، وعند ¬
الوجه الثاني: أنهم لما رأوا القول بخلقه شعار المعتزلة المنكرين لصحة الكلام من الله تعالى، رأوا لفظ الحدوث يقارب لفظ الخلق ويوهمه
الأشعرية، لكنهم يختلفون في إرادته: هل تُوصَفُ بالقِدَم؟ وليس في السمع فيها نصٌّ قاطعٌ، والخوض في أسماء الله تعالى، ونعوت جلاله بالرأي مما لا يرتضيه أهل السنة، ولا مُلجىء إلى ذلك. وقد استوفيت كلام البيهقي للإفادة، وخرجتُ عن المقصود الأول، وهو ذِكْرُ الوجه في ترك كثيرٍ من أهل الحديث للقول بحدوث ذات القرآن. الوجه الثاني: أنهم لما رأوا القول بخلقه شعار المعتزلة المنكرين لصحة الكلام من الله تعالى، رأوا لفظ الحدوث يقارب لفظ الخلق ويُوهِمُه، وإن كان لفظ الحدوث صحيحاً في نفسه عند النظر المميز بينهما، بدليل أنه امتنع مِنْ وصف القرآن بالحدوث من لم يَصِفْهُ بالقدم، كأحمد بن حنبل، وأهل الجمود على ما نقله الذهبي عنهم، وعن أحمد في ترجمة أحمد من " النبلاء "، وكذا نقل هنالك عن قدماء أهل السنة أنهم لم يَصِفُوا القرآن بأنه قديمٌ، كما لم يصفوه بأنه مخلوقٌ، واختار ذلك لنفسه. وأما الأشعرية، فلم يصفوا (¬1) اللفظ بالقِدَمِ قطُّ، ونسبوا من وصفه بالقدم إلى الجهل الفاحش، وجحد الضرورة، كما تقدم في كلام الغزالي، وإنما قالوا بِقِدَم الكلام النفسي، والآية ليست من الكلام النفسي في شيءٍ، فإنه لا يُوصف بالإتيان. فدلَّ على أن منعهم مِنْ وصف القرآن بالحدوث مع اعتقادهم ¬
لحدوث اللفظ، لأنه قد صار في عُرفهم في ذلك العصر يفيد معنى محظوراً عندهم، أو يُوهِمه، أو يجري عليه، وقد يُنهى (¬1) عن اللفظ الصحيح لمثل ذلك، كما قال تعالى: {لا تقولوا رَاعِنَا وقُولوا انظُرنا} (¬2) [البقرة: 104] فمنع مِن قولهم: {رَاعِنا} وهو لفظٌ صحيح المعنى لما تعلَّقت به مفسدةٌ يسيرةٌ، فكيف (¬3) بما نحن فيه؟! وقد صحَّ، أو تواتر، النهيُ عن أن يقول المسلم: نسيت آية كذا، بل هو أُنسِيَها لنحو ذلك (¬4)، وكل هذا صحيحٌ صريحٌ في منع بعض ¬
العبارات الصحيحة لِمَانِعٍ يقترِنُ بها. وهذا أقوى من الوجه الأول، وقوّته توقَّفُ على قُوَّة هذه العِلَّة، وهي خوفُ المفسدة التي هي ظنُّ السامع في المتكلِّم أنه يعتقد أن الله غير قادرٍ على أن يتكلَّم، أو يكلِّمَ أحداً في الدنيا والآخرة. وهذا أمرٌ يختلف بحسب اختلاف العرف بحسب البلدان والأزمان، وهو أظهرُ في مقاصدهم، كما أنه ظهر هذا المعنى مِن أحمد وغيره في منعهم ممَّا أجازه البخاري ومسلم وغيرهما، من قول القائل: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، ولم يمنعوا من ذلك شكّاً في قِدَمِهِ، فقد منعوا أيضاً من قول القائل: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ، ونصوا على المنع منهما، كما رواه البيهقيُّ في " الأسماء والصفات " (¬1) عن أحمد بن حنبل، والذهبي في " النُّبلاء " في ترجمة أحمد بن حنبل عنه أيضاً. قال البيهقي (¬2). وقد تكَّلم محمد بن مسلم (¬3) الطوسي في ذلك بعبارة رَدِيَّة، يعني: توهم قِدَمَ صوت القارىء، قال: وأخذه منه (¬4) ابن خزيمة، قال: وعندي أن مرادهم نفي الخلق عن المتلوِّ، لكن لم يُحْسِنُوا العبارة، ولا تلخص (¬5) لهم الفرق بين التلاوة والمتلوِّ -إلى قوله (¬6): - وقد رجع محمد بن ¬
فإن قيل: ما يقول أهل السنة في قوله تعالى: {خالق كل شيء} فقد احتجت به المعتزلة على خلق القرآن
إسحاق، يعني: ابن خزيمة - إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال. قلت: وهو يدل على ما قال البيهقي: أنهم أخطؤوا في العبارة، فمن بان له منهم معناها (¬1)، رجع عنه؛ لأنه خلافُ الضرورة، فلا يُخالِف فيه بعد معرفة معناه (¬2) عاقلٌ، أما المتأوِّل، فظاهرٌ، وأما غيره، فلما يعرف مِنَ الاستهزاء به، فأمَّا الأئمة الذين نهوا عن ذلك وضده -كأحمد بن حنبل، وإضرابه- فإنما (¬3) نهوا عنه كراهيةً لما يُلبِسُ على عوامِّ المسلمين، ويُضارع ألفاظ أهل البدع، ويتولَّد منه المِراء والتشويش. فإن قيل: ما يقول أهل السُّنة في قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شيءٍ} [الرعد: 16]، فقد احتجت به (¬4) المعتزلة على خلق القرآن، لأنه شيءٌ. قلنا: يقولون: إن عمومها مخصوصٌ بإجماع الفريقين. أمَّا المعتزلة، فيُخرجون منها جميع أفعال العباد، وجميع الذوات الثابتة عندهم في حال العدم، بل قد ألزمهم أهل السنة أن الله -على مذهبهم- ما خلق شيئاً قطُّ، لأن قدرته -عندهم- لا تَعلَّقُ بالذَّوات، وإنما يُكسب (¬5) الذوات صفة الوجود، وصفة الوجود التي هي أثَرُ قدرته ليست بشيءٍ عندهم (¬6) كما سيأتي (¬7) محقَّقاً في مسألة أفعال العباد من هذا الكتاب. ¬
وأما أهل السنة، فمعنى الآية عندهم: أن الله تعالى خالقُ كلِّ شيء من عالم الخلق، لا من عالم الأمر، فإنه لا يُسمَّى مخلوقاً، لقوله تعالى: {ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]، وهي أبينُ آيةٍ في هذا، لأنه قسَّم المسميات فيها إلى قسمين مختلفين متغايرين: أحدهما: الخلق، وهو أخصُّهما، ولذلك قدَّمه. وثانيهما: الأمر، وهو أعمُّهما، ولذلك أخره؛ لأن الخلق نوع من جنس الأمر يدخل تحته، بدليل قوله تعالى: {وإليه يَرْجِعُ الأمرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، فدخل فيه الخلق والأمر، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إنما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقُولَ لَهُ كُنْ فيكُوْنُ} [يس: 82]، فلو كانت " كُنْ " مخلوقةً من جملة عالم الخلق، ما كانت (¬1) سبباً لخلق المخلوقات، ولكانت محتاجةً إلى أن يُقال لها (¬2) ذلك، ويؤدي (¬3) إلى التسلسل. وسيأتي في مسألة خلق الأفعال أنه لم يَرِدْ في اللغة تسمية (¬4) كلِّ شيءٍ مخلوقاً، وإن كان الخلق والأمر كلاهما لله تعالى، فَلِكُلِّ واحد منهما اسمٌ يخصه. ومن هنا اختصَّ الوعيد بالمصوِّرين المتعرِّضين لما سمَّى (¬5) خلقاً، وقيل لهم: " فليخلُقُوا حبةً أو شعيرةً " وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ¬
فإن قيل: هذا الكلام خلاف إجماع أهل البيت؛ لأنهم قد أجمعوا أنه مخلوق
" أشدُّ الناسِ عذاباً يوم القيامة الذين يُضَاهُونَ بخلقِ الله "، وفي حديثٍ: " الذين يُشبِّهون بخلق الله " (¬1)، ولم يدخل في هذا الكلام؛ لأنه لا يُسمَّى مخلوقاً، ولا يقال يوم القيامة: اخلقُوا كلاماً، ولا يقول أهل اللغة: خلقتُ كلاماً، ولا أمراً، ولا نهياً إلاَّ الخلق الذي بمعنى الكذب، وليس من هذا في شيءٍ، فثبت أن كلام الله من أمر الله، لا من خلقه. فإن قيل: هذا الكلامُ (¬2) خلاف إجماع (¬3) أهل البيت عليهم السلام، لأنهم قد أجمعوا على أنه مخلوقٌ، فصرَّحوا بذلك، وردُّوا على من ادَّعى خلافه. فالجواب: أنَّ هذا غير صحيحٍ على (¬4) الإطلاق؛ لأن أهل البيت عليهم السلام متقدِّمون ومتأخرون. فأما الصدر الأول من المتقدمين، فمنهم من صرَّح بمثل مذهب أهل الأثر، ومنهم من لم يُنقل عنه في ذلك نفيٌ ولا إثباث. وأما المتأخرون منهم، فقد صار في كل فرقةٍ، وقُطر مِنْ فِرَقِ الإسلام وأقطاره منهم طائفةٌ فيهم العلم ووراثة النبوة، كما يعرف ذلك من طالع تواريخ الرجال. وقد تقدم في هذا الكتاب طرفٌ صالحٌ من ذكر ¬
وأنا أورد ما يثلج الصدر، ويقطع الريب في ذلك من نصوصهم من كتبهم المشهورة
بعضهم في الكلام على سُهولة الاجتهاد وتعسُّره، وتقدم كلام الإمامين (¬1) المنصور بالله، والمؤيد بالله يحيى بن حمزة عليهما السلام في تعذُّر معرفة إجماعهم، على أن الإجماع بعد الخلاف -لا سيما الكثير- لا يصح، كما هو مقرَّرٌ في الأصول. وأنا أُورد ما يُثْلِج الصَّدر، ويقطع الرَّيب في ذلك من نصوصهم من كتبهم الشهيرة الموجودة في خزائن أئمتهم عليهم السلام. فأقول (¬2): قال السيد الشريف الإمام أبو عبد الله، محمّد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي الحسني في المجلد السادس مِن تأليفه المسمَّى " بالجامع الكافي في فقه الزيدية " ما لفظه: الكلام في خلق القرآن، قال محمد، يعني: ابن منصور الكوفيّ الشّيعي محبّ أهل البيت، وراوية مذاهبهم (¬3) في كتاب أحمد: ذاكرت عبد الله بن موسى قول من يقول: القرآنُ مخلوقٌ، فقلت: أدركت (¬4) أحداً من أبائِك يقول به؟ قال: لا. قال محمد: وكان عبد الله يكره الكلام فيه، وفي غيره (¬5)، مِمَّا أحدث الناس، وكان عبد الله إذا ذُكِرَ له رجلٌ ممن يتكلم فيما أحدث الناس من الكلام، قال: اللهم أمتنا على الإسلام ويُمْسِكُ. قال محمد في كتاب " الجملة ": رأيت أحمد بن عيسى يترحَّمُ (¬6) ¬
على من يقول بخلق القرآن، ومن لا يقول به، وكان عنده (¬1) الأخذ بالجمل (¬2) محمودٌ (¬3)، وترك ما فيه الفرقة، وهو عنده الاتِّباع للسلف. قال محمد: حدثني عليُّ بن أحمد الباهلي، أنه ذاكر (¬4) أحمد بن عيسى اختلاف الناس في خلق القرآن، فقال أحمد: كلا الفرقتين (¬5) مخطئة في إقدام بعضهم على بعض بالبراءة. وقال أحمد، فيما حدثنا علي، عن ابن هارون، عن سعدان، عن محمد، عنه، وذكر اختلاف الناس، وتفرُّقهم في الدِّين، فقال: إني لخائفٌ على إمام لو قام (¬6)، فإنه إن ذهب، توهّم (¬7) كلّ فرقةٍ أنهم على حق (¬8)، كان أول من يُهْلِكُ نفسه، وإن صار إلى فرقةٍ، أفسد الباقين (¬9) على نفسه. وأخبرنا محمد بن علي بن أبي الجرَّاح، قال: أخبرنا أبي، قال: حدثنا (¬10) إسحاق بن محمد، قال: حدثني حمدان (¬11) بن علي بن أيوب، قال: أخبرني بنين العطار، قال: قدم رجل كان يقدَمُ على ¬
أحمد بن عيسى من أصحاب الكلام فيُناظره (¬1)، قال: فقدم البصرة، وهو مريض، فقمتُ عليه، فلم يزل عندي حتى مات، فكتبتُ إلى أحمد بن عيسى، أنه قَدِمَ عليَّ (¬2) فلانٌ، وأنه لم يزل عندي عليلاً حتى مات، وكنت أفعل به، وأفعل (¬3) حتى مات (¬4) رحمه الله، وغفر له، ورضي عنه. فكتب إليَّ أحمد: أمَّا قولك: إنِّي قمتُ عليه وفعلتُ به، فلعمري إنَّ هذا يجب، وأمَّا قولك: رحمه الله، ورضي عنه، وغفر له، فإنما أردت بذلك تُرضيني أن الرجل كان يلقاني فيُناظرُني، وكنت أملُّه، فلمَّا مات، انقطعت عصمتُه. قال: وكان الرجل يقول: القرآنَ مخلوقٌ. قال الحسنيُّ (¬5): حدثنا أبو حازم محمد بن علي الوشَّاء، قال: حدثنا إسحاق بن محمد المقرىء، قال: حدثنا (¬6) عليّ بن الحسين بن كعب، قال: حدثنا يحيى بن حسن بن فرات، ومحمد بن جميل (¬7)، ومحمد بن راشد، قالوا: سألنا عبد الله بن موسى بن عبد الله (¬8)، فقلنا له: ما تقولُ في القرآن؟ فقال: مَنْ زعم أنَّ القرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ، لأن الله عزَّ وجل يقول (¬9): {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ ¬
الله} [التوبة: 6]. حدثنا محمد بن جعفر بن النجار، وأبو طالب بن (¬1) الصباغ، وزيد بن مصاية (¬2)، عن علي بن عبد الرحمن بن ماتي، عن علي بن الحسين بن كعب بمثله. حدثنا ميمون بن حميد، قال: حدثنا إسحاق بن محمد، قال: حدثنا عبيد بن كثير، قال: حدثنا عبَّاد بن يعقوب، ويحيى بن حسن بن فرات، قالا: سمعنا عبد الله بن موسى بن عبد الله، يقول: القرآن (¬3) كلام الله ليس بمخلوق. حدثنا الحسين بن محمد البجلي (¬4) المقرىء، قال: حدثنا عليُّ بن بشير بن يعقوب، قال: حدثنا سعدان بن محمد بن سعدان، قال: سمعت الحسين بن الحكم بن مسلم يحدِّثُ أن القاسم كتب إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله (¬5) بن الحسن، يسأله عن القرآن، فكتب إليه عبد الله: نحن نرى أن الكلام في القرآن بدعةٌ، اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلَّف المجيبُ ما ليس عليه، فانتَهِ بنفسك (¬6) والمختلفون في القرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها تكُن (¬7) من المهتدين، ولا تُسَمِّ القرآن بأسماءٍ من عندك، فتكون ¬
من الذين يلحدون في أسمائه، سيُجزون ما كانوا يعملون. حدثنا ميمون بن علي بن حميد، قال: أخبرنا إسحاق بن محمد المقرىء، قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفرٍ المقرىء، قال: حدثنا إبراهيم بن مبشِّر، قال: قلت لعبد الله بن موسى: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله وكتابه، فقلنا (¬1): إنَّ عندنا قوماً يقولون: مخلوق، ويقولون: من (¬2) لم يقل: إنه مخلوقٌ فهو كافرٌ! قال: هم أولى بالكفر. وقال محمد في كتاب (¬3) " الجملة ": وسألت القاسم بن إبراهيم عن القرآن؟ فقال: كلام الله ووحيُه وتنزيله، لا يجاوز هذا إلى غيره، وهكذا كان أسلافُنَا. قال محمد: وكان يقولُ بخلق القرآن، يُضمِرُ ذلك. وقال لي القاسم: يقال للذين يقولون: القرآنُ مخلوق (¬4)، أليس قد عَلِمَ الله أنه مخلوق، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: أليس قد عَلِمَ الله أنه مخلوقٌ، واجتزأ، مِنَ الخليقة أن قال لهم: مجعولٌ، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فلمَ لا تجتزئون مِنْ خلق الله بما اجتزأ (¬5) الله به لخلقه؟ قال محمد: وذلك حثٌّ منه على القول بالجمل وترك الاختلاف والفرقة. حدثنا ميمون بن حميد، عن إسحاق بن محمد التَّمَّار، عن قاسم بن عبيد، عن بنين بن إبراهيم، قال: قلت للقاسم (¬6) بن إبراهيم: ¬
قال لي ابن منصور عنك: إنَّك قلت: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فقدِ ابتدع، فقال (¬1): نعم هما بدعتان، لم يبلغنا أنهم قالوا: مخلوقٌ ولا غير مخلوقٍ، ولكنا نقول: كلام الله ووحيه. حدثنا الحسن بن أحمد بن القطان، قال: حدثنا زيد بن محمد بن أبي اليابس، قال: حدثنا قاسم بن عُبيد، قال: حدثنا أحمد بن سلام، قال: سألت: القاسم بن إبراهيم عن القرآن؟ وأخبرته بما رُوِيَ عن زيد بن علي: إنَّا لا نُشَبِّهُ بالله أحداً، ولا نقول لكلام الله مخلوقٌ. فقال (¬2): هكذا أقول (¬3). وقال محمد: حدثنا أبو الطاهر، عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب (¬4) عن الزُّهري، عن علي بن الحسين، أنه سُئِلَ عن القرآن، فقال: كلام الله وكتابه (¬5)، لا أقول غير ذلك. وحدثني حربُ بن حسن الطَّحَّان، عن أحمد بن مفضل، عن معاوية بن عمَّار، قال: سألتُ جعفرَ بن محمدٍ عن القرآن: خالق أو مخلوقٌ؟ قال (¬6): لا خالقٌ ولا مخلوقٌ، ولكنه (¬7) كلام الخالق. ¬
وقال محمد في كتابه (¬1) " الجملة "، وذكر اختلاف الناس وإكفار بعضهم بعضاً، وإقدامَ بعضهم على بعضٍ بالبراءة والتَّضليل، فقال: رأيتُ المتفرِّقين، وعاشرتُ المختلفين في المقالات من الخاصَّة والعامَّة من علماء آل الرَّسول، وأهل الفضل منهم، وغيرهم من أهل العلم والفضل مِنَ (¬2) الشيعة الموجبين لإنكار المنكر وحياطة الدِّين، فما رأيتهم يُكَفِّرُ بعضُهم بعضاً، ولا يستحلُّون ذلك، ولا تبرَّأ بعضهم من بعضٍ، بل قد رأيتُ بعضهم يتولَّى بعضاً، ويترحَّم عليه بعد المعرفة منهم لمخالفة بعضهم لبعضٍ في المقالات، سمعت القاسم بن إبراهيم ذكر أخاه محمد بن إبراهيم، فقال: رحمة الله عليه ورضوانه، إنِّي لأرجو أن يكون له يوم القيامة موقفٌ يُغبطُ به، على أنه كان يقول بشيءٍ من التشبيه، وذلك عندهم أنه لا يقول بخلق القرآن، وكان يُكثِرُ التَّرحُّم عليه ما لا أُحصيه، ورثاه بأبياتٍ كتبتُها عنه. ومِنْ ذلك أن عبد الله بن موسى ذاكرته هذا الأمر، وذكرت له القاسم بن إبراهيم، فقال عبد الله: وددِتُ أنَّه فعل حتى أكون أوَّل من يضع يده في يدِه. قال عبدُ الله: وقد (¬3) بلغني أنه يقول بخلق القرآن، ولم أسمع منه. قال محمد: وحضرتُ عبد الله بن موسى عليه السلام، وجماعة من أهل بيته مجتمعين عند القاسم بن إبراهيم في منزله، فتذاكروا هذا الأمر، ¬
وكان منهم فيه (¬1) جِدُّ، أين يكون؟ وكيف التأتي له؟ وكاد القاسم أشدهم فيه ذكراً، وكانوا يُومؤون إلى عبدِ الله بن موسى، فقال عبد الله بن موسى: أنا ليس في شيءٍ، قد ضعفت عنه (¬2)، ولكن من الذي يقوم بهذا، فهذه يدي له، وكأنَّه أومأ إلى القاسم بن إبراهيم قال محمد: وكلُّ (¬3) واحدٍ منهم يتولَّى صاحبه، ويدين له بالطاعة، ويؤهِّلُه لهذا الأمر الذي ليس فوقَه غايةٌ من تقليد الأحكام، والحلال والحرام، والدِّماء، والمواريث، وهذا غاية الولاية أن جعله بينه وبين الله في دينه يُحِلُّ به (¬4) ويُحَرِّمُ، يُحِلُّ به الجمعة ركعتين، ويُحرِّمُ به الظهر أربعاً في وقت الجمعة. قال محمد: وكان عمرو بن الهيثم المُراديُّ من كبار أصحاب سليمان بنِ جرير، وكان يقول: القرآن مخلوق، ويُشَدِّدُ (¬5) في ذلك، وسمعته يقول: لا رَحِمَ الله ابن أبي دُوَاد (¬6)، كان الناسُ على جملةٍ تُؤدِّيهم إلى الله عزَّ وجل، فطرح بينهم الفُرقة، يعني: حين أظهر المحنة في القرآن. قال محمد: وكان عمرو بن الهيثم، وبِشْرُ بن الحسن، ومحمد بن يحيى الحجري دُعاةً لعبد الله بن موسى، ومذهبهُم واحدٌ، بعني: كانوا ¬
يقولون بخلق القرآن، وكان عبد الله بن موسى قد بعث ابنيه -أو أحدهما- مع بشر بن الحسن إلى طاهر بن الحسين يدعوه إلى هذا الأمر مع معرفة عبد الله بقول بشرٍ، ومعرفة بشرٍ لعبد الله. وقوله " بالجمل ": فلم أر أحداً من هؤلاء دان بالبراءة مِمَّن خالفه بالمقالة (¬1). قال محمد: وذكر عبد الله بن موسى، محمَّد (¬2) بن يحيى الحُجري، فقال: كان أصدق أهل الكوفة لي. قال محمد: وسمعت القاسم بن إبراهيم يقول: ما رأيت كِلْمَانِيّاً (¬3) قطُّ له خشوعٌ، ثم قال: الجمل الجمل. قال محمد: وقال لي محمد بن عبد الله الإسكافي (¬4)، وكان يقول بخلق القرآن: إذا كان هذا الأمرُ، كَتَبْنَا على الأعلام: لا إله إلاَّ الله، محمدٌ رسولُ الله، القرآن كلامُ الله. يريدُ بذلك الأُلْفَةَ واجتماع الكلمة، وترك الاختلاف والفُرقةِ. قال محمد: وقد عاشرتُ المعتزلة (¬5)، ومن لا أُحصي مِنْهُم مِمَّن يقول بهذا القول، منهم: جعفر بن حرب (¬6)، وجعفر بن مبشِّر ¬
القصبيّ (¬1)، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، فما سألني أحدٌ منهم قطُّ (¬2) عما يختلِفُ الناس فيه من أمر القرآن، والاستطاعة، ولا كشفوني عن شيءٍ من ذلك. وأخبرني أبو سهل (¬3) الخراساني أنه كان رسول سهلِ (3) بن سلامة، وهُوَ من كبار المعتزلة وعُبَّادهم - إلى عبد الله بن موسى يدعوه إلى أن يتقلَّد هذا الأمر، ويكون سهل (3) عوناً له عليه. قال محمد: فهذا غيرُ سبيلُ المنتحلين اليوم للدِّين، وغير ما أظهروا وشرَّعوا من التباين، والبراءة، والتَّكفير، وهذا هو الفرقة والاختلاف الذي نهى الله عنه في القرآن بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]. فأخبر سبحانه أن اختلافهم بغيٌ من (¬4) بعضهم على بعضٍ، وأخبر عز وجل أن في (¬5) الفُرقة الضَّعف والفَشَلَ عن العدو، فحذَّر من ذلك بقوله: {ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، يقول الله عز وجل: فتذهب هَيْبَتُكُمْ. ¬
فهذا ما ندب الله إليه مع ما رأينا عليه السلف الصالح المتقدِّم الذين (¬1) يصلحُ أن نجعلَهم بينا وبين الله تعالى، لأنهم لا يخلُون من (¬2) إحدى منزلتين: إما أن يكونوا علموا أنَّ الديانة فيما بينهم وبين الله تعالى القول ببعض هذه المقالات التي تنازع الناس فيها حقٌّ واجبٌ لازمٌ، فأجزأهم من ذلك الإضمار، ورأوا الصَّواب والرُّشد في الإمساك عَنِ الإظهار لما فيه مِنَ (¬3) الفُرقة والاختلاف الذي نهى الله عنه، فرأوا الجمل والقول بظاهر القرآن كافياً مُؤدِّياً للعباد إلى الله عزَّ وجلّ، فتمسَّكُوا بذلك، فينبغي لِمَنْ أمَّ الدِّين، وقصد (¬4) إلى الله الاقتداء بهم، والتَّمسُّك بسبيلهم. أو يكونوا لم يعتقدوا في ظاهر الأمر وباطنه إلاَّ القول بظاهر القرآن، والجُمَلِ المجمع (¬5) عليها، فقد يجبُ الاقتداء بهم أيضاً (¬6) في ذلك. قال محمد: وهذا أحمد بن عيسى قد اجتمع عليه المختلفون، واتَّخذ من يَشْرَكُه في أمره جماعة من المتفرِّقين. وقد كتب إليه عبد الله بن محمد بن سليمان يسأله عن القرآن، وغيره باختلاف الناس فيه (¬7). فكان فيما كتب إليه أحمد بن عيسى: ذكرت اختلاف الناس في القرآن، ولم يختلفوا أنه من عند الله. ¬
فهذا من أحمد دليلٌ على أن الأخذ بظاهر القرآن، والجُمَل المجمع (¬1) عليها مجزىءٌ مؤدٍّ (¬2) إلى الله تعالى، وقد علمت أن رجال أحمد بن عيسى الذين كان يُوجِّهُهم في أموره مختلفون (¬3)، منهم: حسن بن هُذيل على مذهب أبي الجارود، ومنهم: عبد الرحمن بن معمر، وهو يظهر القول بخلق القرآن (¬4) لا يستتر بِهِ، ومخول بن إبراهيم، وأمثالُهم كثيرٌ من المختلفين، فلم نره بان بِفرقة يُفَارِق (¬5) فيها أخرى، وقد كان رحمة الله عليه عالماً بما يَضِيقُ عليه من ذلك، وما يتَّسع له في أمر دينه، ولو ضاق عليه ذلك لم يفعله. وهذا الحسن بن يحيى، أنا متَّصلٌ به منذ (¬6) أربعين سنةً أو قريباً من ذلك يُعاشِرُ ضُروباً من المتدينين مختلفين في المذاهب (¬7)، فما رأيته مع قوله بالجملة، وكراهية (¬8) للفرقة امتحن أحداً، ولا كشفَ له عن مذهبٍ، بل قد رأيتُه يعُمُّهم بالنَّصيحة، ويُحْسِنُ لهم العِشْرَةَ، ويترحَّمُ (¬9) على مَنْ مضى من سلفه، وأهل بيته ممَّن يوافقُه في المقالة ويخالفه، هذا مع جلالة سنِّه، وكثرة علمِه، ومعرفته، بما يلزم في ذلك ويجب عليه. قال محمد في كتاب " الجملة ": وأخبرني من أثِقُ به مِنْ آل ¬
الرسول (¬1) - صلى الله عليه وسلم -، عن محمد بن عبد الله، أنه أوجب على من قام بهذا الأمر الدُّعاء لجميع الدِّيانين، وقَطْعَ الألقاب التي (¬2) يُدعى بها فرقُ المصلين، وغلق الأبواب التي في فَتْحِ مثلِها يكون عليهم التَّلفُ (¬3)، والإمساك عمَّا شتَّت الكلمة، وفرَّق الجماعة، وأغرى بين الناس فيما اختلفوا فيه وصاروا به أحزاباً، والدعاء لطبقات الناس من حيث يعقلون (¬4) إلى السبيل الذي (¬5) لا ينكرون، وبه يُؤَلَّفون، فيتولَّى بعضهم بعضاً، ويدينون بذلك، فإنَّ اجتماعهم عليه إثباتٌ للحق، وإزالةٌ للباطل. قال محمد: وكذلك سمعنا عن إبراهيم بن عبد الله، أنه سُئل عن بعض ما يختلف النَّاس فيه من المذاهب، فلم يُجِبْ فيه، وقال: أعينوني على ما اجتمعنا عليه حتى نتفرَّغ لما اختلفنا فيه. حدثنا أبو الحسن محمد بن جعفر بن محمد النحوي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: قال لي القاسم بن إبراهيم: أخبرني بعض (¬6) من أثِقُ به من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن محمد بن عبد الله بن الحسن، أنه قال: يجب على من قام بهذا الأمر الدعاء لجميع الناس، وقطعُ الألقاب التي يدعى بها فرقُ المصلين، وذكر مثل هذا الكلام. ¬
ولسنا نقول: القرآن خالق ولا مخلوق، ولكنا نسميه بالأسماء التي سماه الله بها في محكم كتابه
قال الحسن بن يحيى: أجمع آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) على أن الله خالقُ كل شيءٍ، والقرآن (¬2) كلام الله ووحيه وتنزيله، يُسَمَّى بما سمَّاه الله به في كتابه، لا يجاوزُ ذلك إلى غيره. وقال الحسن -وسُئِلَ عن القرآن-: قد وجدنا الله سبحانه سمى القرآن بأسماءٍ في كتابه لم يُرِدْ من خلقه أن يتكلَّفوا للقرآن أسماء غير ما سماه الله به، وقَبِلَ ذلك من أهل الإسلام في عصر نبينا عليه السلام، ومن القرون التي كانت من بعده، حتى تكلم المتكلمون بالرأي، وتراقَوْا في دينهم رجماً بالغيب إلى صفة ما لا يُدْرِكُونَه من نعت خالقهم، وحتى نحلوا القرآن أسماء برأيهم لم نجدُه منصوصاً في آيةٍ محكمةٍ يُستغنى بها عن التَّأويل، واحتجوا بأنهم لم يجدوا للمجعول (¬3) معنى يصرفونه إليه إلاَّ مخلوقاً، فسمَّوا القرآن -برأيهم- مخلوقاً (¬4)، ولو سمَّوه مجعولاً، كما قال - ومُنَزَّلاً ومُحْدَثاً، كما قال الله ولم يَتَرَاقَوْا رجماً بالغيب إلى تحديد القرآن من ذات الله تبارك وتعالى عن أن يُدْرِكَه الواصفون إلاَّ بما وصف به نفسه في كتابه بلا تحديدٍ ولا تشبيه ولا تناهي. ومعنى قوله: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرآناً عَرَبيّاً} [الزخرف: 3]: صيَّرناه (¬5)، قال الله تعالى: {يا داوُدُ إنَّا جعلنَاكَ خَلِيفَةً في الأرضِ} [ص: 26]، يعني: إنَّا صيرناك خليفةً في الأرض. ولسنا نقول: إن القرآن خالقٌ ولا مخلوقٌ، ولكنا نسمِّيه بالأسماء ¬
التي سمَّاه الله بها في مُحكم كتابه، قال الله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ موسى تَكليماً} [النساء: 164]، وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51] وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. فمن زعم أنَّ الداعي لموسى إلى عبادته غير الله، فقد ضلَّ، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51]. فقد بيَّن لنا كيف (¬1) جهة كلامه، فكلامٌ (¬2) من كلامه أرسل به جبريل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن كلامه وحيٌ بلا رسول (¬3)، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. فقد أوحى بلا رسول، ومنه الوحي إلى الرسل في النوم، ومنه (¬4) كلامه لموسى عليه السلام بلا كيفية، فليس لنا أن نُكَيِّفَ ما لَم يُكيِّفِ الله تعالى، ولا نَحُدّ ما لم يَحُدّ الله، فمَنْ حدَّد ما لم يحد (¬5) الله، فقد اجترأ على تأويل علمِ الغيب بلا حُجَّةٍ. والقرآن (¬6) كلامُ الله ووحيُه، وتنزيلُه، وكتابُه، وقال: {قُرْآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، وقال: {قُرْآنٌ كَرِيمٌ ¬
في كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78]، وقال: {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]، وقال: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5]. فأحدث في قلوب العباد بالرسل من تنزيل الكتاب ما لم يكونوا يعلمون، وإنَّا وجدنا الله تعالى يقول في كتابه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]، وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. فإذا كان القرآن يكونُ بـ " كُنْ " (¬1) وتكون " كن " بـ " كن "، فمتى يتناهي علمُ مَنْ رجم بالغيب في معرفة كينونة القرآن من ذات الله؟ وقد قال عليٌّ عليه السلام: يا بَرْدَهَا على الكَبِدِ (¬2) إذا سئل المرء عمَّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم. حدثنا زيد بن حاجب، عن ابن وليد (2)، عن جعفر بن الصَّيدلاني، قال: أخبرني يحيى بن أبي عطاء البراد، أنه سمع (2) الحسن بن يحيى، يقول: ليس بمخلوقٍ، يعني: القرآن. ¬
وقال الحسن فيما روى ابنُ صباح عنه، وهو قول محمدٍ في المسائل، وسُئِلا عمَّن يقول: القرآن مخلوقٌ أو غيرُ مخلوق، فقالا: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله، نقولُ في ذلك ما قال الله، ولا نتعدَّى ذلك إلى غيره، والله خالقُ كل شيءٍ، الأول قبلَ كُلِّ شيء وخالقه، والباقي بعد كُلِّ شيءٍ (¬1) ووارثُه، وكلُّ ما كان دون الله (¬2)، فهو مخلوق. وقال أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام: الزم ما اجتمع عليه المتفرِّقون. قال محمد: فاكتفِ بما لا اختلاف فيه، ولا فُرقَةَ من الجملة التي دلَّ عليها الكتاب (¬3)، وما اجتمع عليه مِنَ الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن المحنة عندنا في القرآن بدعةٌ. فأمَّا من يقول: إنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى تكليماً، فإن هذا رادٌّ لتنزيل القرآن، بل نقول كما قال الله عز وجل: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164] على معنى ما أراد، لسنا نُكيِّفُ ذلك. وقد علمنا أن الكلام من الله عزَّ وجلَّ على وجوه شتَّى، وكذلك الوحي منه على وجوه شتَّى، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51]. فهذه حالات الأنبياء، وقوله: {إلاَّ وَحْيَاً} في النوم، وكذلك كان (¬4) أمرُ النبيِّ عليه السلام خمس سنين أنه يرى في النوم الوحيَ، ثمَّ ¬
ظهر له جبريل بعد ذلك (¬1)، وأما قوله: {أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، فكما كلَّم موسى عليه السلام. وأمَّا قوله: {أو يُرْسِلَ رَسُولاً}، فهو جبريل. قال محمَّد، وقد سئل عن قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82]، فقال: نقول في ذلك ما قال الله تعالى، ولا نكيفه، ويقال -والله أعلم-: إن لوحاً بين عيني إسرافيل، فإذا أراد الله أمراً، أقرأه (¬2) إسرافيلَ في ذلك اللوح. تمَّ بعونه تعالى الجزء الرابع من العواصم والقواصم ويليه إن شاء الله الجزء الخامس وأوله: الوهم السادس عشر: قال: وقد نسب إلى الشافعي القول بالرؤية ¬
الجزء الخامس
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء الخامس مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 5
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الوهم السادس عشر: نسبة القول بالرؤية إلى الشافعي
الوهم السَّادس عشر: قال: وقد نُسِبَ إلى الشافعي القول بالرُّؤية، فطرَّق عليه الاحتمال، لأن الرؤية إما أن تكون بكيف، أو بلا كيف، والمكيَّفة تجسيمٌ لا محالة. أقول يَرِدُ على كلامه هذا (¬1) إشكالات: الإشكال الأول: أنه قد منع في أوَّل رسالته من صحة " كتاب البخاري " عن مولِّفه، وأمثال ذلك مع شدَّة العناية من مؤلِّفه في تبليغ كتابه واشتغاله بتسميعه، حتى نُقِلَ أنه سمعه منه قدرُ مئة ألفٍ، ثمَّ اشتدَّت عناية الراغبين في هذا الفنِّ في سماعه سماعاً متَّصلاً، ولم تعرض فترة فيما بيننا وبينه في ذلك قطُّ، فلما توفر داعي (¬2) هذا المعترض إلى اللجاح في التشويش على المسلمين في علم الحديث بالقدح في أئمة رواته، قبل ما نُسِبَ إلى الشافعي مجرَّد نسبةٍ أورَدَهَا على صيغة ما لم يُسَم فاعله، وهي الصيغة المعروفة بصيغة التمريض، وجعلها وسيلةً منتهضةً إلى رتبة التَّشكيك في كفر إمام الإسلام وعَلَم الأعلام. الإشكال الثاني: أنَّ شيوخ المعترض وأئمته في بدعة الكلام من المعتزلة مُصفِقُون (¬3) على تعظيم الشافعي، ودعوى أنه منهم في بدعهم (¬4)، وحاشاه من ذلك، وكثيرٌ منهم مقلِّدون له في الفروع، أتبع له من الظِّلِّ، وأطوع له من النعل، وكفي بما ذكره صاحبُكم، بل شيخكُم الحاكم المُحسِّن بن كرامة (¬5) من ¬
الإشكال الثالث: تعظيم أئمة الزيدية له ولعلمه
ذلك في كتابه " شرح العيون "، وهم عند المعترض أجلُّ وأعقلُ من أن يقلِّدوا ويُعَظِّمُوا مشكوكاً في كفره وإلحاده، مغموصاً عليه في صحة إيمانه واعتقاده، فلو سلك مسلك (¬1) العُلماء في اعتراضاته، لبيَّن وجه (¬2) الترجيح لسوء الظن بهذا الإمام الجليل، والعلم الشهير. الإشكال الثالث: أن أئمة الزيدية مشهورون بتعظيمه، وتعظيم علمه وتدوينه، والاعتداد بخلافه، والتدريس في فقهه، وقد نصَّ الإمام المنصور بالله على ذلك في الرِّسالة العامة من " المجموع المنصوري "، ولم يعترضْهُ أحدٌ، وذكر صحة موالاته -رضي الله عنه- لأهل البيت عليهم السلام، وهو مشهور بذلك، حتى روى عنه يحيى بن معين، وأبو عبيد: أنه شيعي المذهب، ذكره الذهبي في " النبلاء " (¬3). وذكر الذهبي في ترجمته من (¬4) " النبلاء " أبياته المشهورة في ذلك منها قوله: يا راكباً قِفْ بالمحصَّبِ مِنْ مِنى ... واهتِفْ بِقَاطِنِ أهلِهَا (¬5) والنَّاهِضِ إلى قوله (¬6): إن كان رفضَاً حُبُّ آل محمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقلانِ أنِّي رافِضِي وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في ترجمته. فَبِمَن اقتديتَ أيُّها المبتدع في انتقاص الإمام الشافعي؟! فما يغُضُّ من مناقبه إلاَّ سخيف العقل، بعيدٌ من العلم والفضل، ولا بد إن شاء الله من إيراد ترجمته وما اشتملت عليه من شهادة ¬
علماء الأمة، وعيون الأئمة بعلُوِّ مرتبته، ليعلم المعترض أنه أحقر من أن يرفع رأسه إليه، وأخفُّ وزناً من أن يُقبَلَ منهُ الكلام عليه، وكيف يُقبلُ القدحُ من معترفٍ بالجهل، مصنِّف بالاحتجاج (¬1) على تعفِّي (¬2) رسوم العلم فيمن أجمعت الأمة على إمامته فيم الإسلام، وأنَّه مِن أفضل عُلماء الملة الأعلام (¬3)، بل ¬
العجب أن المعترض نقل في تعسير (¬1) الاجتهاد، أن الاجتهاد خُتِمَ بالإمام الشافعي، وأنه لا يُوجَدُ بعده مجتهدٌ، واحتجَّ على ما رام تصحيحه من هذه الدعوى، بما نُقِلَ من ذلك عن بعض قدماء (¬2) أصحابه رضي الله عنه، كما تقدم إيضاح ذلك، وما يؤدي إليه من الجهالات الكبار، وتجهيل علماء العترة، والأمة الأخيار، فما أحسن بمن يدعي هذا الجهل العظيم أن يزُمَّ لسانه عما لا يعلم، فإن الصمت سلامة الجاهل خصوصاً، وبئس ما جزيت به هذا الإمام الجليل في حُبِّه لأهل البيت عليهم السلام إذ (¬3) كنت من أهل البيت الشريف، والمَحْتِدِ المُنيف. فقد روى السيد الإمام أبو طالب عليه السلام في أوائل " أماليه " ما لفظه: أبو العبَّاس أحمد بن إبراهيم الحسنى، قال: حدَّثني عبد الله بن أحمد بن سلاَّم، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن منصور، قال: كنت عند القاسم بن إبراهيم بالقريتين (¬4). فجرى ذكرُ الشافعي (¬5)، فأثنى عليه خيراً، فقلنا ¬
الإشكال الرابع: إجماع الأمة على تعظيم الشافعي
له: رأيته؟ فقال: كان صديقي والمختصَّ بي، وما رأيتُ في (¬1) إخواننا الفقهاء أشد تحقيقاً (¬2) بالعدل منه. انتهى بحروفه. وكذلك فليكن ثناءُ علماء (2) أهل البيت عليهم السلام على علماء الإسلام {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وأما المسارعة إلى وصم (¬3) علماء الإسلام بالعظائم، بل التشكيك في إسلامهم من غير مُوجبٍ لذلك، فهذا صنيع من لا خلاق له من أعداء (¬4) الإسلام الملاحدة (¬5)، صانَ الله السيد عن ذكرهم، وأعاذ الجميع من التَّخلُّق بأخلاقهم. الإشكال الرابع: أن الأمة قد أجمعت على تعظيم الشافعي رضي الله عنه. أمَّا أهلُ السُّنَّة: فواضحٌ. وأما الشيعة والمعتزلةُ، فلإجماعهم على الاعتداد بأقواله، وأنه لا ينعقدُ إجماع الأمَّة مع خلافه، ولتدوينهم لعلومه، وتعلُّمهم لها، وتعليمها، وتقريرهم على ذلك، ولا يُعلم من أحدٍ منهم أنه تعرَّض لتجهيله وتكفيره، ولا للتشكيك في ذلك. فإذا تقرَّر ذلك، ثبت أن المعترض قد خرق الإجماع، ورضي لنفسه بالانتظام في سلك سَقَطَةِ (¬6) المتاع، الذين اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وجُبلوا ¬
على محبة القدح في أئمة الدين، وخالفوا المحمود من طرائق المتَّقين في الذب عن الغائبين (¬1). وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ الأموات (¬2)، وذكر مساوئهم (¬3)، فهذا فيمن له مساوىءُ تُذكر، وذنوبٌ تُستنكر، فأمَّا الافتراء على أهل الرتب الرفيعة، والجرأة على القدح فيهم والوقيعة، فليس يرضى بذلك لنفسه متَّقٍ متحرِّزٌ، بل (¬4) ولا عاقلٌ مميِّزٌ، فبادِرْ بالتوبة من ذلك إن كان لك في الفلاح نصيب، فإن الله تعالى يقبل توبة (¬5) العبد المنيب. ¬
الإشكال الخامس: رواية القول بالرؤية عند خلائق لا ينحصرون
الإشكال الخامس: أنه قد روي القول بالرُّؤية عن خلائق لا ينحصرون، كما تأتي طُرُقُ (¬1) ذلك ونسبتها إلى كُتب الإسلام الشَّهيرة (¬2). فممن رُوِيَ عنه القول بها: أمير المومنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، وأبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وبحرُ العلم وحَبْرُه عبد الله بن عباس، وحذيفة بنُ اليمانِ، وعبد الله بن مسعودٍ، ومعاذُ بنُ جبلٍ، وأبو هريرة، وعبدُ الله بن عمر بن الخطاب، وفضَالةُ بن عُبيدٍ، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وكعب الأحبار. ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسعيد بن جُبير، وطاووس اليماني، وهشام بن حسان، والقاضي شريك بن أبي نَمِرٍ (¬3)، وعبد الله بن المبارك، وأئمة المذاهب الأربعة، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، والليث بن سعدٍ، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجرَّاح، وقتيبة بن سعيدٍ، وأبو عبيدٍ (¬4) القاسم بن سلاَّم. فكل هؤلاء رُوِيَ عنهم القول بالرُّؤية كما يأتي، فلم يستخرج لهم أحدٌ احتمال التشبيه والكفر، فما خصَّ المعترض باستخراج ذلك من بين الأمة وما خصَّ الشافعي باستخراج ذلك له (¬5) من بين الأئمة (¬6). ¬
الإشكال السادس: أن الأمة مجمعة على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم
فإن قلت: إن الرِّواية عنه صحيحة دون الأئمة، وإنك مختصٌّ بالإصابة دون الأمة، فهاتِ الأدلة الصَّحيحة على ذلك، وإلا فأنت هالكٌ متهالكٌ في سُلوك هذه (¬1) المسالك. الإشكال السادس: أنَّ الأمة مجمعةٌ على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم مما (¬2) يحتمل مثل (¬3) استخراج المعترض لذلك الاحتمال الشنيع، والاستنباط البديع. ومن أوضح ذلك مع كثرته (¬4): إطلاق الرحمن الرحيم على الله تعالى، وأنه واسع الرحمة، وخير الراحمين، وأرحم الراحمين على سبيل المدح له، والثناء عليه بذلك كما يُمدح بجميع ذلك في كتابه المبين، وكلامه (¬5) الحق اليقين، وكما (¬6) أن ذلك يحتمل في اللغة أن يُفسَّر بمثل رحمة المخلوق المؤلمة لقلبه، المُبكية لعينه، المُنَغِّصة لعيشه عند عجزه اللازمة لكثيرٍ من الآفات لنقصه، ولم يحتمل (¬7). من أطلقها (¬8) على الله على شيء من ذلك، لأن الله سبحانه يختصُّ من كل صفةٍ بمحاسنها دون مساوئها، كما أنه لما اتصف بالعلم (¬9)، لم يجُزْ عليه ما يجوزُ على المخلوق العالم من اكتساب العلم، وحدوثه، وتغيُّره، والشك فيه، والنِّسيان له، والتألم ببعضه، وسائر النقائص. ¬
وكذلك كلُّ من صح عنه من المسلمين ماله وجهان، ومَحمِلان: حَسَنٌ وقبيحٌ، فإنه يُحمل على الوجه الحسن، والمَحمِل الجميل، ولا يحِلُّ لأحد التشكيك في إسلامه، والقدح فيه بسبب ذلك الاحتمال، وإنما يبالغ في إنكار ذلك ويستخرج منه الكفر، ولا يُجيز منه شيئاً، من ينفي جميع أسماء الله الحسنى من الباطنية، ويعتذرون لإلحادهم بتنزيه الله تعالى من إطلاق الألفاظ عليه، وتناول العبارات له. فكما أن المعتزلة ترُدُّ عليهم ذلك (¬1) بالرُّدود المعروفة في ذلك، فكذلك أهل السنة يرُدُّون على المعتزلة مشاركتهم لهم في بعض ذلك بتلك الردود بعينها. ألا ترى أن الباطنية يردون حقائق جميع أسماء الله -كالعليم القدير- إلى المجاز، وكذلك المعتزلة (¬2) تردُّ حقائق بعض أسمائه -كالرحمن الرحيم- إلى المجاز. وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الوهم الخامس عشر السابق قبل هذا كيفية الرَّد عليهم، وبيانُ تناقضهم في ذلك، وقد يُطلِقُ بعض علماء العِترة وأئمتهم، وأئمة الاعتزال نحو ذلك. وكذلك رُوِيَ عن الشافعي، فلا يُستخرج لهم منه جرحٌ، ولا يصحُّ به فيهم قدحٌ. مِنْ ذلك قول الإمام أحمد بن عيسى بن زيدٍ عليه السلام في كتابه " علوم آل محمد " في باب فضل الحج وثوابه بعد رواية حديث النزول ما لفظه: وقال (¬3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعظمُ من أن يزول عن مكانه، ولكن هبوطه نظره إلى السماء (¬4) " انتهى بحروفه. ¬
الإشكال السابع: أن كثيرا من أهل البيت لا يغلو غلو السيد في هذه المسألة
وقال في " الجامع الكافي ": إن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، وقال ذلك من أئمة العترة: زيد بن علي، وجعفر الصادق، وعبد الله بن موسى، والحسن بن يحيى وغيرهم ممن حكاه عنهم محمد بن منصورٍ، وأبو عبد الله الحسني العلوي مصنِّف " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، كما مرَّ تحقيقه، فلم يحتمل استخراج الكفر لأحدٍ منهم. وقال الزمخشري في بعض " مقاماته " (¬1): واستحي من الله، وقلبك قلبُه، ولبُّك لُبُّه (¬2)، وكُلَّك (¬3) فهو فاطِره وربُّه. ولو تتبعنا أمثال ذلك، لطال، وما زال الحمل على السلامة عند الاحتمال شعار العارفين والصالحين والمتَّقين. الإشكال السابع: أنَّ كثيراً من (¬4) أهل البيت عليهم السلام ممن أنت له مُعَظِّمٌ، وله في التفضيل مُقدِّم، لا يغلو غُلُوَّك في هذه المسألة وقد بين ذلك محمَّد بن منصور، وصنف فيه كتاب " الألفة والجملة " (¬5). وقد قدمنا ما نقل عنهم في الوهم الخامس عشر السابق قبل هذا في مسألة القرآن، فخذه من هنالك، فإنه ذكر عنهم ترحُمَّهم على من خالفهم في الاعتقادات المختلف فيها، حتى نقل عن الإمام القاسم بن إبراهيم أنه رَثَى (¬6) ¬
أخاه محمد بن إبراهيم بالترثية المعروفة، وترحَّم عليه، وحُكيَ عنه -مع ذلك- أنه كان يذهب إلى شيءٍ من التشبيه، قال محمد بن منصور: يقال: إن قوله: إن القرآن غير مخلوقٍ. وقد أطال محمد بن منصور في ذلك وأجاد، ولا حاجة إلى إعادته، فراجِعْهُ في موضعه، ونزيد ها هنا ما (¬1) يختص بالرُّؤية. وحاصل الكلام: أن القدماء من العِترة عليهم السلام لم يُنقَل عنهم مذهبُ المعتزلة، أن الرؤية من المُحالات التي لا تدخل في مقدور الله تعالى، بل مقتضى عبارتهم: أن الله لا يُرى لعظمته، وعزته، وكبريائه، كما قال أهل السنة: إنه لا يُدرك بالأبصار إدراك الإحاطة لأجل ذلك، كما لا يُحاط به علماً لمثل ذلك. وأنا أًورِدُ ألفاظهم في ذلك من كتاب الزيدية " الجامع الكافي ". فأقول: قال السيد الإمام أبو عبد الله الحسني في هذا الكتاب المذكور في كتاب " الزيادات " منه في المجلد السادس في القول في نفي الرؤية ما لفظه: وقال الحسن، يعني: الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام: وقد رُوي في الحديث: أن أهل الجنة تبلغ بهم الكرامة إلى أن ينظروا إلى خالقهم، كما ينظر بعضهم إلى بعض، والله سبحانه أجل وأعظم من أن تدركه الأبصار، أو تحيط به العقول، أو تقع عليه الأوهام، والأمر في ذلك مردودٌ إلى الله يفعل ما يشاء، ويُرِي أولياءه من عظمة نوره، وجلال (¬2) عظمته ما لم تكن أبصارهم تُطِيقُ النظر إليه في الدنيا. وقد رُوِيَ عن زيد بن علي عليهما السلام أنه قال: إن بين الله سبحانه يوم القيامة، وبين أدنى خلقه من مَلكٍ مقرَّبٍ، أو نبيِّ مُرسلٍ سبعين ألف حجابٍ من نورٍ، لن يستطيع أدناهم أن يرفع رأسه إلى أدنى حجابٍ من عظمة الله، وقد ¬
قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ولا يتأولونهم (¬1) برأيهم على أهوائهم. وقال محمد -يعني محمد بن منصور -: إن الله لا تدركهُ الأبصار، ولا تحويه الأوهام. قال: وقال بعض أهل العلم: إن الله يُرى في الآخرة، وليس كرؤية المخلوقين للشيء الذي تحويه أبصارُهم، ولكن لله خفايا ولطائف يلطُفُ فيها لمن يشاء كما يشاء (¬2)، فهذا كلام الإمام الحسن، واحتجاجه بحديث زيد بن علي في الحُجُب يدلُّ على إمكان الرُّؤية في قدرة الله لمن يشاء، وكذلك ما حكاه محمد بن منصور، وقرَّره من ذلك، ومن نحوه، وكفى فيه بقوله (¬3) تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] وقوله: {أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] وإلزامك للإمام الشافعي رضي الله عنه لازم لجميع من ذكرنا من السلف الأكرمين من أهل البيت المطهرين الذين كانوا في خير القرون من التابعين وتابعي التابعين كما هو الظاهر من قول الصحابة السابقين، حيث أجمعت (¬4) الأُمة على أنهم سألوا عن ذلك سيد المرسلين لكونهم له مُجَوِّزين، فلم يكن لِسُؤالهم عنه من المنكرين، أفتجوِّزُ كُفرَ سائر مَن رُوِيَ هذا عنه من سلفنا الطاهرين (¬5)، والصحابة السابقين، وتشكُّ وتُشكِّك في أنهم من المسلمين، وتجعلهم بذلك من المجروحين، فتكون من الأخسرين؟ فنعوذ من ذلك (¬6) بأرحم الراحمين. ولا بد من إشارة مقنعةٍ إلى جملةٍ صالحة من أدلَّة أهل السنة، وأدلَّة (¬7) ¬
الإشكال الثامن: قال المعترض: والمكيفة تجسم لا محالة، هكذا من غير ذكر تفصيل ولا خلاف ولا دلالة ومناقشة المؤلف له
المعتزلة في تجويز الرؤية في الآخرة من المعقول والمنقول، وأقوال سلف الأمة، والاحتجاج بالآيات الصَّادعة (¬1) والعلوم النافعة إن شاء الله تعالى. الإشكال الثامن: قال المعترض: والمكيِّفة تُجسِّم لا محالة (¬2)، هكذا من غير ذكر تفصيل ولا خلافٍ ولا دلالةٍ، وهذا في مثل (¬3) هذا الموضع مَعيبٌ أشد العيب، إذ كان من أعظم مواضع النزاع والرَّيب. واعلم أني مقدِّم ها هنا مقدمة مفيدة قبل الخوض في بيان المراد من هذا الإشكال، وذلك أني لا أرد عليه إنكار التشبيه على المشبِّهة فإني موافق في التنزيه، وقائل ببطلان التشبيه، وإن كنت لا أتعرض لبيان المختار عندي في دقائق الكلام الذي أحكيه، وإنما غرضي في هذا: القيام (¬4) بما يجب من الذبِّ عن السُّنن ومذاهب العترة عليهم السلام، فإن المعترض قد ادعى القطع بأن في (¬5) كتب الحديث المُسماة بالصحاح أكاذيب معلومةً متعمدة، وادَّعى على كثيرٍ من رواتها تعمُّد الكذب، وحاول بذلك تقبيح الرُّجوع إليها، وقد بيَّنت (¬6) فيما سلف إجماع الأمة على الرجوع إليها، والنقل منها، وأن ذلك مشهور في كتب الزيدية، وأن المعترض هو بنفسه لم يسلم من ذلك، حيث نقل عنها في تفسيره، وقد بينتُ نصوص العترة في كتبهم على أنهم من أهل التأويل، وذكرت دعوى الإجماع على قبولهم من عشر طرق، وأن ذلك هو المذكور في كتاب " اللُّمع " في كتاب الشهادات منه كما مضى بحروفه في مسألة المتأولين في أوَّل المجلد الأول (¬7)، وحين تقرَّر ذلك، فإنما أُورِدُ ها هنا أدلتهم ¬
في مذهبهم، ليعلم المنصف (¬1) صدق أهل البيت عليهم السلام، في قولهم: إنهم من أهل التأويل، وحسن نظرهم (¬2) وتحريهم وإنصافهم في قبول أخبارهم مع المخالفة، وخشيت إن لم أذكر أدلتهم في ذلك أن يظن الجاهل من أهل بلدنا وعصرنا، أن المعترض هو الصادق لكبر مَحَلِّه في النفوس، فمن ظن بي غير ذلك، أو نقل عني سواه بعد هذا البيان (¬3)، كان من المعتدين المتعمدين، والله المستعان. فأقول: قد تقدم في (¬4) الإشكال الخامس عشر بيان عقيدة أهل السنة في كلام الطائفة الثانية منهم الذين خاضوا في علم الكلام على جهة الذب عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسله عليهم السلام (¬5) في مقصدهم. وتقدم ما في معنى الجسم من الاختلاف بين العقلاء من أهل الملل، ثم بين العلماء من أهل الإسلام، والإشارة إلى ذلك فيما تقدم في القاعدة السادسة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان إليه المنتهى في العلوم العقلية والسمعية باتفاق المختلفين، ولذلك سارت بمصنفاته الركبان إلى جميع البلدان، وهي قدر ثلاث مئة مجلد أو أكثر كما ذكر في كتاب " النبلاء" (¬6) فانظر في كلامه نظر إنصافٍ، ولا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال، وإياك وتقليد الرجال. وقد ذكر الاختلاف في تفسير الجسم، ثم في تماثل الأجسام، وأن كلام المعتزلة ¬
في هذا مبني على تفسير الجسم بأنه المركب من الجواهر، وعلى إثبات الجوهر الفرد، على تماثل الأجسام وأن من المخالفين لهم من يمنع المقدمة الأولى، ومنهم من يمنع المقدمة الثانية، ومنهم من يمنع المقدمتين معاً، ومنهم من يجيب بالاستفسار. قلت: بل قد اختلفت المعتزلة فيما بينهم في تفسير الجسم على أربعة أقوالٍ، كما ذكره صاحبهم ابن متويه في " تذكرته " في علم الجواهر (¬1) والأعراض، إذا تقرر هذا، فلا سبيل إلى نسبة العناد، وتعمُّد القول بالباطل إلى من خالف في معنى الجسم وتفسيره، ولا إلى مَن خالف في تماثل الأجسام وقال باختلافها بعد اعترافه باشتراكها في الجسميَّة. وممن خالف في تماثلها أبو القاسم البلخي وأصحابه من المعتزلة، والفخر الرازي علي ما أشار إليه في " الملخص " (¬2) وغيره، وغيرهم من أهل النظر والأثر. حكاه ابن متوية/المعتزلي، في " تذكرته " عن أبي القاسم، وقد بالغت المعتزلة في دعوى تماثل الأجسام حتى قطعوا أن (¬3) النور والظلمة جسمان (¬4) متماثلان، وكذلك الغبار، والدخان، واللهب، والسحاب، والجِن، والإنس، والنجوم، والأحجار، والتراب، والأشجار، ومضغ القلوب اللطيفة الذكية التي هي مَحلُّ (¬5) المعارف العلمية، وجنادل الحديد الصلبة القوية، والماء، والنار، والفضة، والقارُّ، والأجسام، والأرواح، والأجرام الكثيفة، والرياح، والصخور، والهباء ¬
والأرض، والسماء، بل والموجود من الجواهر والمعدوم، وكذلك من (¬1) كل جنس معلوم - ذكره ابن متويه في " تذكرته " في الأسئلة الواردة على دليل تماثل الجواهر، وهو يفيد القطع برد قولهم في اللغة التي نزل عليها كتاب الله تعالى، وكيف وقد قال الله تعالى في: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]، ولو لم يُخالفوا (¬2) في هذا الأصل (¬3) إلاَّ هذه الآية الكريمة. وإلى الردِّ عليهم في ذلك أشار أبو السعود بن زيد المطرفي في أرجوزته المشهورة، حيث قال: ما نحن قلنا: النار مثلُ الماء ... والقارُ مِثلُ الفِضَّة البيضاء واعلم أنهم لا يخالفون في القدر الضروريِّ من هذا الاختلاف المشاهد المحسوس، ولكنهم يقولون: إن المرجع بهذا الاختلاف المعلوم إلى اختلاف صفات الأجسام، واختلاف الأعراض التي تحلُّها، بحيث لو تجردت الأجسام عن صفاتها، وما حلها من الأعراض، لوجب تماثلها، واستحال اختلافها، وهذا هو محل النزاع، فإن المخالفين لهم في ذلك يقولون: إن الحق أنا لا ندري لو تجردت (¬4) عن ذلك، هل نشاهدها مختلفة أو لا نشاهدها كذلك؟ وعلى تسليم أنا قد رأيناها متجرِّدة، ولم ندرك اختلافها بالحس، فإنا لا ندري، هل اختلافها (¬5) من الأمور المحسوسة المُدرَكة أم لا؟ والقطع (¬6) في موضع الوقف من المحرمات، وإن لم يترتب عليه أمر كبير، فكيف فيما تركب عليه التفسيق والتكفير، بل تركب عليه الكلام في أسماء (¬7) الملك الكبير؟ وقد قال الله تعالى: ¬
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. ولهم في هذا أدلة ينبغي ذكرها وما يَرِدُ عليها، منها: أن الأجسام مشتركة في الجسمية، فيجبُ أن تشترك في كل ما يَجِبُ لها، ويمتنع عليها، ويجوز عليها، وهذه مجرد دعوى لا يحل تسليمها لهم حتَّى يأتوا ببرهانٍ قاطعٍ، وقد تقدم في كلام ابن تيمية تقرير أن الماهية المطلقة مُجرد عبارةٍ لا وجود لها في الخارج، مثل الجسميَّة وسائر ما تشترك الأنواع أو الأشخاص فيه من القدر الكلي المشترك، فإنه لا وجود له في الخارج إلاَّ معيناً مقيداً، وأن معنى الاشتراك في ذلك هو التشابه من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يُطلق على هذا وعلى هذا، لا أن (¬1) الموجودات في الخارج يشارك بعضها بعضاً (¬2) في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز (¬3) عن غيره بذاته وصفاته والمعتزلة ظنت أن الاشتراك في ذلك يُوجب حكماً، ولذلك قالوا: أن الله قد شارك خلقه في الذاتية، ثمَّ تميز عنهم بعد المشاركة (¬4) بالصِّفة الأخص، ونَقَمَ ذلك عليهم غير واحد من العلماء أهل البيت وغيرهم. وقال السيد حميدان (¬5) في ذلك: لقَّبُوا الجسمَ بالذوات ليقضُوا ... باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ وادَّعَوا أن للمُهيمن ذاتاً ... شاركت ثُمَّ فارقت في خلالِ ¬
ثمَّ قاسوا ما فرَّعوه وخاضُوا ... في شروحٍ لهم عِرَاضٍ طِوَالِ وقال في ذلك أيضاً في أُرجوزته التي سماها الإمام المطهر بن يحيى عليه السلام " المزلزلة لأعضاد المعتزلة "، ومنها في هذا المعنى: ليس الإله الواحدُ القدوس ... كما يظنه الذي يقيسُ مِن وصفه التشريكُ والتجنيسُ ... بل قولُهم مشاركٌ تلبيسُ إذ كلُّ فكرٍ دُونَه محبوسُ ... وكلُّ ما تخالُه النفوسُ فمدرَكٌ مُكيَّفٌ محسوسُ (¬1) وكان كثير من أهل البيت يُصححون ما ذكره السيد حميدان، وكتب غير واحد منهم خطوطهم في مجموعه المعروف أنه اعتقادهم. وممن أنكر ذلك (¬2) على المعتزلة وغيرهم فخر الدين الرازي في كتبه، فمن ذلك في كتابه " الملخص في علم اللطيف والجواهر والأعراض "، وهو كتاب جليل في فنه لم يصنف في معناه مثله، قال فيه في الباب الثالث في الأجسام البسيطة من الجملة الثانية في الجواهر في الكلام على أن الكواكب هل تقبل (¬3) الخرق أم لا؟: إن (¬4) من قال: إنها تقبله، احتج بتساوي الأجسام بأسرها في الجسمية، إلى قوله في آخر ذلك: وفي هذه الطريقة (¬5) أبحاثٌ عميقةٌ أصولها مرت في هذا الباب، وتفاصيلها مذكورة في كتاب " النهاية " (¬6) إلى قوله في ذكر ¬
سُخُونة الكواكب في هذا الباب: ولِقَائِلٍ أن يقول: الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في تمام (¬1) الماهية، فلم (¬2) لا يجوز أن يكون الكوكب والنار مشتركين في غاية السخونة، لكن الكواكب مخالفةٌ في ماهيتها لماهية النار، فلأجل ذلك كانت النار التي عندنا شفافة إلى قوله في القسم الثاني في البسائط العنصرية: إنه لا يلزم من اشتراك الهواء والنار في الحرارة (¬3) والرِّقة اشتراكهما في تمام الماهية. وقال في الباب الأول في تجوهر الأجسام من الجملة الثانية في الجواهر، في الرد على من قال: إن اختلاف الأعراض لا بد أن يكون لاختلاف صور (¬4) مركوزةٍ في تلك الأجسام، لأنها مشتركة في الجسمية ... إلى قوله: والاعتراض: لا نسلِّم اشتراك الأجسام بأسرها في الجسمية، إلى آخر كلامه. قلت: وإنما اكتفي بعدم التَّسليم لذلك في جميع المواضع، لأن الخصم لم يأتِ بحُجَّةٍ بيِّنةٍ يقبُحُ إنكارُها إلاَّ مجرَّد تخيُّلات، والامتناعُ في مثل هذا من التسليم أصحُّ من الاستدلال، لأنه لا مجال للعقل في هذه المضايق، فالممتنع أسعد بالحق من المستدل لسلامته من دعوى ما لا يعلم وصدقه في عدم تسليمه (¬5) حينئذ، ولأن استدلالهم في ذلك يرجع حاصله على اختلاف عباراتهم إلى أنهم لم يعلموا دليلاً على اختلاف الأجسام، فوجب نفيه، وسيأتي إبطال هذه الطريقة، وأنه لم يَقُمْ عليها دليل، فالامتناع من تسليمها يكفي، إذ كان قولهم: إنها حجة مجرد دعوى. وقال قبل هذا في هذا الباب في رد الحجة الثالثة من أدلة من زعم أن ¬
الجسم مركبٌ من الهيولى والصورة. وأما الثالثة، فهي بعد تسليم أن الفلك يستحيل عليه التغير في المقدار والشكل مبنية (¬1) على أن الأجسام متحدة في الطبيعة الجسمية، لكن ذلك مما لم (¬2) يثبت بدلالةٍ قاطعةٍ. وقال في " نهاية العقول " في الأصل الثالث في حدوث الأجسام في المسلك الأول من المسالك الثلاثة في سبب اختصاص الجسم بحيِّز (¬3) مخصوص، وهو الحجة الأولى لخصوم أهل الأثر ما لفظه: قولكم: إن الجسمية أمر مشترك بين الأجسام. قلنا: لا نسلِّم، والذي يدل على ذلك أنها لو كانت مشتركة بين أفراد الأجسام، لكانت شخصية (¬4) كل واحد من الأجسام زائدة على جسميته، لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز، لكن يستحيل أن تكون شخصية الجسم المشخص زائدة على جسميته، فإن انضمام ذلك الزائد إلى الجسمية (¬5) في الخارج يتوقف على حصول الجسمية في الخارج، وحصول الجسمية في الخارج يتوقف على (¬6) شخصه الذي هو عبارة عن انضمام ذلك الزائد إليه، ويلزم من ذلك الدور، فثبت أن القول بكون الجسمية أمراً مشتركاً بين أشخاص الأجسام يؤدي إلى هذا المحال، فيكون مُحالاً. لا يُقال: المعقول من الجسمية إنما هو شغل الحيز، ومنع الغير أن يكون بحيث هو، وهذا القدر مشتركٌ، لأنا نقول: ليس الشغل والمنع (¬7) نفس ¬
الجسمية، بل حكمٌ من أحكامها، ولا يلزم من الاشتراك في المؤثِّر الاشتراك في الأثر، ويدل عليه أمور ثلاثة: أحدها: أن الذات حال الحدوث يجب افتقارها إلى الفاعل، وحالة البقاء يمتنع افتقارها إليه، مع أن الذات واحدة في الحالين، فإذا جاز أن ينقلب الشيء الواحد من الوجوب إلى الامتناع الذاتيين بحسب زمانين، فلأن يجوز (¬1) ذلك في المثلين أولى. وأيضاً فلأن الجوهر الحادث مثل الباقي، ثم لا يلزم من تماثلهما تساويهما في صحة المقدورية، وامتناعها، فكذا ها هنا، وكذا العَرَضُ الذي لا يبقى يصحُّ أن يحدث في زمان عدمه مثله، ولا يلزم من صحة حدوث مثله في ذلك الزمان صحة وجوده في ذلك الزمان، وكذا (¬2) ها هنا. الثالث: أن الممكن المعين يحتاج إلى مؤثِّر معين أو شرط معين، وعلة تلك الحاجة هي الإمكان، لأنا لو رفعنا الإمكان بقي إما الوجوب أو الامتناع، وهما مستغنيان عن المؤثِّر، ثم إن الإمكان (¬3) مشترك بين الممكنات، ولا يلزم من اشتراكها في الإمكان اشتراكها في الحاجة إلى ذلك المؤثر المعين، أو إلى ذلك الشرط المعين، لأن أكثر الطوائف أثبتوا مؤثراً غير الله تعالى، فإن بعضهم زعم أن العبد مُوجِدُ، وبعضهم أثبث معاني توجب أحوالاً، وبعضهم أثبت طبيعة وعقلاً ونفساً. ثم إن سلمنا أنه لا مؤثِّر إلاَّ الواحد، ولكن لا نِزَاعَ في كثرة الشروط إذ الجوهر شرط العرض، والحياة شرط العلم، وذلك مما لا خلاف فيه بين ¬
العقلاء. ومعلوم أن حاجة المشروط إلى الشرط لإمكانه، والشرط علة لصحة المشروط، ومع أنه لا (¬1) يلزم من احتياج صحة ذلك المشروط إلى ذلك الشرط احتياج كل صحة إلى ذلك الشرط، فثبت أنه لا يلزم من الاشتراك في المقتضى الاشتراك في الحكم. ثم إن سلمنا أن الاشتراك في السبب يقتضي الاشتراك في الحكم (¬2)، ولكن متى؟ إذا فُقِدَ الشرط، أو إذا (¬3) وُجِدَ مانعٌ، أو إذا لم يكن كذلك، الأول ممنوع، والثاني مسلم بيانه. وهو أن الأشياء المتماثلة في تمام الماهية لا بد وأن تكون متمايزة تشخيصاتها وتعييناتها (¬4)، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فإذاً تشخيص كل شخص يكون زائداً على ماهيته (¬5)، ولأن المتصور من هذا الجسم لا يصح أن يكون محمولاً على كثيرين، مع أنا نعلم بالضرورة أن المتصور من الجسم داخل في المتصور من هذا الجسم، فعلمنا أن المتصور من هذا الجسم (¬6) دخل (¬7) فيه مفهوم زائد على المتصور من الجسم، وإذا ثبت ذلك، ظهر أن تعيُّن كل شخص زائد على حقيقته، وإذا كان كذلك، فمن المحتمل أن تكون شخصية الشخص المعين من الأجسام المتماثلة تكون شرطاً لاقتضاء الجسمية للحصول في ذلك الحيز، أو تكون شخصية الجسم الآخر مانعة من ذلك الاقتضاء، وإذا كان كذلك، لم يلزم من اشتراك الأجسام في تمام الجسمية، وكونها موجبة الحصول في الحيز المعين اشتراك كل الأجسام في ذلك، وبهذا التقدير يتبين أن المقدمة المشهورة من أن المتماثلات يجبُ استواؤُها في جميع اللوازم مقدمة ضعيفة. ¬
لا يقال: التعيين أمرٌ عَدَميٌ، فإن معناه أنه ليس غيره، والقيد العدمي لا يصلح أن يكون جزءاً (¬1) من المقتضى، لأنا نقول: لا نُسلِّم أنه أمر عدميٌّ، وبتقدير تسليمه، فالمقصودُ حاصلٌ أيضاً، لأنه لا نزاع بين العقلاء أن العدم يصلح أن يكون شرطاً، ألا ترى أن عدم الضدِّ شرطٌ لصحة حلول الضد الآخر في المحلِّ؟ انتهى بحروفه ذكره الرازي فيما يرد على دليل الأكوان مع غيره. ثم عقَّب الجواب على الجميع، فأجاب على المنع من تماثل الأجسام بجوابهم المعروف في الاستدلال على عدم الشيء بعدم الدليل عليه، وأشار إلى ضعفه، وقد بالغ في بطلانه، كما يأتي الآن في الحجة الثانية، وقوَّى أنه التعيُّن (¬2) وصفٌ عدمي، وأن الدور غير لازم، وترك صحة كونه شرطاً بغير جواب لأنه قوي عنده كما ذكره في غير موضعٍ، ومن احتج بهذا في إثبات الصفة الأخص، يلزمه أن يكون التعيين وصفاً ثبوتياً، لأنه يجعل تميز الرب سبحانه عن غيره يستلزم ذلك حيث كان قد شارك الذوات في أنه ذاتٌ، ثم تميَّز عنها بتعيُّن ذاته وتميزها، فتأمل ذلك، بل هذا يلزمه تجويز مثل ذلك في كل متمايزين يحتملان مثل ذلك، ولو بمجرد احتمال. ولهذه الشكوك في طرق المتكلمين اختار الإمام المؤيد بالله في كتاب " الزيادات " الاستدلال على ثبوت الباري بالأحكام الذي في المخلوقات وحسن التقدير، ثم أجاز بعد ذلك أن يستدل على خلق (¬3) سائر المخلوقات بالسمع. قلت: وصح (¬4) في طريق على قوتها الاستدلال على الله تعالى بالمعجزات، فإنها حادثة بالضرورة ومخالفة للطبع بالضرورة، وهي (¬5) طريقة ¬
مُجمعٌ على صحتها عند المتكلمين والسلف والخلف، وفي هذا ما ترى من شهرة النزاع بين أئمة هذا الفن في الأمرين معاً: أحدهما: نزاعُهم في تماثل الأجسام في الجسمية. وثانيهما: نزاعهم في أن تماثلها على تسليمه يُوجِبُ استواءها في جميع اللوازم. وإنما سقتُه بطوله، ليعلم الواقف على ذلك وأمثاله من قواعد هذه المسألة أن المخالف فيها غير معلوم العناد (¬1) والتعمُّد، فيكون من أهل التأويل الذي يجوز قبول حديثهم عند الجمهور، بل يجب على ما تقدم. ويُشبه هذا ما ذكر الإمام يحيى في مقدمات " التمهيد "، والرازي في مقدمات " النهاية " من تضعيف المقدمتين المشهورتين عند المتكلمين، أحدهما -وهي الثالثة (¬2) في " التمهيد " والثانية في " النهاية "-: استدلالُهم بتساوي الشيئين في بعض الوجوه على تساويهما مطلقاً، وذكرا لذلك أمثلة، ثم ذكرا أنها ضعيفة جداً، وساقا الدليل على ذلك، ونزاعهم في أدلتهم بعدم (¬3) التسليم، ومن أحب معرفة ذلك، وقف عليه في موضعه، فقد نبَّهت على ذلك (¬4)، والدليل على من ادعى صحة ذلك، فلم نحتج نطوِّل بذكره (¬5). ومما تطابقا على التمثيل، والرد له قول البهاشمة (¬6): لو كانت معاني صفات (¬7) الله قديمة، كانت ¬
مساوية لذاته في القدم، فيجب تساويها في جميع الوجوه، فتكون أرباباً. الحجة الثانية: للمعتزلة على تماثل الجواهر والأجسام، بل (¬1) جميع المستقلات بأنفسها التي سموها أجساماً، هي أنه لا دليل على اختلافها (¬2) في ذواتها، وما لا دليل عليه يجب نفيه. ممَّن عوَّل على هذا منهم: مدقِّقُهم ومحققهم الشيخ ابن متويه في " تذكرته "، وهذا لفظه: قوله: فإن قال: كونه جواهراً (¬3) مختلفاً (¬4) في الذوات، وكذلك تحيُّزه، وكذلك الوجود، فلا يجب لأجل الاشتراك فيما ذكرتم أن يُقضى بالتماثل. قيل له: إن هذه الصفات لو اختلفت، لكان إلى اختلافها طريقٌ والطرق (¬5) التي بها يعرف اختلاف الصفات إما الإدراك، أو الوجدان (¬6) من النفس، أو اختلاف الأحكام. انتهى بحروفه. وتلخيصه: أن الجواهر متغايرةٌ في ذواتها (¬7) بالاتفاق وتماثُلُها غير معلومٍ ضرورةً بالاتفاق (¬8)، فاحتاج القائل به إلى برهانٍ صحيحٍ قاطعٍ، ولم يأتوا بشيءٍ من ذلك. فأجاب الشيخ ابن متويه بقاعدتهم المشهورة الباطلة عند النُّقاد، وهي: أن ما لم يقُم الدليل على ثبوته يجبُ نفيه، وقد ردَّ هذا بأن القديم في الأزل لا (¬9) دليل عليه مع وجوب (¬10) ثبوته حينئذٍ، فكان يلزمهم وجوب نفيه ¬
حينئذٍ، ولأن ذلك ليس بأولى من أن ما لم يقم دليل ٌعلى نفيه يجب ثبوته، ذكره الشيخ مختارٌ المعتزليُّ من أصحاب أبي الحسين في كتابه " المجتبى "، وحكى ابن متويه في " تذكرته " أن الشيخ أبا القاسم البلخيَّ الكعبي (¬1) شيخ البغدادية خالفهم في ذلك، وكذلك حكى البحتري (¬2) في جواب المسائل القاسمية، أن إنكار ذلك هو قول القاسم بن إبراهيم عليه السلام وقول أتباعه، واحتجَّ على ذلك، وذكر الشيخ مختار في " المجتبى " أن ذلك قول أكثر المحققين، وجوَّد الاحتجاج على ذلك في المسألة الثانية عشرة من خاتمة أبواب العدل، فلينظر فيه (¬3). ولنذكر كلام المحققين في بطلان (¬4) ذلك من غير تقليدٍ لهم، ولكن نُورِدُ الأدلة للنُّظَّار ليعلموا الصَّحيح، ثم ليعلموا أن المخالف في مثل هذه الدقائق معدودٌ من المتأولين المقبولين (¬5) في الأخبار، فَمِنَ المزيِّفين لهذه الطريقة: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عليه السلام- فإنه بالغ في إبطالها في أوائل " التمهيد " في الفصل الثالث في مسالك المتكلمين الفاسدة، قال عليه السلام: وهي خمس، قال عليه السلام (¬6): الأولى: قولهم: الشيء الفلاني لا دليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيُه، وساق عليه السلام كلام الرَّازيِّ الآتي الآن بألفاظه إلاَّ اليسير، إلى قوله: إن الدليل إنما يفيد العلم إذا كانت مقدماته بديهية أو لازمة للبديهية (¬7)، وأقتصر على ذلك القدر، وفيه كفاية، ولما اشترك فيه هو والرازي، وزاد الرازي (¬8) عليه، أوردتُ كلام الرازي لتضمنه كلام الإمام وزيادته ¬
عليه كراهيةً للتطويل (¬1)، بسياق كل كلام على انفراده. فأقول: قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة في مقدمات " التمهيد "، وفخر الذين الرازي في مقدِّمات " نهاية العقول "، واللفظ له: الفصل (¬2) السابع في تزييف الطرق الضعيفة، فالأُولى: أنهم متى حاولوا نفي شيءٍ غير معلوم الثبوت بالضرورة، قالوا: إنه لا دليل عليه، وما لا دليل عليه، فيجب (¬3) نفيه، أما بيان أنه لا دليل عليه، فإنما يُثبتُونَه بنقل أدلة المثبتين لذلك الشيء، ثم ببيان فسادها وضعفها، وقد يقيمون الدلالة على حصر وجوه الأدلة، ثم يكتفون في بيان انتفائها بعدم وجدانهم لها، والأول أولى، لأنه إذا كان لا بد في آخر الأمر من التعويل على عدم الوجدان، فلأن نتمسك به ابتداءً حتى نُسقِطَ عن أنفسنا بيان حصر وجوه الأدلة أولى. قلت: يعني لأنه لا دليل لهم على انحصار الأدلة في طريقة الحصر والسبر إلاَّ عدم الوجدان. قال: وأما بيان أن ما لا دليل عليه وجب نفيهُ، فهم يثبتونه من وجهين: الأول: أن تجويز ما لا دليل عليه يلزم منه القدح في العلوم الضرورية والعلوم النظرية، وما أدى إليه يجب أن يكون فاسداً. بيانُ أدائه إلى القدح في العلوم الضرورية (¬4) أنا إذا جوَّزنا إثبات ما لا دليل عليه يلزم تجويز أن يكون بحضرتنا جبالٌ شامخة وأصوات هائلة، ونحن لا ندركها، لأن الله خلق في عُيوننا ما يعارض إدراكها، ولعل لكل واحدٍ منا ألف رأس، إلاَّ أنه قام بالعين ما يمنع إدراك ما عدا الواحد منها، وإن لم نُقِم دليلاً (¬5) ¬
على إثبات المانع، وبيان أدائه إلى القدح في العلوم النظرية: أنا إذا استدللنا بدليل على شيء، فإذا جوَّزنا ثبوت ما لا دليل عليه، فلعل في مقدمات ذلك الدليل غلطاً لم نقف عليه نحن ولا غيرنا، ومع هذا التجويز لا يمكن حصول اليقين، فإذا لا بد من دفع هذا التجويز، ودفعُه لو كان بدليل آخر، لكان الكلام فيه كالكلام في الأول، فيلزم منه حاجة كل دليل إلى دليل آخر، لا إلى نهاية، وذلك محالٌ، فإذا لو لم نقطع بنفي ما لا دليل على ثبوته، لم يمكنا أن نجزم بصحة الدليل، فثبت أن تجويزنا ما لم تقُم الدلالة على ثبوته يؤذن بالقدح في الضروريات والنظريات. زاد الرازي. الثاني: أن الأمور التي لم يدل الدليل على ثبوتها غير متناهية، فلو جاز إثبات ما هذا شأنه، لزم إثبات أمورٍ لا نهاية لها، وذلك محالٌ، فهذا تقرير هذه الحجة، وهي عندي ضعيفة جداً. ثم اتفقا في رد الشبهة، فقالا: قولُكم في المطلوب المعين: إنه لا دليل عليه، تعنُون به أنكم لم تعرفوا دليل ثبوته، أو تعنون أنه ليس في نفس الأمر عليه دليل. فإن عنيتُم (¬1) به الأول، كان حاصل كلامكم (¬2) أن الشيء الفلاني لم نعرف على ثبوته دليلاً، وكل ما لا (¬3) نعرف على ثبوته دليلاً وجب نفيه، وعلى هذا التقدير تكون المقدمة الأولى خفية، لكن المقدمة الثانية ظاهرة الفساد، لأنه لو كان عدم علم الإنسان بدليل ثبوبت الشيء دليلاً على عدم ذلك الشيء، لزم من هذا أن يكون العوام كلهم جازمين بنفي الأمور التي لا يعلمون دليلاً على ثبوتها، ولزم كون المنكرين لوجود الصانع، والتوحيد، والنبوة (¬4)، والحشر ¬
عالمين، لكونهم (¬1) غير عالمين بأدلة ثبوت هذه الأشياء، بل يلزم أن يكون الإنسان كلما كان أقل معرفة بالدلائل أن يكون أكثر علماً. وفساد هذا أكثر من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب. وإن عنيتم به الثاني، كان معنى كلامكم أن (¬2) الشيء الفلاني لا دليل على ثبوته في نفس الأمر، وكل ما كان كذلك وجب نفيه، وعلى هذا التقدير تكون هذه (¬3) المقدمة الثانية صحيحة، لكن المقدمة الأولى لا تتقرر (¬4) بتزييف أدلة المثبت (¬5) له لأنه من الجائز أن يكون على ثبوت ذلك الشيء دليل وإن لم يقف المثبت له على ذلك الدليل هنا. وبالجملة لا يلزم من الوجوه التي تمسك بها المثبت في إثبات ذلك الشيء ألاَّ يكون (¬6) على إثبات ذلك دليل غير معلوم للمثبت. ثم إن سلمنا أنه لا دليل عليه في الحال، ولكن من الجائز أن يوجد بعد ذلك ما يدلُّ عليه، وهو إخبار الشرع عنه، ومعلوم أن خبر الشارع عن ثبوت الشيء يفيد العلم به، إذا كان لم يتوقف العلم لكون الشارع صادقاً على العلم به. فما دام يبقى احتمال أن يخبر الشارع عن ثبوته، استحال الجزم بعدمه، ولولا صحة هذه الطريقة (¬7) لزمنا أن نقطع بعدم وقوع هذه الممكنات التي لا طريق إلى العلم بوقوعها إلاَّ إخبار الشرع، نحو مقادير السماوات والأرض والكواكب، وأحوال الجنة والنار، ومقادير الثواب والعقاب، وحصول الملائكة ¬
والجنِّ عندنا، ثم وإن سلمنا أنه لا دليل على ثبوته في الحال والاستقبال، فَلِمَ قلتم بأن ما كان كذلك وجب نفيه؟ قوله: يلزم من تجويزه القدحُ في العلوم الضرورية. قلنا: العلم بعدم الجبل بحضرتنا (¬1)، وبعدم الرؤوس الكثيرة للشخص الواحد، مما يكون متوقفاً على العلم بأن ما لا دليل علبه يجب نفيه أو لا يتوقف، فإن كان متوقفاً، لم يكن حصول العلم بأنه لا جَبَلَ بحضرتنا إلاَّ بعد العلم بأن ما لا دليل عليه وجب نفيُه، ويلزم من ذلك محذوران: أحدهما: أنه إذا كان العلم بعدم كون الجبل بحضرتنا متوقِّفاً على العلم بأن ما لا دليل عليه يجب نفيه، وهذا القائل قد بنى قوله على أن ما لا دليل عليه وجب (¬2) نفيه، على أن القدح فيه يفضي إلى كون الجبل بحضرتنا، فحينئذٍ يلزم الدَّورُ. وثانيهما: أنه إذا كان العلم بعدم الجبل بحضرتي موقوفاً (¬3) على العلم بأن ما لا دليل عليه يجب نفيُه، فحينئذ يكون عدم الجبل بحضرتي علماً نظرياً مستفاداً من دليل، فلا يلزم من القدح فيه القدح في العلم الضروري. وأما إن لم يكن العلم بعدم الجبل بحضرتي موقوفاً على العلم بأن ما لا دليل عليه وجب نفيه، لم يلزم من عدم العلم بأن " ما لا دليل عليه وجب نفيه " زوال العلم بأن لا جبل بحضرتنا، فإن (¬4) ما لا يتوقفُ حصوله على حصول غيره لم يلزم من عدمِه عَدَمُه. وأما قوله: يلزم منه القدح في العلوم النظرية لاحتمال أن يكون هناك غلطٌ غير معلومٍ. ¬
قلنا: قد بينا أن الدليل إنما يفيد (¬1) العلم إذا كان (¬2) مقدماته بديهية ابتداء، أو تكون بديهية (¬3) اللزوم عن البديهي ابتداءً (¬4)، فعلى (¬5) هذا إنما نحكم بصحة النتجية عند العلم بصحة المقدمات، لا عند عدم العلم بفسادها، فأين أحد البابين عن الآخر. انتهى ها هنا كلام الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام- وزاد الرازي: وأما قوله: ما لا دليل على ثبوته (¬6) لا نهاية له، فلو جاز إثبات (¬7) ما هذا شأنه، لزم إثبات ما لا نهاية له. قلنا: إن قام دليل قاطع على استحالة (¬8) وجود ما لا نهاية له، لم يلزم من الجزم بعدم ما قام الدليل على امتناع حصوله الجزم بعدم ما لم يقم الدليل على امتناع حصوله لظهور الفارق، وإن لم يقم دليل على امتناع حصوله (¬9)، لم يمكنا (¬10) القطع بعدم حصوله (¬11)، فالحاصل أنهم قاسوا عدم حصول الشيء على عدم حصول ما لا نهاية له، ونحن نقدح في هذا القياس، إما بإظهار الفارق، أو بمنع الحكم في الأصل، وبنحو هذا يُجاب على من قال منهم: إنهم لا يقولون بأن ذلك حجة إلاَّ حيث يؤدي عدم الاحتجاج به إلى المحال، ¬
أو نحو ذلك، فيجاب عليه بوجوه: أحدها: أنه إذا لم يحتجَّ به إلاَّ في نحو (¬1) ذلك، جاز أن لا تكون الحجة (¬2) إلا في لزوم المحال من بطلانه، لأنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين حصول الآخر، وهذا انتقال من موضع الخلاف الذي لم يثبت فيه برهانٌ إلى موضع الوفاق، وهذا مثل من يحتج بدليلٍ ظنِّي في موضع القطع، فإذا نُوقِشَ في ذلك، قال: إني لا أحتجُّ به إلاَّ مع دليلٍ قاطعٍ. وثانيها: أن ذلك يؤدي إلى أن تكون المقدِّمة الكبرى (¬3) في البرهان جزئية، وذلك لا ينتج، فإنَّك متى قلت: هذا الأمر لا دليل عليه (¬4)، وبعضُ ما لا دليل عليه، يجب نفيه، فيجب نفي هذا، كنت مثل من يقول: العالم متغيرٌ وبعض المتغير مُحدّث، فالعالم مُحدثٌ. وثالثها: أنهم إذا اعترفوا بأن ذلك غير حجَّةٍ دائمة، فقد اعترفوا بأنه غير جُجَّةٍ في نفسه وهو المراد، والله أعلم، بل ربما رجع كلامهم في هذا إلى ما تقدم من امتناع تجويزنا الجبل (¬5) عندنا فتحرر (¬6) ما قال الرازي. ثم إن سلمنا أن ما ذكروه يقتضي أن ما لا دليل عليه وجب نفيه، ولكنا نقول: لو لَزِمَ من نفي دليل الثبوت الجزم بالعدم، للزم منه أيضاً الجزم بالوجود، وذلك متناقضٌ، وما ينتج المتناقض (¬7) كان باطلاً، فإذاً هذه الطريقة باطلة. ¬
بيان ما ذكرنا من وجهين: الأول: هو أن جزم (¬1) النَّافي بالنفي أمرٌ ثبوتيٌّ، فإما أن يلزم من عدم الجزم بالنفي الجزم بالثبوت أو لا يلزم، فإن لزم (¬2)، فنقول: كما لم يوجد ما يقتضي ثبوت المطلوب، لم يوجد ما يقتضي الجزم (¬3) بالنفي، فليس الاستدلال بعدم دليل ثبوت الشيء على ثبوت الجزم بانتفائه بأولى من الاستلال بعدم دليل ثبوت الجزم بالنفي على حصول المطلوب. وإما أن تحصل (¬4) الدلالتان معاً، فحينئذٍ يلزم منه الجزم بالثبوت والعدم، وهو محالٌ، وإما أن لا يحصُل واحدٌ منهما، فيكون ذلك (¬5) اعترافاً بأن عدم دليل الثبوت لا يقتضي الجزم بالنفي، وأما إن كان لا يلزم من عدم الجزم بالنفي (¬6) الجزم بالثبوت، فذلك إنما يكون إذا كان بينهما واسطةٌ، وإذا كان كذلك، لا يلزم من عدم ما يقتضي الجزم بالثبوت (¬7) الجزم بالنفي لاحتمال القسم الثالث، وهو عدم الجزم أصلاً وحصول التوقف. قلت: وهذا الوجه هو المعتمد، وفيه كفايةٌ لما يظهر في الوجه الثاني من (¬8) قبيل المعارضة دون التحقيق. قال الرازي: الثاني: سلمنا هذا، ولكن، إن جاز (¬9) أن يُستدل بعدم دليل ¬
الثبوت على النفي، جاز أن يُستدل بعدم دليل (¬1) النفي على الثبوت، فيلزم من ذلك الجزم بالإثبات والنفي معاً، وهو محال. لا يقال: فرقاً بينهما من وجوهٍ أربعة: أحدها: هو أن دليل النفي إما أن يعني به عدم دليل الثبوت، أو يعني به وجود دليل النفي. فإن عنى به الأول، كان عدم دليل النفي عبارة عن عدم دليل الثبوت، وهو نفس دليل (¬2) الثبوت، فيكون حاصله الحكم بالإثبات لوجود دليل الثبوت، وذلك لا نزاع فيه، وإن عنى به الثاني، لم يلزم من عدم ما ينفي وجود الشيء حصول ذلك الشيء لاحتمال حصول عدمه بالطريق الأول، وهو عدم المثبت. وثانيها: أن دليل كلِّ شيء على حسب ما يليق به، فدليل الثبوت يجب أن يكون ثبوتياً، ودليل النفي يجب أن يكون عدميَّاً. وثالثها: إذا لم نجد على (¬3) إنسانٍ ما يدلُّ على نبوته، قطعنا (¬4) إنه ليس بنبيٍّ، وليس إذا لم نجد عليه ما يقدح في نبوته يقطع بكونه نبياً. ورابعها: أنا لو نفينا ما لم يوجد دليل ثبوته، لزم نفي أمورٍ غير متناهيةٍ، وهو غير ممتنع، أما لو أثبتنا ما لم يوجد دليل عدمه، لزم (¬5) إثبات ما لا نهاية له، وذلك ممتنع، فظهر الفرق، لأنا نقول: أما الأول، فهو معارضٌ بمثله، لأن من قال في الشيء المعين: إنه لا دليل على ثبوته، فيقال: إن دليل الثبوت قد يراد به عدم دليل العدم، وقد يراد به ما يقتضي نفس الثبوت، فإن عنيت الأول، ¬
كان معنى قولك لم يوجد دليل الثبوت، أنه قد عدم دليل الثبوت، أنه قد عُدِمَ دليل الثاني، وذلك هو نفس وجود (¬1) دليل العدم، فيكون حاصله الحكم بالنفي لوجود ما يقتضي دليل النفي، وذلك غير هذه الطريقة، وإن عنيت الثاني، لم يلزم من عدم ما يقتضي الثبوت إلاَّ يكون الثبوت حاصلاً لاحتمال أن يحصل بواسطة الطريق الثاني، وهو عدم دليل العدم. وأما قوله: دليلُ كل شيءٍ بحسب ما يليق به. قلنا: هذا كلامٌ إقناعيُّ، ثم إنه باطل، لأنا توافقنا على أنه يجوز الاستدلال بعدم شيءٍ على ثبوت شيءٍ آخر، بل ذلك هو الحق، فإنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين القطع بحصول النقيض الآخر (¬2). قوله: إذا لم يجد إنسانٌ ما يدل على نبوَّته، قطعنا أنه ليس بنبي. قلنا: لا نُسلِّم، بل إنما نقطع بذلك لقيام الدلالة القاطعة على أنه لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذلك لما قطعنا به. قوله: لو نفينا ما لم يوجد دليل ثبوته، لزمنا نفي ما لا نهاية له، ولو أثبتنا وجود ما لا دليل على نفيه، لزمنا إثبات ما لا نهاية له. قلنا: نحن لا (¬3) ندعي أن الاستدلال بعدم دليل النفي على الثبوت (¬4) طريقٌ مستقيمٌ، بل نقول: إنه لا فارق في العقل بين الاستدلال لعدم دليل الثبوت على النفي وبين الاستلال بعدم دليل النفي على الثبوت، ولكن ذاك محالٌ لوجوه: منها ما ذكرتم أنه يلزم منه إثبات ما لا نهاية له، فيكون ما ذكرتموه باطلاً، وهذا إنما يتمشَّى لو دلَلْنَا على أنه يلزم من أحدهما الآخر، أما لو لم يدل ¬
عليه، فهذا الكلام غير جيد، وفي هذا الموضع مزيدُ نظرٍ. وبالله التوفيق. انتهى كلام الرازي، وقد جوَّده وطوَّله، لأنه يُحيل (¬1) إليه من بعد بأدنى إشارة، كما قال في دليل الأكوان بعد المنع من تماثل الأجسام مُحتجاً للخصوم بحجَّتهم المعروفة التي فرغنا من تزييفها ما لفظه. قوله: لا نُسلِّم (¬2) أن الجسميّة أمرٌ مشترك. قلنا: المرجعُ في تماثل المتماثلات واختلاف المختلفات، إما إلى العقل، أو إلى الحسِّ، وكلاهما حاكمان بتساوي الأجسام في الجسمية، لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات، وصريح العقل شاهد بأن هذا القدر غير مختلف في أفراد الأجسام، وأما في الحس، فلأن كل جسمين يتساويان فيما عدا الجسمية من الصفات، فإنه يلتبس أحدهما بالآخر حتى يظن أن أحدهما هو الآخر، ولو كان الاختلاف في الجسمية حاصلاً، لما حصل الالتباس (¬3). قال الرازي: وفي هذا الكلام (¬4) نظرٌ. ولم يزد على هذا، وهو يعني جميع ما تقدم في نقض هذه الحجة التي هي الاستدلال على عدم الشيء بعدم الدليل عليه، وجميع ما تقدم في نقض دعوى تماثل الأجسام. وأنا أنبه على يسيرٍ مما يعارض ذلك. فأقول: لا نُسلِّم أوَّلاً أن المرجع في اختلاف المختلفات كلها إلى العقل أو الحسِّ، بل المرجع إليهما فيما أدركنا اختلافه من المختلفات، لكن ما المانع أن يكون الاختلاف في نفسه مختلفاً، منه (¬5) ما يصح أن يدركه البشر ¬
بعقولهم وحسهم، ومنه ما لا يصح أن يُدركوه بهما (¬1) ولا دليل لهم على رفع هذا الاحتمال (¬2) إلاَّ عدم وجدانهم لذلك، واعتقادهم وجوب (¬3) النفي لما لم يجدوه، وقد مر بطلانه، فظهر أن هذه الحجة ترجع إلى ذلك، وإن زخرفوها (¬4) بتغيير العبارة، ولذلك قال الرازي: وفي هذا الكلام نظر، سلمنا أنه كله مما يصح أن (¬5) يدركوه بهما أو بأحدهما، لكن ما المانع أن يكون الحسُّ هو الطريق إلي معرفة اختلاف الأجسام، لكن لم يحصل ذلك الإدراك الممكن لمانعٍ، تارة يرجع إلى المختلف وتارة إلى (¬6) الاختلاف. بيانه أن الجواهر وما لَطُفَ من الأجسام لا تُدْرِكُ هي أنفسها للطافتها، وذلك أمرٌ ضروري متفق عليه، فإذا لم تدرك هي أنفسها، فكيف اختلافها؟! فجاز أن يكون عدم الإدراك مما (¬7) صَغُرَ وخَفِيَ من الأجسام لأمرٍ راجع إلى نقصان إدراك البشر وضعف قوتهم في إدراكهم عن إدراك كل شيء كما لا تدرك الملائكة والجن والشياطين، ولا تُدرَكُ كبار الأجسام لإفراط البعد (¬8)، وما المانع أن يُدْرِكَ الله تعالى من الذوات اللطيفة واختلافها اللطيف ما لا يدرك، ومن العجب موافقة (¬9) الخصم على أنه تعالى يُدرِكُ من الذوات اللطيفة ما لا يُدرَكُ (¬10)، ونزاعه في أنه يُدرِكُ من اختلافها ما لا نُدرِك، ولا شك أن اختلاف ما ¬
لطُفَ ألطفُ من ذاته، وأما الأجسام المُدَركة، فالاحتمال فيها من وجهين: أحدهما: أن الخصم مسلِّمٌ أنا (¬1) قد لا ندركها مع عظمها لمانعٍ من ضعف البصر، أو البُعد المُفرطِ، أو الحجاب الكثيف، فيجوز أنا لم ندرك اختلافها لمانعٍ، وهو اتصافها بالصفات العارضة من الألوان والمقادير والأشكال والصور، ولعلها لو تجرَّدت من (¬2) هذه الأمور، أدركنا نوعاً آخر من الاختلاف لم نعرِفْهُ قطُّ. وثانيهما: أنه (¬3) كما صح أن (¬4) في الذوات ما لا يُدرَكُ (¬5) للطافته، فلا يمتنعُ أن يكون اختلاف الأجسام العظيمة لطيفاً غامضاً، ولا (¬6) يدرك للطافته، ولا يعلمه إلاَّ الله تعالى. ألا ترى أنه لو أخبر الله بذلك لوجب تصديقه، ولم يكن كالإخبار بأن البعض أكثر من الكل، بل قد أخبر الله تعالى باختلاف المتحيِّزات في ذكره سبحانه: {إرَمَ ذات العماد} [الفجر: 7]، حيث قال في وصفها: {التي لم يُخلقْ مثلُها في البلاد} [الفجر: 8] فأمِنَ بذلك من لم يعرف علم الكلام من جميع أهل الفطر السليمة من التغيير من جميع طوائف المسلمين وسلفهم الصالح، واحتجُّوا به، ولم يجعلوا ظاهره في البُطلان كالمقيد بوجود المُحال الذي يجب القطع على أن ظاهره كذب مقطوعٌ به لا يمكن تجويز صدوره من الله، وكذلك يجد الإنسان التطلعَ إلى سؤال من يعلم الغيب عن الشفاء واليقين في مثل هذه المشكلة تطلُّعَ من تَقَبَّلَ الخبر بأي الأمرين وقع، وليس هذا حال المعلومات اليقينية. فإن قالوا: لا نعلم مانعاً، فيجب نفيه، ¬
رجعوا إلى ما تقدَّم بطلانه، وعرفت أن دليلهم هنا يدور عليه. ومثال ما ذكرته لك من لُطف الاختلاف الذي يخفى على البشر: اختلاف أئمة الاعتزال في الحركة والسكون وسائر الأكوان، هل هي مُدرَكَةٌ بالبصر أم لا؟ فقال الشيخ أبو عليٍّ الجبائي: هي مُشَاهَدَةٌ، وهو أول قولي أبي هاشم، ثم رجع عن ذلك، فنفى أن تكون مشاهدة لما التبس عليه المتحرِّك نفسه بحركته، فلم يدر هل المشاهد المتحرك وحده أو المتحرك وحركته، ولو رجع من إثبات المشاهدة إلى الوقف، لكان أقوى له، ولكنه رجع إلى الجزم بالنفي ملاحظةً للبقاء (¬1) على قاعدتهم الفاسدة في أن عدم الدليل على ثبوت الشيء يستلزم القطع بنفيه، فانظر إلى اختلاف هذين الشيخين الكبيرين وتردُّدهما في أمرٍ: هل هو مشاهد أم لا؟ وعلى كلام أبي عليٍّ يكون أبو هاشم جَحَدَ الضرورة المشاهدة وعرض له من الشكِّ فيها ما عرض للسوفسطائية من الشُّبهة في إنكار جميع العلوم الضروريات، وما أوقعهم في هذا إلاَّ دعوى القطع في موضع الوقف، وقد يقفون في بعض المواضع كما يقفون في إدراك الفناء. مع أن ضده مُدرَكٌ، وكما وافقونا (¬2) عليه في تجويز ألوان غير هذه الألوان في قدرة الله تعالى من غير دليلٍ عليها، وكذلك في الطعوم والروائح، ولم يخافوا (¬3) من هذا لزوم ثبوت ما لا يتناهي من كلِّ جنسٍ من ذلك، كما مر في أدلتهم، وهذا ينقضُ عليهم قاعدتهم في نفي ما لا دليل عليه، بل قد نصُّوا على اختلاف الذوات في العدم، واختلافها فيه غير مُدرَكٍ ضرورة، فبطلت شبهتهم، والحمد لله. واعلم أن قاعدتهم هذه الفاسدة قد ألجأتهم إلى القطع بأن الله عزَّ وجلَّ لا يصحُّ أن يُدرك، ولا يعلم من اختلاف الأجسام والجواهر في ذواتها (¬4) غير ما ¬
يعلمه ضعفاء البشر، وجُهَّالُهم، وكفي بهذا شناعة على من يقول به، ومناقضة لقولهم: إن الاختلاف ثابثٌ في العدم (¬1) غير مُدرَكٍ فيه. وعلى الجملة، فالعلم الضروري حاصل باختلاف البشر في الإدراك، تارة لأمرٍ يرجع إلى قوة الحاشة، مثل ما رُوِيَ عن الزرقاء (¬2) في حدة بصرها، ومثل ما يشاهد في رؤية الهلال، وأمثال ذلك، وتارة يرجع إلى كثرة المعرفة والخبرة وطول التجربة، مثل ما أن الجوهرى يعلم من اختلاف الجواهر النفيسة والفصوص الثمينة ما لا يعرفه من يُشاهدُها متماثلةً مع صحة بصره لعدم خبرته، وكذلك الصيرفي النَّقَّادُ (¬3) يدرك التفاوت العظيم بين الدرهمين المُتماثلين في بصرِ من لا يُحسِن صنعته، بل البهائم تدرك من اختلاف صور أولادها المثماثلة في أبصارنا ما لا ندرك، خصوصاً الشاة والماعز، وكذلك الرعاة (¬4) تُدرِكُ من اختلاف صور الشاة ونحوها (¬5) ما لا يدرك غيرُهم، وهذا (¬6) شيء يعلمه العامَّة، ¬
فالعجبُ من قوم يدَّعون فرط الذكاء، وبُعْدَ الغايات في التدقيق لم يعرفوا أن الله اللطيف الخبير علاَّم الغيوب يجوز أن يُدرك في (¬1) اختلاف المتماثلات في إدراكنا ما لا نُدركه، وكيف (¬2) لا يكون إدراكه يخالف إدراكنا، وعلمه يخالف علمنا، وصفاته (¬3) تخالُف صفاتنا في كمالها في حقه ونقصها في حقنا، وأي أمر ساواه فيه (¬4) خلقه، وأين نفي التشبيه (¬5) الذي تدعي الخصوم المبالغة فيه؟ وما ألجأهم إلى تشبيه الله تعالى بخلقه الضعفاء في صفة الإدراك، وأوقعهم (¬6) فيه؟ وقد ثبت أن من قال في علم الله أو قدرته أو غيرهما من صفات الله المحكمة: إنها مثل صفاتنا، فهو كافرٌ مشبِّهٌ بإجماع المسلمين (¬7)، فليحذر في (¬8) ذلك، والقائل (¬9) بأن إدراكه لاختلاف المختلفات وتماثل المتماثلات لا يصحُّ أن يزيد على إدراكنا قطعاً (¬10) - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (¬11)، وما زال المسلمون يُنزِّهون الله تعالى عن ذلك (¬12). ومن الدائر بينهم قول القائل: يا من يرى مدَّ البَعُوض جَنَاحَهَا ... في ظُلمةِ الليل البهيمِ الأليَلِ ويرى نِياطَ عُرُوقِهَا في سَاقِهَا ... والمُخ في تلك العظام النحل (¬13) ¬
وكذلك البَّزازُ يعرف تفاوتاً كثيراً في الثياب المتماثلة في رؤية البدوي الغِرِّ، فإذا كان البدوي الغِرُّ يجوز أن يدرك الجوهري والبزاز فيما اختصَّا به، ما لم يدركه (¬1)، فكيف لا يجوز في البشر الضعيف في قواه أن يستأثر الله تعالى بإدراك ما لا ندركه من اختلاف الأشياء، وقد صح أن الله تعالى خالف بين الأشخاص في وجوههم مخالفة تُحيِّرُ عقول الأذكياء، فما كان العقل يُدرك أن مقدار شبرٍ يُصوِّرُ بصورٍ مختلفةٍ متمايزة إلى حدٍّ لا نهاية له، وقد يخفي علينا من (¬2) ذلك ما لا يخفى على الله تعالى من اختلاف البَعُوض والذَّرِّ، وما هو أصغرُ من ذلك في وجوهها واختلاف الأصوات، وقد سمعت عن بعض (¬3) العارفين أن كل حبةٍ من العنب وغيره مخالفة للحبة الأخرى في مقدارها، ولا سبيل إلى تكذيب هذا، وبعضه مُدرَكٌ، ولكن من قطع بأن الله تعالى لا يعلم من ذاته إلاَّ مثل ما يعلمه نظَّارةُ البشر لم يُستنكر (¬4) منه أن يقطع على أن (¬5) الله تعالى لا يُدرِكُ من اختلاف المختلفات إلاَّ ما يُدرِكه البشر فالله المستعان. وليت شعري، من أين جاء للعقول القطع بأن ذوات الملائكة مثل ذوات الكلاب والخنازير، وأن ذات النور مثل ذات الظلمة، وذات الرياح مثل ذات الحديد، وما أحسن الإنسان يَقِفُ حيث لا يعلم، ويتأدَّبُ بقول الله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليسَ لَكَ به عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. نسأل الله التوفيق، وقد عَظُمَ ¬
الوعيدُ فيمن افترى على عينيه في الأحلام (¬1)، فكيف بمن افترى على عقله في قواعد الإسلام. وذكر ابن متويه في الألوان أن طريقة الحصر إنما تكون حجة حيث تؤدِّي إلى ما لا يعقِلُه أصلاً، وهذا ضعيفٌ جداً، فإنه إن أراد بما لا نعقله أصلاً ما لا نعلمه بنفيٍ ولا إثباتٍ، فمحل النزاع، وإن أراد ما نعلم نفيه، فغير محلِّ النِّزاع. وأيضاً فإن أراد ما لا يتصوره لعدم إلفِنَا له، لَزِمَهُ بطلان القِدَم، فإنَّ العقول تنبو عن تصوُّره لعدم إلفِهَا له، ولأنه لا نهاية له كما ذكره أهل علم المعقولات، وكذلك لا يمكن تصوُّر ذات الله عز وجلّ، مع أنها أحق الحق، والمختصَّة بوجوب الوجود. وإن أراد بما لا نعقله أصلاً ما نعلم بفطرة العقول إحالته وامتناعه، فالعلم بذلك دليل على انتفائه، وقد خرج بذلك عن الاستدلال على نفيه بعدم الدليل على نفيه (¬2)، ولو كان كلام ابن متويه صحيحاً، لكان أكبر حُجَّةٍ لخصومه حيث قالوا: إنهم يعلمون بالضرورة إن كل موجوديْن، إما أن يَحُلُّ أحدُهما في الآخر، ¬
أو يكون مفارقاً (¬1) له بالجهات، بدليل أنهم لا يعقلون قسماً ثالثاً أصلاً. قالوا: فلو جوَّزنا القدح في هذه القضية مع كونها معلومة بالفطرة موافقة لنصوص الكتب المنزَّلة، جاز القدح في سائر القضايا الضرورية، وذلك يجرُّ إلى السفسطة، فإذا كانت هذه الطريقة هي حُجَّته عليهم، فإنها بعينها هي حجَّتُهم عليه، فكان في تصحيح قوله بطلانه. زاد مختار: إنه لا دليل على القديم في الأزل مع وجوب ثبوته فيه، وهو دليك صحيحٌ، فهذا من الأدلة العقلية. ومن الأدلة السمعية ما لا يُحصى، من ذلك قوله تعالى: {وَيَخلُقُ مَا لا تعلَمُون} [النحل: 8]، فلو كان ما لا يعلم البشر يجب نفيه، لوجب أن يستحيل صدور مثل هذا النص الحقِّ عن الربِّ الحقِّ، ومن ذلك ما ثبث وصحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن عباس: " أن الخَضِرَ قال لموسى ما علمي وعِلمُكَ وعِلْمُ جميع الخلائق في علم الله إلاَّ مثل ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر " (¬2)، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلمِ إلاَّ قَليِلاً} [الإسراء: 85]. وفي الصَّحيح أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " لو تعلمون ما أعلمُ، لضَحِكْتُم قليلاً ولبكيتُم كثيراً " (¬3)، فكيف يصح مع هذا في عقل عاقل أن يكون الجهلُ طريقاً ¬
إلى العلم والعمى سبيلاً إلى البصر (¬1)، وأدلَّة السمع هنا صحيحة، لعدم وقوف صحة السمع على هذه المسألة، بل هي أصح، لعدم تعارضها والأمان من الزلل في مداحض غوامضها. وبتأمل هذا وتفهُّمِه تعرف أن الذين لم يُكفِّروا المختلفين في هذه الدقائق، ولم يحكموا بعنادهم وتعمدهم له، هم الذين بلغوا الغاية في معرفة قواعد الاختلاف وأسبابه. الحجة الثالثة: للمعتزلة على تماثل الأجسام: قسمة الحصر والسَّبْر، وقد تقدم في كلام الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام والرازي، أن المرجِع بها إلى الاستدلال بعدم الدليل على نفي المدلول، وقد مر الكلام فيه، وهو صحيح جليٌّ، لأنه لا بد أن يقولوا: لو كان هناك قسم آخر غير الأقسام المذكورة لعرفناه، لكنا لا نعرفه، فهو باطل، على أنها لو صحت لاحتجَّ بها خصومُهم، كما تقدم، وكانت لفساد قول المعتزلة ألزم، والله سبحانه أعلم. ثم إن ابن متويه عَضَّدَ هذا الاستدلال بطريقة الحصر بنحوه، وطوَّل في ¬
اختلاف عباراتهم عنه، وما هو إلاَّ تسويدٌ للأوراق، وتشويشٌ على النُّظَّار، وتضييعٌ للأوقات، وكثيراً ما يغترُّ من نظر في كتبهم بأنهم يخوضون كثيراً في أمورٍ صحيحة جليَّةٍ، ويوردون على أنفسهم أسئلة ساقطة بمرَّةٍ، ثم يَحيدُون في الجواب عنها، ويُدرجون في أثنائها السؤال الحق الذي لا جواب يتَّضحُ لهم عليه، ثم يُوردون في الجواب عليه ما لا يشفي ولا يكفي، فربما لم يتفطن له الغبي، وربما ظن حين لم يفهم كلامهم أنه دقَّ عليه ما فهموه بفرط ذكائهم، وما أحسن قول إمام علم الكلام الغزالي، حيث قال: إنَّ الطريق إلى التحقيق من علم الكلام مسدد، وإنه لا يخلو من معارف صحيحةٍ، ولكن اليقين الذي فيه إنَّما هُوَ في أمورٍ يحصُلُ اليقين بها قبل الخوض فيه، أو كما قال. وما أنفسَه من كلام! وربما دقَّ كلامهم على من لم يألف عباراتهم (¬1)، وفي الحقيقة إنما دق عليه ما اصطلحوا عليه وابتدعوه مِنَ العبارات كما يدقُّ على العربي الفصيح فهم كلام الأعاجم في تراطنهم، ولذلك كان الإمام أحمد إذا جادلوه بتلك العبارات، يُجيب عليهم بأن هذا فنٌّ لا أعرفه، كما مرَّ تحقيقه، وأنَّه الذي ينبغي للسُّنِّيِّ في الجواب عليهم، وأنت تقول: إن هذا كلام من لم يفهم ما ذكروه، فاعتبر بمن أجمعوا على تعظيمه من مشايخهم، ممن يَرُدُّ قولهم ويبالغ في نسبتهم إلى رِكَّةِ النظر، أو إلى (¬2) العناد، كما سيأتي من كلام أبي الحسين البصري وأصحابه على أبي هاشم وأصحابه، فقد تعارضت أقوالهم في هذه الدقائق، ويستحيل تكاذب العلماء، كما يستحيل تعارضُ العلوم. وربَّما رجَّحوا ما يعتقدونه دليلاً عقلياً، بأنه لا يحتمل التأويل، وهذا معارض في حق المعتزلة بأن الاستدلاليَّ عندهم ما يجوز عروض الشَّكِّ والشبهة فيه عند القطع به، وقد حقَّقت في " ترجيح أساليب القرآن " (¬3) أن هذا شكٌّ ناجزٌ يُنافي ¬
العلم القاطع، وهو مذهب الإمام يحيى بن حمزة والرازي، كما مر بيانُه في الحجة الثانية في جواب قول المعتزلة: إن الوقف فيما لا دليل عليه يؤدي إلى بطلان العلوم النظرية لتجويز غلطٍ في مقدماتها لم يشعر به (¬1) الناظر. ثم إن أكثرهم لا يُجيدون علم الاجتهاد، ولا يتقنون (¬2) قواعد التأويل الصحيح، فيأتون من التأويلات بجنس تأويلات الباطنية، وقد تكلم عليهم الزمخشري في بعض المواضع، وخالفهم في كثيرٍ منها لذلك، فقال في تأويلهم لقوله تعالى: {بلْ يداهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64]: وهذا من ضيق العَطَنِ والمُسافرة عن علم البيان مسافة أعوامٍ، وخالفهم في تأويلهم لمثل (¬3) قوله: {ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] وغير ذلك. وأما قولهم: إذا بطل العقل بطل السمع، فإنه فرعه، فالجواب (¬4) من وجوه: أحدها: أن السمع لا يُعارضُ العقل، فإن الأنبياء والأولياء والسلف أوفر الخلق عُقولاً، ولذلك زهِدُوا في الدنيا، وكثير من المتكلمين فاسق تصريح، ومن شيوخهم في علم الكلام أعداء الإسلام المخذولون من الفلاسفة وأشباههم، وإنما يجنون على العقول بدعاوى باطلةٍ. والوجه الثاني: أن المبتدعة والفلاسفة لم يسلموا من مخالفة فِطَرِ العقول، كما بيَّنوا ذلك في رد بعضهم على بعض في علم اللطيف، ولكنهم يقعون في تلك المحارات (¬5) حين يُلجئهم إليها دليلُ الخُلْفِ الظَّني، وتقليد القدماء ممن يُعظِّمُونه، وأهل السنة يُؤمنون (¬6) بالمحارات (¬7) السمعية التي جاءت بها الرسل، ¬
وصحت فيها النصوص، والكل مُقرٌّ بامتناع المحالات (¬1) العقلية الضرورية. الوجه الثالث وهو الحق: أن تقدير تعارض العقل والسمع القاطعين (¬2) تقديرٌ محالٌ: لأن تعارض العلوم محالٌ، ولو قُدِّرَ، بطلا معاً، ألا ترى أن السمع لو بطل، وقد حكم العقل أنه لا يبطُلُ، لعلمنا بذلك أيضاً بطلان إحكام العقول، وقد أجاب عليهم (¬3) بهذا شيخ المعقول والمنقول ابن دقيق العيد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره الزركشي (¬4) في شرح " جمع الجوامع " للسبكي وقد تفرَّع هذا الكلام من رد احتجاجهم على تماثل الحوادث المستقلة، وتسميتها أجساماً كلها بدليل الحصر والسبر، ونقض ذلك عليهم، وبيان مخالفتهم فيه لجمهور علماء المعقول، وجميع أئمة علم (¬5) المنقول ممن وقع الاتفاق على تفضيله في عقله، وتصديقه في نقله، لكمال تقواه وفضله. الحجة الرابعة: أنهم بَنَوا على أنه لا يصحُّ اختلاف الأجسام إلاَّ في صفاتها الذاتية أو المقتضاة، وصفاتها الذاتية ثابتة (¬6) معها في حال (¬7) العدم بغير اختيارٍ ¬
من الله تعالى وصفاتها المقتضاة عنها ليست إلاَّ التحيز لا سوى، والتحيز مختلفٌ فيه بينهم، فمنهم (¬1) من قال: هو ثابت أيضاً في العدم بغير اختيار الله تعالى، حكاه مختار في " المجتبى "، كما سيأتي كلامه، وحكاه ابن متويه في " التذكرة " ولم يُقبِّحه على قائله من شيوخهم (¬2)، وهذا جرى (¬3) على القياس، لأن الصفة المقتضاة لا تَخَلَّفُ (¬4) عمَّا يقتضيها في العقل، وإلا لما كانت مقتضاة، كما أن المعلول لا يتخلف عن العلَّة (¬5)، ولكنهم خافوا أن يتفاحش الأمر ويلزمهم التصريحُ بقدم (¬6) العالم، والمجاهرة بذلك، فاعتذروا بأنَّ هذا التحيُّز لا يظهر إلاَّ بشرط الوجود، والوجود بالفاعل، فقد زعموا أن التحيُّز ليس بالفاعل، وهو الله تعالى، ولا الذات، ولا صفتها الذاتية، والوجود عندهم ليس بشيءٍ، لأنَّ الأشياء ثابتةٌ في العَدَم، ولا تأثيرَ لله تعالى إلاَّ فيه، مع أنه ليس بشيءٍ، فصحَّ (¬7) على زعمهم أنَّ الله تعالى لم يؤثر في شيءٍ على الحقيقة، وهذا مما لا جواب لهم عنه (¬8)، وإنما (¬9) حاولوا الجواب عن (¬10) كونه تعالى لم يخلُق شيئاً ولا أحدثه، فإن ابن متويه حاول الجواب عن هذا بأن خلق الشيء وإحداثه هو إيجاده، والله تعالى هو الذي حصَّل (¬11) له صفة الوجود، وهذا الجواب غير مخلص، فإن معنى الإلزام أن اتِّصاف الشَّيء بأنه مخلوق على اعتقادهم مجاز، ¬
لأن الشيء ثابتٌ عندهم في العدم قبل خلقه، وإنما المخلوق على (¬1) الحقيقة عندهم حدوثه ووجوده، وليسا بشيءٍ عندهم. وقد صرَّح الزمخشري في " أساس البلاغة " (¬2) بأن الله لا يُسمى خالقاً إلاَّ مجازاً، وهو علاَّمتهم في علم اللغة، فكيف غيرُه؟ وقد صرَّح ابن متويه بأن الأشياء مختلفة في العدم بصفاتها الذاتية، وأن اختلافها ليس بالفاعل -يعني بالله تعالى- وإلا لجاز (¬3) أن يجعل السواد مثلاً (¬4) للبياض، فثبت أن عندهم أن الله تعالى غير قادرٍ على خلق جوهرٍ مخالفٍ للجواهر، ولا يمكن أن يعلمَ الله إلى ذلك سبيلاً، ولا يقدر على المخالفة بين شيئين أصلاً، إلاَّ أن يكونا مختلفين بأنفسهما من قبل خلقه لهما، وهذا أيضاً راجعٌ إلى عدم الشيء لعدم الدليل عليه، لأنه لا دليل لهم على أنه لا يصحُّ اختلاف الأجسام سواه، فإذا كان (¬5) تماثل الأجسام مبنياً على هذه الدعاوى، فلا شكَّ في مخالفة (¬6) أكثر علماء المعقولات لهم في ذلك. دع عنك علماء الآثار (¬7) وأئمة الإسلام، وقد خالفهم في ذلك خلق كثير من علماء الاعتزال، وشنَّعوا عليهم في ذلك لما فَحُشَ جهلُهم فيه. فلنقتصر على ردِّ أصحابهم عليهم، ولنقتصر علي أخصر كلامٍ، في ذلك لمجانبة هذا الجواب لهذا (¬8) الفنِّ إلاَّ ما تمسُّ الحاجة إليه مما ليس فيه خوضٌ في ذات الله عز وجل. ¬
فنقول: قال الشيخ مختار بن محمود المعتزلي في كتابه " المجتبى " في الكلام على وجود الرب سبحانه وتعالى ما لفظه: الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف الناس (¬1) في الوجود، فَمَن قال: وجود الشيء ذاته وحقيقته، قال: إذا دللنا على أنه لا بد للعالم من صانع، علمنا أنه موجود، لأن الشكَّ في عدمه بعد العلم بثبوته شكٌّ في انتفائه بعد ثبوته، وأنه خُلْفٌ، وإنما قلنا: إنه شكٌّ في انتفائه، لأن أهل اللُّغة يستعملون لفظ العدم، ولفظ النفي بالترادف، والنفي والثبوت يتقابلان، فكذا العدم والثبوت، فكل ما كان ثابتاً لا يكون معدوماً، وإذا لم يكن الباري معدوماً، كان موجوداً، فصحَّ ما ادعينا أنه إذا ثبت أنه لا بد من صانعٍ للعالم، ظهر وجوده، وإلى ذلك ذهب كثير من المشايخ، كأبي الهُذيل (¬2) وهشام الفُوطِي (¬3) وهشام البرذعي، وأبي (¬4) الحسين البصري، وشيخنا ركن الدين محمود الخوارزمي (¬5)، ومن السنية: أبو بكر الباقلاني (¬6) وأتباعه. ¬
وأما من قال: وجود الذات زائدٌ على حقيقته، لكنه غيرُ منفكٍّ عنها، وهذا قول أكثر الفلاسفة والأشعرية، ومن تابعهم، فإنهم قالوا: الدليل على ثبوت حقيقته دليلٌ على وجوده، لأن وجوده عندهم لا ينفكُّ عن حقيقته. وأما من قال: وجود الذات زائد عليه، ومنفكٌّ عنه، زعم أن الحقائق متقررة مع انتفاء الوجود عنها، وهم (¬1) جمعٌ من المشايخ، كأبي يعقوب الشَّحَّام (¬2)، وأبي علي الجُبَّائي، وأبي هاشم، وأبي الحسين الخياط (¬3)، وأبي القاسم البلخي، وأبي عبد الله البصري، وقاضي القضاة، وأبي رشيد، وابن متويه، وأتباعهم. وزعموا أن المعدومات قبل وجودها ذوات، وأعيان وحقاثق، وأن تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات على صفة الوجود لا على الذوات، ثم اتفق هولاء أن الذوات لا تختلف إلاَّ بالصفات، واختلفوا في أنها هل (¬4) هي موصوفةٌ في حال عدمها، فقال ابن عياش والكعبي: إنها غير موصوفة بشيءٍ من الصفات. وقال في الفصل الرابع في الصفات الذاتية: إنهم جوَّزوا للمعدوم تحققاً في الخارج. انتهى (¬5). قال خاتمة أهل الأصول، تقي الأئمة العجالي (¬6): وما نُقِلَ عن الكعبيِّ من ¬
أنَّ المعدوم شيءٌ يريد به أنه معلومٌ على ما ذهب إليه أبو الحسين البصري، وهو غير كونه ذاتاً. وقال غيرهما من هؤلاء المشايخية: إنها في حال عدمها موصوفةٌ بالصفات، فقال أبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة، وتلامذته: إن للجوهر أربع صفاتٍ: الجوهرية، وهي صفة ذاتٍ، والتحيز، وهي صفةٌ مقتضاةٌ عن الجوهرية، والوجود (¬1)، وهو الصفة التي بالفاعل، والكائنية وهي الثابتة بالمعنى، وكذا سائر الذوات موصوفةٌ بأمثال هذه الصفات، إلاَّ الكائنية، فإنها لا تصحُّ في الأعراض (¬2)، والسواد له صفة السَّوادية في حالة العدم، وهي تقتضي هيئة السوادية عند العدم (¬3)، وبعضهم جعلوا صفة التحيُّز (¬4) والجوهريَّة واحدة، وقال أبو الحسين الخياط: إنه متحيِّزٌ، ومَحلٌ للمعاني، وجسم حال العدم، وجوَّز أبو يعقوب رجلاً راكباً على فرس في العدم، ثم إنهم مع اختلافهم اتفقوا بأنا بعد العلم بأن للعالم صانعاً، محدِثاً، قادراً، عالماً، حيَّاً، سميعاً، بصيراً، حكيماً، محسناً، باعثاً للرسل، مقيماً للقيامة، مصيباً، مُعاقباً، نشكُّ أنه موجودٌ أم معدومٌ (¬5)، وإنما يتبين وجودُه بدلالة مستأنَفَةٍ، وكذا اتفقوا على أن في العدم أنواعاً وأجناساً (¬6) مختلفةً بالصفات، ولكون (¬7) كل جنس أعداداً (¬8) غير متناهية يمكن الإشارة العقلية إلى كلِّ واحدٍ منها، وإلى مماثلتها ومخالفتها. قال تقيُّ الأئمة العجالي: إنَّ كل من سمع ذلك من العقلاء قبل أن يتلوَّث (¬9) خاطره بالاعتقادات التقليدية، فإنه يقطع ببطلان هذه المذاهب، ¬
ويتعجب أن يكون في الوجود عاقلٌ تسمَحُ نفسه بمثل هذه الاعتقادات، ويلزمُهم أن يُجَوِّزوا فيما شاهدوه من الأجسام والأعراض أن تكون كلها معدومة، لأن الوجود غيرُ مدرَكٍ عندهم، وإلاَّ لزمَ أن يرى الله تعالى لوجوده (¬1)، بل إنما يتناوله الإدراك للصفة المقتضاة عندهم، وهي التحيُّز، وبقية (¬2) السواد والبياض فيهما غاية الأمر أن الجوهر عند بعضهم يقتضي التحيز بشرط الوجود، لكن الترتُّب في الوجود لا يقتضي الترتُّب في العلم، كما في صفة الحياة والعلم، فيلزمهم أن يشكُّوا بعد هذه المشاهدة في وجودها، وكل مذهب يؤدي إلى هذه التَّمحُّلات - والخصم مع هذا يزيد سفاهةً ولَجَاجَاً فالواجب على العاقل الفطن (¬3) الإعراض عنه، والتمسك بقوله تعالى: {وإذا خاطبهُمُ الجاهلُونَ قالوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، ومن ذمَّ مِنَ السلف الصالح الكلام والمتكلمين، إنما عنوا أمثال هؤلاء ظاهراً (¬4). والله الموفق. انتهى بحروفه (¬5). وإذا كان هذا كلام أئمة الاعتزال بعضهم في بعض، فكيف بكلام (¬6) متكلمي أهل السنة فيهم، وإذا كان الجهل (¬7) في علم النظر يؤدي إلى هذا، ويكون هذه عاقبته، فكيف يُلام من أعرض عنه وتمسَّك بطريقة السلف الصالح الذين لم يَجْرِ بينهم من نحو هذا كلمةٌ واحدةٌ لبركة (¬8) إقبالهم على الكتاب والسنة، وترك الفضول، وترك دعاوى علم ما لا طريق للبشر إلى علمه. واعلم أن سبب قول البهاشمة بالشكِّ في وجود الله تعالى بعد العلم بكونه ¬
صانعاً متَّصفاً بصفات الكمال، هو اعتقادهم أنه حينئذٍ ثابتٌ، وتجويزُهم أن يكون الثابت معدوماً غير موجود، فلذلك (¬1) لزمَهُم تجويز أن يكون الثابت مُشاهَداً بالأعيان غير موجود، لأن كون (¬2) الثابت المعدوم لا يُرى نظريٌّ على هذا، كما أن نفي صفات الكمال عنه نظري، وكل نظري يصحُّ الشك فيه، فيلزمهم صحة الشك في وجود العالم المشاهَد لتجويز أنه ثابتٌ غير موجود (¬3). وأما الرازي، فاختصر الرد عليهم في " الملخص " غاية الاختصار، فقال في الباب الأول من الكتاب الأول في الأمور العامة: المعدوم ليس بثابتٍ، لأن المعدوم إن كان مساوياً للمنفيِّ أو أخصَّ منه، فكلُّ منفيٍّ فليس بثابتٍ، فكل معدوم فليس بثابت، وإن كان أعمَّ منه، وجب أن يكون نفياً صرفاً، وإلا لم يَبْقَ الفرق بين العام والخاص، فإذا هو ثابتٌ، وهو مقولٌ على المنفي، والمنفي ليس بثابتٍ، هذا خُلْفٌ. وعمدتهم أن المعدوم معلوم، وكل معلومٍ ثابتٌ، والكبرى منقوضةٌ بالممتنعات والخيالات والوجود. انتهى. وأما دليل الأكوان، وهو الحجة الخامسة: فليس يدُلُّ على تماثل الأجسام، إنما يدلُّ على حدوثها، وقد تقدم الكلام فيه في أول الوهم الخامس عشر، وهو الذي قبل هذا، وقد استوفيته في تكملة " ترجيح أساليب القرآن ". ونقلت فيه كلام أبي الحسين وأصحابه من كتاب " المجتبى " للشيخ مختار بن محمود، وقد كَفَوُا (¬4) المُؤنَةَ في المبالغة في ذلك والنصرة (¬5) له والحمد لله. واعلم أن المعترض وأمثاله بنوا تكفير أهل السنة على مثل هذه الخيالات. وعمدتهم فيها أمران: ¬
أحدهما: ما ذكرنا من دعوى تسمية المتباينات بالجهات كلِّها أجساماً، ثم دعوى تماثل الأجسام، وقد بان بطلان كل من هاتين الدعويَيْن. وثانيهما: ما مرَّ بيانه في الوهم الخامس عشر من كلامهم في دليل الأكوان ودعواهم لصحته، ولا حاجة إلى إعادته، وليس في هذا الكتاب ما يكفي ويشفي (¬1) في نقضه، وقد أفردتُ نقضه (¬2) في مصنفٍ، سمَّيتُه " ترجيح أساليب القرآن " (¬3) وأوردتُ فيه كلام أصحاب (¬4) الشيخ أبي الحسين البصري في نقضه. وهو كلامٌ مجوَّدٌ (¬5) محرَّرٌ منقَّح، ذكره مختار بن محمود المعتزلي في كتابه " المجتبى " وذكر عن شيخ الاعتزال تقي الأئمة العجاليّ بعد إيراد نقض كلامهم أن الصبيان في ملاعبهم لا يرضون بمثل كلامهم في ذلك لِرِكَّتِه وسقوطه. انتهى. فهذه شهادة أئمة الاعتزال على بطلان أدلة هذا المعترض، وعلي بُطلان أدلة كثيرٍ من شيوخهم على بطلان مذاهب أهل السنة، وعلى بطلان شُبَه (¬6) من كفَّرهم، وما هي إلاَّ فضيلةٌ من فضائلهم أنطق الله بها خُصومهم ليُظهر براءتهم كما أنطق جُلودَ المنافقين يوم القيامة بالشهادة (¬7) بالحق عليهم. فالحمد لله رب العالمين. ولكن الجاهل حَسَنُ الظنِّ بهم، فإذا سَمِعَ دعواهم لمعرفة الحقائق والدقائق، حسَّنَ ظنِّه بهم، ولم يعلم أنه يُعَارِض ذلك دعوى (¬8) خصومهم لمثل ¬
ذلك، ويوضِّحُه خوضهم فيما لا يعنيهم مما (¬1) دلَّ السمع على جهل الخلق به، مثل خوضهم في حقيقة الروح مع توقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخوض فيه حين سُئِلَ عنه، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬2) [الإسراء: 85]، فإذا رأي الجاهلُ تجاسُرَهُمْ على القطع بدعوى العلوم وتجهيل الناس وتكفيرهم، ظنَّ ذلك من قوَّة ما عَلِمُوا، ولو فكرَّ في اختلافهم وتخطئة بعضهم بعضاً، وتكفيرهم، أمثالهم في الدعوى والعجب ببدعهم، لتَعَارَضَ ذلك عليه، وعَرَفَ (¬3) أنَّ خيرَ (¬4) الهدي هدْي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعيهم. الحجة السادسة: قياس واجب الوجود -سبحانه وتعالى عن ذلك- على ممكن الوجود في أشياء كثيرة، مثل قولهم: إنَّ كونه على صفةٍ دون أخرى يجري مجرى الإحكام في الممكنات، والإحكام يدل على الحاجة إلى المحكم، وهي شبهة الملاحدة في نفي جميع الأسماء والصفات حتى الوجود. والجواب إنَّ ذلك إنما دل في المحدث (¬5) لإمكانه، ولذلك لا يصِحُّ الاستدلالُ حتى يُقرِّر أنه ممكنٌ، لأن واجبَ الوجود لا يمكن تعليله، لأنه لو كان ¬
له علّة، كان الكلام فيها مثل الكلام (¬1) فيه، ويُؤدِّي إلى ما لا نهاية له، ولذلك رَجَعَتْ إلى ذلك الفلاسفة، لكنَّهم سَمُّوا الله تعالى عِلَّة، ولكلِّ طائفةٍ في هذا القياس عبارةٌ. وشرط صحة القياس عدم الفارق، فيطلب السُّنِّيُّ من المبتدع الدليل القاطع على عدم الفارق، بل على أن وجوب وجوده ليس بفارقٍ (¬2)، ثم يمتنع مِنْ تسليم الشُّبهة (¬3) التي يُعَوَّلُ عليها، مثل ما يمتنع المبتدع من تسليم الأدلة الصحيحة. ولما عرفتُ (¬4) اتِّساع العبارات في هذا المقام، وأهمَّني (¬5) جمعه (¬6)، رأيتُ قوله تعالى: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15] فعرفتُ أنها إشارةٌ إلى سلوك هذا المسلك معهم، وهو طلبُ الدليل منهم، ثم الامتناع من تسليم الباطل، فإدأ ذلك حيلتهم، فيقلب عليهم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الجسم في لغة العرب (¬7) التي نزل عليها كتاب الله، وخاطب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير ما اصطلح عليه أهل المعقولات كلُّهم. كما تشهد (¬8) بذلك كتبُ اللغة. قال محمد بن نشوان في " ضياء الحلوم " (¬9) في باب الجيم والسين. ¬
الجسم (¬1) كلُّ شخصٍ مُدرَكٌ، وقال في باب الشين والخاء: الشخص: سوادُ الإنسان من بعيدٍ (¬2)، والشخص: الجسم. والجمع شُخُوصٌ وأشخاصٌ، والسواد: الشخص. ذكره الجوهري أيضاً (¬3) انتهى. وهذا (¬4) يدلك على أن تسمية الجسم تختصُّ بهذه الحيوانات، إذ لا يُسَمِّي أحدٌ الأحجار ولا الأشجار ولا الجبال ولا القِيعان جسوماً (¬5) ولا أشخاصاً، وكذلك سائرُ أهل (¬6) كتب اللغة. قال الجوهري في " الصحاح " (¬7) في فصل الجيم من كتاب الميم ما لفظه: قال أبو زيد: الجِسْمُ: الجسدُ، وكذلك الجُسمان والجُثمان، وقال الأصمعي: الجسم والجسمان: الجسد (¬8) والجُثمان: الشخص. قال: وجماعةٌ جسم الإنسان أيضاً يقال له: الجُسمان، مِثْلُ ذئبٍ وذُؤبان. وقال الجوهري (¬9): الجسد: البدن. ذكره في موضعه من فصل الجيم في كتاب الدال. وقال صاحب " الضياء ": جسد الإنسان معروفٌ، والجسد ما لا يأكلُ ولا يشرب كالملائكة والجن. ومنه قوله: {عِجْلاً جَسَدَاً}، فجعلها مشتركة، لا عامة. وأما الجوهري فقال في الآية: قيل: إنَّه بمعنى أحمَرَ من ذهبٍ، ¬
والجسد: الزعفران، ونحوه، من الصِّبْغ، وهو الدَّمُ، فجعلها لفظة مشتركة أيضاً، غير أنهم حين فسَّروا بها الجسم لم يعنوا بها إلاَّ المعنى الأول، ونحو ذلك في " ديوان الأدب ". وقال الخليل في " العين " ومجد الدِّين في " القاموس " (¬1): الجسم: جماعة البدنِ أو الأعضاء (¬2) [و] من الناس وسائر الأنواع العظيمة الخَلْقِ، كالجُسْمَان بالضم، (ج) (¬3) أجسامٌ وجسومٌ، وككَرُمَ: عَظُمَ، فهو جسيمٌ وجُسَامٌ كغُرابٌ، وهي بهاءٍ، والجسيم (¬4)، البدينُ، وما ارتفع من الأرض وعلاه الماء [ج] (¬5) جِسَامٌ [ككتابٍ]، وبنو جَوْسَم: حي درجوا، وبنو جاسم: حي قديم وتجسَّم الأمر والرَّمْل: ركب (¬6) معظمهما (¬7). انتهى ما ذكره مجدُ الذين في " القاموس " فبان لك من هذا (¬8) أنهم يصطلحون على أشياء ليرَكِّبُوا عليها ما ابتدعوا من تشنيعٍ وتكفيرٍ وإبداعٍ وتغييرٍ، وقد احتجُّوا على قولهم في الجسم بقول الشاعر: وأجسم مِنْ عادٍ جُسومُ رِجَالِهم ولا حُجَّة لهم فيه بل هو حجةٌ على ما ذكرنا، فإنه لم يثبت اسم الجسم فيه إلاَّ في حق الأشخاص. وأما الاحتجاج به على ما لم يخطر لقائله ببال من تركُّب الجسم من ثمانية جواهر لا أقل منها، فعجيبٌ ممن توهمه. والله أعلم. ¬
وإنما ذلك كما اصطلحوا على أن الموجود مثل المعدوم من الجواهر، لا أن هذه لغاتٌ عربية. وكذلك فعل أعداء الجميع من الباطنية. ألا ترى أن الباطنية يُسَمُّون حقائق مدح الرب سبحانه بأسمائه الحسنى تشبيهاً وتمثيلاً وكُفراً وشركاً، ويجعلون تلك الممادح الشريفة بمنزلة السبِّ والذم لله تعالى، حتى يصُوغَ لهم تأويلها على ما شاؤوا (¬1)، وصرفها إلى أئمتهم دون الله تعالى، وكذلك مَنْ نفي حقيقة التمدح بأسماء الله الرحمن الرحيم خير الراحمين أرحم الراحمين (¬2)، وكذلك اسمه الرؤوف، واسمه الودود، واسمه الحليم، بالَّلام عند المعتزلة، واسمه الحكيم، بالكاف عند الأشعرية، إلى أمثال لها (¬3)، لا دليل لهم عند البحث التام على ذلك إلاَّ مجرد اصطلاحات في العبارات تواطؤوا عليها، ومن أحبَّ كشف عوارهم في ذلك، لم يقلِّدهم في شيءٍ قطُّ، وراجع محض عقلِه، وراجع مصنفات خصومِهمُ الحافلة، كمصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. وأما من اعتقد فيهم التحقيق، وقَبِلَ منهم، ولم يسمع من غيرهم، فقد سدَّ أبواب الهداية على نفسه، وكذلك كل عامِّيٍّ مع كل طائفةٍ، بل المعتزليُّ الطالب لعلم الكلام على رأي أبي هاشم يعتقدُ غلطَ مخالِفِه (¬4) من سائر المعتزلة، ولا يدري ما في كتب أبي الحسين المعتزلي وأصحابه من الردود الصعبة القوية لمذهب (¬5) أبي هاشم، ولا يرى أجمع للمساوىء من صاحب كلامٍ وجدال، مقلّد لا يفي معه صمتُ (¬6) أهل السنة وسَمْتُهم وحُسْنُ أخلاقهم وتواضعهم، ولا يتكلم بعلمٍ ويقينٍ، ويُرشِدُ إلى الحق الجاهلين، ويفيض مِنْ ¬
الإشكال التاسع: أنه إن سلم للخصم جميع ما رمى به الشافعي -وحاشاه- فإن أئمة العترة والمعتزلة غير مجمعين على التكفير بذلك
علومه وفوائده على الطالبين، ولا يقبلُ من فوقَه من العارفين، وإنما هو قذى للعيون، مَجْمَعٌ (¬1) لمساوىء الأخلاق وسيِّئات الظُّنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الإشكال التاسع: سلَّمنا للخصم جميع (¬2) ما تعاطاه مما رمى به الإمام الشافعي، وحاشاه. فإن أئمة العِترة والمعتزلة غيرُ مجمعين على التكفير بذلك، ولا على سلامة أدلَّته من القدح، وهذا الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام على قرب عهده من المعترض، وصِحَّة تواليفه عنه، فإنها باقيةٌ بخط يده الكريمة، وسماع أولاده الثِّقات قد اختار في كتابه " التمهيد " عدم إكفار أهل القبلة من المشبِّهة والمجبرة (¬3) وغيرهم، واحتجَّ على ذلك، وذكر أدلَّة المكفرين لهم، وجعل دعواهم للإجماع أحدها. ثم قال: وفي كُلِّ واحدٍ من هذه الوجوه نظر، ثم قال: حقاً على كلَّ من تكلَّم في الإكفار أن يُنْعِمَ النظر فيه، ويتَّقي الله، فإن موردَه الشرعُ، والخطر فيه عظيم، وإذا لم يتَّضح الدليل فيه، فالوقوف لنا أولى. انتهى بحروفه. وقال مختصر " الانتصار " (¬4): مسألة: لا نكَفِّرُ مطلق الجسمية على الله تعالى حتى يفسر، أبو علي: يكفر، قلنا: لفظه محتمل للخطأ في العبارة فقط. انتهى. فيُبحث عن ذلك في كتاب " التَّحقيق " للإمام يحيى عليه السلام (¬5) ¬
وكذلك قال علامة الاعتزال، والتَّشيُّع عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح قول علي -عليه السلام-: تعالى عما يقول المشبهون به والجاحدون له عُلُوّاً كبيراً. أنواع التشبيه العشرة كما تقدم في الوهم الخامس عشر (¬1)، وقال فيه: فأمَّا من قال: إنه جسم لا كالأجسام، ونَفَوْا عنه معنى الجسمية، وأرادوا تنزيهه عن أن يكون عَرَضاً تستحيل مِنْهُ الأفعال، وأرادوا أنه شيءٌ لا كالأشياء، فأمْرُهم سهل، لأن خلافهم في العبارة، وهم: علي بن منصور، والسَّكَّاك (¬2)، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، وكل هؤلاء من قدماء الشيعة (¬3)، وهو قول ابن كرَّام وأصحابه. قال: والمتعصِّبون لهشام بن الحكم (¬4) من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أن هذا مذهبه، وإن كان الحسن بن موسى النُّوبختي (¬5) -وهو مِنْ فُضلاء الشيعة- قد روى عنه التَّجسيم المعنويَّ المحض في كتاب " الآراء والدِّيانات ". ¬
قلت: وقد قدم ابن أبي الحديد قبل هذا رواياتٍ فاحشةً عن هشام في ذلك، لكن ذكر أن أتباعه من الشيعة تُنْكِرُها (¬1) كما تقدم في الوهم الخامس عشر (¬2). وقد نقل ابن تيمية أن من الناس من يُسمِّي كل موجودٍ جسماً، ويجعلهما مترادفين. وفيه أقوالٌ كثيرة، ويقويه أن التكفير قطعي يجب البلوغ إلى اليقين فيه، ورفع كل احتمال. وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفسر الذي أقرَّ بالزنى على نفسه، وسأل عن عقله، وقال: " لعلَّكَ قَبَّلْتَ، لعلك فعلت " حتَّى صرَّح له بالنُّون، والياء المثناة من تحت، والكاف (¬3). وهذا في الحدِّ الذي يثبت بالشهادة الظنية، فكيف بالإخراج عن الإسلام لمن يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وأن جميع ما جاء به حق؟ كما قال من عرضت له شبهةٌ اعتقد فيها أنه (¬4) مصدِّقٌ لكلام الله تعالى، ومتقرِّبٌ في القول بها إلى الله. ولذلك أجمعت المعتزلة وهم الخصوم على وجوب الدليل القاطع فيه، وتحريم الأدلة الظنية (¬5)، وخصوصاً التكفير بها (¬6) يؤدي إلى تكفير الصالحين من العامة، ¬
وتحريم أكثر المناكحات، وما عُلِمَ من السلف خلاف. وقد قال شيخ الإسلام في الرد على من يكفِّرُ من يُسميِّه مشبِّهاً وليس بمشبِّهٍ عند نفسه من مثبتي الصفات: إن الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو الإثبات (¬1) من غير تشبيه ليس بسديدٍ، وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدرٌ مشتركٌ وقدرٌ متميِّزٌ (¬2). فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيهٌ، قيل له: إن أردت أنه مماثلٌ له من كل وجهٍ، فهذا باطلٌ، وإن أردت أنه مشابهٌ له من وجهٍ دون وجهٍ، أو مشاركٌ له في الاسم، لزمك هذا في سائر ما تثبته. وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسَّرتُّموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له. ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا المعنى مما لا يقوله عاقلٌ يتصوَّر ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه. إلى قوله في الرَّدِّ على من كفَّر مثبتي الصفات: إن من قال: إنَّ لله علماً قديماً، أو قدرةٌ قديمةٌ، كان مشبِّهاً عند المعتزلة، لأن القدم (¬3) عندهم أخصُّ وصف (¬4) الإله، ومثبتو (¬5) الصفات لا يُوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخصُّ وصفه ما لا يتَّصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وكونه على كلِّ شيءٍ قدير، والصفة - (التي هي القدرة أو العلم) (¬6). لا توصف بشيءٍ من ذلك. ثم إن من (¬7) هؤلاء الصفاتية من لا (7) يقول: إن الصفات قديمةٌ، بل يقول: ¬
إن الرَّبَّ بصفاته قديمٌ. ومنهم من يقول: هو قديمٌ، وصفاته (¬1) قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان. ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك (¬2) لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيءٍ من خصائصه. وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً (¬3) كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُحْدَثٌ وصفاته محدَثةٌ، وليست صفاته رسولاً ولا نبياً، فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه، كانت هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، يقول (¬4) لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يُسمَّى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقلٌ ولا شرع (¬5)، وإنما الواحب نفيُ ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى (¬6) مسمى المثل والكُفء والنِّدِّ ونحو ذلك، لكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست بمثل الموصوف ولا كُفْئِه ولا نِدِّه، فلا يدخل في النصِّ إلى آخر كلامه في ذلك (¬7). وقد تقدم بكماله في الوهم الخامس عشر (¬8). وإنما قصدت الإرشاد إلى احتمال أدلَّة: المكفِّرين لمن يسمُّونه -باصطلاحهم- مشبِّهاً، وإن لم تصحَّ هذه التسمية في لغة العرب صحة قطعية متواترة، كما أن طائفة من المعتزلة اصطلحت على تسمية الموجود من الجواهر ¬
الإشكال العاشر: أنه لو صح له -والعياذ بالله- جميع ما أراد ما حصل منه مقصوده
والأجسام مثلاً للمعدوم، وكذلك اصطلحت (¬1) على أن من أثبت لله علماً أو رحمة أو عُلُوّاً من غير تكييفٍ، فقد كفر، وشبَّه الله تعالى ومَثَّلَه، مع تصريحه بنفي ذلك. والإمام الشافعي رضي الله عنه منزَّهٌ عن هذا المقام، وإنَّما أحببت استطراد القائدة بذكر كلام العلماء المنصفين الذين لم يحملهم الغضب على تكفير مخالفيهم بغير حجةٍ (¬2) بيِّنةٍ، فإنه لا يُقبلُ في هذا المقام إلاَّ (¬3) الأدلة القاطعة. وقد ذكر غير واحد من المحققين أن الأدلة القاطعة (¬4) متى كانت شرعيَّة لم تكن إلاَّ ضرورية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في الوهم الخامس عشر، فخذه من هناك (¬5). الإشكال العاشر: نذكره على جهة الاستقصاء لبيان مجاوزة المعترض للحدِّ في الخطأ مع تنزيه الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك أنه لو صح له والعياذ بالله جميع ما أراد، ما حصل منه مقصودُه، لأن مقصوده (¬6) في أول الكلام القدح في علوم الحديث النبوي وصحتها، بأن الشافعي رضي الله عنه من رواتها، كما قدح فيها بأن أحمد بن حنبل والبخاري من رواتها. وقد تقدم الكلام عليه في هذا، والتعجب (¬7) مِنْهُ في أول الوهم الخامس عشر، فطالعه هنالك (¬8) إن كنت لم تقف عليه، وجدِّد به العهد إن كنت قد رأيته وأُنسيته، فهو من أنفس ما في هذا الجواب. وقد ذكرنا فيه من روى عنه حُفَّاظ الإسلام وأئمة المذاهب الأربعة، وأئمة العِترة عليهم السلام ممن لا يُوازن الإمام الشافعي ¬
ذكر أدلة من فال بالرؤية وأدلة من منعها وذلك في فصلين
رضي الله عنه في مناقبه الشهيرة، وفضائلة الطيِّبة الكثيرة. وقد تقدم في المسألة الأولى مِن هذا الكتاب دعوى علماء الزيدية للإجماع على وجوب القبول لرواية المتأولين: فُسَّاقهم وكفارهم، وبيان كثرة طرق دعوى الإجماع على ذلك وشهرتها وقوتها بعلمهم (¬1) بذلك من غير نكير، والمعترض يُقرىء ذلك في كل سنةٍ في كتاب " الُّلمع " ويعتمد (¬2) في رواياته في التفسير والحديث عن كلِّ من دَبَّ ودَرَجَ. فالله المستعان. وبعد ذكر هذه الإشكالات العشرة الكاشفة عن غفلة المعترض عمَّا يجب عليه، يزيدُ الأمر وضوحاً بذكر أدلَّة من قال بالرُّؤية، وأدلَّة من منعها، بحيث يظهر للنَّاظر فيها حكمُ القائل بالرُّؤية، وهل يُعَدُّ من منكري الضرورات الشرعية فيكفر؟ ويُعَدُّ من المكذبين فيما رواه؟ أو يُعَدُّ من المتأولين؟ فيتكلم بكلامهم لا بالمختار عندنا في فصلين: فصل في إمكانها في قدرة الله تعالى عندهم حسبما فهموه من أدلتهم، وفصل في وقوعها عندهم. ونشير إلى الأدلة العقلية من غير استقصاء، إذا (¬3) كانت مقرَّرة في مواضعها من كتب الفريقين، وإذ كانت المخالفة فيها لا تقتضي التكفير، وننقل كلام الفريقين من أهل الحديث والمعتزلة بألفاظهم لنبرأ من وصم العصبية إن شاء الله تعالى. الفصل الأول: في إمكانها في قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه يرى ذاته الشريفة هو عز وجل، وإن حَجَبَ عن ذلك خلقه كلهم، أو من شاء منهم. قالوا: وهذا القدر لم يُعرف فيه خلافٌ بين السلف القدماء من العترة والصحابة، وإنما يُنكِرهُ المعتزلة ومن وافقهم من متأخِّري الشيعة. فلنذكر أدلة الجميع على الاختصار الشافي والإنصاف: ¬
أمَّا من أنكر ذلك، فليس لهم إلاَّ حجتان: عقلية وسمعِيَّة: أمَّا العقلية. فاعتقادهم إن ذلك يؤدي إلى ثبوت الجهة لله تعالى، وأن ثبوتها يؤدِّي إلى التجسيم، وأن الأجسام متماثلة، وأنه يجب في كل مثلين أن يشتركا في كل ما يجب ويجوز ويستحيل. وأمَّا السمعية: فما اتفق الجميعُ عليه (¬1) من ورود السمع بنفي التشبيه والتمثيل. وأمَّا (¬2) طوائف المخالفين لهم: فإن منهم من وافقهم في صحِّة الحجَّة العقلية، ونازعهم في لزومها لنفي الرُّؤية، وهم طائفة من متكلِّمي أهل السُّنَّة كالأشعرية، فإنَّهم اعتقدوا صحَّة الجمع بين نفي الجهة وصحَّة الرؤية، وجعلوا ذلك مثل ما أجمعوا (¬3) عليه هم والمعتزلة من صحة الجمع بين نفي الجهة عن الله تعالى وصحَّة وجوده. ولهم في ذلك مباحثٌ دقيقةٌ ومعارضاتٌ طويلةٌ، وهي معروفةٌ في كتب الكلام، فلا نُطيلُ بذكرها، حتَّي قال الرازي في كتابه " الأربعين في أصول الدِّين ": إنَّ مرادهم بالرؤية صفةٌ تنكشِفُ لله تعالى في الآخرة، وهي (¬4) بالنِّسبة إليه كالرُّؤية بالنسبة إلى غيره. وقال الشهرستاني في " الملل والنحل " (¬5) في الكلام على الاجتهاد أوّل القول في الفروع، ما معناه: إن الرؤية عند من أثبتها من متكلمي الأشعرية إدراكٌ أو علمٌ مخصوصٌ. وهذا يخالِفُ كلام أهل الأثره وحاصل كلامهم أن الرُّؤية غير مكيفةٍ كالمرئي سبحانه، وعند أهل الأثر: أن الرؤية مكيفةٌ، ولكن ¬
المرئي سبحانه غير مكيَّفٍ كما ورد في الحديث (¬1). ولا يلزم تكييف المرئي من تكييف الرؤية، كما لا يلزم تكييف الموجود من تكييف الوجود. والحاصل أن أهل السنن (¬2) والآثار يقطعون بنفي التشبيه والتمثيل، كما قالت المعتزلة والأشعرية، لكنهم يرون أن ما وصف الله تعالى به ذاته الكريمة في كتابه الكريم وبلغه رسوله الكريم، ولم يتأوله، ولم يُحذِّر من اعتقاد ظاهره، ولا كان من أحد من أصحابه مثل ذلك مع طول المدة، فإنه غيرُ مناقض لنفي التشبيه والتمثيل، ولا يجوز في العادات أن تمرَّ المدة الطويلة ولا يُبَين مثل ذلك. قالوا: وقد اجتمعنا على ردِّ قول الملاحدة الباطنية في نفي الصفات كلها، وعلى رد قولهم: إن مجرد الاشتراك في بعض الأسماء والألفاظ يوجب التشبيه، فإنهم زعموا أن الله تعالى لو كان شيئاً والإنسان شيئاً أو موجوداً والإنسان موجوداً كان ذلك تشبيهاً، فرددنا الجميع ذلك عليهم. ووافقت المعتزلة على ردِّ هذا عليهم (¬3)، وأجازت المعتزلة بأجمعهم أن يُوصف كل واحدٍ من الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، ومن بعض عباده الحُقراء بأنه موجودٌ، حي، قادرٌ عالمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، مريد، مدبِّرٌ، حكيمٌ، مثيبٌ، (¬4) معاقبٌ، فاعلٌ، مختارٌ ... إلى غير ذلك من الصفات الحميده، ثم لا يوجب الاشتراك في جميع تلك الصفات تشبيهاً، ولا تمثيلاً، بحيث إنه تعالى تمدَّح في كتابه المبين بانه أرحم الراحمين وأحسن الخالقين، وخير الحافظين، وخير الرازقين، مع جمعه معهم في اللفظ بإجماع المسلمين. فكيف يجب القطع بوقوع السُّنِيِّ في صريح التشبيه؟ إذا قال: إنه تعالى استوى على عرشه، وعلا فوق خلقه علواً كبيراً (¬5)، مع قطعه بنفي التشبيه لاستوائه وعلوّه ¬
باستواء خلقه وعلوهم المستلزمين حاجتهم إلى ما استووا عليه واستقرُّوا فوقه، محمولين مفتقرين إلى ما حملهم، محدودين محيط بهم ما حصرهم، مصوَّرين متصورين، مكيفين مقهورين مربوبين، مع إثبات السُّنِّيِّ في ذلك لجميع الفوارق التي لا تُحصى بين رب العزة وخلقه الأدلة من إثبات كل كمالٍ لله جل جلاله، ونفي كلِّ نقص وعيب (¬1) عنه سبحانه، وتخصيصه دون خلقه بوجوب الوجود، والقِدَمِ، والبقاء، وعدم التشبيه، والتشريك، والنِّدِّ والكُفء، والضِّدِّ، وإثباث ما لا يأتي عليه العدُّ من ثبوت الحمد، والمجد، وكمال القدرة، والملك، والعزَّة، والكبرياء، ونفوذ المشيئة، وبلاغ الحكمة، ودفع الحُجَّة، وسُبوغ النعمة، واستحقاق حقائق جميع المحامد والممادح، وعموم الرُّبوبية لكل شيءٍ، وتمام القيومية (¬2) بكلٍّ حي وعجز كل (¬3) واصفٍ، وحَيرة كلِّ مفكِّرٍ، وعِيَّ كل بليغٍ، وتقصير كلِّ حامدٍ. فأيُّ تشبيه (¬4) مع هذا وأضعافه، وكل ذلك الإلزام من أجل إيمانهم بمراد الله تعالى في تمدُّحه بعُلوِّه على خلقه، وظهور ذلك في جميع الكتب السماوية، وأوقات الرسل وأصحابهم وأتباعهم من غير إشعارٍ بالتحذير لعوامِّ المسلمين من اعتقاد ذلك الظاهر جمع دوام إسماعهم لهم ذلك في التلاوة والصلوات والمجامع والخُطب، حتى إن الخصوم الذين يحتجُّون بما لم يصح عن عليٍّ عليه السلام من ذلك، وافقوا أهل السنة على رواية ذلك عن علي عليه السلام. فروى صاحب " النهج " (¬5) بغير إسناد والسيد الإمام أبو طالب بإسناده في " أماليه " أن رجلاً سأله في مسجد الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين، هل تصف ¬
لنا ربَّنا فنزداد له حُبَّاً، وبه معرفةً، فغضب عليه السلام، ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، حتى غَصَّ المسجد بأهله، ثم صَعِدَ المنبر وهو مغضبٌ متغير اللون، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم سرد خُطبته -عليه السلام- إلى قوله: أيها السائل، اعقِل ما سألتني عنه، ولا تسألَنَّ (¬1) أحداً عنه بعدي، فإني أكفيك مُؤنة (¬2) الطلب، وشدة التَّعمُّق في المذهب، فكيف يوصف الذي سألتني عنه وهو الذي عَجَزَتِ الملائكة مع قربهم من كرسيِّ كرامته، وطول وَلَهِهِم إليه، وتعظيم جلال عزَّته، وقُربهم (¬3) من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما علَّمهم، وهم من (¬4) ملكوت القُدس بحيث هم ومن معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، فعليك أيُّها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته وتقدمك (¬5) فيه الرسل بينك وبين معرفته، فَأتَمَّ به، واستَضِىء بنور هدايته ... إلى قوله: وما كلَّفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من (¬6) أئمة الهدى أثرُه، فكِلْ علمه إلى الله، فإنه منتهى حق الله عليك. ورواه محمد بن منصور في كتاب " الجملة " عن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، وهذا صريحُ مذهب أهل السنة. فهذا نقلُ الثِّقات والخصوم عن المدَّعي على أهل السنة مخالفته، فكيف بنقل أهل السنة عنه (¬7) - عليه السلام، وعن سائر الصحابة والتابعين ما (¬8) يشهد بتصديقهم ¬
في نقلهم القرآن وسائر كتب الله تعالى، بل (¬1) أغنى عن نقلهم كونه مما تواتر أنه طريقة السلف وعجزت الخصوم عن دعوى موافقة السلف لهم في طريقتهم، إذ كانت (¬2) طريقة السلف في ذلك معلومةً للجميع بالضرورة، فخاف القوم مِنَ ابتداع التحذير من ذلك. والتصريح بالتأويل فيه الوقوع في البدعة التي صح عندهم النهي عنها، والتحذير منها، وأجمع على ذمها المخالف والمؤالِفُ، فآمنوا بمراد الله في ذلك، مع القطع بنفي ما نفاه الله من شَبَه المخلوقين، والقطع بأن استواءه وعلُوَّه لا يشبه علو المخلوقين واستواءهم في أوصافهما ولوازمهما، كما يقول الجميع في الفرق بين علمه وعلمهم، وقدرته وقدرتهم، وإنما أثبتوا عُلُواً واستواءً يُناسب (¬3) ذاته العزيزة التي يستحيلُ تصوُّرها، ويستحيل تصور جميع ما يتعلق بها. وهذه الفوقية عندهم غير مقتضيةٍ للتشبيه (¬4)، مثل ما أن وجوده سبحانه وسائر صفاته الثبوتيَّة صحيحة عند خصومهم، وإن لم تكن مقتضية لذلك لما دلَّتهم عليه أدلَّتُهم، فكذلك هؤلاء دلَّتهم أدلَّتُهُمْ على الإيمان بما ورد في القرآن مِنْ ذلك، ورأوا أن نصوص القرآن التي أجمع المسلمون على أنها كلام الله تعالى، وأنها لم تزل متلوَّةً مجلَّلةً معظَّمةً، منذ بُعِثَ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق الكلام بالقبول (¬5) والتَّبجيل والتقديم على غيرها، والتعظيم والاحترام لها والتكريم (¬6)، فلا يُستباح لها حِمى، ولا يُخاف من جهتها ضلالٌ ولا عمى. وقد أجمع المسلمون على أنه لا أعلم من الله تعالى بما ينبغي أن يقال فيه، ¬
ويسمى به، ولا أحد أحبُّ إليه المدح منه، ولا أفصح، ولا أبلغ من كلامه، ولا أهدى ولا أنصح (¬1) من رسله، فكلُّ ما أجمعت (¬2) عليه كتبه ورسله وأظهروه، ولم يُحذِّروا منه، كان أحقَّ الحقِّ، وكلُّ ما لم يذكر في كتابٍ من كتبه، ولا ذكره أحد من رسله، كان إيجابُه على الخلق أبعد من كلِّ بعيدٍ، والله على كلِّ شيءٍ شهيد. وبعد، فقد أجمعت (¬3) المعتزلة والشيعة والأشعرية على أنه لا يوجب التشبيه إلا الاشتراك في صفة الذات التي هي عند كثير من المعتزلة الصِّفة الأخصُّ أو فيما اقتضته هذه الصفة الأخصُّ، وعند كثير أنها وجوبُ الوجود والكمال حتى يجب لكلِّ واحدٍ من المثلين كلُّ ما يجب للآخر، ويجوز عليه كل ما يجوز (¬4)، ويستحيل عليه كل ما (¬5) يستحيل عليه. وقد جوَّد القول في ذلك الغزالي في مقدمات " المقصد الأسنى " (¬6). قال شيخُ الإسلام: ولم يقل بالتشبيه بهذا المعنى أحدٌ يتعقَّل (¬7) ما يقول، فإنه متى تعقَّل هذا، عرف فساده بالضرورة. وقال علامة الزيدية في الكلام وترجمانهم فيه، صاحب كتاب (¬8) " الغُرَرُ (¬9) الحُجُول في الكشف عن أسرار شرح الأصول " في الكلام على إثبات الصِّفةِ ¬
الأخص لله تعالى ما هذا لفظه: الدليل الأول: أنا قد شاركنا الله تعالى في استحقاقِ الصفات الأربع التي هي: القادرية، والعالِمَّية والحياتيَّة، والوجود (¬1)، ثم فارقناه، فوجبت له، وجازت لنا، فلا بد من أمرٍ وجبت (¬2) له، وجازت لنا، إلى آخر ما ذكره. وقد أجمعت المعتزلة على أن مثل هذه المشاركة في الأمهات الجوامع من الصفات والأسماء لا تقتضي التَّشبيه من أجل وجود الفارق على الصحيح، فكيف ألزموا أهل السنة التشبيه وهم يحرمون إطلاق مثل هذه العبارات في المشاركة، ولا يجترئون على مثل هذه العقائد التي لم تَرِدْ بها نصوص القرآن ولا السنة المعلومة؟ قال أهل السنة للمعتزلة: وحين اتفقنا على أن الاشتراك في كثير من الأسماء والصفات لا تُوجِبُ مسمى التمثيل، علمنا أنه لا مناقضة بين نفي (¬3) التمثيل وبين إثبات ما تمدَّح به الربُّ من صفاته التي خالفت المعتزلة في حقائقها، كتمدُّحه بأنه الرحمن الرحيم، واسعُ الرحمة، خير الراحمين، وبأنه العليُّ، العظيم، الأعلى، المتعالي، ذو المعارج، وهو سبحانه أعلم بحقائق المناقضة، ولو كان ذلك تناقضاً، ما تمدَّح به ومدح رسوله (¬4) وأصحابه، وشاع ذلك بينهم المُدَدَ المتطاولة من غير تأويل. فحاصلُ كلام أهل السنة راجعٌ إلى تفسير نفي التشبيه بإثبات هذه الأسماء وسائر ما وصف الله به ذاته على أكمل الوجوه، ونفي ما يلزمها في المخلوقين مِنَ النقص، ونفي لوازم النقص عن الله تعالى، ونفي كمالِها عن المخلوقين. ¬
ألا ترى أنه تعالى عالمٌ لا يعزُبُ عن علمه شيءٌ في الحال والماضي والاستقبال من المعدومات والموجودات، ولا يجوزُ عليه الشكُّ فيما علمه، ولا النسيان له (¬1) ولا الخطأ، ولا النظر والاستدلال (¬2). وقد يُسمَّى (¬3) بعض عباده عالماً، ولكن عالماً ناقصاً مشُوباً بتجويز جميع هذه (¬4) النقائص التي تنَّزه الربُّ عنها، وكذلك سائر الأسماء، قالوا: ومتى كان القول بأن الله عالمٌ مثل علم (¬5) خلقه كفراً (¬6) بالإجماع، مع أن كونه تعالى عالماً من المحكمات. وكيف (¬7) من قال: بأن عُلوَّه واستواءه على عرشه كعُلوِّ الأجسام واستوائها، مع أن هذا من المتشابهات؟ فمن ها هنا لم يكن له سبحانه كفواً أحد، وكان كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقوله تعالى: {وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد نفي التشبيه من أقوى أدلَّة أهل السنة على هذا، وكذلك قوله تعالى: {وللهِ المَثَلُ الأعلى وهُوَ العزيزُ الحكيمُ} [النحل: 6] وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] أي: الوصفُ الأعلى على ألسِنةِ أهل السماوات وأهل الأرض. وتقدم قول عليٍّ عليه السلام: فعليك أيها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته (¬8). وإنما تنَّزه الرَّبُّ سبحانه عما يصفون من الصاحبة (¬9) والولد، والأمر بالفواحش، وأمثال ذلك مِنَ النقائص، ولم ينَّزه قطُّ عن الوصف بالمحامدِ والممادح والأسماء الحسنى. وقالت الملاحدة من الباطنية والفلاسفة: لا يجوز عليه (¬10) شيءٌ مِن هذه ¬
الأسماء والصفات قالت الباطنية: وإنما هي مجازٌ لا حقيقة له، وكلُّ اسمٍ أو وصفٍ منها يوجب التَّشبيه، ويجب نفيه عن الله تعالى على جهة التعظيم والتنزيه، ونسبتها إلى الله تعالى كنسبة الجناح إلى الذُّلِّ في قوله تعالى: {واخفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ .. } [الإسراء: 24]. ولو قال قائل: ليس للذل جناحٌ، وقصد الحقيقة، كان صادقاً عندهم (¬1) فكذلك، من نفي الأسماء الحسنى عن الله تعالى، وقصد الحقيقة، كان صادقاً عندهم، فالنَّافي لرحمة الله عز وجل، الواصف له بأنه ليس برحمن، ولا رحيمٍ، ولا عليٍّ، ولا عظيم، كالنافي للجناح عن الذُّلِّ، والإرادة عن الجدار، صادقٌ عندهم، بل هو (¬2) أصدقُ عندهم ممَّن سمَّاه الرحمن على سبيل التجوُّز (¬3). وكما (¬4) أن إثبات المجاز لا ينفعُ الباطنية فيما نَفَوهُ من حقائق صفات العليم القدير وحقائق المَعاد فكذلك إثبات المجاز لا ينفعُ المعتزليَّ فيما نفاه من حقائق صفات الرحمن الرحيم، العلي العظيم، وما أبدَوْهُ من الفرق في ذلك غيرُ صحيحٍ عند خصومهم، ومعارضٌ عندهم كما تقدَّم في الوهم الخامس عشر في كلام شيخ الإسلام. فهاتان طائفتان متقابلتان أعني: الباطنية الذين نَفَوُا الأسماء كلها، وأهل الأثر الذين أثبتوها كلها. وأمَّا المعتزلة والأشعرية، ففرَّقوا بين الأسماء والصفات، فتارةً يوافقون أهل السنة، وتارة (¬5) يوافقون الباطنية، واعتمدوا في التفرقة على أدلةٍ عقليةٍ دقيقةٍ خفيَّةٍ، أدَّت إلى القطع عندهم بنفي أمرين جليَّين عند مخالفيهم من أهل السنة ¬
هما عند أهل السنة أقوى وأجلى، وأولى بالتَّسليم (¬1) من تلك الخفيات التي لا يُخاف الكفر بالمخالفة لشيء منها (¬2)، ولا ينتهض (¬3) في العقل لمعارضةٍ أقوى منها عندهم، واعتقدوا أن الاستضاءة في هذه المسالك المجهولة بأنوار النُّبوَّة والآيات القرآنية أحزمُ وأسلم، وإن كان غيرهم يرى الخوض في تلك الدقائق أنبه وأعلم، فإن معرفة الجلال الأعزِّ أعزُّ من (¬4) أن يهتدى إليه (¬5) إلاَّ بتعريفه: مَرَامٌ شَطَّ مَرْمَى العقل فيه ... فَدُونَ مَدَاه بِيدٌ لا تَبيدُ (¬6) فلنذكر أدلة الجميع بتوفيق الله تعالى وعونه. أمَّا تلك الأدلة التي تمسَّك بها المتكلمون، فهي ما قدمنا (¬7) في هذا الوهم من اعتقادهم لتسمية الموجودات في الخلاء العدميِّ المستقلاَّت بأنفسها كلِّها أجساماً، واعتقادهم لِتماثلها، وكذلك ما قدمنا في الوهم الخامس عشر من اعتقادهم لصحة دليل الأكوان، واستلزامه لحدوث جميع ما سمَّوه جسماً من كل موجود في الخلاء العدمي مستقلّ بنفسه. وقد قدمنا مخالفة بعضهم بعضاً (¬8) في ذلك، ورد بعضهم على بعض، وما في أدلتهم هناك من الدقة والنزاع والإشكالات لو لم يعارضها شيءٌ ألبتة ولا يخاف من القول بها إنكار (¬9) ما يخاف الكفر في إنكاره، ومرادنا بالخلاء العدميِّ ¬
هو ما وُجدت فيه الموجودات في أول إيجادها وإيجاد إمكانها (¬1)، فإن الأماكن عند المتكلمين عبارةٌ عن أجسام الأرض والسماوات التي تستقُّر فيها الموجودات، ولا شكَّ أن أول موجودٍ منها قبل خلق (¬2) الأمكنة كان في جهةٍ عدميَّةٍ، وكذلك الأمكنة كانت فيها، وإلاَّ احتاج كلُّ مكانٍ إلى مكان (¬3)، إلى ما لا نهاية له. وأما الأمران الجليِّان الَّلذان ادَّعى أهل السنة معارضَتَهُما (¬4) لذلك، ووضوحَهما، وخوف الكفر في إنكارهما. فأحدهما: ما فُطِرَت عليه العقول السليمة عن التَّلوُّن بالاعتقادات التقليدية من استحالة تعطيل الموجود من جميع الجهات السِّتِّ التي لا غاية لكل واحدة منها (¬5) كما قرَّره ابن تيمية وغيره من متكلِّميهم استدلالاً وسؤالاًَ وانفصالاً، مثلما أن المعتزلة تعتقد استحالة الرؤية، كذلك قالوا ولا شكَّ أنَّ هذا هو الفطرة، ولكن الأدلة المعروفة في علم المنطق والكلام، المعروفة بالأدلة الخلقية ألجأت المتكلمين إليه، ومعنى هذه الأدلة الخلقية (¬6) أن النقيضين إذا بطل أحدهما ثبت الآخر، فلما بطل عندهم هذا الأمر الجليُّ بتلك الأمور التي قدمناها ونحوها، واعتقدوها قاطعةً، اضطرهم ذلك إلي إثبات نقيضه، وظنوا أن تلك الفطرة العقلية المعارضة لأدلتهم طبيعية (¬7) وهميَّةٌ نافرةٌ عن ذلك. قالوا: ولو أنعموا (¬8) النظر فيما ألجأهم إليه، لما عوَّلوا عليه، فإن الذي نَفَوْهُ ¬
أقوى وأجلى في الفِطَرِ العقلية من أدلتهم على نفيه بكثيرٍ، ونفيُ الأجلى بالأخفى باطلٌ، ولا يعرف هذا إلاَّ من اطَّلع على تلك الأدلة التي ظنُّوها قاطعة، التي قدمنا الكلام فيها آنفاً. فإن قيل: إذا كان أهل السنة ينفون الكيفيَّة عن الاستواء والعلوِّ ونحو ذلك، فقد شاركوا المتكلمين في مخالفه الفطر (¬1) العقلية، وعدم القبول لظواهر النصوص السمعية، ولم يبق بينهم خلافٌ إلاَّ في العبارات اللفظية، ففي أي شيءٍ افترقوا على التَّحقيق؟ وما بالهم يوهمون الاختصاص لكمال (¬2) التصديق؟ فجوابهم عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنهم -أو كثيرٌ منهم- لم ينفوا حقيقة العلوِّ المفهومة من حيث هي (¬3) مجرَّدة عن لوازمها التي لا تجوز على الله عز وجل، وإنما نَفَوْا تلك اللوازم ذاهبين إلى أن المستلزم لها أمورٌ تَخْتَصُّ بالأجسامِ التي يجب القَطْعُ بنفي تشبيه الله عز وجلَّ بها (¬4)، لا أن (¬5) العلوَّ من حيث هو علوٌ هو الذي التزمها كما تقدَّم ذلك قريباً في ردِّهم لأدلَّة المعتزلة، فاعِرفْ ذلك، وأنهم إذا أطلقوا العُلُوَّ عَنَوْا به ما فوق العالم جميعاً (¬6)، وذلك خارجٌ عن الجهات المخلوقة، فلا يتصَّور منه لزومُ الحاجة إليها عندهم. وثانيهما: أنهم لم ينفوا علم الله سبحانه بحقائق أسمائه، وما نطق به التنزيل من نعوت الرَّبِّ الجليل، ولم يُثبتوا الحيرة (¬7) في ذلك على الإطلاق، ¬
بل نَفَوْا عن أنفسهم، لا عن ربِّهم جلَّ وعزَّ وتبارك وتعالى معرفة حقيقة الذات المقدسة، وما يتعلق بها على التفصيل، وأثبتوا المحارة (¬1) في ذلك بالنسبة إلى أنفسهم لقصور البشر عن إدراك ذلك (¬2) الجلال الأعزِّ، وبُعدِ مَنْ صوَّره الله تعالى من التراب عن بلوغ الغاية القصوى في معرفة ربِّ الأرباب تصديقاً لقوله تعالى: {ولا يُحيطُونَ به علمَاً} [طه: 110]، لا بالنسبة إلى علم الله تعالى المحيط الذي لا يجوزُ أن يدخُلَه نقصٌ، ولا وقفٌ، ولا حَيرة، ولا شُبهةٌ، ولذلك ذهبوا إلى أنه تعالى (¬3) يعرف ذاته معرفة المفردات، وهي على الحقيقة المعرفة التامة. وأما العباد، فإنما يعلمون نسبة الأسماء والنعوت إليها كنسبة الوجود وصفات الكمال، ولا يعرفون الذات التي نُسبَت (¬4) إليها هذه الأمور، وذلك الذي يختص به العباد يُسمى علماً لا معرفة عند أهل اللغة وأهل المعقولات، لأن العلم يتعدَّى إلى مفعولين، كما تقول: علمت الله موجوداً عليماً قديراً، وأمَّا المعرفة، فلها مفعولٌ واحدٌ مفردٌ. ومذهبُ أهل الأثر في هذا هو المعروف عن عليٍّ كرَّم الله وجهه (¬5)، وبه فسَّر ابن أبي الحديد -مع اعتزاله (¬6) - قوله عليه السلام في وصف عزة (¬7) الربِّ جل جلاله عن إدراك العقول لحقيقة ذاته، قال عليه السلام: " امتنع منها بها، وإليها حَاكَمَها ". أراد عليه السلام أن العقول عرفت قصورها عن دركِ حقيقة الذات المقدسة، وكان الامتناع من ذلك بالعقول، وإلى العقول حاكم العقول، شبَّه العقل (¬8) بالخصم المدعي لما لا ¬
يصح، ولا يخفى بطلانه على أحد. وفي مثل ذلك يحكم العاقل خصمه فيما ادَّعاه (¬1)، حتى إنه إذا ادعى الباطل لم يزد على أنه أودى (¬2) بنفسه وحقَّق للسامعين تعمُّده للباطل، وإن أقرَّ بالحق، حصل المقصود (¬3). ومن (¬4) ها هنا وقعت البهاشمة من المعتزلة في البدعة الكبرى، حيث قالوا: إن الله تعالى لا يعلم من نفسه (¬5) إلاَّ ما يعلمون، فتعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، بل هو أعز وأجل من أن يحيطوا به علماً، وهم أحقر وأقل من ذلك كما نص عليه كتاب الله تعالى حيث قال متمدحاً: {ولا يُحيطُونَ به عِلْمَاً} [طه: 110]، وقد بالغ ابن أبي الحديد في نُصرة قول أمير المؤمنين عليه السلام، وذكر أنه قولٌ لم يزل فضلاء العقلاء مائلين إليه معوِّلين عليه، وأنشد في ذلك من الأشعار المستجادة ما يطول ذكره ويطيبُ ويشتمل على كل معنى عجيب، وقد ذكرت ذلك في " ترجيح أساليب القرآن " (¬6) وجوَّدته. فخذه من هناك. فأهل السنة لزموا الأدب عملاً بقوله تعالى: {ولا يُحيطُونَ به عِلْمَاً} (¬7) [طه: 110]، وبقوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك بهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فأثبتوا الذات على وجهٍ يعقلُ جملةً لا تفصيلاً، وآمنوا بما علمهم الله من تفصيل تلك المعارف في تلك الجملة، وهذا من محارات العقول بإقرار العقول (¬8) وشهادة (¬9) المنقول، أعني تفصيل الكلام في ذات الله تعالى. ¬
وأما نفيُ ما جهلنا من ذلك عن علم الله، فمن المحالات في العقول، وفرقُ بين المحارات والمحالات، فالسمع يردُ بالمحارات، والعقل يقبل الإيمان بها جملةً، ويَكِلُّ عنها ويكِلُ تفصيلها إلى الله تعالى، والمحالات، لا يَرِدُ بها السمع، ولا يجوزها العقل. ولعلَّ المعتزلة إنما نفوا أن يعلم الله من ذاته غير ما يعلمون طرداً لقاعدتهم الضعيفة المقدَّمة (¬1)، وهي أن ما لم يعلموا عليه دليلاً وجب نفيه، وكثيراً ما ترجع أدلَّتهُمْ لمن تأمَّلها إلى هذه القاعدة وقد مرَّ إبطالها بما لا زيادة عليه والحمد لله. وقد نُقِلَ عن قدماء العترة عليهم السلام ما يُشبه قول علي عليه السلام وقول أهل السنة، فذكر أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، عن محمد بن منصور، أن أحمد بن عيسى عليه السلام كان ينفي التشبيه والحدود والنهاية، ويقول: هو عز وجل موجود في كل مكان بلا كيفية. ونقل محمد بن منصور عن أحمد بن عيسى في كتاب أحمد أنه روى ذلك (¬2) عن أبيه، وقال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام: أجمع علماء (¬3) آل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفي التشبيه عن الله، وأنه ليس كمثله شيءٌ .. إلى قوله: عن (¬4) أن يدركه الواصفون إلاَّ بما وصف به نفسه بلا تحديدٍ ولا تشبيهٍ ولا تناهي. وقال محمد: قد وصف الله تعالى نفسه بصفات مدائح لن تزول عن الله في حال، يدان فيها بإثبات ما أوجب الله تعالى، ونفي ما أزال، فقال عزّ وجلّ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، فعدَّ الرحمن الرحيم من مدائح الرَّبِّ التي لا تزول عنه، ويجب إثباتها له بلا كيفيةٍ ولا تشبيهٍ. ¬
وبهذا يظهر لك أن أهل السنة لم يختصُّوا (¬1) بالبَلْكَفَة التي شنَّع بها عليهم بعضُ المعتزلة، بل هي قول جميع المسلمين في ذات الله تعالى، وإنما خالفوا أهل السنة في صفاته تعالى كما مر تحقيقه في الوهم الخامس عشر، وهذا تمام الكلام في الأمر الأول من الأمرين الحليين الَّلذَيْن ادعى أهل السنة معارضَتَهُما لأدلة المتكلمين، وقضوا بأنهما أجلى منهما، وخافوا الكفر في مخالفتها. وأما الأمر الثاني الذي يعضُدُ هذه الفطرة، فهو تطابقُ جميع هذه الكتب السماوية على ذلك، وكذلك الفِطَرُ (¬2) السليمة من شَوبِها بالتقليدات الكلامية. وبيان ذلك يظهر بوجوه: الوجه الأول: خلوُّ الكتب السماوية والآثار النبوية من وصف الرب سبحانه بالتعطيل من جميع الجهات مع ورودها بكثير (¬3) من المتشابهات، فأما هذا الوصفُ، فتعطَّلت كلها منه لنكارته حتى اتفق أنه ما كَذَبَ أحدٌ من الكذابين في الحديث شيئاً يوافق هذا فيما علمناه إلى الآن، وتواتر في القرآن والسنة وصف الرب سبحانه بما يقتضي بُطلان هذا كما تراه الآن، وكما يعرف بأدنى تأمُّلٍ، ولم يرد القرآن بأنه كُلَّه متشابهٌ، وإنما ورد بأن منه آيات محكماتٍ هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات. فأرُونا الآيات المحكمات الواردات بهذا التعطيل من الجهات حتى نرُدَّ إليها سائر آيات كتاب الله وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعقول السليمة تُحيلُ خُلُوَّ الكتب السماوية والأحاديث النبوية من النطق بالصواب الذي يُرَدُّ (¬4) إليه كثيرٌ من متشابه (¬5) الكتاب، وإلى استحالة ذلك أشار قوله بعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]، ويا ¬
لها من آيةٍ قاطعةٍ للمبطلين لمن تأمَّلها في كلِّ موضعٍ مع ظاهر قوله: {ما فَرَّطْنَا في الكتابِ من شَيءٍ} [الأنعام: 38]، فإن الله سبحانه لم يُخْلِ كتبه الكريمة من بيان مهمَّات الدِّين. وقول المتكلمين: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ على كتاب الله تعالى، فإنه لا يشكُّ منصفٌ (¬1) أنها جاءت -أو كثيرٌ منها- على جهة التمدُّح منه عزَّ وجلَّ بالرحمن الرحيم، العلي العظيم، فجعلوا ما تمدَّح به يقتضي بظاهره غاية الذم والسَّبِّ باستلزام ظاهِرِه تشبيه (¬2) العبيد المساكين المخلوقين، وليس يرضى بمثل هذا عاقلٌ أن يَقصِدَ التمدح بما ظاهره النقص لنفسه، والقدح في عرضه، كيف الملك الحميد الذي صحَّ عن أعلم الخلق به أنه لا أحد أحبُّ إليه المدح منه، من أجل ذلك مدح نفسه (¬3)؟ فكيف يكون أظهر المعاني من كلامه الذي المقصود منه التمدح يقتضي نقيض المقصود، مع أنه أبلغ الكلام والبلاغة تقتضي بلوغ المتكلم لبيان مراده على أبلغ الوجوه؟ فكيف يستكثر من لا أحد أحبُّ إليه المدح منه مما ظاهرُه الذمُّ، ويكون ذلك في السبع المثاني المتكرِّرة في الصَّلوات، وفي أول كل سورةٍ من المصاحف المكرمات؟ وقولهم: إن المقصود بذلك تعريضُ المكلَّفين إلى دَرْكِ الثواب العظيم بالنظر في تأويله مردودٌ بوجوه: ¬
الأول: أن ذلك لو كان هو المقصود، لوجد الصواب ولو مرَّةً واحدة حتى يرد المتشابه إليه كما وعد به التنزيل، فأين آيةٌ واحدةٌ نفت الرحمة على الإطلاق عَنِ الله تعالى، أو نفت أسماءه: العليَّ، الأعلى، المتعالي، وما شاكلها؟ وثانيها (¬1) لو (¬2) كان تأويلها هو المقصود، وكانت مناقضةً لنفي التشبيه، لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه وتابعوهم أسبق الناس إلى تأويلها كما سبقوا إلى كل خير، وسيأتي بطلان ما كُذِبَ من ذلك على (¬3) أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام كما أوضحتُه في " ترجيح أساليب القرآن "، ولو لم يُعارض ما رُوِيَ عنه من مذاهب الباطنية في نفي الصفات إلاَّ بما رواه السيد أبو طالب في " أماليه " بسنده من قوله عليه السلام: فعليك أيُّها السائل بما دلَّك (¬4) عليه القرآن من صفته، وتقدَّمك فيه الرُّسل بينك وبين معرفته، فأتَمَّ به، واستضىء بنور هدايته وبكلامه في صفة الرَّاسخين ووصفه لهم بالعجز عن التأويل، كما أسنده عنه السيد أبو طالب، وقرَّره وأرسله صاحب " النهج " (¬5)، وهو نصُّ قول أهل السنة. والعجبُ ممَّن يتسع عقله من العلماء لتصديق أنه -عليه السلام- كان يخطُبُ لمذاهب القرامطة في صدر الإسلام والصحابة متوافرون سكوتٌ لذلك، ولا يهتدي بعقله إلي أنه أتبعُ خلق الله للنبيِّ عليه السلام، وأشبههُم به علماً وبياناً، ووعظاً وخطابةً، وأشدُّ الناس اقتداءً، وأبعدهم عن الابتداع، حتى لقد قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا، أما إني أقول نهاني، ولا أقول نهاكم (¬6)، فما أبعده عما فَرِحَتْ به القرامطة مما رُوِيَ عنه من شُبَهِ مذاهبهم صانه الله عنها. ¬
وثالثها: أن هذا المدعى الذي ذكروه لا يصح تقديره فيما موارده (¬1) إظهار المحامد وبيان الممادح. ورابعها: أنه لو كان -كما ذكروه- لورود (¬2) السمع بما ظاهره القبح الضروري المتفق عليه ليُثاب (¬3) المكلَّفون بتأويله، كنسبة الظلم والولد والشركاء وسائر النقائص -تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- فإنه يمكن تكلُّف التجوزات البعيدة في ذلك كما زعمه الزمخشري في تأويل قوله تعالى: {أمَرْنَا مُترَفِيهَا فَفَسَُوا فيها} [الإسراء: 16] فإنه زعم أن المراد: أمرناهم بالفسق مجازاً (¬4). وسوف يأتي في الوهم الثامن والعشرين تمام البحث فيما يتعلق بهذا المعنى من الأسئلة (¬5) إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: في الإشارة إلى طرفٍ من هذه الآيات التي تعارض دعوى تعطيله عزَّ وجلَّ من كل الجهات، وذلك في القرآن والسنة متنوعٌ أنواعاً كثيرة، فمن أنواعه: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقولُه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وما جاء في ذكر الحجب من السنة من رواية زيد بن علي -عليهما السلام- ومن رواية أهل الحديث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهي حُجُبٌ حاجبةٌ للعباد، محيطةٌ بهم، لا بالله -عزَّ وجلَّ- فافْهم هذه الفائدة، فإنها مهمَّة. ¬
ومن أنواعه: قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] بالرَّفع، ولو كان منقطعاً لنُصب. وقوله (¬1) تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21، 22]، وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17]، و" في " هنا بمعنى " فوق " كقوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. ولا يُحيط بالله شيءٌ بالإجماع، وهي في الفوقية حقيقةٌ لا مجازٌ، وآيات الاستواء تُوَضِّحُ ذلك. ومن أنواعه: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. ومن أنواعه: قوله تعالى: {ثُمَّ استَوَى إلى السماء} [البقرة: 29]، وقوله تعالى في غير آية: {ثُمَّ استَوَى على العَرْشِ}. ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، وقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، وقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34 والشورى: 22]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34]، وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]، وقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات: 34]، وقوله: {وعندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} [الرعد: 39]، وقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، وقوله: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4]، وقوله: {ولَدَيْنَا كِتَابٌ ¬
يَنطِقُ بالحَقِّ} [المؤمنون: 62]. وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، وفي آية: {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31]، وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 73] وقوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28]. ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30]. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18]. ومن أنواعه: آيات لقاء الله تعالى، وهي أشهر وأكثر من أن تُذكر. ومن أنواعه الكثيرة ما في القرآن من ذكر علوِّه على خلقه، تارةً بالتَّمدُّحِ بأسمائه: العلي، والأعلى، والمتعالي، وذي المعارج، وتارة بالخبر عن ذلك في آياتٍ عديدة، كقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157، 158] وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]. وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقوله: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]. ومن أنواعها: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام فيها في الوهم الخامس عشر (¬1) وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وقد صح تفسيرها بالحقيقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن مسعود (¬2)، ¬
والبخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر (¬1)، والبخاري عن أبي هريرة (¬2)، والترمذي عن ابن عباس (¬3) كما هو مبسوط بأسانيده وألفاظه في كتب الإسلام، ولم يُنكِر ذلك عليهم أحدٌ مِمَّن عاصرهم من الصحابة، ولا مِمَّن سمع منهم من التابعين، وما زال السلف يروون مثل ذلك، ويُروى عنهم من غير نكيرٍ (¬4). حتى إن السيد المنكر لرواية هذا الجنس (¬5) على المحدثين روى هذه الأخبار المشار إليها في تفسير هذه الآية (¬6) في تفسيره الذي سماه " تجريد الكشاف مع زيادة نكت لطاف "، ولم يذكر بعد روايتها (¬7) ما يدلُّ على قبح الاغترار بها، ووجوب التحذير منها، وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى وتفاسير علماء الإسلام. ومن أنواعها: جميع الآيات (¬8) المتضمنة لكلامه، وتكليمه، ومناداته، ولذلك أنكرت المعتزلة ذلك على الحقيقة كما مضى مبسوطاً في الوهم الخامس عشر، وقالوا: ليس في مقدوره أن يصدر عنه الكلام ألبتة، وإنما في (¬9) مقدوره أن يخلق كلاماً في شجر أو حجر (¬10) أو نحو ذلك. وقد مرَّ ما ورد في ذلك في الوهم الخامس عشر. ¬
ومن ذلك سؤال موسى -عليه السلام- للرؤية، حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، فإنه من أعلم الخلق بما يجوز على الله تعالى وما يستحيل، والخصم ينزل ذلك منزلة تجويز الأكل والشرب والنوم والعجز والفناء على الله تعالى، وموسى الكليم أعلم من أن يجهل ما يستحيل على ربِّه عز وجل، ويعرِفَه شيوخ المعتزلة بأنظارهم، ولم يقع الجواب عليه بأن ذلك لا يصحُّ ولا يمكن، بل أجيب بنفي ما طلبه من الرُّؤية في الدنيا، وكان جوابه على سبب سؤاله، وسؤاله كان مقصوراً على رؤية الدنيا، كما سيأتي تحقيقه. و" سوف " لا تدل على أن المنفيِّ متأخِّرٌ إلى الآخرة، وقد قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {سوفَ أستغفِرُ لكُم ربِّي} [يوسف: 98]، وإنما (¬1) أخَّره إلى ليلة الجمعة (¬2). ¬
وبكلِّ حالٍ، فالآية واضحةٌ في صحَّة الرؤية، ألا تراه تجلَّى كيف شاء للجبل، فجعله دكّاً، وعلَّق الرُّؤية باستقراره وهو ممكن بقدرة (¬1) الله إجماعاً، وما عُلِّق بالممكن فهو ممكن. ألا تراه لا يصحُّ أن يقال: إن استقرَّ مكانه، فسوف آكلُ وأشربُ وأعجِز وأجهَل، تعالى الله عن ذلك. ويوضح ما ذكرته (¬2) من كونها في (¬3) رؤية الدنيا أن قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، لم يكن جواباً لقوله: أرني في الآخرة، ولا لقوله (¬4): هل أراك فيها، بدليل أنه يحسُنُ منه بعد ذلك أن يقول فهل أراك في الآخرة حين لم تُجبني إلى رؤيئك في الدنيا، فلا تعارض أنه (¬5) رؤية الآخرة معارضة النصوص. ألا ترى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، لما نزل على سبب قول المشركين: إنهم قد كفروا وكذبوا، وزنوا، فأكثروا (¬6) كانت خاصة بالمغفرة في الدنيا لمن تاب من الكافرين (¬7)، ولمن شاء الله من غيرهم (¬8). وحسنٌ أن يُقال في من مات (¬9) ¬
كافراً: إنه لا يُغفر له بإجماع أهل العلم واللغة، أما أهل العلم، فظاهرٌ، وأمَّا أهل اللغة، فلأنهم لم يعدُّوه متناقضاً، لا مسلمهم ولا كافِرُهم، ولذلك قال ابن عبد البَرِّ: إنها في الدنيا، وقوله (¬1): {ويَغفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] في الآخرة جمعاً بينهما. ومن ذلك قول إبراهيم في النجم، ثم القمر، ثم الشمس {هَذَا رَبِّي} وسيأتي تمام الكلام فيها (¬2) عند الكلام على ما أورده الخصم مما يتعذَّر تأويله من الحديث. وقد اعترف الرازي في كتاب " الأربعين " بأن الكتب السماوية كلها جاءت بذلك في حق الله تعالى، كما جاءت بتحقيق المعاد، ونسب إلى الفلاسفة (¬3) والباطنية المخالفة فيهما معاً، ونسب إلى المتكلمين تقرير ما جاءت به الشرائع في المعاد، وتأويل ما جاءت به في المبدأ، يعني به الرب سبحانه. الوجه الثالث: أن كلَّ من جادل من الأنبياء عليهم السلام عُبَّاد الأصنام وغيرهم، لم يحتجَّ بوجوب (¬4) تعطيل المعبود عن الجهات كلها، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنصارى ألم يكن عيسى يأكُلُ ويشرب؟ قالوا: بلى. قال: فأين الشَّبه (¬5)؟ وقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89]، فاحتجَّ على بطلان ربوبيَّة العجل بأنه لا يتكلم، وهذا نقيضُ توحيد المعتزلة، فإنهم قطعوا بأن صدور الكلام عن الرب كفرٌ وتشبيهٌ، وكذلك الصحابة فيما بينهم، فإنهم اختلفوا: هل رأي محمدٌ ربَّه؟ وكان حَبْرُ الأمة وبحرُها بالاتفاق عبد الله بن عباس مِمَّن اشتهر عنه القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - رأي ربَّه، ونقل ذلك عنه المفسِّرون والمحدِّثون ¬
والحاكم على تشيُّعه وسائر أهل السنة (¬1)، ونفوا عن عائشة إنكار ذلك كما هو ثابتٌ عنها في " البخاري " و" مسلم " فلم ينقل أحد أنَّهم احتجوا على ابن عباس في التعطيل، ولا ألزموه في قوله الكفر والتشبيه وقد ناظر في ذلك هو وأصحابه، واحتجُّوا بظاهر الآيات في سورة النجم، ولم يكفِّرهم أحدٌ، ولا قال: إنَّ ظاهر تلك الآيات كفرٌ وتشبيه، وإنَّما احتجُّوا عليهم بالسمع. وفي الحديث السابع والثلاثين بعد المئة من مسند عائشة في " جامع " ابن الجوزي (¬2) أن عائشة احتجت على مسروقٍ في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأي ربَّه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]. فدل على أنها لم تذهب إلى أن الرُّؤية مستحيلةٌ غير مقدورةٍ لله تعالى، لاحتجاجها بهذه الآية، فإنه يدلُّ على أنها محكمة عندها، بل قد روت عائشة الرُّؤية في الآخرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي. وإن (¬3) الحاكم أخرجه (¬4) عنها في " المستدرك ". وهذا يدلُّ على أنها لم تعتقد الإحالة، وإنما أنكرت الرُّؤية في الدنيا لورود السمع بنفيها. وأوضحُ من ذلك أن الله تعالى ما احتج بالتعطيل قطُّ على عُبَّاد الأصنام، بل احتج بأنهم عبدوا ما لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يُبصر، ولا يسمع، ونحو ذلك. قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76] وقال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71]. قال الزمخشري في تفسيرها (¬5): وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن أمره يعني عيسى عليه ¬
السلام مُنافٍ للرُّبوبيَّة، لأن صفة الرَّبِ أن يكون قادراً (¬1) على كل شيءٍ لا يخرج مقدورٌ عن قدرته. انتهى. وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، ولما قال الكافرُ لإبراهيم الخليل: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] وبما حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّته من الدَّجال، جعل الفارق الجليَّ أنه أعورُ (¬2)، وقال إبراهيم الخليل للمشركين: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96]. وكم جرى بين الأنبياء الكرام عليهم السلام وبين عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد ذوي الأجسام من جدالٍ وخصامٍ، فما نُقِلَ في الكتب السماوية، ولا على ألسنة رواة الأخبار النبوية والإسرائيلية أن نبيَّاً قط احتجّ على أحدٍ من أولئك بوجوب تعطيل المعبود عن الجهات. ولا يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا الأصل معروفاً معلوماً عند كل نبيٍّ، وبه يتميز الحق من الباطل، والموحِّدُ من المعطِّل، والمتشابهات من المحكمات، ولجهله يقع الخلائق في الجهالات والهلكات. ثم تنقضي أعمارُ الدنيا، وتفنى القرون والأمم وذلك غيرُ مذكورٍ ولا مشهورٍ، ولا سيَّما والأمر المناقضُ له مما شحنت به (¬3) الكتب السماوية، بل صحَّ واشتهر تفسيره بظاهره كما مر في قوله: {والسمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬4) وأمثالها. وتلقَّاه ¬
الخلف عن السلف (¬1) من غير نكيرٍ (¬2). والعادة العقلية تقضي (¬3) بوجوب رفع هذه الظواهر، لا سيَّما مع مطابقتها لما ذُكر في الفِطَرِ، وأن لا يهمل الخلق، فكيف يأتي رجلٌ من قرية جُبّة (¬4) من سواد الكوفة، فيستنبط ذلك برأيه، ويقبلَ منه، ويردَّ به جميع ما اشتملت عليه الكتب السماوية وتكرَّر فيها وتلاوة (¬5) السلف والخلف على جهة الحمد والمدح والثَّناء لربِّ العزَّة، سبحانه وتعالى. قالوا: ولم تكتف المعتزلة والأشعريَّةُ حتَّى جعلوا هذه الممادح الحميدة تقتضي بظاهرها سبَّ الربِّ الحميد المجيدِ وذمَّه، وجعلوا الإيمان الواجب بها كفراً ومُروقاً، والاستقامة على ذلك بَلَهاً وجُموداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الوجه الرابع: أن الكل من المختلفين نقلوا عن الصحابة أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤية ربه يوم القيامة، وإنما اختلف الناس في تأويل جوابه لهم أو تقريره (¬6)، وهم بإجماع الفريقين - أصحُّ أذهاناً وأتمُّ إيماناً، وسؤالهم عن ذلك يدلُّ علي عدم اعتقادهم لتعطيل معبودهم عن الجهات كما زعمت المعتزلة والأشعرية، وكذلك كُلُّ ذي فطرةٍ سليمةٍ لم تمرَض بداء الكلام من جميع العقلاء من أهل الإسلام وغيرهم، والتجربة وامتحان العقلاء يصدق ذلك. فإن قيل: إن الصحابة كانوا أقربَ إلى البَلَهِ وعدم التحقيق في العقليَّات ¬
لعدم الممارسة في ذلك. فالجواب من وجوه: أحدها: أن ممارسة الكلام يُمَرِّضُ العقول، وتلجىء كثيراً منهم إلى مخالفة الفطرة الأوّلة، كالموسوسين في الطهارة، ولذلك لا يكون في أهل الفِطَرِ والجمل من يلزمُه جحدُ الضرورة، وفي كل طائفةٍ من المتكلمين من يلزمه ذلك، فإن ترك (¬1) الممارسة أصحُّ للعقل. وثانيها: أن الفلاسفة أئمة المدقِّقين، وقد تطابقوا على مطابقة السمع هنا من بعض الوجوه، وعضدوا السمع والفطرة، وقاوموا من خالفهما بمجرَّد التدقيق، قالوا: ولا شك أن رأي (¬2) الجزم (¬3)، وسبيل (¬4) النجاة هو مذهب أهل السنة في مثل هذه المشكلات، لأنه أبعد من الكفر، وأقرب إلى الإيمان على قواعد الجميع. ألا ترى أن الجميع متفقون على أن الكفر هو مخالفة السمع الجليِّ (¬5)، لا مخالفة المعقول الجليِّ، فإن من خالف ضرورة العقل التي لم يَرِدْ بها الشرعُ، فزعم أن بعض الأشربة الحُلوة مرَّة، وبعض الأدوية النافعة ضارة، لم يكفر بإجماع المسلمين؟ فكيف بمن (¬6) خالف أدلَة المتكلمين التي في علمه الجواهر والأعراض مع دقَّتها، وطعن كثيرٌ منهم فيها، وتوقَّف بعضهم بَعْدَ طول النظر فيها (¬7)؟. ¬
وثالثها: أن المخالفين للصَّحابة والسلف من أهل الكلام (¬1) اختلفوا في جميع القواعد التي بَنَوْا مخالفة السلف عليها، ونقض بعضهم على بعضٍ أشد النقض، حتَّى كَفَوْا (¬2) أهل السنة مؤنة (¬3) الرَّدِّ عليهم، حتى قال الشيخ أبو الحسين: إنه اكتفي في بطلان مذاهب البهاشمة بمجرد بيان مقاصدهم. وادَّعى أن وضوحها يكفي في معرفة بطلانها، وقد تقدم شيءٌ من ذلك، ومن أحبَّ معرفته فليقف عليه في كتاب " المجتبى " للشيخ مختار أحد أئمة الاعتزال من أصحاب أبي الحسين. فما سَلِمُوا من الوقوع (¬4) في المحارات (¬5) والمُحالات، والمعارضات والمناقضات مع البدعة، وأين من يعرف هذا؟ لم يبق من أهل الكلام إلاَّ من يقلِّدُ ويدَّعي، ولا ينظر إلاَّ في تواليف شُيوخه، وهذا هو الذي عابوا (¬6) على أهل الجُمود، بل هو أقبحُ على زعمهم. فالله المستعان والمرجوُّ لمسامحة الجميع في الخطأ، فإن العصمة مرتفعةٌ، والسلامة من الخطأ على الدوام في كل الأمور عزيزةٌ والقصد المعاونة، لا المشاحنة، والمناصحة لا المجارحة. قال أهل السنة: وأما ردُّ الآيات والأخبار، فإنه (¬7) موضع الخطر (¬8)، فالمتكلِّم المعتزليُّ يتجاسر على أن يقول: إنه يكفر بربٍّ له يدٌ أو لهُ وجهٌ، أو استوى (¬9) على العرش. كما قد سُمِعَ ذلك من بعض المجادلين ويسهل (¬10) عليه ¬
أن يقول (¬1): ليس لله يدٌ ولا وجهٌ، وهو يعلم بالضرورة إثبات القرآن لما نفاه، ويلزمه أن يقول: ليس الله رحمان على الحقيقة، كما ليس للذُّلِّ جناحٌ على الحقيقة، وهم يلتزمونه. فاعرض هذا على قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]. قالوا: وأما ما يُشَنِّعون به من التشبيه والتمثيل، فقد أوضحنا أن خير ما يرجع إليه في ذلك كلام الله ورسوله، فما (¬2) تمدَّح الله تعالى به ومدحه به رسوله وأصحابه (¬3)، وتابِعُوهم، ولم يتأوَّلوه، ولم يُحَذِّرُوا منه، فليس بتشبيهٍ، ولو (¬4) لم يرجع إلى هذا، لزم (¬5) مذهب القرامطة، ولذلك عقّب الله تعالى نفي (¬6) التشبيه بقوله: {وهُوَ السَّميعُ البَصيرُ} [الشورى: 11]. وتمدَّح بأن له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو الوصفُ الأعلى بأسمائه الحسنى، فكان المعنى ليس كمثله شيءٌ في كمال أسمائه ونفي النَّقص عنها، لا في تأويل حقائقها بالنفي المحض (¬7) والمجاز الخياليِّ الذي استعمله الشُّعراء في تشبيه الخدود والقُدود، ونحو هذا (¬8)، فلا ينزل (¬9) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ هذا الجَمَلَ شكا إليَّ (¬10) أنك تُجيعُه وتُدْئبُه " (¬11) منزلة (¬12) قول الشاعر: ¬
شكا إليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرى ... يا جملي ليس إلي المُشتكى (¬1) ¬
الفصل الثاني: في أدلة أهل الحديث على وقوع الرؤية في الآخرة
وقد حسبت القرامطة أن الإيمان المجازيَّ ينفعها، فآمنت بالمعاد والأسماء الحُسنى مجازاً، فكفرت بالإجماع، فإيَّاك أن تقنع بالإيمان بالرحمن الرحيم العليِّ العظيم مجازاً (¬1) مخافة أن تكون كمن آمن بالقدير العليم مجازاً. وبهذا تمَّ الكلام في الفصل الأول (¬2). الفصل الثاني في أدلَّة أهل الحديث، ومن قالوا بقوله، وقال بقولهم على وقوع الرُّؤية في الآخرة. وقد يتخلَّل فيه اليسيرُ ممَّا يليق بالفصل الأول مما قد مضى. وقد تقدم (¬3) جوابُ المانعين لذلك في الفصل الأول وجميع ما يتعلق به، ولم يبق لهم فيما أعلم هنا إلاَّ معارضة أدلة المخالفين بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وسوف يأتي الكلام عليها بما تراه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر السيد المرتضى في كتابه " الغرر " مثل كلام ابن تيمية الآتي فيها، وكذا قوله لموسى عليه السلام: {لن تراني}، وقد احتجَّ الفريقان (¬4) بها كما يأتي. والمُنْصِفُ لا ينظر إلى من قال، ولكن ينظرُ إلى ما قال وإلاَّ وقع في تقليد الرِّجال، وكان من دين الله على أعظم زوال. على أنَّ الناظر في هذا ينبغي له أن يُحقِّق النظر في كتب أئمة الاعتزال، ويتحقق ما لهم من المعارضات والاستدلال، ولا يكتفي بما نقلت عنهم، فإنما نقلت الذي علمت في وقت كتابتي هذا الجواب وعلى قدر علمي، وهذا (¬5) أقوى ما تمسَّكوا به وأشهره. وكذلك ينبغي أن يُنظر في حافلات كتب المخالفين، فإني إنما نقلت ما في كتاب ابن قيم الجوزية (¬6) منهم (¬7). وفوق كل ¬
الدليل الأول: قوله تعالى: {فإن استقر مكانه فسوف تراني}
ذي علمٍ عليم. وهو كذلك أقوى أدلَّةِ أهل السنة، والله أعلم. فأقول -مع اختصارٍ يسيرٍ- ذكر الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب لأهل الحديث على ذلك أدلَّةً: الدليل الأوّل: أن الله قد أخبر عن أعلم الخلق (¬1) في زمانه، وهو كليمه ونَجِيُّه وصَفِيُّه من أهل الأرض أنه سأل ربَّه تعالى النظر إليه، فقال له ربُّه تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وبيان الأدلة (¬2) من هذه الآية من وجوه عديدة: أحدها: أنه لا يُظنُّ بكليم الرحمن ورسوله الكريم عليه أن يسأل ربه ما لا يجوزُ عليه، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المُحال، لأنه سأله النظر جازِماً بصحته، ولم يسأله عن صحته، ولا وقف سؤاله على شرط صحته، وإنما سأله على أمر جليٍّ عنده، لا (¬3) ينبغي عنده الشك في إمكانه وتجويزه، كقول إبراهيم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، فلو كان يعتقد تعطيل الرب سبحانه، لقطع بفطرة عقله أن رؤيته ممتنعةٌ كما اعتقد ذلك من عطَّلهُ سبحانه، وهو عند فروخ اليونان (¬4) والصابئة والفرعونية بمنزلة أن يسأله أن يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك مِمَّا يتعالى عنه. فيالله العجب كيف صار أتباع الصابئة والمجوس وفروخ الجهمية والفرعونية أعلم بالله تعالى من موسى بن عِمران، وبما يستحيلُ عليه ويجب له، وأشدَّ تنزيها له منه. الوجه الثاني: أن الله سبحانه لم يُنْكِرْ عليه سؤاله، ولو كان محالاً لأنكره ¬
عليه، ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربَّه تعالى أن يُرِيَه كيف يحيى الموتى، لم يُنكر عليه، ولما سأل عيسى ابن مريم ربه إنزال المائدة من السماء، لم ينكر عليه (¬1)، ولمَّا سأل نوحٌ ربَّه نجاه ابنه، أنكر عليه سؤاله، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46، 47]. الوجه الثالث: أنه أجابه بقوله: {لن تَرَاني}، ولم يقل: إنِّي لا أُرى، ولا: إني لست بمرئيٍّ، ولا يجوزُ رؤيتي. والفرق بين الجوابين ظاهرٌ لمن تأمَّله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئيٌّ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته (¬2) في هذه الدَّار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه (¬3) .... الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجلِّيه في هذه الدَّار، فكيف بالبشريِّ (¬4) الضعيف الذي خُلِقَ من ضعفٍ. الوجه الخامس: أن الله سبحانه قادرٌ على أن يجعل الجبل مستقرَّاً مكانه، وليس هذا بممتنع (¬5) في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علَّق به الرؤية، ولو كانت مُحالاً في ذاتها، لم يعلِّقها بالممكن في ذاته، ولو كانت الرؤية مُحالاً، لكان ذلك نظير أن يقول: أن استقرَّ الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، فالأمران عندكم سواءٌ. الوجه السادس: قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وهذا ¬
من أبين الدلالة على جواز رُؤيته تبارك وتعالى، فإنه إذا جاز أن يتجلَّى للجبل الذي هو جمادٌ لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلَّى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته، ويُريَهم نفسه؟ وأعلم (¬1) سبحانه أن الجبل إذا لم يثبت (¬2) لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف. الوجه السابع: أن ربَّه سبحانه قد كلَّمه منه إليه، وخاطبه وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلُّم والتكليم، وأن يسمع مخاطِبُه كلامَه معه بغير واسطة، فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتمُّ إنكار الرؤية إلاَّ بإنكار التكليم، وقد جَمَعَتْ هذه الطوائف بين إنكار الأمرين، فأنكروا أن يُكَلم أحداً ويراه أحدٌ، ولهذا سأل موسى النظر إليه لمَّا أسمعه كلامه، وعلم من الله جواز رؤيته من وقوع خطابه (¬3) وتكليمه، فلم يخبره باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجلِّيه. وأما قوله تعالى: {لن تراني} فإنه نزل (¬4) على سبب طلب الرؤية في الحال، فكان نفياً لذلك المطلوب، كما صح حكمُ الصحابة بمثل ذلك في مواضع كثيرةٍ يوضحه أنه لا يقبُح أن يقول: فهل أراك في الآخرة؟ ويعارض من لم يقبل بيان السنة بظاهر سورة النجم، فإنه يقضي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية كما صح عن ابن عباس الجزمُ به (¬5). فإن رجعوا فيها إلى بيان السنة، وجب الرُّجوع إليه في الموضعين، كما وجب ذلك في جميع شرائع الإسلام الأركان الخمسة وغيرها يأتي بيان السنة بما ليس في القرآن. وأجمعت الأمة على اعتبار الأسباب في بعض المواضع كتفسير: {الذين يفرحُون بمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] في ¬
الدليل الثاني: قوله تعالى: {واتقوا الله واعلموا أنكلم ملاقوه}
اليهود (¬1) و" سوف ": قد تكون للقريب من المستقبل، كقوله تعالى حكايةً عن يعقوب: {سَوْفَ أستغفِرُ لَكُمُ ربِّي} [يوسف: 98] وعدهم لليلة الجمعة (¬2)، وهو كثيرٌ، ولا خلاف (¬3) فيه بقول سوف أفعل غداً بإجماع (¬4) أهل العربية. وأما قولهم: إن " لن " تدلُّ على النفي في الاستقبال، فإن الاستقبال هُنا حاصلٌ، وهو مدَّةُ عمر موسى عليه السلام في الدنيا، ولكن -مع هذا- لا بد من دخول نفي رؤيته في الحال، وإلاَّ خرج الجواب عن مطابقة السؤال، وذلك لا يجوز. وأيضا، فإنما يدلُّ على النفي في المستقبل، ولا يدلُّ على دوام النفي، ولو قيِّدت بالتَّأبيد، فكيف إذا أطلقت؟ قال تعالى: {ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدَاً} [البقرة: 95] مع قوله: {ونادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ علينا ربُّكَ} [الزخرف: 77]. فصل: الدليل الثاني: قوله تعالى: {واتَّقُوا الله واعلَمُوا أنَّكُم مُلاقُوه} [البقرة: 223]، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُم يوم يلقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله: {فمن كان يرجُو لِقَاء ربِّهِ} [الكهف: 110]، وقوله: {قال الذِينَ يظُنُّونَ ¬
الدليل الثالث: قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}
أنَّهُم مُلاقُوا الله} [البقرة: 249]. وأجمع أهل الِّلسان على أن اللقاء متى نُسِبَ إلى الحيِّ السليم من العمى والمانع، اقتضى المعاينة والرؤية، ولا ينتقِضُ هذا بقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، فقد دلَّت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة، بل والكفار أيضاً كما في " الصحيحين " في حديث التَّجلِّي يوم القيامة، وسَيَمرُّ بك عن قريبٍ إن شاء الله تعالى. وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة: أحدها: أنه لا يراه إلاَّ المؤمنون. والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنُهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار، فلا يرونه بعد ذلك. والثالث: يراه المنافقون دون الكفار. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكليمه لهم. ولشيخنا في ذلك مصنَّفٌ مفردٌ حكى فيه الأقوال الثلاثة وحُجَجَ أصحابها (¬1). وكذا قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، إن عاد الضمير إلى العمل، فهو رؤيته في الكتاب مسطوراً مبيناً، وإن عاد على الرب تعالى، فهو لقاؤه الذي وعد به. فصل: الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26] فالحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، كدلك فسَّرها رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - الذي أنزل عليه القرآن والصحابة من بعده، كما روى (¬1) مسلم في " صحيحه " من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، قال قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {للذِينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ} [يونس: 26]، قال: " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نادى منادٍ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً، ويريدُ أن ينجزَكُموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقِّل موازيننا ويبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه " (¬2)، وهي الزيادة " (¬3). قال الحسن بن عرفة، حدثنا سلم (¬4) بن سالم البلخي، عن نوح بن أبي مريم، عن ثابت، عن أنس، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {للذِينَ أحسَنُوا الحُسنَى وزيادةٌ} قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى: وهي ¬
الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى" (¬1). وقال محمد بن جرير: حدثنا ابن حميد (¬2)، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرَة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ}، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن جلّ جلاله (¬3). قلت: عطاءٌ هذا هو الخراساني، وليس بعطاء بن أبي رباح. قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الرحيم (¬4)، حدثنا عمر بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيراً .. وقال يعقوب بن سفيان (¬5)، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زهير بن محمد، قال: حدثني من سَمِعَ أبا العالية الرّياحي، يحدث عن أبيّ بن كعب، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الزيادة في ¬
كتاب الله قوله (¬1) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (¬2). وقال أسدُ السُّنة: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبان، عن أبي تميمة (¬3) الهُجيمي أنه سمع أبا موسى يحدِّث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يبعث الله يوم القيامة منادياً يُنَادي أهل الجنة بصوتٍ يسمِعُ أوَّلهم وآخرهم: إن الله عز وجل وعدكم الحُسنى، والحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله " (¬4). وقال ابن وهب أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي (¬5)، أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن الله عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: يا أهل الجنة بصوتٍ يسمع أولهم وآخرهم: إن الله عز وجلَّ وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى (¬6): الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن (¬7) ". ¬
وأما الصحابة، فقال ابن جرير (¬1)، حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن مهدي- حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، قال: النظر إلى وجه الله. وبهذا الإسناد عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد (¬2)، عن حذيفة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، قال: النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (¬3). وحدثنا علي بن عيسى، حدثنا شبابة، حدثنا أبو بكر الهذليّ، قال: سمعت أبا (¬4) تميمة الهجيمي (¬5) يحدِّث عن أبي موسى الأشعري، قال: إذا كان يوم القيامة، يبعث (¬6) الله عز وجلَّ [إلى أهل الجنة] (¬7) منادياً ينادي: هل أنجزكُمْ (¬8) الله ما وَعَدَكُم؟ فينظرون ما أعدَّ الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم، ¬
فيقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، النظر إلى وجه الرحمن عز وجلّ (¬1). وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي، أخبرنا أبو تميمة، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب (¬2) الناس في جامع البصرة، ويقول: إن الله عز وجل يبعث يوم القيامة مَلكَاً إلى أهل الجنة، فيقول: يا أهل الجنة هل أنجز (¬3) تعالى لكم (¬4) ما وعدكم؟ فينظرون، فيرون الحليَّ والحُلل [والثمار] (¬5) والأنهار (¬6) والأزواج المطهَّرة، فيقولون: نعم، قد أنجز (¬7) الله ما وعدنا، ثم يقول (¬8) الملك: هل أنجزكم (¬9) ما وعدكم ثلاث مرات، فلا يَفقدُون شيئاً مما وُعِدُوا، فيقولون: نعم. فيقول: قد بقي لكم شيءٌ إن الله عز وجل يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، ألا إنَّ الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (¬10). وفي تفسير أسباط بن نصر (¬11) عن إسماعيل السُّدّي، عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ¬
الدليل الرابع: قوله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}، فقال: أما الحسنى: فالجنة وأما الزيادة: فالنظر إلى وجه الله، وأما القترُ: فالسواد (¬1). وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر بن سعد، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، والضَّحَّاك بن مُزاحم، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وسعيد ابن المسيب، والحسن البصري، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد بن جبر (¬2): الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى (¬3). وقال غيرُ واحدٍ من السلف في الآية: {ولا يَرهَقُ وُجُوهَهُم قترٌ ولا ذِلَّةٌ}، بعد النظر إليه. والأسانيد عنهم بذلك صحيحة. ولما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى -التي هي الجنة- دل على أنها أمرٌ آخر وراء الجنة، وقدرٌ زائدٌ عليها، ومن فسَّر الزيادة بالمغفرة والرضوان، فهو من لوازم رؤية الرب تعالى. فصل: الدليل الرابع: قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14، 15]. ووجه الاستدلال (¬4) بها أنه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رويته وسماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون، ولم يسمعوا كلامه، كانوا -أيضاً- محجوبين عنه. ¬
وقد احتجَّ بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة، فذكر الطبراني وغيره عن المُزنيِّ قال: سمعت الشافعي يقول في قوله عز وجل: {كلاَّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ}؟ قال: فيها دلالة على أن أولياء الله يرون ربَّهم يوم القيامة، وقال الحاكم: حدثنا الأصمُّ، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله تعالى: {كلاَّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ}، فقال الشافعي: لما أن حَجَبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل (¬1) على أن أولياءه (¬2) يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله، وبه تقول؟ قال نعم، وبه أدين الله، لو لم يُوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله عز وجل. ولعله يريد أن الجميع ممَّا ورد به السمع المعلوم عنده، وقد ذم الله تعالى من يُؤمِنُ ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، فكان الإيمان بالجميع لازماً أو الترك. والله أعلم (¬3). ورواه الطبراني في " شرح السنة " من طريق الأصم أيضاً. وقال أبو زرعة الرَّازي. سمعت أحمد بن محمد بن الحسين يقول: سئل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: هل يرى الخلق كلُّهم ربَّهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراه إلاَّ المؤمنون. قال محمد (¬4): وسئل الشافعي عن الرؤية، فقال: يقول الله تعالى: {كلاَّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ}، ففي هذا دليل على أن المؤمنين لا يُحجبون عن الله عز وجل. ¬
الدليل الخامس: قوله تعالى: {لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد}
فصل: الدليل الخامس: قوله عز وجل: {لهُمْ ما يَشَاؤونَ فيها ولدينا مَزِيدٌ} [ق: 35]. قال الطبراني: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل، وقاله من التابعين زيد بن وهبٍ وغيره. فصل: الدليل السادس: قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ وهو يُدْرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103] والاستدلال بهذا عجيب (¬1)، فإنه من أدِلَّة النفاة. وقد قرَّر شيخنا وجه الاستدلال بة أحسن تقريرٍ وألطفه، وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطله إلاَّ وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي (¬2) على جواز الرؤية أدلُّ منها على امتناعها، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون في الأوصاف (¬3) الثبوتية، وأما العدم المحضُ، فليس بكمال، فلا يمدح (¬4) به. وأما (¬5) تمدُّحُ الرب بالعدم إذا تضمَّن أمراً وجوديّاً كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمِّن كمال القَيُّوميَّة، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي الُّلغُوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظِّهير المتضمن كمال ربوبيته (¬6) وإلهيته وقوَّته، ونفي الأكل والشرب المتضمن لكمال صَمَدِيَّته وغناه، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعُزوب شيءٍ عن (¬7) علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المِثْلِ المتضمِّن ¬
لكمال ذاته وصفاته ولهذا لم يتمدَّح بعدمٍ محضٍ لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يُشارِكُ الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أنه لا يُرى بحالٍ، لم يكن في ذلك مدح ولا كمال (¬1) لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى، ولا تدركه الأبصار، والربُّ -جلَّ جلالُه- يتعالى أن يُمْدَحَ بما يُشارِكُه فيه العدم المحضُ، فإذاً المعنى: أنه (¬2) يُرى، ولا يُدرَكُ ولا يُحَاطُ به كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] أنه يعلم كل شيءٍ، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا من لُغُوبٍ} [ق: 38]: أنَّه كامل القدرة، وفي قوله: {ولا يَظلِمُ ربُّك أحداً} [الكهف: 49]: أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، أنه كامل القيومية، فقوله: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} [الأنعام: 103] يدل على غاية عَظَمَتِه، وأنه أكبرُ من كل شيءٍ، وأنه لعظمته لا يُدرَكُ بحيث يُحاطُ به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائدٌ على الرؤية، كما قال تعالى: {َفلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61، 62]، فلم يَنفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}: إنا لمرئيون، فإن موسى - صلوات الله وسلامه عليه - نفي إدراكهم إيَّاهم بقوله: كلاَّ، وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دَرَكَهُم، بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] فالرؤية والإدراك كل منهما يُوجَدُ مع الآخر وبدونه. فالربُ تعالى يُرى ولا يُدرَكُ كما (¬3) يُعلَمُ ولا يُحاطُ به، وهذا هو الذي فهمته الصحابة والأئمة من الآية. قال ابن عبَّاس: لا تدركه الأبصار: لا تُحيط به الأبصار (¬4). ¬
وقال قتادة: هو أعظمُ من أن تُدرِكَهُ الأبصار (¬1). وقال عطية (¬2): ينظرون إلى الله تعالى، ولا تُحِيطُ أبصارُهم به من عظمته، وبصره (¬3) يحيط بهم، فذلك قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} (¬4) [الأنعام: 103] فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عِياناً، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها (¬5) لا تحيط به، إذ كان غير جائزٍ أن يُوصف الله عز وجل بشيءٍ يُحيط به، وهو بكل شيءٍ محيطٌ. وهكذا يُسمعُ كلامه من شاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وهكذا (¬6) يُعَلِّمُ الخلق ما علمهم، ولا يُحيطون بعلمه. ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: {ليس كَمثلِهِ شيءٌ} [الشورى: 11] وهذا من أعظم الأدلة: على كثرة صفات كماله (¬7) ونُعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أراد بها نفي الصِّفات، لكان العدم المحضُ أولى بهذا المدح منه، مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلانٌ لا مِثْلَ لهُ، وليس له نظير ولا شبيه ولا مثل (¬8)، أنه قد تميَّز عن الناس بأوصافٍ ونعوتٍ لا يُشاركونه فيها، وكلَّما كثُرَت أوصافهُ ونعوته، فات أمثاله، وبَعُدَ عن مشابهة أضرابه. فقوله: {ليس كمثله شيء} من أدلِّ شيءٍ على كثرة نعوته وصفاته، وقوله: {لا تدركه الأبصار} من أدلِّ شيءٍ على أنه يُرى ولا يُدرَكُ. وقوله: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ¬
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] من أدلِّ (¬1) شيءٍ على مباينة الرب تعالى لخلقه، فإنه لم (¬2) يخلقهم في ذاته، بل خارج عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هُمْ عليه، ويراهم وينفذهم ببصره (¬3)، ويُحِيطُ بهم علماً وإرادةً وقدرةً وسمعاً وبصراً. فهذا معنى قوله (¬4) سبحانه: {هو مَعَهُم أينَمَا كانوا}، وتأمل حُسْنَ هذه المقالة لفظاً ومعنى، بين قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103]، فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصارُ وتحيط به، ولِلُطفه وخبرته يدرك الأبصار، فلا تخفي عليه، فهو العظيم في لطفه، اللطيف في عظمته، العالي في قربه (¬5)، القريب في عُلُوِّه، الذي ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. انتهى كلام الشيخ. ومنهم من احتجَّ بهذه الآية من وجهٍ آخر: وهو أن النفي إذا وجِّه إلى الشمول، فهم منه مخالفةُ البعض، ولم يُفدِ النفي عن كلِّ فرد، كما إذا قلت: ما جاء القوم. ليس فيه نفي مجيء البعض، بل إذا قلت: ما جاء عشرة رجال، لم يكن فيه نفي مجيء التِّسعة. هذا لو لم يَرِدْ لهذا العموم مخصِّصٌ من الكتاب والسنة، فأمَّا بعد قولِه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وتواترُ الأحاديث في ذلك -كما سيأتي- فلا شك في أنها أبين مِنْ هذه الآية، وأخصُّ على جميع القواعد، ولذلك أجمعنا على ثبوت الشفاعة الخاصة في الآخرة مع قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ ¬
وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، ما ذلك إلاَّ لتقديم الخاص على العامِّ في مثل هذا. والخصوم لا يُخالفون في مثل هذا من هذه الجهة، وإنما حملهم على تأويل الأدلة الخاصَّة اعتقادهم لاستحالة الرؤية عقلاً، وقد مرَّ ما فيه، ولذلك احتالوا على استفادة العموم من هذه الآية من التَّمدُّح -ولا يمتنع أن يكون التمدُّح مخصوصاً- الراجع (¬1) إلى الذات دون التمدح (¬2) الراجع إلى غير ذلك. كما سيأتي في كلامهم. والجواب عليهم من وجوه: الوجه الأول: أن حجَّتهم هذه وأكثر أدلتهم، راجعة إلى القطع بنفي ما لم يعلموا عليه دليلاً، وقد تقدم بطلانها. بيانه: أنه لا دليل لهم على (¬3) أنه لا وجه للتمدح في علم الله إلاَّ ذلك، بحيث لا يصحُّ أن يُخبر به نبي صادق. الوجه الثاني: أنه قد ورد السمع بما يدل أنه تمدُّح راجعٌ إلى قدرته وعزَّته. وذلك ممكن عقلاً قبل ورود السمع. ومجرَّد التجويز يكفي أهل السنة، لأنه يمنع (¬4) من وجوب تأويل الظواهر، كيف إلاَّ النصوص؟ وأما المعتزلة، فلا يكفيهم إلاَّ الأدلة القاطعة المانعة من تسليم الظواهر، أما أن التمدُّح بذلك ممكنٌ عقلاً، فضروريٌّ، وعلى مانعه الدليل يوضحه أن الله تعالى تمدح بذلك في قوله تعالى (¬5): {يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، وتمدَّحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقضي ولا يُقضى عليه (¬6). ¬
وأما أنَّ الدليل السمعي قد دلَّ على تعليل عدم إدراكه بأمرٍ (¬1) يرجع إلى قدرته وعزته، فذلك كثيرٌ جداً في الكتاب والسنة. أمَّا القرآن، فقوله تعالى: {أو من وراء حجاب} [الشورى: 51]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. والقرائن تضطر إلى أنه لا يصح تأويل (¬2) تجليِّه سبحانه للجبل، لأنه لو كان مؤولاً، كان أجنبياً عن الرؤية. وأما السنة، فأكثرُ مِن أن تحصر (¬3)، ولا تحتاج إلى ما فيها من ذكر الحُجْبِ بعد ورود نصوص (¬4) الله تعالى بذلك. ولقد جاء ذلك من طريق زيد بن علي عليه السلام، كما رواه محمد بن منصور في " الجامع الكافي " على مذهب الزَّيدية. وهذا وجهٌ جليٌّ، لا غبار عليه، وإنما تكلَّفت (¬5) المعتزلة على منعه بقيام الدليل العقلي عندهم على استحالة ذلك. وقد بيَّنَّا فيما تقدم أن أدلتهم العقلية كلها راجعةٌ إلى القطع بالنفي للشيء عند عدم العلم به، وأن ذلك باطلٌ. ¬
الوجه الثالث: أن نقول: إنه لا خلاف أنَّهم يحتاجون إلى دليلٍ قاطعٍ على منع هذا الاحتمال، وهو أن التمدُّح هنا راجع (¬1) إلى القدرة وكمال العزة، فإن رجعوا إلى الأدلة العقلية، فقد قدمنا الكلام فيها، ولم يزيدوا عليها (¬2) هنا إلا دليلهم المعروف بأن الحواسَّ سليمةٌ، والمدرك موجودٌ، والموانع مرتفعة. وللأشعرية معارضاتٌ كثيرةٌ لذلك موجودةٌ في كتبهم الكلامية. وأما أهل السنة، فَيُنَازِعُون في أن الموانع مرتفعةٌ لورود نصوص الكتاب والسنة بمنع الحجب من ذلك على الوجه الذي لا يحيط بعلمه إلاَّ الله تعالى، كما تقدَّم تقريره في كلام ابن تيمية في نفيهم للكيفية عن ذات الله تعالى. وكل ما يتعلَّق بها، وإن رجعوا إلى الأدلة السمعية في منع رجوع التمدح إلى القدرة، فهي عليهم، لا لهم، كما تقدَّم. وإنما احتجَّ في الشرح بأمرين: أحدهما: أن هذا خلاف تفسير المفسِّرين، وهذا مردودٌ عليه (¬3) ومُعَارضٌ بمثله وسيأتي ما في ذلك من تفاسير الصحابة والتابعين من نقل أئمة الحديث وراجعٌ إلى القطع بالنفي عند عدم العلم. وقد مرَّ بطلانه. وأما قوله: إنه خلاف الظاهر، فليس في الظاهر ذكر العلم في ذلك، لا بالذات -كما زعمت المعتزلة- ولا بالقدرة، وإنما أُخِذَت هذه العلة في التمدح من ذكر الحجاب في نصوص الكتاب والسنة، ومن النص على (¬4) أن الله تعالى تجلَّى للجبل، فجعله دكّاً، وجعل ذلك عقيب سؤال موسى موعظة لموسى وتسليةً، لأنه بذلك عرف أنه سأل ما لا يقدرُ عليه، وكذلك قوله: إنه تمدُّحٌ راجعٌ إلى ذاته، ليس من الظاهر في شيءٍ، وإنما هو عند الخصوم بأدلةٍ عقلية خارجةٍ. ¬
الدليل السابع: قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}
وبالجملة، فتعليل المعتزلة بأن ذلك أمرٌ ذاتيٌ ليس في الآية (¬1)، كما أن تعليل المحدِّثين ليس فيها، وإنما هما أمران زائدان، كلُّ من أثبت أحدهما أثبته بدليلٍ منفصلٍ. والأمر الزائد لا يُقالُ فيه: إنه خلافُ الظاهر، بل يتوقف على الدليل الصحيح، وعلى تسليم أنه خلافه مشترك الإلزام، وهو جائزٌ وفاقاً، لكن كلام أهل الحديث أصح لثلاثة وجوهٍ: أحدها: أن التجويز يكفيهم كما تقدم، ولا يكفي المعتزلة إلاَّ القاطع. وثانيها: أن الأدلة السمعية دلت عليه. وثالثها: أن كلام المعتزلة يقتضي أن الله تعالى لا يَقْدِرُ يَرَى ذاته، ولا يقد يُريها أحداً من خلقه. وفي هذا معارضة قدرته على كل شيء، وما يدل على ذلك، ولا يمتنع أن يكون التمدح مخصوصاً (¬2) بالعموم في جميع الأشخاص والأزمان، حيث لم يعارض العزة والكبرياء معارض الرحمة والمثوبة والإكرام،. كما أن الله تعالى ممدوحٌ عند الخصوم بأنه لا يُثيب (¬3) الجميع ويعظمهم، وإنما يفعل ذلك لمن يستحقُّه، فلا يمتنع مثله هنا. قال الشيخ: (¬4) فصل: الدليل السابع: قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وأنت إذا أجرت (¬5) هذه الآية من تحريفها عن مواضعها، والكذب على المتكلم بها سبحانه، فيما (¬6) أراد منها، وجدتها مناديةً نداءً ¬
صريحاً (¬1)، أن الله سبحانه يُرى عياناً بالأبصار يوم القيامة، وإن (¬2) أبيت إلا تحريفها الذي يُسمِّيه المحرِّفون تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان (¬3) والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كلِّ نص تضمَّنه القرآن والسنة كذلك. ولا يشاء مبطلٌ على وجه الأرض (¬4) أن يؤوِّلَ النصوص، ويحرِّفَها عن مواضعها، إلاَّ وجد إلى ذلك مِنَ السبيل ما وجده متأوِّل مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا، وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محلُّه في هذه الآية، وتعديته بأداة (¬5) " إلى " الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدلُّ على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدَّى بـ " إلى " خلاف حقيقته. وموضوعه صريح (1)، في أن الله سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعدِّيه بنفسه (¬6) فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، فإنْ عُدِّيَ بـ " في "، فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] وإن عُدِّيَ بـ " إلى "، فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله (¬7): {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فكيف إذا أُضيف إلى الوجه الذي هو محلُّ النَّظر. وفي كلام الشيخ هنا نظرٌ من وجهين. أحدهما: أنه موهمٌ أن أهل السنة ينسِبُون المخالفين لهم في هذه المسألة ¬
إلى العناد والتَّعمدُّ، وليس كذلك، وهذا هو الذي نحن قاصدون لِردِّه. وقد اعتمد أئمة السنة على رواية الثقات من المعتزلة والشيعة كما أوضحته في هذا المصنف، وأوضحه جميع من تكلم في الرجال، وحسبك أن النسائي (¬1) من أئمة الشيعة، وقد فضلوه على مسلمٍ صاحب " الصحيح ". والوجه الثاني: أن النظر قد يُستعمل في غير الرؤية مُعَدّي بـ " إلى " (¬2) كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِم} [آل عمران: 77]، بل النظر في اللغة وعند أهل الكلام هو تقليب الحدقة الصحيحة في وجه (¬3) المرئيِّ طلباً (¬4) لرؤيته، وإن لم تحصل رؤية (¬5)، وذلك لا يجوز على الله في كل مذهب، فلا يختص نفيه عمَّن ذكر، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُون} [الأعراف: 198] وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} كناية عن إهمالهم لا سوى. والله أعلم. والآية على هذا من الظواهر التي لا يجوز تأويلها إلاَّ بدليل، لا من النصوص الضرورية التي يكفر متأولها. قال الشيخ (¬6): قال يزيد بن هارون: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: نَظَرَت إلى ربها، فَنَضُرَتْ بنوره (¬7). ¬
فصل: أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الدالة على رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة
فاسمع (¬1) الآن (¬2) أيُّها السُّنِّي تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية: قال ابن مردويه في " تفسيره ". حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد حدثنا يزيدُ بن الهيثم، حدثنا محمد بن الصَّباح، حدثنا مصعب بن المِقْدَام، حدثنا سفيان، عن ثور بن أبي فاخِتة، عن أبيه، في عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] قال: من البهاء والحُسْنِ (¬3) {إلى ربِّها ناظِرَة} قال: " في وجه الله عز وجل " (¬4). وقال عن ابن عباس: {إلى ربها ناظرة}، قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل (¬5). وقال عكرمة: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة} قال: من النعيم: {إلى ربِّها ناظرة} قال: تنظر إلى ربِّها نظراً، ثم حكى عن ابن عباس مثله. وهذا قول كلِّ مفسِّرٍ من أهل السنة والحديث (¬6). فصل: وأما الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الدالة على الرؤية، فمتواترة رواها عنه أبو بكر الصدّيق، وأبو هريرة الدوسي، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وجرير ابن عبد الله البَجَلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهُذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعريُّ، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو أُمامة الباهلي، وزيد بن ثابث، وعمار بن ياسر، وعائشة ¬
حديث أبي بكر الصديق
أمُّ المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعمارة (¬1) بن رُويبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة ابن اليمان، وعبد الله بن عباس (¬2)، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوفٌ، وأُبيُّ بن كعب، وكعبُ بن عُجرة، وفَضالة بن عبيد وحديثه موقوفٌ، ورجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسمَّى، فهاك سياق أحاديثهم من الصِّحاح والمسانيد والسُّنن، وتلقَّها بالقبول والتسليم وانشراح الصدر، لا بالتحريف والتبديل وضيق العَطَن، ولا تكذِّب بها (¬3)، فمن كذَّب بها لم يكن إلى وجه ربِّه من الناظرين، وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين. قلت: وقد ذكر الحاكم على (¬4) تشيعه في كتابه " علوم الحديث " (¬5) في النوع الموفي خمسين أنه قد جمع أخبار الرؤية في باب، وأن ذلك من الأبواب التي يجمعها أهل الحديث. انتهى. فصل: فأمَّا حديث أبي بكر الصديق. فقال الإمام أحمد (¬6): حدثنا إبراهيمُ ¬
ابن إسحاق الطالقاني: قال: حدثني النضر بن شُميل المازني، قال: حدثني أبو نعامة، قال: حدثني أبو هنيدة (¬1) البراء بن نوفل، عن والان (¬2) العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكر الصديق. قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، فصلَّى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضُّحى ضَحِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جلس مكانه حتى صلَّى الأُولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم، حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله. فقال الناس لأبي بكر: ألا تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأنُه؟ صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط. قال (¬3) فسأله (¬4)، فقال: " نعم، عُرِضَ عليّ ما هو كائنٌ من أمر الدنيا والآخرة، فجُمِعَ الأوَّلون والآخرون في صعيدٍ واحدٍ، ففظعَ الناس بذلك حتَّى انطلقوا إلى آدم - صلى الله عليه وسلم - والعَرَقُ يكاد يُلجِمُهُم (¬5)، فقالوا: يا آدم أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله عز وجل، اشفع لنا الى ربك، قال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} [آل عمران: 33] فقال (¬6): فينطلقون إلى نوح - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يَدَعْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً. فيقول لهم: ليس ذلك عندي، انطلقوا إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله اتخذه خليلاً، فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذلكم (¬7) عندي. انطلقوا إلى ¬
موسى - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عزَّ وجلَّ كلَّمه تكليماً، فيقول موسى - صلى الله عليه وسلم -. ليس ذلك عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى بن مريم، فإنه كان (¬1) يبرىء الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى، فيقول عيسى: ليس ذلكم (¬2) عندي. انطلقوا إلى سيد ولد آدم، انطلقوا إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فليشفع لكما إلى ربكم عز وجل، قال: فينطلق فيأتي جبريل ربه (¬3) تبارك وتعالى، فيقول الله عز وجل: ائذن لهُ، وبشِّره بالجنة، فينطلق به جبريل - صلى الله عليه وسلم - فيخِرُّ ساجداً قدر جُمُعَةٍ، ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل تُسمَعْ، واشفَعْ تُشَفَّع. قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل، خرّ ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل تُسمع واشفع تُشَفَّعْ. قال: فيذهبُ ليقع ساجداً، فيأخذ جبريل بِضَبْعَيه، فيفتح الله عليه من الدعاء شيئاً (¬4) لم يفتحه (¬5) على بشرٍ قطُّ. فيقول: أي رب، خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأوَّل من تنشقُ الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر (¬6) حتى إنه لَيَردُ علي الحوض أكثر ما بين صنعاء وأيلَةَ، ثم يقال: ادع الصدِّيقين، ثم يقال: ادعُ الأنبياء، قال (¬7) فيجيء النبي ومعه العِصابة، والنبي ومعه الخمسة؟ والستة، والنبيُّ وليس معه أحدٌ، ثم يقال: ادعوا الشهداء، فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلت الشهداء ذلك، قال: يقول (¬8) الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلُوا الجنة (¬9) من كان لا يُشرك بي شيئاً، قال: فيدخلون الجنة، ¬
حديث أبي هريرة وأبي سعيد
قال: ثم يقول الله عز وجل: انظروا في النار، هل تَلْقَوْنَ من أحدٍ عَمِلَ خيراً قطُّ، قال: فيجدون في النار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيراً قط؟ فيقول لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع، فيقول الله عز وجل: اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي، ثم يُخرجون من النار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، غير أني قد أمرت ولدي إذا مِتُّ فاحروقوني بالنار، ثم اطحنوني (¬1)، حتى إذا كنت مثل الكُحْل، فاذهبوا بي إلى البحر، فاذروني في الرِّيح (¬2)، فوالله لا يقدر عليَّ رب العالمين أبداً. فقال الله عزَّ وجلَّ له: لِمَ فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك، قال: فيقول الله عز وجل: انظر إلى مُلَكِ أعظم ملك، فإن لك مثله وعشرة أمثاله، قال: فيقول: أتسخرُ بي، وأنت الملك؟ قال: وذاك الذي ضحكتُ منه من الضحى. فصل: وأما حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ، ففي " الصحيحين " (¬3)، و" الترمذي " (¬4) عن أبي هريرة أن ناساً قالوا: يا رسول الله. هل نرى ربَّنا يوم ¬
القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحابٌ؟ " قالوا: لا. قال: " فإنكم ترونه كذلك ". يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبعهُ: فيتَّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورةٍ غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهيم الله عزَّ وجلَّ في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه. ويُضرَبُ الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمَّتي أول من (¬1) يُجيز، ولا يتكلم يومئذٍ إلاَّ الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم، وفي جهنم كلاليب مثل شوكِ السعدان، هل رأيتم السعدان "؟ قالوا (¬2) نعم يا رسول الله. قال: " فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عِظَمِهَا إلاَّ الله عز وجل، تخطَفُ الناس بأعمالهم، فمنهم المُوثَقُ (¬3) بعمله، ومنهم المُجازى حتى ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يُخرج برجمته (¬4) من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول: لا إله إلاَّ الله، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم (¬5) إلاَّ أثر السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتَحَشُوا (¬6)، فيُصَبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحِبَّة ¬
في حميل السيل (¬1). ثم يفرغ من القضاء بين العباد، ويبقى رجلٌ مقبل بوجهه على النار وهو من آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، فيقول: أي ربِّ، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني (¬2) ريحُها، وأحرقني ذَكَاؤُها، فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره، فيعطي ربه من عهودٍ ومواثيق ما شاء، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدِّمني إلى باب الجنة. فيقول الله: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك؟ ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك فيقول: أي ربِّ، فيدعو الله، حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتُك ذلك أن تسأل (¬3) غيره؟ فيقول: لا وعزِّتِك، فيعطي ربه ما شاء من عهودٍ ومواثيق (¬4)، فيقدمهُ إلى باب الجنة. فإذا قام على باب الجنة انفهقت (¬5) له الجنة (¬6)، فرأي ما فيها من الخير والسرور، فيسكت (¬7) ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ، أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألاَّ تسأل غير ما أُعطيت (¬8)؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدَرَكَ! فيقول: أي ربِّ، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال ¬
يدعو الله حتى يضحك الله عزَّ وجلَّ منه، فإذا ضَحِكَ منه، قال: ادخُل الجنة، فإذا دخلها، قال الله تعالى له: تَمَنَّهْ. فيسألُ ربه ويتمنى، حتى إن الله تعالى ليُذَكِّره يقول: من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله عز وجل: ذلك لك ومثله معه. قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة ما يَرُدُّ عليه من حديثه شيئاً حتى إذا حدَّث أبو هريرة أن الله عزَّ وجلَّ قال لذلك الرَّجل: ومثله معه، قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة: ما حفظت إلاَّ قوله: ذلك لك ومثله معه، قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله (¬1) ذلك لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولاً الجنة (¬2). وفي الصحيحين و" النسائي " (¬3) أيضاً عن أبي سعيدٍ الخدري أن ناساً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم هل تُضارُّون في رؤية الشمس بالظهيرة (¬4) صَحْواً ليس معها سحاب "؟ قالوا: لا يا رسول الله، " وهل تُضارُّون في رؤية (¬5) القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها (¬6) سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلاَّ كما تضارون في رؤية أحدهما. إذا كان يوم القيامة أذن مؤذِّنٌ ليتَّبِع كل أمة ما كانت تعبد (¬7)، فلا يبقى أحدٌ ¬
كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلاَّ يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبُدُ الله من بَرٍّ وفاجرٍ وغُبَّر (¬1) أهل الكتاب، فيُدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ (¬2) من صاحبٍ (¬3) ولا ولدٍ، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربُّ فاسقنا، فيُشارُ إليهم: ألا تَرِدُون (¬4)؟ فيُحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يحطمُ بعضُها بعضاً فيتساقطون في النار. ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ماذا (¬5) كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيقال ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا (¬6) فاسقنا، قال: فتشار إليهم: ألا تردون (¬7)، فيحشرون إلى جهنم كأنهم سرابٌ يحطم بعضُهم بعضاً، فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بَرٍّ وفاجرٍ، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورةٍ من التي رأوْهُ فيها، قال: فما تنتظرون (¬8)؟ لتتبع (¬9) كل أمةٍ ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشركُ بالله شيئاً -مرتين أو ثلاثاً- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية ¬
تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيُكشَفُ عن ساقٍ (¬1)، فلا يبقى من كان يسجد لله ¬
تعالى من تلقاء نفسه إلاَّ أذن الله له (¬1) بالسجود، ولا يبقى من كان يسجُدُ اتِّقاء ورياءً إلاَّ جعل الله ظهره طبقةً واحدةً، كلما أراد أن يسجد، خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في صورته (¬2) التي رأوه فيها أول مرةٍ، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربُّنا. ثم يُضرَبُ الجسر على جَهَنَّم، وتحُلُّ الشفاعة. قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: " دحضٌ مَزِلَّةٌ، فيه خطاطيف وكلاليبُ وحَسَكَةٌ تكون بنَجدٍ (¬3) فيها شويكةٌ يقال لها: السعدان، فيمرُّ المؤمنون كَطَرْفِ العين (¬4)، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسلٌ، ومكدوسٌ في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما من أحدٍ منكم بأشدَّ مناشدة في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويُصلُّون، ويحُجُّون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتُحَرَّمُ صورهم على النار، فيُخرِجُون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى أنصاف ساقيه وإلى رُكبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مِمَّن أمرتنا، فيقول: ارجعوا، فَمَنْ وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أمرتَنَا، ثم يقول: ارجِعُوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال (¬5) نصف دينار من ¬
خيبر فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نَذَرْ فيها ممن أمرتنا أحداً. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً. وكان (¬1) أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]. فيقول الله عز وجل: شَفَعتِ الملائكة، وشفع النبيون، وشفع (¬2) المؤمنون، ولم يبق إلاَّ أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حُمَماً، فيُلقيهم في نهرٍ في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فيخرُجون كما تخرج الحِبَّة في حَميل السيل. ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر (¬3)، وما يكون منها إلى الظِّلِّ يكون أبيض؟ " فقالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى بالبادية! قال: " فيخرجُون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجَنَّة هؤلاء عُتَقَاء (¬4) الله الذين أدخلهم الله الجنة (¬5) بغير عملٍ عملوه، ولا خير قدَّموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا، أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين. فيقول لكم عندي أفضلُ من هذا، فيقولون: ربنا، وأيُّ شيءٍ أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخطُ عليكم بعده أبداً " (¬6). ¬
حديث جرير بن عبد الله
فصل: وأما حديث جرير (¬1) بن عبد الله، ففي " الصحيحين " من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم عنه، قال: كنَّا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: " إنكم سَتَرَوْنَ ربَّكم عِياناً كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا "، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوب} (¬2) [ق: 39]. رواه عن إسماعيل بن أبي خالد (¬3): عبد الله بن إدريس الأودي، ويحيى ابن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن محمد (¬4) المحاربي، وجرير بن عبد الحميد، وعبيدة بن حميد، وهشيم (¬5) بن بشير، وعليُّ بن عاصم، وسفيان بن ¬
عيينة، ومروان بن معاوية، وأبو أسامة (¬1)، وعبد الله بن نُمير، ومحمد بن عُبَيْدٍ، وأخوه يعلى بن عبيد، وكيعُ بن الجَّراح، ومحمد بن فضيل (¬2)، والطُّفاوي، ويزيد بن هارون، وإسماعيل بن أبي (¬3) خالد، وعنبسة بن سعيد، والحسن بن صالح بن حيّ، وورقاء بن عمر، وعمَّار بن رُزيق (¬4)، وأبو الأغر سعيد (¬5) بن عبد الله، ونصر بن طريف، وعمار بن محمد، (¬6) والحسن بن عياش أخو أبي بكر، ويزيد بن عطاء، وعيسى بن يونس، وشعبة بن الحجَّاج، وعبد الله بن المبارك، وأبو حمزة السُّكَّري، وحسين بن واقد، ومُعتَمِرُ (¬7) بن سليمان، وجعفر بن زياد، وخداش بن المهاجر، وهُرَيْم (¬8) بن سفيان، ومِنْدَلُ (¬9) بن علي، وأخوه حِبَّان بن علي، وعمرو (¬10) بن مرثد، وعبد الغفار بن القاسم، ومحمد بن بشر الحريري، ومالك بن مغول، وعصام بن النعمان، وعلي بن القاسم الكندي، وعُبيدة بن الأسود الهمداني، وعبد الجبار بن المقياس، والمُعلَّى بن هلال، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، والصباح بن محارب، ومحمد بن عيسى، وسعيد بن حازم، وأبان بن أرقم، وعمرو بن النعمان، ومسعود بن سعدٍ الجعفيُّ، وغنَّام بن علي، وحسن بن حبيب، وسنان بن هارون البُرجمي، ومحمد بن سعيد (¬11) الواسطي، وعمرو بن هشام، ومحمد بن مروان، ويعلى بن ¬
الحارث المحاربي، وشعيب (¬1) بن راشد، والحسن بن دينار، وسلاَّم بن أبي مطيع، وداود بن الزِّبرِقان، وحمادُ بن أبي حنيفة، ويعقوب بن حبيب، وحَكَّام بن سلم، وأبو مقاتل بن حفص، ومسيب (¬2) بن شريك، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وعمرو بن شمر الجُعفي، وعمرو بن عبد الغفار الفُقيمي (¬3)، وسيف بن هارون البُرجميُّ أخو سنان، وعائذ بن حبيب، ومالك بن سعد (¬4) بن الحسن، ويزيد بن عطاء مولى ابن عوانة، وخالد بن يزيد، وعُبيدُ (¬5) الله بن موسى، وخالد بن عبد الله الطحان، وأبو كُدَيْنَة (¬6) يحيى بن المهلَّب، ورَقَبَة بن مَصْقَلَة (¬7)، ومَعْمَرُ بن سليمان الرَّقِّي، ومرَجَّى بن رجاء، وعمرو بن جرير، ويحيى بن هاشم السمسار، وإبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، وعبد الله بن عثمان - شريك شعبة- وعبد الله بن فرُّوخ، وزيد بن أبي أُنيسة، وجوَّده، فقال: " ستُعَاينُون ربكم عزَّ وجلَّ كما تعاينون هذا القمر ". وأبو شهاب الحنَّاط، وقال: " سترون ربكم عِياناً "، وجارية (¬8) ابن هرم، وعاصم بن حكيم، ومقاتل بن سليمان، وأبو جعفر الرازي، والحسن ابن أبي جعفر، والوليد بن عمرو، وأخوه عثمان بن عمرو (¬9)، وعبد السلام [بن] (¬10) عبد الله بن قُرة (¬11) العنبري، ويزيد بن ¬
حديث صهيب بن سنان
عبد العزيز، وعلي بن صالح بن حي، وزُفَر بن الهذيل، والقاسمُ بن معنٍ. تابع إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس جماعة، منهم: بيان بن بشرٍ، ومُجالدُ بن سعيد، وطارق بن عبد الرحمن، وجرير بن يزيد بن جرير البَجَلِي، وعيسى بن المسيب، كلُّهم عن قيس بن أبي حازم. فكل هؤلاء شهدوا على إسماعيل بن أبي (¬1) خالد، وشهد إسماعيل بن أبي خالد (¬2)، على (¬3) قيس بن أبي حازم، وشهد قيس (¬4) بن أبي حازم (¬5) على (¬6) جرير بن عبد الله، وشهد جريرٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنك تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬7)، وهو يقوله ويبلِّغه لأمته، ولا شيء أقرُّ لأعينهم منه. فصل: وأما حديث صهيبٍ، فرواه مسلم في " صحيحه " من حديث حماد ابن سلمة عن ثابث، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهيبٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دَخَلَ أهل الجنة الجنة، يقول الله عزَّ وجلَّ: تريدون شيئاً أزيدكم؟ يقولون: ألم تُبّيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتُنَجِّنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم " ثم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ} [يونس: 26]. وهذا حديث (¬8) رواه الأئمة عن حماد، وتلقَّوه عن نبيهم بالقبول والتصديق. فصل: وأما حديث عبد الله بن مسعودٍ، فقال الطبراني: حدثنا محمد بن ¬
النضر الأزدي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والحضرمي، قالوا: حدثنا إسماعيل (¬1) بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني، عن أبي عبد الرحيم (¬2)، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن المنهال بن عمرٍو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، حدثنا عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3): " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قياماً أربعين سنة، شاخصةً أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء ". قال (¬4): " وينزل الله عز وجل في ظُلَلٍ مِنَ الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس، ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً أن يُولِّي كلُّ ناس منكم ما كانوا يتولَّون ويعبُدون في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى. قال (4): فينطلق كُلُّ قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولَّون في الدنيا، فينطلقون ويُمَثَّل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون. قال: ويُمَثَّل لمن كان يعبدُ عيسى شيطان عيسى، ويمثَّل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزيرٍ. ويبقى محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته، فيأتيهم الرب عز وجل، فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد، فيقول: هل تعرفونه إذا (¬5) رأيتموه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه علامة إن (¬6) رأيناها عرفناها، قال: فيقول: ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه. قال: فعند ذلك يُكشَفُ عن ساق فيخرُّون ¬
له (¬1) سُجَّداً، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدْعَوْنَ إلى السجود وهم سالمون. ثم يقول: ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم، ويعطيهم نورهم على قدر (¬2) أعمالهم، فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين يديه، ومنهم من يُعطى أصغر من ذلك، ومنهم من يُعطى نوراً مثل النخلة بيمينه (¬3)، ومنهم من يعطى نوراً أصغر من ذلك، حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوره على إبهام قدمه يضيءُ مرُّة، ويُطفَأُ مرة، فإذا أضاء، قدَّم قدمه فمشى (¬4)، وإذا طُفِىء، قام، والرَّبُّ تبارك وتعالى أمامهم، حتى يمرَّ في النار، فيبقى أثرٌ كحدِّ السيف، قال: ويقول: مرُّوا، فيمرون على قدر نورهم (¬5). منهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشدِّ الفرس، ومنهم من يمرُّ كشدِّ الرَّحل، حتى يمر الذي أُعطِيَ نوره على إبهام قدمه يحبو (¬6) على وجهه ويديه ورجليه (¬7) تَخِرُّ (¬8) يدٌ وتَعْلَقُ يدٌ، وتخرُّ رجلٌ وتعلق رجلٌ، وتصيب جوانِبَهُ النار، فلا يزال كذلك حتى يَخلُصَ، فإذا خَلَص، وقف عليها، وقال: الحمد لله، لقد أعطاني الله ما لم يُعطِ أحداً إذ نجَّاني منها بعد إذ رأيتها. قال: فينطلق به إلى غديرٍ عند باب الجنة فيغتسل (¬9)، فيعود إليه ¬
ريحُ أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلال الباب، قيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى له (¬1) اتسأل (¬2) الجنة وقد نجَّيتُك من النار؟! فيقول: رب اجعل بيني وبينها حِجاباً لا أسمع حَسِيسَها، قال: فيدخل الجنة، قال: ويرى (¬3) أو يُرفَعُ له منزلٌ أمام ذلك كأنما (¬4) الذي هو فيه إليه حلمٌ، فيقول: ربِّ أعطني ذلك المنزل، فيقول: فلعلك إن أعطيتُكه (¬5) تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأيُّ منزلٍ يكون أحسن منه، فيعطاه (¬6)، فينزلُه، قال ويرى أمام ذلك منزلاً آخر، كأنما هو فيه إليه حلمٌ، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول الله جل جلاله: فلعلك إن أعطيتُكه (¬7) تسأل غيره؟ قال: لا وعزَّتك، لا أسأل غيره، وأيُّ منزلٍ يكون أحسن منه؟ قال: فيعطى، فينزله، قال: ويرى أو يرفع له أمام ذلك منزلٌ آخر، كأنما هو فيه إليه حُلُم، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول الله جل جلاله: فلعلك إن أعطيتك إياه تسأل (¬8) غيره؟ قال: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأي منزل يكون أحسن منه قال: فيعطاه، فينزله (¬9)، ثم يسكت، فيقول الله عز وجل: مالك لا تسأل؟ فيقول: ربِّ، لقد سألتُك حتى استحييتُك، وأقسمتُ لك حتى استحييتُك، فيقول الله عزَّ وجلَّ: ألا ترضى أن أعطيتك مثل الدنيا مذ يوم خلقتها (¬10) إلى يوم أفنيتها ¬
وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتستهزىء بي، وأنت ربُّ العِزة، فيضحك الرب عز وجل من قوله. قال: فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان (¬1) من هذا الحديث ضَحِكَ. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعتك تحدث هذا (¬2) الحديث مراراً، كلما بلغت هذا المكان ضحكتَ؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدِّث هذا الحديث مراراً، كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو أضراسه. قال: فيقول الرب عز وجل: لا: ولكني على ذلك قادرٌ. سل. فيقول: ألحقني بالناس، فيقول: الحق بالناس قال: فينطلق يرمُل في الجنة حتى إذا دنا (¬3) من الناس، رُفِعَ له (¬4) قصرٌ من دُرَّةٍ، فيخرُّ ساجداً، فيقال (¬5) له: ارفع رأسك، مالك؟ فيقول: رأيت ربي، أو تراءى لي ربي، فيقال له إنما هو منزلٌ مِنْ منازلك، قال: ثم يلقى رجلاً، فيتهيّأُ (¬6) للسجود، فيقال له: مه، مالك؟ فيقول: رأيت أنك ملكٌ من الملائكة، فيقول: إنما أنا خازنٌ من خُزَّانِك، عبدٌ من عبيدك، تحت يدي ألف قهرَمَانٍ على مثل ما أنا عليه. قال: فينطلق أمامه حتى (¬7) يفتح له القصر، قال: وهو في دُرَّةٍ مُجوَّفةٍ سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرةٌ خضراءُ مُبَطَّنَةٌ بحمراء، كل جوهرةٍ تُفضي إلى جوهرةٍ فيها (¬8) سبعون باباً، كل بابٍ يُفضي إلى جوهرة ¬
خضراء مُبطنةٍ بحمراء، كل جوهرةٍ (¬1) تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سُرُرٌ وأزواجٌ ووصائف، أدناهنَّ (¬2) حوراء (¬3) عيناء عليها سبعون حُلَّة، يُرَى مُخُّ ساقها من وراء حُلَلِهَا، كَبِدُها مرآتُه، وكبده مرآتُها، إذا أعرض عنها إعراضةً ازدادت في عينه سبعين ضعفاً عما كانت قبل ذلك، فيقول لها: والله لقد ازددتِ في عيني سبعين ضعفاً، وتقول له: والله وأنت (¬4)، لقد ازددت في عيني سبعين ضعفاً، (¬5) فيقال له: أشرف. قال: فيشرفُ، فيقال له: مُلكُكَ مسيرة مئة (¬6) عام ينفده بصره (¬7). قال فقال عمر: ألا تسمع إلى ما يحدِّثنا ابن أمِّ عبدٍ يا كعب عن أدنى أهلِ الجنة منزلاً، فكيف أعلاهم؟ قال كعبٌ: يا أمير المؤمنين (¬8)، ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، إن الله تعالى جعل داراً فيها ما شاء (¬9) من الأزواج والثمرات والأشربة، ثم أطبقها، فلم يرها أحدٌ من خلقه، لا جبريلُ ولا غيرُه من الملائكة. ثم قرأ كعب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. قال: وخلق دون ذلك جنتين، فزيَّنهما بما شاء، وأراهما من شاء (¬10) من خلقه، ثم قال: من كان في عِلِّيِّين نزل تلك الدار التي لم يرها أحد، حتى إن ¬
الرجل من أهل عِلِّيِّين ليخرج فيسير في ملكه، فما تبقى خيمةٌ من خِيَمِ الجنة (¬1) إلا دخلها من ضوءِ وجههِ، فيستبشرون بريحه، فيقولون، واهاً لهذه الريح، هذا رجل من أهل عِلِّيِّين قد خرج يسير في ملكه. فقال: ويحك يا كعب، هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها. فقال كعب: والذي نفسي بيده، إنَّ لجهنم يوم القيامة لزفرةً ما يبقى من مَلَكٍ مقرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرسلٍ إلاَّ خرَّ لركبتبه (¬2)، حتى إن إبراهيم خليل الله (¬3) عليه السلام يقول: ربِّ نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو (¬4). هذا حديث كبيرٌ حسن رواه المصنِّفون في السنة كعبد الله بن أحمد (¬5)، والطبراني، والدارقطني في كتاب (¬6) " الرؤية ". رواه عن ابن صاعد، حدثنا ¬
حديث علي بن أبي طالب
محمد بن أبي (¬1) عبد الرحمن المقرىء، حدثنا أبي، حدثنا ورقاء بن عمر، حدثنا أبو طيبة، عن كُرز بن وَبْرَةَ، عن نُعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة، عن عبد الله (¬2). ورواه من طريق عبد السلام بن حرب (¬3)، حدثنا الدالاني، حدثنا المنهال ابن عمرو، عن أبي (¬4) عبيدة (¬5). ورواه من طريق زيد بن أبي أُنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة به. ومن طريق أحمد بن أبي طيبة عن كُرز بن وبرة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة. فصل: وأما حديث علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، فقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن المُصَفَّى (¬6)، حدثنا سُويدُ بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن خالد، عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن جده، عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يزور (¬7) أهلُ الجنة الرب تبارك وتعالى في كل جُمعَة، وذكر ما يعطون. قال: " ثم يقول الله تبارك وتعالى: اكشِفُوا حجاباً فيَكشِفُ حجاباً (¬8)، ثم حجاباً، ثم يتجلى لهم تبارك وتعالى عن وجهه، ¬
فكأنهم لم يَرَوا نعيماً قبل ذلك. وهو قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬1) [ق: 35]. فصل: وسيأتي في الآثار عنه عليه السلام شاهدٌ لهذا من طريق ابن أبي حاتم. وتقدم له شاهدٌ عنه عليه السلام في الدليل الخامس من طريق الطبراني، وله طريقٌ رابعةٌ عنه عليه السلام، وهو حديثٌ آخر أخرجه الثعلبي في تفسير قوله: {يستبشِرُون بنعمةٍ من الله وفَضْلٍ} [آل عمران: 171]. ورواه عنه السيد صاحب الأصل المردود بكتاب " العواصم "، فقال السيد (¬2) ما لفظه: وروى الثعلبي بإسناده إلى عليِّ بن موسى الرضى عن أبيه موسى بن جعفر لا عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، وقد سأله شابٌ وهو يخطب ويحثُّ على الجهاد، عن فضل الغُزاة، فقال عليه السلام: كنت رديفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته العضباء، فسألته عما سألتني عنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الغُزَاة إذا همُّوا بالغزاة، كتب الله لهم براءة من النار " ... وساق الحديث في فضلهم وختمه بقول: " فينظرون إلى الله تعالى بُكرةً وعَشِيّاً ". انتهى. وأقل أحوال هذه الطرق الأربع أن يمتنع دعوى العلم القاطع بإجماع أهل البيت، خصوصاً مع ما في " الجامع الكافي على مذهب الزيدية " من مخالفة الأوائل لمن تأخر في الاعتقاد عموماً، ثم مخالفة بعضُ أكابرهم في هذه المسألة خصوصاً. وهذا الكتاب (¬3) الجامع الكافي " عمدة الزيدية في الكوفة، ¬
حديث أبي موسى الأشعري
وموجودٌ في خزائن أئمتهم في اليمن كما ذكرته في الكلام على مسألة الأفعال، والذي أخرجه إلى اليمن السيد أحمد بن أمير الجيلى الزيدي الناصري العلامة الشهير، وخطُّه المعروف عليه بذلك مع ما يشهد (¬1) بمخالفة الأوائل لمتأخريهم في الاعتقاد مثل ما ذكره محمد بن منصور الزيدي، في كتابه " علوم آل محمد " في أول كتاب الحجِّ منه من (¬2) حديث النزول، وقوله في تأويله إن الله تعالى لا يزول من (¬3) مكانه، ونحو ذلك، قد ذكر مبسوطاً. فصل: وأما حديث أبي موسى، ففي " الصحيحين " عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلاَّ رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدنٍ " (¬4). وقال الإمام أحمد (¬5): حدثنا حسن بن موسى وعفان، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيدٍ، عن عمارة، عن أبي بُردَة، عن أبي موسى، قال: قال (¬6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله الأمم في صعيدٍ واحدٍ يوم القيامة، فإذا بدا (¬7) ¬
حديث عدي بن حاتم
لله أن يصدع بين خلقه مثَّلَّ لكل قومٍ (¬1) ما كانوا يعبدون، فيتبعونهم حتى يقحمونهم النار، ثم يأتينا ربنا عزَّ وجلَّ ونحن في مكانٍ رفيعٍ، فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون فيقول: ما تنتظرون؟ فنقول: ننتظر ربنا عز وجل، فيقول: وهل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم إنه لا عِدْلَ له، فيتجلى لنا ضاحكاً فيقول (¬2): أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس منكم أحد إلاَّ جعلتُ في النار يهودياً أو نصرانياً مكانه ". وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمارة القرشي، عن أبي بردة عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يتجلى لنا ربنا تبارك وتعالى ضاحكاً يوم القيامة (¬3). وذكر الدارقطني من حديث أبان بن أبي عيَّاش، عن أبي تميمة الهُجيمي (¬4)، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يبعث الله يوم القيامه منادياً بصوتٍ يسمعُه أولهم وآخرهم: إن الله عز وجل وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى (¬5): الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ " (¬6). فصل: وأما حديث عديِّ بن حاتم، ففي " صحيح البخاري " (¬7) قال: بينما ¬
أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجلٌ، فشكا (¬1) إليه الفاقة، ثم أتى إليه (¬2) آخرٌ فشكا إليه قطع السبيل، فقال: " يا عديُّ، هل رأيت الحيرة؟ " فقلت: لم أرها، وقد أُنبِئتُ عنها. قال: " فإن طالت بك حياةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلاَّ الله "، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعَّار (¬3) طيِّءٍ الذين سعَّروا البلاد؟ " ولئن طالت بك حياة لتُفتَحَنَّ كنوز كسرى ". قلت: كسرى (¬4) بن هرمز؟! قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الرجل يُخرِجُ ملءَ كفِّه من ذهبٍ أو فضةٍ يطلبُ من يقبله منه فلا يجد أحداُ يقبله منه، ولَيَلقيَنَّ الله أحدُكم يوم يلقاه (¬5) وليس بينه وبينه حجاب ولا تُرجُمانٌ يُترجِمُ له، فليقولن (¬6): ألم أبعث إليك رسولاً يبلِّغك؟ فيقول: بلى يا رب. فيقول: ألم أُعطِكَ مالاً وأفضِل عليك؟ فيقول بلى (¬7)، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلاَّ جهَنَّم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلاَّ جهنم ". قال عدي: فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شقَّ تمرةٍ، فبكلمةٍ طيبةٍ ". قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحِلُ من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬
حديث أنس بن مالك
فصل: وأما حديث أنس بن مالك، ففي " الصحيحين، من حديث سعيد ابن أبي (¬1) عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتَمُّون بذلك وفي لفظ فيُلهمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يُريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هُناكُم. فيذكر (¬2) خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا نوحاً أول رسولٍ بعثه الله عز وجل. قال: فيأتون نوحاً، فيقول: لستُ هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها (¬3)، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم، ويذكر (¬4) خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها ولكن ائتوا موسى الذي كلَّمه الله تكليماً، وأعطاه التوراة، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله، وكلمته، فيقول: لست هناكم، ولكن (¬5) ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، عبداً قد غفر الله له (¬6) ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر ". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فيأتوني، فأستأذنُ على ربي، فيؤذَنُ لي، فإذا أنا (¬7) رأيته، فأقع ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تعطَه، واشفع تُشفَّعْ، فأرفعُ رأسي، فأحمد ربي بتحميدٍ يُعَلِّمُنيه ¬
ربِّي، فأشفع فيحُدُّ لي حدّاً، فأُخرِجُهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعودُ فأقع ساجداً، فيدعُني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، وقُل (¬1) تُسمع، وسل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع، فأرفعُ رأسي، فأحمد ربي بتحميدٍ يعلِّمُنيه ربي، ثم أشفع فيحُدُّ لي حدّاً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، قال: فلا أدري في الثالثة أو في (¬2) الرابعة. قال: فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلاَّ من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود (¬3). وذكر ابن خزيمة عن ابن عبد الحكم عن أبيه وشعيب بن الليث عن الليث، حدثنا معتمر (¬4) بن سليمان، عن حميد، عن أنس، قال: " يلقى الناس يوم القيامة ما شاء الله أن يلقَوهُ من الحبس، فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم فيشفع لنا إلى ربنا "، فذكر الحديث ... إلى إن قال: " فينطلقون إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: أنا لها، فأنطلِقُ حتى أستفتح باب الجنة، فيُفتح لي (¬5)، فأدخلُ وربي على عرشه فأخرُّ ساجداً ... وذكر الحديث (¬6). ¬
وقال أبو (¬1) عوانة وابن أبي عروبة وهمام وغيرهم عن أنس في هذا الحديث: " فاستأذِنُ على ربي، فإذا رأيتُه، وقعت ساجداً. وساقه ابن خزيمة بسياقٍ طويل، وقال فيه: فأستفتح، فإذا نظرت إلى الرحمن وقعت له ساجداً. ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه في هذا المقام ثابتةٌ عنه ثبوتاً يقطع به أهل العلم بالحديث والسنة. وفي حديث أبي هريرة (¬2): " أنا أول من تنشق عني الأرض يوم القيامة، ولا فخر، أنا (¬3) سيد ولد آدم ولا فخرٌ، وأنا صاحب لواء الحمد ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، آخُذُ بحلقة باب الجنة، فيُؤذن لي، فيستقبلني وجهُ الجبَّار جل جلاله، فأخرُّ له ساجداً ". وقال الدارقطني: حدثنا محمد بن إبراهيم النسائي المعدَّل بمصر، حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر القاضي، حدثنا أبو بكر إبراهيم بن محمد، حدثنا الخليل بن عصر الأشجُّ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قولِ الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (¬4). ¬
حدثنا أبو صالح عبد الرحمن بن سعيد بن هارون الأصبهاني، ومحمد بن جعفر بن أحمد الطبراني، ومحمد بن علي بن إسماعيل الأيلي، قالوا: حدثنا عبد الله بن روحٍ المدائني، حدثنا سلام بن سليمان، حدثنا ورقاءُ وإسرائيل وشعبة وجرير بن عبد الحميد، كلهم قالوا: حدثنا (¬1) ليثٌ عن عثمان بن أبي حُميد، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أتاني جبريل وفي كفِّه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنُّكتَة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدِكَ يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة، فقلت: وما الجُمعة؟ فقال: لكم فيها خيرٌ كبيرٌ. قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: تكون عيداً لك ولقومك من بعدك، ويكون اليهود والنصارى تبعاً لكم، قلت (¬2): وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبدٌ فيها شيئاً هو له قسمٌ (¬3) إلاَّ أعطاه إياه، أو ليس له بقسمٍ إلاَّ ادَّخر لهُ في آخرته ما هو أعظم له منه. قلت: ما هذه النكتة التي فيها؟ قال: هي الساعة، ونحن ندعوه (¬4) يوم المزيد، قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال: إن ربك اتَّخذ في الجنة وادياً فيه كُثبانُ المسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عِلِّيِّين على كرسيه، فيُحَفُّ الكرسيُّ بكراسي من نورٍ، فيجيء النبيون حتى يجلسوا (¬5) على تلك الكراسي، وتُحَفُّ الكراسي (¬6) بمنابر من نورٍ ومن ذهبٍ مُكَلَّلةٍ بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غُرفِهم حتى يجلسوا على تلك الكُثبان، ثم يتجلى لهم (¬7) عز وجل، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت علكيم نعمتي، ¬
وهذا محل كرامتي، فسلوني. فيسألون حتَّى (¬1) ننتهي رغبتهم، فيُفتح لهم في ذلك (¬2) ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ، وذلك بمقدار مُنْصرفِكُم من الجمعة. ثمَّ يرتفعُ على كرسيه عز وجل. ويرتفع معه النبيون والصديقون، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم، وهي لؤلؤة بيضاء (¬3) أو زبرجَدَةٌ خضراء، أو ياقوتةٌ حمراء، غُرفُها وأبوابها فيها، أنهارُها مُطَّرِدَةٌ فيها، وأزواجها وخدَّامها، وثمارُها متدلِّيَةٌ فيها، فليسوا إلى شيءٍ أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا نظراً إلى ربِّهم، ويزدادوا منه كرامة (¬4). ¬
هذا حديثٌ كبيرٌ عظيم الشأن رواه أئمة السنة (¬1) وتلقَّوه بالقبول، وجَمَّلَ به الشافعي " مسنده " (¬2). فرواه فيه عن إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة قال حدثني أبو الأزهر عن عبد الله بن عبيد بن عمير، أنه سمع أنس بن مالك فذكره بنحوه. وقد تقدم لفظه. قال الشافعي (¬3): أخبرنا إبراهيم، قال حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنس شبيهاً به، وزاد فيه أشياء (¬4). ورواه محمد بن إسحاق، قال: حدثني ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن أنس، به. وقال فيه: " ثم يتجلى (¬5) لهم ربُّهم حتى ينظروا إلى وجهه الكريم " .. وذكر (¬6) باقي الحديث. ورواه عمر بن أبي قيسٍ (¬7) عن أبي طيبة، عن عاصمٍ، عن عثمان بن عُميرٍ، عن (¬8) أبي اليقظان، عن أنس وجوَّده وفيه: " فإذا كان يوم الجمعة، نزل على كرسيه، ثم حُفَّ الكرسى بمنابر من نور، فيجيء النبيون حتى يجلسوا عليها، ويجيء أهل الغُرَف حتى يجلسوا على الكُثُب، قال: ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، فينظرون إليه، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محلُّ كرامتي، فسلُوني، فيسألونه الرِّضا، قال: رضاي أنزلكم داري، وأنالَكُم كرامتي، فسلوني (¬9)، فيسألونه الرضا. قال: فيشهدهم ¬
بالرضا، ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم ... وذكر الحديث. ورواه علي بن حرب، حدثنا إسحاق بن سليمان، حدثنا عنبسة بن سعيد، عن عثمان بن عُمَيْرٍ. ورواه الحسن بن عرفة، حدثنا عمار بن محمد (¬1) ابن أخت سفيان الثوري، عن ليث ابن أبي سليم، عن عثمان، وقال فيه: " ثم يرتفع على كرسيِّه، ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء، ويرجِعُ أهل الغُرَف إلى غُرَفِهِم ". ورواه الدارقطني من طريق أخرى من حديث قتادة، عن أنس، قال: سمعته يقول: بينا نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ (¬2) قال: " أتاني جبريل في يده كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، قلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة يعرضه عليك ربك ليكون لك عيداً ولأُمَّتك من بعدك قال: قلت: يا جبريل، ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة، وهي تقوم يوم الجمعة، وهو سيد أيام الدنيا، ونحن ندعوه في الجنة يوم المزيد. قال: قلت (¬3): يا جبريل ولِمَ تدعوه يوم المزيد. قال: إن الله عزَّ وجلَّ اتخذ وادياً أفيح من مسكٍ أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل ربُّنا عزَّ وجلَّ على كرسيه إلى ذلك الوادي، وقد خُفَّ العرش بمنابر من ذهبٍ مُكَلَّلةٍ بالجوهر، وقد حُفَّت تلك المنابر بكراسي من نورٍ، ثم يُؤذن لأهل الغرف، فيُقبلون يخوضون كثبان المسك إلى الرُّكَبِ، عليهم أسورة الذهب والفضة وثياب السندس والحرير، حتى ينتهو إلى ذلك الوادي. فإذا اطمأنوا فيه جلوساً، بعث الله عليهم ريحاً يقال لها: المُثيرة، فثارت (¬4) ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وثيابهم، وهم (¬5) ¬
يومئذ جُرْدٌ، مُرْدٌ، مُكَحَّلون، أبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم يوم خلقه عز وجل، فينادي ربُّ العزة تبارك وتعالى رضوان -وهو خازن الجنة- فيقول: يا رضوان، ارفع الحُجُب بيني وبين عبادي وزُوَّاري. فإذا رفع الحجب بينه وبينهم، فرأوا بهاءه ونوره هُيِّئوا (¬1) له بالسجود، فيناديهم تبارك وتعالى بصوته: ارفعوا رؤوسكم، فإنما كاذت العبادة في الدنيا، وأنتم اليوم في دار الجزاء، سلوني ما شئتم، فأنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فهذا محلُّ كرامتي، فسلوني ما شئتم، فيقولون: ربنا، وأيُّ خير لم تفعله بنا؟! ألستَ الذي أعنتنا على سكرات الموت، وآنست منا الوحشة في ظلمة القبور، وأمَّنت روعتنا عند (¬2) النفخة في الصور؟ ألست (¬3) أقلتنا عثراتنا (¬4)، وسترت علينا القبيح من فعلنا، وثبَّتَّ على جسر جهنَّم أقدامنا؟ ألست الذي أدنيتنا من جوارك، وأسمعتنا لَذَاذَةَ منطقك، وتجلَّيت لنا بنورك؟ فأي خيرٍ لم تفعله بنا؟ فيعود الله عز وجل، فيناديهم بصوته، فيقول: أنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فسلُوني، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: برضاي عليكم: أقلتُكُم عثراتكم، وسترتُ عليكم القبيح من أموركم، وأدنيتُ مني جواركم، وأسمعتكم لذاذة منطقي، وتجليت لكم بنوري، فهذا محل كرامتي، فسلوني، فيسألونه (¬5) حتى تنتهي (¬6) مسائلهم، ثم يقول عز وجل: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، ثم يقول عز وجل: سلوني، فيقولون: رضينا ربنا وسلَّمنا، فيُريهم من مشهد فضله وكرامته ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، ويكود ذلك مقدار تفريقهم (¬7) من الجمعة. ¬
فقال أنسٌ: فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما مقدار تفرقهم؟ قال: كقدر الجُمعة إلى الجمعة (¬1) قال: ثم يحمل عرش ربنا تبارك وتعالى معهم الملائكة والنبيون، ثم يُؤذن لأهل الغرف، فيعودون إلى غرفهم، وهما غرفتان من زُمرُّدتين (¬2) خضراوين، وليسوا في شيءٍ أشوق منهم إلى الجمعة لينظروا إلى ربهم عز وجل، وليزيدهم من مزيد فضله وكرامته. قال أنس: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه أحدٌ. ورواه الدارقطني أيضاً عن أبي بكر النيسابوري، قال: أخبرني العبَّاس بن الوليد بن مَزْيَد (¬3)، قال: أخبرني محمد بن شعيب، قال: أخبرني عمر مولى غُفرة، عن أنس (¬4). ورواه محمد بن خالد بن خليّ (¬5)، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان، قال: قال أنسٌ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬6) ... ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث، عن عثمان بن عُمير (¬7) عن أنس (¬8) ... ¬
حديث بريدة بن الحصيب
ورواه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خُزيمة، عن زهير بن حرب، حدثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن عثمان بن حُميد، عن أنس ... ورواه عن الأسود بن عامر، قال: ذكر لي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس (¬1). ورواه ابن بطة (¬2) في " الإبانة " من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (¬3) وسيأتي سياقه، وقد جمع ابن أبي داود طُرُقَهُ. فصل: وأما حديث بريدة بن الحصيب، فقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا أبو خالد عبد العزيز بن أبان القُرشي، حدثنا بشير (¬4) بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحدٍ إلاَّ سيخلو الله به يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب ولا تَرْجُمان " (¬5). فصل: وأما حديث أبي رزين العُقيلي، فرواه الإمام أحمد من حديث شعبة ¬
وحماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدس، عن أبي رزين، قال: قلنا يا رسول الله، أكلُّنا يرى ربه عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟ قال: " نعم " قلت: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: " أليس كلَّكم ينظر إلى القمر ليلة البدر؟ قلنا: نعم. قال: " الله أكبر وأعظم " (¬1)، قال عبد الله: قال أبي: والصواب حُدُس (¬2). وقال أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ابن سلمة، به. فقد اتفق شعبة، وحماد بن سلمة، وحسبُك بهما على روايته (¬3) عن يعلى ابن عطاء ورواه الناس عنهما، وعن أبي رزين فيه إسناد آخر، قد تقدم ذكره في حديثه الطويل، وأبو رزين العُقيلي له صحبة، وعِدادُه من أهل الطائف، وهو لقيط بن عامر، ويقال: لقيطُ بن صَبِرَة، هكذا قال البخاري (¬4) وابن أبي حاتم (¬5) وغيرهما، وقيل: هما اثنان، ولقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة، والصحيح الأول. وقال ابن عبد البر (¬6) [فمن] قال لقيط بن صبرة: نسبه إلى جده، وهو لقيطُ ¬
حديث جابر بن عبد الله
ابن عامر بن صبرة. فصل: وأما حديث جابر بن عبد الله: فقال الإمام أحمد، حدثنا روح (¬1)، حدثنا ابن جريج (¬2)، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمِع جابراً يسأل عن الورود، فقال: نجيءُ (¬3) يوم القيامة على كذا وكذا أي فوق الناس - فتُدْعَى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبُدُ: الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربَّنا، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك. فيتجلى لهم تبارك وتعالى يضحك. قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطي كل إنسان (¬4) منهم، منافقٍ أو مؤمنٍ نوراً، ثم يتبعونه على جسر جهنم، وعليه كلاليب وحَسَكٌ تأخذ من شاء (¬5) الله تعالى، ثم يُطْفَأ نورُ المنافق، ثم ينجو المؤمنون. فتنجو أوَّل زُمرةٍ، وجوهُهُم كالقمر ليلة البدر، وسبعون ألفاً لا يُحاسَبُون، ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تَحِلُّ الشفاعة حتى يخرج من النار من يقول (¬6): لا إله إلاَّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبُتُوا نبات الشيء في السيل، ويذهب حُراقُه، ثم يسأل، حتى يجعل الله له الدنيا وعشرة (¬7) أمثالها معها " رواه مسلم في " صحيحه " (¬8). ¬
وهذا الذي وقع في الحديث من قوله: كذا كذا قد جاء مفسراً في رواية صحيحة ذكرها عبد الحق (¬1) في " الجمع بين الصحيحين ": نجيء يوم القيامة على تلٍّ مشرفين على الخلائق. وقال عبد الرزاق: أخبرنا رباح بن زيد، قال: حدثني ابن جريج، قال: أخبرني زيادُ بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يتجلى لنا الرب تبارك وتعالى ننظر إلى وجهه، فيَخِرُّون له سُجَّداً، فيقول ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا بيوم عبادةٍ " (¬2). وقال الدارقطني: أخبرنا أحمد بن عيسى بن السَّكن، حدثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس، (¬3) حدثنا محمد بن شرحبيل الصنعاني، قال: حدثني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يتجلَّى لنا ربنا عزَّ وجلَّ يوم القيامة ضاحكاً ". وروى أبو قُرَّة عن مالك بن أنسٍ، عن زياد بن سعد، حدثنا أبو الزبير، عن جابر، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا كان يوم القيامة، جُمعت الأمم " ... فذكر الحديث. وفيه: " يقول: أتعرفون الله عزَّ وجلَّ إن رأيتموه، فيقولون: نعم (¬4) ¬
فيقول: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عِدْلَ له. قال: فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى، فيخرون له سُجَّداً (¬1). وقال ابن ماجه في " سننه " (¬2)، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصمٍ العَبَّاداني، عن فضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سَطَعَ لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قوله عز وجلَّ: {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58]. فلا يلتفتون إلى شيءٍ مِمَّا هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى فيهم بركته ونوره ". وقال: حربٌ (¬3) في " مسائله ". حدثنا يحيى بن أبي حزم، حدثنا يحيى بن محمد أبو عاصم العباداني، فذكره، وعند البيهقي في هذا الحديث سياقٌ آخر، رواه أيضاً من طريق العباداني عن الفضل بن عيسى، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أهل الجنة في مجلس لهم، إذ سطع لهم نورٌ على باب الجنة فيرفعون رؤوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى قد ¬
أشرف، قال: يا أهل الجنة سلوني، قالوا: نسألك الرضا عنا، قال: رضاي: أحَلَّكم داري، وأنالكم كرامتي هذا (¬1) أوانها، فسلوني. قالوا: نسألك الزيادة قال: فيؤتَون بنجائب من ياقوتٍ أحمر، أزِمَّتُها زمرُّدٌ أخضر، وياقوت أحمر، فجاؤوا عليها تضع حوافرها عند منتهى طرفها، فيأمر الله عز وجل بأشجارٍ عليها الثمار فتجيء جواري الحور العين (¬2)، وهنَّ يقُلن: نحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الخالدات، فلا نموت، أزواج قومٍ مؤمنين (¬3) كرام، ويأمر الله عز وجل بكُثبانٍ من مسكٍ أبيض أذفر، فيُثير (¬4) عليهم ريحاً يقال لها: المثيرة حتَّى تنتهي بهم إلى جنة عدنٍ، وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا، قد جاء القوم، فيقول: مرحباً بالصادقين (¬5)، مرحبا بالطائعين. قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون الله تبارك وتعالى، فيتمتعون بنور الرحمن حتى لا ينظر بعضهم بعضاً، ثم يقول: أرجعوهم إلى قصورٍ (¬6) بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضاً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك قوله تعالى: {نُزُلاً من غَفُورٍ رحيمٍ} [فصلت: 32] رواه في كتاب " البعث والنشور " (¬7) وفي كتاب " الرؤية ". قال: وقد مضى في هذا الكتاب، وفي كتاب " الرؤية " ما يؤكد هذا الخبر. وقال الدارقطني: حدثنا الحسن بن إسماعيل، حدثنا أبو الحسن علي بن عبدة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله عزَّ وجلَّ يتجلى للناس عامة، ويتجلى لأبي بكرٍ خاصةً " (¬8). ¬
حديث أبي أمامة
فصل: وأما حديث أبي أمامة، فقال ابن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن عطاءٍ الخُراساني، عن يحيى بن أبي (¬1) عمرو الشيباني، عن عمرو بن عبد الله ¬
حديث زيد بن ثابت
الحضرمي، عن أبي أُمامة، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فكان أكثر خطبته ذكر الدجال، يحذِّرُنَاه، ويحدثنا عنه، حتي فرغ من خطبته فكان فيما قال لنا يومئذٍ: " إن الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبياً إلاَّ حذَّره (¬1) أمته وإني آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارجٌ فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين أظهركم، فأنا حجيح كل مسلم، وإن يخرج فيكم بعدي، فكل امرىءٍ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه يخرج من خَلَّةٍ بين العراق والشام عاث يميناً وعاث شمالاً. يا عباد الله، اثبتوا، فإنه (¬2) يبدأ فيقول: أنا نبي. ولا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم، ولن تَرَوْ ربكم حتى تموتوا، وإنه مكتوبٌ بين عينيه " كافر " يقرؤه كل مؤمن (¬3)، فمن لقيه منكم (¬4)، فليتفُلْ في وجهه، وليقرأ بفواتح سورة أصحاب (¬5) الكهف، وإنه يُسلَّط (¬6) على نفس من بني آدم فيقتلها ثم يحييها، وانه لا يعدو ذلك، ولا يُسلَّط على نفسٍ غيرها، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فنارُه جنة، وجنته نارٌ، فمن ابتُلِيَ بناره فليُغمض عينيه، وليستغث بالله تكون (¬7) برداً وسلاماً، كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وإن أيامه أربعون يوماً: يوماً كسنة، ويوماً كشهرٍ، ويوماً كجمعةٍ، ويوماً كالأيام، وآخر أيامه كالسراب، يصبح الرجل عند باب المدينة، فيُمسي قبل أن يبلغ بابها الآخر " قالوا: فكيف نُصَلِّي يا رسول الله في تلك الأيام؟ قال: تقدُرُون فيها كما تقدرون في الأيام الطِّوال (¬8). ¬
ورواه الدارقطني عن ابن صاعد، عن أحمد بن الفرج، عن ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو به مختصراً. فصل: وأما حديث زيد بن ثابت: فقال الإمام أحمد: حدثنا أبو (¬1) المغيرة، قال: حدثني أبو بكر، قال: حدثني ضمرة بن حبيب، عن زيد بن ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه دعاء، وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، قال: " قل كل يوم حين تصبح: لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك، ومنك وإليك، اللهم ما قلتُ من قول أو نذرتُ من نذرٍ أو حلفتُ من حَلفٍ، فمشيئتك ببن يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك، إنك على كل شيءٍ قدير اللهم وما صليت من صلاةٍ، فعلى من صليت، وما لعنت من لعنة، فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً، وألحقني بالصالحين، أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلي لقائك من غير ضرَّاء مضرَّة، ولا فتنةٍ مضلَّةٍ، أعوذ بك -اللهم- أن أظلِمَ أو أُظلم، أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ، أو أكسِبَ خطيئةً مُحبطًة، أو ذنباً لا يُغفر. اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، وأشهدك - وكفى بك شهيداً ¬
حديث عمار بن ياسر
أني أشهد أنه لا إله إلاَّ أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك، ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حقٌ (¬1)، والساعة آتية لاريب فيها، وأنت تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تَكِلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعةٍ (¬2) وعورةٍ وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلاَّ برحمتك، فاغفر لي ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم " (¬3). رواه الحاكم في " صحيحه " (¬4). فصل: وأما حديث عمار بن ياسر، فقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق الأزرق عن شريك، عن أبي هاشم، عن أبي مِجْلَزٍ، قال: صلى بنا عمار، فأوجز، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أُتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال (¬5): أمَّا إني قد دعوت فيها بدعاءٍ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة ¬
حديث عائشة
خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنا، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرةٍ، ولا فتنةٍ مضلة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين (¬1). وأخرجه ابن حبان والحاكم في " صحيحيهما ". فصل: وأما حديث عائشة ففي " صحيح الحاكم " من حديث الزهري، عن عُروة عنها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجابر: " يا جابر، ألا أبشِّرُك "؟ قال: بلى بشرك الله بخيرٍ. قال: أشعرت (¬2) الله أحيا أباك، فأقعده (¬3) بين يديه، فقال تمنَّ (¬4) علي عبدي ما شئت أعطكَهُ (¬5)، قال: يا ربِّ، ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تَرُدَّني إلى الدنيا، فأقاتل مع نبيك فأُقتَلَ (¬6) فيك مرة أخرى. قال: إنه قد سلف مني أنك إليها لا ترجع (¬7). ¬
حديث عبد الله بن عمر
وهو في " المسند " من حديث جابر، وفي " المسند " أدخله. وللترمذي فيه سياق أتمُّ من هذا عن جابر، قال: لما قُتِلَ عبد الله بن عمرو ابن حرامٍ يوم أحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا جابر، ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك "؟ قال: بلى. قال: " ما كلَّم أحداً إلاَّ من وراء حجابٍ، وكلم أباك كِفَاحاً، فقال: يا عبد الله تَمَنَّ (¬1) عليَّ أُعطك (¬2). قال: يا ربِّ، تحييني فأُقتل فيك ثانيةً، قال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب، فأبلغ مَنْ ورائي، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ... } الآية [آل عمران: 169]. قال الترمذي (¬3) هذا حديث حسن غريب. قلت: وإسناده صحيح رواه الحاكم في " صحيحه ". فصل: وأما حديث عبد الله بن عمر، فقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد (¬4) عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير (¬5) بن أبي فاختة. ¬
وقال الطبراني: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم، عن عبد الملك بن أبجر، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في مُلكه ألفي سنةٍ يرى أقصاه مثل ما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه، وسُرُره، وخدَمِه، وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه الله تبارك وتعالى كل يوم مرتين " (¬1). قال الترمذي: وروي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعاً. ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثُويرٍ، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفاً. وروى الأشجعي عبيد الله، عن الثوري، عن ثوير، عن مجاهد (¬2)، عن ابن عمر قوله، ولم يرفعه، حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير عن مجاهد، عن ابن عمر، نحوه ولم يرفعه. قلت: رواه الحسن بن (¬3) عرفة، عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعاً، وزاد فيه، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬4). وقال (¬5) سعيد بن هُشيم بن بشير، عن أبيه، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوم القيامة أول يومٍ نظرت فيه عينٌ إلى ¬
الله تبارك وتعالى" (¬1). رواه الدارقطني عن جماعةٍ، عن أحمد بن يحيى بن حيَّان الرَّقِّي عن إبراهيم بن خرّزاد (¬2)، عنه. وقال الدارقطني، حدثنا أحمد بن سليمان (¬3)، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الحميد بن صالح، حدثنا أبو شهاب الحنَّاط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ألا أخبركم بأسفل أهل الجنة "؟ قالوا: بلى يا رسول الله ". فذكر الحديث إلى أن قال: " حتى إذا بلغ النعيم منهم كُلَّ مبلغٍ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، أشرف الرب تبارك وتعالى عليهم، فينظرون إلى وجه الرحمن عز وجل، فيقول: يا أهل الجنة، هلِّلُوني، وكبِّروني وسبِّحوني بما (¬5) كنتم تهللوني وتكبروني ¬
وتسبحوني في دار الدنيا، فيتجاوبون بتهليل الرحمن، فيقول تبارك وتعالى لداود: يا داود، قم فمجِّدني، فيقوم داود. فيمجد ربَّه عزَّ وجلَّ" (¬1). وقال عثمان بن سعيد الدارمي (¬2) في رده على بشر المريسي (¬3): حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحنَّاط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، أن ابن عمر رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهل الجنة إذا بلغ منهم النعيم كل مبلغ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، تجلى لهم الرب تبارك وتعالى، فنظروا (¬4) إلى وجه الرحمن، فنسوا كل نعيمٍ عاينوه حين نظروا إلى وجه الرحمن (¬5). وخرَّج الحاكم في " المستدرك " في تفسير سورة الأنعام (¬6) من حديث عُبيد المُكتِبِ، عن مجاهد، عن ابن عمر "أن الله احتجب من الخلق بأربعة: بنارٍ ¬
حديث عمارة بن رويبة
وظُلمَةٍ ونورٍ وظلمةٍ". وقال: صحيح الإسناد (¬1). فصل. وأما حديث عمارة بن رُويبة، فقال ابن بطة في " الإبانة ": حدثنا عبد الغافر بن سلام الحمصي، حدثنا محمد بن عوف بن سفيان الطائي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي بكر بن عُمارة (¬2) بن رُويبة، عن أبيه، قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضارُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبُوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا (¬3) ". قال ابن بطة: وأخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد، عن أبي بكر أحمد بن هارون، حدثنا عبد الرزاق بن منصور، حدثنا المغيرة، حدثنا المسعودي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة، عن أبيه، قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون الله (¬4) تبارك وتعالى كما ترون هذا القمر لا تُضامون (¬5) في رؤيته، فإن استطعتم ألاَّ تغلبوا على ركعتين ¬
حديث سلمان الفارسي
قبل طلوع الشمس، ولا ركعتين قبل غروبها، فافعلوا " (¬1). فصل: وأما حديث سلمان الفارسي فقال أبو معاوية: حدثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، قال: يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: يا نبيَّ الله، إن الله فتح بك، وختم بك، وغفر لك، قم، فاشفع لنا إلى ربك. فيقول: نعم، أنا صاحبكم، فيخرج يحوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة، فيأخذ بحلقة الباب، فيقرع، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد. قال: فيفتح له، فيجيء حتى يقوم بين يدي الله، فيستأذن في السجود فيؤذن له ... الحديث (¬2). فصل: وأما حديث حذيفة بن اليمان، فقال ابن بطة: أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد، عن أبي بكر أحمد بن هارون، حدثنا يزيد بن جمهور، حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري، حدثنا أبي، عن إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيَّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان (¬3). وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، وأحمد بن عمرو بن عُبيدة العُصفري، قالا: حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مُطيَّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني جبريل، فإذا في كفِّه مرآةٌ كأصفي المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكتة سوداء. ¬
قال: قلت يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذه الدنيا صفتها وحسنها قال: قلت: وما هذه اللمعة في وسطها؟ قال: هذه الجمعة، قال: قلت: وما الجمعة؟ قال: يوم من أيام ربك عظيمٌ، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الآخرة، أما شرفه وفضله في الدنيا، فإن الله تبارك وتعالى جمع فيه أمر الخلق، وأما ما يُرجى فيه، فإن فيه ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله فيها خيراً إلاَّ أعطاهما إياه، وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة، فإن الله عزَّ وجلَّ إذا صير أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وجرت عليهم أيامهما وساعاتهما ليس بها ليلٌ ولا نهارٌ، إلاَّ قد علم الله مقدار ذاك وساعاته. فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرُزُ أو يخرج فيه أهل الجنة إلى جمعتهم، نادى منادٍ يا أهل الجنة، اخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعته وطوله وعرضه إلاَّ الله عز وجل، في كثبانٍ من المسك، قال: فيخرج غِلمان الأنبياء بمنابر من نورٍ، ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوتٍ. قال: فإذا وُضِعَت لهم، وأخذ القوم مجالسهم، بعث الله عليهم -عز وجل- ريحاً تدعى المُثيرة، تنثرُ (¬1) عليهم أناثير المسك الأبيض، فتدخله من تحت ثيابهم، وتخرجه في وجوههم (¬2) وأشعارهم فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من امرأة أحدكم لو دُفِعَ إليها كل طيبٍ على وجه الأرض، لكانت تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دُفع إليها ذلك الطيب (¬3) بإذن الله تعالى. قال: ثم يوحي الله سبحانه إلى حملة العرش، فتوضَعُ بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحُجُبُ، فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فاسألوني، فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمةٍ واحدةٍ: ربِّ (¬4) رضينا عنك، فارض ¬
عنا. قال: فيرجعُ الله تعالى في قولهم: أن يا أهل الجنة، إنِّي لو لم أرض عنكم، ما أسكنتُكم جنتي، فاسألوني، فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمةٍ واحدةٍ: ربِّ وجهك، رب وجهك، أرنا ننظر إليه. قال: فيكشف الله تبارك وتعالى تلك الحُجب، ويَتَجلَّى لهم، فيغشاهم من نوره شيءٌ، لولا أنه قضى عليهم أن لا يحترقوا (¬1) لاحترقوا مِمَّا غشيهم من نوره. قال: ثم يقال: ارجعوا إلى منازلكم. قال: فيرجعون إلى منازلهم وقد خَفُوا على أزواجهم وخَفِينَ عليهم مما غشيهم من نوره، وإذا صاروا إلى منازلهم ترادّ النور وأمكن، وترادَّ وأمكن (¬2)، حتى يرجعوا إلى صُورهم التي كانوا عليها. قال: فيقول لهم أزواجهم: لقد خرجتم من عندنا على صورةٍ ورجعتم على غيرها. قال: فيقولون: ذلك بأن الله تبارك وتعالى تجلَّى لنا، فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم. قال: فلهم في كل سبعة أيامٍ الضعف (¬3) على ما كانوا فيه. قال: فذلك قوله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [السجدة: 17] (¬4). وقال عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل. عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد السعدي عن حذيفة في قوله عزَّ وجلَّ (¬5): {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. قال: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (¬6). ¬
قال الحاكم: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع (¬1). ¬
حديث ابن عباس
فصل: وأما حديث ابن عباس، فروى ابن خزيمة من حديث حماد بن سلمة عن ابن جُدعان، عن أبي نضرة، قال: خَطَبَنَا ابن عباس، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبيٍّ إلاَّ له دعوةٌ يعجلها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فآتي باب الجنة، فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فآتي ربي وهو على كرسيه أو سريره، فيتجلى لي ربي، فأخِرُّ له ساجداً " (¬1). ورواه ابن عيينة عن ابن جدعان، فقال: عن أبي سعيد بدل ابن عباس. وقال أبو بكر بن أبي داود، حدثنا عمي (¬2) محمد بن الأشعث، حدثنا ابن جبير، قال حدثني أبي (¬3) جُبيرٌ، عن الحسن، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إن أهل الجنة يَرَون ربهم تعالى في كل جمعة في رمالِ الكافور، وأقربُهم منه مجلساً أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرُهم غُدوّاً " (¬4). فصل: وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال الصَّغاني: حدثنا صدقة أبو عمرو المقعد (¬5)، قال: قرأت على محمد بن إسحاق (¬6)، حدثني ¬
حديث أبي بن كعب
أُمَيَّة بن عبد الله بن عمرو (¬1) بن عثمان، عن أبيه عبد الله بن عمرو قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، قال: خلق الله الملائكة لعبادته أصنافاً، فإن منهم الملائكة قياماً صافِّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكةً ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجوداً منذ (¬2) خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى، ونظروا إلى وجهه الكريم، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك (¬3). فصل: وأما حديث أُبيِّ بن كعبٍ: فقال الدارقطني، حدثنا عبد العزيز بن علي (¬4)، حدثنا محمد بن زكريا بن زيادٍ (¬5)، قال: حدثني قَحْطَبَة بن غُدانة (¬6)، حدثنا أبو خلدة، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. قال: النظر إلى وجه الله عز وجل (¬7). ¬
حديث كعب بن عجرة
فصل: وأما حديث كعب بن عجْرَةَ، ققال محمد بن حميد، حدثنا إبراهيم ابن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن كعب بن عُجرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: الزيادة (¬1) النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (¬2). فصل: وأما حديث فضالة بن عبيد، فقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس، عن أبي الدرداء (¬3)، أن فضالة -يعني ابن عُبيدٍ- كان يقول: اللهم أني أسألك الرضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرةٍ ولا فتنةٍ مضلَّةٍ (¬4). فصل: وأما حديث عبادة بن الصامت: ففي " مسند " أحمد من حديث بقية: حدثنا بحير (¬5) بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عمرو بن الأسود، عن جُنادة بن أبي (¬6) أمية، عن عُبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد (¬7) ¬
حديث رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
حدثتكم عن الدَّجَّال حتى (¬1) خشيتُ ألا تَعقِلوا، إن مسيحَ الدجال رجلٌ قصير، أفحجُ، جعدٌ، أعورٌ، مطموس العين، ليس بناتئةٍ ولا حَجْراء، فإن التبس عليكم [قال يزيد: ربكم] فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربَّكم حتى تموتوا" (¬2). وأما حديثُ الرَّجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الصغاني: حدثنا روح بن عُبادة، حدثنا عباد بن منصور، قال: سمعت عديَّ بن أرطاة يخطب على المنبر بالمدائن، فجعل يَعِظُ (¬3) حتى بكى وأبكانا (¬4)، ثم قال: كونُوا كرجل قال لابنه وهو يعظه: يا بُني، أوصيك أن لا تُصَلَّي صلاة إلاَّ ظننت أنك لا تصلي بعدها غيرها حتى تموت، وتعال يا بني (¬5) نعمل عمل رجلين كأنهما قد وقفا على النار، ثم سألا الكرَّة، ولقد سمعت فلاناً نَسِيَ (¬6) عبَّادٌ اسمه - ما بيني وبين رسول الله غيره، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله ملائكة ترعُدُ فرائصهم من مخافته، ما منهم مَلكٌ تقطُرُ دمعةٌ من عينه إلاَّ وقعت مَلَكاً يسبح الله، قال: وملائكة سجود منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافِّهم ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان ¬
فصل: أقوال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤية
يوم القيامة وتجلَّى لهم ربهم، فينظروا (¬1) إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك" (¬2). فصل: وهاكَ بعض ما قاله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وأئمة الإسلام من بعدهم. قول أبي بكر الصديق: قال أبو إسحاق، عن عامر بن سعدٍ، قرأ أبو بكر الصديق: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فقالوا: ما الزيادة يا خليفة رسول الله؟ قال: النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى (¬3). قول علي بن أبي طالب عليه السلام قال عبد الرحمن بن أبي حاتمٍ، حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة الهمداني، حدثنا صالح بن أبي خالدٍ العنبري، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عمارة بن عبد (¬4)، قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى الله ¬
تبارك وتعالى في جنته (¬1). وتقدم في الدليل الخامس من أدلة القرآن عنه رضي الله عنه: أن المزيد: النظر إلى وجه الله عز وجل. رواه الطبراني موقوفاً عليه (¬2). وتقدم في الأحاديث روايته كرَّم الله وجهه مرفوعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه عنه يعقوب بن سفيان من طريق أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه (¬3)، عن جده عليهم السلام. قول حذيفة بن اليمان: وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق (¬4)، عن مسلم بن يزيد، عن حذيفة بن اليمان: الزيادة: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى (¬5). قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس: ذكر أبو عوانه عن هلالٍ، عن (¬6) عبد الله بن عُكَيمٍ، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذا المسجد، مسجد الكوفة يبدأ باليمين قبل أن يحدثنا، فقال، والله ما منكم من إنسانٍ إلاَّ أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدُكم بالقمر ليلة البدر. قال: فيقول: ما غرَّك بي يا ابن آدم -ثلاث مرات - ماذا أجبت المرسلين -ثلاثاً-؟ كيف عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ؟ (¬7). ¬
وقال ابن أبي داود، حدثنا أحمد بن الأزهر، حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثنا أبي، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: كل من دخل الجنة يرى الله عز وجل؟ قال: نعم (¬1). قال أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ وأبي صالح، عن ابن عبَّاسٍ ... وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود: الزيادة: النظر إلى وجه الله (¬2). قول معاذ بن جبل: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخرَّاز (¬3)، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة (¬4)، قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال ¬
له: أبو عُفيف، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عُفيف، ألا تُحدِّثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يُحشرُ (¬1) الناس يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ، فينادى: أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمن لا يحتجب الله منهم (¬2) ولا يستتِر. قلت: مِنِ المتقون؟. قال: قومٌ اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله تعالى بالعبادة، فيمرون إلى الجنة (¬3). قول أبي هريرة: قال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعَة، عن أبي النضر أن أبا هريرة كان يقول: لن تَرَوْا ربكم حتى تذوقوا الموت (¬4). قول عبد الله بن عمر: قال حُسين الجُعفي، عن عبد الملك بن أبْجر، عن ثوير (¬5)، عن ابن عمر، قال: إن أدني أهل الجنة منزلة من ينظُرُ إلى مُلكه ألفي عام يرى أدناه كما يرى أقصاه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كلِّ يوم مرتين (¬6). ¬
قول فضالة بن عُبيد: ذكر الدارمي عن محمد بن مهاجر، عن ابن حلبس، عن أبي، الدرداء أن فضالة بن عبيدٍ كان يقول: اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك. وقد تقدم (¬1). قول أبي موسى الأشعري: قال وكيع عن أبي بكر الهُذلي، عن أبي تميمة، عن أبي موسى، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الله (¬2). وروى يزيد بن هارون وابن أبي عدي، عن التيمي، عن أسلم العِجلي عن أبي مُرَاية، عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يحدث الناس فشَخَصوا (¬3) بأبصارهم، فقال: ما صرف أبصاركم عني؟ قالوا: الهلال. قال: فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة (¬4). قول أنس بن مالك: قال ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا شريك عن أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قول الله عز وجل: {ولدينا مزيد} [ق: 35] قال: يظهر لهم الربُّ تبارك وتعالى يوم القيامة (¬5). قول جابر بن عبد الله: قال مروان بن معاوية، عن الحكم بن أبي خالد، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأُدِيمَ عليهم بالكرامة، جاءتهم خيولٌ من ياقوتٍ أحمر لا تبولُ ولا تروثُ، لها أجنحةٌ فيقعُدُون (¬6) عليها، ثم يأتون الجبار عز وجل، فإذا تجلى لهم، خرُّوا له سُجَّداً، فيقول: ارفعوا رؤوسكم فقد رضيت عنكم رضاً لا سخط بعده (¬7). ¬
قال الطبراني: فتحصَّل في الباب ممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة حديث الرؤية ثلاثةٌ وعشرون نفساً، منهم: علي، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وجرير، وأبو موسى، وصهيب، وجابر، وابن عباس، وأنسٌ، وعمَّار بن ياسر، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعُبادة بن الصامت، وعَدي بن حاتم، وأبو رزين العُقيلي، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وبُريدة بن الحُصيب، ورجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال الدارقطني: أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا جعفر بن محمد بن الأزهر، حدثنا مفضل بن غسان، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عندي (¬1) سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صِحاحٌ. وقال البيهقي: روينا في إثباث الرؤية عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي موسى وغيرهم، ولم يُرْوَ عن أحدٍ منهم نفيُها، ولو كانوا فيها مختلفين، لنُقِلَ اختلافهم إلينا، كما أنهم [لمَّا] اختلفوا في الحلال والحرام والشرائع والأحكام، نُقِلَ اختلافهم في ذلك إلينا، وكما أنهم لما اختلفوا في (¬2) رؤية الله بالأبصار في الدنيا، نقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلما نقلت رؤية الله سبحانه بالأبصار في الآخرة عنهم، ولم يُنقل ¬
عنهم في ذلك اختلافٌ كما نُقِل عنهم فيها اختلاف في الدنيا، علمنا أنهم كانوا على القول برؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة متفقين مُجمعين (¬1). وقد أشار البيهقي باختلافهم في الرؤية في الدُّنيا إلى ما تقصاه القاضي عياض في " الشِّفاء " (¬2) وغيره. ومعظم ذلك حديث عائشة الذي رواه عامرٌ الشعبي عن مسروق عنها. وخرَّجه أكثر الجماعة من هذه الطريق، وأكثر الروايات أن عائشة قالت في تفسير آية النجم: " إنه جبريل " موقوفاً عليها. وكذا رواه البُخاري عن ابن عون (¬3) عن القاسم عنها موقوفاً (¬4)، يحتمل أنه تأويلٌ منها، كما رُوي نحو ذلك عن ابن مسعود موقوفاً (¬5). وأما رواية الرفع عن عائشة فانفرد (¬6) بها داود بن أبي هند، عن الشعبي وخالفه إسماعيل بن أبي خالد ومجالدٌ (¬7) عن الشعبيِّ بالحديث سنداً ومتناً (¬8)، وليس فيه تصريح عائشة برفع ذلك، ولعلَّ البخاري إنما تجنَّب حديث داود بن أبي هند لمثل ذلك والله أعلم. ولعل هذه علة الحديث، وإلاّ لما ساغ لابن عباس مخالفته. فإن صحَّ مرفوعاً، لم يَحِل لأحدٍ مخالفته، وإذا (¬9) لم يصح، وجب الوقف أو كان أرجح لاحتمال صحته والله أعلم. ¬
فصل: أقوال التابعين ومن بعدهم في الرؤية
فصل: وأما التابعون، ويَزَكُ الإسلام، وعصابة الإيمان منهم أئمة (¬1) الحديث والفقه والتفسير وأئمة التَّصوُّف، فأقوالهم (¬2) أكثرُ من أن يُحيط بها إلاَّ الله عزَّ وجلَّ. قال سعيد بن المسيب: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه مالك عن يحيى عنه (¬3). وقال الحسن: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه ابن أبي حاتم عنه (¬4). وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه حماد ابن زيد، عن ثابت، عنه (¬5). وقاله عامر بن سعد البجلي، ذكره سفيان عن أبي إسحاق عنه (¬6). وقاله عبد الرحمن بن سابط. رواه جرير، عن ليث، عنه (¬7). وقاله عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وكعب (¬8). ¬
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: أما بعد، فإني أُوصيك بتقوى الله، ولزوم طاعته، والتَّمسُّك بأمره، والمُعاهدة على ما حمَّلك الله من دينه، واستحفظك مني كتابه. فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها وافقوا أنبياءه، وبها نُضِّرت وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمةٌ في الدنيا من الفتن، ومن كُرَب (¬1) يوم القيامة (¬2). وقال الحسن: لو يعلم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابَتْ أنفُسُهم في الدنيا (¬3). وقال الأعمش وسعيد بن جبير: إن أشرف أهل الجنة لمن ينظر إلى الله تبارك وتعالى غُدوة وعشية (¬4). وقال كعبٌ: ما نظر الله عزَّ وجلَّ إلى الجنة قط إلاَّ قال: طيبي لأهلك، فزادت ضعفاً على ما كانت حتى يأتيها أهلها، وما من يوم كان لهم عيداً في الدنيا إلاَّ يخرجون في مقداره في رياض الجنة، فيبرُزُ لهم الرب تبارك وتعالى، فينظرون إليه، وتسعى عليهم الرِّيح المِسْكُ، ولا يسألون الرب تعالى شيئاً إلا أعطاهم حتى يرجعوا وقد ازدادوا على ما كانوا من الحسن والجمال سبعين ضعفاً ¬
ثم يرجعون إلى أزواجهم وقد ازدَدْنَ مثل ذلك (¬1). وقال هشام بن حسان: إنَّ الله سبحانه يتجلَّى لأهل الجنة، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة (¬2). وقال طاووس: أصحاب المراء والمقاييس لا يزال بهم المِراء والمقاييس حتَّى يجحدوا الرؤية، ويُخالفوا السنة (¬3). وقال شريك عن أبي إسحاق السبيعي (¬4): الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى (¬5). وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، أُعطوا فيها ما شاؤوا، فيقول الله عز وجل لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعطَوهُ، فيتجلَّى لهم ربَّهم، فلا يكون ما أُعطوا عند ذلك بشيءٍ، فالحسنى الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه ربهم عز وجل. {ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهمُ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]: بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى (¬6). وقال علي بن المديني: سألت عبد الله بن المبارك، عن قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، قال عبد الله، من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل عملاً صالحاً، ولا يخبر به أحداً (¬7). ¬
فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة وغيرهم في هذه المسألة
قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عزَّ وجلَّ أحداً عنه إلاَّ عذبه. ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون} [المطففين: 15 - 17] قال بالرؤية. ذكره ابن أبي الدنيا عن يعقوب بن إسحاق (¬1) عن نُعيم (¬2). وقال عبَّاد بن العوَّام: قدم علينا شريك بن عبد الله منذ خمسين سنة، فقلت له (¬3): يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: " إن الله ينزل إلى سماء الدنيا "، و" إن أهل الجنة يرون ربهم "، فحدثني بنحو عشرة أحاديث في هذا، وقال: أما نحن، فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم عمن أخذوا؟ (¬4). وقال عُقبة بن قبيصة (¬5): أتينا أبا نعيم يوماً، فنزل إلينا من الدرجة التي في داره، فجلس وسطها (¬6) كأنه مُغضبٌ، فقال: حدثنا سفيان بن سعيد، ومنذرٌ الثوري وزهير بن معاوية، وحدثنا حسن بن صالح بن حي، وحدثنا شريك بن عبد الله النخعي وهؤلاء أبناء المهاجرين يُحدثوننا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة حتَّى جاء ابن يهودي صبَّاغ يزعم أن الله لا يُرى يعني بشراً المريسي. فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونُظرائهم، وشيوخهم، وأتباعهم على طريقهم ومنهاجهم. ¬
ذكر قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: قال أحمد بن صالح المصري، حدثنا عبد الله بن وهب، قال: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة (¬1) بأعينهم. وقال الحارث بن مسكين، حدثنا أشهب، قال: سئل مالك عن قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] أتنظر إلى الله عز وجل؟ قال: نعم. فقلت: إن أقواماً يقولون: تنتظر ما عنده. قال: بل تنظر إليه نظراً، وقد قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} (¬2)، [المطففين: 15]. وذكر الطبري (¬3) وغيره أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى، فقال مالك: السَّيفَ السَّيفَ (¬4). ذكر قول ابن الماجَِشون: قال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث أملى علي عبد العزيز بن أبي سلمة الماجَِشُون، وسألته عما تحدث (¬5) الجهمية، فقال: لم يزل يُملي لهم الشيطان حتى جحدوا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فقالوا: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحدوا والله أفضل كرامة الله التي كرَّم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فوربِّ السماء والأرض، ليجعلن رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثواباً لينضِّرَ بها وجوههم دون المجرمين، ويُفلج بها حجَّتهم على الجاحدين، وهم عن ربهم يومئذٍ محجوبون، لا يرونه كما زعموا ¬
أنه لا يُرى، ولا يُكلِّمهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليم (¬1). ذكر قول الأوزاعي: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: إني لأرجو أن يَحجُبَ الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فجحد جهم (¬2) وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه (¬3). ذكر قول الليث بن سعدٍ: قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا الهيثم بن خارجة، قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: سألتُ الأوزاعي وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية، فقالوا: تُمَرُّ بلا كيفٍ (¬4). قول سفيان بن عيينة: ذكر الطبري وغيره عنه أنه قال: من لم يقل: إن القرآن كلام الله، وإن الله يُرى في الجنة، فهو جهمي (¬5). وذكر عنه ابن أبي حاتم أنه قال: لا يُصلِّى خلف الجهمي، والجهمي: الذي يقول: لا يرى ربه يوم القيامة (¬6). قول جرير بن عبد الحميد: ذكر ابن أبي حاتم عنه أنه ذكر له حديث (¬7) ابن أسباط في الزيادة أنها النظر إلى وجه الله تعالى، فأنكره رجلٌ، فصاح به، فأخرجه من مجلسه (¬8). ¬
قول عبد الله بن المبارك: ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم عنه أن رجلاً من الجهمية قال له: يا أبا عبد الرحمن، خدارابآن جهان جون بينند ومعناه: كيف نرى الله يوم القيامة؟ فقال: بالعين (¬1). وقال ابن أبي الدنيا: حدثني يعقوب بن إسحاق، قال: سمعت نعيم بن حماد يقول (¬2): سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عزَّ وجلَّ عنه أحداً إلا عذَّبه، ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17]. وقال ابن المبارك، بالرؤية (¬3). قول وكيع بن الجَّراح: ذكر ابن أبي حاتم أنه (¬4) قال: يراه المؤمنون في الجنة ولا يراه إلاَّ المؤمنون (¬5). قول قتيبة بن سعيدٍ: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: قول الأئمة المأخوذ به في الإسلام والسنة: الإيمان (¬6) بالرؤية، والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية (¬7). قول أبي عبيدٍ القاسم بن سلام: ذكر ابن بطة وغيره عنه أنه ذُكرَتْ عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية، فقال: هي عندنا حق. رواها الثقات عن الثقات إلى أن صارت إلينا، إلاَّ أنا (¬8)، إذا قيل لنا: فسِّروها، قلنا: لا نفسر منها شيئاً، ولكن ¬
نمضيها كما جاءت (¬1). قول أسود بن سالم شيخ الإمام أحمد: قال المروالروذي (¬2)، حدثنا عبد الوهاب الوراق، قال: سألت أسود بن سالم عن أحاديث الرؤية، فقال: أحلف عليها بالطلاق وبالنبي (¬3) أنها حق (¬4). قول محمد بن إدريس الشافعي: قد تقدم رواية الربيع عنه أنه قال في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} لما حُجِبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل أن أولياءه يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال: نعم وبه أدين الله لو لم يُوقِنْ محمد بن إدريس أنه يرى ربه ما عبده (¬5). وقال ابن بطة: حدثنا ابن الأنباري، حدثنا أبو القاسم الأنماطيُّ صاحب المزني، قال: قال الشافعي: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} على أن أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصار وجوههم. قول إمام السنة أحمد بن حنبل: قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ربنا تبارك وتعالى، يراه أهل الجنة أليس (¬6) تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح. قال ابن منصور: وقال إسحاق بن راهويه: صحيح، ولا يدعهُ إلاَّ مبتدع، أو ضعيفُ الرأي. ¬
وقال الفضل بن زياد: سمعتُ أبا عبد الله يقول له: أتقول بالرؤية؟ فقال: مَنْ لم يقل بالرؤية فهو جهمي. وقال: وسمعت أبا عبد الله -وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله لا يُرى في الآخرة- فغضِبَ غضباً شديداً، ثم قال (¬1): من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فقد كفر، عليه لعنةُ الله وغضبه من كان من الناس، أليس يقول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}؟ وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2). وقال أبو داود: سمعت أحمد وذُكِرَ له عن رجل شيءٌ في الرؤية فغضب، وقال: من قال: إن الله لا يُرى فهو كافرٌ (¬3). قال أبو داود: وسمعت أحمد - وقيل له في رجل يحدِّث بحديثٍ عن رجلٍ عن أبي العطوف (¬4) أن الله لا يُرى في الآخرة. فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال: أخزى الله هذا. وقال أبو بكر المروزي: قيل لأبي عبد الله تعرف عن يزيد بن هارون، عن أبي العطوف عن أبي الزبير، عن جابرٍ: إن استقر الجبل فسوف تراني، وإن لم يستقر، فلا تراني، لا في الدنيا، ولا في الآخرة؟ فغضب أبو عبد الله غضباً شديداً، حتى تبين في وجهه، وكان قاعداً والناس حوله، فأخذ نعله وانتعل، وقال: أخزى الله هذا، لا ينبغي أن يكتب، ودفع أن يكون يزيد بن هارون رواه أو حدَّث به، وقال: هذا جهميٌّ كافرٌ، خالف قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ¬
نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أخزى الله هذا ... الحديث. وقال أبو طالب: قال أبو عبد الله: قوله عز وجل: {هل ينظرون إلاَّ أن يأتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، {وجاء ربُّك والمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر: 22] فمن قال: الله (¬1) لا يُرى، فقد كفر. وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: سمعت أبا عبد الله يقول: من لم يؤمن بالرؤية، فهو جهمي، والجهميُّ كافرٌ (¬2). وقال يوسف بن موسى القَطَّان: قيل لأبي عبد الله: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى، ويُكلِمونه ويكلِّمهم؟ قال: نعم ينظر (¬3) إليهم وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه (¬4) كيف شاؤوا إذا شاؤوا. قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: القوم يرجعون إلى التعطيل في أقوالهم، يُنكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننت أنهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم. قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يُرى، فقد ردَّ على الله وعلى الرَّسول، ومن زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، فقد كفر، وردَّ على الله قوله. قال أبو عبد الله: فنحن نؤمن بهذه الأحاديث، ونُقِرُّ بها، ونُمرُّها كما جاءت (¬5). ¬
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: فأمَّا من قال: إن الله (¬1) لا يُرى في الآخرة، فهو جهميٌّ. قال أبو عبد الله: وإنما تكلَّم من تكلم في رؤية الدنيا. وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرُّؤية مَنْ كذَّب بها، فهو زنديقٌ. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: أدركنا الناس وما يُنكرون مِنْ هذه الأحاديث شيئاً -أحاديث الرؤية- وكانوا يُحدثون بها على الجملة يُمِرُّونَها على حالِها غير منكرين لذلك، ولا مرتابين. وقال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فكلَّم الله موسى من وراء حجاب، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأخبر الله عزَّ وجلَّ أن موسى يراه في الآخرة، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، ولا يكون حجابٌ (¬2) إلاَّ لرؤية أخبر الله سبحانه أن من شاء الله ومن أراد يراه والكفَّار لا يرونه. قال حنبل: وسمعتُ أبا عبد الله يقول: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، والأحاديث التي تُروى في النظر إلى وجه الله تعالى: حديث جرير بن عبد الله وغيره: " تنظُرُون إلى ربِّكم " .. أحاديث صحاح. وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النظر إلى وجه الله تعالى، قال أبو عبد الله: نؤمن بها ونعلم أنها حق أحاديث الرؤية، ونؤمن أن الله يُرى، نرى ربنا (¬3) يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب. ¬
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يُرى في الآخرة، فقد كفر بالله، وكذَّب بالقرآن، ورد على الله أمره. يُستتابُ، فإن تاب، وإلا قُتِلَ. قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية. فقال: هذه صحاح، نؤمن بها، ونُقِرُّ بها، وكل ما (¬1) رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناده جيِّدٌ أقررنا به. قال أبو عبد الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي ودفعناه، رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وما آتاكُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نهاكُمْ عنه فانتَهُوا} [الحشر: 7]. قول إسحاق بن راهويه: ذكر الحاكم وشيخ الإسلام وغيرهما عنه أن عبد الله بن طاهر أمير خراسان سأله، فقال: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي تروونها في النُّزول والرؤية ما هي (¬2)؟ فقال: رواها من روى الطهارة والغسل (¬3) والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا في هذه عُدولاً، وإلاَّ فقد ارتفعت، وبطل الشرع. فقال: شفاك الله كما شفيتني. أو كما قال. قول جميع أهل الإيمان: قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: إن المؤمنين لم يختلفوا أن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك، فليس بمؤمنٍ عند المؤمنين. قول المزني: ذكر الطبري في " السنة " عن إبراهيم بن أبي (¬4) داود المصري، قال كنا عند نعيم بن حمَّادٍ جلوساً، فقال نعيم، للمزني: ما تقول في القرآن؟ قال: أقول: إنه كلام الله. فقال: غير مخلوقٍ؟ فقال: غير مخلوقٍ. قال: وتقول: إن الله يرى يوم القيامة؟ قال: نعم. فلما افترق الناس، قام إليه المُزنيُّ، فقال: يا أبا عبد الله، شهَّرتني على رؤوس الناس (¬5). فقال: إن الناس ¬
قد أكثروا فيك فأردت أن أُبرِّئك (¬1). قول جميع أهل اللغة. قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد صاحب اللغة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] أجمع أهل اللغة أن اللقاء ها هنا لا يكون إلاَّ معاينةً ونظراً بالأبصار، وحسبُك بهذا الإسناد صحة (¬2). واللقاء ثابتٌ بنصِّ القرآن كما تقدَّم، وبالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلُّ أحاديث اللقاء صحيحة. فحديث أنسٍ في قصة بئر معونة: أنا قد لقينا ربَّنا، فرضيَ عنَّا وأرضانا (¬3). وحديث عبادة وعائشة وأبي هريرة وابن مسعودٍ: " من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه " (¬4). ¬
فصل: أدلة المعتزلة ومتأخري الشيعة على نفي الرؤية
وحديث أنس: " إنكم ستلقون بعدي أثَرَةً، فاصبروا حتَّى تلقوا الله ورسوله " (¬1). وحديث أبي ذرٍّ: " لو لقيتني بقِرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرِكُ به شيئاً (¬2) لقيتك بقرابها مغفرة ". وحديث أبي موسى. " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة " (¬3). وغير ذلك من أحاديث اللقاء التي اطَّرَدَتْ كلها بلفظٍ واحدٍ. انتهى كلام هذه الطائفة منقولاً بحروفه من كتاب الشيخ ابن قيم الجوزية، والمقصود بنقله على طُولهِ بيان أنهم من أهل التأويل والتديُّن، وقبول أخبار ثقاتهم، كما هو مذهب أهل البيت والمنصوص في كتبهم المشهورة، حتى نجمت هذه البدعة البديعة، والعصبية الشنيعة في القول بأنهم مكذبون لله ورسوله (¬4) على سبيل التَّعمُّد وقصد إضلال الخلق عما يعلمونه من الحق. فصل: ومن العدل بعد حكاية أدلتهم بعباراتهم أن نحكيَ أدلة المعتزلة ¬
ومتأخِّري الشيعة بعباراتهم أيضاً لوجهين: أحدهما: لكيلا يتوهَّم فينا (¬1) أنا قصدنا الحَيْفَ على (¬2) المعتزلة بترك عباراتهم المختارة لنُصرة مذهبهم، وعدم الاستيعاب لما في كُتبهم. وثانيهما: ليظهر من (¬3) تصرُّفاتهم العلم بمقصدنا الأول الذي هو الباعث على هذا التأليف، وهو أن المعتزلة خاضوا مع القوم في الاستدلال عليهم، والجواب عن أدلتهم، كما هو شأنُ المتأولين، ولم يقولوا: إنهم أنكروا الضرورة في مذاهبهم وأن عنادهم معلومٌ ببدائه العقول، مستغنٍ عن البيان كما ذكروا ذلك في السُّوفسطائية. فنقول: قال السيد العلامة المتكلِّمُ أحمد بن أبي هاشم الحسيني في كتابه " شرح الأصول الخمسة " (¬4) لقاضي القضاة -رحمة الله عليهما- ما لفظه (¬5). فصل في نفي الرُّؤية: ومما يجب نفيه عن الله تعالى: الرؤية، وهذه مسألة خلافٍ بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنما يتحقَّق بيننا وبين هؤلاء الأشعرية الذين لا (¬6) يكيِّفون الرؤية، فأمَّا المجسِّمة، فهم يُسَلِّمون لنا أنَّ ¬
الله تعالى لو لم يكن جسماً، لما صح أن يُرى، ونحن نسلِّم لهم أنه تعالى لو كان جسماً، لصحَّ أن يُرى، فالكلام معهم في هذه المسألة لغوٌ، ويمكن أن يُستدل علم هذه المسألة بالعقل والسمع جميعاً، لأن صحة السمع لا تقِفُ عليها، وكلُّ مسألةٍ لا تقف صحة السمع عليها، فالاستدلال عليها بالسمع ممكن، ولهذا جوَّزنا الاستدلال بالسمع على كونه تعالى حيَّاً لما لم تقف صحة السمع عليها. يُبَيِّن ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعاً حكيماً، وإن لم يخطُر بباله أنه هل يُرى أم لا؟ ولهذا لم نكفِّر (¬1) من خالفنا في هذه المسألة، لما كان الجهل بأنه تعالى لا يُرى، لا يقتضي جهلاً بذاته ولا شيءٍ من صفاته، ولهذا جوَّزنا في قوله تعالى: {ربِّ أرني أنظُر إليك} أن يكون سؤال موسى عليه السلام، لأن المرئي ليس له (¬2) -بكونه مرئياً- حالٌ وصفة، وعلى هذا لم نجهِّلْ شيخنا أبا عليِّ بالأكوان، حيث قال: إنها مُدرَكَةٌ بالبصر. إذا ثبتت هذه الجملة، فاعلم أنه -رحمه الله- بدأ في الاستدلال على هذه المسألة بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]، ووجه الدلالة من الآية هو ما قد ثبت أن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلاَّ الرؤية، وثبت (¬3) أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، وتمدَّح بذلك تمدُّحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان (¬4) إثباته نقصاً، والنقائص (¬5) غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال. فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلاَّ الرؤية؟ (¬6). قلنا: لأن الرائي ليس له بكونه رائياً حالةٌ زائدةٌ على كونه مدركاً، لأنه لو كان أمراً زائداً عليه، لصحَّ انفصال أحدهما عن الآخر على كونه مدركاً (¬7)، إذ ¬
لا علاقة بينهما من وجهٍ معقول، والمعقول (¬1) خلافه. وبعد: فإن الإدراك إذا أُطلِقَ يحتمل معاني كثيرة. قد يُذكَرُ ويُراد به البلوغ، يقال: أدرك الغلام: إذا بلغ الحُلمَ، وقد يُذكر ويراد به النُّضج والإيناع، يقال (¬2): أدرك الثَّمر: إذا أينع، فأمَّا إذا قُيِّدَ بالبصر، فإنه لا يحتمل إلاَّ الرؤية على ما ذكرناه، وصار الحال فيه كالحال في السُّكون، فإنه إذا قُرنَ بالنفس لا يحتمل إلاَّ العلم، وإن احتمل، بإطلاقه شيئاً آخر، تبين ما ذكرناه أنه لا فرق بين قولهم: أدركتُ ببصري هذا الشخص، وبين قولهم (¬4): آنستُ (¬5) ببصري هذا الشخص، ورأيت (¬6) ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص (¬7)، حتى لو قال: أدركتُ ببصري وما رأيتُ، أو آنست وما أدركت، لعُدَّ مناقضاً. ومن علامة اتفاق اللفظين في الفائدة أن يُثْبَتا (¬8) في الاستعمال معاً ويزولا معاً، حتى لو أثبت بأحدهما، ونفي بالآخر لتناقض الكلام. وبهذه الطريقة يُعلَمُ اتفاق الجلوس والقعودِ في الفائدة وغيرها من الأسامي. فإن قيل: كيف يصحُّ قولكم: إن من علامة اتفاق اللفظين في الفائدة أن يثبتا في الاستعمال معاً، ويزولا معاً؟ ومعلوم أن الإرادة والمحبة واحدٌ (¬9)، ثم (¬10) ¬
يستعمل أحدُهما حيث لا يستعمل الآخر (¬1)، فيقال: أُحِبُّ جاريتي، ولا يقال: أريدُها؟ قلنا: كلامنا فيما إذا استُعملا حقيقةً، وهذا فقد استعمل مجازاً، وحقيقته " أُحِبُ " (¬2): الاستمتاع بها، فلا جرم، يجوز أن نقول: أريد الاستمتاع بها، وصار الحال فيما ذكروه كالحال في الغائط، فإنه المكان المطمئن في الأصل، ثم يُتجوَّز به في الكناية عن قضاء الحاجة، ولا يُستعمل بدله (¬3) المكان المطمئنُّ في الكناية عن قضاء تلك الحاجة لما كان ذلك الاستعمال على سبيل التَّوسُّع والمجاز، لا على وجه الحقيقة، كذلك ها هنا. فإن قيل: أليس أنهم يقولون: أدركتُ ببصري حرارة الميل، فكيف يصحُّ قولهم: إن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلاَّ الرؤية؟ قلنا: هذا ليس من اللغة في شيءٍ، وإنما اخترعه ابن أبي بشرٍ الأشعري ليصح (¬4) مذهبه به، إذ لم يَرِدْ في كلامهم: لا المنظوم ولا المنثور، يبين ما ذكرناه، ويوضحه: أن هذه " الباء " إذا دخلت على الأسامي أفادت أنها آلةٌ فيما دخلت فيه كقولهم: مشيتُ برجلي، وكتبت بقلمي. والبصرُ ليس بآلةٍ في إدراك الحرارة، إذ الخيشوم يُشاركه في ذلك، فلو كان آلة فيه، لم يَجُزْ ذلك، ألا ترى أن البصر لما كان آلة في الرُّؤية، لم يُشاركه فيها آلة السمع وغيره من الحواس؟ كذلك كان يجب مثله في مسألتنا، على أنا لم نقل: إنَّ الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر، وقُيِّدَ بالحرارة، فإنه لا يُفيدُ إلاَّ الرؤية، فمتى (¬5) يكون هذا نقضاً لكلامنا؟ وإنما قلنا: إنه إذا قُرِنَ بالبصر، لم يحتمل إلاَّ الرُّؤية، فلا يتوجه هذا على ما قلناه. ¬
فإن قيل: ولم قلتم: إنَّ هذه الآية وردت مورد التمدُّح؟ قلنا: لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله سبحانه، وغير جائزٍ من الحكيم أن يأتي بجملةٍ مشتملةٍ على المدح، ثم يخلِطُ بها ما ليس بمدح ألبتَّة. ألا ترى أنه لا يَحْسنُ أن نقول: فلانٌ وَرِعٌ، تقيٌّ، نقيُّ الجيب، مرضيُّ الطريقة، أسودُ، يأكل الخبز، يُصلِّي بالليل ويصوم بالنَّهار، لما لم يكن لكونه أسودَ، وأكله (¬1) الخبز تأثيرٌ في المدح؟ يبيِّنُ ذلك أنه تعالى لما بيَّن تميُّزه عمَّا عداه من سائر الأحياء (¬2) بنفي الصاحبة والولد، بين أنه يتميز عن غيره من الذوات بأنه لا يُرى ويرى (¬3). وبعد، فإن الأمة اتفقوا على أن الآية واردةٌ مورد المدح، وأنه لا (¬4) كلام في ذلك، وإنما الكلام في جهة التَّمدح، فمنهم من قال: إن التمدح هو بأن القديم -تعالى- لا يُرى، لا في الدنيا، ولا في الآخرة على ما يقوله، ومنهم من قال: إن التَّمدُّح هو أنه لا يرى في دار الدنيا، ومنهم من قال: إن التمدُّح في أنه لا يُرى بهذه الحواسِّ، وإن جاز أن يُرى بحاسَّةٍ أُخرى، فصحَّ أن الآية وردت مورد التمدح على ما ذكرناه، ولا تمدُّح إلاَّ من الجهة التي نقولها. فإن قيل: وأيُّ مدحٍ في أن لا يُرى القديمُ تعالى، وقد شاركه فيه المعدومات وكثيرٌ من الموجودات؟ قلنا: لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائياً، ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحاً، وعلى هذا لا مدح في نفي ¬
الصاحبة والولد مجرداً، ثمَّ بانضمامه إلى شيءٍ آخرَ يصيرُ مدحاً، ثم إذا انضمَّ إليه كونه حيّاً لا آفة به، صار مدحاً. وهكذا لا مدح في أنه لا أوَّل له، فإن المعدومات تشاركُه في ذلك، ثم يصيرُ مدحاً بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادراً، عالماً، حياً، سميعاً، بصيراً، موجوداً، كذلك في مسألتنا. وحاصل هذه الجملة أن التَّمدُّح إنما يقع بما به تقعُ البينونة بينه وبين غيره من الذوات، والبينونة لا تقع إلاَّ بما يقوله، لأن الذوات على أقسامٍ منها ما يُرى ويَرى كالواحد منَّا. ومنها ما لا يَرَى ولا يُرى كالمعدومات. ومنها ما صحّ ولا يرى كالجمادات. ومنها ما يَرَى ولا يُرى كالقديم تعالى، وعلى هذا صحَّ التَّمدُّح بقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]. فإن قيل: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ، كيف يصيرُ مدحاً؟. قيل له: لا مانع من ذلك، فمعلوم أن قوله عز وجل: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ليس (¬1) بمدحٍ، ثم صار مدحاً بانضمامه إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} وكذلك قولنا في الله عز وجل: إنه موجودٌ، ليس بمدحٍ، ثم إذا ضممنا إليه القول بأئه لا ابتداء له، صار مدحاً، ونظائر ذلك أكثرُ مِن أن تذكر، والمنكر له متجاهل. فإن قيل: لو جاز فيما ليس بمدحٍ أن يصير مدحاً بانضمامه إلى غيره، لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحاً بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب، حتى يحسُنَ أن يُمدَحَ الغير (¬2) بأنه جاهلٌ، قويُّ القلب، شجاعٌ. قيل له: إن ما وُضع للنقص من الأوصاف، نحو قولنا: جاهلٌ، عاجزٌ، وما شاكلها، لا تختلف فائدته، ولا يتغير حاله بالانضمام (¬3)، بل يقبل (¬4) النقصَ ¬
بكل حالٍ، سواء ضُمَّ إلى غيره أو لم يضم، وليس كذلك سبيل ما (¬1) ليس بمدحٍ ولا نقصٍ، فإن ذلك مما لا يمتنعُ أن يصير مدحاً بغيره على ما ذكرناه. فإن قيل: فجوزوا أن يصير قولنا: " أسود " مدحاً بأن ينضم إليه قولنا: عالم، ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحاً لما لم يكن مدحاً في نفسه، فإذا لم يَجُزْ أن يصير ذلك مدحاً، فكذلك لا يجوز في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أن يصير مدحاً بأن ينضمَّ إليه قوله: {وهو يُدْرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103]. قيل: إنا لم نقل: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ صار مدحاً بكل حالٍ، بل قلنا: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ، وحصل بمجموعهما (¬2) البينونةُ، صار مدحاً، ولا تحصُلُ البينونة بانضمام قولنا: " أسودُ " إلى قولنا " عالمٌ "، بخلاف مسألتنا، لأنه حصل ها هنا بينونةٌ على الوجه الذي ذكرناه. فإن قيل: ما وجه البينونة؟ قلنا: وجهُ البينونة: هو أنه يرى ولا يُرى. فإن قيل: هلاَّ جاز أن تكون جهةُ التمدُّح هو كونه قادراً على أن منعنا (¬3) من رؤيته؟ قلنا: هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسِّرين. وما هذا سبيله من التأويلات يكون (¬4) فاسداً. ¬
وبعد: فإن هذا حملٌ لخطاب الله تعالى على غير (¬1) ما تقتضيه حقيقة اللُّغة ومجازها، فلا يجوز. يُبيِّنُ ذلك أن أحدنا إذا قال: فلان لا يرى، فإنه لا يقتضي كونه قادراً على أن يمنع من رويته، لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها، فكيف يصحُّ ما ذكرته؟ فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن هذا التمدُّح راجعٌ إلى الذات؟ قلنا: لأن المدح على ضربين: أحدهما: يرجع إلى الذات. والثاني: يرجعُ إلى الفعل. وما يرجع إلى الذات قسمان: أحدهما يرجع إلى الإثبات (¬2)، نحو قولنا: قادرٌ، عالمٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ. والثاني: يرجع إلى النَّفي، وذلك نحو قولنا: لا يحتاج، ولا يتحرَّك ولا يسكن. وأما ما يرجع إلى الفعل، فعلى ضربين أيضاً (¬3): أحدهما: يرجع إلى الإثبات، نحو قولنا: رازقٌ، ومحسنٌ، ومتفضِّلٌ. والثاني: يرجِعُ إلى النفي، وذلك نحو قولنا: لا يَظْلِمُ، ولا يكذِبُ. إذا ثبت هذا، فالواجبُ أن ننظر في قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} من أيِّ القبيلين هو؟ لا يجوز أن يكون من قبيل ما يرجع إلى الفعل، لأنه تعالى لم يفعل فعلاً حتى لا يُرى، وليس يجب في الشيء إذا لم ير أن يحصل منه فعل حتى لا يُرى، فإن كثيراً من الأشياء لا تُرى، وإن لم تفعل أمراً من الأمور كالمعدومات، وكثيرٍ من الأعراض، والشيء إذا لم يُرَ، فإنما لم يُرَ لما هو عليه ¬
في ذاته، لا لأنه يفعل أمراً من الأمور. وإذا كان الأمر كذلك، صح أن هذا الأمر يرجع إلى الذات على ما نقوله. فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن ما كان نفيهُ مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً. قيل له: لأنه لو لم يكن إثباته نقصاً، لم يكن نفيه مدحاً (¬1)، ألا ترى أن نفي السِّنَةِ والنوم لمَّا كان مدحاً، كان إثباته نقصاً؟ (¬2) حتَّى لو قال أحدٌ: إنه تعالى ينام، كان هذا نقصاً. وبعد: فإنه تعالى إذا لم يُرَ إنما (¬3) لم يُرَ لما هو عليه في ذاته (¬4)، فلو رُئِيَ، لوجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته، فكان نقصاً. فإن قيل: وأيُّ نقصٍ في أن يُرى القديم؟ وما وجه النقص؟ قلنا: لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلاً، بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى تمدَّح بنفي الرؤية عن نفسه مدحاً راجعاً إلى ذاته، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى الذات، كان إثباته نقصاً، كفى، وإذا أردت التفصيل، فلأن فيه انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته. فإن قيل: ما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى: {لا تُدرِكُه الأبصارُ}، أي لا تحيط به الأبصار، ونحن هكذا نقول. قلنا: الإحاطة ليس هي بمعنى الإدراك، لا في حقيقة اللُّغة، ولا في مجازها، ألا ترى أنهم يقولون: السُّورُ أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها، ولا أدرك بها، وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور، ولا يقولون: أدركته. ¬
وبعد: فإن هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسرين، فلا يقبل على أنه كما لا تحيط به الأبصار، فكذلك لا يحيط هو (¬1) بالأبصار، لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحدٌ، فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه. فإن قيل: لا تَعَلُّق لكم بالظاهر، لأن الذي يقتضيه الظاهر أن الأبصار لا تراه، ونحن كذلك نقول. قيل له: إن الله تعالى تمدَّح بنفي الرؤية عن نفسه، فلا بُدَّ أن يحمل على وجهٍ تقعُ فيه البينونة (¬2) بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التَّمدُّح، ولا تقع البينونة بينه وبين غيره من الذوات (¬3)، بهذا الذي ذكرتموه لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره. وبعد، فإن المراد بالأبصار: المبصرون، إلاَّ أنه تعالى علَّق (¬4) الإدراك بما هو آلةٌ فيه وعنى به الجملة. ألا ترى أنهم يقولون: مشتْ رجلي، وكتبتْ يدي، وسمعت أُذني، ويريدون الجملة، وعلى هذا المثل السائر: يداك أو كتا وفُوك نَفَخَ (¬5). ثم إن لتعليق الشيء بما هو آلة فيه فائدةٌ ظاهرةٌ، لا تحصل تلك الفائدة إذا علقت بالجملة. ¬
بيان ذلك أن أحدنا إذا قال: كتبتُ (¬1)، يحتمل أن يكون قد كتبه بنفسه، ويحتمل أن يكون استكتب غيره، وليس كذلك إذا قال: كتبت يدي، ومشت رجلي، فإنه لا يحتمل ذلك. وبعد: فإن هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسرين، فإن المفسرين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا على أن المراد بالأبصار: المبصرون، إلاَّ أنهم اختلفوا، فمن قائل: لا يُدرِكُهُ المبصرون في دار الدُّنيا، ومِنْ قائل: لا يدركه المبصرون في حال من الأحوال، وكل تأويل يكون بخلاف تأويل المفسرين كفتوى (¬2) تكون بخلاف فتوى المفتين. فإن قيل: لو كان المراد بقوله: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} المبصرون، لوجب مثله في قوله: {وهو يُدرِكُ الأبصارَ} أن يكون المبصرين، ليكون النفي مطابقاً للإثبات، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه، لأنه من المبصرين، وكل من قال: إنه تعالى يرى نفسه، قال: يراه غيره. قيل له: إنه تعالى -وإن كان مبصراً- فإنما يرى ما كان يدرك (¬3) وتصِحُّ رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى لما قدمناه أنه تمدح بنفي الرؤية تمدُّحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً، والنقص لا يجوز على الله تعالى. وبعد: فإن المراد بقوله: {لا تدركه الأبصارُ} المبصرون بالأبصار، فكذلك في قوله: {وهو يُدرك الأبصَار}، يجب أن يكون هذا هو المراد، ليكون النفي مطابقاً للإثبات، والله تعالى ليس من المُبْصِرين بالأبصار. فلا يلزم ما ذكرتموه. ¬
وبعدُ: فلا يجوز مِنَ الله تعالى أن يُجمَعَ بينه وبين غيره في الخطاب، بل يجب أن يُفرَدَ بالذكر تأديباً لنا، وتعليماً للتعظيم، وعلى هذا فإن أمير المؤمنين عليه السلام لمَّا سمعَ خطيباً يقول: " مَنْ أطاع (¬1) الله ورسوله فقد رَشَدَ، ومن يَعْصِهما فقد غوى " فنهى عن الجمع بينَ الله ورسوله في الذِّكر إعظاماً وإجلالاً لله جلّ ذكره (¬2). فإن قيل: قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصَارُ وهو يُدرِكُ الأبصار} عامٌ في الدَّار (¬3) الدنيا ودارِ الآخرة. وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] خالصٌّ في دار الآخرة، ومن حقِّ العامِّ أن يُبنى (¬4) على الخاص، كما أن من حق المُطلق أن يُبنى على المقيَّد. ورُبما يستدلِّون بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يُرى في دار الآخرة. وجوابنا أن العام إنما يُبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص، لأنه تعالى تمدَّح بنفي الرؤية تمدُّحاً يرجع إلى ذاته (¬5)، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً، والنَّقصُ لا يجوز على الله تعالى (¬6). وبعد: فإن هذه الآية إنما تخصِّصُ تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يُرى (¬7) ¬
في حالٍ من الأحوال، وليس في الآية ما يقتضي ذلك، لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية. هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه. فأمَّا إذا استدلُّوا به ابتداءً، فالجواب عليه أن يقال لهم: ما وجه الاستدلال بهذه الآية؟ فإن قالوا: إنه تعالى بيَّن أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه والنظر هو معنى الرؤية. قلنا: لا نسلِّم أن النظر بمعنى الرؤية، فما دليلُكم على ذلك؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً. ثم يقال لهم: كيف يصح أن يكون النظر بمعنى الرؤية؟ ومعلومٌ أنهم يقولون: نظرت إلى الهلال، فلم أره، فلو كان أحدهما هو الآخر، لتناقض الكلام، وتنزَّل منزلة قول القائل: رأيتُ الهلال، وما رأيتُ، وذلك متناقضٌ (¬1) فاسدٌ. وبعد: فإنَّهم يجعلون الرُّؤية غايةً للنظر، فيقولون: نظرتُ حتى رأيت. فلو كان أحدهما هو الآخر، لكان بمنزلة أن يُجعَلَ الشيء غايةً لنفسه، وذلك لا يجوز، ولذلك لا يجوز أن يُقال: رأيت حتى رأيت. وبعد: فإنهم يُعْقِبُونَ النظر بالرؤية، فيقولون: نظرت فرأيت، فلو كان أحدهما هو الآخر، لكان في ذلك تعقيبُ الشيء بنفسه، ويُنزل (¬2) منزلة قولك: رأيت فرأيت، وهذا لا يستقيم. وبعد: فإنهم يُنَوِّعُون النظر، فيقولون. نظرتُ نَظَرَ (¬3) راضٍ، ونظرت نظر غضبان، ونظرت نظر شزْرٍ. وعلى هذا قول (¬4) الشاعر: نظروا إليكَ بأعيُنٍ مُزْورَّةٍ ... نَظَرَ التُّيوسِ إلى شِفَارٍ الجَازِرِ ¬
خُزْرَ (¬1) الحواجِبِ ناكسي أذقانِهم (¬2) ... نَظَرَ الذَّليلِ إلى العَزيزِ القَاهِرِ وقال آخر (¬3): تُخَبِّرُني العَيْنَانِ ما الصَّدْرُ كَاتِمٌ ... وما جَنٌّ بالبغضاءِ والنَّظرِ الشَّزْر وأيضاً فإنهم يقولون في تفسير الأقبل -وهو الأحول- هو الذي إذا نظر إليك كأنه ينظر إلى غيرك، فلو كان النظر هو الرؤية، لكان تقديره هو الذي إذا رآك كأنه يرى غيرك، وهذا لا يستقيم. وبعد، فإنا نعلم ضرورة كون الجماعة ناظرين إلى الهلال، ولا نعلم كونهم رائين له ضرورة، ولهذا يَصِحُّ أن يسأل عن ذلك. فلو كان أحدهما هو الآخر، لم يَجُزْ ذلك. ويدلُّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وتراهُم ينظُرُون إليك وَهُم لا يُبْصِرُون} [الأعراف: 198]، أثبث النظر، ونفي الرؤية. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر، لتناقض الكلام، وتنزَّل منزلة قول القائل، يَرَوْنَك ولا يَرَوْنَكَ. وذلك خُلْفٌ من الكلام. فإن قيل: إن ذلك مجازٌ، لأنه ورد في شأن الأصنام. قلنا: إنه -وإن كان كذلك- إلاَّ أن المجاز كالحقيقة في أنه لا يصح التناقض. وحاصل هذه الجملة: أن النظر من الرؤية بمنزلة الإصغاء من السماع، والذوق من إدراك الطَّعم، والشَّمِّ من إدراك الرَّائحة. فإن قيل: النظر إذا أُطلِقَ يحتملُ معاني كثيرةً كما ذكرتموه، فأما إذا عُلِّق بالوجه، فلا يحتمل إلاَّ الرؤية، كما إذا عُلِّق بالقلب لا يحتمل إلاَّ الفكر، وربما ¬
يقولون: إن النظر إذا غُلِّق بالوجه وعُدِّي بـ " إلى "، لم يحتمل إلاَّ الرؤية. قلنا: ما ذكرتموه أولاً فممَّا لا نسلمه، فما دليلكم عليه؟. فإن قالوا: الدليل عليه هو أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه، فيجب في النظر إذا عُلِّق به أن لا يحتمل إلاَّ الرؤية، لأنه لو لم يكن كذلك، لكان لا تثبت لتعليقه (¬1) به فائدة. قلنا: لو وجب صحة ما ذكرتموه من حيث إن الآلة التي يرى بها في الوجه، لوجب صحة أن يقول (¬2) القائل: ذُقتُ بوجهي، ويريد به: أدركت الطعم، لأن آلة الذوق في الوجه. وهكذا في قوله: شممتُ بوجهي. وقد عُرِفَ خلافه. وأما ما قالوه من أن النظر إذا عُلق بالوجه، وعدي بـ " إلى " لم يحتمل إلا الرؤية، فسنتكلَّم عليه إن شاء الله تعالى. فإن قيل: النظر المذكور في الآية إذا لم يُفِدِ الرؤية، فما تأويل الآية؟ قيل له: قد قيل: إنَّ النظر المذكور ها هنا بمعنى الانتظار، فكأنه تعالى قال: وجوهٌ يومئذ ناضرة لثواب ربِّها منتظرة، والنظر بمعنى الانتظار قد ورد، قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى ميسَرَةٍ} [البقرة: 280] أي: انتظار، وقال عزَّ وجلَّ حاكياً عن بلقيس: {فناظِرَةٌ بِمَ يرجِعُ المُرسَلُونَ} [النمل: 35]، أي منتظرة. وقال الشاعر: فإن يكُ صدرُ هذا اليوم وَلَّى ... فإنَّ غداً لِنَاظِرِهِ قريبُ (¬3) ¬
وقال آخر: وإنَّ امرءاً يرجو السبيل إلى الغِنَى ... بغيرك عن حَدِّ الغِنَى جدُّ حَائر يراهُ (¬1) على قُربٍ وإن بَعُدَ المَدَى ... بأعيُنِ آمالٍ إليك نواظِرِ وقال آخر: وُجُوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص (¬2) وقال الخليل: تقول العرب: إنما أنظر إلى الله تعالى وإلى فلان من بين الخلائق، أي: أنتظر خيره، ثم خير فلان. فإن قيل: النظر إذا عُدِّي بـ " إلى " كيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار؟ قلنا: كما قال عز وجل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. ذكر النظر، وعدَّاه بـ " إلى " وأراد به الانتظار، كما تقول العرب على ما قال الخليل. وقال الشاعر: ¬
إنِّي إليك لما وَعَدْتَ لَنَاظِرٌ ... نَظَرَ الفقيرِ إلى الغَنِيِّ المُوسِرِ (¬1) فإن قيل: إن النظر إذا عُلِّق بالوجه، وعدي بـ " إلى "، كيف يراد به الانتظار؟ قلنا: إن ذلك غير ممتنعٍ، وعلى هذا قول الشاعر: وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص على أن " إلى " في الآية -على ما قيل- ليس بحرف جرٍّ ولا حرف التعدية، وإنما، هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنه تعالى قال: وجوهٌ يومئذٍ ناضرة، نعمة (¬2) ربها ناظرة أي منتظرة، ونِعمَه مترقِّبة. وقد أجاب شيخنا أبو عبد الله البصري بأن النظر إذا كان بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة تعدَّى بـ " إلى " وكذلك إذا كان بمعنى الانتظار، ولا يمتنعُ أن يُعدّى بـ " إلى "، لأن المجازات يُسلك بها مسلك الحقائق، وهذه إشارةٌ إلى أن النظر بمعنى الانتظار مجازٌ، وحقيقته (¬3): تقليب الحَدَقَة الصحيحة، وليس كذلك، لأن النظر لفظةٌ مشتركةٌ بين معانٍ كثيرةٍ على ما مرّ. وبعد: فإذا جاز تعليق (¬4) النظر بالعين، ويراد به الانتظار، جاز أن يُعلَّق بالوجه أيضاً، ويُراد به الانتظار. ومعلوم أنهم يعلقون (¬5) النظر بالعين، ويُعدُّونه بـ " إلى "، ويريدون به (¬6) الانتظار. وعلى هذا قال (¬7) الشاعر: يَراه على قُرْبِ وإن بَعُدَ المدى ... بأعيُنِ آمالٍ إليك نَوَاظِرِ على أن الوجه ها هنا ليس بمقصودٍ، وأن المقصود صاحب الوجه، كما قال ¬
الله عز وجل: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24، 25]. ومعلومٌ أن الوجوه لا تظُنُّ، وإنما أصحاب الوجوه يظنون، وهذا هو التَّأويلُ الأول، والكلام عليه. وأما التأويل الثاني، فهو أن النظر بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة، فكأنه قال تعالى: وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ثواب ربها ناظرة. ذكر نفسه، وأراد غيره، كما قال في موضعٍ آخر: {واسألِ القريَةَ} [يوسف: 82] يعني: أهل القرية. وقال: {إني ذَاهبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99] أي: إلى حيث أمرني ربي، وقال تعالى: {وجاء ربُّك} [الفجر: 22] أي: أمر ربك. وقال الشاعر (¬1): هلاَّ سألتِ الخيلَ يا ابنة (¬2) مالكٍ ... إن كُنْتِ جاهلة بما لم تعلمي (¬3) أي: أرباب الخيل، وقال جميل: سَلِ الرَّبْعَ أنَّى يَمَّمَتْ أمُّ مالكٍ ... وهل عادةٌ للربع أن يَتَكَلَّما (¬4) فكِلا التأويلين مرويَّان عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعن عبد الله بن العباس، وجماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم. قالوا على التأويل الأول: هذه الآية وردت في شأن أهل الجنة، فكيف يجوز أن تكون بمعنى الانتظار؟! لأن الانتظار (¬5) يورِثُ الغمَّ والمشقَّة، ويؤدي إلى التَّنغيص (¬6) والتكدير، حتَّى يقال في المثل: الانتظارُ يُورِثُ الاصفرار، ¬
والانتظار الموت الأحمر، وهذه الحالة غير جائزةٍ على أهل الجنة. وجوابنا أن الانتظار لا يقتضي تنغيص العيش على كل حال، وإنما يوجب ذلك متى كان المنتظر لا يتيقَّن حصول ما ينتظره إليه، أو يكون في حبسٍ، ولا يدري متى يتخلص من ذلك، وهل يتخلص، أم لا؟ فإنه -والحال هذه- يكون في غمٍّ وحسرةٍ. فأمَّا إذا تيقَّن وصوله إليه، فلا يكون في غمٍّ وحسرةٍ، خاصة إذا كان حال انتظاره في أرغد عيشٍ وأهناه. ألا ترى أنَّ من كان على مائدة قومٍ، وعليها ألوان الأطعمة اللذيذة، يأكل منها ويلتذُّ بها، وينتظر لوناً آخر، ويتيقن وصوله، فإنه لا يكون في تنغيصٍ وتكدير، بل يكون في سرورٍ متضاعفٍ، حتى لو قُدِّم إليه الأطعمة كلها دفعة واحدة لتبرَّم بها، كذلك حال أهل الجنة لا يكونون في غمٍّ وتنغيص إذا كانوا يتيقنون وصولهم إلى ما ينتظرون على كل حال. وللقوم شُبَهُ في هذا الباب: من جملتها: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قالوا: بين الله تعالى (¬1) أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه، وهذا يدل على كونه مرئيّاً على ما نقوله. والأصل في الكلام عليهم أن نمنعهم من الاستدلال بالسمع، لأن (¬2) الاستدلال بالسمع ينبني على أنه تعالى عَدْلٌ، حكيم، لا يُظهر المُعْجِز على الكذابين، والقوم لا يقولون بهذا، فلا يمكنهم الاستدلال بالسمع أصلاً على شيءٍ، وعلى (¬3) أنا قد بينا أن النظر ليس هو الرؤية. وتكلمنا عليه، فلا وجه لإعادته. ومما يتعلقون به: قوله تعالى: {ربِّ أرني أنظُرْ إليكَ} [الأعراف: 143]. قالوا: فهذا سؤالٌ، وقد سأل موسى الله الرؤية، فدلَّ على أنها جائزة على الله تعالى، فلو استحال ذلك، لم يجُزْ أن يسأله، والذي يدلُّ على أن ¬
السؤال سؤال موسى عليه السلام: وجهان: أحدهما أنه أضاف السؤال إلى نفسه. والثاني: أنه تاب، والتوبة لا تصحُّ إلاَّ من فعل النفس. وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا بأن الرؤية ها هنا بمعنى العلم، ولا اعتماد عليه، لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجرَّدت، فأمَّا إذا قارنها النظر، فلا تكون بمعنى العلم. فالأولى ما ذكره غيره من مشايخنا، وهو أن السؤال لم يكن سؤال موسى عليه السلام، وإنما كان سؤالاً عن قومه، والذي يدلُّ عليه قوله تعالى لمحمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، فصرَّح الله تعالى بأن القوم الذين حملوه على هذا السؤال. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى حاكياً عن موسى عليه الكلام: {أتُهلِكُنَا بما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، فبين أن السوال سؤالٌ عن قومه، وأن الذنب ذنبهم. فإن قيل: لولا أن الرؤية غير مستحيلةٍ على الله تعالى، وإلاَّ لما جاز أن يسأله (¬1) لا عن نفسه ولا عن قومه، كما لا يجوز أن يسأل الله الصاحبة والولد لما كان مستحيلاً عليه. قلنا: فرق بينهما، لأن مسألة الرؤية يمكن معرفتها بالسمع، فجاز أن يطلب فيها دلالة سمعية بخلاف مسألة الصاحبة والولد. وقد قيل: إنه علم أن الرؤية مستحيلة على الله جل وعز، ولكنه سأله عن ذلك، لأن الأمة لم يكن نَفَعَهُم (¬2) جوابه، فسأل الله سبحانه لِيَردَ من جهته جوابٌ (¬3) يُقْنِعُهُم. فأمَّا ما ذكروه ¬
في الصاحبة والولد، فلا يصح، لأنه إنما لم يسأل، لا لأن الصاحبة والولد مستحيلٌ على الله تعالى، والرؤية غير مستحيلةٍ، بل لأنهم لا يطلبون منه ذلك، حتى لو قدَّرنا أنهم طلبوا منه ذلك، وعَلِمَ أنه لا يُقنعهم، لجاز أن يسأل الله تعالى ذلك، وقد قيل: إن بين الموضعين فرقاً، لأن إحدى المسألتين لا يمكن أن يُستدلَّ عليها بالسمع والأخرى يُمكن ذلك فيها، ففارق أحدُهما الآخر. وأما ما ذكروه من أن السؤال سؤال موسى عليه التسلام، لأنه أضاف الرؤية (¬1) إلى نفسه بقوله: {ربِّ أرني أنظُر إليك}، فلا يصح، لأنه غير ممتنع أن يكون السؤال سؤال قومه، ثم إنه يضيفه إلى نفسه، وهذا ظاهرٌ في الشاهد. ألا ترى أن الكبير منَّا إذا شَفَعَ لغيره في حاجةٍ، ربما يقول: اقضِ حاجتي، وأنْجِح طَلِبَتِي (¬2)، وما جرى هذا المجرى، فيُضِيفُه إلى نفسه، وإن كانت الحاجة حاجة غيره. وأما ما قالوه من أن السؤال سؤال موسى، لأنه تاب من ذلك، والتوبة لا تصح إلاَّ من فعل نفسه، فلا تصح أيضاً، لأن توبته هو، لأنه سأل الله تعالى بحضرة القوم بغير إذنٍ، ولا يجوز من (¬3) الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة الأمة من غير إذنٍ سمعيّ، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في أن لا يُجابوا، فيكون ذلك تنفيراً عن قبول قوله. وأما الصاعقة، فلم يكن ذلك عقوبةً، وإنما كان امتحاناً وابتلاءً، كما امتحن الله غيره من الأنبياء، وهده الآية حجة لنا عليهم من وجهين: أحدهما هو أنه تعالى قال مُجيباً لسؤاله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}، و" لن " موضوعةٌ للتأبيد، فقد نفي أن يكون مرئياً ألبتة، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه. ¬
فإن قالوا: أليس أنه قال تعالى حاكياً عن اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي: لا يتمنَّون الموت، ثم قال حاكياً عليهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، فكيف يقال: إن " لن " موضوعٌ للتأبيد؟ قلنا: إن " لن " موضوعةٌ للتأبيد، ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلاَّ حقيقة، بل لا يمتنعُ أن يستعمل مجازاً، وصار الحال فيه كالحال في قولهم: أسدٌ، وخنزيرٌ، وحمارٌ، فكما أن موضوعها (¬1) وحقيقتها لحيوانات مخصوصةٍ، ثم يُستعمل في غيرها على سبيل التوسع والمجاز، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها، كذلك ها هنا. والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية: هو أنه تعالى قال: {لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} علَّق الرؤية باستقرار الجبل، فلا يخلو: إما أن يكون علَّق الرؤية باستقراره بعد تحرُّكه وتَدَكْدُكِهِ، أو علَّقها به حال تحرُّكه، لا يجوز أن تكون الرؤية قد علقها باستقرار الجبل بعد تحركه، لأن الجبل قد استقر، ولم ير موسى ربَّه، فيجب أن يكون قد علق الرؤية باستقرار الجبل حال تحركه، دالاً بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه. ويكون هذا بمنزلة قوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، وأشباهه. ومما يتعلقون به: قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَوْنَهُ سلامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها ذِكْرُ اللقاء، والأصل في الجواب (¬2) عن ذلك أن اللقاء ليس (¬3) هو بمعنى الرؤية، ولهذا استُعمل (¬4) أحدهما حيث ¬
لا يُستعمل الآخر. وعلى هذا، فإن الأعمى يقول: لقيت فلاناً، وجلست بين يديه، وقرأت عليه، ولا يقول: رأيته. وكذلك يسأل أحدهم غيره: هل لقيت (¬1) المَلِكَ؟ فيقول: لا، ولكني رأيته على القصر، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر، لم يَجُزْ ذلك، فثبت أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية، وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازاً. وإذا ثبت ذلك، فيجب أن تُحْمَلَ هذه الآية على وجهٍ (¬2) يُوافِقُ دلالة العقل، فنقول: المراد بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب: 44]، أي: يوم يلقون ملائكته، كما قال في موضع آخر: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24] وأما قوله جل وعز: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثواب ربه، ذكر نفسه وأراد غيره. كما قال في موضع آخر (¬3): {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 42]، أي: إلى طاعة العزيز الغفار (¬4). وقال تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أي (¬5): إلى حيث أمرني ربي. وقوله تعالى: {وجَاءَ ربُّكَ} [الفجر: 22] أي: وجاء أمر ربك. {واسألِ القرية} [يوسف: 82] أي: أهل القرية. ونظائر هذا أكثر من أن تحصر. وبعد: فلو كانت هذه الآية دالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى، لوجب في قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] أن (¬6) يدل على أن المنافقين يرونه وهم لا يقولون (¬7) بذلك، فليس إلاَّ أن الرؤية مستحيلةٌ على الله تعالى في كل حالٍ وأن لقاءه بهذه الآية محمولٌ على عقابه، كما في تلك الآية محمولٌ على لقاء ثوابه (¬8) أو لقاء ملائكته، وفي الحكاية أن ¬
قاضياً من القضاة استدلَّ بقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] على أنه تعالى مرئيٌّ، فاعترض عليه ملاَّح فقال: إنه ليس اللقاء بمعنى الرؤية، لأن أحدهما يُستعمل حيث لا يستعمل الآخر، بل يثبت أحدهما وينفي الآخر، ولا يتناقض الكلام، وقال: فلو كان اللقاء بمعنى الرؤية، لم يختلف الحال فيه بالمؤمنين والمنافقين، وقد قال الله عز وجل: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، فيجب أن يدل على أن المنافقين يرونه. فقال له القاضي: من أين لك هذا؟ فقال: من رجلٍ بالبصرة يقال له أبو علي بن عبد الوهاب الجُبَّائي. فقال: لعن الله ذلك الرجل، فقد بثَّ الاعتزال في الدنيا، حتى سلَّط الملاَّحين على القضاة. ومما يتعلَّقون به: قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قالوا: بيَّن الله تعالى أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله تعالى، وهذا يدل على أن المؤمنين لا يُحجبون، وفي ذلك ما يقوله. والأصل في الجواب عن ذلك: أن هذا استدلالٌ بدليل الخطاب، وذلك لا يُعتمدُ في فروع الفقه، فكيف في أصول الدين؟ وبعد: فليس في ظاهر الآية ما يدلُّ علي أن الكفار يوم القيامة يحجبون عن رؤية الله تعالى، لأنه تعالى (¬1) قال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، ولم يقل: عن رؤية (¬2) ربهم. ومتى قالوا: المرادُ بقوله: عن ربهم: عن رؤية ربهم، قلنا: ليس كذلك، بل المراد: عن ثواب ربهم. لأنكم إذا عدلتم عن الظاهر، فلستم بالتأويل أولى منا فنحمله على وجه يُوافِقُ دلالة العقل. ومما يتعلقون به: إجماع الصحابة. قالوا: أتَّفقت الصحابة على أنه تعالى يُرى، وإجماعهم حجة، فيجب القضاء بأنه تعالى مرئيٌّ. ¬
قلنا: لا يمكن ادّعاء إجماع الصحابة على ذلك، فقد رُوِي عن عائشة لما سمِعَتْ قائلاً يقول: إن محمداً رأي ربه، فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت ثلاثاً من زعم أن محمداً رأي ربه، فقد أعظم الفِرْيَةَ على الله ثم تلت قوله تعالى (¬1): {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (¬2). وبعد، فمعلومٌ من حال أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأكابر الصحابة أنهم كانوا ينفون الرؤية عن الله تعالى، وأنت إذا نظرت (¬3) في خُطَب أمير المؤمنين، وجدتها مشحونةً بنفي الرؤية عن الله، فبطل ما قالوه، والحمد لله. ومما يتعلقون به: أخبارٌ مرويَّةٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثرها (¬4) يتضمَّن الجبر (¬5) والتشبيه، فيجب القطع بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقلهُ، وإن قال، فإنما قال حكايةً عن قومٍ، والراوي حذف الحكاية، ونقل الخبر من جملتها، وهو أسف (¬6) ما يتعلقون به ما يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر " (¬7). قلنا (¬8): في الجواب عن هذا طرق ثلاث: أحدها: هو أن هذا الخبر يتضمن الجبر (¬9) والتشبيه، لأنا لا نرى القمر إلا عالياً مُدَوَّرَاً مُنَوراً، ومعلوم أنه لا يجوز أن يُرى القديم على هذا الحدِّ، فيجب أن يُقطع أنه كذبٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله، وإن قال، فإنما قال حكايةً عن قومٍ ¬
على ما ذكرناه. والطريقة الثانية: هو أن هذا الخبر يُروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجليِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيسٌ هذا مطعونٌ من وجهين: أحدهما: أنه كان يرى (¬1) رأي الخوارج، يُروى أنه قال: منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقية الأحزاب -يعني أهل النهروان- دخل بغضه قلبي، ومن دخل بغض أمير المؤمنين (¬2) قلبه، فأقلُّ أحواله ألاَّ يُعتمد على قوله، ولا يُحتجَّ بخبره (¬3). والثاني: قيل: إنه خُولِطَ في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه -على عادتهم (¬4) - في حال عدم التمييز، ولا ندري أن هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أم مختلط العقل (¬5)، يُحكى عنه أنه قال لبعض الناس: اعطني درهما أشتري به عصاً أضرب بها الكلاب، وهذا من أفعال المجانين. ويقال (¬6) أيضاً. إنه كان محبوساً في بيت، فكان يضرب بيده على الباب، فكلما طقطق، ضحك، فلا يمكن الاحتجاج (¬8) بقوله، لأنَّ هذا دلالة الجنون عليه (¬9). والطريقة الثالثة: أن يقال: إن صحَّ هذا الخبر، وسَلِمَ، فأكثرُ ما فيه أن ¬
يكون خبراً من أخبار الآحاد، وخبر الواحد لا يقتضي العلم، ومسألتنا طريقها القطع والثبات، وإذا صحت هذه الجملة، بطل ما يتعلقون به. ثم إن هذا الخبر مُعَارَضٌ بأخبارٍ رُوِيَت، منها ما روى أبو قِلابة، عن أبي ذرِّ قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ فقال: " نورٌ هو؟ أنَّى أراه " (¬1)، أي: أنورٌ هو؟ كيف أراه، فحذف همزة الاستفهام جرياً على طريقتهم في الاختصار، وعلى هذا قول الشاعر: فوالله ما أدري وإن كنتُ دارِياً ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجمر أمْ بِثَمانِ (¬2) وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله أنه قال: " لن يرى الله أحدٌ، لا في الدنيا ولا في الآخرة " (¬3). وقد قيل لعليٍّ عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: ما كنت لأعبدَ شيئاً لم أره، فقيل: كيف رأيت؟ فقال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، موصوفٌ بالآيات، معروفٌ بالدلالات هو الله الذي لا إله إلاَّ هو الحي القيوم. ثم نتأوله على وجهٍ يُوافقُ دلالة العقل، فنقول: المرادُ به: سترون ربكم يوم القيامة، أي: ستعلمون ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر، وعلى هذا قال: " لا تضامون في رؤيته ": أي: لا تشكون فعقَّبه بالشكِّ. ولو كان ¬
بمعنى رؤية البصر، لم يَجُزْ ذلك، والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن، وورد به الشعر (¬1). قال تعالى: {ألمْ تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظِّلّ} [الفرقان: 45]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] وفي الشِّعر: رأيتُ الله إذ سمَّى نِزَارَا ... وأسْكَنَكُمْ بِمَكَّةَ قَاطِنينَا أي: علمت. وقال حاتم طيىء: أماويُّ إن يُصبِحْ صَدَايَ بقَفرَةٍ (¬2) ... مِنَ الأرضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ تري أن ما أنفقتُ لم يكُ ضَرَّني ... وأنَّ يَدِي مما بَخِلْتُ به صِفْرُ أمَاوِيُّ ما يُغْنِي الثراءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً، وضَاقَ بها الصَّدرُ (¬3) [فإن] قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - أورد هذا الخبر مَوْرِدَ البشارة لأصحابه، وأيُّ بشارة في أن يعلموا الله تعالى في دار الآخرة؟ ومعلومٌ أنهم يعلمونه في دار الدنيا. قلنا: إنما بشَّرنا بالعلم الضروري. والعلم الضروري لا يثبت إلاَّ في دار الآخرة. فإن قال: أيُّ بشارة في أن يعلم الله تعالى ضرورة. قلنا: لئلا يلزم مؤنة (¬4) النظر، وتعب الفكر. فإن قال: فيجوز (¬5) على هذا أن يكون (¬6) المنافقون والمؤمنون سواء، لأنهم ¬
يعرفون الله تعالى ضرورةً كالمؤمنين. قلنا: إن المنافقين والكفار إذا علموا الله تعالى ضرورةً، فلا يكون حالهم وحال المؤمنين سواءً، لأن المؤمنين إذا عرفوا الله تعالى ضرورة، وعلموا دوام ثوابهم، ازدادوا سروراً وفرحاً، ويكون عيشهم أهنأ وأرغد، وليس كذلك حال المنافقين، لأنهم إذا عرفوا الله تعالى ضرورة، وعلموا دوام عقابهم، ازدادوا غَمَّاً وحسرةً، وكانوا في عُقوبةٍ وعذابٍ. [فإن] قالوا: الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين، نحو: رأيتُ فلاناً فاضلاً، ولا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلاَّ إذا كانت بمعنى المشاهدة. قلنا: لا يمتنع أن يكون الأصل ما ذكرتموه، ثم نقتصر على أحد مفعوليه توسُّعاً ومجازاً، كما أن همزة التعدية إدا دخلت على (¬1) الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين يقتضي تعدِّيه إلى ثلاثة مفعولين، ثم قد يدخل على الفعل الذي هذه حاله، ويقتصر على مفعولين، ولهذا قال الله تعالى: {أرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، فأدخل الهمزة على الرؤية، واقتصر على مفعولين، على أن حال الرؤية إذا كان بمعنى العلم ليس بأكثر من حال العلم، ومعلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد مفعوليه، فيقولون ما أعلم ما (¬2) في نفسك، ولهذا قال الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]. فإن قال: إن العلم هناك بمعنى المعرفة، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد مفعولَيْهِ. قلنا: فَارْضَ مِنَّا بمثل هذا الجواب. فنقول: إنَّ الرؤية بمعنى المعرفة في ¬
الوهم السابع عشر: دعوى السيد أن البخاري وأهل الحديث من المجبرة
الخبر، لأن المراد بقوله " سترون ربكم يوم القيامة "، أي ستعرفون ربكم يوم القيامة كما تعرفون القمر ليلة البدر، فلا يجبُ أن يتعدى إلى مفعولين (¬1). انتهى كلام المعتزلة، فمن أراد معرفة الحق في هذه المسألة، وكان من أهل الذكاء والفهم للأدلة الدقيقة المتعارضة نظر في كلام المعتزلة (¬2) هذا وفي كلام أهل السنة السابق قبله، وجعل الفريقين كالخصمين، وكان كالحاكم بينهم بعد الجمع بين أطراف كلامهم والإنصاف في الحكم بينهم، ومن لم يكن كذلك، ولا كان أهلاً لذلك، فالإيمان بمراد الله تعالى على الجُملة يجزيه ويكفيه، والتَّعرُّض لما لا يُحسنُه يُطغيه ويُغويه، والله الهادي، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الوهم السابع عشر: قال أيده الله: وأما الإجبار، فهو ظاهرٌ من مذاهبهم (¬3) هذا محمد بن إسماعيل البخاري قال في " صحيحه " في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ما لفظه: ما خلقت أهل السعادة إلاَّ ليُوحِّدوني، وليس فيه حجة لأهل القدر (¬4). انتهى. ¬
الوهم الثامن عشر: تتمة للوهم السابق ومناقشة المؤلف له
أقول: توهم (¬1) السيد أنه يمكنه الاحتجاج على أن البخاري جبريٌّ مما في " صحيحه "، وهذا لا يمكن السيد، لأنه قد سدَّ الطريق إلى صحة ما في " صحيح البخاري " عن البخاري، وذلك في أحاديث الفروع التي يكفي الظن في قبولها (¬2)، فكيف بصحة ما (¬3) في " البخاري " عنه في محل التكفير والتفسيق الذي يجب فيه التواتر عند السيد (¬4)، فليرجع عن أحد المذهبين، فما يصح له الجمع بينهما. الوهم الثامن عشر: وَهِمَ السيد أن كلام البخاري هذا يدلُّ على الجبر، والجبر يستلزم الكفر، وهذا يستلزم أمرين: أحدهما (¬5): القدح في الحديث بكون البخاري من رواته، وهذا كما تقدم في الوهم الخامس عشر في قدحه في الحديث برواية الإمام أحمد. وقد تقدم الجواب هناك، فراجعه. وخلاصته أنه من جهل الضروريات (¬6) الذي لا دواء له إلاَّ سؤال أهل العلم وترك العناد، ونذكر هنا (¬7) سيرة البخاري، وكلام العلماء فيه، أو يؤمر طالب الهداية (¬8) بمطالعة ذلك، ومن مظانِّه كتاب " النبلاء " (¬9). الأمر الثاني: رميُ المحدثين بالجبر، وهذا إغرابٌ عظيمٌ من مذهبهم، أو تحاملٌ شديدٌ عليهم، فإن أهل الحديث فرقةٌ غير الأشعرية، والأشعرية أربع فرقٍ، الجبرية منهم فرقةٌ واحدةٌ، والجبرية منهم أيضاً يقولون: بأن الاختيار إلى العبد أيضاً كما سيأتي بيانه في الوهم السابع والعشرين. وهذه الفرق الخمس ¬
مُجمعون على القول بصحة القدر، مع نفي أكثرهم للجبر، وتفسير أهل الجبر له بما يبقى معه الاختيار، فدل هذا على الفرق بين القدر والجبر عندهم وعند غيرهم. والفرقُ بينهما في غاية الوضوح لأهل العلم، وممن نصَّ على إثبات القَدَرِ ونفي الجبر: الخطَّابي في " معالم السنن " والنواوي في " شرح مسلم "، وأبو السَّعادات ابن الأثير في " جامع الأصول " وغيرهم. هذا في الكتب الموجودة في ديار الزيدية. وسيأتي في الوهم التاسع والعشرين ذكر أدلتهم على إبطال الجبر، بل ذكر دعواهم الضرورة في بُطلانه، بل تكفير جماعة منهم للقائل به. وبيان الوهم في كلام السيد أنه إمَّا أن يأخذ الجبر من قول (¬1) البخاري، " وليس فيه حجة لأهل القدر " أو من تأويل الآية، إن كان الأول، فهو لا يدلُّ على ما ذكره، وذلك لأن القدرية الخُلَّصَ عند المحدثين هم (¬2) الذين يقولون: إن الله تعالي لا يعلمُ الغيب على ما ذكره النواوي في " شرح مسلم " والخطابي وغيرهما، لأنهم فسروا القدر بعلم الله السابق من غير إجبارٍ، وفسَّروا القدرية بمنكري ذلك (¬3)، فصرَّحوا بذلك كلِّه. فالبخاري ردَّ على هؤلاء الذين يقولون: إن الله لا يعلم الغيب، وسمَّاهم أهل القدر (¬4)، لأن الآية من أعظم شُبَهِهِم، لأنهم يقولون: لا يصحُّ من القديم (¬5) إرادة ما يعلم أنه لا يحصل. والآية عندهم تدل على أن الله أراد العبادة من الكُفَّار، والضرورة تدل على أن العبادة ما حصلت (¬6) منهم، فدلَّتِ الآية عندهم على أن الله ما علم أن الكفار يُصرُّون على الكفر، ويموتون عليه. ولما كانت طوائف الأشعرية الأربع، وأهل الحديث يُوافقون القدريَّة على أن الله لا يصحُّ أن يُريد ما يعلم أنه لا يقع، احتاجوا إلى تأويل الآية على معنى لا يلزم معه (¬7) ما توهمَّت القدرية، فمنهم من قال ¬
بتخصيص الآية، ورجَّحوا التخصيص، لأنه لازمٌ على جميع المذاهب كما سيأتي بيانه، وهو الذي اختاره البخاريُّ. ومعنى التخصيص عند هذه الطائفة أن معنى الآية: ما خلقت أهل الإيمان من الجن والإنس إلاَّ لذلك، كما في قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] أي: يشرب بها المقرَّبون من عباد الله، وكما تخصُّ المعتزلة والقدرية من ذلك الأطفال والمجانين من الأعيان، وأحوال النوم، والنسيان، وما بعد الموت من الأزمان، فعلى هذا التأويل يقول البخاري: ليس لمن قال: إن الله لا يعلم الغيب حجة في نفس الآية الذي (¬1) لا يحتمل (¬2) التأويل، ويُنسب منكره إلى تكذيب السمع، والكفر بما قال، بل هي عمومٌ يجوزُ تخصيصه بالأدلة المنفصلة عنه من العقل والسمع، والقدرية ممن تُخصِّصُه (¬3) كما تقدم، فليس فيه حجة لهم على من وافقهم من أهل السنة على أن الله لا يريد ما يعلم أنه لا يقع. ومن أهل السنة من اختار أن الآية على عمومها، ولكن التقدير فيها لطلب أن " يعبدون ". فإن الله طلب العبادة من الكفار، وأمرهم بها إجماعاً، وليس التقدير لإرادة أن " يعبدون ". ورجحوا هذا بوجهين: الأول: أنه لا يخرج الآية إلى التجويز (¬4) بخلاف التخصيص، فإن إطلاق العامِّ على الخاصِّ مجازٌ. الثاني: أن حمل الآية على أمرٍ معلومٍ من الذين مُجْمَعٌ عليه عند فرق المسلمين (¬5) أولى من أمرٍ على خلاف ذلك، وليس في هذا إلاَّ استعمال (¬6) لام " كي " في موضع الطلب، وهو صحيحٌ لا مانع منه، لأنه يُستعمل في موضع الإرادة، والإرادة (¬7) تُستعمل في الأمر عند شيوخ المعتزلة البغدادية، كما سيأتي ¬
تحقيقُه في مسألة الإرادة. وأما إن كان السيد إنما فَهِمَ الجبر من البخاريِّ من مجرد تأويله للآية، فهذه غفلةٌ عظيمةٌ، فإن تأويل الآية لازمٌ عند جميع الفرق، بل تأويلها يلزم على أصول المعتزلة في مواضع أكثر مما يلزم على أصول أهل السنة: الموضع الأول: التخصيص. كما تقدم بالنظر إلى الأطفال، والمجانين، والتقييد بالنظر إلى ما بعد الموت، وأوقات النوم والنسيان، بل المخصوص عند بعض المعتزلة لا يحتج به، لأنه قد علم أن ظاهره غير مرادٍ، فالتبس المراد منه. الموضوع الثاني: إن المعتزلة لا يجيزون (¬1) خلق الخلق لأجل العبادة، إذ العبادة ليست الغاية المقصودة (¬2) التي ليس وراءها غايةٌ، بل العبادة من جملة الوسائل المقصود بها غيرها، قال الله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَليَعْمَلِ العَامِلُونَ} [الصافات: 61]، وإنما الغاية المقصودة: الثواب العظيم، والنعيم المقيم في دار البقاء، ومنزل أهل التُّقى (¬3). ودخولُ لام الغاية على العبادة التي هي وسيلة محضةٌ غيرُ مرادةٍ لنفسها مجازٌ، وهو من إقامة الشيء مقام ما يؤول إليه، مثل تسمية أموال اليتامى ناراً في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. الموضع الثالث: مما يوجب تأويل الآية عند المعتزلة. أنها تقتضي حصر وسائل السعادة، وقصرها على العبادة بمجردها، وهي غير منحصرةٍ في ذلك، فإن معرفة الرب جل جلاله ومعرفة صفاته وكماله، واستقرار ذلك في القلب بالبراهين واليقين التَّام أعظم وسائل السعادة الدائمة، وقد ورد التعليل بذلك في كتاب الله تعالى قال: سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ ¬
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وخلقُ الجماد لأجل العلم يستلزم بالضرورة خلق العقلاء لأجل ذلك، فثبت أن الله خلقهم لأجل ذلك، فهذا في حقِّ المؤمنين، وفي خلق جميع المكلفين قوله تعالى في هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وكذلك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وتال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2]. وكذلك رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: إن المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعرفون، وجعل المعرفة رأس العبادة ومعظمها (¬1). وسيأتي تحقيق ذلك وما تحتمله الآية من الوجوه المتفق عليها والمختلف فيها في تفسير هذه الآية في مسألة الإرادة إن شاء الله تعالى. وأما متكلِّمو الأشعرية، فتُصادِمُ الآية مذهبهم بقوة مفهومها لا نصِّها، فإنهم إن حاولوا تأويلها بلام العاقبة، كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وكقول القائل: لِدُوا للموت وابنُوا للخرابِ (¬2) ¬
الوهم التاسع عشر: في الإرجاء
لم يأخذ حظَّه من القوة والبلاغة لأنا متى مَحَوْنَا من الآية أثر التعليل، وأردنا بيان مجرد عاقبة الخلق أجمعين، لم تكن هي (¬1) العبادة لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل عاقبة الخلق هي دار الآخرة التي هي دارُ القرار. وأما الدنيا (¬2) التي شبَّهها الله تعالى بعشيَّةٍ أو ضحاها، وسمَّاها لَعِبَاً ولهواً، فليست وما كان فيها عاقبة الخلق حقيقةً (¬3) ولا مجازاً، أما الحقيقة، فظاهر، وأما المجاز، فلأن العبادة التي كانت فيها من أهل السعادة والكفر من أهل الشقاوة ليسا عند الأشعرية سبب الثواب والعقاب في دار الآخرة، فلا يصحُّ إقامة الأعمال مقام جزائها، ودخول لام العاقبة عليها على أصلهم، وذلك لأن مذهبهم أن أفعال الله كلها (¬4) غيرُ معلَّلة بعلَّةٍ، ولا واقعة لغرضٍ، ولا لها سببٌ ولا داعٍ، ولا عليها حاملٌ ولا باعثٌ. وسوف يأتي بيان ركاكة هذا في العقل والسمع في الوهم الثامن والعشرين إن شاء الله تعالى. الوهم التاسع عشر: قال: وأما الإرجاء، فهو أنواعٌ: منه ما يقتضي الكفر. إن كان السيد قصد بها حكاية المذهب، فقد وَهِمَ في ذلك (¬5)، والذي في كتب الزيدية غير ما ذكر. ففي " التذكرة " (¬6) للقاضي شرف الدين حسن بن محمد النَّحوي التي هي ¬
الوهم العشرون: فيمن عرف الله بقلبه فقط
مَدْرَسُ الزيدية الآن: إن الاختلاف في الإرجاء لا يقتضي كفراً ولا فسقاً ولا جرحاً، وجعله كالاختلاف في الأعواض، وكذلك قال (¬1) القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدوَّاري في كتاب " الدِّيباج النضير " (¬2) وهما أرسخُ قدماً في معرفة المذهب منه أيده الله، فإن كان يتحقَّقُ غَلَطُهُمَا فيما نقلاه (¬3) فليبيِّن وجه ذلك بذكر إسناده في نقله، وترجيحه على إسنادهما بطرق الترجيح المعروفة، ووجه القطع ببطلان نقلهما (¬4). وإن كان السيد يريد أن ذلك مذهبٌ له اختاره، فقد وَهِمَ أن في إيراده بغير حُجَّةٍ فائدة في هذا الموضع، وليس له فيه فائدة ألبته، لأن أقصى ما في الباب أن نكون مقلِّدين للسيد، لكن هذه المسألة ليست من مسائل التقليد، فإن التكفير عند السيد يحتاج إلى دليلٍ قاطع، ولا يحلُّ العمل بالظَّنِّ فيه لمتبوع ولا تابع، فما باله يدُلُّ (¬5) بالدعوى من غير دليلٍ ويُعَوِّلُ في دفع الخصم على ما ليس عليه تعويل. الوهم الموفي عشرين: حُكِيَ عن الرازي أنه قال: فإن قلت: فما تقول فيمن عَرَفَ الله بقلبه فقط، وما قال: لا إله إلاَّ الله أبداً لغيرِ عُذرٍ، ولا (¬6) فعل شيئاً من الواجبات، ولا ترك شيئاً من المحظورات إلاَّ ارتكبه؟ قلت: أجيب بما أجاب به الغزاليُّ أنه مؤمنٌ، ويُدْخِلهُ الله الجنة إن شاء الله. انتهى بلفظه أو ما يقرب من لفظه إلى آخر كلام السيد. قال: وعلى أصلهم: إيمانُ هذا كإيمان أفضل المسلمين، وتجويزُ دخوله الجنة كتجويز دخول أفضل الصَّالحين. ¬
أقول: ما مرادُك بالإيمان الذي يُسوُّون فيه بين المؤمنين؟ هل التصديق والاعتقاد الذي في القلب من جنس العلم الاستدلالي؟ فإذا إجماعٌ، فإن اعتقاد الفاسق أن الله ربه مثل اعتقاد الصالح عند النظر في الأدلة، وإنما الخلاف في تسمية اعتقاد الفاسق إيماناً مع الكبائر على تسميته إيماناً (¬1) مع الصلاح والاستقامة، قال الله تعالى: {إلاَّ من أُكْرِهَ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ} [النحل: 106]. أو تريد أن من مذهبهم أنَّ من آمن بقلبه، وعصى بجوارحه، فمنزلته عند الله مثل منزلة من آمن بقلبه وأطاع بجوارحه، فهذا وهمٌ فاحشٌ، فإنهم لا يسوُّون بين المؤمنين في الإيمان. وقد بوَّب البخاريُّ باباً في " صحيحه " على زيادة الإيمان ونقصانه، واحتجَّ على ذلك بحُججٍ كثيرةٍ من القرآن (¬2) والسنة (¬3). وليس الفاسق يسمَّى عند أهل السنة مؤمناً على الإطلاق، وإنما يُسمّى مؤمناً بقلبه. قال ابن بطَّال (¬4) في " شرح البخاري " ما لفظه: وكذلك لو أقرَّ بالله ورسوله، ولم يعمل الفرائض، لا يُسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب قد يجوزُ أن يُسمى مؤمناً بالتصديق، فغير مستحقٍّ لذلك في حكم الله تعالى لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، فأخبر تعالى أن المومنين -على الحقيقة- من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل، وضيَّع ما أمر به (¬5) وفرط. انتهى. ¬
الوهم الحادي والعشرون: من سوى بين الكافر وبين أفاضل المسلمين، رد ما هو معلوم ضرورة من الدين
وذكر القاضي: أبو بكر بن العربي المالكي (¬1) في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " اختلاف الناس في المسلم والمؤمن، وفي اشتقاق اسميهما، واختار أن المسلم من أسلم نفسه من عذاب الله، والمؤمن من أمَّنَ نفسه منه. وهذا يدلُّ على أن الفاسق لا يُسمَّى مؤمناً على الإطلاق عندهما، سلمنا أنه يسمى بهذا الاسم مؤمناً عندهم مطلقاً أو عند بعضهم، فإن من تُسمِّيه بذلك لا يعني أنه صالحٌ عَدْلٌ، ولا نُسَوِّي (¬2) بينه وبين أهل العدالة والصِّيانة، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يجرِّحُون الفاسق المصرِّح في الشهادة والرواية، وأنهم يفضِّلُون بعض المؤمنين على بعضٍ (¬3) مثل تفضيلهم للخلفاء الراشدين على مَنْ بعدَهم. وبالجملة (¬4): فلا حاجة إلى التطويل بذكر ما يدلُّ على مذهبهم في ذلك. فهو معلومٌ بالضرورة والتواتر، ومُنكرهُ لا يزيد على النداء الصريح على نفسه بأنه من جملة الخرَّاصين، وأفحش الكذابين، لأن أهل الكذب خَذَلهُمُ الله تعالى إنما يكذبون في المواضع الخفية التي تمضي فيها أقوالهم الفريَّة. وقد تقدَّم الجواب على مثل هذا في مسألة المتأوِّلين مستوفى، فخذه من هناك، فإني لم أقتصر على هذا القدر إلاَّ لأنِّي استوفيتُ الجواب هناك. الوهم الحادي والعشرون: قال: ومن سوَّى بين هذا الكافر وبين أفاضل المسلمين، أو قال: بأنه يدخل الجنة، فقد ردَّ ما هو معلومٌ ضروةً من الدين. أقول: أما التسوية بينهما، فالقوم قد صرحوا بأنهم ما سوَّوا بينهما، وذلك ¬
واضحٌ عنهم (¬1)، ولكنَّا نُورد نصَّ الغزالي الذي روى المعترض عنه من كتابٍ (¬2) هو نسخةٌ للمعترض حتى يشهد بكذب النفس (¬3) عليه شاهد حاضر لديه، فنقول: قال الغزالي في كتابه المعروف " بالتفرقة " في أواخره ما لفظه: واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبقُ الرحمة وشمولها بأسبابٍ ومكاشفاتٍ سوى ما سمعوه من الأخبار والآثار، ولكن ذِكْرُ ذلك يطول، فأبشر برحمة الله تعالى، وبالنجاة المطلقة إن جَمَعْتَ بين الإيمان وبين العمل الصالح، وبالهلاك المطلق إن خلوتَ عنهما جميعاً، وإن كنتَ صاحب يقينٍ في أصل التصديق، وصاحب خطأ في بعض التأويلات، أو صاحب شكٍّ فيها، أو صاحب خَلْطٍ في الأعمال، فلا تطمع في النجاة المطلقة، واعلم أنك بين أن تُعذَّبَ مرة ثم تُخلَّى، وبين أن يشفع فيك من تيقَّنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره. انتهى كلام الغزالي في كتاب " التفرقة بين أهل الإسلام والزندقة " (¬4). واعلم أنهم يقطعون بدخول المطيع الجنة وسلامته من العذاب. ومستندهم في القطع ثلاث حُججٍ: الأولى: وعدُ الله تعالى الصادق، فالكذب عليه -سبحانه- عندهم لا يجوز. وثانيها (¬5): علمه سبحانه السابق بأنهم من أهل الجنة، فالتغيير عندهم في معلومه لا يقع. وثالثها: إرادتُه سبحانه لهم ذلك وخلقُهم له، فمرادُه سبحانه عندهم لا يتخلَّف. ¬
وأما الفاسق، فيجوِّزون فيه الأمرين، ويكِلُون علمَه إلى عالم الغيب، لأنه سبحانه أجمل ذلك في قوله عز وجل: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. ثم إنهم لا يُسَوُّون بين أهل الجنة في مراتبهم، ولا بين أهل النار في دركاتهم، وكذلك جميع أهل الملة الإسلامية بل جميع الملل الإسلامية (¬1) والكفريَّه لا يساوون بين أهل الفضائل، ولا يُماثِلُون بهم أهل الرَّذائل، وما أحسن قول القائل: وَلَمْ أرَ أمثال الرِّجال تفاوُتاً ... لدى المَجْدِ حتَّى عُدَّ ألفٌ بواحدِ (¬2) وقال ابن دريد: والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ ... وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنى (¬3) وأما القول بأنَّ من آمن بقلبه، وعصى بجوارحه، فهو من أهل النار ضرورة من الدين، فهذا يقتضي أنه كافرٌ ضرورة من الدِّين، لكن لا دليل على ذلك، ولعل الصواب أن كفره معلومٌ بالضرورة من مذهب بعض أهل الكلام. ومن بنى (¬4) التكفير على غير قاعدةٍ قطعيةٍ ولو كان كفره معلوماً بالضرورة، لاشترك (¬5) العلماء في ذلك، ولوجب أن تكون طريقة معرفته النقل لا العقل، والطريق النقلية المفيدة للضرورة لها شروطٌ: أحدها: أن يُنقل نصٌّ جليٌّ لله تعالى، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - غير محتملٍ للتأويل في هذا المعنى مثل قوله: من آمن بقلبه ولم يُطِع، فهو كافرٌ، حكمةُ حكم ¬
الوهم الثاني والعشرون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله "
المشركين بالله، وإيمانُه باطلٌ، فإن كان هذا لا يحتمل التأويل كفي، وإلاَّ وجب أن ينضمَّ إليه من القرائن ما يُوجب إرادة الظاهر، ويمنع التأويل قطعاً. الشرط الثاني: أن يُنقل هذا اللفظ أو ما (¬1) يقوم مقامه نقلاً متواتراً في الوسط والطرفين. الشرط الثالث: العلم القطعيُّ بعدم المعارضة وعدم النسخ. فإذا عرفت هذا، فمن المعلوم أنه ما حصل واحدٌ من الشروط، بل ما نُقِلَ في هذا لفظ صريحٌ ظنِّيٌّ آحادي. وأما القرآن فهو برىءٌ من النصِّ في هذه المسألة، ولهذا قال علماء الوعيدية: إن المخالف فيها لا يُكفر ولا يُفسق. الوهم الثاني والعشرون: قال: وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها، عَصَمُوا منِّي دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها " (¬2)، فإن كان هذا الذي ذكراه مؤمناً، فكيف يُقاتله الرسول على الإيمان؟ أقول: غفلة السيد في هذا الكتاب ما وقفت على حدِّ، وكلامه في هذا ¬
الوهم الثالث والعشرون: ظن السيد أن الاحتجاج بالحديث يصح في آخر الكتاب ويمتنع في أوله
الموضع مما كنت أظنه أرفع مكاناً من (¬1) أن يخفى عليه مثله هو ما عرف أن الرجلين لم يقولا: إن الإيمان هو ترك الشهادتين، حتى إذا قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك كان قد قاتل على الإيمان، إنما قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب، وعلى المؤمن بقلبه واجباتٌ أُخَرُ يستحق تاركها القتال بتركها، وإن كان مؤمناً، وهو النطق بالشهادتين وسائر أركان الإسلام الأربعة، وغيرها (¬2) مما ورد الشرع بقتال تاركه، أو قتال مرتكبه، وليس يخالف في هذه الجملة أحد من أهل الإسلام، فكيف غفل السيد عن هذا؟ وكيف ظن أن الغزالي والرازي -مع تبحُّرهما في العلوم، وتوغُّلهما في الدقائق- يذهبان إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من آمن بقلبه، ولم يَنْطِقْ بالإيمان على ما أضمر في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، هو ما درى أن النطق بالشهادتين (¬3) عندهما واجبٌ كالصلاة، والزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان، هو ما عرف أنه يجوزُ عند جميع أهل الإسلام للرسول بل للإمام أن يقاتل من ترك أحد أركان الإسلام، وإن لم يكفر التارك لأحدها، أليس قد صرح الرازي في كلامه الذي حكى عنه السيد أن للدين واجباتٍ، وفيه محرمات، حتى تكلم في من آمن بقلبه، وترك جميع الواجبات، وارتكب جميع المحرمات؟ فهو يقول: النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل تارك الشهادتين على ترك واجب من واجبات الإسلام التي، يكفر تاركها، لا على أنه آمن بقلبه، وكيف يكون القتال على ذلك؟ وهل يمكن أن يكون المطلوب بالقتال على الإيمان بالقلب إلاَّ اعتقاد الكفر بالقلب؟ وكيف ظن بهما هذا؟ وأي كلام لهما يقتضي هذا، والرسول (¬4) - صلى الله عليه وسلم - لم يُقاتل على ما في القلوب من الكفر، بل وَكَلَ الناس إلى ظواهرهم؟ فكيف يقاتل على ما في القلوب من الإيمان؟ الوهم الثالث والعشرون: ظن السيد أن الاحتجاج بالحديث يصح في آخر كتابه، ويمتنع في أوله، فإنه منع في أوله (¬5) من الاحتجاج بالحديث النبوي لعدم ¬
الوهم الرابع والعشرون: توهم أن مذهب الغزالي والرازي أن من آمن بقلبه فقد عصم دمه وماله
صحته في إسناده، وعدم معرفة معناه لغةً، وعدم العلم بفقد المعارض والناسخ والمخصَّص، وشدّد في ذلك، وشرع في آخر كتابه يحتجُّ بالأحاديث، فإما أن يكون ظن أن بين أول كتابه وآخره فرقاً واضحاً، أو ظن أنه صالحٌ لذلك، وليس غيره صالحاً، أو حَسِبَ أن خصمه لا يجمع بين أطراف كلامه، ولا يدري بمناقضاته وأوهامه، أو (¬1) السيد لا يدري ما يخرج من رأسه، ولا يفرِّق بين أقواله وأنفاسه. ومَنْ جَهِلَتْ نفسُهُ قَدْرَه ... رأى غيرُه منه ما لا يَرَى (¬2) الوهم الرابع والعشرون: قال: وأيضاً قوله: " فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم ". يقتضي (¬3) أنها لا تكون معصومةً حتى يقولوها. أقول: قد توهَّم (¬4) أن مذهبهما أن من آمن بقلبه، فقد عصم دمه وماله، ولم يقولا بما يقتضي ذلك بمنطوقٍ، ولا مفهومٍ، ولا قال بذلك أحدٌ، وإنما قال: إن هذه الأفعال الخمسة من أفعال الجوارح، والإيمان من أفعال القلوب، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} [النحل: 106] وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقوله عليه السلام في الحديث الصحيح وقد سئل عن الإسلام، فذكر الشهادتين وسائر الأركان الخمسة، وسئل عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ". خرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه (¬5) - ونظير ذلك من ¬
الوهم الخامس والعشرون: وهم أن قولهما هذا من الإرجاء
عمومات السمع كثير (¬1)، وهو يوجد حتَّى في كلام الوعيدية. قال الحاكم المُحسِّن بن كرَّامة المعتزلي في تفسيره " التهذيب " في قوله تعالى: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] من المصدقين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودينه. وأما الدم والمال، فإنما (¬2) يعصِمان بإقامة أركان الإسلام الظاهرة، وعليها يقعُ القتال دون ما حجبته الضمائر. ولهذا فإن المنافق الذي لم يؤمن بقلبه يعصم دمه وماله متى قام بأركان الإسلام الظاهرة، فهو كافرٌ في علم الله، وهو معصوم الدم والمال، وكذلك العكس، فقد يكون مؤمناً بقلبه في علم الله، وهو مباحُ الدم والمال، مستحق للعذاب بما ترك من الواجبات الظاهرة، وارتكب من المحرمات المعلومة. الوهم الخامس والعشرون: وهم السيد أن قولهما هذا من الإرجاء، بل قالي: هو من الإرجاء وأشنعه، وليس كما وَهِمَ، فإن الإرجاء يخالف مذهبهما من وجهين: أحدهما: أن المرجئة يقولون: الإرجاء قولٌ بلا عمل، ومنهم من يقول: ولا اعتقاد، وهما قالا: إنه اعتقادٌ من غير قولٍ ولا عملٍ، فأخرج (¬3) القول من الإيمان الذي أجمعت المرجئة على (¬4) أنه أساس الإيمان، ولهم (¬5) على ذلك أدلَّةٌ كان يلزم المعترض ذكرها. والجواب عنها، أو (¬6) الصَّمت عن ذلك كله. منها: أن الله تعالى وصف مؤمن آل فرعون بأنه يكتم إيمانه، ولم يبطل إيمانه بذلك، فيجب بيان دليلٍ قاطعٍ على أن شرط الإيمان المكتوم أن يكون منطوقاً. ¬
ومنها حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلاَّ الله دخل الجنة ". رواه مسلم والنسائي (¬1)، وفي " تلخيص " (¬2) ابن حجر أنه من " المستدرك " رواه البخاري ومسلم. وفي " مسند " أحمد (¬3) من حديثٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - " الإسلامُ علانيةٌ، والإيمان في القلب ". ومثله حديث عمر الذي في " صحيح " مسلم في تفسير الإسلام والإيمان والإحسان (¬4)، فيجب ذكر ما يُعَارِضُ هذه، وبيان مناقضة ذلك المعارض، والقطع بتعذر الجمع بدليلٍ قاطع. وثانيهما: أن المرجئة يقولون: إن المؤمن العاصي لا يُعذَّب قطعاً، وهما يُجوِّزان أن يعذَّب، وأن يُعفى عنه، ورواية السيد عنهما تقتضي (¬5) ذلك، وقد روى " الرَّصاص " (¬6) في " خلاصته " -وهي (¬7) مَدْرَسُكُم- حديثاً نصّاً أن الإرجاء هو القول بأن الإيمان قولٌ بلا عملٍ، وكذا نصَّ على ذلك محمد بن نشوان، ¬
وأبوه نشوان بن سعيد، ذكره في " الضياء "، وهما من المعتمدين في الُّلغة، وكأن السيد ما فرق بين الرَّجاء والإرجاء، والفرق بينهما معلوم عند أهل اللغة. قال الجوهري في " صحاحه " (¬1): أرجيت الأمر: أخَّرته. يُهمز ولا يُهمز، وقرىء: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} (¬2) [التوبة: 106] و {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (¬3) [الأعراف: 11]، فإذا وصفت الرجل به، قلت: رجلٌ مُرْجٍ، وقوم مُرجية، والرجاء: الأمل، يقال: رجوت فلاناً رجواً ورجاءً ورَجَاوَةً،: يقال ما أتيتك إلا رَجَاوَةَ الخير، قال بشر يخاطب ابنته: فَرَجّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القَارِظُ العَنَزِيُّ آبا (¬4) انتهى (¬5). وقد ورد في الحديث الحثُّ على الرجاء، والنهي عن الإرجاء، ففي ¬
الوهم السادس والعشرون: وهم أنهم كفار تصريح
الصحيح يقول الله تعالى: " أنا عند (¬1) ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء " (¬2). وفي الترمذي " -وليس إسناده بذاك-: " صِنْفَانِ من أُمتي ليس لهما في الإسلام نصيبٌ: المرجِئَة والقدرية " (¬3). وأحاديث الشفاعة الصِّحاح المتواترة المعنى قاضيةٌ بردِّ (¬4) مذهب المرجئة، فإنهم يذهبون إلى أن أهل الإسلام لا (¬5) يُعذبون. وفي أحاديث الشفاعة خروجُهم بها من النار، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، وإنما القصد بيان الفرق بين الرَّجاء والإرجاء، وقد فَهِمَ أهل الحديث هذا، وردُّوا على المرجئة في كتبهم. قال أبو داود في " السنن " باب ردِّ الإرجاء (¬6). وروى في ردِّه، وفي زيادة الإيمان ونُقصانه أربعة عشر حديثاً، عن: أبي هريرة (¬7) وجابر (¬8) وابن عمر (¬9) وابن عباس (¬10) وسعد بن أبي وقَّاص (¬11) وأبي أُمامة (¬12) والزهري، موقوفاً (¬13). وكذلك سائرُ أهل الصحاح والسنن قد أفرد كل منهم باباً في رد الإرجاء وزيادة الإيمان ونقصانه. الوهم السادس والعشرون: وهم أنهم كفار تصريحٍ، وأنهم يعلمون كفر ¬
الوهم السابع والعشرون: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم
أنفسهم، وإنما قصدُهُم إضلال العباد عن الدين، وتحريف شريعة ربِّ العالمين، وهذا عدوان على المسلمين ومخالف (¬1) لمذاهب المعتزلة والمتشيِّعين. وقد نصَّ في " اللُّمع " -التي هي مدرس الزيدية- على أن الجبر والتشبيه عندنا من جهة التأويل والتدين. وقد تقدم الجواب على هذا في مسألة المتأولين من وجوهٍ ثلاثة، فخذه من هنالك. فلولا خوف الإطالة لأعدته. الوهم السابع والعشرون: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم، لأنهم قالوا: شُكْرُ المنعم لا يجب عقلاً، وإنما يجبُ سمعاً، وليس كما وهم، فإنهم في تلك المسألة المرسومة في الأصول إنما نازعوا في معرفة العقل لوجوب شكر المنعم الذي هو الله جل جلاله، لأنه غنيٌّ عنه، لا يمكن أن ينتفع به، ولا يتضرر بتركه، مع أن الشكر قد يكون فيه مضرَّة على العبد ومشقَّةٌ، قالوا: فلو خُلينا وقضية العقل، لم نعلم بها وجوب ما هذه صفته. قال الجُويني في " البرهان " (¬2) ما لفظه: والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه أن الشكر نعتٌ (¬3) للشاكر بأجرٍ، ولا يُفيدُ المشكور شيئاً، فكيف يقضي العقل بوجوبه؟ وقد ردت عليهم ذلك الشيعة والمعتزلة بأن الوجه فيه: أن العبد يخاف مضرة العقاب من سيده على ترك الشكر، وليس هذا في محل الضرورة، ولا ادعت المعتزلة فيه الضرورة. ومن العجب أن الأشعرية عرفوا مذهب المعتزلة في ذلك، وما عرفه السيد، فإن المعتزلة لم تدَّع أن وجوب الشكر في حق الله تعالى ضروري. قال الجويني في هذه المسألة: وليس ذلك عند المخالفين واقعاً في قسم الضروريات، وإنما هو مُدرَكٌ بالنظر عقلاً، ومنوطٌ بمسلكٍ يوضحه. ¬
ثم قال في بيان هذا المسلك ما لفظه: وللخصوم مسلكان: أحدهما: التَّعلُّق بتغافل العُقلاء شاهداً، ويزعمون (¬1) أن الشكر واجبٌ شاهداً، ثمَّ يقضون بذلك على الغائب. انتهى (¬2). فإن قلت: فقد خالفت الأشعرية في وجوب الشكر في الشاهد، وهو ضرويٌّ؟ قلت: لم يُخالفوا في القدر الضروري منه، وإن القدر الضروري منه ما نجده في نفوسنا من استحسان فعله، وقُبحِ تركه، وهم ما نازعوا في وجدان ذلك في النفوس، واستحكامه في الطِّباع، وإنما خالفوا في سببه وعلته، وقالوا: إنه يحتمل (¬3) وجوهاً ثلاثة: أحدها: أن يكون المرجع به إلى الشهوة والنُّفرة، فإن المُحسن في الشاهد لما كان يلتذُّ بالشكر، ويتألَّم بتركه، وقد جُبِلَت النفوس على حبِّ المحسن، وجب في الطبع شهوة ما يلتذُّ به والنفرة عما يتألَّم به، وهم لم ينازعوا في التحسين بالنظر إلى الشهوة، والتقبيح بالنظر إلى النُّفرَة. الوجه الثاني: أن يكون هذا مستنداً في العادة، مثل استقباح كشف العورة، ونكاح الأمَّهات قبل ورود الشرع وبعد ثبوت العادة، فإن الكفار يستقبحون كثيراً من القبائح الشرعية لأجل العادة. الوجه الثالث: أن يكون الشكر صفة كمالٍ كالعلم، وتركه صفة نقص كالجهل. وقد نص الرازي وغيره على أنهم لا يُخالفون في هذه الوجوه الثلاثة، قال: ¬
وإنما خلافنا في أن فاعل القبيح هل يستحقُّ لمجرَّد (¬1) العقل من غير شرع الذم عاجلاً والعقاب آجلاً؟ وهكذا في جميع ما يتعلَّقُ بالتحسين والتقبيح من المسائل، فإنهم لا يخالفون في هذه الأمور الثلاثة. وقد قال الرازي: إن أهم ما في هذه المسألة معرفة موضع الخلاف بين الفريقين، وقد صرح الرازي على أنهم لا يُجيزون على الله تعالى صِفَةَ نقصٍ من كذبٍ ونحوه. وكذلك قال قطب الدين الشيرازي (¬2) في " شرح مختصر منتهى السُّول " في تقرير سؤال المعتزلة. وجوابه ما لفظه (¬3): واعلم أن المشهور في تقرير المُلازمة هو أن الحسن لو كان شرعيّاً لَحَسُنَ مِنَ الله كلُّ شيءٍ، ولو حَسُنَ منه كل شيء، لجاز منه إظهارُ المعجزة على (¬4) الكاذب. والجواب: منع الصُّغرى إن أُريد بقولهم: لحسُنَ (¬5) منه كل شيءٍ، أن صدور كلِّ شيءٍ منه يحسن، ومنع الكبرى إن أريد به أن كلُّ شيء (¬6) يصدر منه فهو حسن. انتهى كلامه، وفيه النصُّ أنهم لا يقضُون بحُسن جميع القبائح، حاشى الجلال المقدس من تقدير إضافتها إليه، ولكن خالفوا في مَدْرَكِ القبح، ومعناه كما قال قبل هذا الكلام، فإنه ذكر قبله أنهم لا يُخالفون في قُبح إظهار المعجزة على الكاذب عقلاً، ولكنهم يفسِّرون ذلك الاستقباح بالمُنافرة، وبكونه ¬
صفة نُقصانٍ - يعني والذي خالفوا فيه تفسير الاستقباح باستحقاق الذمِّ عاجلاً والعقاب آجلاً على فعل ما هو صفة نقصٍ بمجرد العقل، فتحقيق مذهبهم: أنه لا فرق بينهم وبين المعتزلة في القطع بامتناع صفة النقص -كالكذب وتصديق الكاذب-، لكن اختلفوا في العلة، فعند المعتزلة: أن العلة استحقاق الذمِّ به عقلاً في حق الله تعالى لو قُدِّرَ صدوره عنه، وعند الأشعرية: العلة كونه صفة نقصٍ عقلاً، وصفة النقص مُحالة عليه، فلو فعله لم يستحق الذمَّ عقلاً عند الأشعرية، لكن فعله عليه محالٌ. ومستند الأشعرية في الوجوب وجوب كمال واجب الوجود، وكمال غناه لقدمه، وصفات (¬1) النقص إنما تكون بداعية الحاجة والافتقار، وهو محالٌ في حقِّ من سبق وجوده الموجودات غنياً عنها، وإذا قد ثبت باتفاق الفريقين أن وجود الرب متقدم تقدم وجوب على جميع الموجودات، وأنه في حال تقدُّمه هذا غنيٌّ عنها، فلا يصحُّ أن يكون وجودها بعد غناه عنها فيما لا نهاية له من القِدَمِ مُوجباً لحاجته إليها، لأن وجود الحوادث لا يُغيِّرُ القديم في ذاته ولا صفاته الواجبة، وإذا لم تُغَيِّر لم يغيِّر غناه عنها. ولعل هذا هو المدرك الآخرُ الذي أشار إليه ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ". وقد نقل الزركشي في " شرحه لجمع الجوامع " للسُّبكي عن قوم أنهم توسَّطوا. فقالوا: قبحُ القبائح ثابتٌ بالعقل، وكذلك الذمُّ عليها، وأما العقاب، فبالشرع. قال: وهو الذي ذكره سعد (¬2) بن علي الزَّنْجَاني من الشافعية، وأبو الخطاب (¬3) من الحنابلة، وذكرَتْهُ الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة، قال: وهو ¬
المنصور (¬1) لقوَّته من حيث الفطرة، وآيات القرآن المجيد، وسلامته من الوهن والتناقُض. وسيأتي تمام القول في هذه المسألة في الوهم الثاني والثلاثين، آخر المجلد الثالث إن شاء الله تعالى (¬2). ومن أهل النظر من أهل السنة من احتج على أنَّ الله تعالى غنيٌّ عن الكذب بقدرته على كلِّ شيءٍ، لأن الكذب ليس بمشتهى لذاته بالضرورة، وإنما يتوصَّل إليه العاجز عند الاحتيال إلى دَرْكِ ما عَجَزَ عنه مع الصدق، وقد ثبت بالأدلة العقلية، واتفاق الفريقين أنه عزَّ وجلَّ على كل شيء قدير، فيثبت (¬3) غناه عن الكذب، فوجبَ صدقه عقلاً. وقد أخبرنا الصادق أنه غنيٌّ عن كل شيء، فصحَّ الاحتجاج بالسمع على مطلق الغنى بعد الاحتجاج بالعقل على الغنى الخاص عن الكذب وحده. وهذه طريقة صحيحة عند الفريقين من الأشعرية والمعتزلة، وعند فريق أهل السنة لجلائها وتنبيه السمع عليها، حيث نبَّه على امتناع ما لا داعي إليه بقوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَق} [المائدة: 18] وأمثالهما. وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في مسألة الدواعي. وقد مرَّ في الاحتجاج بالقرآن على أصول الدين شيءٌ منه، وهذا الذي خالفوا فيه مَدْرَكٌ خفيٌّ غير ضروري، سواءٌ كان الحق قولهم أو قول المعتزلة، فلا يقطع على المخالف فيه بالعناد وتعمُّد (¬4) الباطل والفساد، كما توهَّم السيد (¬5). ¬
قف على ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية من "سير أعلام النبلاء"
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الوهم الثامن والعشرون: أن أهل السنة ينكرون أن لنا أفعالا وتصرفات، والجواب عن ذلك وبيانه بطريقين
الوهم الثامن والعشرون: وَهِمَ وفَّقه الله أن أئمة السنة الأثبات يُنكرون أن لنا أفعالاً وتصرفاتٍ، واستخرج من ذلك أنهم كفار تصريحٍ لإنكارهم -في زعمه- العلوم الضروريات، وفَرَّعَ على ذلك تحريم ما استند إليهم من الروايات في علوم الديانات إلى سائر ما ذكره من الإلزامات. وهذا وهم شنيعٌ، وغلطٌ فاحشٌ فظيع، ولم يختصُّ به المعترض، بل قد شاركه فيه كثيرٌ من المعتزلة مع اعترافهم في بعض مصنفاتهم بخلاف ذلك في بعض المواضيع وقد تقدم ما يلزم المعترض بجرحه لأئمة الحديث والمتأوِّلين من ¬
الطريق الأولى: النقل لذلك عن المعتزلة والشيعة فإن ذلك يوجد في كلامهم
الإلزامات الشنيعة، والجهالات الفظيعة، والإشكالات الوسيعة التي زادت على مئتي إشكالٍ مع ما تقدَّم له من التفريع على وصمِهم بالبَلَه، والكشف لهذا الخيال، ولم يبق هنا إلاَّ الذبُّ عنهم فيما نَسَبَ إليهم من الكفر الصريح، والجبر، وادَّعى عليهم من التصريح وعدم التأويل فيهما معاً. والجواب: أن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينةٍ، بل جحدٌ للمعلوم بالضرورة عند العارفين من نصوصهم البينة، والسبب في ذلك جهل العامة، وتجاهل بعض الخاصة لمراد أهل السنة في قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، ونحن نُبين إن شاء الله تعالى مرادهم، فإنهم مع إطلاق ذلك مجمعون على إثبات الاختيار، ونفي الإجبار، وإن مذهب قدماء أهل البيت والزيدية في خلق الأفعال ونفي الجبر هو مذهبُ أهل السنة، ولنا في بيان ما ادعيناه طريقان. الطريق الأولى: طريق النقل لذلك عن المعتزلة والشيعة، فإن ذلك يوجد في كلامهم عند حاجتهم إليه في إلزام الأشعرية لبعض المناقضات، مثل ما رواه عنهم السيد المتكلم أحمد بن أبي هاشم المعتزلي، الشيعي، مصنف (¬1) " شرح الأصول الخمسة " لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، وهذا الشرح عمدة الشيعة في بلاد الزيدية في اليمن، ولذلك اخترتُ النقل منه لعلم ¬
الخصم بما فيه. قال فيه مصنفه المذكور في أوائل الفصل الثاني في العدل: وقد احتج على ثبوت التحسين والتقبيح في العقل بأن أحدنا إذا خُيِّرَ بين الصدق والكذب، ولم يكن له داعٍ خاصٌّ إلى أحدهما اختار الصدق لا محالة. ثم قال بعد هذا المعنى ما لفظه: فإن قالوا هذا بناء على أن الواحد منا مخيرٌ في تصرفاته، ونحن لا نُسلِّمُ ذلك، فإن مذهبنا أنه مُجبرٌ عليه في هذه الأفعال، وأنها مخلوقة، ثم أجاب بأربعة أجوبة. قال في الثالث منها ما لفظه: وبعد، فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجةٌ إلينا، ومتعلِّقةٌ بنا، وأنا مختارون فيها، وإنما الخلاف في جهة التعلق أكسبٌ أم حدوثٌ، فعندنا أن جهة التعلُّق إنما هو الحدوث، وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب. انتهى لفظه. وهو رد صريح (¬1) لقول من يقول: إنهم ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفاتٍ، وقد توهَّم بعضُ مَنْ لا يعرفُ مذهبهم أن ظاهر كلام صاحب الشرح لا يصح، فتأوله بأن معنى قوله: إنه لا خلاف أنا مختارون في أفعالنا، أي لا خلاف في أنا مُريدون لها، وهذا التأويل باطلٌ لوجوه: الأول: أنه لا موجبَ له، وتجويز التأويل من غير موجب يفتح باب الجهالات، ويُبْطِلُ الانتفاع بنقل أهل المقالات. فإن قيل: الموجبُ له اختلاف النقل عنهم: فالجواب: أنه ليس بأولى من تأويل نقلِ من نقل نفي الاختيار عنهم، ثم إن الفِرَق فيهم كثيرة، وأهل السنة منهم أربعُ فِرَقٍ ليس منهم من ينفي الاختيار ألبتة (¬2) كما يأتي بيان ذلك. ¬
وقد نقل الشيخ مختارٌ المعتزلي مذهبهم على الصواب في كتابه " المجتبى " لما كان تام المعرفة بمذهبهم، فقال ما لفظه: وذكر شيخنا صاحبُ " المعتمد " (¬1) أن جهمَ بن صَفْوان ذهب إلى أن الله خالقٌ لأفعال العبيد فيهم وهم ليسوا بمحدثين ولا مكتسبين لها، وذهب النجارُ و (¬2) الأشعري إلى أن الله خالقٌ لأفعال العبيد، وهم يكتسبونها. قال: وهذا هو المشهور من مذهبهم، وبه قال أكثر أهل السنة، فنُفْرِد لكل واحدٍ من الجبرية الخالقية والكَسْبية مسألة على حدة. قال: والحاصل أن المخالفين بأسرهم قالوا بقدرة العبد، لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة هي علة (¬3) الفعل مع الداعي. والإسفرايينيُّ (¬4) زعم (¬5) أنها جزءُ علة الفعل لوجوده بالقدرتين. والباقلاني زعم أنَّها عِلَّةُ الكسب. والجهم زعم أنها معنى لا تأثير له في الفعل أصلاً لكنه يُوجدُ متعلقاً (3) به. انتهى بحروفه. وسيأتي بيان تفاصيل هذا النقل، وتفاوت مراتب المبتدعة، وأن الخصم نسب قول الجهم إلى جميع أهل الكلام من الأشعرية: الإسفراييني والبَاقِلاَّني والجُويني وغيرهم، بل إلى أهل السنن والآثار المنكرين لعلم الكلام (¬6). ولا شكَّ أن نسبة ذلك إليهم باطلةٌ بالضرورة بشهادة جميع أهل العلم بمقالات المختلفين. ¬
والنقل للجبر المحض صحيحٌ، ولكن عمن ليس له سلفٌ ولا خَلَفٌ، وأهل السنة أشدُّ نكيراً عليه من المعتزلة، وليس ينبغي أن يُطْرَحَ على السواد الأعظم من المسلمين قول من شذَّ عنهم، كما لا يُطرَحُ على المعتزلة قول من يقول: إن الله تعالى لا يعلم الغيب من نُفاة القدر، ولا يُطرَحُ على الزيدية قول (¬1) الحسينية: إن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنه حيٌّ (¬2) لم يمت، ولا قولُ المطرفية في تأثير (¬3) الطبائع وغير ذلك، ولا يطرح على الشيعة القول بالرفض، ولا على الروافض مذاهب الباطنية الملاحدة، ولا قول الإسحاقية بربوبية علي بن أبي طالب عليه السلام. وما أحسن قول الذهبي في " ميزانه " (¬4) في ترجمة إمام هذه الطائفة (¬5) المخذولة وهو إسحاق بن محمد النخعي الأحمر - قال الذهبي: كان يقول: إن علياً هو الله، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً، وإليه تنسب الإسحاقية بالمدائن. قال ابن الجوزي: كان من الغلاة في الرفض (¬6). قال الذهبي: حاشا غُلاة الرفض أن يقولوا في علي هو الله، فمن وصل إلى هذا، فهو كافرٌ لعين من إخوان النصارى. انتهى كلام الذهبي. فما أحسن بالعلم أن لا يطرح على من يُبغِضُه ما لم يقله، ولا يتساهل في عباره تُوهِمُ ذلك. ¬
وقد ميَّزَ (¬1) القاضي أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي بين الفِرقِ المجتمعة في الاسم، المفترقة في المعنى، وبيَّنها على التفصيل في كتاب " المشكلين "، وعلى التجميل في " عارضة الأحوذي في شرح (¬2) الترمذي " (¬3) فقال: إن الروافض عشرون فرقةً من النيف والسبعين، منهم فرقةٌ واحدةٌ ليست من فرق الإسلام، والقدرية عشرون فرقة، منهم فرقتان ليستا (¬4) من فرق الإسلام. فثبت أنه لا موجب لتأويل كلام صاحب الشرح فيما (¬5) نقل عن الأشعرية أنهم يُثبتون الاختيار للعباد، وهم أقرب فرق أهل السنة إلى الجبر كما يأتي، فكيف (¬6) بغيرهم من أهل الحديث والآثار! الوجه الثاني: أن هذا التأويل الركيك يُبْطِل كون ما ذكره صاحب الشرح جواباً ثالثاً على الأشعرية غير الجوابين الأولين عليهم، فإنه أراد بهدا الجواب نقض قولهم: إنهم مُجْبَرُون لا فِعْلَ لهم، وردَّ دعواهم أن هذا مذهبهم إن فرضنا أنهم ادعوا ذلك، فلو كان غرضه أنا مريدون غير مختارين، لم يكن نقضاً لدعواهم المقدرة في أن مذهبهم الجبر، وهذا قاطعٌ جليٌّ لا يمكن المتأول دفعه، فإن إرادتنا من غير اختيارٍ لا تغني عنا شيئاً، فالمريض قد يريد العافية، ولا يقدر على تحصيلها باختياره، والهارب من السبع عند الاضطرار يريد الهرب ولا يقدر على تركه باختياره عند الجميع. الوجه الثالث: أن الاختيار والإرادة لفظان مختلفان، وقد ثبت أحدهما (¬7) مع انتفاء الآخر كما ذكرنا في المُضْطَرِّ إلى الهرب من السبع، وسيأتي بيان ذلك على مذهب المعتزلة والأشعرية في المرتبة الخامسة في الفرقة الأولى. ¬
الطريق الثانية: النقل عن أهل السنة ومتكلميهم
الطريقة الثانية: النقل عن أهل السنة ومتكلميهم، وذكر نصوصهم المتواترة الصريحة من كتبهم الشهيرة. واعلم أن القدر المجمع عليه بينهم هو أن العبد غير فاعلٍ على سبيل الاستقلال والاستغناء عن ربه عزَّ وجلَّ، بل يقولون: إن الخلق (¬1) مُستمدٌّ والحق مستبدٌّ، ثم أطلقوا الخلق على أفعال العباد وعَنَوْا (¬2) به أمرين: أحدهما: تقديرها في سابق علم الله وقضائه وقدره، وسيأتي تفسيرهما، وهو يُسمى خلقاً باتفاق أهل (¬3) اللغة، وهذا هو القدرُ الذي أجمعوا عليه (¬4). وثانيهما: قول كثير منهم، وهو إيجاد ذواتها التي تعتقد المعتزلة أنها ثابتة في الأزل، وأنها غير مقدرة (¬5) لله تعالي، ولم يَعْنُوا خلق القدر المقابل بالجزاء من أفعال العباد على تفصيلٍ يأتي بيانه في ذلك في المرتبة الخامسة إن شاء الله تعالى. وفي غلاة المتكلمين من الأشعرية القليل (¬6) يُطلقون الجبر في أفعال العباد، ويُفسِّرونه بوجوب وقوع الراجح مع بقاء الاختيار، كما تقولُه المعتزلة في وجوب اختيار الرب عزَّ وجلَّ لفعل الواجب وترك القبيح، بل في وجوب اختيار جميع الخلق للصدق على الكذب عقلاً عند استواء الدواعي الزائدة على الداعي إلى الصدق والصارف عن الكذب كما يأتي في مسألة التحسين العقلي وغيرها إن شاء الله تعالى. وقد قبَّح أهلُ السنة عليهم تسمية ذلك جبراً، بل فيهم من يُطلِقُ الجبر ويُفسِّرُه بمعنىً مُتَّفَقٍ عليه، وهو الجبر الأول على أسباب التكليف وشروطه عند المعتزلة .. ¬
الكلام فيما هو كالأساس للقول بخلق الأفعال وأنه منحصر في خمس مراتب:
ونحن نتكلم على جميع مقاصدهم في ذلك، ونبدأ بما هو كالأساس للكلام في خلق الأفعال عندهم، وينحصر ذلك إن شاء الله تعالى في خمس مراتب: الأولى: تكليف المكلَّفين من غير اختيارهم للتكليف. الثانية: نفوذ (¬1) مشيئة الله تعالى في الكائنات. الثالثة: الكلام على الدواعي (¬2) والصوارف. الرابعة: الكلام على القضاء والقدر والحكمة في ذلك. الخامسة منها: الكلام في مسألة الأفعال نفسها. المرتبة الأولى: المعنى الصحيح بالاتفاق، وإن اختلفت العبارة عنه، وذلك إقدار المكلفين وخلقهم مُمْتَحَنين عُقلاء مختارين. وقد صرَّح الشهرستاني في " نهاية الإقدام " بالجبر، وفسره بهذا المعنى (¬3) كما سيأتي عند ذكر مذهب الجويني، وإنه إنما حمله عليه الفرار من ركاكة الجبر، وذلك في الكلام على الفرقة الرابعة في المرتبة الخامسة، وهذا معنى صحيح لكن فيه إيهام (¬4) الجبر في الأفعال الاختيارية، فتسمية (¬5) ذلك جبراً قبيحٌ، وإن كان قد اعترف الزمخشري (¬6) وهو من رؤوس المعتزلة بصحة هذه العبارة، فقال في تفسير سورة (¬7) الحشر في تفسير اسمه الجبّار جلَّ وعزّ أنه الذي جبر الخلق على ما أراد، ووافقه الخطابي على هذا التفسير، رواه البيهقي عن الخطابي في " الأسماء والصفات " (¬1) وأنه على وجه لا يُوهم الجبر في التكاليف الاختيارية، والخلق بهذا المعنى مجبورون مقهورون مربوبون مقسورون. ¬
المرتبة الثانية: إطلاق أهل السنة وجواب الأفعال بالنظر إلى نفوذ مشيئة الله تعالى مع بقاء الاختيار بالنظر إلى القدرة والمقدور
ولا يرد عليه قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فإن أقصى ما تدل عليه من هذا المعنى أنه خُيِّر في بعض صور التكليف كتحمُّل الأمانة بعد أن خُلِق مُكَلَّفاً مختاراً، فاختياره الأول الذي اختار به التكليف الخاصَّ جَبْرٌ لم يثبت باختياره، وإن سلمنا أن الآية تقتضي أنه خُيِّر في مطلق التكليف، فغير واردٍ لوجوه. الأول: أنه لا يصح منه اختيار التكليف حتى يخلق عاقلاً مختاراً من غير اختياره، وهذا هو الجبرُ الأول المتفق عليه. الثاني: أنها خاصةٌ بآدم عليه السلام، لأن المعلوم ضرورةً أن غيره غير مُخَيَّرٍ فيه. الوجه الثالث: أنه لا يحسُنُ من الرب عزَّ وجلَّ عند المعتزلة التخيير في الدخول في التكليف، بل الرب عزَّ وجلَّ عن قولهم غير مختار في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات عندهم على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. فالآية عندهم متأولة، وتفسير الجبر بهذا المعنى أجنبيٌّ مما نحن فيه لولا إرادة التقصِّي لمعانيه في إطلاقاتهم وخشية أن يستدركه علي مستدركٌ ما ذكرته، وقد جعلته أوّل المراتب لوضوحه والاتفاق على معناه، وقلة الكلام فيه. المرتبة الثانية: إطلاقهم وجوب الأفعال بالنظر إلى نفوذ مشيئة الله تعالى مع بقاء الاختيار بالنظر إلي القدرة والمقدور، والأصل في ذلك أنها تواترت النصوص في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعموم قدرة الله تعالى على كل شيء، وبنُفوذ إرادة الله ومشيئته في جميع الكائنات من غير موجب للتأويل ولا قرينةٍ ظنية، بل تَطَابَقَ العقل والنقل على صحة ذلك، وسيأتي (¬1) بيانه إن شاء الله تعالى مع ورود النصوص أيضاً بأن الله تعالى لا يحب الفساد، ولا يرضى (¬2) ¬
فرق أهل الحديث بين الإرادة والمشيئة والمحبة والرضى وذكر الأدلة
لعباده الكفر، وأنه (¬1) يرضى الشكر، وقال تعالى بعد ذكر (¬2) كثيرٍ من القبائح {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] وقد أجمعت (¬3) الأمة على أن المعاصي تُسمى مكروهةً ومسخوطةً، ثم لم يرد شيء من الكتاب والسنة معارض لهذه الآيات في (¬4) الجانبين مُعارضةً صريحةً (¬5) تقتضي أن الله تعالى يريد ما يعلم أنه لا يكون، أو تقتضي أنه يحب شيئاً من القبائح، أو يكره شيئاً من الحسنات، فالمُتَّجه (¬6) في الجمع بينهما أن ما أحبه الله عزَّ وجلَّ من الأعمال، فإنما الواجب أن يقع منه ما أراد وقوعه عند أهل السنة كمن (¬7) أحب من العاملين، وما كَرِهَ من الأعمال، فالواجب أن لا يقع منه ما أراد عدم وقوعه دون ما لم يُرِدِ العصمة عنه لحكمة، كمن سَخِطَ من العاملين، فإنه يلزم من إرادته وجودهم لحكمة أن يحبهم وأن لا يسخطهم، وسيأتي زيادة بيانٍ لذلك. فلذلك فرّق أهل الحديث والأثر وأتباع السنن بين الإرادة والمشيئة، وبين المحبة والرضا، وقرَّروا النصوص في عموم نفوذ المشيئة والإرادة، وخصوص تعلُّق المحبة والرضا وهو الصواب كما يتضحُ إن شاء الله تعالى، ويتضح أن هذا كلمة إجماع بين أهل البيت عليهم السلام في القرون الثلاثة التي هي خيرُ القرون مع إجماع أهل السنة عليه من أهل البيت وغيرهم إلى الآن، ولا يزالون على ذلك إلى يوم القيامة، كما ورد في البُشرى (¬8) النبوية الصادقة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. ¬
وهذه جملةٌ صالحةٌ من النصوص المشار إليها، قال الله تعالى في نفوذ إرادته في هداية العُصاة وغيرها: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28، 29]. وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]. وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41]. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون} [التوبة: 55]. وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]. وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13]. وقال تعالى: {ولو شاءَ الله لجمعَهُمْ على الهُدى} [الأنعام: 35]. وقال تعالى: {ولوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً} [يونس: 99]. وقال تعالى: {ولو شاء ربُّك لجعل الناسَ أمَّةً واحدةً} [هود: 118]. وقال تعالى: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]. وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}
[الأنعام: 39]. وقال تعالى: {إنَّك لا تهدي من أحبتْتَ ولكِنَّ الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} [الشورى: 8]. وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31]. وقال تعالى حاكياً عن موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} [الأعراف: 155]. وقال تعالى: {تُؤتي المُلكَ من تشاء} [آل عمران: 26]. وقال تعالى: {يُؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269]. وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100]. وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬1) [الأنعام: 125]. وقال تعالى: {إن ربَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} [هود: 107]. وقاله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَة} [آل عمران: 176]. ¬
وقال تعالى: {إنْ كان اللهُ يُرِيدُ أن يُغوِيكُم} [هود: 34]. وقال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]. وقال تعالى: {وما أصَابَكُم يوم التقى الجَمْعَانِ فبإذنِ الله} [آل عمران: 66]. وقال تعالى: {ومَا كان لِنَفْسٍ أن تُؤمِنَ إلاَّ بإذنِ اللهِ} [يونس: 100]. وجاء مثل هذه النصوص في نسبة الهدى والضلال إلى الله تعالى، وأنَّه لا يهدي من يُضِلُّ، وبَيَّن الله سبحانه ما أجمله من ذلك كقوله: {وما يُضِلُّ به إلا الفَاسِقينَ} [البقرة: 26]، وبقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10]. وجاءت السنة النبوية المتواترة بنحو هذه الآيات ولا سبيل إلى استقصاء ما ورد من السنة في ذلك، ولا حاجة إلى ذكره مع هذه الآيات الكريمة، فدلَّ جميع ذلك مع الدلائل العقلية على قدرة الله تعالى على هداية الخلق أجمعين، وأنه سبحانه إنما لم يَهْدِ الأشقياء لحكمةٍ بالغةٍ وإن لم تدركها العقول. وسيأتي ذكر بعض الحكم التي دلَّّ عليها السمع في ذلك في المرتبة الثالثة في الدواعي، وفي المرتبة الرابعة في وجه تقدير الشرور، ويأتي في هذه المرتبة أيضاً شيء من ذلك. وخالفت المعتزلة في معنى الآيات، وزعمت إلاَّ القليل منهم أنه ليس في معلوم الله تعالى، ولا في مقدوره هداية عاصٍ في ذنب واحد على جهة الاختيار، وقالوا: إن المراد بالآيات أنه سبحانه لا يُكْرِهُ الخلق على الإيمان إكراهاً يبطُلُ معه التكليف، والذمُّ، والمدح، والأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، والابتلاء، وجعلوا هذا تفسير الهداية التي تمدح الله عز وجل بقدرته عليها، ورَكِبُوا كُلَّ صعبٍ وذَلُول في تأويل القرآن، وتعسَّفوا في وجوهٍ التأويل تعسُّفاً يرُدُّه البرهان كما نُبين ذلك إن شاء الله تعالى أوضح بيان، ولا بُدَّ من إيراد
الدليل الأول: أنه لا بد لله تعالى من حكمة في خلق من علم أنه من أهل النار
أدلة (¬1) الطائفتين. فأمَّا أهل السنة، فأدلتهم على ذلك كثيرةٌ، والذي حَضَرني منها ثلاثة: الدليل الأول: أنه (¬2) لا بد لله تعالى من حكمةٍ في خلق من عَلِمَ أنه من أهل النار عند الجميع كما يأتي إن شاء الله تعالى، والذي عيَّنته المعتزلة وجهاً للحكمة في ذلك هو إرادة الحكيم إلى تحصيل ما علم أنه لا يكون، وذلك يستلزِمُ توجيه إرادة الحكيم إلى تحصيل ما يمنع علمه الحق بالغيوب من إرادة حصوله، وذلك خلاف المعقول والمنقول كما سنوضِّح ذلك إن شاء الله تعالى، ونوضِّح ما اعتذر به بعضهم من توجيه إرادته تعالى إلى مجرد التعريض إلى تحصيل ما عَلِمَ أنه لا يحصُلُ، ويأتي بُطلان هذا العذر، فلا بد من الرجوع إلى الإيمان (¬3) بأن لله تعالى حكمةً في ذلك، وإن لم تُدركها العقول، كما صرح بذلك حُذَّاقُهُم، منهم الزمخشري في " الكشاف " (¬4) في تفسير قوله تعالى: {إنِّي أعلَمُ ما لا تعلمُون} [البقرة: 30] فإنه قال ما لفظه: فإن قلت: هلاَّ بيَّن لهُم تلك المصالح؟ قلت: كفي العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمةٌ (¬5)، وإن خَفِيَ عليهم وجهُ الحُسْنِ والحكمة. وأوضحُ من هذا وأصرحُ: ما ذكره الزمخشري (¬6) في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن: 2] فإنه قال فيه ما لفظه: فإن قلت: نعم إن العباد هم الفاعلون للكُفْرِ، ولكن قد سَبَقَ في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلاَّ الكفر، ولم يختاروا (¬7) غيره، فماذا دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم، وهل خلقُ القبيح وخَلْقُ فاعل القبيح إلاَّ واحدٌ؟! وهل مثله إلاَّ مثل منْ وَهَبَ سيفاً باتراً لمن شُهِرَ بقطع السُّبل وقتل النفس ¬
المُحرَّمة، فقتل به مؤمناً، أما يُطْبِقُ العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدَّقِّ في فَرْوَتِه كما يذُمُّون القاتل، بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد. قلت: قد علمنا أن الله حكيمٌ عالمٌ بقُبح القبيح، عالمٌ بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كُلَّها حسنةٌ، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسناً، وأن يكون له وجه حسن، وعَدَمُ عِلْمِنِا لا يقدح في حُسِنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلُنا بداعي الحكمة إلى (¬1) خلقها. انتهى بحروفه (¬2). وفي قوله: ما دعا الحكيم (¬3) إلى خلقهم مع علمه بما (¬4) يكون منهم، إشارةٌ إلى قول أهل السنة: إن الإرادة لا يَصِحُّ توجُّهُها إلى تحصيل ما منع منه علم الغيب من حصوله. فإن ادَّعت المعتزلة أن وجه الحكمة في خلق من سبق العلم بأنهم من أهل ¬
الكُفر جليٌّ، ظهر عنادهم. وإن تطلَّبوا له وجهاً خفياً لطيفاً كما يأتي أمكن مثلُه في الإرادة من غير تأويلٍ كما يأتي أيضاً. وإن خصُّوا ظواهر آيات المشيئة بالتقبيح مع تجويزهم مثل ما دلَّت عليه مما لا تقبله العقولُ من خلق من المعلوم من حال (¬1) أنه من أهل الكفر والفساد في الأرض، ومن أهل النار في الآخرة، وتمكينه من الكفر والفساد ليكون من أهل الصلاح عاجلاً، ومن أهل الجنة آجلاً (¬2) مع العلم عند قصد الإحسان إليهم بذلك أنه لا يحصُلُ منهم إلاَّ نقيضه، ولا يَقَعُون إلاَّ في ضِدِّه، ثم قبَّحنا (¬3) العفو عنهم مع قطعنا بأن الإحسان إليهم هو القصد الأول، وأن علم الغيب بما يقعُون (¬4) فيه من المضَارِّ بسبب هذا (¬5) والقصد (¬6) سابقٌ له ومقارن، كنا قد وقعنا من مخالفة قضايا العقول في مثل ما مَنَعْنَاه من ظواهر آيات المشيئة كما يأتي مقرراً أوضح من هذا وأبسط. هذا الذي يؤمن به أهل السنة (¬7) في الابتداء والانتهاء، ويمتنع (¬8) منه أهل البدعة في الابتداء، ثم يرجعون إليه في الانتهاء، ولكن المبتدع لا يرجِعُ إلى الإيمان الجملي إلاَّ بعد الحكم بتقبيح أكثر الظواهر من الآيات والأخبار، والخبط في التأويل المتعسِّف بغير علم ولا موجبٍ صحيح، ثم يقعُ في مثل ما مَنَعَ، ويلتزم أرك مما أنكر في زعمه وأشنع، ويجعل (¬9) إيمانه الجملي فيما انتهى إليه رأيه، وحار فيه عقله، ووقفته عليه شيوخه. والسُّنيُّ يؤمِنُ بآيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الأمر، ولا ¬
يقفُو ما ليس لَهُ به علمٌ من التأويل، ويجعلُ إيمانه الجملي في مواقع (¬1) النصوص الشرعية، وموافقة الآيات القرآنية. والسني (¬2) آمن بكلام الله وإن أنكر العقل ظاهره لعلمه بثبوت حكمة الله تعالى في تأويله الباطن، ونعني بالتأويل ها هنا الحكمة في الشيء مع بقائه على ظاهره كتأويل استخلاف آدم وذريته في الأرض، وتأويل ما أنكره موسى من الخَضِرِ عليهما السلام، ولم يَزَلْ ذلك سُنَّة المؤمنين، بل سنة المرسلين كما خرَّجه مسلمٌ في " الصحيح "، وأحمد في " المسند "، والترمذي من حديث ابن عبَّاس في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} (¬3) [البقرة: 284]. وسببُ نزول آخر السورة خرجه أحمد من حديث عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن حميد بن قيس الأعرج، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس (¬4) وهذا إسنادٌ على شرط الجماعة، وفي حُميدٍ الأعرج خلافٌ لا يضُرُّ (¬5) خصوصاً، وقد خرَّج مسلمٌ وأحمد من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة (¬6) ¬
نحو حديث ابن عباس. ولفظ ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} [البقرة: 284] دخل في قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل في قلوبهم من شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا سمعنا وأطعنا وسَلَّمنا " (¬1) قال: وألقى الله (¬2) الإيمان في قلوبهم (¬3)، فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، فقال: قد فعلتُ {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: قد فعلتُ. أخرجه مسلم (¬4). ولفظ حديث أبي هريرة: أنها لما نزلت أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ، وقالوا: كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق ... وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقُها، قال: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك، نسخها الله، فأنزل عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم (¬5) {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} قال: نعم. ¬
وخرَّج الترمذي (¬1) بعضه مختصراً من حديث علي عليه السلام. وخرجه البخاري (¬2) كذلك مختصراً من حديث بعض (¬3) أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والعَجَبُ من المعتزلة أن الذي حملهم على تأويل آيات المشيئة الفرار من الإيمان بالمتشابه في العقل إلى (¬4) المحكم فيه، ثم زعموا أن الله تعالى ما خلق أهل النار إلاَّ للأصلح لهم في الأخرة، وليُحسن إليهم بالخلود في الجنة على أبلغِ الوجوهِ أو للتعريض لذلك، والتمكين منه. فالتعريض عندهم هو الغَرَضُ، والأصلح الذي هو ثمرته غرض الغرض كما سيأتي. لكن لم يكن في مقدوره تبليغهم ذلك على تلك الصفة البليغة مع اعترافهم أنه قادر على إدخالهم الجنة على حالٍ دون تلك الحال البليغة بأن يلْطُف بهم لُطفاً يختارون معه فعل الخير على حدِّ اختيار الربِّ عز وجل، وذلك بأن يُعرِّفَهم قُبحَ القبائح، ولا يجعل لهم إليها داعياً، وأنه لو فعل هذا، لاستحق الثناء العظيم استحقاقاً واجباً على أبلغ الوجوه كما يستحقُّه الرب تعالى، ولَسَلِمُوا من استحقاق الذمِّ والعقاب، ولَصَلَحوا مع ذلك للتفضُّل عليهم بالخلود في الجنة، وما فاتهم إلاَّ كونُ هذا الخلود غيرَ مستَحَقٍّ لهم بأعمالهم على جهة الوجوب على الله تعالى. ¬
وزعمت المعتزلة أن الأصلح لأهل النار من هذا كُلِّه خلقُ دواعٍ إلى القبائح بعلم الله تعالى علماً لا يقع خلافه ألبتة أنه (¬1) سبحانه متى (¬2) خلقها لهم وقعت القبائح دون الطاعات، واستحقَّ فاعلوها العقاب الشديد الدائم والذم وأعظم المضار، ووفعوا في ذلك، وخُلِّدُوا فيه أبداً، وأن الله تعالى إنما فعل دواعي الشر هذه مع علمه الغيب بما يكون من عاقبة أهلها في العذاب الدائم إرادةً منه سبحانه لدخول أهل النار الجنة، وقصداً لما هو الأصلحُ في آخرتهم. بل قالت المعتزلة: إن الله تعالى قادرٌ على أن يبني الكفار والشياطين مثل بنية الملائكة والأنبياء، ولو فعل ذلك لآمنوا (¬3) كما يأتي، ويأتي (¬4) الدليل على صحته. ومع هذا قطعوا أن الله أراد بخلقهم على بِنيةٍ علم أن من خُلِقَ عليها يختارُ الكفر، ولا يقبل اللُّطف ألبتة أن يُؤمنوا ويَسْعَدُوا في الآخرة، ويكون ثوابهم في أعظم المراتب، أو لتعرضهم إلى ذلك بالتمكين (¬5) كما سيأتي أنه يؤول إلى معنى واحدٍ. فيا عجباه إن أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين أراد عندهم الإحسان إلى أهل النار بالجنة، أو ما يُصَيِّرُهم إليها على أتم الوجوه، فلم يَقْدِرْ على ذلك عندهم، ولا وَسِعَتْ قدرتُه وألطافُه أن تبلُغَ ذلك. ثم يا عجباه أحين عُلِمَ أن ذلك لا يدخُلُ تحت مقدوره عند المعتزلة مع أنه غاية مقصوده الذي خلق العوالم كلَّها له، كيف لم يعدل عن تحصيله على أتم الوجوه إلى تحصيله على أنقص من الأتَمِّ، فيدخلهم الجنة على أحد صور. إما بأن يخلقُهَم على بِنْيَةٍ مثل بنية المعصومين على قول من يقول منهم: إن الله قادر على ذلك، بل هو قولهم الجميع كما سيأتي. ¬
أو بأن لا يخلق لهم الدواعي إلى القبيح على ما تقدم. أو بمجرد (¬1) عفوه عن ظلمهم أنفسهم، فإنهم ما ظلموه عزَّ وجلَّ ولكن ظلموا أنفسهم (¬2) كما قال سبحانه، وقد علَّق الوعيد بشرط المشيئة في غير آية، وذلك يُخرجه عن الخُلْفِ والكذب. ولو قدرنا أن (¬3) الوعيد قد ورد على صورةٍ يقبُحُ العفوُ منها (¬4). فعلم الغيب السابق أن وعيد العُصاة يكون سبباً لقُبح العفو عنهم كان يقتضي عدم الوعيد على هذه الصورة المانعة من العفو، فإن من له إرادةٌ في الإحسان إلى غيره بأمر من الأمور، إن علم أنه لا يتمكن من ذلك الأمر (¬5) على أبلغ الوجوه عَدَلَ إلى تحصيله بدون ذلك، وترك كُلَّ ما يعلم أنه سيكون سبباً في بطلان ما أراده، كما قيل: إن الكريم على الإحسان يحتالُ وكان ذلك (¬6) أولى من فوات جميع مقصوده بالضرورة وفي الأمثال: إن للشرِّ خياراً (¬7). وقالوا: حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ (¬8) ¬
فأمَّا أنه أولى من حصول ضدِّ غاية مقصوده، ونقيض منتهى مراده فمما لا يختلف فيه، أفما كان علمه الغيب بما يصيرون إليه من عظيم المضارِّ الدائمة مع قصده زيادة الإحسان إليهم بخلق دواعي الشرور يكفيه صارفاً يقاوم داعي الإحسان إليهم بمجرد التعريض، ويعارضه حتى يَرُوحوا كَفَافاً لا لهم ولا عليهم. وما فائدة علم الغيب السابق إذا كان صاحبه يَقَعُ في نقيض مقصوده؟ تعالى الله عن ذلك. وقد قال تعالى حاكياً (¬1) عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء} [الأعراف: 188]، وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] فاحتجَّ على انتفاء العجز بمجموع صفتي العلم والقدرة، لأن القادر متى كان جاهلاً، فقد يفوته مراده بسبب جهله، والعالم متى كان عاجزاً، فاته مراده بسبب عجزه، ومن جمع تمام العلم وتمام القدرة، استحال أن يفوته مراده قطعاً عقلاً وسمعاً. فدلَّ القرآن والبرهان على أن عالم الغيب كما لا يَمَسُّه السوء، كذلك لا يمسُّ من أراد نجاته من السوء، وكيف لا ينجو من السُّوء (¬2) من أراد له عالم الغيب بلوغ أبلغ مراتب الفوز بالرضوان، والدوام في الجنان. ويرد على اعتذارهم عن ذلك بوجوب العذاب لوجوب الصدق في الوعيد مع ما تقدم في ذلك من وجهٍ آخر جيدٍ جداً، وذلك أن الوعيد (¬3) لم يَصدُر حتى ¬
أراد الله عذاب العصاة، وأراد عدم العفو عنهم قبل الوعيد، وإرادته هذه على تقدير أنه مريدٌ بالتكليف لهم الإحسان إليهم يناقض ذلك، فإن العفو عنهم من غير تقدُّم إرادة الإحسان إليهم أفضل وأرجح، فكيف مع إرادة (¬1) الإحسان وإرادة المرجوح مرجوحة، والمرجوح وإرادته لا يصح أن يقعا من الحكيم العالم بأنه مرجوحٌ، الغني عنه لولا أن لله تعالى حكمة (¬2) بالغة غير ما ذكروه، فتعيينهم لها في ذلك الوجه الضعيف جنايةٌ منهم على حكمة الله تعالى البالغة، وحجته الدامغة، وعلمه الغيوب، وحكمه الذي لا مُعَقِّب له سبحانه وتعالى، وأعظم من هذا (¬3) اعتقادُ المعتزلة لوجوب دوام تعذيب العباد على الرب الذي أوجبوا عليه في الابتداء إرادة الأصلح لهم في آخرتهم، فما أبعد ما أوجبوه في الابتداء من مناسبة ما أوجبوه في الانتهاء حتى قطعوا بتقبيح العفو من الرب الغنيِّ الحميد، وقَضَوْا باستحقاقه لو عفا عنهم - الذم واللائمة العظيمة. ولقد عظُمت غفلتُهم حين أوجبوا في الابتداء ما (¬4) هو غيرُ مقصود لنفسه من التكليف بعد خلق العقول، بل مقصودٌ لتمام النعيم في الانتهاء، ثم أوجبوا بطلان المقصود لنفسه في الانتهاء، وهو تمام النعيم، بل أوجبوا ضده وهو العذاب الدائم. وأبعد من هذا وأفسد قول البغدادية من المعتزلة بوجوب دوام العذاب مُعلِّلين لذلك بأنه الأصلحُ للعباد، وعدم وجوب شيء من الثواب مع أنه أصلح لأهل الجنة. فإذا ضممت هذه الأقوال إلى ما عُلِمَ بالضرورة من العقلاء من أن المقصود في الأمور هو عواقبها لا سيما العواقب الدائمة، وأن الوسائل والمبادىء ¬
والمقدمات غيرُ مقصودة في أنفسها، وأن من علم عدم تمام أمرٍ لم يشرع في (¬1) مقدماته، ولا يشتغل بمبادئه وإن فعل ذلك مع علمه ببطلانِ مقصوده في العاقبة عُدَّ عابثاً، بل وجوب ذلك ممتنع عقلاً وشرعاً وإجماعاً عند (¬2) العقلاء كما يأتي في مسألة الدواعي بيانه، فكيف بمَنْ علم أن مقصوده في العاقبة منعكس عليه. ويكفيك وضوحاً في بطلان قول المعتزلة في هذه المسألة أنه يستلزم أن الله تعالى عَمِلَ بغير علمه، بل عمل على ما يُضادُّ العمل بعلمه. وقد أجمع أهل العلم والعقل على ذم العمل بغير العلم، وعلى أن ثمرة العلم وسبب شَرَفِه وفضله هو العمل به، ولا سيما العلمُ بالعواقب، وما يتمُّ من المراد منها، وما لا يتم. وقد عبَّر الحكماء عن ذلك بقولهم: إن أول الفكرة آخرُ العمل، وبقولهم: إنَّ الخير هو المقصود الأول في فعل كل حكيم. وهذا هو المراد لنفسه، والشر لا يكون في فعل الحكيم إلاَّ وسيلةً إلى غيره كالحجامة وسيلة إلى العافية، والعافية هي المقصود الأول المراد لذاته، والحجامة وهي الشرُّ هي المقصود الثاني المراد لغيره، أي للخير، ولا يدخُلُ الشرُّ المحضُ في فعل الحكيم، ولا يريده لنفسه ألبتة. فوضَحَ بهذا أن المعتزلة حافظوا على رعايةِ التحسين العقلي حين أخلُّوا بصفة القدرة الربانية، وتأوَّلوا آيات المشيئة القرآنية، وانعكس عليهم مقصودهم في رعاية التحسين العقلي بالكلية مع سوء ما ارتكبوا في التوصل إليه من توهين (¬3) القدرة والمشيئة. فما أقبح ما توصَّلوا به، وما أفسد ما انتهوا إليه، وأقبح من هذا قول من نفي ¬
بحث للمعتزلة في قولهم: إن الله خلق المكلف ليعرضه على الخير
حكمة الله تعالى ظاهراً وباطناً كما سيأتي بيانه مطوَّلاً مستقصىً. وإنما حكمة الله تعالى في الدنيا ما نصَّ عليه تعالى في كتابه من إقامة حجته وعدله عند العقاب، وظهور رحمته وفضله قبل ذلك، وغير ذلك من تمييز الخبيث من الطيب، وبلوى خلقه أيُّهم أحسن عملاً، ونصر المؤمنين، والانتقام للمظلومين، وما (¬1) لا يعلمه إلا هو كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى. وقد عَلَّلَ الربُّ تعالى تركه بسط الرزق لكونه مفسدة لجميع المخلوقين عُموماً، فثبت أنه تعالى لا يفعل مفسدةً لهم، وأن أفعاله معلَّلَةٌ بالمصالح وإن خَفِيَتْ علينا كما سيأتي مبسوطاً. وربما استقبحوا هذه العبارة، فقالوا: إنما خلقهم ليعرضهم لذلك لا سوى، لا ليدخلوا الجنة، فيلزمُهم مذهبُ أهل السنة في امتناع تعلُّق الإرادة بما (¬2) علم الله أنه لا يقع، إذ لا قُبْحَ في إرادة الإحسان إليهم بدخول الجنة، وإثابتهم بها عند استحقاقهم ذلك، واستجماع شرائط حسنةٍ كما يحسُنُ منه ذلك في خلق من عَلِمَ أنه يؤمن ويدخُلُها، ولا قُبْحَ في إرادة ذلك. وإنما يمتنع ذلك (¬3) حيث يصادم العلم الإرادة، وقد غَلِطَ من ظَن (¬4) تقدُّم الإرادة لذلك من قبيل تعظيم من لا يستحق التعظيم، لأن إرادة المقدمات فرع إرادة ما هي وسيلة إليه. ولذلك قيل: أول الفكرة آخر العمل، على أن التعريض لو سُلِّم أنه المراد، لما كان مُراداً لنفسه كما زعم المعتذر (¬5) بذلك منهم، وإلا لما وَجَبَ اللطفُ، ولا قَبُحَتِ المفسدة، ولا حَسُنَ العقاب خصوصاً حيث لا ثمرة له تعودُ عليهم بالصلاح، كعقاب الآخرة الدائم، إنَّ التعريض قد حَصَلَ، ولا يستحقُّ العقابُ عقلاً بتركه. ¬
ولو سلمنا أن الانتفاع به حسنٌ لنفسه فذلك بشرط أن لا يعاقبه الله تعالى على عدم الانتفاع به، وأن لا يعلم فاعل التعريض وهو الله سبحانه أنه يكون سبباً في العذاب الأكبر. فمتى عَلِمَ ذلك، كان تركه أرجح بالنسبة إلى النظر لمن قصد (¬1) الإحسان إليه بذلك التعريض. وقد أحتجت المعتزلة على وجوب اللُّطف بأن تركه يدلُّ على مناقضة قصد تاركه لما دعاه إليه الداعي من الإحسان إلى الملطوف به، وكذلك يناقضه علمه بالعواقب المضادة لمراده. وقد ضَعَّفَ الشيخ مختار في كتابه " المجتبى " كلام أصحابه المعتزلة في الاعتذار بالتعريض، وقال ما لفظه: قوله: لا نُسَلِّمُ بأن غرضه استحقاق الجنة. قلنا: إنه غرضه أو غرض غرضه لأن الغرض من التمكين إنما هو الاستحقاق. انتهى بحروفه من المسألة التاسعة عشرة في زيادة شهوةٍ تلازمها المعصية (¬2) في خاتمة أبواب العدل. ويدلُّ على ذلك من السمع قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون} [الأنفال: 23] وهي حجة واضحة على أن مجرد التعريض الذي سبق في العلم أنه لا يُقبل مما لا يُتشاغل به. وكذلك يدلُّ على حسن الإعراض عن طلب حصول ما سبق في العلم أنه لا يحصُلُ. وأما قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] فليس فيه أن المقصود من إنذار من كان مُسْرِفاً هو التعريض، بل ¬
الواجب (¬1) حملُه على ما صرَّح القرآن به من إقامة الحجة كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] فتأمَّل ذلك. وأيضاً فقد سَمَّى الله الرسل مُبَشِّرين ومنذرين، بل قَصَرَهُم على ذلك، ولم يُسَمِّهِم مُعَرِّضين، وذكر الابتلاء والإنذار والعُذْرَ، وعلَّل بها ولم يذكر التعريض ولا علَّل به، وهكذا المبتدعة يتركون المنصوص ويأتون بما يخالف العقل والسمع. ويعضُدُ ذلك من السمع مثل قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 10 - 11] الآية، وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُون} [يونس: 101] وما في هذا المعنى، وهو كثير، وهو واضحٌ في أن المراد إقامة الحجة عليهم لا وقوع المطلوب منهم، المعلوم أنه لا يَقَعُ. ويُشبه ذلك منعهم من الإضلال، تأويلُه بالخِذْلان ولا فرق في المعنى. وقد أخطأتِ المعتزلة في هذه المسألة وأمثالها في وجهين: الأول: القطع بتقبيح ظواهر القرآن والسنة من غير موجِبٍ، وترجيحُ ما لا يَحْتَمِلُ التأويل على ما يحتملُه. بيانه أنه دار الأمر بين عدم قدرة الرب -سبحانه وتعالى عن ذلك- على هداية العُصاة، وبين إضلالهم، لكن أهل السنة رَأوْا قُبْحَ الإضلال يحتمل التأويل لخفاء وجه الحكمة، وكونه مُحتملاً عقلاً كما خَفِي على موسى تأويل الخَضِرِ، وهذا مجال مُتَّسِعٌ لأربابِ (¬2) النظر، كيف لعلام الغيوب الذي تَقِلُّ البحار أن تكون مِداداً لكلماته؟! ¬
وأما نفي القدرة فإنه (¬1) صفة نقص لذاته، وليس يَحتمل أن يكون الله غير قادر لوجه حسن مثل ما يحتمل أن يكون (¬2) مضلاًّ لوجهٍ حسن كما نبَّه عليه القرآن في قوله تعالى: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها. وقد أجمعُوا على جواز المتشابه الذي يدخله التأويل دون صفات النقص المَحضَةِ التي لا يُمكنَ مثل ذلك فيها، على أنه سوف يقوم الدليل على قدرة الله تعالى على هداية العُصاة اختياراً على قواعد المعتزلة من جهة تغيير البِنْية وترك الأسباب المضلةِ الزائدة على أصل التكليف، وغير ذلك كما يأتي بيانه بعون الله. وثانيهما: تكلُّف تعيين ما أراده الله من ذلك بغير حجةٍ وذلك خطأ عقلاً وسمعاً. أما العقل، فلأن المتأوِّل إما أن يقطع على أن تأويله هو مراد الله (¬3)، وأنه لا يَصِحُّ تأويل سواه، فهذا خطأ، لأنه لا دليل على نفي ما عداه من التأويل. وأقصى ما في الباب أنه طلب سواه فلم يَجِدْ، لكنَّ عدمَ وجدان الطالب لا يستلزم عدم المطلوب في نفس الأمر عند الله، وكم من طالبٍ لأمرٍ لا يجدُه المدة الطويلة، ثم يجدُه هو أو غيره، وإن لم يقطع على أن تأويله هو مراد الله، ولا على انتفاء غيره من التأويلات، فمجرد الاحتمال ليس بتفسير ولا معنى للظن في مسائل الاعتقاد الجازم لا سيما مع الموانع السمعية منه إلاَّ ما خصَّه الإجماع وغيره من العمل بالظن في غير مواضع القطع، ولأنهم تأوَّلوا آيات الإضلال والمشيئة بالتعجيز، وهو خطأ لوجهين: أحدهما: أن التعجيز شرٌّ منه كما مضى تقريره. وثانيهما: أنه لا يزول معه التقبيحُ العقلي، لأن العقل يستقبح طلب حصول ما ¬
المنع من القول في القرآن بالرأي
المعلوم أنه لا يحصُلُ، وإن كان مقدوراً ويمنع من إمكان إرادته، فوَجَبَ الإيمان بحكمةٍ مجهولةٍ إلاَّ أن يدُلَّ السمعُ عليها. وأما السمع فقوله تعالى: {ابتغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأويلهِ} إلى قوله: {وما يعلَمُ تأويلَه إلاَّ الله} [آل عمران: 7] ويأتي تقريرها إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. وفي ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال في القرآن بغيرِ علمٍ، فليتبوَّأ مقعَدَهُ من النَّار ". وفي رواية: " من قال في القرآن برأيه، فليتبوَّأ مقعده من النار ". أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسنٌ، والنسائي (¬1). قال المِزِّيُّ في " أطرافه " (¬2). رواه الترمذي في التفسير عن محمود بن غَيْلانَ، عن بِشْر بن السري، عن سفيان عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (¬3). ¬
وعن سفيان بن وكيع، عن سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة. ورواه أبو داود في كتاب العلم عن مسددٍ عن (¬1) أبي عوانة (¬2)، عن عبد الأعلى به. ورواه النسائي في " فضائل القرآن " عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد ابن يزيد. وعن أحمد بن سليمان، عن أبي نعيم ومحمد بن بِشْر. وعن بُندار، عن يحيى بن سعيد أربعتهم عن سفيان مثل الأول. وعبد الأعلى ضعيفٌ، ولكن يتقوى بحديث جُندب، وعموم القرآن والنظر، وشرط الترمذي فيما قال (¬3): حسن، أن يأتيَ من غير وجهٍ (¬4). وعن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال في كتاب (¬5) الله برأيه فأصاب فقد أخطأ " أخرجه أبو داود والترمذي وقال: غريبٌ، والنسائي (¬6). ¬
قال المزي (¬1): رواه أبو داود في العلم عن عبد الله بن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إسحاق الحَضْرمي (¬2) المقرىء، عن سُهيل بن مِهْران -وهو ابن أبي حَزْم القُطَعي- عن عبد الملك بن حَبيب أبي (¬3) عمران الجَوْني البصري، عن جُندب. ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حُميد، عن حَبَّان بن هلال، عن سُهيل به، وقال: غريبٌ. وقد تكلم بعض أهل العلم في سُهيل. والنسائيُّ في فضائل القرآن عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن يعقوب به. انتهى. قال ابن مَعينٍ في سُهيل: إنه صالح (¬4)، وصحح له الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك ". وأما قول أبي بكر رضي الله عنه في " الكلالة ": أقولُ فيها برأيي (¬5)، فجوابه من وجهين: أحدهما: أنه قال فيها بمقتضى لُغتهم في " الكلالة " كما قد صحَّ ذلك الذي قاله في النقل عن أهل اللغة، وليس ذلك هو المفهوم من الرأي في الأعصار الأخيرة، وإنما سماه رأياً على عادتهم في الورع من تفسير القرآن بغير النصوص النبوية لما يدخُلُ التفسير باللغة من احتمال الاشتراك والتخصيص ¬
قول بعضهم: إن إرادة القبيح لحكمة لا يعلمها إلا الله .. والجواب عن ذلك
والمجاز ونحو ذلك. ولذلك كَرِهَ عمر رضي الله عنه السؤال (¬1) عن الأب (¬2) مع أنه بحثٌ لغويٌّ مَحْضٌ. وكذلك تحرَّوْا في بعض الأخبار الآحاد، وطلبوا التوابع والشواهد حتى كاد عمر يستريبُ في حديث عمار في التيمُّم (¬3)، كل ذلك طلباً للظنِّ الأقوى، أو العلم اليقين إن أمكن. وثانيهما: أن ذلك في العمليات، ولا نزاع فيها لمكان الضرورة. قال بعضهم: تجويز إرادة القبيح لحكمةٍ لا يعلمها إلاَّ الله يستلزم تجويز الكذب، وبعثه الكذابين بالمعجزات لحكمةٍ لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه، فيجب تعيينها. قلنا: هذا ممنوعٌ من وجوهٍ: أولها: أن تجويز إرادة القبيح ممنوعٌ عند أهل السنة والأشعرية، وقد نصَّ الشهرستاني على ذلك في " نهاية الإقدام " واحتجَّ عليه وجوَّد الكلام كما يأتي قريباً، وما يوجد من خلاف ذلك في كلامهم، فإنه مجازٌ، حقيقته إرادة أفعال الله الحسنة المتعلقة بأفعال العباد القبيحة، بل منعوا من تعلُّق إرادته تعالى ¬
بطاعات العباد إلاَّ على تلك الصفة كما يأتي نصُّهم على ذلك وحجتهم فيه. وثانيها: أن ذلك إنما يجوز فيما تقبيحُ العقل له (¬1) ظاهرٌ ظنيٌّ، أو وهمٌ غَلَطي. وأما ما عُلِمَ قُبْحُه بضرورة العقل، فلا يجوز ذلك فيه، ولا شكَّ أن اختيار الكذب وبعثة الكذابين بالمعجزات على الصدق، وبعثة الصادقين مرجوحٌ قبيح على كُلِّ تقدير. أما إن لم يُجوَّزْ في ذلك خير ولا حكمة، فظاهر. وأما إن يُجَّوز (¬2) فيه شيء من الخير النادر، فلا شك أن الصدق وبعثة الصادقين أكثر دفعاً للفساد والمفاسد وجلباً للصلاح والمصالح، وتجويز خلاف ذلك يؤدي إلى أن لا يوثَقَ لله تعالى بكلامٍ، ولا لأحدٍ من رسله الكرام لا في دينٍ، ولا في دنيا، ولا جِدٍّ، ولا هَزْلٍ، ولا وعدٍ، ولا وعيدٍ، ولا حلالٍ، ولا حرامٍ، ولا عهدٍ، ولا عَقْدٍ، ولا [يوجد] أعظم فساداً مما يؤدي إليه هذا بالضرورة. ونحن لم نقل بتجويز جهل العقل والعقلاء لمثل هذه الأمور الضروريات الجليات، وإنما جوَّزنا جهله للحِكم الخفيات، ولا شك أن المملكة لا يصلُحُ أهلها مع كثرتهم، واختلاف طبائعهم إلاَّ بأن يكون الملك عزيزاً مهيباً كريماً حليماً تُخافُ وقائعُه، وتُرجى (¬3) صنائعه، له السطواتُ والبأسُ الشديد، والجُودُ العام لجميع الرعايا والعبيد، فهو مرجوٌّ مخوفٌ ودودٌ رؤوفٌ، فكيف يُنْكَرُ أن يكون لمالك الملوك والممالك، ورب العوالم من هذا الكمال أعظمه، ولن يكون كذلك إلا بالوعد والوعيد، والترغيب والتهديد، وجهل العبيد لخواتمهم، وتواضعهم لمكان علمهم بجهلهم وعجزهم. ¬
وكيف يُجعَلُ وجود الشر والأشرار مع ذلك خليّاً عن الحكمة الخفية، والغايات الحميدة؟! أو كيف يُنظم مثل ذلك في سلك (¬1) القبائح الضرورية، والمفاسد الجلية، وكم بين الحق والباطل، والظلمات والنور. وإنما لو عَلِمَ الخلق بالحكمة في خلق الأشقياء على التفصيل، لفسدوا، كما أنه لو بسط الرزق، لفسدوا، أو رفعه هلكوا، ولو قنطُوا، أو قَطَعُوا بالأمان لفسدوا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. وقد تشوَّفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رؤية جبريل على خِلْقَتِه، فرآه كذلك فخرَّ مغشيّاً عليه (¬2)، بل قال الله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18]. وصحَّ في الحديث " أن الكافر لو يعلم بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار " (¬3). وقد اعترفت المعتزلة بأن التقبيح العقلي ينقسم إلى ضروري عقلي كتقبيح الكذب الضار، واستدلاليٍّ كتقبيح الكذب النافع، فهذا الاستدلاليُّ يقع فيه ¬
الوهم والخطأ، والصحيح والسقيم، والخلاف بين العقلاء (¬1) كسائر الاستدلاليات، ولا شكَّ بأن المنفعة التي تُحسنُه عند بعض العقلاء هي المنفعة الراجحة الخالية عن المعارض الراجح. وأما لو نَزُرَتِ المنفعة وعَظُمت المفسدة، كان من القسم الأول القبيح بالضرورة، مثالة: من يعرفُ أنه إذا كذب حصل له درهمٌ، وضُرِبَتْ عُنُقُهُ، أو (¬2) هُتِكَتْ حُرْمتُه. وثالثهما: أن قُبْحَ ذلك ضروري إن لم يُتَوَسَّل به إلى غرضٍ راجح على ما فيه من المفاسد غير مقدور عليه إلاَّ بواسطة الكذب، وبعثة الكذابين. وقد ثبت أن الله على كل شيء قدير عقلاً وسمعاً وإجماعاً، فكيف يجوز عليه أن يتوسَّل إلى مرادٍ له بما لم تُجَوِّز المعتزلة على أحد من العقلاء؟! فإنهم قطعوا على كل عاقل أنه يختار الصدق ويُرجحه إذا قيل له: إن صدقت فلك درهم، وإن كذبتَ فلك درهم، بل عَقَلَتِ العربُ ذلك في جاهليتها (¬3) وأنشد علماء المعاني فيما يدل على ذلك: والعيشُ خيرٌ في ظِلا ... لِ الجهلِ ممَّن عاشَ كَدّا أي: مع العقل ليقع التعارض الخفي الذي يحسن الخير عنده (¬4) والاختبار، فأما تفضيل (¬5) العيش والعقل مجتمعين على الجهل والكَدِّ مجتمعين فلا يحسن الخبر به والاختبار، لأنه بمنزلة الخبر بأن الكل أكثر من البعض. فاعرف ذلك. ولا شكَّ (¬6) أن المُهَوِّنَ لقبح القبائح هو العجز وتحقق الضرورة أو مقارنتها، ¬
ولهذا (¬1) كان أبغض الناس إلى الله ثلاثة: أحدهم: الملك الكذَّاب كما ورد ذلك في الحديث الصحيح (¬2)، وذلك لاستغنائه بالقدرة عن الحيلة بالكذب، فكيف يجوز ذلك على ملك الملوك، ورب الأرباب الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كن فيكون. وخرج الطبراني في " أوسط معاجمه " من حديث الفضل بن عيسى الرَّقاشي، عن الحسن البصري، قال: خطبنا أبو هريرة على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليَعذِرَنَّ الله إلى آدم يوم القيامة ثلاث معاذير، يقول: يا آدم لولا أني لعنتُ الكذابين، وأبغضتُ الكذب والحَلِفَ وأوعدتُ عليه لرَحِمْتُ اليوم ولدك أجمعين " (¬3). ورابعها: أن العلم بقصد تصديق (¬4) الرسول عَقِبَ (¬5) المعجز ضروري عند الأشعرية كما هو مقرَّرٌ في كتبهم، بل المعارف كلُّها ضرورية عند جماعة من شيوخ الاعتزال، وكثير من أهل السنة كما مرَّ تقرير ذلك، وذكر الأدلة عليه في الوهم الخامس عشر من هذا الكتاب. ¬
وخامسها: أنه يلزَمُهم استحالة أن يكون الربُّ أعلم بالحكم، والمصالح، والمُرَجِّحات الخفية، وقد علم تفاضل علماء النظر في ذلك إلى شأوٍ بعيدٍ، فكيف بالملك الحميد المجيد؟! بل العالم يعلم اختلاف أحوال نفسه في ذلك، ومَنْ فوقه ومَنْ دونه. وسادسها: أن قصة الخَضِرِ وموسى مانعةٌ ما (¬1) ذكروه منعاً قاطعاً، لأن موسى عليه السلام لم يعلم وجهاً مُحسناً لما فعله الخضِرُ لا جُملةً ولا تفصيلاً، ولذلك سماه أمراً نُكراً، وقد علم الله من وجوه الحكمة في ذلك ما لم يعلمه موسى عليه السلام، بل علم الخضر فيه (¬2) ما لم يعلم موسى عليهما السلام، بل قال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلاَّ كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر (¬3). بل قال الله تعالى: {فلا تَضْرِبُوا لله الأمثالَ إنَّ الله يعلمُ وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] وهي من أنفع آية في هذا المعنى. وسابعها: قصة الملائكة حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فهذا قاطع بأنهم ما عرفوا وجه الحكمة في ذلك على التفصيل، بل ولا أعلمهم الله في جوابه عليهم بالكلية حيث قال: {إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30]. فيا عجباً للمعتزلي كيف لم يقنع بما قنعتْ به الأنبياء والملائكة، ومن لم يقنع بما قنعوا كيف يقنع بكلام أئمة السنة، ويُنَاظِرُ مناظرة السلف الصالح، وهو جديرٌ بأن يلحق بالذين قالوا لجوارحهم يوم القيامة: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. وثامنها: أنهم لم يجدوا وجهاً تفصيلياً (¬4) صحيحاً مُرضياً في هذه المسألة كما مر بيانه. ¬
وقد صرح الزمخشري في " كشافه " بصحة العلم الجملي في هذا الباب، واضطر إلى ذلك، وهو من أئمة الاعتزال، ولم ينقِم ذلك عليه أحدٌ مع كثرة رجوعهم إلى تفسيره، وتعظيمهم له. وكذلك الشيخ مختار المعتزلي العلامة اختار ذلك في " المجتبى " وأورد السؤال المقدم بتحريرٍ آخر، وجوّد الجواب عنه، فقال في السؤال: فإن قيل على الوجه الإجمالي: لو كان هذا التكليف حكمة، فإما أن تكون (¬1) موافقةً للعقل، أو مخالفة للعقل. فإن كانت مخالفة للعقل لا تكون حكمة، وتكون واجبة الرد. ولو كانت موافقة للعقل، لعقلناه عند التأمل والتفكر كسائر العلوم العقلية. وقال في الجواب بعد منع الحصر: لا نُسلِّمُ أنها إذا كانت موافقة للعقل عقلناها، وكم من أشياء توافق العقل ولا يعقلها العقلاء إلاَّ بعد التعريف، ألا ترى أن خرق الخضر السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار كانت موافقة للعقل، ولم يعقلها موسى عليه السلام إلاَّ بعد التعريف. وكذا خلق الخليفة في الأرض كان مُوافقاً للعقل، ولم تعقله الملائكة عليهم السلام. وكذا الأعمال الهندسية والحسابية، ودقائق أكثر الحِرَفِ، والصناعات وأفاعيل الأغذية والأدوية. وكذلك خلقُ مَنِ المعلوم منه أنه يكفُرُ أو يفسق يشتمل على حكمةٍ توافق العقل لو علمها العقلاء بدلالة صدوره من الحكيم. ثم أورد الشُّبه التي في الباب والجواب عنها، ثم عقَّب ذلك بقوله: ثم ¬
الدليل الثاني على عموم قدرته تعالى على كل شيء ونفوذ إرادته ومشيئته في جميع الكائنات
اعلموا أن هنا أصلاً جليلاً لو تحققه العاقل سَهُلَ عليه حل أمثال هذه الشبه، وهو أن من الأفعال والأحكام ما يَنْفِرُ (¬1) عنه الطبع وينكره العقل أشدَّ الإنكار في الظاهر، فإذا ظَفِرَ بالحكمة ووجه المصلحة، عاد إنكاره استحباباً، واستقباحه استحساناً. ألا ترى أن كليم الله موسى مع كمال فطنته، ووفور علمه أنكر خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار أشد الإنكار، فلما علم الحكمة الخفية فيها استحسنها ... إلى قوله: - فإذا جاز أمثال هذا في من استُهدِفَ للخطأ والنسيان ألا يجوز في أفعال أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين حِكَمٌ كامنة، ومصالح باطنة، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] جواباً لقول الملائكة: {أتجعلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ} ... إلى قوله: - وايمُ الله إن هذه الشُّبَه كانت تُقلِقُني في شبابي، فلما تحقَّقتُ هذا الأصل الجليل، اطمأن قلبي، وأضحى في مواطن (¬2) الحكم ومجازاتها مكيناً رصيناً حتى لو كُشِفَ الغطاء ما ازددت يقيناً. انتهى بحروفه. فدل على أنهم يعترفون بمذهب أهل السنة عند حاجتهم إليه. وكذلك قال ابن الملاحمي في كتابه " الفائق ": إن الله خلق الكفار على بِنْيَةٍ يعلم أنه لا لُطف لمن خُلِقَ عليها، مع قدرته على أن يخلقهم على بِنيةٍ قابلةٍ للُّطفِ، بل على مثل بِنية الأنبياء والأولياء لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو، وهو من كبار شيوخ الاعتزال. وقد تقدم كلام الزمخشري منقولاً بلفظه، وسيأتي كلام ابن الملاحمي. الدليل الثاني: وهو المعتمد أن كثرة هذه النصوص، وتَرْداد تلاوتها بين السلف (¬3) ¬
من غير سماع تأويلٍ لها، ولا تحذير جاهلٍ عن اعتقاد ظاهرها، ولا تنبيهٍ على ذلك حتى انقضى عصر النبوة والصحابة، يقضي بالضرورة العادية أنها غير متأولة، وإلى هذا الوجه أشار قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الأحقاف: 4] ويا لها من حجة قاطعة للمبتدعة لمن تأملها في هذا الموضع، وفي الكلام في الصفات وفي أمثال ذلك، لأنه لا يجوز في العادة أن يمضي الدهر الطويل على إظهار ما يقتضي بظاهره نسبة القبيح إلى الله وسبَّه ونفي حكمته على زعم المعتزلة، وله تأويلٌ حسن، فلا يذكر تأويله ألبتة، وسواءٌ كان ذكره واجباً أو مباحاً، بل العادة تقتضي أنه لو كان حراماً (¬1) وإليه داعٍ لفعله بعض الناس كما يُعلم ضرورة أنه لا يكون في المستقبل عصرٌ لا يوجد فيه عاصٍ في دار التكليف والابتلاء ما دامت أحوال المكلفين على ما هي عليه، ولا سيما إذا كان الأمر المسكوت عن تأويله من المحارات مثل هذه المشكلة عند المخالف، فإنه يلزمه أن العادة تقضي بالخوض فيها ضرورة، ولذلك كثُر خوضهم في مسألة الأقدار التي مسألة المشيئة إحدى أركانها، وتواتر كثرة سؤالهم عن ذلك لعظم إشكاله، وتواتر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألزمهم العمل والإيمان بالقدر. وقد ذكرت في هذا فيما يأتي أكثر من مئتي حديث مع ما ذكرت فيه من الآيات الكريمة، وفي جميع تلك الأحاديث لم يُذكر في ذلك تأويل ألبتة. وقد ذكر الرازي بحثاً طويلاً في اللغات من كتاب " المحصول " (¬2) في المنع من إفادة السمع القطع بسبب ما يَعْرضُ في (¬3) الألفاظ المفردة ثم في تراكيبها من الاحتمالات التي وردت بها اللغة مثل الاشتراك والمجاز والحذف ونحوها، وذكر أنه لا دليل على عدمها إلاَّ عدم الوِجدان بعد الطلب وأنه دليل ظني، وذكر ¬
قول المعتزلة: إن ظاهر هذه الأيات قبيح، جناية عظيمة على كتاب الله تعالى
كثرة الاختلاف في المحذوف من (¬1) " بسم الله الرحمن الرحيم "، ثم أجاب بما محصوله أن المعَوَّل عليه في مواضع (¬2) القطع في الكتاب والسنة هو القرائن التي يضطر إلى قصد المتكلم مع تواتر معاني الألفاظ في المواضع القطعية. وكلامه هذا يدلُّ على مثل (¬3) ما ذكرت في معنى آيات المشيئة، ولولا ذلك لتمكنت الملاحدة، وأعداء الإسلام من التشويش على المسلمين أجمعين في كثير من عقائدهم السمعية القطعية. ويؤيد هذا قول بعض المعتزلة (¬4) المحققين: إن كل قطعي سمعي ضروري (¬5)، وله وجهٌ جيد، ليس هذا موضع ذكره. وقول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ عظيمةٌ على كتاب الله تعالى، فإنه لا يشكُّ منصفٌ أنه جاء في كتاب الله تعالى على جهة التمدح من الله تعالى بكمال قُدرته، ونفوذ مشيئته، فجاءت المعتزلة بالداهية العُظمى، فجعلوا ما تمدح الرب به سبحانه يقتضي بظاهره غاية الذم والسب، ونفي الحكمة، فتعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً. وليس يرضى بمثل هذا عاقل أن يكثر التمدح مما ظاهره النقصُ لنفسه، والقدح في عرضه، كيف الملك الحميد الذي صح عن أعلم الخلق به أنه لا أحد أحب إليه المدح منه (¬6) سبحانه؟ من أجل ذلك مدح نفسه. فكيف يكون أظهر المعاني من كلامه، وكلام رسله (¬7) الذي المقصود منه هو التمدُّح يقتضي نقيض المقصود مع أنه أبلغ الكلام، والبلاغة تقتضي بلوغ المتكلم لمراده (¬8) على أبلغ الوجوه؟! ¬
فكيف يستكثرُ من لا أحد أحبُّ إليه المدح منه مما ظاهره الذم ويكون ما ذلك (¬1) ظاهره متلوّاً في الصلوات الخمس (¬2) ومحافل الجماعات؟! وقولهم: إن الداعي إلى ذلك ما زعموه من تعريض المكلفين إلى درك الثواب العظيم بالنظر في تأويله، مردودٌ بوجوهٍ: أولها: ما تقدم من أن ذلك لو كان هو المقصود لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم بإحسان هم السابقين إلى تأويله كما سبقوا إلى كل خير، وسكوتهم جميعاً عن (¬3) التأويل في المُدَدِ (¬4) الطويلة يقضي عادة باعتقاد الظواهر. وثانيها: أن هذا الداعي الذي زعموه لا يصح تقريره فيما مورده إظهار المحامد، وبيان الممادح، لأنه يُغيِّر وجوه محاسنها، ويُكَدِّر ورود مشارعها، وإنما يكون مثل ذلك في موضع الابتلاء مثل: آيات الأوامر والتكاليف، كأمر بني إسرائيل بذبح بقرة حين سألوا (¬5) عن تعيين قاتل صاحبهم، ونحو ذلك. وثالثها: أنه لو كان المقصود ما ذكروه، لورد السمع بما ظهره القبح الضروري المجمع عليه من نسبة الظلم، والولد، والشريك وسائر النقائص في الظاهر، ولها معانٍ حسنة يُثاب أهل النظر بتأملها، فإنه يُمكن تكلف التجوز والعلائق المجازية في هذه الأشياء مثل ما تكلفوه في تلك كما زعم الزمخشري (¬6) أن ظاهر قوله تعالى: {أمرنا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فيها} [الإسراء: 16] الأمر بالفسق، وجَعَلَهُ من المجاز، وغَلِطَ في ذلك كما سيأتي. فإن قيل: وجود المعارض يغني عن الخوض في التأويل، وهو موجود كما يأتي في شبه المعتزلة، فالجواب من وجهين: ¬
أحدهما: أنه غير موجود كما يأتي في الجواب عن شبههم. وثانيهما: أن وجوده لو سُلِّم، لا يغني عن الخوض في ذلك خاصة من عامتهم بل يزيد الدواعي قوةً إلى البحث، والخوض الكثير كما هو معلومٌ بالضرورة من عادات العقلاء، فعدم خوضهم في ذلك أدلُّ على عدم التعارض عندهم، وعند من بعدهم إلى أوان البدع، ولو سلَّم الجميع، فلا معارض بالضرورة في عموم قدرة الله وأنه على كل شيءٍ قدير. ومذهبُ المعتزلة يستلزم أن لذلك معارضاً ويقتضي أنه تعالى غير قادر على هداية العصاة تعالى عن ذلك، وسيأتي تقرير ذلك، ونقض شُبَهِهِم فيه. فإن قيل: فهل القرآن كله محكمه ومتشابهه عندكم على ظاهره ما لم يُنقَل تأويله بنصٍّ صحيح أو إجماع. قلنا: إن عنيتم بظاهره ما فَهِمَ السلف وأهل السنة من تنزيل ذلك على ما يقتضي المدح والثناء والكمال، وعلى قوله: {ليس كمثله شيءٌ} [الشورى: 11] فهو كله على ظاهره إلاَّ ما خصَّه نصٌّ صحيحٌ أو إجماع. وإن عنيتم بظاهره ما ظننتم من أن ظاهره قبيحٌ، وسبٌّ لله تعالى وكفر به، فليس على ظاهره، لكنا نمنع من كون ذلك ظاهره، وقد مر ذلك مُحقَّقاً في الصفات ولله الحمد. فإن قيل: فما الفرق بين المحكم والمتشابه؟ قلنا: إن المحكم ما لا تأويل له محجوبٌ عن العقول، والمتشابه ما له تأويل لا يعلمه إلا الله، وإنما نقول ما حكاه الله عن الراسخين: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب} [آل عمران: 7 - 8]. فهذه قرائن نضطر إلى أن المراد منها ما ظهر وفَهِمَه السلف والخلف، ومن لم يُغَيِّر فطرته التي فطره الله عليها.
النصوص عن أهل البيت الدالة على أن مشيثة الله نافذة
ولذلك كان اعتقاد جميع المسلمين حتَّى المعتزلة والشيعة إلاَّ مَنْ تَلَقَّن الكلام، ومَرِضَ قلبه بدائه أن مشيئة الله نافذة، وأنه سبحانه لا يشاء أمراً من هداية عاص أو غيرها إلاَّ وقع مراده على ما أراده، ومن شك في هذا فليختبر، وليُجَرِّب، وليسأل كل مسلم لم يعرف علم الكلام عن ذلك، وهذا دليل بثبوت ذلك متواتراً ينقله (¬1) الخلف عن السلف، وفي كلام أهل البيت عليهم السلام لتقرير ذلك نصوصٌ خاصة لا يمكن تأويلها وعمومات ظاهرة. أما النصوص، ففي موضعين: الموضع الأول في تراجم قدمائهم في كتب الرجال، والثاني: في تصانيف سائر علمائهم المخالفين لأهل الاعتزال. أما الموضع الأول فكثير ممن روى ذلك عنهم الإمام العلامة جمال الدين المِزِّي في كتاب " تهذيب الكمال في معرفة الرجال " (¬2)، ولو تتبع ذلك لطال، ولنقتصر مما في كتب الرجال على المنقول عن الإمام المقَلَّد المقتدى به منهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فقد روى عنه المزي المذكور، والذهبي في " تذهيب التهذيب " (¬3) كلاهما من طريق مُطَّلِب بن زياد الكوفي، وقد وثَّقه أحمد بن حنبل، وأبو داود (¬4)، وابن معين، قال: جاء رجلٌ إلى زيد بن علي، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله تعالى أراد أن يُعْصَى؟ فقال زيد بن علي: أفَيُعْصى عُنْوةً؟! ¬
فهذا صريح مذهب (¬1) أهل السنة، وكلامه هذا وإن كانت المعتزلة والزيدية المتأخرون (¬2) يتأولونه، ولا يمكنهم تأويله، فإنه لا تُساعدهم قرينة الحال، فإنه أورده جواباً على من أنكر صريح مذهب أهل السنة. وليس يستطيع من يدعي أنه على مذهبه من متأخري الزيدية أن ينقل عنه ما يعارض هذا النقل، بل منتهى حاصلهم الاشتغال بتكذيب النقل الثابت من غير موجبٍ، بل ولا مسوِّغٍ. فقد صحَّ النهي عن تكذيب اليهود فيما نقلوه من المحتملات أو التأويل لذلك من غير موجب أيضاً (¬3)، فإنه إن كان صواباً فتأويله حرام وِفاقاً، وإن كان خطأ، فهو كذلك على الصحيح، إذ لو جاز تأويل كلام من أخطأ من المختلفين لم يصح نقل المقالات عن أهلها، ولم تكن الزيدية بتأويل نصوص أئمة أهل البيت عليهم السلام على ما يوافقهم أولى من غيرهم. فتأمل ذلك. وأما ما نقله محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر المعروف بالشهرستاني في كتابه " الملل والنحل " (¬4) من كون زيد بن علي عليه السلام قلَّد واصل بن عطاء، ¬
وأخذ عنه مذهب الاعتزال تقليداً، وكانت بينه وبين أخيه الباقر عليهما السلام مناظراتٌ في ذلك، فهذا من الأباطيل بغير شكٍّ، ولعله من أكاذيب (¬1) الروافض، ولم يورد له الشهرستاني سنداً ولا شاهداً من رواية الزيدية القدماء، ولا من رواية علماء التاريخ، ولا الشهرستاني ممن يُوثَقُ به في النقل، وكم قد روى في كتابه هذا من الأباطيل المعلوم بطلانها عند أئمة هذا الشأن؟ وكيف يُقَلِّده زيد مع أن زيداً أكبر منه قدراً وسناً، فإن واصلاً وُلِدَ سنة ثمانين، وزيد عليه السلام تُوفي سنة مئة؟! ولو كان الشهرستاني كامل الصرفة والإنصاف لذكر مع ما ذكره ما هو أشهر منه في كتب الرجال، وتواريخ العلماء، وأئمة السنة، وفي " الجامع الكافي " ثم ذكر الراجح من النقلين، وقواه بوجوه الترجيح. والظاهر أنه اقتصر على نقل كلام بعض الروافض ولم يشعر بغيره. والله أعلم. ومما يدل على عدم تحقيقه في معرفة الرجال أنه عدَّ زيد بن علي من أتباع المعتزلة، ثم ذكر بعد ذكر الإمامية جماعةً جِلَّة من أئمة السنة ورواة الصحاح (¬2)، وعدَّهم من أتباع زيد بن علي، وسمَّاهم زيدية، بل عدَّهم من مصنفي كتب الزيدية منهم: شعبة (¬3)، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومنصور بن الأسود، وهارون بن سعد (¬4) العِجْلي، وعُبيد الله (¬5) بن موسى، والفضل بن دُكَين، وعلي بن صالح، ويزيد (¬6) بن هارون، والعلاء بن راشد، وهُشَيْمُ بن بَشير (¬7)، والعَوَّام بن حَوْشَب، ومُسْتَلِم بن سعيد، وجعلهم كلهم مثل أبي خالد الواسطي في الدعاء إلى مذهب الزيدية، والتأليف فيه (¬8). ¬
فكيف يصح مع هذا أن يكون مذهب زيد والزيدية هو مذهب المعتزلة، وفي هؤلاء رؤوس خصوم المعتزلة لولا عدم معرفته وتحقيقه في أحوال الرجال؟ وقد شرط الذهبي على نفسه (¬1) أن يذكر في " الميزان " من قُدِحَ عليه (¬2) بحقٍّ أو باطل، فذكر واصل بن عطاء، ولم يذكر فيه زيد بن علي عليه السلام لبراءة ساحته من ذلك (¬3). ويدل على ما ذكرتُه من بطلان ذلك أنه ذكره الشهرستاني على وجهٍ يستلزم الانتقاص لزيد عليه السلام حتى جعله مُقَلِّداً لواصل، لا مُوافِقاً بالنظر والاستدلال، وحتى أشار إلى أن الذي حمله على ذلك إرادة الصلاحية للخلافة وحبُّ الرئاسة، وحتى عاب عليه تقليد واصل مع قدحِ واصل في جدِّه علي بن أبي طالب عليه السلام. وأما الموضع الثاني: فكثيرٌ أيضاً، وفي كلام القاسم عليه السلام في الجواب على الملحد ما يدل على اعتقاده لنفوذ مشيئة الله تعالى ولله الحمد. وقد ذكر السيد الشريف الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني العلوي في كتابه " الجامع الكافي " (¬4) في مذهب الزيدية عن قُدماء أهل البيت عليهم السلام ما يدل على إجماع قدماء أهل البيت عليهم السلام في المئة الأولى والثانية وأكثر الثالثة، وهي القرن الثالث على صريح مذهب أهل السنة والحمد لله على وجود ذلك في كتب الزيدية، وخزائن أئمتهم، ورواية ثقاتهم. وقد نقلت ذلك من نسخة الإمامين اللذَيْن عاصرتهما: الناصر محمد بن علي، والمنصور علي بن محمد عليهما السلام، وهي النسخة التي أخرجها السيد الشريف العالم أحمد بن أمير الجيلاني إلى اليمن، وعليها خطه ¬
المعروف وقفها (¬1) للهِ تعالى، وعليها صفات السماع، والتصحيح الكثير على عادة حفاظ الحديث المتقنين، والإجازات من كثير من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وهي في الخزانة الإمامية إلى (¬2) الآن، حرسها الله تعالى. وقد ذكر الإمام المؤيد بالله عليه السلام هذا الكتاب المسمى " بالجامع " باسمه، ذكره في كتابه " الإفادة " في أواخره، فلله الحمد والمنة، في ذكر: حي على خير العمل، فإنه روى الحديث في ذلك، وقال: رواه محمد بن منصور الكوفي في كتاب " الجامع " بسنده، وقد عدت تصانيف محمد بن منصور ثلاثين مصنفاً في أول هذا الكتاب، وليس فيها ما يسمى الجامع فيشتبه بهذا والله أعلم. قال مصنفه رحمه الله في المجلد السادس منه في كتاب " الزيادات " (¬3) باب القدر والمشيئة والإرادة، قال محمد، يعني ابن منصور في كتاب أحمد: قلت لأبي عبد الله أحمد بن عيسى (¬4): هل (¬5) المعاصي بقضاء وقدر، قال: نعم، حكم الله أن سيكون ما سبق في علمه من أفعال العباد، وكان أحمد يثبت القدر خيره وشره، ويقول: الإيمان من منة الله تعالى على أوليائه وتوفيق وعصمة لتصديق علمه السابق الذي لا يبطل بعد الحجة بصحة العقل، وبما مثله تفهم المخاطبة، فإن لم يفهم، فهو مقطوع العذر لكمال خلقته وسلامتها من الآفات المانعة. قال محمد: قلت لأحمد بن عيسى: إن قوماً يزعمون أن علم الله لا يضر ولا ينفع، فقال: بلى والله، إن علم الله السابق ليضر وينفع، وذكر فيه كلاماً، وشرحاً لم أحفظه، وذكر فيه آيات من القرآن {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - واختيار الله إياه. ¬
وقال أحمد فيما حدثنا علي، عن أبي هارون، عن سعدان، عن محمد، قال: سألت أحمد بن عيسى عن القدر الذي نُهِيَ عنه ما هو؟ فقال: من زعم أن المشيئةَ إليه. وقد سُئِلَ علي عن ذلك، فقال: من زعم أن الله شاء (¬1) لعباده الطاعة فلم تنفذ مشيئة الله، وشاء لهم إبليس المعصية فنفذت مشيئةُ إبليس، فقد وهَّنَ الله في مُلكه، وجوَّره في حكمه، وبَرِئْنا إلى الله منه يوم القيامة. وقرأت في كتاب إبراهيم ومحمد ابني فرات وسماعهما من محمد بن منصور، قال: كان أحمد بن عيسى يُثْبت القدر خيره وشرَّه، ويقول: لا يقال: شاء للعباد فيكون شِبْهَ اختيار، ولكن شاء أن يَعْصُوه. وقال الحسن بن يحيى: أجمع آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أحسن، فلله عليه المِنَّة، ومن أساء، فلله عليه الحجة في إساءته، وغير معذور في معصيته، ولن يخرج الخلق من قدرة الله وتدبيره وملكه. وقال الحسن ومحمد: إن الله سبحانه خلق العباد، وعَلِمَ ما هم عاملون قبل أن يعملوا، وعرَّفهم طاعته، وأمرهم بها، وأعانهم عليها، وعرَّفهم معصيته، ونهاهم عنها، وأغناهم عنها. قال الحسن: فليس أحدٌ يصير إلى طاعة الله إلاَّ بنعمة الله وفضله ورحمته، وليس أحدٌ يصير إلى المعصية إلاَّ بنعمة الله، والحجة لله على المطيع وعلى العاصي. وقال محمد في موضعٍ آخر: إن الله خلق العباد جميعاً لعبادته، وأمرهم بطاعته، وأعانهم عليها، ومدحهم عليها، ونهاهم عن معصيته، وأغناهم عنها، وذمَّهم على فعلها، وجعل لهم السمع، والأبصار، والأفئدة، والجوارح السليمة ¬
من الآفات، وأقام عليهم الحجة، وندبهم إلى المَحَجَّة بما أنزل في القرآن، وجعل فيه من البيان، وركَّب فيهم من الجوارح التي بها يعملون، وبها يحاسبون ويُسألون، ثم أخذ بجميع نواصي العباد فلم يدع شيئاً من مشيئتهم وإرادتهم إلا بمشيئته وإرادته استدلالاً على الربوبية، وتعبُّداً للخلائق بالقدرة، فإذا نوى عبد من عبيده خيراً اختار عليه في نيته، فإن شاء أمضاه له بعدله وتوفيقه، وإن شاء حال بينه وبينه ببعض بلائه، وما دعا الله إليه، فقد جعل له سبيلاً، وما نهى عنه، فقد جَعَلَ منه بُدَّاً، فمن تم منه الإقرار، وأحسن في الأعمال كان في أهل الجنة، ومن تم منه الإقرار، وأساء في الأعمال، حَكَمَ عليه الدَّيَّان في أفعاله، إن غفر له فبفضله، وإن عذبه فبذنبه، وما الله بظلاَّمٍ للعبيد. قال محمد: فمن عَلِمَ الله منه الطاعة، وقبول أمره، والإنابة إليه، فله من الله الهداية والمنُّ والتوفيق. وقال محمد في موضعٍ آخر: فمن قبل أمر الله، وآثر طاعته، وعَلِمَ اللهُ منه صدق النية في ذلك كله، كان له من الله العون، والمنُّ الزائد، والتوفيق الزائد، وبذلك سعد، ومن علم الله منه المعصية، وركوب ما نهاه عنه، وإيثار هواه على طاعة الله، استوجب من الله الخذلان والترك، وبذلك شَقِيَ، ولم يكن له على الله هدايةٌ ولا منٌّ ولا توفيق. قال: ولله أن يَمُنَّ على من يشاء من عباده، ويتفضل عليه بتوفيقه ويهديه، قال الله عز وجل: {ولو عَلِمَ الله فيهم خيراً لأسمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، وقال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} [آل عمران: 74]، وقال: {ولولا فَضْلُ الله عليكم ورحمتُه لكنتم من الخاسرين} [البقره 640]، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاء} [النور: 21]، وقال الله عز وجل: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7 - 8]،
وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [الإسراء: 21]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فأخبر لا شريك له أنه خلق العباد جميعاً لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وقد تقدم الكلام في مثل هذا. قال الحسن ومحمد في كتاب " الجملة ": فليس أحد ينال طاعة الله إلا يبدي امتنانه وفضله ورحمته، وليس أحدٌ أعلى عند الله منزلةً من نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ لا أملِكُ لنفسي نَفْعاً ولا ضَرَّاً إلاَّ ما شَاءَ الله} [الأعراف: 188]، وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23 - 24]، وقال شُعيبٌ: {وما توفيقي إلاَّ بالله} [هود: 88]، وقال نوحٌ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقال يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، وقال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وقال أهل الجنة: {وما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هَدَانا الله} [الأعراف: 43]. قال الحسن بن يحيى: وقال أهل النار: {ربَّنا غَلَبتْ علينا شِقْوَتُنا} [المؤمنون: 106]، وقالوا: {لو هدانا الله لَهَدَيْنَاكُم} [إبراهيم: 21]، وقال إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [الحجر: 39، 40]، وقال الله تعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} [الحجر: 42]. وقال محمد: وقد نَسَبَ الله الأعمال إلى العباد، فقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقد أقدرهم عليها بالآلة والأداة، وتسليم الجوارح.
وقال الحسن ومحمد: وللعباد أفعالٌ وإرادات نسبها الله إليهم، وعِلْمُ الله وإرادته ومشيئته محيطٌ بإرادتهم، ومشيئتهم، فلا يكون منهم إلاَّ ما أراد وعلم أنه كائنٌ منهم، وقد أراد خلقهم، وخَلَقَهم بعد علمه بما هو كائنٌ منهم، وأنه لا يكون منهم إلاَّ الذي كان، وقد سبق في علمه أنه يكون منهم مؤمن وكافر، ومُطيع وعاصٍ، وشقيٌّ وسعيد، وفريق في الجنة، وفريق في السعير، وقد أراد أن يتم كون ما علم أنه كائن، وقد أراد تبارك وتعالى أن تكون الدنيا دار بلوى واختبار. قال محمد: وقد شاء الله أن يَسْعَدَ أهلُ طاعته، ويشقى أهلُ معصيته، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] وليس ما سبق في علم الله بعذرٍ لأحد في ترك ما أمر به، وركوب ما نهى عنه. قال الحسن ومحمد: فمِنَ العباد من أوجب الله له الجنة والنار بسبب البلوى والاختبار، ومنهم من أراد أن يدخله الجنة بسابق علمه فيهم بلا بلوى ولا اختبار كمَنْ لم يلزمه من الله حجة نحو المعاتيه والبُلْهِ والأطفال. قال الحسن: وكذلك حورُ العين منّاً منه وفضلاً ورحمة، فمن منَّ الله عليه بالعقل، والسمع، والبصر، والسلامة، والفهم، لما جاءت به الرسل، فقد وَجَبَت عليه الحجة، واتباع ما جاءت به الرسل. قال محمد: ومن ألزمه الله عزَّ وجلَّ بالعقل، والفهم والسمع، والبصر، والقوة، والسلامة من الآفات المانعة لقبول ما جاءت به الرسل، فذلك المحجوب لا عُذْرَ له في إضاعة شيءٍ مما كَلَّفه الله، قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم} إلى قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهم (¬1) ¬
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} إلى قوله: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف: 172]، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [القصص: 68]. وقال الحسن: وقد أدخل الله النار ولدان المشركين الذين سبق في علمه أنهم لا يؤمنون (¬1)، فقال لنوحٍ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَن} [هود: ¬
36]، فقال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27]. وأهلك الولدان في زمان عاد بالصيحة، ولا ذنب لهم ولم يبلُغوا الحُلُم والاختيار. وقتل الخَضِرُ الغلام ولم يبلُغُ الحُلُم، فبلغنا في الحديث أنه وُجِدَ في كَتِفِه: كافرٌ خِلْقَةٌ (¬1)، ولله أن يُضِلَّ من شاء من عباده، ولا يظلمهم لأنهم عبيده، وملكه، يفعل فيهم ما يشاء بسبب البلوى والاختبار، وبغير سبب البلوى والاختبار كما يشاء، ثم لا يكون ذلك ظلماً منه لعبده، بل له أن يفعل ما يشاء، وليس لأحدٍ أن يدخل على الله في علمه، ولا يسأله عما يفعل وهم يُسألون. وقال محمد في كتابه " الجملة ": والعباد عباد الله جميعاً في مَلَكَتِه ومشيئته وقدرته وسلطانه يُفضل بعضهم على بعض كما يشاء، وكيف يشاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقال لا شريك له: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} [الزخرف: 32]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]، وقالت الرسل: {إنْ نحنُ إلاَّ بَشَرٌ مثلكُم ولكنَّ الله ¬
يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} [إبراهيم: 11]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] أي: يجعل فيه نوراً يقبل به الإسلام، ويُحَبِّبُه إليه {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، فمن لم يكن له من الله نورٌ فما له من نورٍ، وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 110] يقال في التفسير: نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم على الكفر عقوبة كما لم يؤمنوا به أوَّل مرة. وقال محمد في المسائل: إن الله خلق الخلق بقدرته، وجعل بينهم التفاضل بعلمه، وجعل منهم عباداً اختارهم لنفسه ليحتجَّ بهم على خلقه، قال الله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال: {ولقدِ اختَرنَاهُم على عِلْمٍ على العَالَمِينَ} [الدخان: 32] وقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وقال {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} [الأحزاب: 7] وكان فضل الله عليهم ورحمته قبل طاعتِهم إيَّاه. وقال الحسن ومحمد في وقتٍ آخر: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فيُحَبِّب إليه الإيمان، ويجعل في قلبه نوراً يقبل به الإسلام، ويُخْطِرْ على قلبه الخير، ويُزَيِّن في قلبه التقوى مَنَّاً منه على عباده ورحمةً وفضلاً، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّد في السماء فمن لم يكن له من الله نورٌ فما له من نُور، قال الله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 110]. قال الحسن: وقال سبحانه: {ولو أنَّنا نَزَّلنا إليهم الملائكةَ وكلَّمهم الموتى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُون} [الأنعام: 111]. وقال الحسن في موضعٍ آخر: فإذا أراد الله بعبدٍ إرادةً في الامتنان والتوفيق، ألهمه التقوى، وحبَّب إليه الإيمان، وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ووفَّقَه للعمل الصالح منَّاً من الله ورحمة يختص بها من يشاء من عباده، ويُفَضِّلُ بعضهم على بعض كيف يشاء من غير استحقاق، وأعطى الأنبياء من خزائن رحمته وتفضُّله ومَنِّه وتوفيقه، وخصَّهم برسالته، ورفعهم على خلقه منَّاً منه ورحمةً وفضلاً، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولله ملك السماوت والأرض وما فيهما، فهم في ملكَتِه، والقدرة محيطة بهم، يفعل في عبيده ما يشاء، ويملك حياتهم، وموتهم، وأرزاقهم، وحركتهم، ومنطقهم، وشهوتهم، وقلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، فليس يتحرك متحركٌ، ولا يطرِفُ طارفٌ ولا ينطِقُ ناطقٌ إلاَّ وهو في ملكته والقدرة محيطة بهم، وعلم الله وتقديره ومشيئته سابقة فيهم قبل خلقهم، قال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] فالحجة من الله على المطيع والعاصي، وما يتفَضَّل به على العباد من العفو أكثرُ من العقوبة، قال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة} [فاطر: 45]، وقال: {ويَعْفُو عن كثيرٍ} [الشورى: 34]. وليس للعباد على الله سبحانه أن يخلقهم، ولا لهم عليه أن يَهْدِيَهم، فكُلُّ خيرٍ ناله العباد من الله، فإنما هو بمنِّ الله وفضله، وإنما خلق الله العباد عبيداً مماليك يملِكُهم، ويملِكُ جميع ما حولهم، وبالخلق إلى الله الحاجة في كل وقت، والله الغني عنهم وهم الفقراء إليه، وقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23 - 24] وقال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} [الأنبياء: 23].
وسُئل الحسنُ عن السعيد والشقي متى يكون سعيداً وشقياً؟ فقال: السعيد في علم الغيب عند الله سعيد قبل أن يُخلق، ولا يكون من فعل العبد، وما يُختم له به إلاَّ بعمل السعادة حتى يجعله الله سعيداً بعمله برحمةِ الله له، ويكون فعله موافقاً لما سبق في علم الغيب فيه. والشقيُّ في علم الله شقيٌّ قبل أن يُخلق، ولا يكون من فعله وخاتمة عمله إلا عمل الأشقياء حتى يكون عمله وما يختم له به موافقاً لما سبق في علم الله أنه شقي. نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بالسعادة ولا يجعلنا من الأشقياء برحمته، فإنه ولي ذلك، والقادر عليه، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم} [هود: 118 - 119] أي: للرحمة، وقال: {ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْس} [الأعراف: 179]، وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، وقال: {وما كُنَّا مُعَذِّبين حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] فأخبر الله سبحانه أنه لم يُعَذِّبْ من عصاه إلاَّ بعد البيان والحجة، والإعذار إليهم، فكان عذابه لهم عقوبةً إذْ عصوه. وقال محمد في المسائل: وسألتَ عمَّن يقول: إن الله لم يخلق شقيّاً ولا سعيداً. فإنا نقول: قد خلق الله الشقيَّ والسعيد، فلن يزول عن الشقي أن يكون شقيّاً، ولا عن السعيد أن يكون سعيداً، وهو الذي سبق في علم الله أن يُسْعِدَ
أولياءه، ويُشقي أعداءه. قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108]. قال الحسن فيما رواه ابن صباح عنه، وهو قول محمد في المسائل وسُئلا عن القدر، ومن قال: وإن الله خلق شقياً وسعيداً، وإن القضاء قد سبق؟ فإنا نقول في ذلك بجمل من الكتاب، وآثارٍ بَلَغَتْنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوزُ ذلك إلى غيره: إن الله خلق العباد وعلم أعمالهم قبل أن يعملوها، وعلم ما هم صائرون إليه، وقد عرَّفهم الطاعة وأمرهم بها، وعرَّفهم المعصية ونهاهم عنها بعد علمه بما يعملون من ذلك ويختارون، فما كان للعباد من طاعة فلله فيها المِنَّة، وما كان منهم من معصيةٍ، فلله فيها الحجة، فهذا ما أجمع عليه المختلفون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو مؤدٍّ إلى الله عز وجل. وقد أمر الله بالألفة والاجتماع، ومدح أهلها عليها، ونهى عن الفُرقة والاختلاف وذم أهلها عليها، قال الله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. وقال الحسن ومحمد: ومن قال: إن الله لم يُقَدِّر في خيرٍ ولا شرٍّ فإن قوله هذا جُرأة على الله وبدعة وجهل ومن قال بالإجبار وحمل ذنوبه على الله وما تنزَّه الله عنه، وذمه في الكتاب، فإنه جريء جاهل، ولا يقول بواحدة من المقالتين، يعني: الجبر ونفي القدر. قال محمد: ومن قال: إن الله لم يُقَدِّر في خير ولا شر فإنا ننسبه إلى الغلو في القدر الذي نهى عنه، ونقول: إن الله قد قدَّر الخير والشر على ما أراد، فجعل الخير خيراً، وجعل الشرَّ شراً، ومشيئة الله محيطة بمشيئة العباد. قال الحسن ومحمد في كتاب " الجملة ": وبلغنا عن علي صلى الله عليه،
كلام أمير المؤمنين علي في جواب السائل عن القدر
أن رجلاً سأله عن القدر؟ فقال: طريقٌ مظلم فلا تسلُكْه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: بحرٌ عميق فلا تَلِجْهُ، قال: فسكت الرجل ساعة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: سِرُّ الله فلا تُفْشِه. قال الحسن بن يحيى: ثم إن أمير المؤمنين صلى الله عليه قام فأحدث طهوراً، ثم قال: أين السائل عن القدر؟ فقال الرجل: أنا يا أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين: أخبرني عنك، أخلقك الله كما شاء أن يخلقك أو كما شئت؟ قال: كما شاء، قال: فأخبرني عما تأتي به يوم القيامة من عملٍ بما شاء الله أو بما شئت؟ قال: بما شاء الله، قال: فأخبرني عما تصير إليه يوم القيامة إلى ما شاء الله أو إلى ما شئت؟ قال: إلى ما شاء، قال: فهل ترى لأحدٍ شيئاً من المشيئة؟! وروى محمد بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أعمال العباد كلُّها على مشيئة الله وإرادته " (¬1). وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته: " إنَّ الله حَدَّ حُدوداً فلا تعتدُوها، وفرض أشياء، فلا تُضيعوها، وحرَّم محارم فلا تَنْتَهِكُوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نِسياناً، فلا تكلفُوها رحمةً من الله فاقبلُوا " (¬2). ¬
قال الحسن ومحمد: " ومن كان له جارٌ قدريٌّ، أومن ينادي بذلك ويمتحن عليه الناس، ويُعادى على ذلك فلا حقَّ له كحرمة المسلم، وإن كان إنما يومىءُ إليه بذلك ولا ينادي به، فله ما للمسلمين في الجملة. قال محمد: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬1)، قال: حدثنا عمر أبو حفص القَزَّاز، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن أبائه عليهم السلام، عن عليٍّ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2): " سبق العلم، وجفَّ القلم، ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وما العباد عاملون، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى، وبالشقاء من الله لمن كذَّب وكَفَر، وبالولاية من الله للمؤمنين، وبالبراءة من المشركين ". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أروي حديثي عن الله سبحانه، قال الله تبارك وتعالى: و (¬3) بمشيئتي كنتَ أنتَ (3) الذي تشاء لنفسك ما تشاء (¬4) وبإرادتي كنتَ أنت الذي تُريدُ لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي قَوِيتَ على معصيتي، وبعصمتي وبعافيتي وبقوتي أدَّيْتَ إليّ فرائضي، أنا أولى بإحسانك منك، وأنت أولى بذنبك مني، لأن الخير بما أوليتُك مني بدّاً (¬5)، والشرَّ مني بما جَنَيْتَ حدّاً، وبكثير من تسليطي انطويت على طاعتي، وبسوء ظنِّك بي قنطْتَ من رحمتي، لي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، يا ابن آدم لم أدَعْ تحذيرك، ولم آخُذْك عند غِرَّتِك، ولم أُكَلِّفْكَ فوق طاقتك، ولم أُحَمِّلْكَ من ¬
الأمانة إلاَّ ما أقررتَ على نفسك، ورضايَ لنفسي منك ما رضيتَ لنفسك مني" (¬1). وروى الحسن بن يحيى بعض هذا الحديث بلا إسنادٍ، وقال: قال أميرُ المؤمنين: ألا إن أبغض خلق الله إلى الله عبدٌ وَكَلَهُ الله إلى نفسه (¬2). وروى محمد، عن علي بن الحسين أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقال له ابنه أبو جعفر عليهم السلام: يا أبتاه تبكي وقد طلبت الله طلباً (¬3) ما طلبه أحد؟ قال: يا بُني إنه ليس أحدٌ يشهَدُ القيامة إلاَّ وله زَلَّةٌ لله فيه المشيئة إن شاء رَحِمَه، وإنْ شاء عَذَّبَه. وسُئل محمد عمن يقول: كل شيءٍ بمشيئة الله، فلولا مشيئة الله ما قَدِرَ أحدٌ أن يفعل شيئاً؟ يقول: (¬4) بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله سبحانه: " يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء " وذكر الحديث. مسألة: قال محمد في المسائل: سألت القاسم بن إبراهيم (¬5) يعني. عمَّنْ يقول: من قُتِلَ مات بلا أجلٍ ولو لم يُقتل ما مات، وذكرتُ له قول من يقول: إنه لما قتله، قَطَعَ أجله؟ فعاب القاسم هذا القول، وأقدم على من يقول به المكروه (¬6). وسألته عمن يقول به؟ فقال: هالكٌ. ¬
وقال الحسن: وأما ما سألت عنه من قولهم: إنَّ من قتل إنساناً فلا يكون ملكُ (¬1) الموت قابضاً لروحه، فقد ردُّوا قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بكم} [السجدة: 11]، {كُلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموتِ} [آل عمران: 185]، وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت} [الزمر: 42]. فقد أخبرنا الله أنه يتوفي الأنفس حين موتها، وأن ملك الموت يتوفَّى عن أمره، وقال: قال الله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. وقد قال في يحيى بن زكريا: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15] وإنما قُتل يحيى بن زكريا قتلاً. وقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] وإنما كان الموت بالقتل. وسألت عمَّن يقول: إن الذئب إذا وثَبَ على الشاة فأخذها إنه هو الذي رزق نفسه، وليس خالقه الذي رزقه؟ فهذا القول ردّ حكم [آيات] الكتاب البينة المنصوصة، قال الله: {وما مِنْ دابةٍ في الأرضِ إلاَّ على اللهِ رِزْقُها} [هود: 6] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40]، وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [العنكبوت: 60]، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} [فاطر: 3]، وقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} [الزخرف: 32] فجعل بعضهم أقوى من بعض، وبعضهم يُحسن صناعة لا يُحسنها غيره، حتى ¬
إن الكنَّاس -وهو أدناهم منزلةً في الدنيا- ليأخُذُ رزقه من أعلاهم منزلةً في الدنيا، لأن الله سبحانه جعل ذلك سبباً من أسباب أرزاقهم لا يمتنعون منه، ولو كان اكتسابُ الرزق إلى العباد، لكان الشديدُ البطش، الكاملُ العقل، البارعُ البيان والحجة أكثرَ رزقاً من الأحمق الضعيف، ولكن الله سبحانه احتج على عباده أنه المُنَزِّلُ لأرزاقهم، المالك لخلقهم وأمورهم، فقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54]. وقال محمد في المسائل: وسألت عمن يقول: من قُتِلَ مات بلا أجلٍ، ولو لم يُقتل ما مات؟ وهذا قول سوءٍ سيِّءٌ رديءٌ، ولكنه وافق أجله وقت القتل، ولو لم يقتله مات في ذلك الوقت (¬1) وقد سُئل الحسن البصري عن ذلك، فقال: يا لُكَع (¬2) فمن يأكُلُ رِزْقَه! وسألت عمن يقول: لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يؤمن بالخير والشر، فمعناه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكُن لِيُخطِئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وسألت عمن يقول: إن الله قد خلق الأشياء، وفرغ من جميع خلقه وأحكمه؟ فإن كان يريد بقوله: إن الله خلق الأشياء، وأحكم خلقها، يريد علمها، وأتقن علمها (¬3)، فهو كما قال. وأما قوله: " خلق " فإن الله قد خلق ما أراد خلقه، وهو خالقٌ ما يريد خلقه. ¬
وسألت عمن يقول: إن الله شاء لخلقه (¬1) أن يكونوا عالمين بأمر الله، ولكن تركوا ذلك بقول: لو شاء الله أن يجعلهم مجبولين على ذلك لفعل، ولم يخرجوا عن (¬2) ذلك، ولكن شاء جلّ وعزَّ أن يأمرَهُم بعد البيان، واتخاذ الحجة أن يكونوا عالمين عاملين بأمر الله، والمنُّ والتوفيق من الله لمن قَبِلَ أمره، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وقال لا شريك له: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] فقد شاء أن يكونوا قوَّامين بالقسط شهداء (¬3). قلت: يعني: بمشيئة الأمر كما يدل عليه أول كلماته (¬4) وآخرها، وكما مرَّ في قوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56]. وقال عليه السلام: وقد قال سبحانه: {ولو شِئنا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} [السجدة: 13]، وقال سبحانه: {لو يشاءُ الله لهَدَى الناسَ جميعاً} [الرعد: 31]، وقال: {وَلَوْ شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كلُّهم جميعاً} [يونس: 99]، وقال: {ولَوْ شاءَ الله لَجَمَعَهُم على الهُدى} [الأنعام: 35] وهو كما قال عز وجل، ولكن الله شاء أن يأمُرَهُم وينهاهم بعد البيان ليتخذ عليهم الحجة. وقال: {وما كُنَّا مُعذِّبينَ حتَّى نبعثَ رسولاً} [الإسراء: 15] شاء الله أن يُكرم أهلَ طاعته، ويُهينَ أهلَ معصيته. وسُئل عن قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِه} [فاطر: 2]، فقال: ذلك المطر يُغاثُ به العباد، فهو من رحمة الله تعالى لا مُرْسِلَ له غيره، وإن يُمْسِك، فلا مرسل له غيره. وكذلك كل ما أنعم الله به على خلقه، فعلى هذا السبيل. ¬
وسُئل عن قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِه} [يونس: 107]، فقال: هو حسب (¬1) ما أجبت به في المسألة التي قبلها. وسُئل عن قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] يعني يقول: خلقنا لها كثيراً من الجن والإنس، وهم أهل الكفر (¬2) والضلال. وسألت عن قوله تعالى: {وما تَشاؤون إلاَّ أنْ يشاءَ الله} [التكوير: 29] بلغنا أنها (¬3) لما نزلت {إنَّ هذه تذكرةٌ فمنْ شاءَ اتَّخَذَ إلى ربِّه سبيلاً} [الإنسان: 29]، قال أبو جهل: قد جعل الله المشيئة إلينا، فنزلت {وما تشاؤون إلاَّ أنْ يشاءَ الله} [الإنسان: 30]. وسُئِلَ عن قوله تعالى: {وإذا أرادَ اللهُ بقَوْمٍ سُوءاً} [الرعد: 11] في الدنيا مِن نكالٍ أو قتلٍ أو عقوبات، فلا رادَّ لأمر الله، وكذلك في الآخرة إذا أراد الله بأعدائه العذاب والعقاب فلا رادَّ لأمر الله. وسألت عن قوله: {وتُعِزُّ مَنْ تشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} [آل عمران: 26] شاء الله أن يُعِزَّ أهل طاعته، ويُذِلَّ أهل معصيته. وسألت عن قوله: {تُؤتي المُلكَ مَنْ تَشاءُ} [آل عمران: 26] هذا كما قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك} [البقرة: 258] هذا على الإقدار والتمكين. قال محمد: وسُئِلَ عن حَدِّ الخير والشرِّ؟ فقال: حدُّ الخير: كلُّ ما قرَّبَ إلى الله، وحدُّ الشر: كل ما باعد من الله، والحق: كل ما أمر الله به ونَدَبَ إليه، والباطل: كل ما نهى عنه وذم عليه. انتهى ما نقلته بحروفه من " الجامع الكافي " ¬
في هذه المسألة العظمى، وقد مَرَّ في مسألة القرآن في آخر الكلام في الصفات في الوهم الخامس عشر مثلُ هذا في موافقة السلف وأهل علم الأثر، والحث على الجمل، والنهي عن الخوض في علم الكلام (¬1). وصنَّف محمد بن منصور رحمه الله في ذلك كتاب " الجملة والأُلفة " وسيأتي في مسألة الأفعال في المرتبة الخامسة من جواب هذا الوهم طرفٌ منه، وكذلك في مسألة الأطفال. وذكر السيد المرتضى (¬2) في كتابه " الغُرَر " مثل كلام هؤلاء الأئمة في تقرير المشيئة والقدر على ما وَرَدَ به السمع عن أبي القاسم البَلْخي، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وسيأتي ذكره بلفظه في القدر. وخالف المعتزلة في أيجاب كل لطفٍ عَلِمَه الله غير من ذكرنا من أهل البيت، ودانوا بقدرته سبحانه على هداية من يشاء اختياراً منهم: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة (¬3)، ذكره في " التمهيد " في أوائل الباب السابع في النبوات، ¬
واحتبئ عليه وأطال وأجاد، وسيأتي كلامه بحروفه. ومنهم: الإمام الناصر (¬1) عليه السلام ذكر ما يدل عليه في كتابه الذي جمعه في شرح التوابع، وموضعه منه شرح قول الزمخشري: لم يبق في الناس وَدَكٌ شرٌّ من الضحاك ووَدَك (¬2). ¬
ومنهم: الإمام المنصور بالله (¬1) عليه السلام سمعتُه منه غير مرةٍ، فهذا ما عرفته مع قلة معرفتي من نصوص أئمة أهل البيت الخاصة. وأما ما يوجدُ من كلام أهل البيت عليهم السلام من العمومات الدالة بظواهرها على موافقة ظواهر القرآن والسنة، ومذهب السلف وأهل الأثر، وربما كانت قاطعة بتعليلها وقرينة الحال فيها، فذلك مثل ما أجمعوا عليه من الاحتجاج على فضلهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] لولا نفوذ إرادته قطعاً لم يكن ذلك حجة، فعند المعتزلة أن الله إنما يريد مثل ذلك من جميع العصاة، لكن العُصاة امتنعوا من فعل ما أراد الله سبحانه. فإن قيل: إنما صح الاحتجاج بها، لأن إخباره بذلك يدل على أنه عَلِمَ أنهم يقبلون هدايته لهم، ولطفه بهم في الهداية. قلنا: لا يصح ذلك لوجهين. أحدهما: أنه لا ملازمة بين خبر الله عن مراده، وبين علمه بوقوع مراده على أصولهم، ولا بين الإخبار بإرادته والإخبار بعلمه على أصول الجميع، لأن خبره ¬
عن إرادته لذلك لا يستلزم وقوعه عند المعتزلة، كما في قوله تعالى: {وما خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبُدونِ} [الذاريات: 56]. فإنها عندهم مثلها، ولا يستلزم وقوع ذلك عندهم، فحجَّتُهُم على التأويل هي غير مذهبهم المدعى، وتأويلهم يحاول صرف الآية عن معناها، وذلك أنها واردةٌ في تخصيصهم بالإرادة المتعلقة بتطهيرهم (¬1) المنسوب إلى الله عز وجل، وهم يريدون أن يكون معناها الخبر عن علم الغيب بما يكون منهم في المستقبل منسوباً إليهم. وهذان أمران متباعدان يزيده بياناً أنهم إما أن يلتزموا أن الإرادة من الله تعالى لا (¬2) تَعَلَّقُ بخلاف معلومه أو لا؟ الأول: هو مذهب أهل السنة الذي فرُّوا منه، وهو الذى يتمشى عليه تأويلُهم على رِكَّتِه على كل مذهب. والثاني: يرفع السؤال. وثانيهما: أنه يؤدي إلى أنه لا أثَرَ لإرادة الله تعالى في تطهيرهم، ولو كان كذلك لم يكن لتعليق إرادة الله بتطهيرهم (¬3) معنىً، لأنَّ الإرادة لا تَعَلَّقُ إلا (¬4) بفعل المريد، كما يأتي بيانه بخلاف المحبة. ولو كانوا كما قالوا لنُسِب التطهير إليهم لا إليه، ولما كان لهم مَزيَّةٌ على سائر المتقين، والقطع بقبح ظاهر هذه الآية، وتعيين مراد الله في الخبر (¬5) عما عَلِمَ أنه يكون منهم، والقطع على أهل البيت أنهم أرادوا ذلك بالاحتجاج بها قَطْعٌ بغير تقدير، وجنايةٌ على الكتاب المنير، على أنه لا عُذرَ لهم على أصولهم في تأويل احتجاج آحاد الأئمة، فإن أصولهم تقضي بتحريم تأويل كلام الآحاد من الأئمة، لا سيما والقرينةُ قائمةٌ على ذلك. ¬
فإن الأئمة عليهم السلام لو استشعروا أن الآية بظاهرها تخالف مذهبهم في أُصول الدين، وأن احتجاجهم بها يلزمهم في الظاهر نقضُ أصولهم، لأشاروا إلى ذلك ولم تَقْصُرْ عنه أفهامهم ولا عباراتهم، ولكنَّ المتأخرين من كل فرقة يُغلُون غُلُوَّاً لا يناسب مقالاتِ أوائلهم كما ذكره الخطابي عن المعتزلة، وكما يعلمُه من قرأ كتب أئمة أهل البيت عليهم السلام القدماء مثل: " علوم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - " المعروف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو تأليف محمد بن منصور الكوفي المُرادي الشيعي. وأبسط منه وأجمع وأنفع منه وأمتع كتاب " الجامع الكافي على مذهب الزيدية " (¬1) تأليف السيد العلامة أبي عبد الله الحسني رحمه الله. وبهذا يُعرف أنه قد كَثُرَ من المبتدعة محاولة جَحْدِ المعلومات، ورفع الضرورات والمتواترات عن سلف الأمة عموماً، وعن (¬2) أسلافهم خصوصاً. وهذه المسألة، وهي نفوذ مراد الله تعالى من أشهر أصول دين الإسلام، بل هي مما اتَّفق عليه جميع الأديان. قال الحافظ البيهقي في كتابه في " الأسماء والصفات (¬3) ": حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو حامد بن بلال، حدثنا محمد بن يزيد (¬4) السلمي، حدثنا المُؤمَّل (¬5) بن إسماعيل البصري، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو سنان، سمعت وهب بن مُنبه يقول: كنت أقول بالقدر (¬6)، حتى قرأت بضعاً وسبعين من ¬
كُتُبِ الأنبياء في كلِّها: من جعل شيئاً من المشيئة إلى نفسه، فقد كفر، فتركتُ قولي. وأخبرنا أبو محمد (¬1) بن يوسف الأصبهاني، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي، حدثنا أبو يحيى بن أبي مَيْسرة، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصَّنْعاني، حدثنا عبد الصَّمد بن مَعْقِلٍ، قال: سمعت وهب بن مُنَبِّه يقول: قرأت لله تعالى سبعين كتاباً، كلها نزل (¬2) من السماء، في كل كتاب منها: من أضاف إلى نفسه شيئاً من المشيئة، كفر. وعن ابن عباس قال: لما بُعِثَ موسى عليه السلام وكلَّمه ربُّه، قال: اللهم إنك ربٌّ عظيم لو شئتَ أن تُطاع لأُطِعْتَ، ولو شئتَ أن لا تُعْصى ما عُصيتَ، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: {لا يُسألُ عمَّا يَفْعَلُ وهُم يُسْألُونَ} فانتهى موسى. رواه البيهقي والطبراني (¬3) ¬
الدليل الثالث على نفوذ مشيئة الله في جميع الكائنات وهداية العصاة وغير ذلك
وزاد فيه زيادةً يأتي ذكرها عند ذكر أسانيده قريباً بهذه المسألة (¬1). الدليل الثالث: ما يأتي من تعذُّر (¬2) تأويل كثير من آيات المشيئة مع مراعاة قرائن (¬3) القوانين العربية والنظرية حين نذكُرُ الدليل على قدرة الرب عز وجل على هداية من شاء من الخلق أجميعن إن شاء الله تعالى، على أن التأويل الممكن في هذه المسألة، وترك الظواهر حرامٌ قطعاً، إذ لا موجب له من السمع ولا مِنَ العقل، لأن العقل يمنع من تعلُّق الإرادة بخلاف المعلوم كما مرَّ وكما يأتي. واعلم أنه لا شك في حُسن القول بنفوذ مشيئة الله تعالى بالنظر إلى التمدح لكمال القدرة وتمام العزة، وإنما حمل المعتزلة على المخالفة (¬4) في ذلك ظنهم أن ذلك يُناقضُ ما تقرر في العقل والسمع من قُبح إرادة الشر لنفسه، أي لكونه شرّاً لا حكمة (¬5) فيه. قالوا: وكونُ العذاب هو مراد الله الأول بأهله يستلزم إرادة الشر لنفسه، وهذا ينفي قواعد معلومةً من ضرورة العقل والدين، أو من مجموعهما. منها: كون الله (¬6) عزَّ وجلَّ أرحم الرحمين. ومنها: كونه تعالى أحكم الحاكمين. ومنها: كونه سبحانه أكرم الأكرمين. ¬
وقد عظَّم حقَّ المساكين في كتابه الكريم، وقرَنَه بالإيمان به، فقال: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} [الحاقة: 33 - 34] ومَدَح على إطعام الأسير وهو كافرٌ، وأمثال ذلك مما لا يُحصى. ولقد تنزَّه الربُّ سبحانه غاية التنزه من العَبَث، ونصَّ على نزاهته منه في كتابه العزيز، والعبثُ: اسم لما لا نفع فيه ولا ضرر، بل قال تعالى فيمن جوَّز ذلك عليه: {ذلك ظَنُّ الذين كَفَروا} [ص: 27] فكيف بإرادة تعذيب أكثر الخلائق أبدَ الأبدين من غير حاجةٍ ولا حكمةٍِ فيه. والجواب عليهم أن ما ذكروه من سَعَةِ رحمة الله، وبالغ حكمته، ونزاهته عن العبث وكل نقصٍ في الصفات والأسماء والأفعال حقٌّ لا ريب فيه ولا شكَّ، ولكنهم وهموا في أمرين جليَّين: أحدهما: وهموا أن مذهبهم سالمٌ من المناقضة في ذلك. وثانيهما: وهموا أن مذهب أهل السنة يستلزم نفي ذلك، وليس كما وهموا في الجانبين جميعاً (¬1)، ووهمُهم في ذلك يتبينُ بذكر أربعة وجوهٍ تشتمل على معارضةٍ جدلية، وموعظةٍ خطابية، وحجةٍ جُملية بُرهانية إجماعية، ونافلةٍ تفصيلية خلافية. أما الوجه الأول. وهو المعارضة الجدلية فبأمرين: أحدهما: أنهم لم ينفصلوا من الاعتراض الذي حسبُوه لازماً لأهل السنة إلا بالتزام (¬2) أشدَّ منه في البطلان كما مر تقريره. وذلك أنهم زعموا أن المراد تحصيل ما عَلِمَ الله أنه لا يحصل، أو التعريض لذلك، وهذا لا يَصِحُّ عقلاً وسمعاً كما مرَّ بعضُه ويأتي بقيته، وإن ¬
صح، فلا يفيد شيئاً قطعاً، فالتشاغُل به هو من العبث الذى لا يجوز على الله تعالى، خصوصاً متى كان القصد بذلك هو الإحسان في العاقبة الدائمة إلى من علم أنه يخلُدُ في العذاب الدائم بسبب تعريضه (¬1) لذلك الإحسان، والقاطع بالعلم (¬2) بقبح هذا عقلاً أنه يعلم بالضرورة من كل عاقلٍ أنه لا يختار بنفسه، ولا لمن يُحبُّه، ولا لمن (¬3) يحب الإحسان إليه والرفق به. وثانيهما: أن مذهبهم أن عذاب الآخرة من الله تعالى بمنزلة المباح منَّا، الذي ليس فعلُه أرجح من تركه، وهذا هو العبث الذي لا يجوز على الله تعالى، بل قال الفقيه حميد (¬4)، من متأخري متكلمي الزيدية: إنه من الله بمنزلة المكروه، لأن العفو أفضل، وهذا كله خطأ وقبيحٌ ممَّن قاله كما سيأتي وجهه (¬5) عند إبطال قول من ذهب إليه من غُلاة الأشعرية في الوهم الثلاثين، وقد مرَّ قريباً شيءٌ من بيان مناقضاتهم في ذلك. الوجه الثاني: الموعظة الخطابية، وذلك أن منشأ هذه الإشكالات (¬6) هو مجموعٌ جهالاتٍ وضلالاتٍ. منها: عُجْبُ أهل الكلام بعلومهم، وعقولهم، وآرائهم (¬7)، ولو أنصفوا، أو نظروا في نسبة ما علموا إلى ما جَهِلُوا لانحسمَتْ هذه المادة بالكلية، ولو أن ¬
اعتراف الفلاسفة كما نقله الرازي عنهم بأن كلامهم في الإلهيات مجرد ظن
العبد علم نصف معلومات الله، لجُوز أن يكون حكمة الله في هذه الأشياء في النصف الأخير، كيف والله يقول: {وَمَا أُوتيتُم مِنَ العلم إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85]، والملائكة تقول: {لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32]. وقد صح أن علم موسى والخضر عليهما السلام، وعلم جميع الخلائق في علم الله كما أخذه طائرٌ بمنقاره (¬1). وما أحسن أدبَ البُوني حيث يقول: إن نسبة عِلمنا إلى علم الله كنسبة لا شيءَ إلى ما لا نهاية له. ومنها: الشَّرَهُ في العلم، ومع أهل كُلِّ فنٍّ منه طَرَفٌ، ومعظمه وأضرُّه مع عُلماء الكلام، وذلك أن مِنْ طبع البشر حب العلم، وحب الممنوع، ولذلك يختلفون في دقائق صفات الرب سبحانه وغير ذلك اختلاف من لا يعلم، ويحتجُّ كل منهم بما لا يفيد العلم، ويقدح كلٌُّ منهم بما يُبطِلُ قول خصمه، ويُطَوِّلون في ذلك حيث لا حاجة إليه كتطويلهم في الروح ونحوه. وقد نقل الرازي عن الفلاسفة الاعتراف بأن كلامهم في الإلهيات مُجرَّد ظنٍّ، لأنهم لم يروا الربَّ جلّ جلاله ولم يروا شبيهاً له، فيحكموا عليه بالقياس. وإذا نظرت في كلِّ الفنون وجدت في كل منها علوماً جَلِيَّاتٍ (¬2) صحاحاً، ودعاوى خفيَّات ضِعافاً. وأمارةُ ما ذكرته أن الجليات مواضعُ الإجماع، والخفيات مواضع الخلاف، وهذا موجودٌ حتى في كتب الحديث إذا لم يجدوا في الباب حديثاً في أرفع مراتب الصحة المُتَّفق عليها رووا فيه الموجود، وإنْ نَزَلَ عن شرطهم. ¬
وقد يُصَرِّحُ بعضهم بذلك حتى يتفاحش ضَعْفُ ما رَوَوْه، لكنهم أحسن الناس حالاً في ذلك لأنهم يُبينون (¬1) تلك الطريق الضعيفة، ولا يخفى ضعفها على صاحب البصيرة، ويفعلون ذلك للاحتياط في العمل الذي يُحتَاجُ إليه، لورود التكليف به، ولذلك كان السلف أقل الناس خوضاً في المشكلات لِكمالِ علمهم، لا لنقصانه كما ظنه بعض المتأخرين. وما أحسن قول العلامة ابن عبد السلام في كتابه " القواعد ": إن العالم هو من يَعْرِفُ البَيِّنَ والشُّبْهَة، وليس في مقدوره أن يجعل الشُبْهَة من البينات، والبينات من المتشابهات. ولا شكَّ أن تَطَلُّب علم ما لا يُعْلَمُ، والشَّرَهَ في ذلك وتحكيم بادىء الرأي فيه، وتقديمه على النصوص هو أساس كلِّ فسادٍ، ولذلك نسبه الله في القرآن إلى السُّفهاء، فقال تعالى: {سيقولُ السفهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُم عَنْ قِبلتِهمُ الَّتي كانُوا عَليْها} إلى قوله: {وإنْ كانتْ لكبيرةً إلاَّ على الذينَ هَدى الله} [البقرة: 142 - 143]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِين} [المائدة: 101 - 102] ونحوها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]. ¬
وفي " الصحيحين " من طرقٍ كثيرة عن أنس (¬1) وأبي موسى (¬2) أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوْهُ، فصَعِدَ المِنْبَرَ، فقال: " لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ بَيَّنْتُه لكم " فلما سمعوا ذلك أرمُّوا ورَهِبُوا أن يكون ذلك بين يدي أمرٍ قد حَضرَ. قال أنس: فجعلتُ أنظر، فإذا كلُّ رجلٍ لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي. وفي لفظ: فلما أكثروا عليه غَضِبَ، ثم قال: " سلوني عمَّا شِئْتُم ". فثبت أن السؤال عن كثيرٍ من الأمور من بواعث غضب الله ورسوله، وموجبات العقوبة أو التشديد، ومن ثَمَّ قال الله: {لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] فلو كان بيان الجميع محتاجاً إليه ما أخَّر البيان عن وقت الحاجة، فذلك لا يجوز إجماعاً، فثبت أن المبتدعة يتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعُهم، ويتطلَّبُون ذلك أجارنا الله منه. وعن ابن عباس مما خرجه الحاكم في " المستدرك " (¬3) في سبب نزول قوله ¬
تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] قال ابن عباس: قال ناسٌ من المُتَكَلِّفين: هي رِجْسٌ، وهي في بطن فلانٍ قُتِلَ يوم بدر، وفلان قُتِلَ يوم أحد. وخرَّج الحاكم (¬1) أيضاً عن ابن مسعود، أن الذين قالوا ذلك اليهود، وقال: صحيح الإسناد. وفي هذا بيان المذمومين بابتغاء تأويل المتشابه الذي نص الله على ذمهم بذلك (¬2) بعينه في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]. فجعل ابتغاء تأويل المتشابه على العقول كابتغاء الفتنة، وسَمَّى الذي يُنقِّرون عنه سُفهاء. وفيه بيان أن الراسخين في العلم هم أهل الجُملِ الذين علموا مقادير عقولهم كما وصفهم بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما تقدم في الصفات. ¬
ولذلك قرأ ابن عباس: {ويقولُ الرَّاسِخُون في العلمِ آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} رواه الحاكم وصححه (¬1). ورواه الزمخشري (¬2) عن أُبَيِّ بن كعبٍ سيد (¬3) القراء. وروى الزمخشري (¬4) عن ابن مسعود نحو ذلك بغير لفظه، ولم يُضعِّفهما، بل رواهُما معاً بصيغة الجزم قراءتين لا من جهة التأويل. وقد أوضحتُ الحجة في أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه في غير هذا الموضع، وكفي في ذلك حجة بأن موسى الكليم الوجيه المقرَّب عليه السلام ما علم تأويل المتشابه في علم الخضر، وكان سبب إنكاره لأفعال الخضر زيادة علم الخضر على علمه، فكيف بعلم الله وكلماته التي نصَّ على أن البِحار تَقِلُّ أن تكون مِداداً لها؟! ويوضح ذلك ما عُلِمَ بالضرورة من أن الكفَّ عن الخوض في هذا هو حال خيار المؤمنين كما تقدم في تفسير {آمن الرسولُ بما أُنزِلَ إليه من ربِّهِ والمُؤمنونَ} [البقرة: 285] وما ورد في سبب نزولها. بل هذا هو حالُ الأنبياء كما ذكرتُه في قصة موسى والخضر، وحال الملائكة كما حكى الله عنهم في سؤالهم عن الحكمة في خلق آدم وذريته. ¬
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اتركُوني ما تركتُكُم، فإنما أهلَكَ من كان قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " (¬1). وفيهما من حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا رأيتم الذين يَتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذرُوهم " (¬2). وقد بَسَطْتُ الأدلة على أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه في كتاب " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان " وجوَّدتُ القول بحمد الله، فليراجع من موضعه (¬3). ومنها: الإعراض عن تدبُّر كتاب الله، والرجوع إليه، والاكتفاء بمجرد الخيالات الكلية، والتعادي والتكاذب، وقد نقم الله ذلك على من كان قبلنا في كتابنا فلم تعتبر به (¬4) المبتدعة، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] فنبَّه بقوله: {وهُم يتْلُونَ الكتابَ} على ذمِّهم حيث لم يرجعوا إليه، وخوَّفهم حين تركوا ذلك بما وعد به من الحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وقد تقدم في الصفات كيفيةُ جدال الأنبياء، ورجوعهم (¬5) إلى ما أنزل إليهم من ربهم عز وجل، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وما اختلفَ الَّذين أُوتوا ¬
الكتابَ إلاَّ مِنْ بعدِ ما جاءَهُم العلمُ بغْياً بيْنَهُم} [آل عمران: 19] وأراد بالعلم ما بيَّنه (¬1) لهم في الكتاب، ولذلك وصفَه بالمجيء. ألا تراه قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} إلى قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19 - 20]. وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات} [آل عمران: 105] ولذلك خصَّ الله الذين أُوتوا الكتاب بالاختلاف بعد العلم بأنهم اختلفوا بغياً بينهم بخلاف من لم يعرف كتاباً، فإن اختلافهم قبل العلم، وقبل البَيِّنات، يوضحه قوله تعالى: {وما كُنَّا مُعَذِّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] وأمثال ذلك. الوجه الثالث: الحجة الجملية البرهانية، وذلك أنه لم يَرِدْ في كتاب الله، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إجماع أهل السنة أنَّ عذاب أهل النار هو مراد الله الأول، ولا أنه مرادٌ لنفسه، وإنما الذي ورد في هذه الأصول أن العذاب مراد لله (¬2) متوقِّفٌ على مشيئته، وأنه تعالى غير مغلوبٍ عليه، ولا على أسبابه، وأن له فيه الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وأنه تعالى يعلم ما لا يعلم، وأنه لا يُطلعُنا على الغيب، ومن اعترف بحكمة الله تعالى في الجملة، كيف يلزمه نفيها إذا أقرَّ بقُصور علمه عن معرفة تعيُّنِها كما أقرَّت بذلك الملائكة حيث قالت: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا}. بل قال الله تعالى في المتشابه: {وما يَعْلَمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ} فبطل وهم المعتزلة أن مذهب أهل السنة يؤدي إلى أن الله تعالى يريد الشر لنفسه، فلا مانع عندهم من أن العذاب مرادٌ لحكمةٍ بالغة خفيَّة هي تأويل المتشابه المحجوب عن الخلق، لا لكونه شرّاً، وتلك الحكمة هي المسماة بالمراد الأول ¬
عند أهل العقليات، والعذاب وسيلة إليها، فالعذاب مراد الله لأجل الحكمة، لا لكونه شراً محضاً، وهذه الأولية في الرتبة (¬1) دون الزمان على قول من يعتقد بِقِدَمِ الإرادة الإلهية. وأما من يُجيز حدوثها فإنه يجيز أن تكون الأولية هنا في الزمان، ومعنى الأولية في الرتبة دون الزمان (¬2) مثل سبق الذات للصفات في الرتبة مع عدم حدوث الجميع، ومثل سبق حركة الأصبع لحركة الخاتم في الحوادث. ولقد رَجَعَتِ المعتزلة إلى مثل هذا الإيمان الجملي بحكمة الله تعالى بعد الخبط في التأويل، وإنكار الآثار، ومخالفة السلف كما تقدم بيانه بياناً شافياً. وتلخيص الجواب في هذا الوجه: أن الله خلق الكفار لحكمٍ كثيرة شاهدة له سبحانه بالنزاهة من الظلم والعَبَثِ، بل شاهدة له سبحانه بالحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحجة الدامغة، فمن قال: إن الله خلق (¬3) الكُفَّار للعذاب دون غيره أو كانت عبارتُه تُوهِمُ ذلك، فما أصاب الحق، ومن أراد إصابة الحق على التفصيل تتبَّع متفرقات الحكم والنصوص وجمعها، والذي حضرني منها سبعة أمور خلق الله الكفار لها، منها: لفظية منصوصة، ومنها: معنوية معقولة، وإن رجَعَ المجموع إلى أقل من ذلك، فتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وواضحات (¬4) أدلة العقول التي لم تعارضها النصوص السمعية. فأقول وبالله التوفيق: إن الله سبحانه خلق الكفار لعبادته بالنظر إلى أمره ومحبته كما أوضحتُه في الكتاب في تفسير قوله: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56]، والابتلاء بالنظر إلى عدله وحجته كما أوضحتُه ¬
أيضاً في (¬1) تفسير قوله تعالى: {ليبلُوَكُمْ أيُّكُم أحْسَنُ عملاً} [تبارك: 2]، ولما يوجب عليهم شكره على سابق (¬2) مواهبه بالنظر إلى تكليفهم بشكر نعمته، وللعذاب على كفر نعمته، وجحد حُجته بالنظر إلى علمه، وجبره، وقدره (¬3)، وكتابته، وللحكمة المرجِّحة فيهم لعقابه التي هي تأويل المتشابه بالنظر إلى حكمته ومشيئته وإرادته، ولما شاء مطلقاً بالنظر إلى ملكه وقدرته، ولما لا يحيط بجميعه إلاَّ هو سبحانه بالنظر إلى سعة علمه ورحمته. فصل: وقد قيل على هذا الجواب الجملي: إنه يمكن أنَّ الله تعالى علم أن في تعذيب أهل النار مصالح، وغاياتٍ حميدةً إمكاناً لا يقطع به، ولا يقبح العذاب دونه كما سيأتي ذكره، وكما وَقَعَ في تأويل الخضر للشرور التي أنكر موسى عليه السلام ظاهرها الذي هو شرٌّ، ولم يعلم تأويلها الذي هو خيرٌ، حتى لو وقع أهلُ النار في تلك الآلام التي فيها بغير ذنوبٍ ألبتة، لكان ذلك حَسَناً، كما أجمع المسلمون على تحسين ذلك في آلام الأطفال والبهائم، ومَنْ يُبتلى من الأنبياء والأولياء من غير عقوبة. كما صح مثله في البرزخ كضَمَّة اللحد الذي لا ينجو منها أحدٌ، فقد ضُمَّ سعد بن مُعاذ الذي صحَّ وتواتر أن العرش اهتزَّ لموته (¬4)، وصح أن الله أهبطَ ¬
لموته سبعين ألفاً من الملائكة (¬1)، وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو نجا أحدٌ من ضَمَّةِ القبر لنجا منها هذا العبدُ الصالح " (¬2). وسيأتي في مسألة الأطفال، وعذاب الميت ببكاء أهله عليه (¬3) ما ورد في الحديث من ذلك، وذكر إجماع أهل السنة أنه يجوز وقوع الامتحان في البرزخ كما يقع في الدنيا. وقد جاء في الحديث: " أن رجلاً عبدَ الله في جزيرةٍ في البحر خمس مئة سنة، فإذا كان يومُ القيامة، قال الله تعالى: أدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقولُ العبد: بل بِعَمَلي، فيقول الله: حاسِبُوا بيني وبينَ عبدي فلا تَفِي عبادتُه بنعمة البَصَرِ، ويبقى (¬4) عليه شكرُ بقيةِ نعمه، فيقول الله تعالى: اذهَبُوا بعبدي إلى النار حتى يقول العبد: يا ربِّ أدْخِلْني الجنة برحمتك، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فنعم العبدُ كان ". أو كما ورد. ¬
وهذا مختصر من قصته وحديثه، وهو أطول من هذا، خرجه الحاكم في " المستدرك " (¬1) وصححه. وهو يشهد لجواز ما ذكرته، إذ لم يذكر في الأمر بتعذيبه أنه على ذنبٍ غير التقصير في الشكر إلاَّ أن يكون ذنبه هو قوله: " بعملي يا رب "، وإلا فقد صحَّ أن كل أحد يَرِدُ القيامة وله ذنبٌ إن شاء الله عذَّبه عليه كما تقدم من غير وجه، وما شَهِدَ له من القرآن، والله سبحانه أعلم. وبالجملة فالمسلمون مجمعون (¬2) على حسن ذلك من الرب بغير ذنب لحكمةٍ وإن خفيَتْ في كل ألمٍ منقطع في دار الإمتحان، بل العقلاء من المسلمين وغيرهم مُجمعون على حُسن تحمُّل كثير من الشرور لدفع أعظم منها، بل لجلب منافع في فواتها شرورٌ أعظم مما تحمَّلُوه، وما أعلم أن أحداً من العقلاء قبَّح النكاح عقلاً لما يؤول إليه من ألم الولادة وسوابقها وتوابعها لا في حق النساء لِعِظَم مضرَّتهن بذلك، ولا في حق الرجال لكونهم الوسيلة إليه، فيمكن في آلام أهل النار وعذابهم مثل ذلك. ولكن الله عزَّ وجلَّ علم أن وقوع تلك الآلام على جهة العقوبة المستحقة بالمعاصي الاختيارية أكثر صلاحاً، فقدَّر مقادير تقع (¬3) معها تلك الاختيارات على وجهٍ يستحقُّ معه العقاب، وتقومُ معه الحجة، وينقطع معه عذر العبد ¬
العاصي، فلذلك سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنزال الكتاب، وإرسال الرسل عُذْراً إلى الخلق، حيث قال في الحديث الصحيح: " لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل ". رواه مسلم من حديث ابن مسعود وأصله في " الصحيحين " معاً (¬1). ولهما من حديث المُغيرة نحوه، ولفظه: " من أجل ذلك بعث الله المنذرين والمبشرين " (1). وقال الله تعالى في مثل ذلك: {فالمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أو نُذْراً} [المرسلات: 5 - 6]، وقال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76]. وحكى الله عن صالحي بني إسرائيل أنَّهم سَمَّوْا نهيهم لمن لا ينتهي معذرةً إلى ربِّهم، ألا تراهم ما سموها معذرةً إلاَّ حيث كانت غير نافعةٍ لهم، وذلك في نحو قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون} [يس: 10] وإنما أُنْذِرُوا عذراً إليهم وحجة عليهم، ولذلك قال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} [يس: 11] أي: الإنذار النافع المراد به النفع (¬2) لمن بلغه. ومثل ذلك في المعنى وإن لم يَرِدْ بلفظ العذر قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} [البقرة: 150] وذلك أن اليهود كانوا فرحوا بكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل بيت المقدس في أول الأمر (¬3)، وهو قبلتهم ¬
واحتجُّوا عليه بذلك، ومَوَّهوا به على جهلة المشركين، فجعل الله تعالى في نسخ ذلك باستقبال الكعبة قطع حجتهم مع ما كان فيه من امتحان الناس، وظهور نفاق المنافقين، فسمَّى ذلك حجة لكون اليهود احتجوا به، وليس بحجةٍ على الحقيقة. فكذلك ما قطع الله يوم القيامة من حُجَج المُبطلين إنما هي أعذار منهم كما قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14 - 15]، وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57]. وفي حديث الحسن عن أبي هريرة وأبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يُعرضُ الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمَّا عرْضتان فجِدالٌ ومعاذيرُ " (¬1) رواه ¬
الترمذي (¬1). وقال أحمد في " المسند " حدثنا ابن نُميرٍ، قال حدثنا عبيد الله، عن عبد الله بن عبد الله (¬2) بن معمر الأنصاري، عن نَهارٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحدَكم ليُسْألُ يوم القيامة حتى يكون فيما يُسألُ عنه أن يقال: ما مَنَعَكَ أن تُنْكِرَ المُنْكَرَ إذْ رأيتَه قال: فمن كفاه الله عزَّ وجلَّ حُجَّته، قال: ربِّ رَجَوْتُك وخِفْتُ الناس " (¬3). ورواه العلامة القرطبي في " تذكرته "، وهو الحديث الثالث عشر من مسند أبي سعيد الخدري من " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وفي " طبقات الذهبي " (¬4): نهار العبدي، عن أبي سعيد الخدري: ثقة، وفي " الميزان " (¬5): تابعي مدني صدوق، ولم أجد عبد الله بن عبد الله بن معمر الأنصاري (¬6) في " الميزان " ولا في رجال الكتب الستة، وخلوُّ الميزان منه أمارةُ صلاحه. ¬
كلام في أن لله تعالى في عذاب المستحقين حجتين
وروى الطبراني من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي في " أوسط معاجمه " (¬1) عن الحسن أيضاً قال: خطبنا أبو هريرة على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لَيَعْذِرَنَّ الله تعالى يوم القيامة إلى آدم ثلاث معاذير، يقول الله تعالى: يا آدم لولا أني لعنت الكاذبين، وأبغضت الكذب والخُلْف، وأوعدتُ عليه لرحِمْتُ اليوم ولدَكَ أجمعين من شِدَّة ما أعددت (¬2) لهم من العذاب، ولكن حق القول مني لِئِنْ كُذِّبَتْ رُسُلي، وعُصِيَ أمري لأملانَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ويقول الله عز وجل: يا آدم، لا أُدخِلُ النار أحداً، ولا أعَذِّب منهم أحداً إلاَّ من (¬3) علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا، لعاد إلى أشرِّ ما كان فيه، لم يرجع ولم يَعْتَبْ، ويقول الله تعالى عز وجل: يا آدم قد جعلتك حكماً بيني وبين ذُريتك، قُم عند الميزان فانظر ما يُرفعُ إليك من أعمالهم، فمن رَجَحَ منهم خيره شره مثقال ذرَّةٍ، فله الجنة حتى تعلم أني لا أُدخلُ النار منهم إلاَّ ظالماً ". ويأتي حديث أنس وأبي هريرة في هذا المعنى، وكلاهما في الصحيح، فقد أعدَّ الله تعالى بعد علمه الحق بحكمته الراجحة في العذاب لهذه المعاذير الباطلة ما يُقابِلُها من أعذار الحق والحُجج الصحيحة، وذلك لحكمته البالغة، وكمال عَدْله في الباطن والظاهر، فالباطق بعلمه الحق، والظاهر بقدره الحق. فقد ذَكَرَ أهل اللغة أن المُعتَذِرَ يكون مُحقاً وغير مُحقٍّ، ممن ذكره ابن الأثير في " نهايته " (¬4) فعلى هذا كل عذر من الله فهو حق، وكل عذر من الخلق، فقد يكون حَقّاً، وقد يكون باطلاً، فتلخَّص أن يكون لله تعالى في عذاب المستحقين حجتان، ويحتمل أن كُلَّ واحدةٍ (¬5) منهما محسنة للعذاب، ولكن الجمع بينهما أقوى في التحسين وأولى. ¬
إحداهما: ما يناسب عقول البشر وعاداتهم من أعذار الحقِّ التي يعتقدون براءة المُعتذر بها من الملامة، وصحتها واضحة على أصول الجميع. أما أهل السنة، فلورود السمع بذلك. وأما المعتزلة فلوجوب إزاحة الأعذار عقلاً (¬1) عندُهم مع ورود السمع بذلك، ولا شكَّ أن ما لا يتمُّ الأمر (¬2) والمقصود إلاَّ به يكون له حكمُه في اللزوم، وهذه الحجة المجمع عليها لا تتمُّ إلاَّ بتقدير اختيار العباد لأعمالهم، وتقدير أسباب الاختيارات فلذلك كان القول بسبق القدر مقتضى العقل والسمع عند التحقيق، وهذه الحجةُ وقاعدتها هي ما قدره الله تعالى من اختيار العباد لأعمالهم التي مكنهم منها بإقداره لهم عليها غير مجبورين مع كثرة الأعذار، وتطاوُل الإمهال، والزيادة في البيان. وفي الحديث: " لقد أعذَرَ الله إلى من بلغ به في العمر ستين سنة " ذكره ابن الأثير في " نهايته " (¬3)، وقد أخرجه البخاري في " الصحيح " من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أعذَرَ الله إلى رجلٍ أخَّرَ أجله حتى بلغ ستين سنة " (¬4). وقال ابن الأثير: لم يُبْقِ له موضعاً للإعذار (¬5). وهذه (¬6) أعذارُ حَق وإن جاز أن يكون للهِ حكمةٌ باطنة أحقُّ منها. ¬
مثال ذلك ما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث فضيل، عن الشعبي، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال: " هل تدرون مما أضحك "؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا ربِّ ألم تُجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقولُ: إني لا أُجيزُ اليوم على نفسي شاهداً إلاَّ مني، فيقول: كفي بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالملائكة الكرام عليك شهوداً، فيُختم على فيه، ويُقالُ لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لَكنَّ وسُحقاً فعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ " (¬1). فهذا عذرٌ حَقُّ من الله عزَّ وجلَّ يقابل العذر الباطل من العبد، وإلا فعلم العبد الضروري بأنه كاذبٌ أقوى حجة في باطن الأمر، وعلم الرب عز وجل أقوى من علم العبد الضروري. وهذا الحديث وإن كان حديثاً واحداً، فالقرآن يشهد له حيث قال حاكياً عنهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21] مع أن الحديث الظني في هذا المقام من أرفع ما يحتج به، لأن القصد في هذا المقام بيان مجرد احتمال الحكمة، وقطع قول من أحالها فيه، أو عيَّنها في وجهٍ باطل. وقد وَرَدَ من الحديث الصحيح نحو هذا، وصُرِّح فيه بلفظ العذر عن أبي هريرة في بعض رواياته في حديث الرؤية، قال: " فيلقى العبد فيقول: أيْ فُلْ: ألم أُكرمك وأسوِّدْك؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننتَ أنك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني ... إلى قوله في المنافق: "فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرُسُلِك، وصُمْتُ، وتَصَدَّقتُ، ويُثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذاً، قال: فيقال: الآن نبعثُ شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه ¬
وعظامُه، وذلك ليُعْذِرَ من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه" لفظ مسلم عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة (¬1). وثانيهما: ما يختص الرب سبحانه بعلمه في ثلاثة أشياء: أولها: داعي الحكمة الأول الداعي إلى تقدير خلق الأشقياء وإقامة الحجة عليهم، وقطع أعذارهم. وثانيها: الداعي إلى تكليف السعداء، والمن عليهم بالهداية والمغفرة، وبيان المِنَّة لهم باختصاصهم بذلك، وتقرير السنة عليهم بالعفو بعد الحساب على الصغيرة والكبير، وترجيح ذلك على الإحسان إليهم بذلك ابتداءً، وتعريفهم بالمنة من غير هذه الوسائط. وسيأتي في مرتبة الدواعي الإشارة إلى ما تفهمه العقول، وما أشارت إليه الآيات والأخبار في هذين الأمرين، ويأتي طرفٌ منه في ذكر الحكمة في تقدير الشرور في مرتبة (¬2) الأقدار. وثالثها: تأويل ما اشتبه على العقول من تفاصيل الحكمة في ترجيح العقوبة على العفو في بعض الذنوب، والأشخاص، والأزمان دون بعض، ومن تأويل الاستثناء من دوام العذاب، فربما كان إعلامهم بذلك مفسدةً لهم أو لبعضهم، أو لم يكونوا يحتملونه أو بعضهم. ¬
وقد قال تعالى في تكثير القليل: {تَرَوْنَهُم (¬1) مِثْلَيْهم رأيَ العينِ} [آل عمران: 13] الخطاب فيهما لليهود. رواه أبو داود عن ابن عباس (¬2). وقال تعالى في تقليل الكثير: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] فترك الله تعالى إراءَتَهم كثرة عدوِّهم (¬3) وكتَمَ ذلك عنهم (3)، وهو حقٌّ لما عَلِمَ فيه من المفسدة، وشبَّههم لهم قلةً، كما شبَّه لقتلة عيسى في زعمهم شِبْه عيسى حتى قتلوه، وكل ذلك في اليقظة كما نصَّ عليه القرآن، وسيأتي وجهه وبيانه في القدر، وبين قوله (¬4): {يتعلمون ما يضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهم} [البقرة: 102]، أن من العلوم ما ¬
يضر البشر ولا ينفعهم. ويوضح ذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134] ولم يقل: لظلمناهم. ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] فقد تقدمت إرادته هلاكهم المستحق بعلمِه الحق قبل بعث الرسل المعبَّر عنه بقوله: {أمَرْنا مُتْرَفيها}، وتقدَّمت فسقهم الواقع بعد الأمر المُوَجَّه عذابهم إليه دون الموجب للإرادة السابق لها في الحكم، سواء سبق في الزمان، كقول المعتزلة، أو لم يسبق فيه، كقول الأشعرية، فلا شكَّ في أنه سابق في الرتبة والحكم، كسبق حركة الأصبع لحركة الخاتم. وأما ما تقدم الأمر من كفرهم، فالعقوبة غير مُوجَهَّة إليه لقوله تعالى في أول هذه الآية: {وما كُنَّا مُعَذِّبين حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: 15] فلو كان سبب الإرادة سابقاً لها على زعمِ المعتزلة، لكانت العقوبة قد وَقَعَتْ عليه قبل بعثة الرسل. وقد ثبت أنهم غير معاقبين في تلك الحال لكمال فضل الله وعدله في الظاهر والباطن، ويشهدُ لذلك حديث أنس المُخرَّج في " صحيح مسلم " وفيه: " ألمْ تُجِرُني يا ربِّ من الظُّلْم " كما تقدم قريباً، فسمَّاه ظُلماً وأقر على ذلك، وأُقيمت عليه الحجة بشهادة أركانه عليه، وهذا شاهدٌ حسنٌ لهذا الوجه، ولله الحمد. وأما قوله تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209]، فليس فيه أن الظلم بترك الذكرى بالنصوصية (¬1)، ونظيرُها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُم ¬
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [الروم: 9]، ولو سُلِّم، فالظلم غير متعيَّن في هذا المعنى الاصطلاحي، قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]. وفي " ضياء الحلوم " (¬1) أن أصله وضع الشيء في غير موضعه، يقال: أخذوا في الطريق، فما ظلموه يميناً ولا شمالاً، أي: لم يعدلوا عنه. ويقال: من أشبه أباهُ فما ظلم. ويقال: ظَلَمَ الوادي إذا بلغ سيلُه موضعاً لم يكن بلغه من قبلُ. وظلم القوم إذا سقاهم اللبن قبل أن يروبَ. وظلم الرجل سقاءه إذا سقى منه قبل أن يروبَ. وقال: وصاحب صدقٍ لم تَنْلني شكاتُه ... ظلمتُ ولي في ظلْمِه عامداً أجرُ (¬2) يريد سقاء سَقَى أصحابه منه قبل أن يَرُوب. والأرض المظلومة التي لم تكُنْ حُفرتْ قطُّ فحُفرتْ. وظلم البعير إذا نَحَرَه من غير داءٍ. قال: أبو الظلامة ظلاَّمون للجُزُرِ (¬3) ¬
انتهى بحروفه من " الضياء " وهو من كتب الخصوم في علم اللغة، وهذا معنى مشهور. وقد ذكر ابن الأثير في " النهاية " (¬1) ما ورد فيه من الحديث والآثار. وليس الظلم بهذا المعنى من صفات النقص القبيحة عقلاً وشرعاً كالكذب، فيجوز أن تعذيب (¬2) من لا ذنبَ له لحكمةٍ خَفِيَتْ عليه مما يُسميه الجاهل بالحكمة ظُلماً، وتنزَّه الرب عزَّ وجلَّ عن ذلك، وإن لم يكن قبيحاً عقلاً كما يتزَّه من خلف الوعيد من غير تأويل لِشَبهِه بخُلف الوعد مع أنه في الوعيد يُسمَّى حسناً عقلاً، وانعقد الإجماع على استحبابه شرعاً فيمن حلف على (¬3) يمين، فرأي غيرها خيراً منها، وقد قرَّرت ذلك في غير هذا الموضع. ولو سلم، فمفهوم (¬4) ممكن حمله على عوائدهم وتسميتهم ذلك ظلماً في أفعال أمثالهم ممن لم يتميَّز بعلم غيبٍ ولا زيادة حكمة، ألا تراه عزّ وجلّ لا يُسَمَّى ظالماً بإيلام من لا ذنب له من الصغار والبهائم، وله المثل الأعلى. ويوضحه قوله: {وما كُنَّا مُهلِكي القُرى إلاَّ وأهْلُها ظالمون} [القصص: 59] وهذا في هلاكها في الدنيا والذي (¬5) يحسن من الله تعالى بغير ذنب بالإجماع. فدلَّ على أن الله عز وجل يحبُّ زيادة الحجة والعذر في الأمر الحسن ليزيده حُسْناً في عُرف الخلق، ويقطع به أعذار الجاهلين. وأوضح منها في هذا المعنى وأصرح قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْض ¬
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [العنكبوت: 40]. ألا ترى أن الصيحة تحسن من الله بغير ذنب عند الخصوم كالنفخ في الصور المُفزع، بل المهلك لأهل السماوات والأرض إلاَّ من شاء لله. وكذلك الغَرَقُ في الماء قد (¬1) يقع فيه من لا ذنب له من الطير والبهائم، ومن هو مرضيٌّ عنه من عباد الله، ويمكن أنما سمَّاه ظلماً كما سمَّى استقبال بيت المقدس حجة في قوله تعالى: {لِئَلاَّ يكُونَ للنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]. كما مر تقريره والله أعلم. ومثلها: {لئلاَّ يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل} [النساء: 165] يمكن أن المراد معاذير يجادلون بها جمعاً بين الأدلة والله أعلم. ويوضح ما ذكرناه ما سيأتي في مسألة الأطفال من أنهم يُكَلَّفون يوم القيامة ويمتحنون بما يقطع به عذرهم (¬2) كما فعل الله مع البالغين في الدنيا. وقد رد الله تعالى على المشركين قولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون} [السجدة: 12]، بحجتيه (¬3) معاً وبدأ بالحجة السابقة المشتملة على الحكمة الباطنة وهي قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [السجدة: 13] ثم أردفها بالحجة الثانية (¬4) الظاهرة المناسبة لعقولهم، فقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [السجدة: 14]. وإنما بدأ بالحجة السابقة والحكمة الباطنة لما في عباراتهم من الإشعار باعتراض الحجة الظاهرة حيث ظنوا أن المراد بخلقهم هدايتهم إلى العمل ¬
الصالح، وهذا غرضٌ مستدرك، فأخبرهم عزَّ وجلَّ بما معناه أنه لم يَعْجَزْ عن هذا في الابتداء حتى يستدركه في الانتهاء، ولكنه حق منه القول في الابتداء بدخولهم النار لحكمةٍ راجحةٍ، ثم ضمَّ إليها الحجة بالعمل زيادة في العذر والعدل، كما كتب الأعمال، وأشهد الملائكة، ونصب الموازين، وعلمه الحق ثم علمهم مغنٍّ عن جميع ذلك. وقد كرر الله حجته الباطنة، وأكدها في الابتداء كثيراً، وفي الانتهاء بنحو {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، وكذلك ما تقدم من الآيات التي في سورة الإسراء إذا تأمَّلتها من أولها وجدتها جامعةً للحجتين، حيث قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أي: ما عَمِلَ من خيرٍ أو شرٍّ، وقيل: حظه المقضي له من خير أو شر، وهذا هو القدر، وهو الحجة الأولى السابقة، ووجه الاحتجاج به أنه فعل حُكمه (¬1)، ثم أتبعه بالحجة الظاهرة، فقال: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} إلى قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 - 15] ثم بين الحكمة في الرسل في حق من علم هلاكه، فعقَّب ذلك بقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. ثم بيَّن بعد هذا (¬2) أن علمه بذنوب عباده أبلغ كافٍ لكنه زاد ذلك لقطع العُذر وزيادة الحجة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17]. والجمع بين الحجتين كثيرٌ في كتاب الله تعالى لمن تأمله فلله الحمد والمشيئة والحكمة والحجة. وقد كنت أظن أنه لم يسبقني أحدٌ إلى ذكر (¬3) هاتين الحجتين، لأني لم أزلْ ¬
أطلب ذلك في مقدار أربعين سنة، فما وقفتُ عليه مع طولِ الطلبِ حتى جاوزت الستين سنة، وراجعتُ شابّاً لم تَنْبُتْ لحيتُه من أهل حضرمَوْت في مسألة الأفعال، وجعلت أفهمه مذهب الأشعرية، والفرق بينه وبين مذهب الجبرية خوفاً عليه من اعتقاد الجبرية، وأنا أظنُّ فيه بُعد الفَهم، فجاءني بهذه اللطيفة، وقال: إنهم يذكرون أن لله تعالى حُجتين: حجة باطنة، وحجة ظاهرة، فالباطنة في الأقدار، والظاهرة في الأعمال. فعجبت من ذلك كثيراً وعَلِمتُ (¬1) أن الفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء. ومما يوضح ذلك ما ثبت من تقديره تعالى لمقادير وقع معها (¬2) خروج آدم من الجنة على جهة العقوبة بذنبه (¬3) الذي اختاره، ولا عُذْر له فيه، وإنما خرج لما (¬4) لله تعالى في خروجه بذنبه من الحِكمة، وإلا فذنوب الأنبياء صغائر مغفورة، وقد تاب آدم، وتاب الله عليه مع كون ذنبه صغيراً قبل التوبة مع أن الله تعالى قد كان قدَّر أن آدم خليفة في الأرض، وخلقه لذلك، كما أخبر به الملائكة في نص القرآن. يوضحه أن الذنوب لا تصلُحُ على انفرادها في العقل [أن تكون] موجبة للعذاب في حق الرب سبحانه، وإن كان يصلح لذلك في حق غيره، كما هو مذهب البغدادية من المعتزلة، لأن حسن العذاب عليها من قبيل (¬5) الإباحة المستوية الطرفين، بل المرجوحة إذا خَلَتْ عن الحكمة، لأن العفو أفضل بضرورتي المعقول والمنقول، فلولا أن فيه حكمةً بالغة سابقة لتقدير الذنوب ما فعله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمجرد كونه مستحقاً مُباحاً مع تطابق شرائعه وأوامره على ترجيح العفو والصبر، وكظم الغيظ، وتلك الحكمة هي التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله. ¬
وأما غضبُه تعالى على الكافرين وعداوته لهم، فذلك أبعد من قواعد المعتزلة، ولا بُدَّ من تأويله عندهم، وفي الإجادة في ذلك ما ليس في غيرها، ومما في ذلك (¬1). وجمهورهُم قد أوَّلُوه لأنه ... أذىً مُؤلِمٌ والربُّ ليس بآلمِ ولستُ أرى التأويل فيه بقائمٍ ... ولا ألمَ المعبود فيه بلازمِ ولكن له منه الكمالُ بلا أذى ... وليس لأوصافِ الوَرَى بملائِمِ كذا كُلُّ الأسماء نصُّها وخفيُّها ... كمُحكمِها حتى قديرٍ وعالمِ وهذا الجواب الحقُّ عن كلِّ محكمٍ ... ومشتبهٍ في الله ربِّ العوالمِ فمن قال فيه: مستوٍ كاستوائنا ... كمَنْ قال فيه: عالمٌ مثل عالمِ كذلك أفعالُ الإله نُصِحُّها ... بلا حركاتٍ في الجهات لوازمِ لذلك نزَّهناه في الذات ثم في ... الصفات (¬2) وفي الأفعال ربِّ العوالمِ ولم نجعل الفَعَّال في حقِّ ربنا ... مجازاً كذا في سُخْطِهِ والمراحمِ ومحتملٌ تقديرُ موجب سُخْطِه ... ليحلمَ حُبّاً لاجتلاب المكارم وتعجيزه عن أن يُقَدر موجباً ... لذلك للتعظيم غيرُ ملائمٍ ومن ثمرات السُّخط خوفُ جَلالِه ... ونَعْتُ الجلال من أجل اللوازمِ فسبحان من حاز الكمال ولم يُحِطْ ... به حائزٌ في نعتِه المتقادمِ وذكر ابن قيم الجوزية أن للناس في غضب الله قولين: أحدهما: أنه فعلٌ له قائم به كسائر أفعاله. وثانيهما: أنه مفعولٌ منفصل عنه، وفي هذا إشارةٌ إلى الإجماع على تأويله، وأنه ليس بصفةٍ له كالرحمة، والذي يدلُّ على ذلك أن ما كان صفة له كان ذاتياً دائما سابقاً قديماً، ولا قائل بقدم غضبه. والله سبحانه أعلم. ¬
ولما ضعف ذلك المعنى في حق المؤمنين لاعترافهم بفضل الله وعدله وحكمتِه، صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حقِّ جزاء أعمالهم، وأخبرهم أنهم لا يدخلون الجنة إلاَّ برحمة الله، وهي الحكمة السابقة، وقطع بنفي تأثير أعمالهم في ذلك في حقيقة الأمر، كما اتفق أهل علم الحديث على صحته، وشهد له من القرآن آياتٌ كثيرة، كما يأتي في آخر هذه المباحث في الوهم الثلاثين. وبالغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى حتى صرح أنه عليه الصلاة والسلام لا يدخل الجنة بعمله إلاَّ أن يتغمَّدَه الله برحمته (¬1). ومن ثم (¬2) جاءت أحاديث (¬3) كثيرة مصرحة بأن كل أحد يأتي يوم القيامة وله ذَنْبٌ، إن شاء الله عذبه، وإن شاء عَفي عنه. سيأتي ذكرها وطرقها قريباً. ويشهد له ما في حديث الشفاعة في " الصحيحين " من غير وجهٍ أن كل نبي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذر بذنبه، ويخاف على نفسه، ويقول: نفسي نفسي إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا ثبت من الغُفران المطلق له فيما تقدَّم وتأخر (¬4). ويشهد لذلك حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من حُوسِبَ عُذِّبَ " أخرجاه (¬5). ¬
وكذلك ظاهر قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون} [النحل: 61]. وكذا قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَه} [عبس: 23]. وكذلك حكايته لذنوب أشرف الأنبياء في القرآن، وإن خصَّتهم (¬1) فإنها تدل على موم البلوى بالذنوب عقلاً. وفي هذا المقام سؤالٌ دقيقٌ مفيد، وسيأتي إن شاء الله تعالى مبسوطاً في مرتبة الدواعي في مسألة الأطفال، وهذه هي سر العمل مع القدر (¬2) كما ستأتي الإشارة إليه في فائدة مستقلة في القدر. وقد جوَّد الغزالي الكلام في هذا المعنى، وقطع على أن الله تعالى لا يريد أن يريد الشر لنفسه، أي لكونه شراً فحسب، وعلى أنه لا يجوز أن يكون الشر هو مراد الله الأول، لأنه يستلزم أن يريد الشر لنفسه، واحتج بالحديث المتفق على صحته في سبق رحمة الله عز وجل لغضبه، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما (¬3)، وبما ثبت في القرآن الكريم من كون الرب سبحانه أرحم ¬
الراحمين، ذكر معنى ذلك في شرح (الرحمن الرحيم) من كتاب " المقصد الأسْنى في شرح الأسماء الحسنى " (¬1) وذكر بعد ذلك أن تحته سراً لم يأذن الشرع بإفشائه. قلت: وفي كلامه هذا البحث نظر لم أذكره لعدم الحاجة إلى ذكره (¬2). الوجه الرابع: وهو النافلة التفصيلية الخلافية بعد أنواع الأجوبة الثلاثة المعروفة عند أهل هذا الشأن، وذلك أن كثيراً من علماء الإسلام قد خاضوا هذه الغمرة، وذكروا في تفصيل الحكمة في العذاب ما هو داخلٌ في الإمكان على قدر عقول البشر وقُواهم، وتقريب ذلك لبيان (¬3) بطلان ظن من حسب أن وجود الحكمة في عذاب الآخرة في العقول من قبيل المحالات لا من قبيل المحارات (¬4). وسيأتي ذكر ذلك مجملاً مختصراً، ومفصلاً ومطولاً في مجلد مفرد موضعه من هذا الكتاب في الفائدة الخامسة في آخر المرتبة الرابعة التي في ذكر القضاء والقدر، وبيانه ما ورد في السمع من حكمة الله تعالى في تقدير الشرور، ولا ينبغي إيراد القليل (¬5) من ذلك هنا لأجل الحاجة إليه، إنه لا يكفي، ولا يفي بالمقصود، ولا يشفي، فتأخيره إلى موضع البسط أولى، والله الموفق. فتلخَّص أن المعتزلة فرُّوا في نفوذ (¬6) مشيئة الله تعالى مما ظاهره القُبح العقلي، وليس كذلك، وباطنه الحق الذي تأويله حسنٌ عقلاً على سبيل الإجمال على الصحيح، وشرعاً على سبيل التفصيل عند الله عزَّ وجلَّ فوقعُوا فيما ظاهره وباطنُه القبح عَقْلاً وشرعاً وهو أمران: أحدهما: تعجيز الربِّ عن هداية عاصٍ واحد من جميع خلقه، والعجز صفة ¬
نقصٍ لذاته، ولا يُمكنُ أن يحسُنَ العجز لوجه حكمةٍ خفي، وهذه رتبة يرتفع عنها أكثر الوُعَّاظ من العباد العجزة، كيف القادر على كل شيء الذي إذا أراد إيجاد أعظم المخلوقات، فإنما يقول له: كن فيكون، فكيف يعجز عن تقليب قلوب عباده؟! وقد صح أنه يقلِّبُها كيف شاء، حتى استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تقليب قلبه الكريم، وكان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " (¬1). فيا عجباه كيف أمكن تقليب خير القلوب إلى الشر الذي هو ضِدُّ الفطرة التي فُطِرَ الناس عليها، ولا يمكن تقليبها إلى الفطرة، وأيُّ عقل أو سمع دل على هذا دلالة قاطعة، أو أشار إليها إشارةً خفية، فالله المستعان. وما أشبه اعتذار المعتزلة للرب بتعجيزه تعالى عن ذلك باعتذار القدرية للرب بتجهيله عز وجل عما يقولون عُلُوَّاً كبيراً، وكان يلزم المعتزلة مثل مقال القدرية، نعوذ بالله من الخذلان. وثانيهما: إيجاب إرادة حصول ما علم الله أنه لا يحصُلُ علماً قاطعاً، ومن جَوَّز هذا على الرب الحكيم لزمه أن يجوز عليه الأماني التي أجمع المسلمون على أنها لا تجوز على الله تعالى لأنها عبارةٌ عن إرادة ما يعلم أنه لا يكون. وقد أجمع العقلاء على ذمِّ التشاغُلِ بها، وسمَّوها بضائع الحمقى. وقال الحكيم: مَنْ كان مَرْعَى عَزْمِه وهُمُومِه ... رَوْضَ الأماني لم يَزَلْ مَهْزُولا (¬2) بل هذا أقبحُ من الأماني، لأن المتمني قد عصمه عقله من الطمع في حصول مُناه، فكيف إذا تضرَّر بسببه سواه؟! وحصل بسببه نقيض رجواه؟! وكان ذلك كله معلوماً له سبحانه وتعالى فأصبحوا كما قيل: ¬
كالمستجير من الرَّمضاء بالنار (¬1). لا بل كالمستبدل الظلماتِ بالنور، والمشتري الضلالةَ بالهُدى. وتلَخص أيضاً أنهم حافظوا على تعيين وجه الحكمة في المتشابه، ولم يرد الشرعُ بالأمر بذلك، بل لم يأذن فيه، بل ذم متبعيه كما يأتي في آخر الأقدار. وأهل السنة حافظوا على أمرٍ ورد الشرع بتعظيم المحافظة (¬2) عليه، وهو ¬
الإيمان بعموم قدرة الرب عز وجل، ولا أعظم في الدلالة على ذلك من قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4]. كل هذه الآيات استدلالٌ على عظيم قدرته وعمومها ليدخُلَ في ذلك ما شك فيه المشركون من قدرته على الإعادة، كما احتجَّ بهذه الأشياء في آخر سورة يس على ذلك، فأمَّا حكمة الله في الجملة، فلم تَخْتَص المعتزلة بالمحافظة عليها. فصل: ولما تواترت هذه النصوص الشرعية كما مر، وكما يأتي في مسألة الأقدار، افترق أهل الملة ثلاث فِرَقٍ. الفرقة الأولى: الذين أقروا بالآيات والأخبار على ما وردت، ولم يتأوَّلُوا ما وصف الله به نفسه من المحبة والرضا، ولا من نفوذ الإرادة والمشيئة، وقضوا بأنه سبحانه يحب الطاعات كلها، محبة حكمةٍ لا شهوة، ولذلك لا يقع منها إلا ما دعتِ الحكمة إلى وقوعه، وأنه تعالى يكره المعاصي كلها كراهة حكمة بالنظر إلى الوجه الذي قَبُحتْ من جهته، لا كراهة عجزٍ بالنظر إلى الوجه الذي لو شاء لمنعها، ولطف بأهلها من جهته، ولذلك لم (¬1) يقع منها ما لم يُرِدْ سبحانه هداية فاعله الخاصة لما سيأتي ذكره من حكمه التي بين منها كثيراً، واختص منها (¬2) بعلم ما شاء. ¬
وقد تستعمل الإرادة في موضع المحبة والعكس، وقد يصح ذلك مجازاً فيحتاج إلى القرينة، أو حقيقة عرفية فلا يحتاج إلى القرينة، وقد لا يصح ذلك بحسب المتعلقات وسياق الكلام، بل قد تُعَلق المحبة والكراهة بالشيء الواحد فيكون محبوباً مكروهاً باعتبار الجهتين، كما أجمع الكل عليه في اليمين الغموس الكاذبة حين تَجِبُ على المنكر شرعاً، فيحسُنُ من صاحب الحق والقاضي إرادتها من حيث أنها حق للمدعي على المنكر، ويجب على المدعي من حيث يعلم أنها زور كراهتها من حيث هي معصية مع إرادته لها من حيث هي واجبة. وسيأتي ذلك مع نظائره. وفي هذا المقام الدقيق تختلف عبارات أهل السنة وربما لزم من ظاهر بعضها ما لم يقصده قائله (¬1)، كما يكون ذلك في كلام كل فرقة. فقد رأينا العلماء والبُلغاء متى أرادوا تحقيق أمرٍ واحد (¬2) وتمييزه عن غيره قَلَّ من يُصيب المقصود من ذلك على ما ينبغي، وكثُرتِ الإشكالات على مَنِ ادَّعى تجويد الحدِّ، وتحقيق التمييز. هذا مع استشعارهم للحذر مِنَ (¬3) الغلط في ذلك، وبذل الجهد في ترك فَضَلاتِ الكلام، والتجوُّز في العبارات، لأن ذلك كله معيبٌ في الحدود. ولقد اشتد خلاف الأذكياء في حدِّ العلم. فقال بعضهم: لا يُحَدُّ لجلائه (¬4). وقال بعضهم. لا يُحَدُّ لعسره. وقالت طائفة: لا بد من تحديده. ثم اختلفوا في حدِّه أشد الاختلاف، فهذا مع أن العلم هو الذي تُعْرَفُ به الدقائق والجليات، وهو مُدْرَكٌ بالفطرة، ¬
حاصل مذهب أهل السنة على التقريب
إذ هو من الأمور الوجدانيات كالألم والجوع والغضب والرضا، فكيف بالتعبير في محارات العقول في (¬1) مسألتي المشيئة والأقدار متى وقع ممَّن لم (¬2) يتدرب في الحدود والجَدَل، ولا أشعر نفسه الحزم من النقاد والحَذَرَ مما لا يكاد يُصيب شاكلة الرمي ويطبقُ مَفْصِلَ الإجادة إلاَّ من (¬3) مَلَّكَه الله أزمة الإصابة والسعادة. وحاصل مذهب أهل السنة على التقريب، وإن أخطأته عبارة بعضهم هو ما ذكرته من تعميم نفوذ (¬4) مشيئة الله تعالى بما تعلقت به تعظيماً لقدرته جل جلاله من القصور عن كل مقصود (¬5) ومقدور مع اختصاص محبته بالطاعات، وكراهته بالمعاصي المُقَبِّحات. وفي مقام التعبير عن الكتاب والسنة والآثار تَزِلُّ الأقدام، وتفاوت الأفهام، ويتصعَّب المرام، وقلَّ من ينجو بسلام، والذي أحبُّه وأرتضيه للسني ترك العبارات المولدة والتكلُّفات (¬6) الحادثة، وإن نطق بها بعض أهل السنة ظنّاً منه بأنه يترجم (¬7) بها عن القرآن والحديث، ولو تَفَطَّن لم يُجاوِزْ عبارات القرآن والحديث، فإنها أفصحُ الكلام، وأصحُّه وأبينه، وأوضحه ولم يرد إلاَّ بما يقتضي كمال قدرة الله تعالى، وهو التمدح بنفوذ (¬8) مشيئة الله في كل شيءٍ. وهذا وصفٌ جليل جميل يختصُّ به الرب سبحانه، ويليق بجلاله، ويعجز عنه كل قادرٍ سواه بخلاف مجرد إرادة القبيح الذي ظن بعض أهل السنة أنها مرادفة لذلك الوصف الجليل الجميل، وكيف يُرادِفُه وهو من خصائص ربِّ العزة جلَّ جلالُه؟ وإرادة القبيح مجرّدةً عن ذلك صفةٌ عريَّةٌ عن الثناء بالمرة يقع من ¬
الخلاف بين المعتزلة والأشعرية هل الأمر بالشيء يستلزم إرادته أم لا؟
الضعيف، والعاجز، والخبيث، والأحمق، وسائر الشياطين وأعداء ربِّ العالمين. ومتى تعلَّقتْ بالقبيح لأجل الوجه الذي قُبِّحَ منه، وجب تنزيه الربِّ سبحانه منها بالمرة كما يتنزَّه عن كل عيب وذم، كما قال تعالى: {وما اللهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} [غافر: 31]، وفي آيةٍ {للعالمين} [آل عمران: 108] كما سيأتي بيانه واختصت بشرار خلقه، {ولله الأسماءُ الحُسنى فادعُوهُ بِها} [الأعراف: 180]. وما أحسن عبارة موسى كليم الله سبحانه، حيث قال: " اللهم إنك ربٌّ عظيم لو شئت أن تُطاع لأُطِعْتَ، ولو شئت أن لا تُعصى ما عُصيتَ، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى فكيف هذا يا رب ". وسيأتي تحقيق الفرق بين العبارات الربانية والنبوية، وبين العبارت المحدثة المبتدعة في الدعوى الثانية وقبلها، ثم في الجواب عن أدلة المعتزلة. وقد شَغَبَ أهل الكلام على أهل الأثر في تجويز المحبة والغضب على الله بأمورٍ سهلة تقدم بيانها في الصفات. الفرقة الثانية: المعتزلة وغالب مذهبهم مشهورٌ لم يغلط عليهم فيه، وسيأتي ذكر أدلتهم والجواب عنها في الفرقة الثالثة. وفيهم طائفة يَنفُون إرادة الله تعالى، ولا يُثبتون معنىً زائداً على كونه عالماً، ويتأولون كونه مُريداً بكونه فاعلاً، وهو عالم غير ساهٍ ولا مُكْرَهٍ، ومعنى إرادته لأفعال غيره عندهم أمره بها، حكاه الزمخشري (¬1) في تفسير: {ماذَا أرادَ اللهُ بهذا مثلاً} [البقرة: 26] وأهل المقالات يروُون ذلك عن البغدادية منهم. الفرقة الثالثة: الأشعرية، ولم تُحَرِّر المعتزلة نقل مذهبهما على الصواب، ¬
فرأيت نقله من كُتُبِهم محققاً، ويدخل في ضمن كلامهم تحقيق مذهب المعتزلة. قال الشهرستاني في كتابه " نهاية الأقدار ": قالت المعتزلة: كلُّ آمر بالشيء، فهو مريدٌ له، والباري آمرٌ عباده بالطاعة، فهو مريدٌ لها، إذ من المستحيل أن يأمُرَ عباده بها، ثم لا يريدها، والجمع بين اقتضاء الطاعة وطلبها بالأمر بها، وبين كراهة وقوعها جمعٌ بين (¬1) نقيضين، وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه في حالة واحدة، إذ لا فرق بين قول القائل: آمرُك (¬2) بكذا وكرهُ منك فعله، وبين قوله: آمرُك بكذا، وأنْهاك عن فعله، وإذا كان الآمرُ بالشيء مريداً له، كان الناهي عنه كارهاً له. والذي يحقِّقُ ذلك أن الأمر يقتضي من المأمور حصول الفعل، والإرادة تقتضي تخصيص المأمور به بالوجود، ومن المُحال اقتضاء الحصول لشيء، (¬3) واقتضاء ضد ذلك منه. ويخرج على هذه القاعدة أستر وأحكم إلى العلم، فإنه يجوز أن يأمر بخلاف المعلوم، لأن العلم ليس فيه اقتضاء وطلب، وإنما يتعلق بالمعلوم على ما هو به بخلاف الإرادة، فإنها مقتضية، فيرد الأمر على خلاف العلم، ولا يَرِدُ على خلاف الإرادة. قالت الأشعرية: لسنا نُسَلِّم أن كُلَّ آمر بالشيء مريدٌ لحصوله، بل نقول: كل آمر بالشيء عالمٌ بحصوله، أو مجوِّز، فهو مريدٌ له حصولاً، وكل آمر بشيء يعلم حصول ضده لا يكون مريداً لحصوله، فإن الإرادة على خلاف العلم تعطيل لحكم الإرادة، وتغيير لأخصِّ وصفها، وقد بينا أن أخص وصفها التخصيص، وحكمُها أنها إنما تتعلق بالمتجدد من المقدورات أو من المتخصص منها. ¬
فإذا عَلِمَ الآمرُ بأن المأمور به لا يحصلُ قطعاً، ولا يتجدَّدُ ولا يتخصص، فيستحيل أن يُريده، فإنها تُوجد حينئذٍ ولا متعلق بالممكن (¬1) لها، وتتعلق ولا أثر لتعلقها، وذلك مُحالٌ، ولو كانت الإرادة من خاصيتها أن تتعلق بالممكن فقط كالقدرة، لكان جائزاً أن تتعلق بخلاف المعلوم. ومن العجب أنَّ متعلق القدرة أعمُّ من متعلق الإرادة، فإن الممكن الجائز هو (¬2) جائز متعلق بالقدرة، والمتجدد من جملة الممكنات متعلق الإرادة، والمتجددُ أخصُّ من الممكن. قلت: بيان ذلك أن الأصل أن يكون الأمر غير مخالف للعلم ولا للإرادة، لكن قد ورد بخلاف العلم إجماعاً، وهو خلاف الأصل. فإن قيل: فما الوجه في وروده على خلافِ الأصل حيث يكون على خلاف العلم والإرادة؟ قلت: الوجه أن الأمر في الغالب يكون طلباً لحصول المأمور به كأمر من عَلِمَ الله تعالى أنه يمتثل فيجب أن يكون على وَفْقِ العلم والإرادة، وقد يكون الأمرُ (¬3) على جهة الابتلاء وإقامةِ الحجة، وهو نوعان: أحدهما: وهو الأقل أمر من علم الله أنه يُطيعُ ليبتلى بالعزم على ذلك لا (¬4) ليفعله، مثل أمر الخليل عليه السلام بذبح ولده عليه السلام على أصحِّ القولين، وهو مقرَّرٌ في الأصول. وقد قيل: إن منه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء (¬5) بخمسين صلاة، ونُسخَ ذلك عنه قبل التمكُّن من فعله. ¬
ومنه أمر من علم موته قبل التمكن من امتثاله، أو نسخُ المأمور به قبل ذلك، كقوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فإنه روي أنها نُسخت قبل أن يعمل بها أحد إلاَّ علياً عليه السلام (¬1). فإن قيل: فلماذا قال في الأمر بذبحِ إسماعيل: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وفي حديث: فرض خمسين صلاة هي خمس وهي خمسون لا يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ (¬2) فإنه مشكلٌ على كلا المذهبين؟ ¬
قلت: لا يبعُدُ أنه (¬1) في مرتبة اختيار الأحسن على الحسن لأن الله تعالى لا يفعلُ المرجوح وإن كان حَسَناً مع وجود الأحسن الراجح (¬2)، وذلك أن الأمر يُشبه الخبر بالوجوب، كما قد أتى بلفظ الخبر {ولله على الناسِ حِجُّ البيتِ} [آل عمران: 97] ونحوها، فبَعُدَ بالتأويل عن شبه الخُلف (¬3) والبداء كما تنزَّه عن خُلْفِ الوعيد كذلك مع حسنه عقلاً وسمعاً. وثانيهما: وهو الأكثر أمر من علم الله سبحانه أنه لا يُطيع لإقامة الحجة، كما أذكره في الحكمة في الأمر مع القدر في آخر الكلام في الأقدار، وما فيه من الآيات الصريحة بأن العلة في أمره إقامة الحجة عليه، وإليه الإشارة بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [يونس: 25]، فَعَمَّ بالدعوة حجة على من علم أنه لا يجيبُ، وخص بالهدى منه على من عَلِمَ أنه يُنيبُ. ثم إن الحجة تارة تكون مع إرادة المغفرة كما يأتي في أحاديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم "، ومنه قوله تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} إلى قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} [البقرة: 35 - 36] ولم يكن الرب عز وجل مُريداً لسكون آدم وزوجته في الجنة دائماً بدليل قوله قبل عصيانهما: {إني جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30]، وبدليل أنه لو أراد ذلك غفر ذنبهما ولم يُخرجهما به من الجنة، أو أخَّر عقوبتهما إلى (¬4) الآخرة كما يقتضيه مذهبُ المعتزلة، فإنه لا يجوز عندهم تقديم (¬5) العقوبة في دار التكليف، بل ذنوب الأنبياء صغائر عند المعتزلة والجمهور، والصغائرُ مغفورةٌ لا يعاقب الله عز وجل ¬
عليها، وظاهرُ أمره بسكناهما الجنة الدوام بدليل قوله في الشيطان: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} [البقرة: 36] فنسب الإخراج إليه لما كان سبباً فيه، ولم يكن السببُ الظاهر انتهاء مدة الإرادة لإقامتهما في الجنة. وتارةً من غير إرادةٍ للمغفرة، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]. ونحوها {لِئَلاَّ يكونَ للناس على الله حُجَّةٌ بعد الرُّسُل} [النساء: 165]. وأخصُّ من هذه الآيات، وأنسبُ بمسألتنا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] أي أمرناهم أن يطيعوا، كما تقول: أمرته فعصاني، أي: أن يُطيعني، والقرينة في مثله مُغنيةٌ عن تقدير المحذوف من جنس المذكور كما زعم الزمخشري (¬1)، فالآية بينةٌ في أن الأمر لهم لم يكونوا (¬2) ليطيعوا، لأنه كان بعد إرادة عذابهم بما قد علم الله فيه من الحكمة، وإنما كان أمرهم قطعاً لعُذْرِهم، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} [يس: 11] يعني الإنذار النافع. وأما ما تقدم الأمر من كفرهم، فلا يجوز تعليق الإراده لعذابهم به، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ونحوها {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُون} [النمل: 81]، وقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} [يس: 10]. ولذلك قد يخصُّون بالأمر في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] وهو كثير، بل قد يستثنى الكافر من المؤمن المأمور حيث يراد بالأمر وقوع (¬3) المأمور به، ونجاة الممتثل له، كقوله ¬
تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُم} [هود: 81]. وقد يريد الله تعالى بالأمر الوجهين معاً بدليل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143]، وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وقوله تعالى: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. فهذه الآيات وأمثالُها مما يكثر إيراده شاهدةٌ على أن أمر من عَلِمَ الآمر أنه يُعصى غير ملازم لإرادة امتثاله (¬1) مع ما يدركُه العقل من ذلك، وهذان النوعان واردان في الشرع وروداً كثيراً، ولا يمنع العقل من ورودهما، ولكنهما نادران في عاداتِ الناس، إذْ كانت العادات جارية بأن الأمر قرينة تدل على حاجة الآمر إلى مطلوبه، وذلك دليل على إرادتِه ما أمر، ولما قَلَّ في العادة الأمر من غير إرادة غفل عنه المعتزلي وظنه محالاً، وليس بمحال، وإنما المحال ما جوَّزه المعتزلي من إرادة حصول ما جَزَم الآمر، وعلم أنه لا يحصُلُ أبداً، ولذلك جاء على أبلغ صيغ الإنكار في قوله عز وجل: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]. فلم ينكر هذه الإرادة لِقُبح ما تعلَّقت به وهو الهُدى، لأنه حسن قطعاً، وإنما أنكرها لتعلُّقها بما علم أنه لا يقع، ولذلك خصَّ ذوي الألباب بإرادة التذكر في قوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} [إبراهيم: 52]. وأمثالها كثيرة كقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [النحل: 64]. وقوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل: 89]. ¬
وقوله سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102]. ولو كان ذلك الذي زعموه ممكناً، لأمكن من أحدنا أن يريد من الله تعالى أن يفعل له ما يعلم أنه لا يفعله من أن يرفعه إلى السماء، أو يُحيي له من مات من أهله، أو يرُدَّ له أيام الشباب بعد الهرم. فذلك ممكنٌ مقدور لله تعالى، وإنما استحالتْ إرادة ذلك من العقلاء لعلمهم أنه لا يقع، ولأمكنت إرادة القبيح والمضارِّ التي لا داعي إليها، كنكاح الأمهات وقتلها. ولما قَبُحَ عند الخصوم إعلام المُكَلف بأنه من أهل النار، وقد قبَّحوا ذلك، بل قَبَّحوا الإعلام بصغار (¬1) الذنوب مع بقاء الداعي إلى تركها، وهو استحقاق الثواب عليه، والصارِف (¬2) عن فعلها، وهو فواتُ الثواب بسببه. وأما ما نجدُ من شهوةِ ما لا يكون وتمنيه (¬3)، فليس من الإرادة في شيء، وقد يُعَبِّرُ عن تلك الشهوة بالإرادة، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة: 20] وليس من قبيل الإرادة الاختيارية، لأنهم غير قادرين على إرادة البقاء في النار، على أن علمهم حين (¬4) أرادوا ذلك بعدم (¬5) وقوعه ممنوعٌ بدليل سؤالهم ذلك في قولهم: {ربَّنا أخْرِجْنا مِنْها} [المؤمنون: 107] وقولهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّك} [الزخرف: 77] وذلك واضح. وذكر بعض أهل السنة أشياء في الاستدلال على أن الأمر قد يفارق الإرادة وهذا الذي ذكرته أصحُّ، ولا يخلو ما ذكروه من نظر من ذلك الدعاء في صلاة الاستسقاء حيث لا يُسقَون، وشفاء المرضى حيث لا يُشْفَون، وببقاءِ الأنبياء والأولياء، وطلب طول أعمارهم. ¬
ويشبهه من وجه الأمر بقتل كثير من الحيوان الذي أراد الله حياته (¬1) كالفواسق الخمس والوَزَغ، بل كالكفار، والأمر بقتلها وطلبها (¬2) في جميع الأوقات، وذلك عند المعتزلة يستلزم أن الله تعالى مريدٌ لِقتلها، ومريدُ قتلِ الحي لا يريد حياته، وإنما يَصِحُّ ذلك باعتبار الجهات المختلفة عندهم. وكذلك يقول أهل السنة في مسألة الإرادة، وفي متعلقاتها، فيلزمها الموافقة في أحد الموضعين. ومنه إرادة التعجيز كقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50]. ومنه ما رُوي عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مَنْ تحلَّم بحُلمٍ لم يَرَهُ كُلِّفَ أن يعقِدَ بينَ شعيرتين ولن يَفْعَلَ " (¬3) خرجه البخاري. وخرج الترمذي (¬4) من حديث علي رضي الله عنه نحوَه. وفي أحاديث المُصَوِّرين أنه يُقالُ لهم يوم القيامة: " أحْيُوا ما خَلَقْتُم " (¬5) وهي ¬
كلام الشهرستاني في عدم تعلق إرادة الله بأفعال العباد
شهيرةٌ صِحاحٌ، ويأتي ذكرُها في الكلام على تنزيه أهل السنة من القول بتكليف ما لا يُطاق. قال الشهرستاني: ثم يقولُ مَنْ رأي أن الآمر بالشيء لا يكون مُريداً له من حيث إنه مأمور به فقط، سواء كان المأمور به طاعة وقد عَلِمَ الآمر حصولها، أو كان الأمر بخلاف ذلك، فإن جهة المأمور به هو كسبُ المأمور، وسيأتي أن ذلك أخص أوصاف الفعل، سُمِّي به العبد عابداً، ومُصلياً، وصائماً وأمثال ذلك. والفعل من هذا الوجه لا يُنسبُ إلى الباري تعالى، فلا يكون مُريداً له من هذا الوجه، بل يُنسب إليه من حيثُ التجدد والتخصيص، وما لم يكن الفعلُ فعلاً (¬1) للمريد لا يكونُ مراداً، فما كان من جهة العبد الذي سمَّيناه كسباً وقع على وفق العلم، والأمر كان مُراداً مرضياً، أعني مراداً بالتجدد والتخصص (¬2) الذي هو أثرُ قدرة الله تعالى مرضيّاً بالثناء والثواب والجزاء. وما وقع على وَفْقِ العلم وخلاف الأمر كان مُراداً غير مرضي، أعني مُراداً بالتجدد، وغير مرضي بالذمِّ والعقاب، وهذا هو سر هذه المسألة، ومن اطَّلَع عليه، استهان بتهويلات القدرية، وتمويهاتِ الجبرية. قلت: هذا كلامٌ صحيح المعاني، قويُّ المباني، وإنما يتجلَّى بمعرفة مذهبهم في خلق الأفعال، وتمييز ما هو أثر قدرة الرب عما هو أثر قدرة العبد، فمن أراد تحقيق هذا، جمع إلى النظر فيه أمرين: أحدهما: النظر في مسألة الأفعال كما يأتي في المرتبة الخامسة. وثانيهما: النظر في امتناع تعلق الإرادة بفعل غير المريد، وهو صحيح، ¬
كلام الجويني ومن معه في إطلاق رضى الله تعالى بالمعاصي
ولا بمشيئة، لأن المحبة تعلَّق بفعل الغير، ويلتبس الفرق بين المحبة والإرادة على من لم يتأمل، وكثيراً ما يُسَمَّى أحدهما باسم الآخر مجازاً. ومن الدليل على أن الإرادة لا تعلق بفعل الغير أن العزم والنية لا يتعلقان به مع أنهما من أنواع الإرادة، وفي هذا بيان غلطِ من صَحَّح إطلاق محبة الله تعالى ورضاه (¬1) على المعاصي المراد وقوعها مجازاً واهماً أنه لا فرق بين المحبة والإرادة كما نقله الجُويني (¬2) عن بعض مُتكلمي الأشعرية وقوَّاه هو، نقله عنه النواوي وسيأتي إن شاء الله تعالى. ومن الفروق: بين المحبة والإرادة غير (¬3) ما مضى أن المحبة غير اختيارية، والإرادة اختيارية، وأن المحبة لا تعلق بالمكروه في الطبيعة كشرب الأدوية الكريهة، وقطع العضو الفاسد، والقَوَدِ في توبة القاتل بخلاف الإرادة، وأن المحبة قد تعلق بما لا يتمكن وما يعلم أنه مُحالٌ كعود أيام الشباب، وإنما ما كان لم يكن بخلاف الإرادة. وبعدُ فإن ذلك مجمعٌ عليه ضروري في الشاهد، وإنما وقع الاختلاف في حقِّ الله تعالى كما تقدم في الصفات، فخُذْه من هناك. قال الشهرستاني: فعلى هذه القاعدة لم يكن الباري تعالى مُريداً للمعاصي والقبائح والشرور من حيث إنها معاصي وقبائح وشرور، ولا مريداً للخيرات والطاعات والمحاسن من حيث إنها كذلك، بل هو مريدٌ لكل ما تجدَّدَ وحدث في العالم من حيث إنها متخصصة بالوجود دون العدم، ومتقدرة بأقدارٍ دون أقدار، ومتوقتة بأوقات دون أوقات، ثم إن ذلك الموجود قد يقع منتسباً إلى استطاعة العبد كسباً على وفق الأمر فيُسمى طاعة مرضية، أي: مقبولة بالثناء ¬
ناجزاً، والثوابِ آجلا، وقد يقع على خلاف الأمر، فيسمى معصية، غير مرضية، أي مردودة بالذم ناجزاً والعقاب آجلاً. فالأفعال كلها من حيث تخصصها وتجدُّدها مُرادة لله تعالى كلها، وهي متوجهة إلى نظام في الوجود، وصلاح (¬1) للعالم وذلك هو الخير المحض. قلت: ويحسنُ أن يحتج هؤلاء على مذهبهم هذا بما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في التوجه في الصلاة: " الخير في يديك، والشرُّ ليس إليك " (¬2). فيزول الإشكال عن معنى الحديث. وفي قوله: وهي متوجهةٌ إلى نظام في الوجود، وصلاحٍ للعالم، وذلك هو الخير المحض إشارة إلى مثل كلام الغزالي، وابن تيمية ومن تابعهما في أن الشر لا يراد لنفسه، وإن كان الشهرستاني مُظهراً لموافقة الأشعرية في نفي الحكم، فهذه الإشارة تُنافي ذلك، ولعلَّها معتقده والله أعلم. ويحتمل أن مراده ما سيأتي من أن فعل الله خيرٌ، لكنه لم يفعله لأنه خير، وسيأتي تعليله لذلك والرد. ¬
قال: وكلُّ ما ورد في القرآن من إرادة الخير المتعلِّق بأفعال العباد، فهو محمولٌ على أحد معنيين: إما ثناءٌ ومدحٌ في الحال، وإما ثوابٌ ونعمة في المآل، وإلا فالإرادة الأزلية لا تتعلَّقُ إلاَّ بما هو متجدِّدٌ من حيثُ هو كذلك، ولا متجدِّد إلاَّ وهو فعلُ الله تعالى من حيث هو كذلك، وذلك لا يُنْسَبُ إلى العبد كما بينا في (¬1) خلق الأفعال. واختصت الإرادة بأفعال الله تعالى على الحقيقة دون الوجوه التي لا تُنْسَبُ إلى الحق سبحانه، فلم يجب تلازم الأمر والإرادة إلى قوله: وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] ونحوها محمولٌ على كلمةٍ ذكرها الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنه، فقال: إن الله تعالى إذا أراد بنا، وأراد منا، فما أراد بنا، أظهره لنا، وما أراده منا طواه عنا، فما لنا لا نشتغل بما أراده منا عما أراده بنا. ومعنى ذلك أنه أراد بنا ما أمرنا به، وأرادَ منا ما عَلِمَه، فكانت الإرادة واحدة، يختلف حكمها باختلاف وجه تعلقها بالمراد، وهي إذا تعلقت بثوابٍ سُميت رضا ومحبةً، وإدا تعلقت بعقاب سُميت سُخْطاً وغضباً. كذلك إذا تعلقت بالمراد على وجه تعلُّق العلم، قيل: أراد منا ما عَلِمَ، وإذا تعلقت بالمراد على وجهِ تعلق الأمر، قيل: أراد به ما أمر، وإذا تعلقت بالصنع مُطلقاً بتخصيص وتعيين من غير التفات إلى كسب العبد حتى يكون أراد منه، أو أراد به، قيل: أراد الكائنات بأسرها، ولم يقل: أراد منها ولا بها، بل أرادها على ما هي عليه من التخصيص بالوجود دون العدم. فإذاً فأفعال العباد من حيث إنها أفعالهم إما أن يقال: تعلق الإرادة بها على الوجه الذي انتسب إلى العباد، بل على الوجه الذي انتسب إلى الخالق إيجاداً ¬
فصل في أن الإرادة قسمان: قسم بمعنى الطلب من الغير، وقسم ليس بمعنى الطلب
أو (¬1) تخصيصاً. وإما أن يقال: تعلقت الإرادة بها على الوجهين المذكورين بأنه أراد بنا أو أراد منا، أراد بنا ما أمرنا به ديناً وشرعاً واعتقاداً ومذهباً، وأراد منا ما علم سابقة، وعاقبة وفاتحة وخاتمة. انتهى. فصل: وأقول: إن السابق إلى الأفهام غير ما ذكره، وهو أن يكون قوله: " أراد منه " يطلق على ما وافق الأمر من الإرادة. وقولُنا: " أراد به " لما وافق العلم، ويدل عليه أن الإرادة قسمان: قسم بمعنى الطلب من الغير، وقسم ليس بمعنى الطلب. والقسم الأول نوعان: الأول: معنوية حقيقية، وهي التي يكون معها الرضا والطلب، وهي إرادةُ الطاعة ممن علم الله تعالى امتثاله للأمر (¬2)، وهذه تُسمى إرادةً في الحقائق الثلاث: اللغوية والعرفية والشرعية. قال الزمخشري في أوائل " الكشاف " (¬3) في الإرادة اللغوية: هي مصدر أردتُ الشيء إذا طلبته نفسك، ومال إليه قلبك، وفي حدود المتكلمين معنى يوجب (¬4) للحي حالاً لأجلها وقع منه الفعل على وجهٍ دون وجه. والنوع الثاني: الإرادة اللفظية، وهي إرادة ما يطلبه الله بالأمر ويرضاه ويحبه ممن علم أنه لا يمتثل الأمر (¬5) فهذه يطلق عليها اسم الإرادة لفظاً، وليست إرادة في الحقيقية، لكن محبة المطلوب والحكمة فيه الحاملة على الطلب تسمى إرادة ومشيئة. ¬
وهذه التسمية إما حقيقةٌ عُرفية أو مجاز شائع كثير سبق بأدنى قرينةٍ إلى الفهم، وأول كل حقيقة عرفية (¬1) مجاز كذلك، وهو كثير، ومنه قول الشاعر، وهو قيسُ بن الخطيم الأوسي، والبيت في الحماسة في أبيات له: يريدُ المرءُ أن يُعْطَى مُناه ... ويَأْبَى الله إلاَّ ما يشاء (¬2) فالإرادة في هذا البيت بمعنى المحبة من غير شكٍّ، لأنها تعلَّقت بما ليس من فعله، ولا يقدر عليه، ولأنها لم تُعَلَّقْ بتخصيص الحادث المتجدد بوقتٍ دون وقتٍ، ولا قدرٍ دون قدر، ولا وجهٍ دون وجه، وذلك لازمٌ للإرادة الحقيقية في اللغة. وهذان القسمان من الإرادة مُلازمان للطلب والمحبة، وقد يعبر عنهما معاً، وعن المحبة وحدها بالإرادة حقيقةً عُرفية أو مجازاً. فمن هنا كانت الإرادة والمحبة تُعديان هنا بحرف " من " دون " الباء " وذلك لأن الطلب يعدى بمن التي لابتداء الغاية، تقول: طلبتُ من الله تعالى، كما تقولُ: سألت منه، وأردتُ منه، قال الله تعالى: {ما أُريدُ منهم مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57] فعداها بمن لأنها بمعنى ما أطلب منهم. والعجب ممن يقول: إن الله تعالى يريد المعاصي من العصاة، ثم يقول: ¬
إن معاصي العصاة من الله، ويعترفُ ببطلان الجبر مع ذلك، وهذه مناقضات واضحة، وخطأ في العبارة ممن ينفي الجبر. وإنما يقال: إن المعاصي من العبد صادرة باختياره مع تقديرٍ من الله سابقٍ، وتمكينٍ للعبد لاحقٍ كما سيأتي بيانه في آخر مسألة الأفعال، ونقلُ نصوص الكتاب والسنة والصحابة والسلف على ذلك. القسم الثاني: ما لم يكن يعني (¬1) الطلب من الغير، ولا يحسُنُ تقدير الطلب في هذا القسم مع الإرادة، ولا يعبر بأحدهما عن الآخر حقيقة ولا مجازاً، وذلك حيث يكون أحد مفعولي الإرادة كالعلة في مفعولها الآخر تتعدى (¬2) بالباء وباللام على حسب المواقع اللائقة بذلك في اللغة. كقوله تعالى: {ماذا أرادَ الله بهذا مثلاً} [البقرة: 26] وقوله تعالى: {وإذا أرادَ الله بقومٍ سُوءاً فلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّين " (¬3). حديث صحيح شهير من غير طريق. وروى الطبراني من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ هذه الأخلاق من الله، فمن أراد الله به خيراً مَنَحَه خُلُقاً حَسَناً، ومن أراد الله به سوءاً منحَه خُلُقاً سيئاً ". أخرجه الهيثمي في باب حسن الخلق من " مجمع الزوائد " (¬4) وفي سنده مسلمة بن علي. ¬
فمفعولُ الإرادة الأوَّل في الآية هو " ماذا " على أنها اسمٌ واحدٌ، ومفعولها الثاني المشار إليه بلفظ " هذا " في الآية، وتفسير " ماذا " هو العلة والحكمة في إنزاله، وذلك هو ما بينه الله تعالى جواباً عليهم بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]، ومفعولها الأول في الحديث هو الخيرُ المسبَّب عن التفقيه، ومفعولُها الثاني هو الفقهُ في الدين. وتلخيصُ ذلك أن الإرادة تُعَدَّى إلى مفعولٍ واحد بنفسها من غير حرف، وهو المتجددُ المتخصص الذي يجبُ أن يكون (¬1) فعلاً للمريد، وقد يُعَدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ، فلا يجب أن يكون فعلاً للمريد، وإن جاز أن يكون فعلاً له في بعض الصور. وهذا القسم ينقسم: فحين يكون المفعول الأول مطلوباً بالأمر من الثاني تعدى الإرادة إلى الثاني بمن كما يتعدى الطلب بها كما مرَّ مثاله. وحين يكون المفعول الثاني هو العلة في إرادة المفعول الأول يكون الثاني كالمفعول لأجله، وتعدَّى الإرادة إليه (¬2) تارة بالباء الموحدة، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين ". ومرةً باللام كقولك: أردت الخير لزيدٍ، ولذلك قال أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: لا يقال شاء للعباد، فيكون شبه اختيار، ولكن يُقال (¬3) شاء أن يَعْصوه. وقد تقدَّم سنده عنه عليه السلام. فعلى هذا لا تُعَلَّق إرادة الله بفعل العبد حَسَناً كان أو قبيحاً حيث يقول: أراد به أو له (¬4) ثواباً أو عقاباً، لأن مفعولها الأول هو الثواب أو العقاب على جهة الجزاء، وهو فعل الله تعالى ومفعولها الثاني هو العبد المستحق لذلك، والعلة في ذلك هي الحكمة، إما الاستحقاق وحده أو مع غيره. ¬
بحث في قوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}
وعلى هذا التفصيل يجوز أن يُحمل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على المعنى الذي تُعدَّى فيه الإرادة بحرف " من " لأنه لا يتعلَّقُ بأفعال العباد من أقسامها غيره. وهو حيث يكون بمعنى الطلب بالأمر فيكون المعنى لإرادة أن يعبدوني، لأن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا المصاحبين للأمر، ويكون تسمية المحبة إرادةً حقيقة عرفية أو لغوية كما تقرَّر ذلك من تفسير الزمخشري لها، ودلالة بيت قيس بن الخَطِيم عليه، وهو عربي حُجَّة. وقد تقدم، أو مجازاً كثيراً قريباً يحسن مع أدنى قرينة. وقد بيَّنَّا أن المحبة عند أهل السنة تلازم الأمر، وتسمى إرادةً، ولا يجب أن تقع من متعلقها ما لم يُرِدِ الله وقوعه لبعض الحِكَمِ التي يستأثر الله بعلمها، ويأتي بيان بعضها. فجاز على أصول أهل السنة، وصحَّ أن يكون التقدير ما خلقتهم إلاَّ لإرادة أن يعبدوني، أي: محبته لهم، لأنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبه مطلقاً كما تقدم، ولا يُريده لهم ديناً وشرعاً يتقرَّبون به إليه عز وجل. والعجب من المعتزلة أنهم يُنكرون على أهل السنة تأويلهم هذه الآية على إرادةِ الأمر، ولا يُنكرون على نُفاة الإرادة منهم تأويلها بالأمر، بل كل إرادة من الله تعالى تُعَلَّقُ (¬1) بأفعال العباد عند البغدادية منهم، فإن معناها الأمر من غيرِ إرادةٍ ألبتة لا للآمرِ، ولا للمأمور به. وأما من لا يُجيز المحبة على الله من الأشعرية، فإنَّه يتأوَّل الإرادة في هذه الآية بالأمر مثل ما تأولها بذلك بعض المعتزلة مطلقاً، فيكون المعنى عندهم: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لطلب أن يعبُدوني، لأنَّ " لام كي " تُستعمل للطلب كما تستعمل للغرض. ¬
وكذلك تقدير الطلب والمحبة والرضا يُمكنُ مع كُلِّ ما تُقدِّرُ المعتزلة فيه الإرادة، أو تستدلُّ به عليها مثل " لعل " في قوله تعالى في حق فرعون: {لَعَلَّه يتذكَّر أو يَخْشى} [طه: 44] وغير ذلك. فهذا من أنْفَسِ ما يعرفه السنيُّ مع أنه يُمْكِنُ أن يكون قد حصل لفرعون ما يُطلق عليه اسم التذكُّر أو الخشية، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] فإنه جعل حدوث الذكر من غير تقوى مقصوداً مستقلاً. وقيل: إنّ " لعلَّ " هنا للتقريب أيضاً، وإنه أحدُ معانيها اللغوية، ويجوز أن تكون الآية الشريفة - وهي قوله تعالى. {إلاَّ لِيَعْبُدونِ} محمولةً على الإرادة الحقيقية العُرفية على مذاهب أهل السنة على أحد وجوه. الوجه الأول: أن يكون خلق الجميع ليعبده العابدون منهم، وليس في هذا إلا تخصيصُ الضمير الذي في " يعبدون " والموجب لتخصيصه أنواع: منها: ما يأتي من آيات المشيئة نحو: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَستقيمَ} [التكوير: 28]، {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [الإنسان: 30]. ومنها: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عملاً} [الملك: 2]. ومنها: {وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ لِيُطاعَ بإذن الله} [النساء: 64]. ومنها: المفعول لامتناع إرادة وقوع ما عَلِمَ المريد أنه لا يقع، وسيأتي تقرير ذلك كله على التفصيل إن شاء الله تعالى. ولا بد من تخصيص الضمير على مذهب المعتزلة خصوصاً في الأعيان والأزمان. أما الأعيان: فلخروج الصِّبيان والمجانين.
وأما الأزمان: فلخروج أكثرها وهو ما بعد الموت. وهذا الوجه أيضاً هو قول البغدادية منهم، وتلخيصه: أن الله تعالى خلق الكافر لما عَلِمَ في خلقه من حصول عبادة المؤمن، واللُّطفِ له، لأنهم لو عَلِمُوا أنه لا يخلق إلاَّ أهل الجنة، كان مفسدةً بينةً كما يأتي بيانه مُفصَّلاً في الدواعي. فكأنه قال: ما خلقت الجميع إلاَّ لما في خلقِهم من حصول عبادتي من أهلها على أحسنِ الوجوه التي من أعظمها وأحبِّها إلى الله تعالى الجهاد، لأنه أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى. ولذلك خلق الأضداد: كالقلوب والنفوس، والعقول والشهوات، والملائكة والشياطين، والمسلمين والكافرين. وأيضاً فإنه سبحانه في الجهاد يَمِيزُ الخبيث من الطيب كما صرح بذلك، ويُمَحِّصُ المؤمنين، ويتخذ منهم شهداء، وقد أنكر خلاف هذا على من طَمِعَ فيه، حيث قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وأشار إليه في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] على ما يأتي تقريره في مسألة الدواعي من أن المقصود ظهور الأحسن لا الأقبح، وإن وقع الأقبح، فليس هو المقصود الأول المعبَّر عنه بالمراد لذاته ولنفسه، وإنما هو المراد لغيره، وذلك الغير هو الأحسن كما أشارت إليه الآية الكريمة، ويأتي في ذلك حديث كُرْزِ بن علقمة (¬1) في منتهى الإسلام، وأن ¬
مُنتهاه الفتن تقع كأنها الظُّلَل مع محبة الله تعالى لأولئك المفتونين، وإرادته لهم الخير. الوجه الثاني: أن يكون المراد وجود نوعٍ من العبادة إذ لم يقُم أحدٌ من المسلمين، ولا من الصالحين بجميع حقوقها على ما يجبُ وينبغي على الدوام، وقد ثبت أن قول: لا إله إلاَّ الله أفضلُ العملِ كما في " الصحيح " (¬1). ¬
وقد ثبت أن الجميع قالوها يوم أخرجهم الرب تعالى على صور الذَّرِّ من صلب آدمَ في النشأة الأولى، كما ذكره ابن عبد البر في تفسير قوله تعالى: {ولَهُ أسلَمَ مَنْ في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [آل عمران: 83] كما يأتي ذكره في مسألة الأطفال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ (¬1) وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. وستأتي طرق ذلك في مسألة الأطفال، وجوابُ ما يَرِدُ عليه من الأسئلة، وهذا الوجه مأثورٌ كما يأتي، ويتقوَّى على مذهب ابن تيمية خصوصاً، ومن له من سلف وخلف كما هو مقرَّرٌ في موضعه. الوجه الثالث: ما رُوي عن ابن عباس أن معنى الآية: ما خلقتُ الجن والإنسَ إلاَّ لِيَعْرِفُوني (¬2)، ويعضُده قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]. ¬
وقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِين} [النحل: 39]. ولا شك أن هذا المقصود حاصلٌ للجميع ولو في الآخرة، وليس في هذا إلا تسمية المعرفة عبادة وهو قريب، ولو مجازاً، لأن العبادة مشتقةٌ من التعبيد الذي هو التذليل. ذكره في " الضياء "، يقال: عبَّدَه، أي: ذلَّلَه، وطريق معبَّد، أي: مذلَّل. وقال الجوهري (¬1): التعبيد: التذليل، وأصل العبودية الخضوع والذل. وقال البغوي (¬2): العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع. ولا شك أن المعرفة لله تعالى سبب للذل له، ولذلك قال: {إنما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِه العُلماءُ} [فاطر: 28]. وفي حديث المعراج: " لمَّا انتهينا إلى السماء، رأيتُ جبريل عليه السلام كالحِلْسِ البالي، فعرفت فضلَ علمِه بالله على علمي " أو كما وَرَدَ (¬3). ¬
منع الأشعرية من تعلق إرادته تعالى بأفعال العباد خيرها وشرها
ولأن السمع ورد بتعليل الأعمال بالإيمان، كما قال بعد آية الظِّهار: {ذلك لِتُؤمِنُوا بالله ورسوله} [المجادلة: 4]، وقال بعد ذكر الحجِّ أو بعض مناسكه نحو ذلك. قالت المعتزلة: لا فرق بين الرضا والمحبة، والإرادة والمشيئة في حق الله تعالى، فيلزم من تجويز إرادته تعالى لوقوع المعاصي تجويزُ محبته لها، ورضاه بها، والنصوص تأباه وتمنعه، والعقل كذلك، وهذا أكثر ما حمل المعتزلة على تأويل آيات المشيئة. والجواب: أن هذا غير لازمٍ على جميع المذاهب. أما الأشعرية: فقد تقدم أنهم قد منعوا من تعلُّق إرادته تعالى بأفعال العباد خيرها وشرِّها، وقالوا: إنَّ محبته ورضاه لا تُعَلَّقُ إلاَّ بالطاعات، وإن معناهما هو الإرادة لا سوى، ومتعلقها فعله سبحانه الذي هو الثناء والثوابُ والأمر والوعد، وكراهته وغضبه وسخطه لا تعلق إلاَّ بالمعاصي، وهي ترجع إلى الإرادة أيضاً، ومتعلقها فعله سبحانه الذي هو الذم والعقاب والنهي والوعيد كما مر تقريره. وقد يجيب من يجهل هذا التحقيق بأجوبة أخر، كما يأتي في كلام الجُويني (¬1)، والتعرض لذكرها يُطيلُ اللجاج، ويُوَسِّعُ دائرة الحجاج، وهذا أنفعُ الأجوبة وأقطعها، وأوجعها للخصوم وأنجعُها. وقد مرَّت الحجة على امتناع تعلق الإراده بفعل الغير، وأن التي تُعَلَّقُ بذلك هي المحبة لا الإرادةُ. والحجة على ذلك عقليةٌ جليةٌ، وليس في السمع ما يُعارضُها لأن مفعول المشيئة في الآيات محذوف، وتقديره. غير متعين، مثاله: قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فيمكن ¬
أن مفعولَ مشيئة الله تعالى هو ما فعل الله تعالى بالإجماع من أسباب مشيئتهم للاستقامة التي أقامها مقام مشيئة الاستقامة. وتلك الأسباب هي المعبر عنها في العقليات بالدواعي الراجحة، وفي السمعيات تارةً بالقدر والقضاء والكتابة، ومرة بالتيسير وشرح الصدر والهداية، ومرة بالمشيئة والقصد والإرادة على تقدير حذف المضاف، وهو سبب مشيئة العباد. فإن قيل: ولِمَ تعلَّقَتْ إرادة الله تعالى بأسباب المعاصي، وقد عَلِمَ أن المعاصي تقع عندها. فالجواب: من وجهين: أحدهما: أن هذا مشترك الإلزام (¬1)، لأن إرادة أسبابها كلمة إجماع من المسلمين، ولا يجب عند المحققين من جميع فرق المسلمين معرفة العباد لذلك على التفصيل، ويكفينا التصديق بأنه سبحانه حكيم عَدْلٌ، وكل ما يفعله أو يتركه على العموم، والإيمان في هذه المسألة خصوصاً بنحو قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية: 23] أي: باستحقاقه للإضلال. وقد اختار الزمخشري (¬2) هذا الجواب على غُلُوِّه في الاعتزال في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. الوجه الثاني: من الجواب أنه يصح ويحسن في العقل والسمع أن يكون للشيء جهتان يحب بالنظر إلى أحدهما، ويُكرَهُ بالنظر إلى الآخر (¬3)، كما ذكرناه في اليمين الغموس. ¬
وكما قاله العلماءُ في الصلاة في الدار المغصوبة، وهي من دقائق المسائل، وقد طَوَّلها الأصوليون وحقَّقُوها في كُتُبهم، فلا حاجة إلى التطويل بذكرها. على أنا نجدُ الجزم بمحبة قتل كثير من كُبراء المشركين، وإن كان قاتلُه قَتَله سُمعةً ورياءً، وإن كُنَّا نكرهُ الرياء والسمعة. ولا يختلف العلماء في صحة ذلك في المحبة والكراهةِ لعدم اتحاد متعلقهما، وإن اختلفوا في الصلاه في الدار المغصوبة، فإنما هو لاتحاد محلِّها ومحل المعصية عند من يقولُ بفسادها. ألا ترى أن من يقول بذلك يُجيز محبة العاصي لخَصْلةِ خير مع حُسن كراهته عندهم، وعلى ذلك قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] وذلك لعارض، وإلا فإنه تعالى يحب الانبعاث مع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أمر به، ولكن على غير الوجه الذى اقترن به بانبعاث المنافقين. وكذلك ما حكاه الله عزَّ وجل عن كليمه عليه السلام من قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} [يونس: 88] مع أنه عليه السلام كان شديد الحرص على إيمانهم حتى استحَقُّوا عظيم العقوبة، فكره وقوع الإيمان منهم لما يستحقونه من العقوبة، لا لكون الإيمان حَسَناً في نفسه، مطلوباً لله تعالى. ومن ذلك قوله: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم} [الشعراء: 57 - 58] مع أن هذا الخروج كان من أقبحِ الذنوب المسخوطة، لأنه كان لأجل محاربة موسى وأصحابه، وبنيَّة قتلهم واستئصالهم، لكنه لما كان الله تعالى قدَّره في سابق علمه لإغراق فرعون وقومه نَسَبَه إلى نفسه الكريمة من هذه الجهة كما ينْسِبُ الأفعال المحبوبة إليه سبحانه وتعالى مع أنه منسوبٌ
إلى فرعون وقومه من جهة نيتهم فيه واختيارهم له بذلك (¬1) السبب نسبة القبائح، كما قال تعالى: {فأتْبَعُوهُم مُشْرِقينَ} [الشعراء: 60]. ومنْ ذلك حديث الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهلِ النار، وكان قد أبلى في الجهاد بلاءً حسناً فيما يرون، فارتاب بعض المسلمين، فقتل الرجلُ نفسه جزعاً من جراحٍ اشتدَّ به، فاشتدَّ بعض الصحابة، فبُشِّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكبَّر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " أشهد أني رسول الله " (¬2) أو كما ورد. وللحديث طرقٌ كثيرة وألفاظه مختلفة، وسيأتي في أحاديث القدر، فقد سُرَّ المسلمون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله نفسه لما تضمنه من صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كراهتهم لذلك لكونه معصيةً. فإن قلت: وما تلك الوجوه التي يجوز في العقل أن (¬3) يريدها الله تعالى بوقوع المعاصي؟ قلت: هذه العبارة في السؤال قبيحةٌ وغيرُ صحيحة كما مر تقريره، وسيأتي ¬
بيانُ كثيرٍ من حكم الله في التخلية وعدم العصمة في المرتبة الثالثة في الدواعي مع ما استأثر الله تعالى بعلمه من التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ هو ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء. فإذا تقرَّر ذلك فينبغي أن يعلم عذر من جوَّز هذه العبارة، وتأمَّل ما عوَّلوا عليه من الفرق بين المعاصي أنفسها، وبين وقوعها على بعض الوجوه. فأمَّا المعاصي فإن الله تعالى يكرهها بالنصِّ القرآني، ولا تُعَلَّقُ بها محبته ولا رضاه بوجهٍ من الوجوه كما لا يتعلق بها أمره ولا ثوابه، وسيأتي ذلك مبيناً. وأما وقوعها على بعض الوجوه فيجوز أن تُعَلَّقَ بها كراهة الله تعالى وإرادته معاً باعتبار الجهتين، كما مر تقريره في اليمين الواجبة شرعاً على المُنكرِ لما هو حق عليه في معلوم الله تعالى، ويمينه على جحده قبيحة كبيرة، ومع ذلك يحسُنُ إرادتها لغير الوجه الذي قبحت لأجله وهي من أوضح أمثلة ذلك كما تقدم، وكما يأتي. أما كراهته لذلك، فلقُبحه، وذلك واضح. وأما إرادته، فلوجهٍ حسنٍ مثل ما تقدم في اليمين، ومثل عقوبة من اشتد غضبُ الله عليه، كما تقدم عن موسى عليه السلام، ومن أوضح الأمثلةِ في ذلك (¬1) يعرفها المُحَدِّث، ومن لا يُمارس الكلام أمران: أحدهما: الفرق بين الحكاية والمحكي مثل قول النصارى: {إنَّ الله ثالثُ ثَلاثةٍ} [المائدة: 73] ونحو ذلك، فإن المحكي كفر (2) صريح بخلاف الحكاية، ولو كانت كفراً مثل المحكي لكَفَرَ كلُّ حاكٍ لذلك وأمثاله. وثانيهما: التلاوة والمَتْلُو، فإنَّ تلاوة الجُنب للقرآن قبيحة والقرآنُ غير قبيح، فمن هنا فرَّق البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين بين التلاوة والمتلوِّ في ¬
الخَلْقِ والحدوث، وصنَّف البخاري في ذلك كتاب " أفعال العباد ". وذكر البيهقي أن المخالف لهم في ذلك محمول على أنه لم يفهم مرادهم، لأن صحة مقصدهم بعد فهمه ضرورية والله أعلم. ومنه قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأئمة العدل بالظاهر وإن خالفَ حكم الله الباطن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار " متفق على صحته. وهو يدلُّ على التفرقة بين القضاء الذي يجب الرضا به، والمقضى به الذي لا يحل بالقضاء. وأما كراهة انبعاث المنافقين، فيحتمل أنه لأجل المفسدة ويحتمل أنه لأجل العقوبة، وقد يريد الله تعالى وقوع الذنب ليغفره كما صرَّحت به النصوص النبوية الصحيحة الشهيرة، وستأتي مبسوطة، وقد يريد الله لما يستأثر بعلمه من وجوه الحكمة. فإذا تقرَّر هذا جاز أن الله تعالى أراد وقوع أسباب المعاصي لا أنه (¬1) تعالى أراد وقوع المعاصي لوجوهٍ حسنة، وليس في هذه أنه لا يكره وقوعَ المعاصي لوجوه قبيحة، بل هي مكروهة من كل وجه. وأما وقوعها، فمكروه وجوباً من وجهٍ لا بُدَّ من كراهته من أجله، ويجوز من غير وجوب إرادته لوجه حسن، أو وجوه حسنة، فحيث طَبَّقَ أهل السنة إرادته من أجل ذلك ظن خصومُهم أن الوقوع غير مكروه من غير وجه، وأنه محبوبٌ من كل وجه، بل ظنوا أنه يلزمهم محبةً الواقع نفسه، والله لا يحبُّ الفساد، ولا يريد لماً للعباد كما قال سبحانه وتعالى. واعلم أن هذا التحقيق لا يقف على أن الوجود هو الموجود، لأن المحبة ¬
تشنيع المعتزلة على أهل السنة بمخالفة السمع
والكراهة يجوز خلقهما (¬1) بالأوصاف الإضافية غير الحقيقية، فإن الجميع من المتكلمين لم يقل أحدٌ منهم: إن وجوه الحسن والقبح التي هي متعلقاتُ هذه الأشياء صفاتٌ حقيقيةٌ، ولذلك تُعَلَّق المحبة والإرادة بعدم المضار، وبالتروك، وبنية الصوم وبنحو ذلك مما في بعضه خلاف دون بعض. وهذا الجواب إنما هو على أصول أهل السنة، وأمَّا غلاة الأشعرية، فإنهم يُجيبون بجوابهم المعروف في نفي الحكم عن أفعال الله تعالى مُطلقاً، ونفي التحسين فيها عقلاً. واعلم أن المعتزلة تُشَنِّع على أهل السنة بمخالفة السمع من نحو قوله تعالى: {والله لا يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] ومن العجب أنه لا يقرر هذه الآية وأمثالها على الظاهر من غير تأويل إلاَّ أهل السنة، ولا بُدَّ للمعتزلة وغيرهم من المبتدعة من تأويلها على بعض الوجوه. بيانه أنا قدمنا أن أهل السنة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه من محبة الطاعات وأهلها دون سائر الفرق لما مر تقريره في الصفات. فقوله تعالى: إنه لا يحب الفساد، لا يلائم مذهب المعتزلة إن مفهومه أن صفة المحبة جائزةٌ على الله تعالى، وإنَّما لم يُعَلَّق بالفساد لقبحه، ومفهومه أنه تعالى يُحب الصلاح والصالحين كما صرح به القرآن، لكن المعتزلة لا تجيز صفة المحبة على الله تعالى، ويقولون: إنها صفة نقصٍ، وإنه يجب تأويلها بالإرادة. وكذلك قوله تعالى: {ولا يَرْضَى لِعبادِه الكُفْرَ} [الزمر: 7] متى كان الرضا بمعنى المحبة. وأما قوله: {كُلُّ ذلك كان سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مكروهاً} [الإسراء: 38] فإن المعتزلة وافقت أهل السنة على تقرير الكراهة على ظاهرها، وهذا يُلزمهم ¬
الموافقة على تقرير المحبة من غير تأويل. وهم ظنوا أن المحبة تستلزم الشهوة، وأن الكراهة لا تستلزم النفرة، وهذا كلُّه تحكم، فإنهم إن رجعوا إلى قياس الخالق على المخلوقين، لَزِمَهم منعُ الكراهة لأنها في المخلوقين تستلزم النفرة بل منع الإرادة قول البغدادي منهم، لأنها في المخلوقين (¬1) تستلزم الحاجة وتلازمها، إذ لا يريد الملخوق شيئاً إلا لحاجته إليه في العاجل أو الآجل، بل منع صفات الكمال كلها من كونه تعالى عالماً قادراً حياً سميعاً بصيراً، لأنه لا يكون كذلك في الشاهد إلاَّ من كان جسماً مركباً من البنية المخصوصة، لا سيما صفة الحي عند المعتزلة، فإن شرط صحتها عندهم في الشاهد البنية المخصوصة. وإن تركنا هذا القياس الفاسد على الشاهد، والخيال الناشىء عن العوائد، ورجعنا إلى ما نطق به الكتاب، ودلت عليه الألباب من مزية ربِّ الأرباب عن مشابهة من خلقه من التراب، وأقذار نُطَفِ الأرحام والأصلاب، سلَّمنا (¬2) لعلام الغيوب جل وعز ما وصف به نفسه الكريمة، وذاته القديمة، وعلمنا أنَّ محبته وإرادته وكراهته وسائر صفاته المنصوصة في أشرف كتبه وعلى ألسنة رسله عليهم الكلام ليست مثل صفاتنا، مثل ما أن ذاته تقدست أسماؤه ليست مثل ذواتنا، وقد تقدم تقريرُ ذلك في الصفات فلا نُطوِّل بإعادة الأدلة عليه. وأما ما نقله النواوي في الوريقات التي سمَّاها كتاب " القواعد " عن الجويني (¬3) فإنه مع كونه خلافاً لفظياً كما سيأتي مخالف لمذهب أهل السنة قاطبة، ولمذهب المحققين من الأشعرية، وذلك أنه قال ما لفظه: مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته، وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله وقدره وهو مريدٌ لها، ويكرَهُ المعاصي مع أنه مريدٌ لها لحكمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى. ¬
تصريح الجويني بأن الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه
وهل يقال: يرضى المعاصي ويُحبها؟ فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمامُ الحرمين وغيره. قال إمام الحرمين في " الإرشاد " (¬1) مما اختلف أهل الحق في إطلاقه المحبة والرضا، وقال بعض أئمتنا: لا يطلق القول بأنَّ الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: {ولا يَرْضى لعباده الكفر} [الزمر: 7]. قال: ومن حقَّق ما قال أئمتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل الله تعالى يريد الكفر ويُحبه ويرضاه، والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد، وقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} المراد العباد الموفقون للإيمان وأُضيفوا إلى الله تشريفاً لهم، كقوله تعالى: {عَيْناً يَشْربُ بها عبادُ الله} [الإنسان: 6] أي خواصهم لا كلهم. انتهى بحروفه. وهو كلامٌ نازل جداً، بل باطلٌ قطعاً، وإنَّما وقع فيه الإمام الجويني مع جلالته في العلم لأمرين: أحدهما: ما ذكره من أن معنى المحبة والإرادة والرضا عنده واحدٌ، وتعلقه إنما هو بأفعال الله تعالى كما مر تحقيقه، وأفعاله تعالى مرضية محبوبة مجازاً عنده، لأنه لا يُجيزهما على الله تعالى حقيقة. وثانيهما: ما تقدم من تجويز تعلُّق محبة الله تعالى ورضاه بالوقوع دون الواقع، والوجود دون الموجود حقيقة عند أهل السنة ومجازاً عند الإمام الجويني كوجود الكافر، فإنه تعالى يحب وجوده وليس ذلك يستلزم أنه يحب وجود الذنب منه، ولا يستلزم ذلك محبة الذنب نفسه، ولا أنهما سواء. وهذا بناء على تلازم الإرادة والمحبة، وهو بحثٌ نظري لم يرد به نص شرعي (¬2)، فينبغي من السني الأثري ترك هذه العبارات الكلامية، وعدمُ ¬
اعتقادها، وإنما هي من محارات الأشعرية للمعتزلة. والغرض بذكرها وأمثالها هنا بيان الوجه في ترك تكفير الخائضين في ذلك، وقبول الرواية من ثقاتهم، وإنما قطعنا ببطلان كلام الجويني، لأن الكفر هو متعلِّق الكراهة والسخط والغضب، فلا يصح أن يكون هو متعلق الرضا والمحبة، لأن هذه الألفاظ إما أن تكون حقيقةً أو مجازية، إن كانت حقيقية كما هو مذهب أهل الحديث والأثر، استحال اتحادُ متعلقها ضرورة، وإن كانت مجازية (¬1) استحال اتحادُ لوازمها وعلائقها. أما لوازمها فإن الذم والعقاب يلازم الكراهة والسخط والغضب، والثناء والثواب يلازم المحبة والرضا كما حققه الشهرستاني أولاً، بل كما يشهد به المنقول والمعقول، ويستحيل تخلُّف الملزوم عن لازمه فيؤدى إلى اجتماع الذم والثناء، والثواب والعقاب من كل وجه. وأما علائقها فإن علماء اللسان أجمعوا أنه لا يصح المجاز إلاَّ بعلاقة ظاهرة، فلا يصح تسمية الجبان أسداً بغير علاقة، ولا تسمية الأبخر أسداً بالعلاقة الخفية، لأن كل شيئين مشتركين في أمرٍ، وفي الشيئية لا يجوز أن يُسَمَّى أحدهما باسم الآخر لمثل هذا إجماعاًً. فتسمية الطاعة المرادة مرضية محبوبة إنما صحَّ مجازاً، لأنها اشبهت الأمورَ المرضية المحبوبة في الثناء والثواب، وهذا الشبهُ الذي صح معه التجوز هنا لم يحصُل في المعصية، وإن قدرنا أنها مرادة فلا تسمى مرضية محبوبة. وأما اشتراكهُما في أن كل واحد منهما يُسمى إرادة فلا يكفي في استعارة اسم كل منهما للأخرى، كما لا يكفي اشتراكُ العلم والإرادة في أنهما عرضان، يوضح ذلك أن اشتراكهما في اسم الإرادة لو كان يُصحح التجوز بكل منهما عن الآخر، لوجب أن يصح تسمية الطاعة مكروهة مسخوطة مجازاً ¬
وحقيقة، ذلك أنها مرادةٌ لا سوى، فكما أن هذا يمتنع لفقد قرينة التجوُّز وهي النهي، وفقد ملزوم هذه الألفاظ وهو الذم والعقاب، فكذلك العكس. وأوضح من هذا أنه يصح عند الأشعرية تسمية المؤمن محبوباً مجازاً يرجع في الحقيقة عندهم إلى الإرادة، ولا يصح أن يسمى مسخوطاً مجازاً، وعكسه الكافر يسمى مسخوطاً مجازاً، ولا يسمى محبوباً مجازاً مع أن هذه الألفاط كلها راجعة إلى الإرادة، ولكن تختلف أسماؤها لاختلاف معانيها ومتعلقاتها. ولو صح تسمية الكفر محبوباً لله مرضيّاً مجازاً، لصحَّ تسمية الكفار أولياء الله وأحباءه مجازاً، لأنه أراد وجودهم لحكمة كما أراد وجود أسباب معاصيهم لحكمة. وقد صح بالنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، وأنه أشدُّ فرحاً بها من العبد إذا وجد راحلته عليها متاعهُ وسِقاؤه بعد أن أضلَّها في أرض فلاةٍ، وأيس من وجدانها، وألقى نفسه ليموت، فبينا هو كذلك إذا أقبلت راحلته عليها متاعه وسقاؤه، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك براحلته (¬1). وبالإجماع يمتنع التجوز بمثل هذا في فرحه بمعصيته، وفرح الرب عز وجل هذا لا يدل على تقدم عجزٍ عن هداية العبد كما ظنته المعتزلة، ولا بد للمعتزلة من تأويله كما يتأولون الغضب والمحبة، وأهل السنة يثبتونه كما ورد من غير تشبيه، والعبد العاجز يفرح بحسنته، ولا يلزم من فرحه تقدم عجزه، فكيف يلزم ذلك من فرح القادر على كل شيء سبحانه وتعالى. ¬
وكما أن هذا يُفْحِمُ من ذهب إليه من الأشعرية، فإنه أيضاً يفحم المبتدعة من المعتزلة، فإنهم ذهبوا إلى تلازم الإرادة والمحبة، وإرادة الله تعالى متعلقة بالكفار وجوداً دون محبته، مع أن محبته عند المعتزلة ترجع إلى الإرادة أيضاً، ولكن مُتعلَّقها لا يصح إتحاده عندهم كما هو الصحيح عند الأشعرية. فإيَّاك أيها السُّني والاغترار بكلام الجويني هذا، فإنه خلاف الكتاب والسنة والفطرة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين. على أن الإمام الجويني من أقرب الأشعرية إلى المعتزلة حتى عَدُّوه من الغُلاة في أثر قدرة العبد، فإنه جوَّز تأثيرها في إيجادِ الذوات، وزاد في ذلك على المعتزلة كما يأتي بيانه. وما أحسن قول معاذ في سياق أثر عنه طويل: واتقِ زيغة الحكيم، قال الراوي: فقلت له: يرحمك الله وما زيغةُ الحكيم (¬1)؟ قال: هي التي يقال ما هذه ما هذه. خرجه أبو داود في آواخر كتاب السنن (¬2).؟ فإن قلت: هلا جوزت تسمية القبيح المقدر محبوباً من الوجه الذي قُدِّرَ لأجله، فإنه قدر لمصلحة راجحة ولم يكن تقديره عبثاً ولا سُدى، ولا يمنع من ذلك كونه مكروهاً لوجه قبحه لاختلاف الجهتين كما ذكرته في الوقوع، فلم منعته في الواقع ولو مجازاً مع ظهور العلاقة، وهي تقدير الحكيم له. ¬
قلت: لأن كلامنا إنما هو في تسميته محبوباً من فِعْلِ العبد وكسبه، وليس له من هذه الجهة وجهٌ يُرضى ويُحبُّ، لأنه قُدِّرَ مكروهاً. وأما وجه حسن تقديره، فهو راجع إلى فعل الله، وفعله سبحانه محبوب مرضي حقيقة عند أهل السنة، ويستحيل تعلُّق الغضب به من حيث هو فعله. وهذا هو الجواب على من قال: كيف قبحُ الذنب من المعاصي مع حسن تقديره من الله لحكمةٍ راجحة؟ ومن هذا الوجه يجب الرضا بالقضاء بالشرور، والقبائح مع كراهتها كما قاله الغزالي وغيره، وذلك مثل الرضا بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون المقضي به، حيث قال: " إن أحدكُم يكون ألحن بحجته فأقضي له، فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعةً من النار " (¬1) أو كما ورد، وهو متفق على صحته. والتمثيل به تقريبٌ لفهم البليد، وإلا فالبَوْنَ بين القضاءين بعيدٌ، فإن أراد ذلك الإمام الجويني فصحيح، ولا ينبغي أن يختلف فيه أهل الحق، لكن يختلفون في جواز إطلاقه لأنه يُوهم الخطأ، وهو كون المعاصي مرضية من جهة كسب العبد. فافهم ذلك. فإن قلت: قد صدَّرت الجواب على المعتزلة بأن ما (¬2) ألزموه أهل السنة من كون المعاصي محبوبةً غير لازم على جميع أقوالهم، ثم حكيت عنهم الاختلاف في ذلك، ونسبته إلى إمامهم الجويني، وهذا تناقض! قلت: لم يختلفوا في أنها محبوبة قطعاً، إنما اختلفوا في صحة إطلاق هذه العبارة مجازاً، وذلك يقتضي منع حقيقتها، فتأمل ذلك. وقد أوضحت المنع من إطلاق ذلك مجازاً عند أهل السنة وجماهير أهل الكلام، ولله الحمد. ¬
بحث مع المعتزلة في قولهم: إرادة القبيح قبيحة
قالت المعتزلة: إرادة القبيح قبيحة على كل وجهٍ، والله تعالى عندكم مريد للقبيح. قلت: الدعوتان ممنوعتان معاً. أما الدعوى الأولى: وهو أن إرادة القبيح قبيحة على كل وجهٍ فممنوعة. بيانه: أنها ليست بقبيحة لذاتها، ولا لذات القبيح عند المعتزلة، لأنها لو قبحت لذاتها (¬1)، قبحت كل إرادة، وقبحت إرادة الحسن، ولو قبحت لذات القبيح، كان القبيح قبيحاً لذاته، ولو كان قبيحاً لذاته، قبح الحسنُ أيضاً، لأن ذات القبيح والحسن واحدة، وهي الحركة والسكون، بل المرجعُ بهما عند المعتزلة والأشعرية إلى مُجَرَّد لبث الجسم في الجهة، كما هو مقرَّرٌ في الكلام، وقد مر في ذمِّ الكلام. فثبت أن قبح إرادة القبيح عند الخصوم أمرٌ عارض يجوز خلوها عنه، ويبدلها بعارض آخر يحسن معه. ونظيره إرادة الحسن، فإنها حسنة لتعلُّقها بوجه حُسنه، ومتى عَرَضَ لها عارض يقتضي القبح، قبحت. ولذلك أمثلة كثيرة، منها متفق عليه، ومنها مختلفٌ فيه، ومن أحسنها إرادة اليمين الواجبة شرعاً، وكراهتُها تجب من الوجه الذي قبحت منه عقلاً وشرعاً. ولا يقال: إن هذه الصورة غير ما نحن فيه، لأن اليمين في هذه الصورة قد ورد الأمرُ بها، والمحبة بخلاف المعاصي، لأنا نقول: إذا جاز تعلق الأمر والنهي والمحبة والكراهة بأمرٍ واحد لاختلاف وجوهه وعوارضه ولوازمه، جاز تعلق الإرادة والكراهة بذلك وبأمثاله أولى وأحرى. وكذلك الأمرُ باللعان. ¬
وكذلك قول موسى عليه السلام للسحرة: {ألْقُوا ما أنْتُم مُلْْقُونَ} [يونس: 80]. وكذلك ما ثبت في " الصحيح " من استحباب سؤال القتل في سبيل الله، وأن من سأل ذلك صادقاً، أُعطي فضل الشهادة (¬1). وكذلك ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة (¬2)، وعُبادة (¬3) وأبي هريرة (¬4)، وأبي موسى (¬5) عنه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ كَرِهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه ". وتفسير ذلك أن الكافر لا يموت حتى يعلم أنه من أهل النار، فيكره لقاء الله، فيكره الله لقاءه، والمؤمن لا يموت حتى يُبَشَّر بالجنة، فيحب الموت، فيحب الله لقاءه. وفي ذلك أن الله تعالى قد يريد وقوع ما يكره لحكمة مثل لقاء الكافر، والنكتة العقلية في ذلك أن الله لما كان لا يريد الشر، فإن قدره، فلحكمةٍ هي خير، وهي المراد به كما قَدَّر القِصاص للحياة، واليمين الغموس لاستيفاء الحقوق. فكان التحقيق أن المراد هو ذلك الخير، ولذلك لم يأتِ نصٌّ بأن شيئاً من ¬
الشرور مرادٌ لله، لأن المراد به غيره، ولأنه يوهم أنها إرادة طلب ورضا، وأنه مرادٌ لذاته. ومن أهل السنة من تجاسر على تسميته مُراداً، وإن كان قبيحاً، وإن كان مُراداً لغيره، والأولى تركُ ذلك لإيهامه، ولعدم النصِّ فيه. ومن أمثلته المجمع عليها عند الخصوم، جواز كراهة المعاقب لعقاب نفسه المستحق، لكونه مَضَرَّة لنفسه، لا لكونه حسناً مع إرادة الله له وحسنها وحسنه. ومن أمثلته عند أبي الحسين من المعتزلة: أن المكروه يجوز أن يسمى بذلك، لأن الله يكرهه من جهة نقصه لا من جهة حُسنه. ذكره في " المعتمد ". ويعبر أهل علم المعقولات عن ذلك بإرادة الشر لأجل الخير كالحجامة، فالخيرُ هو المقصود الأول، وهو الذي يُراد لذاته، والشر هو المقصود الثاني، وهو الذي يُرادُ لغيره، كالحجامة ترادُ وسيلة للعافية، ولا يريد الحكيم الشر بمجرد كونه شراً قطعاً. ومن أمثلة ذلك ما جرى من الخَضِرِ عليه السلام مما ينكره العقل والشرع في بادىء الرأي قبلَ كشفِ أسرار الأقدار. وكذلك جميع المقدورات المقبَّحة في العقل والشرع، بل من ذلك إرادة موت الأنبياء عليهم السلام والصالحين، فإنها تحسنُ من الله تعالى عند المعتزلة، لأنها متعلقة بداعي حكمة، مع أنها تقبُحُ من الشياطين وأعداءِ الإسلام حيث يُريدون ذلك لأغراض قبيحة. وكذلك تمكين الكُفار من حرب الأنبياء وقتلهم يحسُنُ عند المعتزلة من الله تعالي، ولا يحسن من غيره لاختلاف الوجوه، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم حيث قال في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].
وروى الزمخشري (¬1) في تفسيرها: أنها لم تدلُّ على التحريم، وأنها لما نزلت شَرِبَ الخمر ناسٌ، وتركها آخرون. وروى الحاكم (¬2) عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّبٍ أن عمر رضي الله عنه قال: " اللهُمَّ بيِّن لنا في الخمر، فنزلت: {لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنْتُم سُكارى} [النساء: 43]، فقال: اللهُمَّ بيِّنْ لنا في الخمر، فنزلت: {فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس} فكأنها لم تواقق من عمر الذي أراد، فنزل {إنَّما الخمر والمَيْسِرُ} إلى {فهل أنتم مُنتهُون} [المائدة: 90] ققال عمر: انتهينا يا رب. قال الحاكم: صحيح. قلت: وخرَّجه النسائي (¬3) من غير طريق الحاكم إلى أبي إسحاق، عن أبي ميسرةَ، عن عمر بنحوه. ورواه أبو داود، والترمذي (¬4) عن عمر، وقال الترمذي: حديث صحيح. وخرج أبو داود (¬5) عن ابن عباس أن آية المائدة نسخت {لا تقربُوا الصلاةَ وأنْتُم سُكارى} [النساء: 43]، {قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس} [البقرة: 219]. ¬
ويوضحه أن الخمر لم تحرَّم إلاَّ مرة واحدة، وأن تحريمها كان بآية المائدة، فقد صحَّ معنى ذلك، وفيه أوضح دليلٍ على جواز تعلُّق الإرادة والكراهة بأمر واحد لاختلاف الوجوه والاعتبارات. والتحقيق أنه لما كان قبح القبيح غير ذاتي، وإنما نشأ من تعلُّق إرادة فاعله بإيقاعه على وجهٍ مخصوص، كان الوجه في قبح إرادته هو تعلقها بذلك الوجه المخصوص، لأن قبحها تبعٌ لقبح القبيح، فكان منشأ قبحها من جهة واحدة، وتلك الجهة عند الأشعرية هي مخالفة الأمر، وعند المعتزلة وكثير من أهل السنة هي الوجه المخصوص الذي وقع الفعل عليه، وكان علةً في التحريم الشرعي، وليست الإرادة تؤثر في قُبح القبيح عند المعتزلة كما يأتي في مسألة الأفعال. فثبت أن هذه العوارض التي قُبح الفعل وإرادته لأجلها منفصلة عن إرادة الله تعالى لو قدرنا ما ليس بصحيح من خلق إرادة الله بعين ما هو فعل العبد. بيانه: أن فعل العبد يقعُ منه تارة أمتثالاً لله تعالى، وإرادة لطاعته عز وجل بداعي الرغبة أو الرهبة أو المحبة، فيوصف بأنه طاعة وعبادة، وتتعلق به حينئذ محبة الله ورضاه، وأمره ووعيده، وثناؤه وثوابه حقيقة، وإرادته ومشيئته مجازاً. وتارة مخالفة للأمر ضعفاً وعجزاً، أو شهوةً أو نفرة، فيوصف بأنه معصية وسيئة. وتارة مخالفة للأمر استهانة وجحداً، فيوصف بأنه كفر. ولا يصح أن يريد الله تعالى وقوعه ممن لم يستحق العقوبة على وجه من هذه الوجوه على جهة الإضلال ابتداء لقوله: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26]. وإنما يجوز عقلاً أن يريد وقوعه ابتداء قبل استحقاق العبد لعقوبته ابتلاء، ولا يُسمى إضلالاً لما لا يُحيط بعلم جميعه إلاَّ هو سبحانه و {لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا} [البقرة: 32] كما قالت الملائكة، {ولا يُحيطونَ بشَيْءٍ من عِلمِه إلاَّ
بما شاء} [البقرة: 255] كما قال في أفضل آية في أشرف كتبه الكريمة. وفائدة هذا التجويز العقلي هو الإيمان بما وردت به النصوص من ذلك إن وردت بشيءٍ منه، لأنا ندعي أنها قد وردت بذلك، إنما ورد ما يدلُّ عليه بلفظ آخر، فنؤمن بذلك اللفظ، ولا نبدله بلفظ منا، لأن لفظ الشرع إن كان جليّاً فيما فهمنا، فهو أبركُ وأقطع للنزاع، وإن كان خفياً، لم نأمَنِ الخطأ في تبديله، ولم يُعنَّف من خالفنا في تأويله. والفرق بين هذا وبين قول المعتزلة أنهم يقطعون بنفي قدرة الله على اللطف بالعصاة، ونحن نقطع على قدرته على ذلك. وإنما وقفنا في متعلق إرادته هل هو أفعاله سبحانه التي علم أن (¬1) أفعال العباد تقع عندها، كما هو قول الأشعرية المحققة، أو هو الواقع، والوقوع من الطاعات دون الواقع من غيرها؟ فهذا موضعٌ مُشكِلٌ دقيق، وحظُّنا فيه ومنتهانا الإيمان بالنصوص على ما أراد الله، وعدم تبديلها بعبارةٍ أُخرى، والراجح عقلاً أن إرادته تعالى لا تُعَلَّق (¬2) إلا بأفعاله، والله سبحانه أعلم، فينظر في السمع وما فهَّمناه سبحانه من ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - محبة (¬3) ظهور حلمه وعفوه ونعمه في الدنيا على جميع خلقه من أهل السعادة والشقاوة، وفي الآخرة خالصاً لأهل السعادة، وزيادة الحجة على الأشقياء في الدارين، وذلك بمجموع أدلة: منها: ما روى مسلم في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لو لم تُذْنِبُوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم ". وفي رواية: " يُذنبُون كي يغفر لهم " وهو حديث صحيح مشهور. ¬
خرجه مسلم في كتاب التوبة، وأحمد بن حنبل في " المسند " من حديث جماعة من الصحابة. ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬1) من حديث أنس، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي أيوب الأنصاري. وهذه طرق مسلم: حدثني محمد بن رافع (¬2)، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري -هو (¬3) ابن برقان- عن يزيد بن الأصمِّ، عن أبي هُريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفرُ لهم " (¬4). قال المزي في " الأطراف " (¬5): زاد أبو مسعود (¬6) وحده: أن عبد بن حميد تابع محمد بن رافع، عن عبد الرزاق. ورواه أحمد (¬7) من حديث زهير بن محمد التميمي (¬8)، عن سعدٍ أبي مجاهد الطائي، عن أبي مُدِلَّة مولى عائشة، عن أبي هريرة مرفوعاً به. ¬
وخَرجه الحاكم في التوبة من " المستدرك " (¬1) من طريقٍ أُخرى عن الربيع ابن سليمان، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن درَّاجٍ، عن ابن حُجيرة (¬2)، عن أبي هريرة، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فهذه ثلاث طرق عن أبي هريرة وحده. قال مسلم (¬3): حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا ليثٌ، عن محمد بن قيس قاصِّ عمر بن عبد العزيز، عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب، أنه قال حين حضرته الوفاة، قال: كنت كتمتُ عنكم شيئاً سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لولا أنَّكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فَيغْفِرُ لهم ". حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، هو عبد الله، حدثني عياضٌ، وهو ابن عبد الله الفهري، قال: حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن محمد بن كعب القُرظي، عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لو أنكم لم يكن لكم ذنوبٌ يغفرها الله لجاء الله بقوم لهم ذنوبٌ يغفرها لهم ". وخرجه الترمذي (¬4) في الدعوات عن قتيبة بإسناده المتقدم وقال: حسن غريب. قال المِزِّي (¬5): رواه عبد الرحمن بن أبي الرِّجال، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، كلاهما عن عمر مولى غُفرة، عن محمد بن كعبٍ، عن أبي أيوب (¬6). ¬
ورواه عبد الله بن صالح، عن الليث، عن محمد بن قيس، عن محمد بن كعب، عن أبي صرمة، عن أبي أيوب. قال المزي: وهو أشبهُ بالصواب ممن أسقط منه محمد بن كعب. قلت: ولهذا قال الترمذي: إنه حديثٌ حسن غريب، يعني: بإسقاط محمد بن كعب، وإلا فهو حديثٌ صحيح شهير. وحديث أبي أيوب متفقٌ على صحة قواعده بالإسناد الأول، لم يختلف في توثيق رجاله ليس فيهم إلاَّ عِياضٌ، وقد وُثِّق، وهو حسن الحديث، وإبراهيم بن عبيدة: وثَّقه أبو زرعة ولم يُعارض بتضعيفٍ، وهارون بن سعيد: فقيه ثقة لم يختلف فيه، فثبت الحديث في الكتب الستة أربع طرق طريقان على شرط الصحاح المتفق عليها، وطريقان على شرط الحسان مع ما له من الشواهد في سائر المسانيد عن الصحابة الذين ذكرناهم أولاً (¬1). فقد رُوي من غير وجهٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. منها: عن أنس، رواه أحمد (¬2) وأبو يعلى، وقال الهيثمي (¬3): رجالُه ثقات. ومنها: عن ابن عباس (¬4) رواه أحمد، والطبراني في المعجمين " الكبير " و " الأوسط "، ورواه البزار وفي إسناده يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري وهو ضعيف وقد وثق، وبقيتهم ثقات. ومنها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص (¬5)، رواه الطبراني في معجمه " الكبير " و" الأوسط "، والبزار، ورجالُه ثقاتٌ، وفي بعضهم خلافٌ. ¬
ورواه الحاكم في التوبة شاهداً لحديث أبي هريرة المتقدم من طريق أبي بلجٍ يحيى بن سليم، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عمر. ومنها: عن أبي سعيد رواه البزار (¬1)، وفيه يحيى بن كثير (¬2) صاحب البصري ضعيف. وفي هذه الأحاديث الشريفة تنبيهٌ على حكمة واحدة من حِكَمِ الله تعالى في تقدير المعاصي، وهو ظهورُ كثير من آثار أسمائه الحسنى من فضله وعفوه ولطفه وحلمه، ونحو ذلك بسبب تخليته سبحانه بين العبد والذنب. فأيُّ قُبح في محبة الرب جل جلاله لظهور آثار أشرف محامده، وهي الإحسان بعد الإساءة، والحلم بعد العلم بالعظائم، بل بعد طلب أهلها لتعجيل العذاب تكذيباً لمن توعدهم به، كما حكى الله سبحانه عنهم في قوله تعالى: {ويَستعْجِلونَك بالعذاب} [الحج: 47]، [العنكبوت: 53]. ولهذا قيل في محامد الرب سبحانه: الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى إحسانه بعد إساءتنا. ولذلك عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أفضل البر، بل جعل الإحسان قبل الإساءة كلا إحسان بالنظر إليه بعدها. ففي " صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " ليس الواصِلُ بالمكافيء، الواصل من إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها ". وخرجه أبو داود والترمذي، ولفظ أبي داود " انقطعت رحمُه " (¬3). ¬
وفي الباب عن أبي هُريرة خرَّجه مسلم (¬1)، وطرق ذلك في الكتب الستة معروفةٌ وشواهدها كثيرة شهيرة. وعن علي رضوان الله عليه، قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أدُلُّك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة: أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وأن تعفو عمَّن ظلمك ". رواه الطبراني " في " المعجم الأوسط " من طريق الحارث بن عبد الله الهمداني (¬2). وعن عقبة بن عامر: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: " صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرِضْ عمن ظلمك ". وفي رواية: " واعفُ عمَّن ظلمك " رواه أحمد والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات (¬3). وعن كعب بن غُجرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " ألا أدُلُّكُم على خير أخلاق الدنيا والآخرة: من وصل من قطعه، وعفا عمن ظلمه، وأعطى من حرمه " رواه الطبراني مسنداً ومرسلاً. وفي المسند: محمد بن جابر السُّحيمي مقارب الحديث (¬4). ¬
وعن مُعاذ بن أنس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الفضائل أن تَصِلَ من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتصفح عمَّن شتَمك " رواه الطبراني، وإسناده حسن (¬1). وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً نحو ذلك (¬2). وعن أُبي بن كعب مرفوعاً نحو ذلك (¬3). ويشهدُ لمعناه من كتاب الله مثل قوله: {ويَدْرَؤونَ بالحسنةِ السيئةَ} [الرعد: 22]. {وما يُلقَّاها إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]. وفي " جامع الأصول " (¬4)، و" البخاري " في تفسير قوله تعالى في حم السجدة: {ادفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ} [فصلت: 34] عن ابن عباس قال: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فَعَلُوه عصمهم الله، وخضع لهم عدوهم. ذكره البخاري بغير إسناد (¬5)، ولم يُسنده ابن حجر، لكنه بصيغة ¬
الجزم. ويشهدُ له: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]. فإذا تقرَّر هذا، فإن الرب سبحانه وتعالى يحب من كل خير، وفضل، وبِرٍّ، ومعروف، وإحسان، وعفو، وتكرُّم أعظمه، وأكمله، وأتمه، وأفضله، وأحسنه، وأجمله، قال الله تعالى في نحو ذلك بعد ذكر من لا يُهدى أبداً: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58] فسمى الله تأخير العذاب مغفرة ورحمة، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [الجاثية: 14]، وقال تعالى: {فاعفُوا واصفحوا} [البقرة: 109]. وفي هذه الآيات والآثار دلالةٌ على أن المغفرة في الدنيا بعد الذنوب مما أراده الله سبحانه، وتمدَّح به، وأمر به المؤمنين، وندبهم إليه، ثم إذا لم يلتطِفْ عبد السوء بالرحمة والعطف، ولم ينتفع بالرفق واللطف، أذاقه الله تعالى من العذاب الأدنى تارة على جهة التكفير، كما جاء فيم حدود المسلمين وآلامهم، وتارة على جهة التذكير، كما قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] ثم بعد ذلك يعاودُ الإمهال، وإقامة الحجة بكثرة النعم، ثم بعد ذلك ينتقم منهم للمؤمنين، ويجعلهم موعظة للمتقين كما وردت به النصوص إلى غير ذلك من الحكم والغايات الحميدة، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 43 - 45]. ¬
فأشار بقوله: {والحمدُ للهِ ربِّ العالمين} إلى استحقاقه الحمد على ذلك، لما يصحبهُ من الحجة الدامغة، والحكمة البالغة في نصر المؤمنين، والانتصاف للمظلومين، وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75]. بيان ذلك أنه لما كان موجب كمال صفات الله تعالى وملكه الحق يقتضي أن يكون ملكاً عزيزاً مخوفاً مَهيباً يُخاف ويُهاب، ويُخشى ويُتَّقى مثلما يُسترحمُ ويُستعطف، ويُسأل ويُرتجى كما سيأتي في آخر مسألة الأفعال في ذكر اسمه الضار النافع، وبيان أن ضره عدلٌ ونفعٌ وحكمة، كان من موجب كماله في الملك والربوبية، وموجب صفاته التي يستحيل تعطيله عنها، ويستحيل تخلُّف آثارها عنها، وسلبُ أحكامها منه، أن عبد السوء متى أصرَّ على عصيانه، وتعدى حدوده وتجبَّر على أوليائه، ولم يشكر النعمة في إمهاله، وإقاله عثرته، ولا قبل ما عَرضَه له من غُفرانه، وعلم الله سبحانه إصراره على مثل ذلك لو عاد له بالإمهال، جاز أن يُبَدِّلَ تلك الرحمة بالسخط والرفق بالعُنف، والنعمة بالعقوبة، والتيسير لليسرى بالتيسير للعسرى لما يأتي من وجوه الحكمة في تقدير الشرور والعقوبات، وله في ذلك الحكمة البالغة، والحجة النيرة. قال الله سبحانه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 211]. وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10]. وقال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَة} [آل عمران: 176]. وقال سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
وقال عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]. وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56]. وقال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوه} [التوبة: 77] الآية. وحكى الله تعالى عن كليمه عليه السلام قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} [يونس: 88]. وحكى عن خير ابني آدم أنه قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَك} إلى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 28 - 29]. وتقدم في آيات المشيئة من هذا طرف وهو قرآنيٌّ معلوم، وتأويله ممنوعٌ، لمثل ما تقدم من المنع من تأويل آيات المشيئة، حتى جاء في كتاب الله تعالى استنكارُ خلافه في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [آل عمران: 68 - 89]. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]. فقوله: {على عِلمٍ} إشارة إلى ما علم الله من استحقاقه الإضلال عقوبة
والله أعلم. ثم أن العقوباتِ لا تخلو من الحكم والغايات المرجِّحة الحميدة، المرجحة لها على العفو كالانتقام لأولياء الله تعالى مرةً، والموعظة لهم أخرى، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [التوبة: 14 - 15]، وآخرها مثل قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 26 - 27]. وهذا تخصيصٌ لعموم مفهوم {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِم} كما خصه الله في آخرها بقوله: {إلاَّ الَّذين تابُوا}، وفي قوله: {والله عليمٌ حكيم} تعليل التخصيص بالحكمة والعلم لا بمجرد الاتفاق كما ذلك يعلل به في آخر آية المُرْجَين لأمر الله في سورة التوبة [106]. وقال: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 66] وهذا يعمُّ عقوباتهم كلها سواء كانت بالحرب في الدنيا، أو بالأمراض، أو بعذاب الآخرة، أو بالإضلال المُؤدي إلى ذلك، وهو مشهورٌ في كلام علماء الإسلام حتى في كلام أئمه الزيدية، ففي كلام المنصور بالله عليه السلام مع شدته في الرد على الجبرية ما لفظه في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، والعقوبة يجوز إنزالها بالمستحقين ويجوز تقديم شيءٍ منها في الدنيا كما فعل بالمستهزئين (¬1). وكذلك قوله (¬2) تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] قال: فالمراد بذلك تنزيهُها (¬3) ¬
تلخيص في متعلق كراهة الله وإرادته
من خوف العذاب وغمِّ الآلام لمجاهدتهم له بالمعاصي، وذلك جائزٌ واللاَّئمة عليهم دونه تعالى. ذكر ذلك في " الأجوبة الشافية عن الأسئلة (¬1) الشافية " في " المجموع المنصوري ". وقال فيه في " رسالة الإيضاح لمعجمة الإفصاح ": الكلام على ذلك أن الله تعالى إذا أراد خذلان عبده وكَلَه إلى نفسه، وسلبه توفيقه عقوبة له على فعله. وقال في الجزء الثالث في جواب كتاب من القاضي علي بن نشوان (¬2) وقد ذكر سبهم له: وهذا خذلانٌ نعوذُ بالله منه، لأن الله تعالى إذا أراد خذلان عبده وكله إلى نفسه، وسلبه توفيقه ... إلى قوله: ولكن هذه سنة الله في مُعَارِضِ الحق عمداً أن يسلُبَه الله التوفيق والصواب فيما هو فيه. انتهى بحروفه. وتقدم عن قدماء أهل البيت عليهم السلام النصُّ على مثل قول أهل السنة في المشيئة والقدر، والتصريح به كما ذكره في " الجامع الكافي "، وفي الرسالة المنسوبة إلى الحسن البصري تصريح بمثل كلام المنصور بالله عليه السلام، واحتجاج بقوله: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها. فتلخص أن كراهة الله تعالى تُعَلَّقُ (¬3) بالوجوه التي قَبُحت القبائح لأجل قُبحها (¬4) مجرداً عن النظر إلى تلك الوجوه، وإرادته تُعَلَّق بما هو فعله سبحانه، وليس من أفعال العباد، ولكنه يلابس أفعال العباد ملابسة لا تُمَيَّزُ لكثير من ¬
الكلام في معنى الدعوى الثانية للمعتزلة: أن أهل السنة يعتقدون أنه تعالى مريد لقبائح أفعال العباد
الناس، إما ذواتها على قول أو أسبابها ومقاديرها على قول (¬1). وإن كان متعلق الإرادة والكراهة لفظاً إضافيّاًَ عدمياً، فإنه يَصِحُّ إرادة ذلك، كما يصحُّ إرادة التروك ونية الصوم، وإرادة عدم المضارِّ. ويُشبه هذا تعلق كراهته تعالى وعداوته بالكفار مع تعلق (¬2) إرادته ومشيئته بهم، لكن المتعلق مختلف، فإن متعلق كراهته صفات أفعالهم التي قبحت لأجلها، ومتعلق بُغضه، وغضبه وسخطه وعداوته عند المتكلمين ذمهم وعقابهم، ومتعلق إرادته ومشيئته وجودهم وبقاؤهم، وقد توصف الذوات بالحسن والقُبح عُرفاً، وتتعلق بها الإرادة والكراهة في ظاهر اللفظ توسُّعاً شائعاً (¬3) حتى صار حقيقة عرفية مفهومة من غير قرينة ولا مشاحة في العبارات مع إرشاد القرائن إلى المقصود، فكيف مع نصوص أهل السنة على مقاصدهم؟ فوضح منع الدعوى الأولى، وهي (¬4) قبحُ (¬5) إرادة القبيح على جميع الوجوه مُطلقاً من غير تقييد. وأما الدعوى الثانية: وهي أن أهل السنة يعتقدون أنه تعالى مريدٌ لقبائح أفعال العباد لأجل قبحها ووقوعها على الوجوه التي قَبُحت لأجلها، فدعوى باطلةٌ ممنوعة أيضاً، لأنا قد بَيَّنَّا أنهم ما عَنَوْا أنه يحبها ولا يرضاها ولا يريدها منهم إرادة الطلب التي تلازم الأمر، ويعدى بحرف " من " كما مضى مقرراً في تفسير كلام جعفر الصادق عليه السلام الذي رواه عنه الشهرستاني، وكلام أحمد بن عيسى بن زيد الذي رواه صاحب " الجامع الكافي ". وبيَّنَّا هناك أن الإرادة تختلف معانيها بحسب تعديها بنفسها (¬6) إلى مفعولها الأول، وتعديها بحرف جرٍ إلى مفعولها الثاني، وأن ذلك الحرف إن كان " من " دلَّ على ملازمة الإرادة للطلب والأمر كقوله تعالى: {ما أُريدُ منهم من رزقٍ} [الذاريات: ¬
57]. وعلى هذا لا يجوزُ أن يقال: إن الله تعالى أراد المعاصي من العباد، لأنه يستلزِمُ أنه طلبها منهم، وعليه يُحملُ قوله تعالى: {ما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنس إلا لِيَعْبُدون} [الذاريات: 56] أي: لطلب ذلك منهم، وأمرهم به، ومحبة شرع ذلك لهم ديناً يتقربون به، وقد يُسمى هذا الطلب والمحبة إرادة كما مضى. وإن كان الحرف (¬1) هو الباء الموحدة أو اللام كانت الإرادة ملازمة للعلم، وكان المفعول الثاني (¬2) كالعلة في الأول غالباً، ودلَّ تخلُّفه على عدم قُدرةِ من أراده. وعلى هذا قال أهل السنة: إن الله تعالى ما أراد بالكفار الطاعة والجنة، ولا أراد ذلك لهم، لأنه لو أراد ذلك بهم ولهم، كان كما أراد، ولو لم يكن كما أراد استلزم عقلاً وسمعاً ما لا يجوزُ على الله تعالى من العجز، لأن معنى أرادها بهم ولهم: أراد أن يَهديَهم لها، ولذلك قالت المعتزلة: إنه لا يَقْدِرُ على هدايتهم عز وجل عن ذكر ذلك، وجمع ذلك، فإن الله تعالى يكره المعاصي ولا يحبها، ولا تناقض بين ذلك لاختلاف الجهات التي تعلقت بها إرادته وكراهته. وسيأتي جواز تعلق المحبة والكراهة بالشيء الواحد باعتبار جهتين، وقد مرَّ أيضاً وما أحسب فيه خلافاً. وهذا التفصيل والتلخيص قلَّ من يعرفه، بل ما تلخصَ لي إلاَّ بلُطفِ الله بعد تكرار النظر مدة طويلة، فالحمد لله. وقد يخالفهُ عبارة بعض أهل السنة، فيقولون: إن الله تعالى أراد المعاصي من العباد، ولا يعنُون إرادة الطلب قطعاً، بل يعنون: أرادها لهم وبهم لما يأتي من وجوه الحكمة، لا لأجل قبحها، فإنه يجب القطعُ بأنه لا يريدها من حيث قبحت كما قال: {وما الله يُريدُ ظُلْماً للعبادِ} [غافر: 31]، وفي آيةٍ ¬
{للعالمين} كما سيأتي بيانه في رد أدلة المعتزلة، وبيان مقاصد أهل السنة. وإنما أخطؤوا في العبارة وحَسِبُوها تدل على عدم الطلب كما صرح الشهرستاني بذلك كما مضى تقريره في كلام جعفر الصادق، والأولى تجنبُ هذه العبارة، لأنها توهم أنه يأمُرُ بالمعاصي ويُحبها من حيث هي معاصٍ، وليس كذلك قطعاً كما يأتي. بل الذي أُحبُّه وأرتضيه للسني أن لا يتجاوز ألفاظ القرآن والسنة، فإنها لم تَرِدْ إلاَّ بما يقتضي به كمال قدرة الله تعالى من التمدح بنفوذ المشيئة في كل شيء، وهذا وصف عظيم يختص به الرب، ويعجز عنه كل قادر سواه بخلاف مجرد إرادة القبيح، فإنه قد يَقَعُ من الضعيف والعاجز، ومتى تعلقت إرادة القبيح بالوجه الذي قبح لأجله تنزه الرب تعالى عنها بالمرَّة كما يتنزه عن كل عيب وذمٍّ كما قال تعالى: {وَمَا الله يُريدُ ظُلماً للعِبادِ} [غافر: 31]، وإن كان سياقها يقتضي أن المراد: وما الله يريد أن يظلِمَ العباد كما سيأتي، فإن العلة قبح إرادة القبيح بغير شك، واختصت بشرار خلقه، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها. وما أحسن عبارة موسى كليم الله عليه السلام حيث قال: اللهم إنك رب عظيم لو شِئْتَ أن تطاعَ، لأُطِعْتَ، ولو شئتَ أن لا تُعصى، ما عُصيت، وأنت تُحبُّ أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى فكيف هذا يا رب؟ وسيأتي إسناده (¬1). وفيه إشارةٌ إلى ما استنكرته المعتزلة من تعلُّق محبته بالطاعات، وعدم إرادته لوقوعها باعتبار الجهتين (¬2)، ولولا ذلك ما قال موسى عليه السلام: فكيف هذا يا رب؟ فكذلك فلتكن عبارة السُّنِّي، فإن احتاج إلى ذكر إراده الله تعالى للمعاصي في تعليمٍ أو جدال بالتي هي أحسنُ توسُّعاً في العبارة وتمسُّكاً بالإباحة حيث ¬
تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجاز
لم يرِدْ نصٌّ بتحريم ذلك، لم يوردها موهمةً لقبيح، وبَيَّن أن الله تعالى يكره المعاصي، ولا يريدها إرادة الأمير والطلب والمحبة، وإنما يُريدُ تقديرها لحكمةٍ بالغة استأثر بها، فهو يريدُها من ذلك الوجه الحسن فقط، ويكرهها من الوجه الآخر الذي قَبُحت منه، كما يُريدُ اليمين الواجبة شرعاً وإن كان الحالف فاجراً فيها مع قُبحها، بل مع كونها من أكبر الكبائر، لكن إرادتها من الوجه الذي وَجَبَتْ وشُرعت له، لا من الوجه الذي قَبُحت له، وكذلك كل قبيح مقدر كما مر تقريره. والسر في ذلك أن المرادات كلها قسمان: خيرٌ وشر، فالخير مُرادٌ لنفسه، والشر مُرادٌ لغيره، والخير المراد لنفسه هو الأصل في المرادات كلها، ولذلك لم يصح أن يكون الشر مراداً حتى ترجع إرادته إلى إرادة الخير، فكان الشر غير مرادٍ كألم الحجامة يُراُد من أجل العافية. ولذلك كان الخير والطاعات هي الغالبة، وكانت الشرورُ والمعاصي هي النادرة، وذلك أنا ننظر إلى جميع المخلوقات من الملائكة، والروح، وجميع أجناس الحيوانات والناميات، ويخلق ما لا تعلمون، ولا عبرة بكثرة العصاة في الجن والإنس لأنهم أقل المخلوقات كما بينتُه في " الإجادة " وغيرها. وإذا تقرَّر ذلك لم يحسن أن تُطلق العبارة بأن الله سبحانه أرادَ المعاصي، لأنه يوهم أنه تعالى أرادها لكونها معاصي إرادة محبةٍ ورضا وأمر، وإنما يقول: لو شاء لم تكن المعاصي لما له في تقديرها من الحكمة، وما أحسن البيت: فالخيرُ بالذات مَقْصُودٌ وشرهُمُ ... قضى ولكن لا مِنْ غيرهم شَرٌّ (¬1) بل قد مرَّ تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجازٌ، وأن ظاهرها خطأ، وتأويلها إرادة أفعاله تعالى التي تعلق بأفعال ¬
العباد من الثواب والعقاب والأمر والنهي ونحو ذلك. ولا يقال: إنه لا معنى لهذا الحديث (¬1) لعدم تنصيص الأئمة عليه، لأن أئمة الكلام نصوا عليه أو على نحوه كما مرَّ، وأئمة الحديث لم ينصوا على خلافه، بل نصوا (¬2) على صحة قواعده، فإنهم كرهوا الرواية بالمعنى في الحديث المتعلق بالعمليات، وحرَّمه كثير منهم، وهو الأولى إلاَّ لضرورة العمل في نحو ترجمة الشريعة للعَجَم، ولولا هذه الضرورة ما جوَّزه أحد فيما أحسِبُ لما يؤدي إليه من المفسدة، فإن من جوَّزه شرط أن يكون من عبَّر بالمعنى عالماً بما يُحيل المعاني، وكل أحدٍ حَسَنُ الظن بنفسه، وكم من قاطعٍ بصحة أمر ينكشف خلافه، وهذا في العمليات الظنيات. وأما الصفات الربانيات فالخطر فيها عظيم، وقد بالغ صاحب " الوظائف " (¬3) على مذهب السلف وأهل السنة، ومنع من أن يقال: إن الله تعالى مُستو على العرش أو يستوى عليه، قال: وإنَّما يقال: ثم استوى كما قال، وقد مر ذلك في الصفات. ولا شكَّ أن متكلمي أهل السنة، والأشعرية، والشيعة، والمعتزلة، جميع أهل العقليات قد أجمعوا على أن قولنا: أراد الله المعاصي متأولة، وأنها على غير ظاهرها، ومع ذلك لم يرد بها نصٌّ سمعي، فيجب تجنبها حيث توهم الخطأ، وينبغي التبدل بها حيث لا توهم بألفاظ كتاب الله تعالى ورسله المعصومين عليهم السلام. وكذلك كل كلمةٍ تقترن بها مفسدة، فقد قال الله تعالى في نحو ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، وعُدَّ من حُسنِ ¬
بيان السبب في النهي عن تكلف القدر الذي هو سر الله تعالى
أدب خليل الله عليه السلام، وحُسنِ خطابه قوله: {وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه مع أن الكل من الله. ومنع العلماء من أن يقال: يا رب الكلاب والخنازير، وإن كان هو ربَّها، فإنه (¬1) إنما يُخصُّ بالمعظمات كربِّ العرش العظيم، وإلا وجب التعميم كرب كل شيء، ومن أحسن ما يدل على ذلك ما تكرر بمدح الرب عزَّ وجلَّ به من أنه تعالى بيده الخير، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، ولم يرد في كتاب الله تعالى التصريحُ بعكس ذلك، وهو مدحُهُ بأن بيده الشر وهو على كل شيء قدير، كراهة لإضافة الشر خصوصاً (¬2) إليه إلاَّ داخلاً في عموم كل شيء، لأنه حينئذ يفيد صفة الربوبية لكلِّ شيء. والوجه في ذلك أن كل شر واقع من الله تعالى فإنه وسيلة إلى الخير، وليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمته، كما ذكره النواوي في أحد الوجوه في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬3): " والشر ليس إليك " ذكره في شرح مسلم (¬4) وغيره. وما زال أهل القرب والرسوخ في العلم على مذهب أهل السنة في نفوذ إرادة الله ومشيئته، وعدم التعرض لما في ذلك من خَفِيِّ (¬5) حكمته، ولم تختلف في ذلك النبوَّات والكتب السماويات. وقد قال الإمام البيهقي رحمه الله في " الأسماء والصفات " (¬6): أخبرنا أبو ¬
عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا أبو مسلم، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا مُصْعَبُ بن سوَّار، عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس لما بعث الله موسى وكلَّمه، قال: " اللهم أنت ربٌّ عظيم ولو شئت أن تُطَاعَ لأُطِعْتَ، ولو شِئْتَ أن لا تُعصى ما عُصٍيتَ، وأنت تحب أن تُطاع وأنت تُعصى، فكيف هذا يا رب؟! " فأوحى الله تعالى إليه: " إني لا أُسألُ عما أفعل وهم يُسألون، فانتهى موسى ". رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬1) وعزاه إلى الطبراني، وزاد فيه: " فلما بعث الله تعالى عُزَيراً، وأنزل عليه التوراة بعد ما كان رفعها على بني إسرائيل، حتى قال: من قال: إنه ابن الله، قال: إنك ربٌّ عظيم " وساق مثل كلام موسى، ومثل جواب الرب عزَّ وجلَّ عليه ثلاث مرار، فقال الله تعالى له: " أتستطيعُ أن تصُرَّ صُرَّةً من الشمس؟ قال: لا، قال: أفتستطيع أن تأتي بمكيالٍ من الريح؟ قال: لا، قال: أفتستطيعُ أن تجيء بمثقال أو قيراطٍ من نورٍ؟ قال: لا، [قال:] فهكذا لا تقدر على ما سألت عنه، أما إني لا أجعل (¬2) عقوبتك إلا أن أمحو اسمك من الأنبياء فلا تُذْكَر فيهم، فمَحى اسمه من الأنبياء، فليس يُذكر فيهم وهو نبي، فلما بعث الله عيسى ورأي منزلته من ربه، وعَلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، سأل مثل سؤال موسى، فأجيب مثل جوابه، وقال الله تعالى له: لئن لم تنته لأفعَلَنَّ بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، فجمع عيسى من معه فقال: القدر سرُّ الله فلا تَكَلَّفُوه ". رواه الطبراني (¬3) من حديث أبي يحيى القتَّات، واسمه زاذان فيما قال ابن ¬
عدي (¬1)، وقال العقيلي (¬2): اسمه عبد الرحمن بن دينار، وقيل غير ذلك، وهو لا يُعرف إلاَّ بكنيته وهو من رجال أبي داود، والترمذي، وابن ماجة مختلف فيه لكن وثَّقه ابن معين (¬3)، ولحديثه شواهد. قال البيهقي (¬4): أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي (¬5)، حدثنا أحمد بن سلمان، حدثنا جعفر بن محمد الخُراساني، حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عِمران الجَوْني، عن نوف (¬6)، قال: قال عزيز فيما يُناجي ربه " يا ربِّ تخلق خلقاً فتُضِلُّ من تشاء، وتهدي من تشاء " قيل له: " يا عزير أعْرِضْ عن هذا " فعاد، فقيل (¬7) له: " يا عزير أعرض عن هذا وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً " قال: فعاد، فقال: " يا عزير لتُعْرِضَنَّ عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أُسأل عما أفعل وهم يُسألون " (¬8). هذا شاهد لما قبله، وليس على شرط الصحيح. ¬
ويشهد لذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه الكريم عن الملائكة عليهم السلام حيث قالوا: {أتَجعَلُ فيها من يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدِك ونُقَدِّسُ لك قال إنِّي أعلَمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30]. ووجهُ المشابهة بينهما أن الكل سؤال عن وجه الحكمة، وفيما تحيَّرت فيه العقول من ذلك، وأن الله أجاب على من سأل عن تعيين الحكمة فيه (¬1) بردِّه إلى علمه، وهذا شأن المتشابه كلِّه الذي أخبر الله تعالى أنه لا يعلم تأويله إلاَّ هو. فالعجب ممن يدعي معرفة الراسخين له، وهم فيه أكثر الناس وقفاً وحَيْرةً كما روى الطبراني عن وهبٍ، عن ابن عباس أنه سُئِلَ عن القدر؟ فقال: وجدت أصول الناس فيه حديثاً أجهلهم (¬2) به، وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شُعاعٍ، كلما ازداد فيه نظراً ازداد فيه تحيُّراً. انتهى. فلو عَلِمَه الراسخون، لعلَّمُوه المسلمين، إذ لا يصحُّ أن يستحيل على المسلمين تعلُّم ما عند الراسخين. تم بعونه تعالى الجزء الخامس من العواصم والقواصم ويليه الجزء السادس وأوله قالت المعتزلة: القول بأن أهل النار ........ ¬
الجزء السادس
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء السادس مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 6
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كلام المعتزلة بأن القول بأن أهل النار خلقوا لها يستلزم عدم شكر نعمة الله تعالى وحمده
قالت المعتزلة: القول بأن أهل النار خُلِقُوا لها يستلزم أن لا يجب عليهم شكر نعمة الله وحمده عليها سيما إذا لم يتأول قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ (¬1) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] وتأويل الآية صعبٌ لأنها من النصوص المصادمة للتأويل، وهو مشترك الإلزام في الشكر على العقوبة، أما الحمدُ، فلازم على كل حال كما ورد به الأثر، وكما يقتضيه النظر، ولكل طائفة جواب من جهة الشكر خصوصاً، ومن جهة الحمد عموماً. وجواب أهل الحقِّ في ذلك من وجهين: أحدهما: ما تقدم في مسألة المشيئة في آخر الدليل الثالث مبسوطاً، وتحقيقه المنع من كون الله ما خلق الكفار إلا للعذاب، بل خلقهم سبحانه لحكم كثيرة غير لا منحصرة وردت النصوص بذكر كثيرٍ منها مما يشهدُ له سبحانه بالنعم السابغة، والحكم البالغة، والبراهين الدامغة. منها: الإحسان إليهم قبل كفرهم، واستحقاقهم العقوبة بما يوجب عليهم ¬
شكره، ثم العفو عن تعجيل العقوبة بعد استحقاقها كما مرَّ في حديث " لو لم تُذنبوا " (¬1)، وذلك قبل الإملاء لهم، لِيزدادو إثماً، وقد ذكرت من ذلك سبعة أمور، أولها هذا. وثانيها: خلقهم لعبادته بالنظر إلى أمره (¬2) ومحبته. وثالثها: الابتلاءُ بالنظر إلى عدله وحجته. ورابعها: ظهورُ عدله في تعذيبهم على كفر نعمه، وجحد حجته بالنظر إلى خبره وعلمه وقدره وكتابته. وخامسها: الحكمةُ الأولةُ المرجِّحة لذلك على عفوه عنهم، التي هي تأويل المتشابه بالنظر إلى حكمته وإرادته ومشيئته، وعلى هذا مدارها. وسادسها: ما لا يُحيط بجميعه إلاَّ هو بالنظر إلى سعة علمه ورحمته. وسابعها: ما للمؤمنين في خلقهم من اللطف والنفع في دنياهم ودينهم وأُخراهم، وهو (¬3) يستحق من الجميع على حكمته، كما يستحق الشكر من أهل النعم على نعمته، كما تقدم مبسوطاً في موضعه. الوجه الثاني: القطع بأن مراد الله بالشر خير، لأن الحكيم لا يريدُ الشر لنفسه، وإنما يريده لغيره، لحديث " سبقت رحمتي غضبي " (¬4)، وحديث " والشر ليس إليك " (¬5) كما تقدم تقريرُه، وكما أوضحه الغزالي في " المقصد الأسنى " (¬6) في شرح " الرحمن الرحيم ". فكل شر أراده الله، فهو لحكمة هي خيرٌ محضٌ، وإن لم يحط بها أحد، ¬
وهي تأويلُ المتشابه، كما دلَّت عليه قصة الخَضِر مع موسى عليهما السلام، وكما دلَّ عليه قوله: {وما يَعْلَمُ تأوِيلَه إلاَّ الله} [آل عمران: 7]، فلو أُريد الشر لكونه شراً لم يُحتج إلى تأويل: لا يعلمه إلاَّ الله، وقد أشار الله إلى هذا في جوابه على الملائكة حيث قال: {إنِّي أعلَمُ ما لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 30]. ففي كل عقوبةٍ ظاهرة نعمة باطنة، ولذلك اختصَّ الله بوجوب شكره على ما ساء وسر، ونفع وضر، وقد صح النصُّ بذلك في الحدود، فإنها كفارةٌ مع كونها عقاباً ونَكالاً، ولا إشكال في شيءٍ من ذلك الشر إلاَّ (¬1) دوام العقاب، وسيأتي الاختلاف فيه، والمختار من ذلك. وهذه القاعده توجب على أهل النار أن يحمدوا ربَّهم عليها لما لهم فيها من العدل والحكمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75]، وإلى ذلك أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار " رواه ابن ماجه (¬2)، وفيه إشارةٌ إلى استحقاقه عزَّ وجلَّ الحمد لله على المعذَّبين بالنار، ¬
قول الجمهور من المعتزلة أنه يجب تأويل آيات المشيئة
ولكن السنة سؤال العافية. ومما قلت في هذا المعنى من جملة أبيات: أنت الحكيم بكل ما قدَّرْتَهُ ... وعلى العَبيد بكُلِّه كل الثنا ونعوذ بالله الرؤوف وفضله ... من حال أهل النار خلداً أو فَنا ضعفاً وعجزاً لا اعتراضاً للقضا ... مِنَّا ولا سُخطاً لحكمة ربنا فكيف لا يجب عليهم الشكر لما لا يُحصى من نعمه المتقدمة، وقد مرَّ طرفٌ من هذا في الدعوى الأولى عند الكلام على حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون كي يَغْفِرَ لَهُم ". قالت المعتزلة إلاَّ القليل منهم: يجب تأويل آيات المشيئة على أنه لو شاء أن يُكرِهَ العُصاة على الطاعة لفعل، لأنه لو كان يعلم لهم لُطفاً إذا فعله لهم أطاعوه، لزم (¬1) عليه فعلُ ذلك، وهو سبحانه لا يُخِلُّ بواجبٍ. وخالفهم في هذا جميع فرق أهلِ السنة، وجميعُ متقدمي أهل البيت كما تقدم من طريق أهل البيت وغيرهم. وخالفهم جماعةٌ جِلَّةٌ من متأخري أهل البيت عليهم السلام، مثل السيد الإمام أبي عبد الله مصنف " الجامع الكافي "، والإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، والإمام الناصر، والإمام المنصور. ¬
كلام فيما يرد على القائلين من المعتزلة بوجوب اللطف
وخالف المعتزلة في ذلك من شيوخهم بِشْرُ بن المعتمر، وجعفر بن حرب على تفصيلٍ له في ذلك، حكاه عنهما الإمام يحيى بن حمزة في كتابه " النهاية " (¬1). وحُكي عن أبي الحسين أنه حكى رجوع ابن المعتمر كذا بصيغة الجزم. قال الإمام: وقال -يعني قاضي القضاة-: ومنهم من فصل -يعني جعفر بن حرب- فقال: إن كان ما يفعله المكلف من أسباب عدم اللطف أشق وأعظم ثواباً لم يجب اللطف، وإلا وَجَبَ. قال: وحُكِيَ عنه الرجوع عن هذا، كذا قال. " حُكي " بصيغة ما لم يُسَم فاعله، وهي المعروفة بصيغة التمريض. وفي كتاب " الملل والنحل " (¬2) عن بِشر بن المعتمر أن في مقدور الله لُطفاً لو أتى به، لآمن من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه، وليس على الله أن يفعل ذلك لعباده ولا يجب عليه رعايةُ الأصلح، لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح، فما من أصلح (¬3) إلا وفوقه أصلح. انتهى. وهي حجةٌ حسنةٌ في نفي وجوب الأصلح، وجمهور المعتزلة على إيجاب اللطف، وقد ألزمهم علماء الإسلام تعجيز الرب سبحانه عن هداية عاصٍ واحدٍ على سبيل الاختيار، وهم يلتزمونه في المعنى، فإنه صريح مذهبهم إلاَّ أنهم يقولون: إنه لا يستلزم العجز، لأن اللطف بهم مُحالٌ، والمحالُ ليس بشيء، والقادر لا يُوصف بالقدرة على لا شيء. قلنا: الإحالة ممنوعةٌ، وعلى تقدير تسليمها، فيلزم المعتزلة قبح التكليف، لأن إزاحة أعذار المكلفين عندهم واجبةٌ، ولذلك أوجبوا اللطف على الله ¬
تعالى، لأن ترك اللطف يُناقِضُ ما أراده الله تعالى على زعمِهم مِنْ دخول الكفار الجنة على أبلغ الوجوه. فنقول: لو كان واجباً مُعَلَّلاً بما ذكرتم لَقَبُحَ على أصولكم تكليف من علم الله سبحانه أنه لا لطف له ألبتة، وأنه لا يدخل الجنة قطعاً، بل من علم أن تكليفه يكون سبباً لخلوده في النار، لأن ذلك أعظم مناقضةً لمراد الله سبحانه لو كان مراده هو ما ذكرتم من دخول الكفار الجنة (¬1) على أبلغ الوجوه. فإن قيل: إلزامُكم لهم (¬2) تعجيزه سبحانه، وتعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً، ومنعكم لما اعتذروا به من الإحالة مبنيٌّ على أن الله تعالى يعلم لهم لُطفاً، لكن المعتزلة منعت أن يكون في معلوم الله تعالى للعُصاة لطفٌ، وإذا لم يكن في معلوم الله لطفٌ بهم (¬3)، لم يكن في مقدوره، إذ يستحيل أن يقدر على ما لا يعلم، والجواب من وجوه. الوجه الأول: أنهم أرادوا الاعتذار عن التعجيز بنفي العلم، فزادوا تجهيل الرب تعالى مع تعجيزه تعالى عن ذلك لأنهم فرُّوا من قولهم: إن ذلك عجز، إلى قولهم: ليس بمعلوم، فليس بمقدورٍ فزادوا على نفي القدرة الاستدلال على صحة نفيها بنفي العلم فراراً من لفظ التعجيز إلى نفي القدرة والعلم. فلا وجه لعدول من عدل منهم عن أن يقول بالتعجيز إلاَّ التستر (¬4)، وإلا فالمعنى واحد، لأن أهل الإسلام يجزمون بتضليل من جحد قدرة الله تعالى على هداية عاصٍ واحد من خلقه، كما يجزمون على تضليل من عجَّزَهُ عن ذلك، ولا يفرقون بين العبارتين قبل هذا العرف المبتدع، فاحتالوا على تحسين ¬
هذه الشناعة بذلك التوجيه، فأضافوا إلى تلك الشناعة مثلها، وهي قولهم: إن الرب اللطيف لما يشاء سبحانه وتعالى لا يعلم لُطفاً لمن شاء هدايته من جميع العصاة، وكلا هاتين الشناعتين مما يأباه من بقي على الفطرة من جميع المسلمين. ولا يحتاج من يُقرُّ بالنبوات إلى مناظرة في ذلك، فإن المعلوم ضرورة من النبوات يدفَعُه، وقواعدهم تصحح هذا الإلزام (¬1) الشنيع، وهم لا يبعدون من التزامه في المعنى، ولذلك صرَّح من أجمعوا على تعظيمه بنفي قدرة الله على القبيح كالنظام (¬2) والأسْوَاري (¬3) وجعلوا هذه المسألة من مسائل الخلاف بين شيوخهم، وهي (¬4) صريح التعجيز بإثباتهم (¬5) معها حكم العقل بالحسن ¬
قول بعض العلماء: إن النبوات في جانب وما جاء به المتكلمون من البدل في جانب
والقُبح (¬1) في الأفعال، ولو قُدرتْ من الله بخلاف من علَّل ذلك بأنه لا يقبح (¬2) منه عزَّ وجلَّ قبيحٌ، ويلزمهم عدم اختيار الرب عزَّ وجلَّ في ترك الواجب عليه عندهم، وذلك صريح القول بأن الله عزَّ وجلَّ غير مختار. فالعجب منهم لا يكفرون من قال ذلك من أكابر شيوخهم ويكفرون من قال: أفعال العباد مخلوقة، وبيَّن أن مراده بذلك ذواتها، لا كونها معاصي كما يأتي إن شاء الله تعالى. وأكثر هذه البدع باطلٌ بالضرورة، وما أحسن قول بعضهم: إن النبوات في جانب، وما جاء به المتكلمون من (¬3) البدع في جانب، وممن أشار إلى هذا الفخر الرازي كما تقدم في الصفات، ولذلك ترى علماء الكلام أعداء لحملة العلم النبوي إلاَّ من عصم الله، وإنما نتكلم في الرد عليهم نافلةً وتبرُّعاً وتعرُّضاً لثواب الله تعالى في نصر (¬4) السنة وذلك على القول المختار عندنا من حسن المناظرة لمنكري الضرورات متى كانت من الدعاء إلى الله بالتي هي أحسن، ولم تكن من (¬5) المراء المقصور على إثارة الشرور، وإيحاش الصدور (¬6)، ولذلك لم يشتمل هذا الوجه على حجة زائدة على بيان مقصدهم (¬7) بياناً لا يستتر معه قبح مذهبهم، فإنه متى وَضَحَ وبان لم تقبله قلوب أهل الإيمان، ولم يُحْتَجْ في رده إلى برهانٍ. الوجه الثاني: أن كل مُبطلٍ أراد تعجيز الله تعالى عن أمرٍ، فإنه لا يعجز عن مثل هذه الحيلة، وقد ألزمهم أهل السنة تجويز أن لا يقدر الله تعالى على هداية العُصاة كُرْهاً، كما لا يقدر على هدايتهم اختياراً، ثم لا يكون ذلك عجزاً ¬
قول جماعة من الفلاسفة: إنه ليس في مقدور الله تعالى أحسن من هذا العالم، يشبه القول بتعجيز الله تعالى
أيضاً ما لم (¬1) يعلم الله سبحانه ما يُلجىء المكلف إلى الطاعة، وهذا يبطل تأويلهم آيات المشيئة على الإكراه، ولا يبعد أنهم يلتزمون هذا عقلاً، ولكنهم يُقرون بأن السمع دلَّ على قدرة الله تعالى على هداية العصاة كرهاً. والجواب عليهم منعُ ما ذكروه من قصر دلالة السمع على ذلك، فإن دِلالة السمع وردت بكمال قدرته على ما يشاء عموماً، ثم على هداية الخلق أجمعين خصوصاً. وعلى الجملة، فإن أحسن ما يُدفعون به تذكيرهم أن هذا معلوم بالضرورة من الدين، ومعارضة قولهم بما يُشبهه من أقوال المبطلين بإجماع المسلمين، فما أجابوا به فهو جوابنا. مثالُ ذلك: أن يقال لهم: ما الفرق بين قولكم وبين قول جماعة من الفلاسفةٍ: إنه ليس في مقدور الله تعالى أحسن من هذا العالم، لأن الكريم يبادرُ بأحسن ما في مقدوره من الخير، وليس في هذا تعجيزٌ لله تعالى، لأنه ليس في (¬2) معلومه تعالى أحسن منه، وما ليس في معلومه، لم تصح القدرة عليه. فهذه الحيلة على تعجيز الربِّ عن خلق أحسن من هذا العالم مثل حيلة المعتزلة على تعجيزه سبحانه عن اللُّطف بالعصاة، بل هي هي، وقد قاربت المعتزلة مقالة الفلاسفة هذه. وأما البغدادية من المعتزلة، فإذا تأمَّلْت مذهبهم لم تجدْهُ يخالف قول هذه الطائفة من الفلاسفة إلاَّ في العبارة، أو فيما يلزمهم الموافقه فيه مع اشتغالهم بتأويل السمع على وَفْقِ قولهم، وذلك أن مذهبهم أن الأصلح للخلق في دينهم ودنياهم وآخرتهم واجبٌ على الله تعالى، وكل ما لم يفعله الله تعالى من مصالح الخلق في الدنيا والآخرة، فليس في معلومه سبحانه ما هو أصلح منه لهم، حتى ¬
بيان الفرق بين الضرورة العادية وما يشبهها بذكر وجوه وشبه للمعتزلة
قطعوا أن خلود أهل النار فيها إلى غير غايةٍ أصلح ما في معلوم الله تعالى لهم ومقدوره، وهذا خروجٌ عن المعقول والمنقول، فنسأل الله العافية عن مثل هذه البدع التي تبلغ بأهلها في الجهالات إلى هذه الغاية، هذا مع اعتقادهم أنهم أئمة المعارف والدِّراية. وأما البصرية من المعتزلة، وهم الجُبَّائية والبَهْشمية (¬1) نسبةً إلى أبي علي الجُبَّائي وابنه أبي هاشم (¬2)، فإنهم يقولون: ذوات كل الأشياء ثابتة فيما لم يزل مع قِدَم (¬3) الرب جل جلاله، وما كان من هذه الثوابت في الأزل من أفعال العباد فليس بمقدورٍ لله تعالى (¬4) إلى أمور كثيرة يخرجونها من القدرة بهذه الحيلة. فيقال (¬5) لهم: من (¬6) قال: الفلسفي والباطني إنه لم يخالف في قدرة الله تعالى على الممكنات، ولكنه يعتقد أن حياة الموتى محال لشبهه بالمحالات العادية، كما هو اعتقاد المعتزلة في إحالة إحياء الجماد من غير بيِّنةٍ مخصوصة، ولا مستند لهم إلاَّ شبه ذلك بالمحالات العادية، وقطعهم أنه منه، فإن كَفَّروا الباطنيَّ بمصادمة النصوص المعلومة بالضرورة من الدين لما جاء به من التأويلات، كان له أن يُعارِضَهم بمثل ما عارضوا به أهل السنة، ولأهل السنة أن يجيبوا عليهم بمثل ما أجابوا به على الباطني، وإن كَفَّروا الفلسفي بذلك، كان لأهل السنة أن يعارضوهم بمثله. فإن قيل: وأي فرق بين الضرورة العادية وما يشبهها. قلنا: وجهان: أحدهما: فقد العلم عند الإصغاء إلى جانب الشك، وهذا هو المعتمد. ¬
وثانيهما: أن العلوم العاديَّات مسلمةٌ بالنظر إلى عادتنا وقدرتنا، فإحياء الجماد، وإحياء الموتى في المعاد محال في العقل كما قالوا، ولكن بالنظر إلى قدرتتا وعادتنا، وكذلك عامة (¬1) ما يفارق الرب به تعالى عبيده من إيجاد المعدوم من غير شيءٍ، ولذلك أنكرته المعتزلة، وقالت: إن تذويت الذوات مُحال، وكذلك الفعل من غير آلة أنكرته الفلاسفة وبعض القدرية (¬2). وإنما غَلِطُوا في ذلك، لأنهم نقلوا العلم الضروري الحق المتعلق بعجزنا عن هذه الأشياء إلى الربِّ تعالى، ووجه غَلَطهم أنهم حَسِبُوا أن ذلك محالٌ لنفسه لا لعجزنا خصوصاً عنه. فافهم هذا واعتبره، فإنه نافع جداً، وقد كفر لأجله خلائق من المشركين، وضل لأجله خلائق من المسلمين. الوجه الثالث: أن البرهان القاطع دل على نقيض مذهبهم، وهو أنا نعلم يقيناً لُطفاً معلوماً مقدوراً لله تعالى لو فعله، لآمن الناس أجمعون اختياراً من غير إكراهٍ، ولنذكر على ذلك أدلةً. الأول: أن الله سبحانه قادر على أن يخلق العصاة على بِنيةٍ قابلة للألطاف مثل بنية الملائكة والأنبياء، سواء قلنا: إن بنيتهم التي خُلِقُوا عليها قابلة للألطاف، كقول أهل السنة، أو غير قابلة كقول المعتزلة. ذكر هذا الوجه ابن الملاحمي (¬3) في كتابه " الفائق " وهو أحد أئمة المعتزلة، على رأي أبي الحسين، وهو وجهٌ صحيح معلومٌ من الدين، قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60]، ولا ¬
شك أن بنية الملائكة تخالِفُ بنية الإنس (¬1)، فإنهم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يفتُرُون من العبادة، فمن قدر على تحويل بنية البشر إلى بنية الملائكة، فهو على تحويل بنية بشر إلى بنية بشرٍ مثله أقدرُ، بل في كتاب الله تعالى ما يدُلُّ على قدرة الله سبحانه على ذلك دِلالةً خاصة مع بقاء بنيتهم، وإلا فهو معلومٌ ضرورة من الدين، وذلك مثل قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [الممتحنة: 7]، وإليه إلإشارة بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} وقد اعترف الخصم بهذا المعنى في تفسيره، فقال: ومعنى {والله قديرٌ} على تقليب القلوب، وذلك هو المراد. وقد قال الله تعالى في خطاب من شك في قدرته على أبعدَ من ذلك في العقل وأصعب: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50 - 51]، وما أدلَّ (¬2) قوله: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} على تعميم قدرته تعالى على تغيير كل بنية إلى ما يخالفها. وقد صح في الحديث " أن الله يقلب القلوب كيف شاء "، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يا مقلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك " (¬3) وقد تقدم الكلام عليه وقد حكى الله عن الراسخين قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]. وجاء هذا في كلام الله تعالى بعباراتٍ مختلفة: منها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]. ¬
منها: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. ومنها: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. ومنها: {وَجَعَلْنا قُلوبَهُم قاسيةً} [المائده: 13]، وأمثال ذلك كثير لا يكاد يحصى. ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين} [المعارج: 40 - 41]، ووجهُ الحجة من الآية أنها تدل على أن لله تعالى حكمة وإرادة في وجود العصاة مع كراهة المعاصي، لأنه تمدَّح بالقدرة على إيجاد خلق غير عصاة في هذه الآية، وفي غيرها كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]. فتأمل ذلك مع مثل قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم} [هود: 119]، وفي آية: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13]، كما تقدم في أن عذاب الله في الدار الآخرة راجحٌ مشتمل على الحكم الخفية والمصالح، وأنه ليس بمُباحٍ خالٍ من الحكمة والصلاح. وقد صَحَّ وثبت من غير وجهٍ أنه شُقَّ قلبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وغُسِلَ ومُلِىءَ حكمةً وإيماناً (¬1)، وذلك ظاهر في أنه سبب العصمة، ومثله مقدورٌ لله تعالي في كل بشر، وليس هذا من القياس في شيءٍ، وإنما هو من قبيل احتجاج الرب سبحانه على قدرته على الإعادة: بقدرته على النشأة الأولى، وكما احتج المسلمون على قدرة الرب سبحانه على كل شيءٍ بذلك وبالمعجزات، ووجهُه ¬
أنه يحصل بعد النظر في ذلك علمان ضروريَّانِ عقلي وسمعي. أما العقليُّ: فمثاله: عِلْمُنا أن الزجاج ينكسر بالحديد، ولعل الواحد منا ما كسر زجاجة واحدة، وكذلك جميع العاديات، لأنا نعلم أنه لا تأثير في ذلك لاختلاف الأزمان والبلدان والقادرين منا، ومن ثم قال الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه: {أعلمُ أنَّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرٌ} [البقرة: 259]. وأما السمعي: فقد اتفق العقلاء على أنه يُفهم من مقصود المتكلم ما لم ينطق، كما يفهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم أذاهما وانتهارهما، والذي يَحْسِمُ مادة النزاع في هذا بين المسلمين أن إجماعهم منعقد، والعلم الضروري من دينهم أنه يجب الجزم بقدرة الرب تعالى على كل شيء على العموم، ولا يقال: يخرج من ذلك المحال، لأنه ليس بشيء، فلم يدخل في العموم حتى يخرُجَ منه، وأن الاحتجاج بهذا العموم على الجزئيات التي لا نصَّ فيها على قدرة الله تعالى عليها بأعيانها احتجاجٌ صحيح، والدليل القاطع على هذا من العقل أن البنية التي تقبل اللطف، والبنية التي لا تقبل عارضتان غير ذاتيتين (¬1) عقلا وسمعاً وإجماعاً، ولا نزاع في قدرة الله تعالى على تغيير ما هو خلقه من الأمور العارضة الممكنة. والعجب من المعتزلة أنهم بالغوا في الاعتذار للرب عزَّ وجلَّ حتى أقاموا العذر للعبد، فإن الله تعالى متى خلق العبد على بنية يعجز الرب عن هدايته معها، فإن العبد يكون أعجز عن هداية نفسه مع ذلك بالنظر إلى الدواعي، وهذا يناقض أصل مذهبهم في إزاحة الأعذار، وتقبيح خلق المفاسد، فلا أعظم مفسدةً من إيجاد بنية لا تدخل في مقدور الربِّ، ولا في معلوم اللطف لها على زعمهم (¬2)، وإن كان (¬3) الحق بطلان زعمهم لقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]. ¬
وثبت في "الصحيح" " أن كل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، وأنما أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمجِّسانه " (¬1)، فكيف يقال فيما خلق على الفطرة: إنه قد يُبنى بِنيةً لا تقبل اللطف ألبتة؟ ولك (¬2) أن تقول في تحرير الدليل العقلي أيضاً: فالأجسام عندهم متماثلة في ذواتها، وإنما اختلفت بما أكسبها الله تعالى من الأمور الزائدة على الذوات من أعراضٍ وصفات وأحكام وأحوال، وتغيير كل شيء منها مقدور لله تعالى، ولا فرق عندهم بين المَلَكِ والبشر، والمؤمن والكافر إلاَّ فيها، فثبت أن تغييرها عندهم مقدورٌ لله تعالى. إذا تقرر هذا، فقد قال ابن الملاحمي بعد ذكر موافقة المعتزلة لأهل السنة على هذا ما معناه: فإن قيل: فما الوجه عندكم في خلق العصاة على البنية التي لا تقبل اللطف مع قدرة الرب تعالى على خلقهم على البنية التي تقبلُ اللطف، بل تقبل العصمة؟ قال ما معناه: إنا نعلم أن لله تعالى في ذلك حكمة على سبيل الإجمال، وإن لم نعلم تعيينها، فرجعت المعتزلة بعد القطع بقبح ظواهر القرآن والسنن وآثار السلف، وركوب كلِّ صعبٍ وذلول في تأويل ذلك إلى مثل ما بدأ به أهل السنة. وليت شعري ما الفرق بين تجويز المعتزلي في هذا لحكمة لا يعلمها، وبين تجويز إراده الله تعالى لأسباب وقوع معاصي العصاة وترك هدايتهم مع القدرة عليها لوجه حكمةٍ لا نعلمه، لا لأجل الوجه القبيح التي قبحت وكرهت لأجله، وإن خالف بعض المعتزلة في ذلك رضينا منه أن ينزل أهل السنة منزلة من جوَّز ذلك من المعتزلة (¬3)، وهو أبو الحسين وأصحابه. ¬
الدليل الثاني: أنَّ أبا هاشم وأصحابه وجمهور المعتزلة جوزوا أن يَخْلُقَ الله تعالى أسباباً يعلم أن المعاصي تقع بسببها زائدة على أصل التكليف، مثل خلق الشياطين والشهوات الزائدة (¬1)، ويكون ذلك تعريضاً للثواب العظيم، كما جاز منه ذلك في أصل التكليف، ولم يخالف في ذلك إلاَّ أبو علي (¬2)، حكى ذلك السيد صاحب الابتداء المجاب عليه " بالعواصم " في آخر تفسيره " تجريد الكَشَّاف المزيد فيه النكت اللطاف " وقوَّى ذلك وصححه، واحتج عليه بآيات من القرآن كقوله تعالى في الشيطان: {فدَلاَّهُما بِغُرورٍ} [الأعراف: 22]، وقوله: {كما أَخْرَجَ أبَوَيكُم مِنَ الجَنّةِ} [الأعراف: 27] وغير ذلك. وعلى هذا يجبُ تجويز أن في العصاة من عصى بسببٍ من هذه الأسباب، الزائدة، ويجب القطع بقُدرة الله تعالى على هداية من عصى بتلك الأسباب، لأن الله تعالى قادر على هدايته بترك تلك الأسباب، وهذا يناقض القطع بنفي قدرته على هداية العصاة. الدليل الثالث: أن المعتزلة اعترفت أنه لا يقع القبيح من فاعله إلا لداعٍ إليه، ولذلل أمكنهم القطع بأن الله تعالى لا يفعل القبيح مع قدرته عليه، لأنه لا داعي إليه. إذا تقرر هذا، فلا خلاف بين الجميع أنَّ الرب سبحانه قادرٌ على أن يُعلِّم العاصي قُبح القبيح، وعلى أن لا يجعل له إليه داعياً ألبتة، وعلى أنه متى فعل ذلك، لم يقع القبيح، سواء قلنا: إن وقوعه ممكنٌ أو ممتنع، ولكن المعتزلة اعتذرت عن هذا بشُبَهٍ: الشبهة الأولى: قالوا: لو لم يجعل الله تعالى للعاصي داعياً إلى ¬
كلام في منع استحقاق الثواب إلا مع المشقة كما هو قول المعتزلة
المعصية، لم يصح وقوعها منه، فيكون كالمُلْجَأ بالصوارف إلى الترك، والمُلجأ لا يستحق الثناء والثواب، وأجيب عليهم بوجوه: أحدها: أنه يناقض قولهم في أنه لا أثر للداعي، ثم إن قولهم: إنه كالمُلجأ، والملجأ لا يستحق الثناء والثواب مغالطةٌ ظاهرة، لأن كاف التشبيه والتجوُّز في العبارات لا يصح في البراهين، لأنه لا يصير مُلجأ محققاً بكونه كالملجأ، بل (¬1) ولا يصح كونه كالملجأ، لمجرد عدم الداعي إلى القبح، لأنه لا داعي لله تعالى إلى القبيح، فلا يصح وصفه بأنه كالملجأ (¬2)، وإذا لم يكن العبد ملجأً، لم يكن له حكمُ الملجأ الذي هو عدم استحقاق الثناء والثواب، ونحن لم نقل: بأن الله تعالى قادر على أن يُلجئه إلى الطاعة، بل قلنا: هو قادر على أن يجعله مختاراً، يوضِّحُهُ. الوجه الثاني: وهو أن الله تعالى مستحقٌّ لأعظم الثناء على ترك القبائح مع أنه لا يصحُّ وقوعها منه عند الجميع، ولا ولا داعي له إليها، ولا مشقة عليه في تركها، وكذلك يستحق أعظم المحامد على ما يفعله من الجود والإحسان وإن لم يكن عليه في ذلك مشقة ألبتة. الوجه الثالث: أنه يلزم بطلان الثناء والثواب عقلاً مطلقاً على جميع أفعال المختارين لما سيأتي في مسألة إيجاب الداعي، فإنه قد تقرَّر هناك أنه لا يصح من كل مختار حين اختياره أن يقع منه ضد اختياره بدلاً من اختياره من غير مُرَجِّح، ولا يمكن دخول هذه الصورة في الوجود، وكل مختار عند اختياره كالملجأ على زعمهم، ولو رام المعتزلي أن ينازع في ذلك بَطَلَ عليه أساس العدل، ولَزِمَهُ تجويز ذلك في حق الرب تعالى. ¬
فإن قالوا: إنما لم يفعله الله تعالى طلباً منه لمصلحة المكلَّفِ في الفعلِ مع المشقة، لأنه حينئذ يستحق الثناء والثواب. قلنا: إن أردتم المشقة مع زوال، الاختيار فباطل، لموافقتكم على بطلانه، ولما تقرَّر عندكم في أن المستحق على الآلام هو العوض دون الثناء والثواب مع ما فيها من المشقة، وإن أردتم المشقة مع الاختيار، فلا برهان بأيديكم على أنها هي المؤثرة في استحقاق الثناء والثواب (¬1)، لأنهما ثبتا بثبوته، وانتفيا بانتفائه، ولأن التعليل في ذلك وافق المعلوم من أن الله على كل شيءٍ قدير عموماً، وعلى هداية العصاة خصوصاً، فهو الأصل، ومن ادعى خلافه، فعليه الدليل القاطع. الوجه الرابع: أنه يلزمهم أن يكون الله عز وجل، كالملجأ إلى الخيرات كلها، فلا يستحقُّ الثناء، وهم لا يقولون بذلك. الشبهة الثانية: قالوا: سلمنا أنه يستحق الثناء بمجرد الاختيار من غير مشقةٍ بدليل استحقاق الربِّ جل وعلا لذلك بمجرد اختياره، لكن لا نُسَلِّمُ استحقاق الثواب إلاَّ مع المشقة، وما ذكرتموه من عدم اعتبار المشقة معارضٌ بدليل أنه يبطُلُ اسم التكليف ببطلان المشقة، لأنه مشتق من الكُلْفَة في اللغة، ولا يسمى ترك الشائع الراوي للمستقذرات تكليفاً، والجواب من وجوهٍ: الأول: مطالبتهم بالدليل القاطع على ذلك، وقد وصَّى بعض العلماء أن يطالب المبتدع بالدليل ولا يُحْتَجَّ عليه، فإن القدح في شبهته ولو بمجرد المنع من صحته حتى يستبين أسهل وأوضح من رد تشكيكه في دليل أهل الحق، وذلك لأن الخراب أسهل من العمارة، ولأن من وصايا المبطلين التمسك بالجحد الصِّرْف في خصومات الدين، كما ذلك دأبُهم في خصومات الدنيا، ¬
والجحد للحق ينتهي إلى جَحْد الضرورة، وحينئذٍ ينقطع المُحِقُّ من الكلام، وينتقل إلى مرتبة الجهاد بالسيف أو الصبر إلى يوم الفصل، وإذا كان مفزَعُهم إلى جحد الحق كان المُحِقُّ أولى أن يفزَعَ إلى جحد الباطل، ويرد عليهم مكرَهُم، ويُوقِعَهم في كيدهم. فإن قالوا: ليس على النافي دليل. قلنا: من ادعى نفي العلم وكان حاصل دعواه أنه جاهل، فلا دليل عليه، ولكن أن نفى الضرورة، قطعنا بتكذيبه وإلاَّ وقفنا في ذلك (¬1). وأما من ادَّعى العلم بالنفي، فعليه الدليل، ولذلك احتجنا إلى الاستدلال على نفي الثاني. الوجه الثاني: أنه لا مانع من بُطلان هذا الاسم أو بطلان معناه مع بقاء اسم (¬2) الطاعة والعبادة، وكذلك اسم المعصية والمخالفة، ولم تَرِدِ الأوامرُ الشرعية على الخلق بأن يتكلَّفُوا ما شَقَّ بل وردت بأن يطيعوا ولا يعصوا، ويعبدوا ولا يكفروا، فحيث شق ذلك، أمرنا بالصبر، وحيثُ لم يشُقَّ، لم نُحْرَمِ الأجر، بل قد جاء نفي الحرج والعسر في نصوص كتاب الله تعالى وقال: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2]، وقال في صفته - صلى الله عليه وسلم -: {وما أنا من المُتَكَلِّفين} [ص: 86]، وسمى دينه الذي ارتضاه لعباده اليُسرى، وسمَّى خلاف ذلك العسرى. وقد بينت (¬3) في مقدمات هذا الكتاب أن العُسرى أمرٌ نِسبيٌّ إضافي، وأكثر ما يكون على حَسَبِ الدواعي والصوارف، ولذلك كانت الصلاةُ كبيرة إلا على الخاشعين مع مساواة غيرهم لهم في القوة والصحة أو زيادة غيرهم عليهم في ذلك، ولا معنى لاشتراط (¬4) بقاء اسم التكليف (¬5)، ولولا ذلك كذلك (¬6) لم ¬
تصح الصلاة من غير مشقَّةٍ، ولكانت المشقة أحد شروط صحتها في كتب الفقه، بل كان يلزم بطلان صلاة الخاشعين، بل بطلان إسلام كثير من المسلمين. فهذه الأسماء التي هي العبادة والطاعة والمعصية (¬1) والمخالفة باقية مع مجرد الاختيار، سواء بقي اسم التكليف ومعناه أو لا، وذلك مثلما بقي في حق الرب (¬2) عز وجل اسم الجواد الكريم الوهاب الحميد، الفعَّال لما يريد مع انتفاء المشاق. وقد ورد ما يدل على عدم اعتبار المشقة، بل على مضاعفة الثواب مع عدمها، وذلك كقوله تعالي: {وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشعين} [البقرة: 45]، ولا شك أن ثواب الخاشعين أعظم من ثواب غيرهم، ولا شك أن الصلاة أسهل وأخفُّ عليهم من غيرهم، بل قد جاء " جُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة " (¬3)، و" أرحنا بالصلاة يا بلال " (¬4). ¬
وسواء حصل وصف الخاشعين برياضة فيها مشقة، أو برياضةٍ لا مشقة فيها أو موهبة من الله تعالى من غير رياضةٍ، لأن الثواب الحاصل على صلاة الخاشع غير الثواب الحاصل على الرياضة. وقد أثنى الله على يحيى بن زكريا بكونه سيداً وحصوراً، وذلك منصوصٌ في كتاب الله تعالى من أن عفة الحَصُور عن النساء موهبة من الله تعالى. وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " كُلُّ بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب، يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاَّ يحيى بن زكريا، فإنه كان سيداً وحصوراً "، وأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قذاةٍ من الأرض فأخذها، وقال: " ذكره مثل هذه القذاة " (¬1). رواه الطبراني في " الأوسط " من معاجمه من حديث حجاج بن سليمان الرُّعيني، وهو مختلفٌ فيه، ووثَّقه ابن حبان وغيره، ومَشَّاه ابن عدِيٌّ، ولكن شواهده في الثناء على يحيى بن زكريا عليهما السلام قرآنية ضرورية (¬2)، ونبوية شهيرة. ¬
ففي الباب عن ابن عباس (¬1) بإسناد رجاله ثقات. وعنه أيضاً بإسناد آخر رجاله رجال الصحيح، وخرجه الحاكمُ عنه، وقال: على شرط مسلم (¬2). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (¬3) بإسناد رجاله ثقات كلها مرفوعة. ذكرها ¬
الهيثمي في " مجمع الزوائد ". وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الشهادات من " تلخيصه " (¬1) رواه أحمد والحاكم وأبو يعلى من حديث ابن عباس. وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح إلى الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (¬2). وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب مرسلاً أيضاً (¬3)، وذكر له طرقاً أُخر. ويشهد له حديث " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، لكن برحمة الله " (¬4) وفيه ¬
اختيار المؤلف بأن الباء في قوله تعالى: {ادخلو الجنة بما كنتم تعملون} باء السبب لا باء الثمن والقيمة
ثلاثة عشر حديثاً مما اتَّفق عليه البخاري ومسلم منها على اثنين، وانفرد مسلم بحديث، وبقيتها في " مجمع الزوائد "، وُثِّقَ منها رجال أربعةٍ، وبقيتها على شرط التواتر. ويشهد له مثل قول آدم: {وإنْ لم تَغفِرْ لنا وترحَمْنا لنكونَنَّ من الخاسرين} [الأعراف: 23]، وقوله تعالى: {وإلاَّ تَغفِرْ لي وترحمني أكُنْ من الخاسرين} [هود: 47]، إلى أمثالٍ لذلك كثيرة ذكرتها في آخر هذا المجلد، وأوضحت أن الباء في قوله تعالى: {ادخُلُوا الجَنَّةَ بما كُنْتُم تعملون} [النحل: 32] باء السبب لا باء الثمن والقيمة، وإنما هي كقولك أغناني الأمير بأبياتٍ قلتها أو بتقبيلي قدمه. ويشهد لطرف الحديث الآخر، وهو عموم البلوى بالذنوب قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وفى آية: {على ظهرها} [فاطر: 45]، وقوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23]. ¬
وذكر في " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية أن زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام بكى عند موته، فقال له ولده الباقر: لِمَ تبكي؟ فوالله ما علمتُ أحداً طلب الله ما طلبته، فقال له أبوه: اسكت يا ولدي، فإنه ليس أحد يأتي يوم القيامة إلاَّ وله زلَّة، إن شاء الله عاقبه عليها، وإن شاء عفا عنه. ويعضده حديث عائشة وأبي هريرة " لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا أنا ". وفي " مسلم " عن جابر مثله. ومنه قول الخليل: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. وفي " مجمع الزوائد " عشرة أحاديث مثل ذلك. وفي قول آدم ونوحٍ في كتاب الله. والعجب من المعتزلة أنهم يُفضلون الملائكة على الأنبياء والصالحين مع قوله في الملائكة: {لا يفتُرُون} [الأنبياء: 20]، وفي آية: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أي: يَعْيَوْنَ، ومع ما عُلِمَ من عصمة الملائكة من شهوة النساء والطعام والشراب، ثم يُعَوِّلُون بعد هذا على أن الثواب علي قَدَرِ المشقة. ومن أعظم ما يُحتج به على ذلك ما قطع به الجماهير وجوَّزه الجميع من تفضيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نوحٍ عليه السلام، وأمثاله ممن كانت شِرعته أشق وعمره أطول، ومشقته أكثر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بقي عاملاً بشريعته قدر عشرين عاماً مع ما عُلِمَ من سهولتها بالنسبة إلى ما قبلها من الشرائع، وإلى ذلك الإشارة بنحو قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]. ولذلك ورد في الصحيح أنهم تقالُّوا عبادته، وقال بعضهم: إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغضب، وقال: "إني
لأعلمُكم بالله وأخشاكم له، ولكنَّها سُنَّتي" (¬1) الحديث أو كما ورد. ووصف شريعته - صلى الله عليه وسلم - بأنها الحنيفية السمحة (¬2)، ونهى عن الرهبانية (¬3) ¬
والتشديد (¬1)، وقد أفردت هذا المعنى في جزءٍ مفرد ولله الحمد، وأوضحت فيه أنه لا رابطة عقلية ولا شرعية بين الحقِّ والعسر، ولا بين الباطل والسهولة لما صح من ضلال كثير من أهل الأعمال الشاقة من رهبان النصارى وخوارج هذه الأمة ومبتدعتها، وعكس ذلك والحمد لله رب العالمين. ولذلك صح بلوغ صلاة الجماعة والصلاة في الحرم، وفي ليلة القدر، وعلى هذه الأحوال كلها تلك المبالغ العظيمة (¬2)، ومن ثم (¬3) صح تفضيل سورةٍ على سورة، وآيةٍ على آية، وكانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن (¬4)، ومن ثم كان الحليم أفضل من المتحلِّم ونحو ذلك، ومجموع ¬
تلخيص الجواب عن المعتزلة القائلين بأنه لا يستحق الثواب إلا مع المشقة
ذلك يوجب التواتر، ومنع التأويل بما ذكرنا غير مرة من أن العادة تقضي بالظاهر فيما شاع من عصر النبوة والصحابة، ولم يذكر تأويله ويحذر من ظاهره. وقد ردَّ الإمام المتوكل أحمد بن سليمان (¬1) عليه السلام على نشوان بن سعيد قوله بنفي التفضيل، لأنه أراد نفي (¬2) تفضيل أهل البيت بنسبهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالغ في أن الله لا يفضل أحداً إلاَّ بالعمل، فبالغ الإمام في رد ذلك، واحتج بالنصوص مثل قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وذكر ما تقدم من تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - مع قصر عمره وسهولة شريعته، وذكر أن الله فاضل (¬3) بين المواضع، وفضل بعضها على بعض كالكعبة، وبين الأزمان كرمضان، وبين الليالي كليلة القدر، فجعلها خيراً من ألف شهر، وبين الأيام كيوم الجمعة، وطوَّل عليه السلام في ذلك، وجوّد في الرد على شُبَهِ (¬4) نشوان في نفي ذلك. وتلخيصُ هذا الجواب أن المشقة في التكليف صارفٌ عن الخير، وداعٍ ¬
إلى الشرِّ، لا معنى لها غير ذلك، فإمَّا أن يشترطوا في التكليف أن تكون تلك المشقة اللازمة (¬1) له راجحةً على الدواعي إلى الخير والصوارف عن الشر أو لا، والأول ممنوع لوجوه: أولها: الاتفاق على ذلك، فإن المعتزلة لا توجب ذلك (¬2) التكليف. وثانيها: لزوم أن لا تقع الطاعة من مكلَّفٍ أبداً، لأن المرجوح لا يقع قطعاً، وإلاَّ لزم تجويز وقوعه من الله تعالى. وثالثها: وقوع جميع أنواع المعاصي من كل أحدٍ (¬3) من المكلفين. ورابعها: أن ذلك يناقض إيجاب المعتزلة اللطف على الله تعالى. وخامسها: أنه يوجب جواز أن يفعل الله المفسدة في التكليف، وهو عندهم ممنوعٌ، فإنهم منعوا أن يفعل الله الدواعي الزائدة التي يعلم الله تعالى أن العبد (¬4) يعصي عندها، ويصح تكليفه بدونها، وهذا يلزمهم قبح جميع الدواعي إلى القبيح (¬5) الأصلية التي وقع القبيح عندها، لأن العلة وقوعه (¬6) عندها، سواء كانت أصليةً أو زائدة، وفرقهم بينها بأن الأصلية شرطٌ في صحة التكليف ممنوع بما ذكرنا في هذا البحث، ولأنه يؤدي إلى أن يكون الشرط في صحة التكليف فعل ما هو مفسدةٌ فيه، وهذا متناقض. وسادسها: أن الله تعالى أخبر أنه لا يفعل مثل ذلك، فقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، وقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. ¬
وسابعها: أنه لا يلزم عدم التكليف بترك ما لا يشق، أو عدم الثواب بترك كثيرٍ من المحرمات من نكاح الأمهات والبنات وسائر المحارم، وكثير من أنواع الكفر، والسُّخْف، والخِسَّة، والكذب الضار، وهذه الأمور هي أعظم المحرمات وأغلظها. وكذلك قضاء الجواد المُمَدَّح واسع الغنى لدانقٍ من الدين لا يسمى تكليفاً مشتقاً من الكُلفة مع كونه واجباً مأموراً به مُثاباً عليه، وكذلك قول الملائكة والصالحين: سبحان الله، مما لا يصح بقاء الكلفة فيه على الإطلاق في الحقيقة العرفية خصوصاً. وكذلك اعتقاد بطلان ربوبية الحجارة ونحوها، وكذلك ترك الشيعة للنصب والسنية للرفض. والثاني: -وهو أن تكون المشقة اللازمة للتكليف مرجوحة- مسلَّمٌ، ولا يضر تسليمه، لأن اللطف حينئذ حاصل بتكثير الدواعي إلى الخير وتقويتها، وذلك مقدورٌ لله تعالى بالإجماع كالمعصوم من الملائكة والأنبياء مع بقاء اسم الاختيار، واسم الطاعة والمعصية، وإن بطل المعنى المناسب لاسم التكليف في اشتقاقه. وقد صحح هذا الإمام يحيى بن حمزة في بعض مصنفاته، وابن عبد السلام في " قواعده "، وجوَّد ذلك فثبت أن اسم الطاعة والعبادة، واسم الحرام والمعصية لا يلازم اسم التكليف ومعناه ملازمة الصفات الذاتيات، ولا الشروط الواجبات، وإنما تكون المشقة في التكليف من العوارض الزائلات. فإن قيل: إنا مُكَلَّفون فيما لا مشقة فيه بالأسباب الشاقة أجبنا بوجوه: الأول: أن هذا السؤال لا يرد إلاَّ على السؤال السابع. الثاني: أن فيه ما لا مشقة في سببه، مثل ترك عبادة الأصنام، وأن بطلان ربوبيتها معلومٌ بالضرورة، وكذا قبح عبادتها الصارف عنها، ولا داعي لنا إلى عبادتها ألبتة.
وكذلك نكاح الأمهات، النُّفرة فيها طبيعية لا كُلفة في تركه، ولا تتوقف النفرة عنه على معرفة صحة الشرائع. الثالث: أنا نعلم ضرورة أن التكليف تعلق بترك ما لا مشقة فيه بنفسه من غير نظرٍ إلى مقدمات الترك، على أن تلك المقدمات الشافة إنما وجب لأجله، فلو كان شرط التكليف المشقة (¬1)، ولا مشقة في المقصود، لزم أن لا يصح التكليف به، فلا يجب التوصل إليه بما فيه مشقة على أن (¬2) تسمية ما لا يتم الواجب إلاَّ به واجباً متنازعٌ فيه، والصحيح أنه ليس بواجب، ولكن لا بد منه، ويظهر ذلك بعدم وجوب نيته، ولا تجب نية (¬3) صوم جزء من الليل، ولا غسل جزء من الرأس، ولا تتعلق به العقوبة. الوجه الثالث من أصل الجواب: أن قولهم: إن اختيار (¬4) الحسن مع المشقة يوجب الثناء والثواب، ومع غير المشقة يوجب الثناء دون الثواب، يقتضي أن اختيار العبد الذي تصحبه المشقة أرفع مرتبة في استحقاق الحمد والثناء (¬5) من اختيار الرب عز وجل، لأن نزول اختيار الرب عن استحقاق درجة الثواب على هذا الوجه إنما كان بسبب قصوره عن مرتبة داعي العبد الذي قوي على دفع الصوارف، والصبر على المكالف، ولم يشعر المعتزلي أن هذه صفة نقصٍ للعبد تدل على عجزه لا سوى، إذ لا أثر لصارف المشقة مع رجحان داعي الرغبة، حيث إن الفعل يقع عند رجحانه سواءٌ شق أو لم يشق، ولا يقع مع عدم رجحانه شق أو لم يشق، فإنما المشقة من لوازم ضعف العبد، وقلة قدرته لا من لوازم زيادة الثناء والثواب. ¬
ولذلك ورد في الحديث " أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف " (¬1)، وما ورد في الشريعة المطهرة في بعض الصور من زيادة الأجر (¬2) عند المشقة فسببه رحمة الرب الكريم سبحانه للعبد، وليست المشقة تقتضي بنفسها وجوب ذلك بدليل ما قدمنا من تواتر المضاعفة من غير مشقة. وكذلك ما ورد من تضعيف العقاب عند ضعف الداعي إلى المعصية، وعدم المشقة في تركها، سببه أنه ضعَّف داعي الرحمة المقتضي لتخفيف كثير من العقاب المستحق فبقي موجب العقاب بلا معارض، لا أن عدم المشقة أو ضعفها انتهض سبباً لتضعيف العقوبة، ويقوِّيه مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} الآية [النور: 61]، فإنه لم ينف الحرج عنهم، لأنهم أفضل من الأصحَّاء (¬3)، بل لأنهم أضعف، وقد كان أفاضل الصحابة أصح وأقوى وأقل مشقة واتقى. ويحتمل جواباً آخر في الوجهين، وهو أن يكون الأجر على المشقة من قبيل الأجر على الآلام، وهي ضرورية لا اختيار للعبد فيها، ويوضحه أن المشقة تزيد وتنقص بغير اختيار، بل توجد وتُعْدَمُ بغير اختيار، فيكون ذلك الأجر زيادة في بعض الصور ومُقَلِّلاً للعقاب في بعضها، وذلك من العوارض التي لا يجب استمرارها، فقد تكون المصلحة والحكمة في تضعيف ثواب ما لم تصحبه تلك ¬
المشقة أعظم من ثواب ما صحبته. فهذا الجواب قوي جداً وبتحقيقه يتضح ما تقدم أن ما يلحق العبد من المشقة عند أفعاله الاختيارية من جملة صفات النقص التي تنزه عنها الرب عز وجل، وأن أكمل الاختيار، وأكمل القدرة، وأتَمَّ التمكن ما لم تعلق به المشقة والعجز والكسل والتردد في العزم. الوجه الرابع: أنه لو كان مجرد الاختيار من غير مشقة لا يكفي في استحقاق الثواب، لما كان اختياره تعالى للإحسان إلى العباد يكفي في استحقاق الشكر عقلاً على أصول المعتزلة، لأن الشكر جزاء النعمة، والجزاء في معنى الثواب، لكنه يختص في العُرف بما كان من المرتبة العليا إلى السفلى، فصار الشكر والثواب كالأمر والدعاء صورتهما واحدة، واسمهما ومعناهما يختلف باختلاف عُلُوِّ المرتبة وانحطاطها. فصورة " افعل " منا إلى الله تعالى دعاء، ومن الله إلينا أمرٌ، ولا ينعكس، والجزاء منا لله تعالى شكرٌ، ولا يكون ثواباً، والجزاء من الله تعالى لنا ثواب، وقد يسمى شكراً إما مجازاً أو عرفاً، ولا يجوز تسمية شكر الله تعالى ثواباً لا حقيقة ولا مجازاً. فإذا كان الله سبحانه قد أوجب شكره على ما لا يُشَقُّ عليه، والشكر له عز وجل عندهم كالجزاء على إحسانه مع أنه سبحانه هو الغني الحميد، فكيف لا يكون كذلك في حكمته في ثواب العبد؟. الوجه الخامس: أنه إنما يلزم ما ذكروه بناء على أن الثواب واجب على الله تعالى في العقل، وإن لم يَعِدْ به، ولم يجمعوا على هذا، فإن البغدادية منهم لا يوجبون الثواب، وكذلك طوائف أهل السنة، ولكن الله سبحانه وتعالى يفعله قطعاً لوعده الصادق بذلك، وهم مطالبون بدليل قاطع على إيجاب الثواب عقلاً، وأدلتهم هنا ضعيفة، والطعن ممكن فيها، وبذلك يبطل قولهم: إنه ليس
كلام بعض المعتزلة أن الصلاة وسائر الواجبات إنما وجبت لأنها ألطاف
في مقدور الله تعالى ولا في معلومه لُطْفٌ للعصاة، وإيجاب الثواب ينبني على قولهم: إن الواجبات كلها وَجَبَتْ لوجوهٍ ثابتة في نفس الأمر، لا بإيجاب الله تعالى، والله عندهم غير مختارٍ في الأحكام الشرعية. وقد اكتفى بعض أهل السنة في رد مذهبهم باعتقاده أنه باطلٌ بالضرورة الشرعية وظنه (¬1) أنهم لا يتجاسرون على دفع (¬2) ذلك، ولم يشعر أنه صريح مذهبهم (2)، وهو يكفي السني (¬3) في معرفة بطلان قولهم، فإنه يستلزم أنه لا فرق بين الرب عزَّ وجلَّ وبين المفتي بالصواب في الأمور المعلومات، ويلزمهم مثل (¬4) ذلك في المظنونات، لأنهم يقطعون بتصويب كُلِّ مجتهد فيها، فيكون الصواب معلوماً للمفتي. ومن تعاليلهم الركيكة في ذلك أن الصلاة وسائر الواجبات الشرعية إنما وجبت، لأنها لطفٌ في الواجبات العقلية على معنى أن الله تعالى علم أن من فعل واجباً شرعياً فَعَلَ واجباً عقلياً، والمحرمات الشرعية مفاسد في العقلية على معنى أن من فعل محرماً شرعياً فعل محرماً عقلياً. وقد ألزموا أن من سَكِرَ من الخمر، قبح موته حتى يصحو، فمن واصل السكر كان في أمانٍ من الموت حتى يصحو، وحتى يرتكب قبيحاً عقلياً (¬5) بعد صحوه. وكذلك من فعل واجباً شرعياً، كان في أمان من الموت حتى يفعل واجباً عقلياً. ¬
وقد ألزموا مع توسعة الوقت في الواجب (¬1) أن تكون المصلحة المفعولة بعده واقعةً بعد خروج وقته الموسَّع، إذ لو جاز وقوعها قبله قبُحت التوسعة، ومنع (¬2) ذلك، فيلزم الأمان من الموت في أول وقت الصلاة إلى آخره في حقِّ من صلَّى أو عزم على الصلاة، والمعلوم بالحسِّ خلاف ذلك كله. وأيضاً فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم بنصِّ كتاب الله، ولا موجب لتأويله بقثل بعضهم بعضاً، وعلى تسليمه، فصبر المقتول للقتل واجبٌ عليه شرعي، كصبر المقتول في حدِّ الزنى وفي القصاص. ولا بُدَّ على أصولهم من كونه لطفاً في واجب عقلي يقوم به المقتول، ومتى يكون ذلك، ولا يصح التكليف عندهم في البرزخ ألبتة، ولا يكفي المقتول كون ذلك لطفاً للقاتل كما اعتذروا بذلك، لأنهما واجبان شرعيان على مكلفين مختلفين، فوجب أن يكون كل منهما لطفاً فيما يخصُّهُ. بل الصبر في الجهاد الواجب المفضي إلى الشهادة واجبٌ شرعي، وقد يتصل به القتل فوراً قبل أداء واجب عقلي، مثل المقتول فوراً بسهم، أو المضروب عنقه (¬3) بغتةً أو نحو ذلك. وعلى تسليم ما ذكروه فلا دلالة في العقل على وجوب الجزاء على السيد للعبد إذا فعل ما يجب عليه، خصوصاً على قول المعتزلة هذا المقدم، وهو أن الواجب يجب لنفسه، وأن الله لم يوجب شيئاً من الواجبات، ويتأوَّلون إيجابه تعالى بإخباره بالوجوب، والمختار أنه لا يجب البحث عن وجه وجوب الشرعيات لو لم يرد بيانه، لكنه قد ورد بيانه في أمرين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
حكاية مذهب أهل البيت أن الوجه في وجوب الشرعيات كونها شكرا
الأول: كونها شكراً لله عز وجل، وذكر في " شمس الشريعة " عن أبي مُضَرَ أنه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهو مذهب يحيى بن الحسين الهادي سمعته من العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير، ثم وجدته منصوصاً في كتاب " البالغ المدرك " وشرحه السيد أبو طالب ولم يتأوله، ونصَّ عليه عبد الله بن زيد في كتابه " المحجة البيضاء "، وهو قول البغدادية من المعتزلة (¬1)، وهو الذي تقتضيه قواعد أهل السنة أجمعين، قال الله سبحانه: {اعمَلُوا آلَ داودَ شُكْراً} [سبأ: 13]. قال الزمخشري (¬2) على اعتزاله: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه، وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدَّى على طريق الشكر. وقال في تفسير {وقليلٌ من عباديَ الشَكورُ} [سبأ: 13]: إنه المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكَدْحاً. انتهى. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: " أفلا أكون عبداً شكوراً " (¬3). ¬
ولا شك أن امتثال أوامر المحسن لأجل إحسانه يُسمى شكراً، إما في الحقيقة الوضعية، أو في الحقيقة العرفية، أو فيهما معاً، وأما الكلام في كل فرد من أفراد التكليف وما الوجه في تسميته شكراً، فلا داعي إلى التطويل بذكره هنا، لأن هذا عارض، ولا حاجة إلى تكلُّفه هنا مع الاعتراف بحكمة الله تعالى، وأنه يعلم ما لا نعلم، ومن أدقِّه الكلام في أفعال الحج (¬1)، وقد تكلم فيه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح " العمدة "، وقد أفردت الكلام على هذه المسألة، وفيها مباحث سهلة. الثاني: إنها من أسباب معرفة الله والإيمان به، لقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وقوله تعالى بعد ذكر حكم الظهار في المجادلة: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4]. ويُؤيِّدُ هذا من العمومات مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] ونحوها {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ففي ظاهرها (¬2) ما يدل على أن العلم بالحق هو المقصود الأكبر بجميع ما اشتمل عليه الكتاب من الأوامر والنواهي وغيرهما كما دلَّ على ذلك ما تقدم بالنصوصية الخاصة. ويؤيد هذا أن الله تعالى قد علَّل وجود العالم في الابتداء والبعث في الانتهاء بكونه وسيلةً إلى العلم به سبحانه، أما في الابتداء فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ¬
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 38 - 39]، وقال تعالى بعد ذكر الشيطان: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] فدل على أن المقصود الأعظم بجميع المخلوقات، وشرع الشرائع هو هذان الأمران. وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وهذه معارفٌ شرعية، وليس للعقول فيها حكم قاطع كما ذكرته المعتزلة، وربَّما تعلقت بهذا مباحث ليس هذا موضع شرحها، فثبت أن الثواب غير ثابت عقلاً للمطيعين، وبطل مع هذا قول المعتزلة: إن المشقة إنما كانت شرطاً في حسن التكليف ليجب الثواب عقلاً، وثبت أن الله تعالى لو هدى العصاة بإزالة المشقة في فعل الخير وترك الشر كان ذلك على الله يسيراً، وكان حسناً جميلاً، ولم يكن مُحالاً ولا قبيحاً. الوجه السادس: أن السمع قد دل على قدرة الله تعالى على هداية الخلق أجمعين دلالة ضرورية أو قطعية يتعذر تأويلها (¬1) لوجهين: أحدهما: ما تقدم من المنع من تأويل آيات المشيئة وأمثالها مما شاع مع الخاصة والعامة في عصر النبوة والصحابة وانقضاء ذلك العصر الذي هو عصر الهدى المجمع عليه والبيان لِمُهمات الدين، ولم يذكر لذلك الظاهر تأويل ألبتة، ولا حذر من اعتقاد ظاهره، فإن العادة تقضي بذلك وإن لم يكن واجباً كما مرَّ تقريره. وثانيهما: أنه يُعْلَمُ من سياقها أن المراد بها التمدُّحُ بالقدرة على الهداية ¬
التي يستحق بها الثناء والثواب، ويلزم من لم يقبلها حصول الذم والعقاب، وهي الهداية التي تكرَّر وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحرص عليها، والعجز عنها، والرغبة إلى الله تعالى فيها، والمبالغة في طلبها بعبارات متنوعة وصيغ مختلفة كقوله عز وجل: {إنَّك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص: 56]، وقوله تعالى: {لعلَّكَ باخِعٌ نفسَك أن لا يكونُوا مؤمنين} [الشعراء: 3]، وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99 - 100]. وأمثال هذه السياقات مما يدلُّ على أن الله عزَّ وجلَّ لو شاء لحصل منهم المطلوب، ولكنه لم يشأ ذلك لبالغ حكمته التي عجز عن دركها أذكياء النُّظار، وعَشِيَتْ عن أنوارها المضيئة منهم الأبصار، وفيها قال الله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وفي جواب: {أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها}، قال: {إنِّي أعلَمُ ما لا تَعْلَمون} [البقرة: 30]. ومن ذلك ما حكاه الله عن المشركين من قولهم: {لو شاءَ الله ما أشْرَكْنا} [الأنعام: 148] مع قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} (¬1) [الأنعام: 107]، وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] المعلوم (¬2) أن هذه الهداية هي التي ينتفعون بها لا الإكراه الذي يمنع نسبة الفعل إلى المكره، ولا يُغني عنه شيئاً. وكذلك قوله عز وجل: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] أي: ¬
كلام على قوله تعالى: {ولو شئنا لرفعناه بها} الآية
لكانوا مؤمنين ينفعُهم إيمانُهم، ويُنجيهم من عذاب الله، كقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] أي: لصرفنا عن الشرك بمشيئته، فهدانا بالإيمان الذي به سَعِدَ (¬1) المؤمنون. وإذا تتبعت آيات المشيئة، اضطرَّك مجموعها إلى القطع بما ذكرناه، وأفادك رِكَّةَ تأويلات المعتزلة، بل بطلانها، فمن ذلك قوله تعالى: {ولو شِئْنا لرَفَعْناه بها} بعد قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]، فإن الآية الأولى دلَّت على أنه لما انسلخ من آيات الله باطراحها، والعمل بخلافها وقع في مَهْواةٍ من الهلكة، استولى عليه فيها الشيطان، ثم جاءت الآية الثانية مبينة أن الله عزَّ وجلَّ لو شاء، لعصمه عصمة أوليائه الصالحين، فقال عز وجل: {ولو شئنا} أي: أن نرفعه ونُنجيَه من الهلكة، ونَعْصِمَهُ من الوقوع في المعصية، لرفعناه بها، أي: بالآيات التي أوتيها، وهذه المشيئة التي دلَّت " لو " على انتفائها ليست هي مشيئة الإكراه، لأن تلك لا ترفعه ولا تنفعه، وعلَّلَ سبحانه عدم المشيئة بقوله: {ولكنَّه أخْلَدَ إلى الأرضِ واتَّبَعَ هَواهُ} [الأعراف: 176] أي: بسبب ركونه إلى الأرض، ونسيانه الآخرة، واتباع هواه، استحقَّ انتفاء مشيئة نجاته وعصمته، فجعل الامتناع من رفعه عقوبته على اتباع هواه وإخلاده، لا عدم انتفاعه بإكراهه، ولا عدم القدرة على إرشاده، وفيه تنبيهٌ على أنه عُوقِبَ على اتباع هواه بترك هدايته النافعة، وأما ترك إكراهه، فليس بعقوبةٍ كما أن إكراهه ليس بنعمةٍ ولا مثوبةٍ. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] فلو كانت هذه المشيئة المذكورة (¬2) هي مشيئة الإكراه، لكان المعنى على زعمهم أنه لا ¬
يصح منهم الإيمان اختياراً، وإنما يصحُّ منهم مكرهين، وهذا غيرُ مُرادٍ بالاتفاق بينهم وبين أهل السنة. والمعلوم أن الآية مسوقةٌ لنفي تأثير كل من يعتقد أنه يُؤَثِّر في الإيمان من دون مشيئة الله، وسواءٌ ذُكِرَ (¬1) ذلك المؤثِّر في هذه الآية أو لم يذكر، فليس لقائلٍ أن يقول: إنهم لو سمعوا النفخ في الصُّور، ورأَوُا السماوات تمور، وشاهدوا بعثرة القبور، آمنوا، وإن شاء الله أن لا يؤمنوا، وذلك لأن هذه الأمور المسكوت عنها في الآية هي في حكم الأمور المذكورة في الآية. وإنما نظير هذه الآية في استواء المنطوق والمفهوم {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] في إفادة تحريم جميع أنواع الأذى، وإن لم يكن تأفيفاً ولا نهراً. وقد ألطف الزمخشري (¬2) العبارة، وأغرب (¬3) الحيلة في تأويلها، فحاول أن يجعل هذه الآيات في (¬4) الآيات التي اقترحها المشركون، فتأوَّل قوله فيها: {وحَشَرْنا عليهم كُلَّ شَيءٍ قُبُلاً} بقولهم: {أوْ تَأْتيَ بالله والملائكةِ قَبيلاً} [الإسراء: 92]. وكيف يصح له هذا وتنزيل الملائكة هو الذي صدر الله عزَّ وجلَّ به الآية، وخصَّصهم بذكر الإنزال، لكونهم في السماء، ثم عطف عليهم غيرهم بلفظ الحشر الذي هو بهم أليقُ من الإنزال، ثم جاء فيما عطفه عليهم بأدلِّ (¬5) الأشياء على المغايرة، وهو كل شيء الذي لا يصلح (¬6) أسماء للملائكة على جهة الحقيقة مطلقاً، ولا على جهة المجاز في هذا الموضع، والمجاز يحتاج إلى مساعدة القرينة، ولا نصَّ مع عدمها، فكيف مع دِلالة (¬7) القرينة على بُطلانه؟ ¬
وبالجملة: فلو سُلِّمَ للزمخشري ما حاوله من تنزيل الآية على ما اقترحوه من الآيات، لم يسلم لهم أن ما اقترحوه من الآيات غير مسقطٍ للاختيار في العادة لولا مشيئة الله تعالى، ولا له على ذلك دليلٌ، ولا يمنع من (¬1) ذلك مع بقاء مفهوم الآية في تعظيم تأثير إرادة الله تعالى، فإنها أعظم أثراً من قيام الساعة، فإن قيام الساعة لو أراد الله ما أثَّرَ في إيمان أحد. بل قد ورد النصُّ الذي لا يمكن تأويله بذلك حيث قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] وحيث قالوا لأعضائهم حين أنطقها الله بالشهادة عليهم فيما جحدوا من الحق يومئذٍ: {لِمَ شَهِدْتُم علينا} [فصلت: 21] وتأويل هذه النصوص ممن تأوَّلها من أعظم الجنايات على الكتاب العزيز. وقد صح الامتحان بنوع من التكليف يوم القيامة كما يأتي في مسألة الأطفال، ووقعت المخالفة من بعض المكلفين (¬2) يومئذ، وأجمع أهل السنة على صحة ذلك كما يأتي مقرَّراً إن شاء الله تعالى. وليت شعري ما المانع أن يقترح الكفار ما يسقط معه الاختيار في العادة، بل لم يزل دأبُهم اقتراح مثل ذلك، وقد نص الله سبحانه على ذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 21 - 22]. فهذه آية واحدة مما ذكر الله سبحانه من تلك الآيات صارت ملجئة لهم إلى الإيمان بحيث لا ينفعهم عندها الإيمان، ولكنها لا تلجئهم إليه إلاَّ بإرادة الله سبحانه. ¬
وأوضح منها قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] أي: لم تكن كسبته من قبل كقوله: لَلْبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عَيْني (¬1) أي: وقرارها، وهذا ليس من مقصودنا، ولكنه قيدتُه هنا خوف ضياعه. وبالجملة إما أن يُسَلِّمَ الزمخشري أن الآيات لا تؤثِّر في الاضطرار إلاَّ مع إرادة الله عزَّ وجلَّ للاضطرار أو لا، إن سلَّم ذلك، لزمه مذهب أهل السنة: أن التأثير لإرادة الله تعالى، فلو شاء ما آمن أحد ولو يوم القيامة، ولو شاء لآمن كل أحد اختياراً ولو بأدنى الآيات أو بغير آية، وإن لم يسلم ذلك، قام عليه الدليل من العقل والسمع. ¬
أما العقل، فلأن وقوع الاضطرار إنما هو فعل الله تعالى في العبد، ولذلك كان اضطراراً، ولو كان فعل العبد، كان اختيارياً، فإذا كان فعل الله، توقف على مشيئته. بيانه: أنه راجع إلى قوة الرعب، وهو من مقدورات الله وحده، قال الله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نُصِرْتُ بالرُّعب " (¬1). يُوَضِّحه: أن قوة القلب وشجاعته ورقته وجبنه من فعل الله تعالى إجماعاً، وكل ذلك ما لا يقف على حد، فلو شاء الله، لزاد في قوة بعض القلوب حتى لا تخضع لآية، ولو شاء لأضعفه حتى ينفلق لأدنى خيالٍ لا حقيقة له. ومن الدليل على أن مذهب أهل السنة هو الفطرةُ التي فطر الناس عليها، أن (¬2) المخالفين يرجعون عند تحقق الحقائق إليها، وقد ختم الزمخشري كتابه " الكشاف " (¬3) بدعاء طويل جعل خلاصته أن يهب الله سبحانه له خاتمة الخير، بهذا اللفظ، فلو أنه حافظ على مذهبه في وجوب اللطف على الله، لكان ذلك التضرُّع الطويل لَعِباً وعبثاً لا فائدة فيه، لأن الله تعالى على زعمهم إن كان في علمه وقدرته لطفٌ لأحدٍ من جميع خلقه وجب عليه أن يفعله وجوباً يقبح منه تركه، ولا يُسَمَّى واهباً من قضى واجباً، وإن لم يكن ذلك في علم الله، فليس من مقدوراته حقٌّ يَهَبُه. ولهذه النكتة احتج الإمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام على قدرة الله تعالى على هداية جميع المكلفين بإجماع المسلمين على سؤال الهداية واللطف، وهم لا يسألون الله تعالى ما لا يقدر عليه، وهذا واضح ولله الحمد والمنة. ¬
وأما الدليل على ذلك سمعاً، فقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] مع قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15]. فانظر كيف نصَّ سبحانه على خضوعهم لآية واحدة، وذلك لا يكون إلا مع مشيئته سبحانه أن يخضعوا، ونص على عدم خضوعهم بفتح باب من السماء وعروجهم فيه، وهي من أعظم الآيات لما لم يُرِدِ الله خضوعهم لذلك، ولو أراد الله سبحانه أن يخضعوا لذلك أو لدونه، لطارت أفئدتهم، ولانت شدتهم لأقل من ذلك، ولكن حكمة الله جارية بوقوع الأشياء بأسبابها مع قدرة الله تعالى على وقوعها من غير أسبابها (¬1)، ولذلك قال في إنزال الملائكة يوم بدر: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126]. وما أعظم اغترار الجُهَّال بالأسباب، ونسبة التأثير إليها دون ربِّ الأرباب، فهي على الحقيقة للغافلين أعظم حجاب، ومن أبياتٍ كنت قلتها في ذلك: حَجَبْتَ مَنْ شئت بالأسباب عنك فما ... يراكَ إلاَّ بصيرُ القلب ذو حَالِ وأوضح من ذلك كله قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] فسبحان من هو بكل شيء بصيرٌ، وعلى كل شيءٍ قدير، وما كفرت الفلاسفة إلا لظنهم أن الأسباب مؤثرة لما رأوا من ملازمتها المسببات، كقولهم: إن إحياء الموتى من المحالات، وأمثال ذلك. ¬
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. والدليلُ على أن الهداية في هذه الآية مما لا يصح تأويله بالإكراه أنها هداية مانعة من دخولهم النار، بدليل قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فلو كانت هداية إكراه، لصحَّ أن يهديهم بها، ثم ملأ بهم جهنم، ولما كان لهذا (¬1) الاستدراك (¬2) معنى، وسياق الكلام من أول الآية يؤيد هذا ويدل عليه. وذلك أن الكفار حين تحققوا صحة المعاد قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وهذا الكلام إنما يليق لو كان الله -تعالى عن ذلك- لم يقدر على هدايتهم فيما تقدم من حياتهم الأولى، ولم يدعها عمداً لحكمة راجحة استأثر بعلمها، فلذلك رد الله عليهم بما يدل على سَبْقِ قدرته على ذلك، وإنه لو أراد ذلك لم يعجز عنه في حياتهم الأولى حتى يستدركه بعد البعث، والله سبحانه أعلم. ويوضحه قوله: {ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] ومن هنا قالت المعتزلة: إن الله بناهم على بنيةٍ لا تقبل اللطف، وقد بيَّنَّا أول مسألة الإرادة أن تغيير تلك البنية مقدور لله عزَّ وجلَّ عقلاً وسمعاً، وكفى دليلاً على ذلك قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} الآية [الإسراء: 50 - 51]، وقد تقدم الكلام عليها. بل هو سبحانه قادر على هدايتهم من غير تغيير بنيتهم، وكفى في بيان ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] وقد تقدم الكلام عليها قريباً. فإن قيل: إنما أتى (¬3) الاستدراك مع الإكراه للتنبيه على أن الإكراه مانعٌ أن ¬
يملأ بهم جهنم، لأنهم لا يتمكنون معه من الكفر الموقع في ذلك. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الإكراه وإن منعهم فعل القبيح، وما يترتب عليه من العذاب، فإنه لا يمنعهم استحقاق العذاب على ترك الواجب الذي منه التوحيد وشكر المنعم، لأن الإكراه على فعل الواجب لا يسقط وجوبه ممن لم يكن فاعلاً له لولا أُكْرِهَ عليه. وإنما قلنا هذا، لأن الآيات نزلت في حق المكلفين الذين ثبت وجوب الواجبات عليهم، وأما إكراه من ليس بمكلَّفٍ، فلا يُسمى إكراهاً، وإنما يقال: إنهم لم يكلَّفُوا ألبتة. ثانيهما: أن هذا إنما يتمشى لو سلم على مذهب أهل السنة، لا على طريقة المعتزلة، وذلك أنهم يقولون كلهم بوجوب الأصلح في الدين، فهذا التأويل يُبْطِلُ قولَهم، فإنَّ الأصلح في هذه الصورة أن يُكْرَهوا على الهدى ليَنْجُوا من العذاب، فإن (¬1) لم يُثابُوا، وقد دلت الآية على أنه ممكنٌ مقدور عليه، فتخلُّفه يرُدُّ عليهم قاعدتهم ردّاً صريحاً، وإن أحالوا حسن هذه الصورة على حكمةٍ لا نعلمها (¬2) فهذا بعينه عمدة أهل السنة في تقرير السمع على ما هو عليه. وأي فرقٍ بين الصورتين مع السلامة من ارتكاب وجوهٍ من التأويل يغلب على الظن أو يتحقق بطلانها. فإذا ثبت سقوط هذا التأويل، فإنه يقتضي نفي المشيئة في شمول الهدى لجميع الناس هدىً ينتفعون به، ويسمون به مهتدين، ويستحقون به النعيم ¬
الكلام على قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} الآية
الأبدي، ويقتضي أن هذا الهدى أُوتيه بعضٌ ومُنِعَهُ بعضٌ بمفهوم هذه الآية وبمنطوق كثير من الآيات كقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] وأمثال ذلك مما يكثر تعداده كقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، ومنه {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فإنها لو كانت بمعنى الإكراه، لكان المعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلاَّ أن يُكْرِهَكُم الله عليها، وهذا نقيض مذهب المعتزلة، بل مذهب الجميع أن الاستقامة لا تصح مع الإكراه. وإن قالوا: هذه المشيئة المنسوبة إلى الله عزَّ وجلَّ هي مشيئة الطاعة التي تلازم الأمر عندهم، وقد شاءها الله تعالى فيما مضى، فالجواب من وجهين: الأول: أن تلك عندهم غير مؤثرة في وقوع الاستقامة، وهذه مرتبٌ (¬1) حصول الاستقامة عليها، فافترقا. الثاني: أن تلك حاصلة من قبل الأمر المقتضي للتكليف في الاستقامة أو معه، فلا يصح ترتيب حصول الاستقامة عليها، كما لا يصح ترتيبه على الأمر لأنهما عند المعتزلة في اللزوم سواءٌ، ولا يصح عندهم أن يقول الله تعالى: وما تشاؤون إلاَّ أن يأمركم الله، ولا جاء مثل هذا في آيةٍ ولا حديثٍ. فكذلك لا يصح مثله في إرادة الطلب اللازمة للأمر، لأن التكليف بالاستقامة مشروطٌ بحصول المشيئة المقارنة للأمر عندهم، فأيُّ فائدة في أن يقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] وقد شاء أن (¬2) تستقيموا كلُّكم، فاستقام الأقل منكم، ولم يستقم الأكثر، فلم تُغْنِ مشيئته عن الأكثرين شيئاً، ولا أثَّرت في استقامة الأقلين، وهذا يناقض مقتضى الشرط في حق الكافرين، وهو باطل، أو عدم تأثيره فيه في حق ¬
المستقيمين (¬1)، وهو لغوٌ لا يصدر من الحكيم سبحانه، والمحتملات العقلية في الآية لا يتأتى على كل منها مصححٌ للتأويل في مذهب المعتزلة، لأن قوله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إما أن يكون مُطلقاً أو مقيداً بالاستقامة. وعلى كلا (¬2) التقديرين، فإما أن يكون الاستثناء مُتَّصلاً أو منقطعاً. الوجه الأول: وهو أن يكون مطلقاً غير مقيد بالاستقامة، فهو يقتضي نفي المشيئة إلاَّ لحصول مشيئة الله عز وجل، وهذا بعينه هو قول أهل السنة هذا إن كان الاستثناء متصلاً، وهو الأمر الذي لا شك فيه، وإن قدَّرناه مُنقطعاً، لم يصح لا على مذهب المعتزلة ولا على مذهب أهل السنة، لاقتضائه نفي المشيئة عنهم مطلقاً غير مُخْرَجٍ منه شيءٌ ولا قائلٌ بذلك، ثم يكون الاستثناء على تقدير انقطاعه جارياً مجرى الاستدراك، فيكون المعنى: لكن مشيئة الله هي الثابتة الحاصلة، وهي أشد بعداً من مذهب المعتزلة، ولا يوافق مذاهب أهل السنة، لأنهم لا ينفون المشيئة المضافة إلى العباد، بل يثبتونها. وإن ادعى مُدَّع أن مفعول المشيئة المذكورة بعد إلاَّ على تقديرها (¬3) منقطعة هو الإكراهُ لم يصح ما ادَّعاه، إذ لا مُشْعِرَ بهذا المفعول، ولا مُرَجِّحَ له على تقدير الاختيار، ثم هو باطل، لأنه يكون تقديره: ولكن مشيئة الله إكراهكم (¬4). وحينئذٍ فإما أن يقدر الثبوت تماماً للكلام أو لا، فإن قُدِّرَ، فهو باطلٌ باتفاق الجميع، لأنه يقتضي أن مشيئة الإكراه واقعة، وإن لم يُقَدَّر، فهو باطلٌ لعدم (¬5) تمام الكلام بعد " إلا " المنقطعة لا لفظاً ولا تقديراً، فإن الصحيح أن " إلا " ¬
المنقطعة بمعنى " لكن "، ولا بُدَّ لها من خبرٍ ظاهر أو مقدر، فالظاهر كقوله عز وجل: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: 98]، والمقدر كقولك: ما في الدار أحد إلاَّ حماراً، أي لكنَّ حماراً في الدار. ذكره نجم الدين (¬1). وقول سيبويه (¬2): إلاَّ المنقطعة بمثابة " لكن " العاطفة، والمذكور بعدها مفرد، لا ينافي ما قلناه من لزوم تقدير الثبوت، لأنه الذي به حسن إيرادُها، لأنها تقتضي المخالفة اقتضاء " لكن " العاطفة. وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون مقيداً بالاستقامة، فإما أن يكون عامَّاً لكل أحد أو خاصاً بالمؤمنين، أو خاصاً بالكافرين، فأما الاحتمال الأول، فهو الأظهر، لأنه خطابٌ للمكلفين عموماً، وهو الذي تمسك به أهل السنة، فالمعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلاَّ أن يشاء الله (¬3) التي تنجيكم من العذاب يقتضي الاختيار من المستقيم. فدعوى المعتزلي أن التقدير: وما تشاؤون الاستقامة إلاَّ أن يشاء الله أن تستقيموا كرهاً، باطلٌ عند الجميع، لأن المؤمنين قد شاؤوا الاستقامة غير مُكْرَهين. ومن أجل ذلك جاء الزمخشري بحيلةٍ لطيفةٍ في تنزيل هذه الآية على ¬
مذهب المعتزلة، فقسَّم المخاطبين طائفتين، ووصف كُلَّ طائفةٍ بوصفٍ ينافي أختها، ثم قسم الاستثناء بينهم، فجعله (¬1) في حق قومٍ متصلاً وفي حق آخرين منفصلاً، ثم قيَّد المشيئة بعد " إلا " بقيدين مختلفين في حق الطائفتين، فقال: وما تشاؤون الاستقامة يا من يشاؤها إلاَّ أن يشاء الله أن تستقيموا بلطفه بكم، وما تشاؤون الاستقامة يا من لا يشاؤها إلاَّ أن يشاء الله أن يُكرهَكم عليها (¬2). والدليل على فساد ما ذكره من وجوه: أحدها: أن هذا التقدير الذي قدَّره، والتفريق الذي أبداه لا قرينة تُشْعِرُ به، وما كان كذلك، فهو باطل، ولو صَحَّ مثل ذلك، لكان لكل أحدٍ أن يقدر في مطلقات كتاب الله تعالى ما يطابق هواه مما لم يقم عليه دليلٌ، ولا أشْعَرَتْ به قرينة. والعجبُ كل العجب من إنكاره تقدير مفعول أمرنا مُتْرَفيها بالطاعة، لعدم القرينة الدالة عليه عنده، وارتكابه أن التقدير فيها: أمرنا مترفيها بالفِسق، ففسقوا على معنى إسباغ النعم عليهم التي تقتضي غفلتهم (¬3) عن ذكر ربهم، وتماديهم في طُغيانهم، فأطلق على هذا الأمر بالفسق مجازاً، هذا على أنه لم يُجَوِّدِ (¬4) الاختيار في هذا الموضع، بل اختار خلاف المختار، وركب التعاسيف المؤدية إلى العثار، فإن السيد المرتضى الإمامي الحسيني (¬5) ذكر في كتابه " الغُرر " (¬6) أن ¬
التقدير في هذه الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، وحذف المفعول اتِّكالاً على ما يقتضيه الأمر من الطاعة، وعلى مناقضة الفسوق للأمر، كما تقول: أمرتُه فعصاني، فإنه يعلم أن المراد: أمرته أن يطيعني فعصاني، وكلام المرتضى في هذا الموضع قويٌّ جداً، كما أن كلام الزمخشري فيه ساقطٌ جدّاً، فيقضي العجب من نسيان الزمخشري في آية المشيئة لفساد تقدير لم يقم عليه من الكلام قرينةٌ ولا دلَّ عليه دليل. وثانيها: أن الآية تقتضي ترتُّبَ مشيئة المكلفين على مشيئة الله تعالى ترتُّبَ المشروط على الشرط، والمسبَّب على السبب ولا يستقيم ذلك على تقدير الزمخشري. أما في حق من يشاء الاستقامة، فلأن اللطف لا يلزم من تخلفه عنده تخلُّف مشيئة الاستقامة ممن يشاؤوها، ولا يلزم أيضاً من وجوب وجوده وجودها منهم، ومثل هذا لا يصلح أن يرتَّب على حصوله (¬1) مشيئتهم. وأما في حق من لا يشاء الاستقامة، فلأنَّ الإكراه نسبة مشيئة الاستقامة إليهم، لأنه يسلُبُهم صفة المدح بها والوصف بالاستقامة التي أمر بها في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كما أُمِرْتَ} [هود: 112] والتي مدح الله بها ورتب الجزاء عليها في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فلا يصح نسبتها إلى المكره لا حقيقة ولا مجازاً. أما الحقيقة: فظاهر. وأما المجاز: فلعدم العلاقة الظاهرة ها هنا المقتضية لتشابه المجبور على الاستقامة والمختار لذلك، فإن هذه الأسماء التي في الاستقامة في هذا الموضع، والهدى والرِّفعة في غير هذا الموضع معدومةٌ عند القهر والعدم منقطعة التشبيه، ولو جاز وصف المجبورين بذلك لجاز وصف الممسوخين قردةً وخنازير ¬
بطاعة الله، والاستقامة على امتثال أوامره، لأنهم كانوا قردة حين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خاسئينَ} [البقرة: 65] وهذا لا يجوز حقيقة (¬1) ولا مجازاً، فكيف يصح أن يُحمل عليه كلام الله تعالى الذي هو أبلغ الكلام وأفصحه وأفضله. وثالثها: أن تقدير " إلا " في هذه الآية دليلاً على الاستثناء وعلى انقطاعه معاً يقتضي إطلاق المشترك على معنييه معاً، أو إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه، وهو باطلٌ، فهذا باطل (¬2). بيان ذلك أن المشترك هو اللفظ المتناول لمعنيين فأكثر بوضعين مختلفين، فإطلاقه على معنييه معاً خلاف وضعه، حتى قال أبو هاشم: إنه محالٌ أن يُراد به معنياه معاً، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه مشهورة، وإنما أردنا الإشارة إليها. وأما الاحتمال الثاني، وهو اختصاصه لمن شاء الاستقامة، وهم المؤمنون، فلا يصح أيضاً، لأنهم إما أن يفسروا المشيئة باللطف أو يحملوها على ظاهرها. وعلى الثاني فإما أن تكون المشيئة هي المقارنة للأمر المقتضي للطاعة، أو تكون مشيئةً خاصة بالمؤمنين، والثاني هو مذهب أهل السنة، -وهو أن يراد بها المقارنة للأمر- باطلٌ لما تقدم من ترتب الاستقامة عليها، وجعلها مؤثرة فيها، والمشيئة المقارنة للأمر غير مُؤثِّرةٍ في حصول الاستقامة. وأما تفسيرُ المشيئة باللطف، فممنوع بعدم النقل الصحيح من اللغة في ذلك، ولا مُلجىء إلى التأويل كما تقدم. وعلى تقدير صحة المُلجىء للقاطع إلى ذلك، وصحة المطابقة لغةً ولو مجازاً، فذلك ركيكٌ جداً نازلٌ منزلة تحصيل الحاصل، وذلك لوجهين: الوجه الأول: أن اللطف بالكافر والمسلم معاً واجب عندهم على الله عز ¬
وجل، وهو لا يُخِلُّ بالواجب، فهو عندهم بمنزلة خلق القدرة، وما لا بد منه في التكليف لا يصلح إيراده على هذه الصفة، كما لا يصلُحُ أن يقال: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلاَّ أن يخلقكم الله أو يقدركم عليها (¬1)، فهذا ما لا ثمرة في ذكره، لأنه معلوم، ومعلومٌ أنه معلوم، ولا يصح الإخبار بمثل هذا عند أهل العربية، ولا دخوله في كلام سائر العقلاء، فكيف بكلام أحكم الحاكمين؟! فإنه يُنَزَّلُ منزلة قول القائل: إن المعدوم أو الجماد: لا يستقيم حتى تخلق فيه القدرة. الوجه الثاني: أن لطف الله تعالى عندهم غير موجبٍ للطاعة، ولا مانع للمعصية، لأنه من قبيل الدواعي، ولا تأثير لها عندكم في الأفعال، وكذلك مشيئته، فدلَّ على أنها عندهم لم تُؤَثِّر أثراً في طاعة المطيع، وإنما هما إزاحة (¬2) عذر لا غير. فعلى هذا كيف يصح اشتراط حصولهما في حصول أفعال المختارين الذين لا تقف أفعالهم عليها، بل الذي نفع (¬3) السعداء اختيارهم ومشيئتهم، وليس لله تعالى في عملهم إلاَّ مثل ماله في عمل الكفار من خلق القدرة والتمكين مع الامتحان بشدة الرغبة في القبيح. فدلَّ على أنه لا بد من تأثير مشيئة الله تعالى، وإلا لكان الاستثناء لغواً، ولا تأثير لها عندهم في أفعال العباد الاختيارية، فتعين على هذا الاحتمال مذهب أهل السنة. الاحتمال الثالث: وهو اختصاصه بمن (¬4) لا يشاء الاستقامة -وهم الكافرون- فإما أن يُجرى على ظاهره، فيكون المعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن تستقيموا، فتستقيمون، فهذا هو اختيار أهل السنة، وهو ¬
كلام المؤلف في قوله تعالى: {سيصلى نارا} يمكن أنه خرج مخرج الوعيد لا مخرج الخبر المحض عن الكائن في الاستقبال
الحق، وأما أن تُحمل المشيئة المستثناة على مشيئة القَسْرِ والإلجاء، فهو باطلٌ بما تقدم. ونزيد هنا وجهاً آخر وهو أنه يقتضي أن الله عزَّ وجلَّ أخبر المخاطبين من الكافرين أنهم لا يؤمنون خبراً مقطوعاً عن الاستثناء، وخبره سبحانه واجب الصدق، فلو آمنوا بعد ذلك، كان إيمانهم تكذيباً لخبره سبحانه، فيستحيل -والحال هذه- منهم الإيمان بصدق الله ورسوله، ويكون في تصديقه تكذيبه -تعالى عن ذلك- وهذا باطل، وما أدَّى إليه، فهو باطلٌ، فيلزم من ذلك بطلان التكليف أو تكليف ما لا يطاق، وليس هذا مثل قوله تعالى لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] لأنه خطابٌ لنوح، لا للمشركين، فكأنه بمنزلة علم السابق المحجوب عن المكلَّفين، والفرق بينهما واضح، فإنه يبقى الابتلاء مع جَهْلِهم بذلك، ولا يبقى مع علمهم به، وقد أشار إليه ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ". وأما قوله في أبي لهبٍ: {سَيَصْلَى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] فجعله ابن الحاجب مثل خبر نوح، كأنه التزم عدم بلوغه أبا لهب، وهو ممكنٌ، وفيه بعد، ويمكن عندي في ذلك أنه خرج مخرج الوعيد لا مخرج الخبر المحض عن الكائن في الاستقبال، وكل ما خرج مخرج الوعيد، فإنه مشروط بعدم التوبة كوعيد جميع العصاة، فيبقى معه الابتلاء صحيحاً، ولو لم يكن ذلك ظاهراً، فلا أقل من الاحتمال، ومعه يزول الإشكال. على أنه وإن قال قائل من أهل السنة بجواز انقطاع الابتلاء من بعض العُصاة قبل الموت والاضطرار إلى الإيمان، فإنه يَصِحُّ على قواعد أهل السنة من [أن] الله تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما علمنا وجهلنا. وأقوى ما ورد في ذلك قوله تعالى للشيطان: {لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ
تَبِعَكَ} [ص: 85] فقوله: " منك " نص فيه، والخبر فيه خاصة أظهر من الوعيد بقرينة إجماع المسلمين على أنه لا تُرجى له توبة. فأمَّا مذهب المعتزلة، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك فيه، ولا يلزم منه تكليف ما لا يُطاق، لأنه إنما يلزم على تقدير أن يؤمن من أخبر الله أنه لا يؤمن، وذلك غيرُ واقعٍ قطعاً، ولا فرق بين التزام ذلك للمُحال، والتزام مخالفه علم الله تعالى لذلك، فكما أن علم الله لم يستلزم انقلاب الممكن لذاته مُحالاً، فكذلك خبره. وهذه المسألة هي المعروفة بالممتنع لغيره، ولا خلاف بين الأشعرية والمعتزلة في جواز ورود التكليف، وإنما اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع لذاته، كما سيأتي بيانه ولا حجة بالممتنع لغيره على الممتنع لذاته (¬1)، لأنه لو خرج بذلك عن كونه مقدوراً أوجب خروج الرب سبحانه عن صفة القدرة لِسَبْقِ علمه تعالى بما هو خالقٌ وبما ليس هو خالقاً (¬2)، وقد قال تعالى: {كَانَ عَلَى ربِّك حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم: 71] ولم يخرُج عن القدرة على خلاف ذلك. وهذا عارض، ولنرجع إلى المسألة المقصودة. فعلى هذا يمتنع في مذهبهم إخبار الله للمكلفين بذلك لعدم الابتلاء، ولأنه عندهم مفسدة، والمفسدة قبيحةٌ، ولأنه يؤدي إلى إفحام الرسل بالإيمان لاستلزامه (¬3) حينئذٍ تكذيبهم، ويستلزم بطلان الترهيب والترغيب ومحو آثار الحكمة فيهما. فإن قالوا: إنه عمومٌ يجوزُ تخصيصه فيبقى الابتلاء. ¬
فالجواب: أن المعتزلة لا تجيز تخصيص العموم فيما يفيد الاعتقاد فقط بمخصصٍ غير مقارن للعموم، لأن ذلك عندهم يؤدي إلى اعتقاد الجهل في صحة العموم أول ما يسمع، أو التوقف في المراد إن لم يقطع بصحة العموم، ولا يجوز الخطاب عندهم بما لا يفهم المكلف المراد منه على التفصيل ولو قبل وقت الحاجة. فإن قيل: هذا الذي قدمتم من تأدية ذلك إلى ما لا يجوز دليل عقلي إجمالي يدلُّ على أن العموم غير مراد، لأن إرادته تستلزم تلك المفاسد. فالجواب: أن الدليل الإجمالي لا يصح عندهم إلاَّ عند أبي الحسين، وذلك لأنه عندهم (¬1) يؤدي إلى خطاب المكلفين بما لا يفهمون، وهو عندهم قبيحٌ، وليس الفهم الجملي عندهم كافياً، وإلا جاز خطاب العجمي بالعربية، لأنه يفهم أن له معنى في الجملة، والرد عليهم في هذه المذاهب مُبَيَّنٌ في كتب أصولِ الفقه، وإنما الغرض بيان بطلان تأويلهم في هذه الآية على قواعدهم. فإن قيل: قوله تعالى: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاءَ الله} [التكوير: 29] على ظاهره يناقض قوله في الآية: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُم أن يَستَقِيمَ} [التكوير: 28] لأن أولها يدل على التمكين، وآخرها يناقضه. قلت: أما أنَّ أولها يدل على التمكين، فصحيحٌ، وأما أن آخرها يناقضه، فممنوع، بل هو يدُلُّ على أن عبد السوء إذا لم يُعْطَ من الهدى (¬2) إلاَّ ما تقوم به الحجة، ويصح معه الفعل والأمر والنهي والثواب والعقاب، لم يفعل إلاَّ ما وافق هواه حتى يتفضَّل الله عليه بالهدى الزائد على القدر الذي يصح معه الفعل، وتقوم به الحجة، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور: 21] وفي مثله يقول سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَنْ يَشاءُ} [البقرة: 105]. ¬
الهدى في كتاب الله ثلاثة أقسام
وسيأتي تعليل التخصيص بالعلم والحكمة، لقوله: {وأضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وقوله في إبراهيم عليه السلام: {وكُنَّا به عالمين} [الأنبياء: 51]. ومنه قوله عز وجل: {ولو شاءَ الله لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى} [الأنعام: 35] لا يَصِحُّ تأويله بالإكراه، لأنه يؤدِّي إلى محو اسم الهدى عندهم، لأنه صفة مدح، وهو الاهتداء الذي من فِعْلِ العبد يمدُح عليه (¬1) ويُثاب، وهو الذي لا يذكر مفعولُهُ في آيات كثيرة، أعني مفعوله الثاني المذكور في قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقيم}. ومثال الآيات التي لا يذكر فيها المفعول الثاني قوله عز وجل: {إنك لا تَهْدِي من أحببتَ ولكنَّ الله يَهْدي من يشاءُ} [القصص: 56]. وكقوله: {يهدي به من يشاءُ من عباده} [الأنعام: 88]، وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي من يشاءُ} [النمل: 93]، وقوله: {من يَهْدِ الله فهو المُهْتَدي} [الأعراف: 178]، وقوله: {مَنْ يَهْدِ الله فما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37]، وقوله: {فلو شاءَ لَهَدَاكُم أجْمعينَ} [الأنعام: 149]. وحاصلُ الأمر: أن الهدى في كتاب الله على ثلاثة أقسامٍ، ثالثُها مجاز. القسم الأول: هدىً هو فعل الله عزَّ وجلَّ لجميعِ المكلَّفين وهو نوعان: النوع الأول: وهو نصبُه الدلالة والتعريف لا اختيار للعبد فيه، وهو من قبيل العلوم الضرورية كالعقل، والعلم الضروري يُسميان هدى، بل هما أساس الهدى، ومن ذلك قوله عز وجل: {وأمَّا ثمودُ فَهَدَينَاهُم} [فصلت: 17]، وقوله تعالى: {الذي قدَّر فَهَدَى} [الأعلى: 3]، وإنما حُذِفَ مفعول " قدَّر "، ومفعول " هدى " للتعميم بدليل سائر الآيات، وقوله عز وجل: {وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} ¬
[البلد: 10] أي: طريق الخير والشر، فسمى مطلق التعريف الذي لا يستحق عليه ثوابٌ هداية. وقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقوله: {إنَّ علينا لَلْهُدَى} [الليل: 12]، وقوله: {فألهَمَهَا فُجورها وتقواها} [الشمس: 8] وقوله تعالى: {بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبْتَ بها} [الزمر: 59]، جواباً على من قال: لو أن الله هداني، ولذلك ذكر الجواب عليهم بالهدى العام الذي هو بعثة الرسل، وإقامة الحجة، وهو قوله تعالى: {وإذ أخذ ربُّك من بني آدم} إلى قوله: {أنْ تقولوا يومَ القيامة إنَّا كُنَّا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله: {لِئَلاَّ يكون للناسِ على الله حجةٌ بعد الرُّسُل} [النساء: 165]. النوع الثاني من القسم الأول الهدى الخاص، وهو اللطف والتثبيت (¬1)، والعصمة والتأييد وما في معناها، وهو يختص بمن اقتضت حكمة الله تخصيصه به. القسم الثاني: هدىً هو فعل العبد، وهو المتوقف على اختياره، وهو العمل بمقتضى الهدى، وهو المعبر عنه بالاهتداء في قوله عز وجل: {مَنْ يَهْدِ الله فهو المهتدي} [الأعراف: 178]، وقوله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المُهْتَدينَ} [التوبة: 18]، وقوله: {وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157]، وقوله: {فتاب عليه وهدى} [طه: 122]، وقوله عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هُدىً} [محمد: 17]. ففعل العبد هو (¬2) قبول الهدى كما ذكرنا، ثم إني وقفت على نحو هذا مما حكاه النواوي عن العلماء كافة، فقال في كتاب الجمعة من " شرح مسلم " (¬3) ما لفظه: قال العلماء: لفظ الهُدى له معنيان: أحدهما: الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد، ¬
قال الله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ} [الشورى: 52]، و {إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقومُ} [الإسراء: 9]، و {هُدىً للمتقين} [البقرة: 2]، ومنه قوله تعالى: {وأما ثمودُ فهديناهم} [فصلت: 17] أي: بينا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3]، {وهديناه النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. والثاني بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله تعالى به، ومنه قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56]. الثالث: الهدى المجازي، ولا بد فيه من ظهور القرينة كقوله عز وجل: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23]، وقوله: {فأنه يُضِلُّهُ ويَهْديه إلى عذابِ السعير} [الحج: 4] ولا بُدَّ فيه من ذكر المفعول الثاني، لأنه قرينته الدالة على المراد منه. إذا ثبت ذلك، فآيات الهدى المعلق على ثبوت المشيئة هنا لا يصلح جعلها من القسم الثالث لفقد القرينة، ولا من القسم الأول، وهو نصب الدلالة مطلقاً لثبوته للجميع في غير آيةٍ كما قدمناه، وهذه الآيات التي فيها المشيئة تقتضي أنه لم يكن، وكذلك الآيات المطلقة في قوله: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام} [المائدة: 16]، وقوله: {سَيَهْديهم ويُصْلحُ بالَهُم} [محمد: 5] يدلُّ على أنه هدىً خاص يستحق به العبد الثواب والثناء لا الهدى الذي لا اختيار معه. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8]. وقوله: {ولو شاءَ الله لجمعهم على الهُدَى} [الأنعام: 35].
وقوله: {ولَوْ شاءَ ربُّك لجَعَلَ الناس أُمَّةً واحدةً} [هود: 118]. وقوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [النحل: 9]. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]. فهذه الآيات لا يصح تأويلها بمشيئة الإكراه في الكافرين ومشيئة الاختيار في المؤمنين، لأنهم حينئذٍ يكونون (¬1) أمتين مختلفتين لا أمةً واحدة كما تقدم في تقريره في قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 28]. وهو قد تمدح سبحانه وتعالى بأنه لو شاء، لجعلهم أمة واحدة، ولا بد لتأكيد الأمة بواحدةٍ من فائدة، وما هي إلاَّ عدم افتراقها وتشعبها، ولا يمكن تأويل ذلك بجمعهم على الكفر فقط، لقوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35] ونحوها. وأصرح من هذه الآيات، وأبعد من التأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 176]، فهذه مصادمة لمذهب المعتزلة مُصادمة النصوص. وكذلك قوله: {ولا تقولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غداً إلاَّ أن يشاء الله} [الكهف: 24] لا (¬2) يصح حمله على مشيئة الإكراه، لأنها تناقض معنى الفاعلية، كما لا يصح الاحتجاج على الخبر، ونفي الاختيار بها لمثل ذلك، ومنه قوله: {إنَّ رَبِّي لطيفٌ لِما يشاءُ} [يوسف: 100]، فلا يصح تأويله بمشيئة الإكراه، لأنها تناقض معنى (¬3) اللطفِ. ¬
وكذلك قوله: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ من يَشاءُ} [البقرة: 269] لأن المقهور غير حكيم. و {مَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] لأن المقهور غير مفتون إلاَّ إذا كانت بمعنى العذاب. وكذا قوله: {إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] لأنه لا يصح أن يكون المعنى: لا تُكْرِهُ على الهدى من أحببت، ويلزم أن تكون الثانية مثلها، وإلا لم يحسن الاستدراك، وكان بمنزلة أن تقول: ولكن الله يرزق من يشاء. ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 87 - 88]، وبيانه: أن ذلك في قوله تعالى: {ذلك هدى} إشارة إلى ما تقدم من هداية أنبيائه وأوليائه والضمير في قوله: {يهدي}، راجعٌ إلى ذلك الهدى الذي هدى به أنبياءه وأولياءه (¬1)، هو الهدى الذي يهدي به من يشاء من عباده، والمعلوم أن هدى من تقدم ذكره ما كان إلاَّ اختياراً لا قسراً. وإذا ثبت أن هدى من تقدم ما كان إلاَّ اختياراً وجب أن يكون هدى من شاء من عباده مثله، لأنه هو. وأما الدليل على أن الضمير في " يشاء " راجع إلى الله تعالى لا إلى " من " فوجوه (¬2): أحدها: أنه جاء كذلك في آيات كثيرة مصرحاً به، ولم يأتِ على العكس، والقرآن يُفَسِّرُ بعضه بعضاً، ولو سلمنا إجمال هذا كان في ذلك التصريح كفاية. ¬
وثانيها: أن الهدى في أول الآية مضافٌ إلى الله تعالى كذلك آخرها. وثالثها: أن هذا مجرد دعوى من غير دليلٍ، وتجويز هذا حرامٌ وِفاقاً خصوصاً في تفسير كتاب الله. ورابعها: أنه يفسد مرادُهم على تسليم صحة تأويلهم، فإنه حينئذ يدُلُّ على قدرة الله على هداية الجميع، إذ لو كان لا يَقْدِرُ إلاَّ على هداية البعض لم يحسن منه التمدح بهداية من يشاء الهداية من جميع العباد، وتكرير التمدح بذلك من غير إشعار بتخصيص، وما يدعونه من المخصصات العقلية ممنوعٌ، بل معكوسٌ كما أوضحناه في هذا الكتاب. وذكر الرازي أنه لا يحبُّ الجهل أحد، فإن الله قادر على تعريف جُهَّال الكفرة بما جَهِلُوه من علوم الإسلام، ونفيه لمحبة الجهل صحيحٌ على جميع القواعد كما سيأتي بيانه في مسألة الدواعي. وخامسها: -وهو المعتمد- ما تقدم من أن نفوذ مشيئة الله معلوم من ضرورة الدين لمن لم يعتقد أنه من جملة المحالات، وقد تقدم بيانه. وسادسها: أنه يلزم الاحتمال في قولنا: زيدٌ يكرم من يشاء، أو رجحان رجوع الضمير إلى " من " أو إلى " زيد "، وكلاهما عنادٌ واضح. فإن سلموا رجحان رجوع الضمير إلى زيدٍ في هذه الصورة لزمهم رجوع الضمير إلى مثله وإلى مثله في أمثالها، وإن (¬1) خصُّوا بقلب المعنى كلام الله لأجل الدلالة العقلية، فقد سلَّموا أن ما قلناه هو ظاهرُ كتاب الله، وقد تقدم أن تأويل هذا المعنى بدعةٌ حادثة، وأن العقل موافقٌ للسمع في ذلك. ومن ذلك تمدُّحه تعالى بأنه فعَّالٌ لما يريد، وأنه يفعل ما يريد، لأنه لا يجوز ¬
أن يكون معناه بعض ما يريد، لأن جميع عباده الضعفاء كذلك يفعلون بعض ما يريدون ويفوتهم بعضه، فوجب أن يكون الربُّ هو المختص بفعل جميع ما يُريد لا يتعذَّر عليه شيءٌ، فوجب متى أراد أن يلطف بعبد أن يقدر على ذلك وإن كان العبد أكفر الكافرين، وأفجر الفاجرين. وهذا كله زيادة بيان على جهة التفصيل، والعمدة ما قدمته من الوجه القطعي الجُملي من أن آيات المشيئة لو كان ظاهرها قبيحاً باطلاً، لقضت العادة بالتعريف بذلك في عصر النبوة والصحابة والتابعين، فثبت بمجموع هذه الآيات وأمثالها وما عضدها من الأحاديث الصِّحاح وآثار الصحابة والتابعين (¬1) مع الأدلة العقلية القاطعة أن إرادة الله سبحانه نافذةٌ، ومراداته كلها واقعة. والعجب من مخالفي أهل السنة في تأويل جميع ذلك، واعتقاد أنه من المتشابه كما صنعوا مثل ذلك في آيات الصفات، وليس يصح أن يكون في القرآن متشابه إلاَّ وفيه محكمٌ يُرَدُّ إليه ذلك المتشابه كما قال تعالى، ولم يرد في آيةٍ واحدة، ولا في حديثٍ واحد من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في أثرٍ واحد من آثار الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى يريد ما لا يكون، بل ما يعلم أنه لا يكون أبداً، كما لم يَرِدْ في شيء من ذلك أن الله تعالى لا يهدي من يشاء، ولا يقدر على اللطف بمن يشاء كما هو الحق الواضح، والمحكم البين عند المعتزلة. وما أفحشَ ما ادَّعوا أنه الحق، وأخبثه في الأسماع وأوحشه في الإسلام، وجميع آيات المشيئة تقتضي تنزُّه (¬2) الرب جل جلاله، وترفعه عن هذه النقيصة التي لا تليق بكمال ربوبيته وجبروته وقدرته وقوته وعِزَّتِه، وما قنعت المعتزلة بإنكار هذه الصفة الشريفة حتى كفَّرت من آمن بما ورد في كتاب الله تعالى من ¬
ذلك، فزادت على الخوارج فإنهم كفَّروا المسلمين بأصغر الذنوب، وهؤلاء كفروهم بأعظم الحسنات، وهو الإيمان بكتاب الله تعالى. ولنذكر الآن شبهة المعتزلة في إيجاب اللطف على الله تعالى حتى يظهر ضعف ما عارضوا به هذه الأدلة الباهرة المتظاهرة، فنورد كلام الإمام يحيى بن حمزة في كتاب " التمهيد " لأنه من المُبالغين في النظر في علومهم، والناصرين لكثيرٍ من مذاهبهم، وإنما يخالفهم فيما اتَّضحت ركَّتهُ، وظهر ضعفه مثل هذه المسألة. فنقول (¬1): قال في " التمهيد " في أوائل الباب الأول في النبوات ما لفظه: فلِمَ قلتم: إن اللطف واجبٌ؟ قالوا: لأمرين: أمَّا أولاً، فلأنَّ اللطف جارٍ مجرى التمكين. قلنا: لا نُسَلِّمُ. قالوا: إن من قدم الطعام إلى إنسان (¬2)، وأراد من ذلك الإنسان أن يتناول (2) من ذلك الطعام، فإنه لا يتناول منه (2) إلاَّ إذا تواضع له، فإنَّ تركه للتواضع يقدح في كونه مريداً من ذلك الإنسان أن يتناول طعامه. قلنا: لا نُسَلِّمُ أن تركه للتواضع، والحال هذه مقدرة (¬3) يقدح في كونه مُريداً على الإطلاق. وبيانه: أن الإرادات مختلفة بحسب العادة والأخلاق، فقد يكون الإنسان مُريداً من غيره أن يتناول طعامه إرادة بالغة في العادة مبلغاً عظيماً، حتى إنه يقدر ¬
في نفسه أن يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف يتناول طعامه عند فعله، وقد يكون مُريداً من غيره أن يتناول طعامه، ولكن لا إلى هذا الحد. فإذا عرفت هذا التفصيل، فنقول: الإرادة إذا كانت واقعة على الوجه الأول كان ترك التواضع قادحاً فيها، فأمَّا إذا كانت واقعة على الوجه الثاني، فلا نُسَلِّمُ أن ترك التواضع يقدح فيها، والعلم بذلك بعد الاختيار ضروري. إذا ثبت ذلك قلنا: لِمَ قلتم: إن الله تعالى أراد من المكلفين فعل الطاعات والاجتناب عن المعاصي على الوجه الأول حتى يلزمه فعل اللطف. بيانه: أن التكليف إنما هو تفضُّلُ وإحسانٌ، والمتفضِّلُ لا يجب عليه أن يأتي بأقصى مراتب الفضل. فإذا كان الأمر كما ذكرنا حَسُنَ من الله تعالى أن يريد من المكلف فعل الطاعة، وترك المعصية على الوجه الثاني، وعلى هذا التقدير لا يلزم من ترك اللطف القدح في الإرادة. وأما قولهم ثانياً: إن ترك اللطف كفعل المفسدة. فنقول: ما عنيتم بقولكم: كفعل المفسدة، بمعنى أن حقيقة أحدهما كحقيقة الآخر، فهو باطلٌ قطعاً، لأن عَدَمَ فعلٍ لا يكون مثلاً لفعل آخر. وإن عنيتم أن ترك اللطف يماثل فعل المفسدة في القبح، فهذا خطأ أيضاً، لأن (¬1) ترك اللطف إنما يماثل فعل المفسدة في القبح لو كان فعل اللطف واجباً، وهذا هو أول المسألة. لا يقال: إنا نعني بهما تماثلهما في كونهما ضرراً بالغير، وذلك علة القبح، ويلزم من الاشتراك في العلة الاشتراك في الحكم، لأنا نقول: الفرق بينهما ¬
ظاهر، لأنه لا معنى (¬1) لكون ترك اللطف لم يكن (¬2) ضرراً إلاَّ أنه ترك الانتفاع، ولا يلزم من قبح فعل الإضرار قبح ترك الانتفاع، ألا ترى أنه يقبح منا أن نَضُرَّ بالفقير، ولا يقبح منا أن لا ننفعه، فحصل الفرق. انتهى بحروفه. وهو يقتضي بطلان قول المعتزلة: إنه ليس في معلوم الله ولا مقدوره لطفٌ لأحد من العصاة، والحمد لله على موافقة هذا الإمام في هذه المسألة الجليلة، فإنه من عيون أهل البيت عليهم السلام، وإن كان المختار في الاستدلال هو ما أشرت إليه من الوجوه العقلية والنقلية. والذي ذكره الإمام زيادةٌ وإفادة، وقد أحال الإمام في " النهاية " و" الشامل " إلى كلامه في " التمهيد "، فدلَّ على بقائه عليه، وذكر الإمام يحيى بن حمزة في كتابه " النهاية " لمن لم يوجب اللطف من المعتزلة ثلاث حُجَجٍ. الحجة الأولى: أنه لو وجب ذلك، لفعله الله، ولو فعله لم يوجد في العالم كافرٌ. الحجة الثانية: حسن سؤال العافية من الألم، وعلى كلام المعتزلة لا يحسن ذلك لتجويز أنه لُطْفٌ واجب. الحجة الثالثة: يلزم لو كان مكلَّفٌ يختار الإيمان عند فعل، ومكلَّفٌ آخر يختار الكفر عنده أن يكون واجباً قبيحاً بالنظر إلى الجهتين (¬3). وأشار في الفصل الثاني من الأصل الخامس إلى حجةٍ أخرى، وهي الاجتماع (¬4) على حُسْنِ الرغبة من كل مكلَّفٍ إلى الله تعالى أن يلطف به، وذلك يدلُّ على قُدرته على ذلك وأنه غيرُ مُحال. ¬
وحكى في الفصل الثاني هذا عن قاضي القُضاة أنه حكى عن قومٍ أنهم منعوا من تكليف من لا لطف له، وأما من علم الله أن اللطف له في فعلٍ قبيحٍ من الله، فأربعة أقوال: الأول: لأبي هاشمٍ، أنه يحسن تكليفه، ويكون بمنزلة من لا لطف له. الثاني: لأبي عبد الله البصري، أنه لا يحسن. الثالث: أنه لا يسمى لُطفاً لقبحه، فيجوز التكليف بدونه، وهو قول الشيوخ. الرابع: لقاضي القضاة، أنه لا يحسن، لأنه غير مُزاحِ العلة. وإنما ذكرت أقوالهم هذه ليعتبر السُّني من فضول الكلام إلى ما لا (¬1) ينتهي بأهله من الحكم (¬2) على الله تعالى، وتنزيل حكمته على قدر أفهامهم القاصرة في المواضع الخفية التي تختلف فيها أفهام العقلاء، وخوضهم (¬3) في ذلك مع عدم الضرورة إليه، وتكفيرهم لأهل السنة مع عفو بعضهم عن بعض. ألا ترى أنه يلزم قاضي القضاة تكفير سائر الشيوخ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى جواز تكليف من لا يجوز تكليفُه، وذلك قبيح، ومن جوَّز القبيح على الله، فهو كافرٌ لكن بشرط (¬4) أن يكون من أهل السنة. وكذلك اختلافهم في الأعراض يوجب التكفير عندهم ولا يكفر بعضهم بعضاً، وسيأتي ذلك. وقد تمَّ الكلام في نفوذ مشيئة الله تعالى وإرادته (¬5)، وهذه المسألة هي رأس ¬
تحقيق مواضع في الاختلاف بين المعتزلة وبين أهل السنة، واستدلال المعتزلة في مسئلة المشيئة وهو أنواع، وذكر الخلافات في الإرادة
الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، ولم يتحقق من اختلافهم في سائر المراتب الثلاث الماضية ولا فيما يأتي الآن في المرتبة الخامسة ما يوجب التنافي الكثير، فإن المعتزلة تُقِرُّ بأن الله خيَّرَ (¬1) الخلق على التكليف الاختياري، وهي المرتبة الأولى. وتُقِرُّ بالقضاء والقدر بمعنى العلم والكتابة، وأن ما علمه الله لم يقع سواه قطعاً، وهذه المرتبة الرابعة. وتقر بأن ما دعا إليه الداعي الراجح، وقع قطعاً، وهذه المرتبة الثالثة. ويأتي في المرتبة الخامسة إقرار أهل السنة أجمعين أن العبد مختارٌ في فعله حتى في قول غُلاتِهم في الجَبْرِ. فوضح لك أن حقيقة اختلافهم إنما هو في مسألة الإرادة، وإنما بَيَّنْتُ لك هذا لِتَخُصَّها بفضل التأمل التام، والنظر الصحيح، وتضرع إلى الله أن يَهْدِيَك إلى المنهج القويم والصراط المستقيم، فإنه سبحانه كما قال في كتابه: {لَطيفٌ لِما يَشاءُ} [يوسف: 100]، و {يُؤْتي الحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ} [المدثر: 31]، و {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} [فاطر: 8]، و {بيدِهِ الملكُ وهو على كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ} [الملك: 1]، و {بِكُلِّ شَيْءٍ بَصيرٌ} [الملك: 19]. وأما شُبَهُ المعتزلة السمعية في هذه المسألة، فهي ضعيفة جداً، وجوابُها يظهر بأدنى تأمُّلٍ بحمد الله تعالى، وهي أنواعٌ. النوع الأول منها وهو أهمُّها: ما حكاه الله تعالى عن المشركين من تعرُّضِهم لإفحام الرسل كما تعرَّضت المعتزلة لإلزام أهل السنة ذلك بقولهم: إن مشيئة الله نافذةٌ، وقد سبقهم المشركون إلى الاحتجاج بذلك على الله ¬
تعالى، ثم على رُسُلِه الكرام عليهم السلام، وجاء سؤالهم وجوابه في كتاب الله تعالى، وأفحم الله تعالى المشركين وأسكتهم، فما فَهِمَتِ المعتزلة. فالعجب منهم مع دعواهم للنظر الدقيق كيف حسبوا أن الله كرَّر شُبَهَ المشركين وقرَّرها وأجابها عليهم بجوابٍ غير مقنع، ولنذكر الآيات الواردة في ذلك، وهي ثلاثٌ. الأولى: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 35 - 37]. وهذه أبين الآيات وأبعدها من الاشتباه، وقد بيَّن الله سبحانه أن شُبَهَهُم (¬1) هذه من قبيل قول الخوارج: لا حكم إلاَّ لله، وجوابهم من قبيل قول علي عليه السلام: إن هذه كلمة حقٍّ يُراد بها باطل (¬2). ¬
وذلك أنه سبحانه أجاب عليهم بقوله: {فَهَلْ على الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبينُ}، وصدَّر الجواب بالمبالغة في الاستنكار حيث استعار للاستنكار حرف الاستفهام، فإن الاستنكار لا يورد على صيغة الاستفهام إلاَّ في المعلومات التي لا يتجاسَرُ الخصم على العناد في إنكارها كما يعرف ذلك أدنى من له ذوقٌ. ولذلك نظائرُ، منها: قوله تعالى: {هَلْ جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسانُ} [الرحمن: 60]، وقوله: {وَهَلْ يُجازَى (¬1) إلاَّ الكَفورُ} [سبأ: 17]. وتقول لمن أساء إليك وأحسنت إليه: هل قدمت إليك ما يوجب الإساءة؟ وبيان ذلك من العقل: أن الله تعالى لمَّا نصَّ في كتبه الكرام، وعلى ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام أنه أراد ابتلاء الخلق وتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطيب بأنه حفَّ الجنة بالمكاره، وحفَّ النار بالشهوات (¬2)، حتى ابتلى خليله عليه السلام بالأمر (¬3) بذبح ولده، وقال: {إنَّ هذا لَهُوَ البَلاَءُ المُبينُ} [الصافات: 106]، وحتى أنكر ورود التكليف بغير هذه الصفة بعبارات كثيرة (¬4) مختلفة متنوعة، يطولُ ذكرُها، وسيأتي منها طرفٌ صالح عند ذكر الكلام في المرتبة الثالثة في الدواعي قريباً. ¬
ثم عند ذكر حكمة الله تعالى في التكليف، وفي المتشابه، وفي تقدير الشرور في مسألة الأقدار من ذلك قولُه تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، كان من رعونة المشركين، وقلة تمييزهم المجادلة بما علموا أن الأنبياء جاؤوا به، وجَهِلَتْه (¬1) المعتزلة من نفوذ مشيئة الله من غير مَثْنَوِيَّةٍ (¬2)، ولولا علموا ذلك ضرورة من دين الأنبياء ما احتجوا به، ولو جوَّز المشركون أنه يوجد من يقول: إن الله لا يقدر على هداية عاصٍ، لعدلوا عن هذه الشبهة إلى قولهم: لو شاء الله ما خلقنا أو ما كَلَّفنا، فإنهم قوم خَصِمُون كما وصفهم الله تعالى، وهم أحذق من أن يحتجوا على الأنبياء بما لا يلتزمونه، وهم أهل اللسان العربي والفهم لدقائقه، والقرآن الكريم نزل على لُغتهم، و" لو" في لغتهم موضوعة لامتناع الشيء لامتناع غيره، فمعنى كلامهم أن إيمانهم امتنع لامتناع مشيئة الله، فلو كانت مشيئة (¬3) حاصلة من الله عند الأنبياء ما نَطَقَ بها (¬4) فرسان البلاغة، كما لا يحسن أن يقولوا: لو أمرنا الله ما أشركنا، ولا: لو أرسل الله إلينا ما أشركنا، وإنما يوردون ما هو ممتنع، مثل ما أوردوا مثل ذلك في إنزال الملائكة، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14]. وأما قول من قال منهم: إن الله أمرهم بالفحشاء، فإنهم لم يريدوا أمر بها على يدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم غير مصدقين له فيما جاء به، وإنما ادَّعَوْا ذلك فيما ¬
توارثوه عن آبائهم عن الشرائعِ المتقدمة التي يمكن الكاذبُ الكذب عليها. والعجبُ أنهم مع طول مخالطتهم للأنبياء ومجادلتهم، لم يعرفوا ما عرفته المعتزلة من أن عقيدة الأنبياء أن الله أراد ما علم أنه لا يكون، ولا فهموا ما فهمته المعتزلة من لغتهم أن الأمر لازمٌ للإرادة، فلو كان لغتهم تقتضي (¬1) ذلك، لم يُطيلوا اللجاج بمثل هذا الإلزام الذي يعلمون ظهور فساده. وأعجب من هذا أن هذا السؤال تكرَّر منهم، وذكره الله في كتابه الكريم مكرراً، فما أجاب عليهم في آيةٍ واحدة بالجواب الحقِّ على قول المعتزلة، فيقول مثلاً: وقد شاء الله أن يؤمنوا، وأراد ذلك كما أجاب على من افترى، وقد زعم أن الله أمر بالفحشاء، فقال تعالى: {إنَّ الله لا يأمُرُ بالفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، بل عَدَلَ عن هذا بالمرة، وأعاد شبهتهم بنفسها مقرِّراً لكونهم نطقوا (¬2) بالحق متوصِّلين به إلى الباطل على نحو قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وذلك ظاهر في الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الذين أشركُوا لو شاءَ اللهُ ما أَشْركنا ولا آباؤُنا} إلى قوله: {كَذلك كَذَّبَ الَّذين مِنْ قَبْلِهِمْ ... قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] بمنزلة قوله {والله يعلمُ إنك لرسولُه}، إذ كل منهما تقريرٌ لصحة ما نطق به الخصم، وقوله: {قُلْ فَلله الحُجَّةُ البالغة} [الأنعام: 149] كقوله: {والله يَشْهَدُ إنَّ المُنافقينَ لكاذِبونَ} [المنافقون: 1]، إذ كل منهما مُناقضةٌ لمقصود الخصم، ودلالة على أن ما نطق به من الحق غير مستلزم ما قصد من الباطل والتمويه، بل ظاهر آية المنافقين بين الحاجة (¬3) إلى التأويل ¬
لتكذيبه لهم فيما قالوه من الحق، ولذلك تمَسَّك به الجاحظ في أن المطابقة لا تكفي في الصدق إلاَّ مع اعتقاد المتكلم لصحتها، وأما آيات المشركين فإنها مُصَرِّحةٌ بتقرير مذهب أهل السنة لنصوصه (¬1) عليه دون غيره. والعجب أن المعتزلة احتجوا بها وهي بريئة من ذكر مذهبهم، وأرادوا إبطال مذهب أهل السنة إلى غيرها، ولو لم يرد في كتاب الله سواها، لما احتاج أهل السنة إلى (¬2) غيرها في تثبيت مذهبهم، ألا تراهُ يقولُ في هذه الآية: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]، وقال في الآية الأولى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وقال فيها: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] ولم يقل كما قالت المعتزلة: فمنهم من اهتدى ومنهم من لم يقدر الله على هدايته، وهذا موضع الحاجة إلى بيان الحقِّ ومحو (¬3) تمويه المشركين، فكيف يُقَرّرُ في نفس الجواب ما يقتضي عند المعتزلة إفحام الرسل؟ وهل يصح مثل هذا من حكيم؟ ولو قدرنا حسن ورود المتشابه، فليس في مثل هذا المقام، فهذا مقام الحجاج والبيان، وإيراد المتشابه هنا يوهم صحة الإشكال، والعجز عن الجواب، ويُغري بالقبيح ويحطُّ رتبة المجيب، فإلى متى يُؤَخَّرُ المحكم، ويأتي بيان الحق، ولا مخبأ بعد بؤسٍ، ولا عطر بعد عروسٍ (¬4). ¬
وهذه نكتةٌ نفيسةٌ فتأملها. ويزيدها وضوحاً أن الحاكم على تَشَيُّعه روى في " المستدرك " (¬1) أن ابن عباس احتج بهذه الأولى على ثبوت القدر وصحته كما وفقنا الله لفهمه، وفهمه حجة، لأنه من أهل اللسان والفطرة الصحيحة. ¬
ومن العجب قول المعتزلة: إن هذا متشابهٌ، فأين المحكم؟ وأيُّ آيةٍ في كتاب الله جاءت على وفق مذهب المعتزلة في أن الله يشاء ما لا يكون، ويريد ما يعلم أنه لا يكون حتى يُرَدَّ المتشابه إليها، فإن الله لم يصف القرآن بأنه متشابه كله، وقد تقدم تقرير هذا، وهو نفيسٌ جداً لمن تأمله، وليس في هاتين الآيتين ما يحتاج أهل السنة إلى تأويله ألبتة. أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ كذَّب} [الأنعام: 148] فإن القراء السبعة اتفقوا على أن القراءة (كذَّبَ) (¬1) بتشديد الذال، يعني: كذبوا الأنبياء والحق الذي جاءهم، وهي كقوله تعالى في الآية الأخرى: {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهم} [النحل: 33] والقرآن يُفَسِّرُ بعضه بعضاً، وليس يحتاج إلى التأويل. وأما من قرأ: {كَذَلِكَ كَذَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} على تقدير صحة القراءة بتخفيف الذال (¬2) من (كذب) فهو كقوله تعالى في هذه الآية {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وذلك كله راجع إلى ما سبقت الآيات لإبطاله من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى آخر قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وهي قدر سِتَّ عشرة آية مشتملة على تكذيبهم، وتجهيلهم في تحريم بعض الأنعام، واستحلال قتل أولادهم، يعني: وَأْدَ البنات. وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه، لأنه يدلُّ على تجزئهم على الله، وعدمِ تأويلهم، وعدم نظرهم في الجليَّات، لأن كل عاقل يعلم مع أدنى تأمل أنه لا يدلُّ على ما افتروه في هذه الأشياء شبهةٌ عقلية، ولا أثارةُ علمٍ شرعية، ولذلك قال: {هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فتُخرجوه لَنا} [الأنعام: 148] ثم بيَّنه بقوله: {قُلْ ¬
هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150]. وليس هذا الجواب من التأويل المخالف للظاهر، بل فيه بيان ما رجع إليه اسم الإشارة بالحجة كفعل الخصم بغير حجة. وغاية الأمر أن هذه الآية الكريمة كآية المنافقين سواء، حيث احتجوا بالحق على الباطل، وسيأتي تمام الكلام على هذا مستوفى في جواب الآية الثالثة، فتأمَّلْهُ هنالك، فإنه مفيدٌ جداً، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وليس مع المعتزلة شُبهةٌ إلاَّ كون المشركين احتجوا بذلك، وليس يلزم في كل ما نطق به المشركون أنه باطل، وإن ظنوا أنه حجةٌ لهم، فما زالوا يحتجون بالحق على الباطل، وذلك كثيرٌ في كتاب الله ولا فرق بين قولهم: {لو شاءَ الله ما أَشْركْنا} [الأنعام: 148] وبين قولهم: {لو شَاءَ رَبُّنا لأنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14]، وقولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ الله أطْعَمَه} [يس: 47] من قبيل قول الخوارج (¬1): لا حكم إلاَّ لله، والجواب عليهم من قبيل قول علي رضي الله عنه: كلمة حق يراد بها باطل. وقد جمع الله سبحانه تمسُّكهم بهذه الشبهة وتمسكهم بنظيرها من مقدورات الله الممتنعة بالحكمة في آيةٍ واحدة يساوي فيها بين الشبهتين، ولله الحمد، وذلك قوله تعالى في الزمر: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 57 - 58]. ألا تراه قد أجاب عن كل واحدة من هاتين الشبهتين في كتابه الكريم، فقال في جواب الأولى: {قُلْ فلِلهِ الحُجَّةُ البالغةُ فلَوْ شاءَ لَهَدَاكُم أجْمَعينَ} ¬
[الأنعام: 149]، وقال في جواب الثانية: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، وساوى في آية (الزمر) في الجواب بينهما، فجاء بأمرٍ يَعُمُّهُما لما كان معناهما الأخص مفترقاً، فقال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59]. وهذا مثل قوله: {فَهَلْ على الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبينُ} [النحل: 35]، وبلاغ الرسل ومجيءُ الكتب مع خلق العقول والقدرة هو المُعَبَّرُ عنه بالهدى في قوله: {وأمَّا ثَمودُ فهَدَيناهُم} [فصلت: 17] وهو الهدى العام، وفيه إبلاغ العذر كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ مِنَ الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب " (¬1)، وما زاد على ذلك من الهدى، فإنه فضلُ الله يؤتيه من يشاء بمنةٍ وفضلٍ، ويصرِفُه عمن يشاء بحكمةٍ وعدلٍ (¬2). ألا ترى إلى قوله تعالى في آخر هذه السورة: {وقال لَهُمْ خَزَنَتُها} [الزمر: 71] الآية. وأما كذبهم على الله، فسوف يأتي بيانه قريباً في الآية الثالثة. فبان بهذا أن الله عزَّ وجلَّ ما ذمَّهم على الإقرار بما لم يزل يتمدح به من نفوذ (¬3) مشيئته، وكمال قدرته، وعظيم عِزَّتِه، وإنما ذمهم على ظنهم ما ظنت المعتزلة من لزوم بطلان حجة الله على عباده بذلك، ومن استنتاجِ الباطل من الحق، والكذب من الصدق. وقد تقدم في مسألة الإرادة أن نفوذ مشيئة الله من ضرورة الدين، فكيف يكذب به لاحتجاج المشركين به؟ ولو كان أهل الباطل كلما احتجو بحقٍّ كذَّبناه لتَيَسَّرَ لأعداء الإسلام تَعفية رسومِه بأيسرِ شُبهةٍ، وبلغوا أقصى مرامهم فيه من غير كُلفةٍ. ¬
وقد جمع الله تعالى مذهب أهل السنة في بعض الآيات الكريمة، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 29 - 31]. فقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} يقتضي تمكينهم بالنظر إلى القدرة والبيان وكمال الحجة. وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إثباتٌ لتوقف مشيئة العباد على سبق مشيئة الله تعالى، وهذا لا تناقض فيه، كما أن المعتزلة توقف أفعال العباد على ما سبق في (¬1) علم الله، ولا يلزم الجبر من شيءٍ من ذلك. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} إثباتٌ لتعليل أفعال الله تعالى بالحكم والغايات الحميدة وإن لم تدرك العقول شيئاً من ذلك ألبتة، كيف، وقد بيَّن الله تعالى منه الكثير الطيب كما نذكره في مسألة الأقدار. وقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} إشارة إلى تعيين بعض ما منَّ علينا بتعريفه من حكمته في ذلك، فله الحمد حمداً كثيراً، وذلك أنه إنما عامل عباده في الهداية والإضلال على حسب علمه بما يستحقونه من ذلك من غير عجز منه عزَّ وجلَّ عن هداية ضال ولا إضلال (¬2) مهتدٍ، وهي كقوله سبحانه وتعالى في إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وفي ضدِّه من أعدائه: {وأضَلَّه الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، ويجمع معناهما مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقوله في ¬
الحكاية عن موسى عليه السلام: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]. وقد ظهر بهذا أن المعتزلة أرادت أن تحتجَّ بهاتين الآيتين على أهل السنة، فانقلبت الحجة عليهم، وظهر أنه ليس فيهما ما يُتأول عند أهل السنة، وإنما (¬1) يجب على أصول المعتزلة تأويل كل واحدة منهما، لأن في إحداهما {فلَوْ شَاءَ لَهَداكُم أجْمَعينَ} [الأنعام: 149] وفي الأخرى: {فإنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37]. وأما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 15 - 20]. فهذه الآية الكريمة مثل الآيتين المتقدمتين. والجواب فيهما واحد وإنما سُقْتُ الآيات من أولها ليتدبرها المحب للحق الطالب للبصيرة، فإن المعتزلة تورد آخرها مقطوعاً من أولها لما في ذلك من تعمية الجواب عليهم، فإنهم احتجوا بقوله تعالى في هذه الآية. {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، وأوهموا أنه يرجع إلى قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وحَسِبوا أن هذا يمضي على أهل السنة، وكيف يمضي عليهم وهم أحفط الناس لكتاب الله وأعرفهم به؟ وهل يلزم رجوع التكذيب إلى ما ذكروه من نفوذ مشيئة الله الذي لم يزل سبحانه يتمدح به، والذي عُلِمَ صحته ضرورةً (¬2) من الدين؟ ¬
فهل يجب صرف التكذيب إلى ذلك، ويحرم صرفه إلى ما سيقت الآيات من أولها في رده على المشركين من جعلهم الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوّاً كبيراً. وأيُّ منصفٍ يمنع رد التكذيب إلى ذلك، ويقطع على أن الله ما أراده، وهو الأولى برد التكذيب إليه لوجوه: منها: أن كونه كذباً وكفراً وجهلاً فاحشاً معلومٌ بالضرورة من الدين، وبالضرورة من العقل، وبالضرورة من إجماع المسلمين. ومنها: أن سياق الآيات من أولها يقتضي شدة العناية في تضليلهم في ذلك، وتبكيتهم والتنويه (¬1) بتجهيلهم وتقريعهم حيث جعلوا لله ولداً، وهو يَعِزُّ ويَجِلُّ عن ذلك، وقد عظَّم ذلك في غير آية كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93]. ثم ما قنعوا أن يجعلوه ولداً حتى جعلوهم أولاداً كثيرين غير مُنْحَصرين، ثم ما قنعوا حتى جعلوهُنَّ إناثاً، وهُنَّ أبغض الأولاد وأجهلهم وأضعفهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]، وقوله: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154]. ثم ما قنعوا بذلك حتى آثروا عبادتهن على عبادةِ الله تعالى، فكيف يمنع ويحرم رجوع تكذيبهم إلى هذا الكفر، والكذب الفاحش، ويوجب رجوع تكذيبهم إلى القول بنفوذ مشيئة الله وإرادته الذي هو ترجمة عن كمال قدرته ¬
وعزته وربوبيته، وهل بَقِيَ في من فعل مثل ذلك حياءٌ، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به أهل الزَّيْغ والبدع، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ومنها: أنه قد أتى تكذيبهم في مثل ذلك صريحاً في نحو هذه الآية الكريمة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27 - 28]. وقال الله عز وجل: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 149 - 157]. فمن كابر عقله بعد هذا أو اعتقد أنه يجبُ صرفُ تكذيبهم إلى ما قالوه من نفوذ (¬1) مشيئة الله، لزمه أن يحتج على بطلان نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله عز وجل: {واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنافقين لكاذبون} بعد قولهم: {نَشْهَدُ إنَّك لَرسولُ الله} [المنافقون: 1] وكما أن المراد هناك معلومٌ بالضرورة فكذلك ها هنا، والحمد لله رب العالمين. وقد بيَّن الله الكاذبين في غير هذه الآية من كتابه، فما أمكن أهل الزيغ أن يردُّوا مجمل كتاب الله إلى شيء من بَيِّنِهِ ونظائره. فمن ذلك قوله في سورة هود: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 - 19]. ¬
فبيَّن في هذه الآية الشريفة أنهم الجاحدون للمعاد الذين كذبوا الله ورسله في هذا الوعد الحق الذي تطابقت به الكتب والرسل، فنزَّلَت المبتدعة تفسيرهم بذلك كأنه مُحالٌ، وجعلوهم الذين آمنوا بالله ورسله واليوم الآخر بسبب إيمانهم بكمال قدرته، ونفوذ مشيئته تعظيماً لربوبيته وعزته، وتصديقاً لنصوص آياته، وحرَّموا تفسير كتاب الله ومراده بذلك زَارِين على من خالفهم، فنعوذ بالله من الخِذلان، وهو حسبنا وكفى، ونعم المستعان. النوع الثاني من شُبَهِهم السمعية: قوله تعالى: {وَمَا الله يُريدُ ظُلْماً للعِبادِ} [غافر: 31] وفي آية: {للعالمين} [آل عمران: 108] والجواب عليهم من وجهين: الوجه الأول: أن أهل السنة أحق منهم بظاهرها وتصديقها، وكذلك في كل ما جاء عن الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله تعالى لا يريد الظلم إرادة فعلٍ، ولا إرادة محبةٍ، ورضاً، بل يقولون: إن إرادته سبحانه لا تعلق بأفعال العباد مطلقاً، فكيف بالقبيح منها؟ ويقولون: إنه سبحانه على أكمل ما يمكن أن يتمدح الرب عزَّ وجلَّ به، فقالوا: إنه يكرهه كراهة حكمةٍ بالنظر إلى الوجه الذي قَبُحَ لأجله، لا كراهة عجزٍ بالنظر إلى الوجه الذي لو شاء لمَنَعَه أو أصلحه منه، ولذلك يقع من ذلك ما لم يُرِدِ الله المنع منه، ولا (¬1) صلاح فاعله بالتوفيق والهداية عقوبةً له على عظيم ذنوبه كما سيأتي. وأرادتِ المعتزلة أن تحمل الآيات على أن الله تعالى كَرِهَ ذلك من جميع الوجوه التي تستلزم عدم قدرته عزَّ وجلَّ على إصلاحه باللطف والهداية والتوفيق. وأهل السنة آمنوا بالآية على وجهٍ يستلزم الإيمان بسائر الآيات، ويستلزم ¬
غاية التعظيم لجلال الربوبية، والمعتزلة آمنوا به على وجه يستلزم ما ذم الله به أهل الكتاب من الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعض، وأروا أهل السنة أن الآية حجة لهم، فأمَّا منطوق الآية ومفهومها السابق إلى الأفهام، فقد آمن به أهل السنة، وأما استنباط عدم قدرة الرب منها، فأبَوْا ذلك إباء المؤمنين، والحمد لله رب العالمين. وقد قدَّمنا في مسألة الإرادة أن الإرادة تنقسم إلى أقسام، وأنها (¬1) لا تعلق حين تكون حقيقةً (¬2) إلاَّ بفعل الله تعالى، وأنها حين تعدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ تُعَدَّى بحروف الجر، وتختلف حينئذ معانيها، وأنها حين تُعلق بفعل الغير تكون بمعنى المحبة والرضا، وتُعَدَّى حينئذ كثيراً باللام مثل هذه الآية، كما تقول: أُحبُّ لزيد كذا، ولا أرضاه له، وذكرنا أن المحبة تلازم الأمر والطلب والثناء والثواب وأنها لا تعلق بقبيح، وأن الإرادة قد ترد بمعناها، فيكون حكمها واحداً. فينبغي للسُّني معرفة هذا ومراعاته، ولا يمكن أهل البدع من التشويش والتشنيع بما لا يحتاجه، ولا ورد به سمعٌ من العبارات المبتدعة التي لَهِجَ بها كثير من المتكلمين والمتكلفين، فإن الآية نصٌّ على مذهب أهل السنة في أن إرادة الله لا تعلق بأفعال المكلفين، لا خيرها ولا شرها، بل تعلق بأفعاله سبحانه، ولكنه سبحانه -لبالغ حكمته- قد يريد عقوبة الظالمين بتسليط بعضهم على بعض، أو عقوبة بعض العصاة من المسلمين بتسليط بعض الكافرين، ولو شاء لأصلح بينهم وكانوا بنعمته إخواناً. والمعتزلة ظنت أن الإيمان بالآية يستلزم عدم قدرة الرب تعالى عن هذا، والنصوص كافيةٌ في الرد عليهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167]. ¬
فبيَّن الإذن وذكر الحكمة فيه بعلم تأويل الإذن بالعلم، لأن العلم لا يُعَلَّل، ولأن الإذن حين يكون بمعنى العلم يكون مفتوح الذال، ذكره في " الضياء " (¬1)، وهي عادتهم في التفريق بين المصادر دلالة على اختلاف المعاني. وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 4 - 5] فالآية ظاهرة في إرادة الله تعالى لتسليط الكفار على بني إسرائيل في تفاسير المسلمين، ويؤيد ذلك قوله عز وجل: {ولو شاء الله لَسَلَّطَهُم عليكم} [النساء: 90] فكيف تُمَوِّهُ المعتزلة بأن من آمن بهذا فقد نسب إلى الله محبة الظلم والرضا به. وقد يكون لله تعالى في ذلك حكمٌ كثيرة غير ذلك. من ذلك ما صح وتواتر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل الله تعالى أن يرفع الاختلاف والسيف عن أُمته فمنعه ذلك (¬2). ¬
وجاءت أحاديث قوية في بيان وجه الحكمة في ذلك، وهو أنها أمة مرحومة (¬1)، عذابها ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
بالسيف (¬1)، وعند المعتزلي أن القادر على ما يشاء، اللطيف لما يشاء ما قَدَرَ أن يُصلِحَ بين اثنين، ويُؤَلِّف بين قلوبهما من جميع المختلفين، وأن هذا هو القول العدل، وأن أهل السنة كفروا لعدم مشاركتهم في هذه الضلالة، فالله المستعان. الوجه الثاني: أن معنى الآيتين: أن الله تعالى لا يريد لهم ظلماً منه -عز وجل عن ذلك- لوجهين. أحدهما: أنه عدى الظلم باللام إلى جميع العباد، ونفي إرادة إيقاعه على هذه الصفة لا يصح إلاَّ من الله ليميز الفاعل من المفعول، ولو أراد ما فهمت المعتزلة لقال: إن الله لا يريد الظلم فقط، سلمنا أنه يصح تعدية الإرادة إلى مفعول ثانٍ، لكن بغير اللام، فكان يقول: لا يريد ظلماً بين العباد أو منهم. الثاني: أن هذه الجملة معطوفة بالواو، وذلك يوجب التناسب، والمتقدمُ في الآيتين معاً ذكر عقاب الله لعباده، وذلك ما يناسبه التنزُّه عن ظلمه لهم، ولم يتقدم ما يناسب ما ذكروه، وقد اعترف الخصم في تفسيره بأن هذا المعنى محتمل في الآية، فثبت أنه ليس في الآية ما ظاهره مذهب المعتزلة ولا ما يجب ¬
تأويله عند أهل السنة. النوع الثالث من شُبَهِهم: دخولُ " لعل " على كل ما طلبه الله تعالى بالأمر مما يحبه ويرضاه كقوله: {لَعَلَّهُم يَذَّكَّرونَ} [الأعراف: 130] والجواب من وجهين: الأول: أنه لا بد من تأويل الظاهر منها على مذهب المعتزلة، فلم يكن لهم فيها إلاَّ مثل ما لأهل السنة على الجهد. بيانه: أن " لعلَّ " في أصل وضعها (¬1) للترجي، وهو معنىً يُنافي علم الغيب، فالمعتزلة تقدِّر معها إرادة ما لا يقع، وهي أيضاً تُنافي علم الغيب كما مر تقريره، وأهل السنة يقدِّرون معها الطلب بالأمر، ولهم أن يُقَدِّروا المحبة والرضا، بل لهم أن يُقَدِّروا الإرادة التي بمعنى أحد هذه الأمور، أعني: الطلب، أو المحبة، أو الرضا، أو مجموعها، ويكون إطلاق الإرادة على ذلك حقيقة عرفية أو مجازاً قريباً، وتأويلهم أولى، لأنه لا ينافي علم الغيب. وقد تَرِدُ " لَعَلَّ " لغير الترجِّي كما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] فيجوز حمل ذلك على مثل هذا. ومن هذا النوع دخول لام " كي " كذلك. والجواب أن أهل السنة يقدرون معه ما لا ينافي علم الغيب من الطلب والمحبة والرضا والإرادة التي تَعَلَّقُ (¬2) بمعنى هذه المعاني كما تقدم دون إرادة الوقوع التي تختصُّ بفعل المريد، ولا تتعلق إلاَّ بالمتجدد الواقع من الممكنات، فتخصِّصه بوجهٍ دون وجهٍ، ووقتٍ دون وقت، وقدرٍ دون قدر كما قدمناه. ¬
ومذهب المعتزلة غير منصوص، ولا هو الظاهر في جميع ما يتعلقون به في هذه المسألة من الشُّبَه السمعية، ومتى قدرنا أنه يُقَدَّرعلى أهل السنة تأويل شيء من ذلك بما ذكرناه، فلهم أن يَعْدِلُوا إلى تأويل الآيات بأنها وإن وردت عامة، فإنها في المعنى خاصة بأهل الإيمان، وتخصيص العموم كثيرٌ قريب غير متعسّف، ويجور بالدليل الظني من الحديث إجماعاً، وأجازته الأئمة الأربعة، والجماهير بالقياس الظني في العمليات، والتخصيص لكتاب الله بخبرٍ واحد كلمة إجماع بين المسلمين، فكيف بالأمور العقلية الجلية، والنصوص الصحاح، والأخبار المتواترة " أن كُلاًّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له " (¬1)، وأن إرادة الله تعالى ¬
نافذةٌ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن {وما تَشاؤُون إلاَّ أنْ يَشاءَ الله} [الإنسان: 30]. النوع الرابع: من شُبههم ما يوردونه على جهة التشنيع من أنه يلزم أن توافق (¬1) إرادة الله وإرادة الشيطان، وتختلف إرادته تعالى وإرادةُ الأنبياء والأولياء، فيكون الشيطان مختصاً دونهم بموافقة الله تعالى في مراده. والجواب: أن هذا تمويهٌ لا يمضي لوجوه: ¬
الأول: أن الموافقة اليسيرة في بعض الألفاظ مع المخالفة والمباينة الكثيرة في المعاني مما لا يلتفت إليها إلاَّ أهل التعطيل، وبمثل هذه الحيلة عَطَّلوا الربَّ عز وجل، فنُفاة الإرادة بالجملة من المعتزلة -وهم البغدادية- لهم أن يقولوا لسائر المعتزلة: لا يجوز وصف الله بالإرادة، لأنه يوصف بها أهل الحاجة من المخلوقين، فإنها في الشاهد لا تعلق إلاَّ بما يحتاج إليه المريد، بل نفاةُ الصفات كلها قد عطَّلُوا بمثل هذه الشبهة، فقالت الإسماعيليةُ: لا يقال: إن الله حيٌّ، وهذه الصفة تطلق على الكلاب والخنازير، بل لا يقال: إنه موجود ولا شيء، لأنها صفة تطلق على كثير من المستقذرات، وأمثال ذلك مما يصح ذكره، وقد مرَّ تحقيقه في الصفات، وأنَّ مَنْ فرَّ من ذلك وصفه تعالى بصفاتِ المعدومات والمُحالات. ونحو هذه الموافقة موافقة اليهود بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - لموسى عليه السلام في ظاهر شريعته، فإنها موافقةٌ من بعض الوجوه لكنها مُخالفةٌ في المعنى، لأن موسى بشَّر بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأمر باتِّباعه، وكذلك نكاح التسع، مع موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وكذا موافقة النساء له في أحكام الرجال، وأمثال هذا لا يحوج إلى ذكره مميز. الوجه الثاني: -وهو التحقيق- أنا قد بيَّنا أن الله تعالى يكرهُ القبائح لقُبْحِها، ولا يُريدها إرادة محبَّةٍ، ولا رضا، ولا إرادة طلب وأمر، وإنما يريد عقوبة بعض أعدائه بتيسيره للعسرى كما يُريد عقوبته بالنار الكبرى كما صَدَعَتْ بذلك النصوص، وجاء به العموم والخصوص، فأين هذا من موافقة الشيطان اللعين الذي يريد وقوع (¬2) القبائح، لأن قُبْحَ وجوهها من معصية الله عز وجل، ومحبة الفساد والرضا بالفواحش والخبائث بحيث إن الله تعالى يكره القبائح من ¬
الوجه الذي أحبَّها منه الشيطان، ونهى عنها من حيث أمر بها الشيطان، وأحبَّ العقوبة بها على الوجه الذي يكرهه الشيطان من الانتقام للمؤمنين، والنصر للمظلومين، والاعتبار للمتقين، والتمحيص للصالحين، والرضا لربِّ العالمين. فأين الاتفاق؟ وهل بعد هذا تضادٌّ أكبرُ منه. وأما أنبياء الله تعالى وأولياؤه وأحبَّاؤُه، فلا يخفى على من له أدنى مُسْكةٍ من عقل رضاهم بما رضي الله، وتسليمهم لأمر الله، والرضا بالقضاء في غير المعاصي من كل وجه، وفيها من الوجه الذي قُدِّرَتْ لأجله، لا من الوجه الذي قبحت لأجله. مثال ذلك: اليمين الواجبة شرعاً مع فجور الحالف فيها، فإنها إحدى الكبائر إجماعاً، وقد حَسُنَت، بل وجبت ورضيت شرعاً، لكن وجه القُبح فيها مكروهٌ حرام منفصل من وجه الحسن المرضي. وكذلك سائر القبائح المقدرة، وعلى قدر تفاوتهم في الرضا بالقضاء تفاوت مراتِبُهُم في القرب منه، ولذلك اتخذ الله إبراهيم خليلاً حين عزم على ذبح ولده وقُرَّة عينه إيثاراً لرضا ربه، وألقي في النار راضياً بحيث إن جبريل قال له وهو في الهواء يَخْوِي إليها: ألك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا (¬1). أفمثل هؤلاء يقال لهم: إنهم يخالفون الله في مراده، ولا يدخل في ذلك ما خرج عن القدرة مما يُبتلى به الصالحون من محبة العافية لعظم ألمٍ مع منعهم لأنفسهم مما يقدرون عليه من ذلك وإن عظُمَت المشقة كالصبر في الحرب، ¬
وعدم الفرار، وما لا يحصى، مع أنه يلزم المعتزلة مثل ذلك فيما لا يخالفون فيه، فإن إرادة الشيطان قد توافق إرادة الله في اللفظ دون المعاني في مواضع كثيرةٍ. فإن الشيطان يريد كثيراً من أفعال الله تعالى من موتِ الأنبياء صلوات الله عليهم، أو إنزالَ المتشابه، وابتلاء المؤمنين بالمصائب والفقر، وعقابِ عُصاة بني آدم، وعدم العفو عنهم، ولكن الله تعالى أراد ذلك على أحسن الوجوه، وأبلغها حكمةً، وأحمدها عاقبة، وأبعدها من المذمَّة، والشيطان على العكس في جميع ذلك. ولو كان الشيطانُ وافق الرب عزَّ وجلَّ الموافقة المرضية لوافقه في إرادة الخيرات والطاعات، وكراهة المعاصي. وقد بيَّنَّا في غير هذا الكتاب، وسيأتي مبسوطاً في مرتبة الدواعي أن الخيراتِ والطاعات هي الغالبة في جميع المخلوقات غير الجن والإنس لما ثبت من كثرة الملائكة، ومن طاعة جميع الحيوانات وغيرها، فكيف سُمي الشيطان موافقاً لله وقد خالفه في أكثر الأشياء من كل وجه، ولم يُوافقه في المعاصي النادرة التي قَذِرَها منه، بل كرهها من ذلك الوجه الحسن (¬1)، وأحبها من الوجه المسخوط الذي كرهها الله تعالى منه؟ والعجبُ من المعتزلة في التشنيع على أهل السنة في هذا الموضع، ونسيان ما يلزمهم فيه من الشناعة، وفي المثل: " رَمَتْني بدائِها وانْسَلَّتْ "، فإن المعتزلة هم الذين ردُّوا ملك الملك العزيز الجبار الذي هو على كل شيءٍ قدير إلى أدنى من مرتبة شيخ قرية عاجز ضعيف، فإن أدنى مشايخ القرى لا يرضون أن يُوصفوا بالعجز عن إصلاح قُراهم، وأن ما يُنفذ في قُراهم من مراد أعدائهم أكثرُ من مراداتهم. ¬
وعند المعتزلة أنَّ النافذ في مملكة الله في الثقلين في الدنيا والآخرة هو مراد الشيطان دون مُراد الله إلاَّ ما لا خطر له. بيانه: أن مراد الله بالجنة والناس في الدنيا أن يُطيعوه، وفي الآخرة أن يدخلوا الجنة، لكن الذي وافق مراد الله هم أهل الطاعة، وفي الآخرة هم أهل الجنة، وقد جاء في الحديث الصحيح " أنهم واحدٌ من الألف " (¬1) وهذا كلا شيء إلى الألف. وقد تقدم تحقيق التشنيع على المعتزلة في هذا في أوائل مسألة الإرادة حيث ظنوا أنه انعكس على الله مراده في خلقه، وبيَّنَّا هناك العلم الضروري عقلاً وسمعاً أن علم الغيب يمنع من مثل ذلك مع عدم القدرة، كيف مع أتم القُدرة! وذكرنا هناك الاحتجاج بقول الله سبحانه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، وأنها تستلزم أيضاً أن من أراد به عالم الغيب الخير لم يقع في (¬2) السوء قطعاً، ومن تشنيعاتهم هنا ¬
على أهلِ السنة أنه يلزمهم أن يتركوا الاستعاذة من الشيطان، ويتعوذوا من الله حيث كان يجوز عليه الإضلال. وقد تقدم الفرقُ في ذلك وأزيد هنا ذكر أبيات أجبت بها في هذا المعنى، وهي: إن تستعذْ منه به وبفضله ... . . . إذْ ما له مِن ثاني فهو المجيرُ ولا يُجارُ عليه في الـ ... ـأخُبار والقرآن والبرهان فإن استعاذ المُستعيذُ بغيره ... منه فذلك أكفرُ الكفران والإستعاذة منه تعظيم وخو ... فُ العدل إن جازى على العصيان ومن اللعين مخافةً من خُبْثِه ... في أمره بالكفر والطغيان شتَّان ما بين الإله الحقِّ في ... خِذْلانِه الفُسَّاق والشيطان أوَ لَمْ يَقُلْ فيهم وليس يُضِلُّ إلـ ... ـا الفاسقين بمُحْكَم القرآن ومن اللعين تمرُّدٌ مستقبحٌ ... لذوي التُّقى والخير والإيمان يا جامعاً للنور والظلمات في الـ ... ـأحكام لم تُلبِسْ على الأعيان لم نلقَ فيما جاء منك إفادةً ... إلاَّ بأنك أبلهُ العُميان (¬1) لم تَدْرِ ما معنى التعوُّذ أوَّلاً ... فيما فَرِحَتْ به من الهَذَيَانِ وحَسِبْتَه لما جَهِلْتَ لذاته ... مُستقبحاً (¬2) من غيرِ أمرٍ ثاني يا قاطعين بعجزه سبحانه ... عن لطفه طوعاً بذي العصيان خلُّوا تعوُّذَكُم به وتعوَّذُوا ... بنفوسِكْم من فتنة الشيطان هذا هو الفاروق فيما بيننا ... والجَبْرُ والتعجيز مُنتفيانِ فدع التخبُّطَ في الضلالِ ورميَ أهْـ ... ـلِ الحَقِّ في الأخبار بالبُهْتانِ وتمام الكلام في هذا المعنى مستوفىً أول هذا الوهم فخذه من موضعه، ¬
ورُدَّ الشناعة على المعتزلة، وما يجب التشنيع، ولكن المبتدع يُغَيِّرُ الخُلُقَ المعتدل، وقد قال الخليل لقومه: {أفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدونَ} [الأنبياء: 67] وهو الذي وصفه الله بأنه حليمٌ أوَّاهٌ مُنيبٌ، وقال موسى عليه السلام لصاحبه: {إنَّك لَغَويٌّ مُبينٌ} [القصص: 18]، وقال يوسف لإخوته: {أنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} [يوسف: 77] وهو الكريمُ ابنُ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريم (¬1) كما صح في الحديث (¬2). وقد قدمت في أول هذا الكتاب ما يجري من نحو هذا من الأنبياء وأهل المراتب العَلِيَّة، وقد يُحمد حيث يحتاج إليه ويكون فيه إيقاظٌ للعاقل وتنبيهٌ للغافل. وقد تم الكلام بعون الله في الإرادة وطال، ومضمونه أن الخلاف فيها في مواضع، فتأملها، فإن الخلاف في بعضها أفحش من بعض. الأول: القول بأن الله غير قادر على هداية العصاة مطلقاً، ولا بأن يُغيِّر بِنْيَتَهم وخِلْقَتَهم، وهذا خلاف في قدرة الله تعالى على هداية العصاة بأن ¬
يخلُقَهم على غير البنية التي بناهم عليها، مثل أن يخلقهم على بنية الملائكة، والمعصومين والمؤمنين، وقد صرَّح أبو الحسين (¬1) وأصحابه من المعتزلة على قدرة الله تعالى على هداية العصاة بهذا المعنى، وقد قاربوا أهل السنة في هذا المعنى. فالعجب منهم ما ألجاهم إلى تأويل آيات المشيئة بالإكراه، وأعجب من هذا أن الظاهر إجماع المعتزلة عليه، فإن إمكانه بَيِّنٌ، وقدرة الله متعلقة بجميع الممكنات عند المعتزلة. وإنما ذكرت الخلاف فيه، لأن بعض أهل العصر من (¬2) المشتغلين بمذاهبهم زعم أن قواعدهم تقتضي خلاف ذلك، وهو بعيد جداً، ومن منعه منهم قهره الدليل البين، ومن جوَّزه منهم حرُم عليه تأويل آيات المشيئة بالإكراه، ووافق أهل السنة في المعنى بغير شك، وهذا كله بناء على قول المعتزلة: إن الله بنى من لا يلتطف على بِنيةٍ لا تقبل اللطف زيادة في الابتلاء، وكان قياس مذهبهم منع هذا، لأنه يكون مفسدةً، ومن أوجب اللطف كيف يحسن فعل المفسدة، ومن منعه منهم، فقد وافق أهل السنة بذلك أيضاً على قدرة الله على اللطف بالعُصاة، فتأمل ذلك. الخلاف الثاني: نفي كثير منهم لقدرة الله على هداية العصاة باللطف مع بقائهم على البِنية التي خلقهم عليها من القساوة والعتاوة والشهوة ونحو ذلك. وهو قول أبي الحسين وأصحابه كما بيناه في الخلاف الأول وهذا دون الذي قبله، وهو أفحش مما بعده، ولذلك خالفهم فيه أبو الحسين كما تقدم، وخالفهم فيه جميع قدماء أهل البيت كما مرَّ. ونص الإمام يحيى بن حمزة من متأخري ¬
أهل البيت على خلافهم كما تقدم، ولم أعلم لأكابر العترة المتأخرين موافقةً في ذلك بالنصوص. الخلاف الثالث: خلاف من يمنعُ عقوبة العاصي بالخِذلان، وخلاصته: هل يحسن إرادة وقوع الذنب عقوبةً مع كراهة الذنب في نفسه فرقاً بين الوقوع والواقع، وكما يحسن إرادة اليمين الفاجرة من القاضي وصاحب الحق لاستيفاء الحق من الجاحد مع كراهة اليمين الفاجرة وقبحها. وتلخيصه: حسن الشيء وقبحه باعتبار الجهتين، والحجة على من خالف فيه فِطَرُ العقول، ونصوص المنقول، كقول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] وكذلك ورد ذلك كثيراً في كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام وغيره، وقد تقدم مستوفى في الإرادة. الخلاف الرابع: خلاف من يخالف في تجويز وقوع (¬1) إرادة الذنب من جهة محبة غُفرانه مع كراهة الواقع الذي هو الذنب لقبحه، وهو كالأول في اعتبار الجهتين بالفرق بين الواقع والوقوع على ما تقدم تمثيله باليمين الغموس، والحجة على ذلك ما تقدم بيانه من الآيات القرآنية، والنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة، والمعقول وقد مرَّ تقريره في الإرادة والذي يرُدُّه لا يتمسَّك بقاطعٍ، فالحجة مُنتهضةٌ لمعارضيه ولو بتلك الأحاديث وحدها. الخلاف الخامس: خلاف من يخالف في تجويز إرادة وقوع الذنب على جهة الابتلاء بالتكليف من غير تقدُّم ذنب، ومعنى ذلك: هل يحسن إرادة الله بتقدير وقوع الذنب من العبد ليبلوه كيف عمله (¬2) في حسن رجوعه إليه وإنابته وذلته وخُضوعه أو عكس ذلك من إصراره وعتوه. ¬
والمعنى: ليظهر من العبد ما علمه الله، فيحسن مجازاته عليه، وهو تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. فهل يمكن مجرد إمكان -ولو في غاية البعد- تجويز ذلك حتى يمكن تصديق السمع إن ورد بذلك؟ فالمعتزلة تمنع إرادة ذلك ووقوعه تعريضاً للثواب، ولهم هنا مُتَمسَّكٌ من السمع خاص، وهو (¬1) قوله تعالى: {وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: 5]، وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ونحو ذلك. وبنحو الحديث الصحيح المتفق على صحته من حديث أبي هريرة " وإنما أبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانها " (¬2) وأمثالها، بخلاف ما تقدم فإنه ليس لهم فيه مُتَمسَّكٌ من السمع خاصٌّ، وإنما يتمسكون فيه بالعمومات، وبدعوى قطع العقول بالقبح. ألا ترى أن الإزاغة من الله لو تقدمت الزيغ، كان يجب أن يقال فيها: فلما أزاغ الله قلوبهم، زاغوا، وذلك نقيض القرآن، ونقيضه باطلٌ وفاقاً، لكن يلزمهم خصومهم المناقضة في قولهم بخلق الخلق على الفطرة مع قولهم: بأن الله تعالى بنى العصاة على بِنيةٍ لا تقبل اللطف حتى لم يبق في علم الله وقدرته لهم لطفٌ البتة، هذه بِنيةٌ غير بِنية الأنبياء والأولياء، فكيف يقولون: قد استووا في خلقهم على الفطرة؟ وأما أهل السنة، فلا يلزمهم هذا، لأنهم لا يقولون: بُني العصاة على هذه البنية أصلاً، بل يُقِرُّون بالآية والحديث، ولا تمنع أصولهم منهما، فإن قواعدهم إنما تقتضي نفوذ مراد الله، والمنع من تعجيزه عن هداية العصاة، فيمنعون أن ¬
يكون خلقُ الله للأشقياء على الفطرة خلقاً مانعاً من وقوع ما سبق في علمه الحق من شقاوتهم، بل يكون على قواعدهم خلقهم على الفطرة خلقاً مؤكداً للحجة عليهم حيث جحدوا ما فُطِرُوا عليه من معرفة معبودهم وسيدهم بعد أن خلقوا حنفاء (¬1) لم يَبْنَوْا على بِنيةٍ تمنع قدرة الله على اللطف بهم كما زعمت المعتزلة، فما زالوا على الفطرة التي فطرهم الله عليها حتى غيَّروها حين كَمُلَت الحجة عليهم، وخلى الله بحكمته بين من سَبَقَ في علمه شقاوته، وبين اختبارهم (¬2) حتى غيَّروا الفطرة كما قال الله تعالى: {فلَمَّا زاغُوا أزَاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: 5]، وكما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، قال الله تعالى: {وأمَّا ثَمودُ فهديناهُم} [فصلت: 17] الآية فهي كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " وحينئذٍ استحقَّا العقوبة بالإضلال والإزاغة. وأما الذين سبقت لهم من الله الحسنى، فلم يُخَلِّ بينهم وبين أنفسهم، بل أمدَّهم بألطافِه فَضْلاً منه ورحمةً {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]. ولهذا انتهت المعتزلة في اختصاص الله تعالى من يشاءُ بالبنية المخصوصة، وبالمُعافاة من الزيادة في الشَّهوات التي يعلمُ وقوع المعاصي عندها، وقد نصَّ أصحاب أبي الحسين على الأول، وأبو هاشم وجمهور المعتزلة على الثاني، ثم ينازِعُهم أهل السنة في دعوى قطع العقول هناك، وقد وافقوا في المعنى حيث جوَّزوا أن الله يبتلي المكلَّف بزيادة في الشهوة يعلم الله أنه يعصي بسببها، وإنما خالفوا في تسميته إضلالاً -وهو الصواب كما يأتي بيانه- وفي إرادة وقوع الذنب لحكمةٍ مع كراهته لقُبحه، بل زعموا أن الله تعالى إنما زاد في شهوةٍ المكَلَّفِ تلك الزيادة المُضِلَّة له في علم الله تعريضاً للثواب ¬
العظيم، وهذا بناءً منهم على جواز تعارض العلم والإرادة، وقد تقدم منعه وضعف كلامهم فيه عقلاً وسمعاً، ولكنا لا نختار إطلاق إرادة الله لذلك، لعدم ورود النص المعلوم به (¬1)، بل نجوِّزه عقلاً ولا نجوِّزُهُ عقلاً (¬2)، ولا نرُدُّ ما ورد به من نصوص الآحاد، ونقتصر على أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً. على أنه قد تقدم أن الأشعريَّة تمنع من تعلق إرادة الله بأفعال العباد كلها إلا بنوع تأويلٍ كما يأتي الآن، ثم تُعارِضُ عمومات المعتزلة هنا بمثلها، وبما هو أخصُّ منها. وجواب أهل السنة في هذا عن الآيات أنها وردت في الإضلال لا في الابتلاء والامتحان، وبينهما فرقٌ واضح، لأنه قال: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] ولم يقل: إنه لا يبتلي إلاَّ الفاسقين، فإن الإضلال والإزاغة والمكر لا يُسمى بذلك حتى يكون عقوبةً مستحقَّةً، والابتلاء والامتحان يحسُنان من غير تقدُّم ذنب. وأما قوله تعالى: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} [الروم: 30] وحديث أبي هريرة " كل مولودٍ يولد على الفطرة " فالحق أنهما على ظاهرهما، وأن ذلك صحيح على قواعد أهل السنة كما صرَّح به ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في الكلام على دوام النار في " حادي الأرواح " (¬3). وتقرير ذلك: أن قواعد أهل السنة -كما صرح به ابن تيمية (¬4) - إنما تقتضي وقوع مراد الله كما أراد، وعدم تعجيزه عن شيءٍ من الأشياء كما أوضحته، وإنما أوهم المخالفة قول بعض أهل السنة: إن حديث أبي هريرة ظاهر في أحكام ¬
الدنيا (¬1) لأن الأبوين لا يؤثِّران في أحكام أولادهما إلاَّ فيها. وقد دل الدليل القاطع عندهم على تجويز الابتلاء واللطف الذي أوجبته المعتزلة مع كثرة الظواهر المتناولة لذلك، وتحريم تأويلها لإمكان بقائها (¬2) من غير تأويل، بل لقيام القاطع على عدم تأويلها، أما القاطع الأول، فهو عقلي، وأما امتناع أن يكون الله تعالى خلق من عَلِمَ أنه يعصي عبثاً وليس فيه إرادةٌ لله تعالى، وهذا إجماع. وإذا ثبت أن له فيه إرادةً، استحال عندهم عقلاً أن تكون تلك الإرادة متعلقةً بتحصيل ما ثبت في العلم أنه لا يحصل، فثبت أنها متعلقةٌ بما يوافق العلم من أفعال الله تعالى، وبعدم المنع باللطف (¬3) من المعاصي التي تعلق العلم بوقوعها، وهو التخلية في عبارة المعتزلة، وهذه أصح العبارات كما سيظهر بحمد الله تعالى، ومع ذلك فلا يثبُتُ تعلُّقُها بالذنب نفسه لما تقرَّر أن مذهب أهل السنة أنه يستحيل تعلُّقُ الإرادة بفعل الغير، وإنما تُعلَّق بأفعال تكون سبباً لفعل، وأما ما يتعلق بفعل الغير (¬4)، فلا يكون إلاَّ المحبة للطاعات والكراهة للمعاصي، لكن المحبة تُسمى إرادةً مجازاً كما تقدم تقريره. وأما الظواهر الواردة في ذلك، فمثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وأمثال ذلك مما يطول ذكره، وقد تقدم أو أكثره. وبعض أهل السنة يورد فيه قوله تعالى: {وما تشاؤُون إلاَّ أنْ يَشاءَ الله} ¬
[التكوير: 29] وليست منه، لأنَّ أوَّلها {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَستقيم} [التكوير: 28] فهي في الإرادة المتعلقة بالطاعات، وهذه وأمثالها لا حجة فيها لما ذكرته، ولأن النصوص فيها وفي أمثالها أنه تعالى لم يُرِدْ هدايتهم، لا أنه أراد ضلالهم، ولا أراد ابتلاءهم بالمعاصي، وبينهما فرق بيِّنٌ، وهذا لطيفٌ قَلَّ من يَتنبَّهُ له، ولكن سيأتي الآن أن هذه حال التخلية بين العبد وبين نفسه، وأنها تَؤُول بالعبد إلى الضلال، والحجة لهم فيها ما تقدم من دليل العقل القاطع عندهم ومن الظواهر. وأما القطع بتحريم تأويلها، بل بأنها على ظاهرها، فذلك لتواتر اشتهارها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والعلم بتقريرهم لها على ظاهرها، والعادة الضرورية تمنع من عدم ذكر التأويل الحق من جميعهم في جميع تلك الأعصار لو كان هناك تأويلٌ كما مرَّ بيانه. ثم يتقوَّى أهل السنة بعد ذلك كله بالأحاديث الواردة في ذلك لأهل البحث، وذلك في مرتبة الكلام في القدر، لكنها عامةٌ لا نصوص، لكن عمومها يَعتضِدُ بعدم تأويله كما قلنا في الظواهر سواء. ويمكنُ توجيهُ ذلك على نظر أهل المعقول بأنه كخلق الخلق على الفطرة أولاً نعمةً (¬1) ورحمةً لأوليائه، ونعمةً وحُجة على من غيَّرها من أعدائه كما خلقهم لذلك في الخلق الأول في عالم الذَّرِّ كما يأتي في الوهم الثلاثين في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ثم قدَّر الذنب في الابتداء ليغفر، ولو بتأخير العقوبة فيما لا يغفرُ، وللمِنَّة في إمهال راكبه، ثم لإقامة الحجة عليه، وعلى حلم الله وصفحه عنه حتى يستحق العقوبة بالإصرار، ثم يُقَدِّر الذنب بعد ذلك عقوبةً، ثم يُسَمَّى (¬2) إضلالاً ومكراً وإزاغةً لأقلِّ ذلك. ¬
وقد دلَّ القرآن على أن الله تعالى يبدأ باللطف، ثم بالخِذْلان، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95] وربما عبَّر عن عدم اللطف بالعبد حيث لا يعاقب بالإضلال، وحيث لا يستحق ثواباً على شيءٍ من طاعاته بالتخلية بين العبد وبين نفسه، كما رواه الحاكم في سبب ذنب داود عليه السلام وصحَّحه من حديث كُرَيْبٍ، عن ابن عباس -في تفسير سورة ص- (¬1) [قال: ما أصاب داود ما أصابه بعد القدر إلاَّ من عُجْب عجب به من نفسه، وذلك] (¬2) أنه قال: يا رب ما من ساعةٍ من ليلٍ ولا نهارٍ إلاَّ وعابدٌ من آل داود يعبدك، ويُصلِّي لك، أو يُسَبِّحُ أو يُكبِّرُ، فكره الله ذلك، فقال له: يا داودُ إن ذلك لم يكن إلاَّ بي، ولولا عَوْني لك ما قَوِيتَ عليه، وعِزَّتي وجلالي، لأكِلنَّك إلى نفسك يوماً، قال: فأخبرني [به] يا رب، فأصابته السيئة ذلك اليوم (¬3). وكذا رُوِيَ نحو ذلك في سبب ذنب آدم عليه السلام (¬4). ¬
وروى أحمدُ والحاكم أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زيد بن ثابت (¬1) أنه قال: " وإن تَكِلْني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضَيْعَةٍ وضعفٍ وذنبٍ وخَطيئةٍ " وصححه الحاكم (¬2). ¬
ويعضُدُ هذه الأحاديث قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وقال يوسف عليه السلام -مع عصمة النبوة- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] وأمثالها. فثبت أن ابتداء التكليف في الأشقياء هو حال الفطرة، ثُمَّ التخلية بينه وبين نفسه بعد التمكين وإقامة الحجة ببلوغ الدعوة النبوية، وظهور المعجز مع الفطرة التي خُلِقَ عليها، وهذا القَدْرُ وحده هو الذي سمَّاه الله هُدىً في قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وهو الذي سماه الله حجة في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. ولكن دلَّ ما قدمنا الآن على أن الله إذا وَكَلَ العبد إلى نفسه حينئذٍ لم يكن منه إلاَّ اختيار الضلال ما لم يتفضل الرب بما لا يجب في حكمة الله المساواة فيه بين جميع خلقه من الألطاف الزائدة على التمكين، وعلى الفطرة، وإقامة الحجة، وسبق الإرادة عند أهل السنة غير مانع من الاختيار، مثل سبق العلم عند الجميع، بل مثل سبق العلم والإرادة معاً عند الجميع في أفعال الله تعالى. ¬
فإن قيل: فلِمَ خصَّ الله تعالى بعض عباده في أول أحوال التكليف بالتخلية مع التمكين مع علمه أن ذلك وسيلة إلى الهلاك دون من لطف به؟ قلنا: لا يجب العلم بتفصيل (¬1) حكمة الله في ذلك على جميع المذاهب. وقد جوَّز أبو هاشم وجمهور المعتزلة الزيادة في الامتحان للمُكَلَّفين، مثل الزيادة في شهوات المكلف بحيث يُوقِعُهُ في المحظور، ومثلُ خلق الشيطان مع العلم بأنه يُغْوي به من ثم يكن يَغْوِي لو لم يُخْلقْ، واحتجوا بنحو قوله: {فأخْرَجَهُما مِمَّا كانا فيه} [البقرة: 36] وظواهر كثيرة نحوها، ولم يخالف منهم في ذلك إلاَّ أبو علي، وألزموه أن لا يُكلِّف الله من عَلِمَ أنه يعصي لأنهما سواء. فقول أبي هاشم والجمهور منهم، كقولِ أهل السنة في تجويز الإضلال لحكمةٍ سواء، لم يختلفوا إلاَّ في العبارة عند التحقيق. ومن العجب أن السيد المجاب عليه اختار ذلك وصحَّحه، ونسبه إلى الجمهور، وختم بذلك تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النكت اللطاف " فهي آخرُ مسألةٍ فيه. وأما قول المعتزلة بخلق العُصاة على بِنيةٍ لا تقبل اللطف في قدرة الله وعلمه لحكمة لا نعلمها فغُلُوٌّ في الإضلال، وتجويزه على حدٍّ لا يُجَوِّزُ عليه أحد من أهل السنة مع تشنيعهم على من جوَّز عقوبة العصاة بالإضلال الواردِ سمعاً الجائز عقلاً، فالله المستعان. ثم يطلبون في تفسير الإضلال التأويلاتِ البعيدة كالإضلال عن طريق الجنة في الآخرة، وتأويله بهذا الذي ذهبوا إليه أوضحُ فافْهَمْ ذلك، ولكن عند المعتزلة خلق الشياطين، وزيادة الشهوات، والدواعي الموقعة في العذاب الدائم من قبيل الإحسان بالتعريض للأجر من الله تعالى لمن عَلِمَ أنَّ ذلك ¬
يكونُ سبب هلاكه من قبيل إرادة هلاكهم عقوبةً لهم على عُتُوهِّم وإصرارهم. وقد تلخص أن هذا موضع الخلاف فانظر بإنصاف، ولو كان ذلك من الزيادة في الإحسان بالتعريض للأجر، لوجب أن يرغب كل عاقل إلى الله أن يجعله من أهله، فلمَّا علمنا ضرورةً من جميع العقلاء أنهم يستعيذون بالله من ذلك، علمنا أنه من قبيل العقوبة المستحقة بعظيم الذنوب، نعوذ بالله منها. وقد تقدم هذا المعنى مبسوطاً غير أنه يختص ها هنا أنه سبب الخلاف، ولا شكَّ أن صيانة المكلَّف منه لينجو من العذاب إحسانٌ يوجب الشكر، وأن قصد الإحسان به مع العلم كالعمل بغير العلم، بل هو على خلاف المعقول بغير شكٍّ. وقد انتهت المعتزلة هنا إلى أن الله خصَّ بعض المكلفين بأن خلقه على بِنيةٍ تقبل اللطف، ولم يزِدْ في شهوتِه زيادةً توقعه في المحظور، وهذا هو التيسيرُ لليُسرى، أو هو منه، وبعضهم بأن خلقه على بِنيةٍ لا تقبله، وبعضهم بأن خلق له شهوةً زائدة تُوقعه في المحظور زيادةً في الابتلاء، وهو التيسير للعسرى في كتاب الله، أو هو منه، وكل ذلك لحكمةٍ جلية أو خفيةٍ استأثر الله بعلمها. ذكر بعض ذلك السيد في آخر تفسيره المذكور، وبعضه ابن الملاحمي في " الفائق " كما تقدم. فرجعوا بعد السفر الطويل، والتعسُّف الكثير في التأويل إلى ما بدأ به أهلُ السنة من تقرير النصوص على أن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهو الحكيم العليم، بل إلى أبعد (¬1) من قول أهل السنة عن مقاصد أهل السنة، فإنهم قصدوا في الابتداء المبالغة في تمكين العبد، وإزاحة أعذاره، ثم رجعوا إلى أن الله تعالى قد بنى العصاة على بِنيةٍ قاسية يمتنع قبولهم منها لجميع ألطاف الله تعالى مع أنه اللطيف لما يشاء. ¬
المرتبة الثالثة: الكلام في الداعي
ولا شك أن هذا عذرٌ للعبد، وأن بِنيته عليه تنافي قولهم بوجوب إزاحة الأعذار، وتُنافي قولهم: إنهم خُلِقُوا على الفطرة. وأما أهل السنة، فإن الله بناهم على بِنيةٍ تقبل اللطف، بل بناهم على الفِطرة، ولكنه ترك هداية من أراد لما له في الابتلاء بذلك من الحكمة. وقد بَسَطْتُ القول (¬1) في هذا الوجه في مرتبة الدواعي، وهي المرتبة الثالثة في الوجه الثالث من الجواب، فانظره هناك. فهذا ما حضرني في هذا الوجه الخامس من أدلة الجميع على الإنصاف، فمن وضح له فيه بُرهان صحيح، فذاك، ومن لم يتَّضِحْ له فيه البرهان، وكل العلم فيه إلى الله سبحانه مع القطع، وعدم الشك في القواعد الثلاث: أحدها: القطع بعموم قدرة الله تعالى. وثانيها: القطعُ بنفوذ مشيئة الله سبحانه. وثالثها: القطع بتمام حجة الله على عباده بالتمكين، ونفي الجَبْرِ، والله سبحانه أعلم. المرتبة الثالثة: إطلاقهم الوجوب مع بقاء الاختيار بالنظر إلى شرط تأثير القدرة، وهو الداعي، وهو المُسمَّى بالتيسير في كتاب الله، وفي أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي عند أحاديث القدر في المرتبة الرابعة في قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُه لِلعُسْرَى} [الليل 7]، وقوله: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لهُ " (¬2)، وهو المعبر عنه بالهُدى والإضلال في قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهدي مَنْ يشاء} في أكثر آيات كتاب الله تعالى، وليس الإضلال يقتضي نفي أفعال العباد، ولا نفي اختيارهم فيها، كما أنَّ الهُدى لا يقتضي ذلك عند المعتزلة. ¬
ومن أدلةِ أهل السنة في هذا بعد تواتر نصوص السمع فيه أن من المعلوم لكل عاقل أن مجرد القدرة لا تُؤَثِّر في الفعل من غير أمرٍ ينضم إليها، فإنا قادرون على كثير من المضارِّ (¬1) العظيمة لأنفسنا وأولادنا من القتل وغيره، وأنواع القبائح التي لا داعي إليها مثل المشي عُراة في المجامع، وسائر أفعال المجانين وما شاكَلَها، ولا نفعل شيئاً من ذلك بمجرد قدرتنا عليه، وما ذلك إلاَّ لعدم الداعي. ومن المعلوم ضرورة أن أهل الجنة لا يطرحون أنفسهم في النار، ولا يضرون أنفسهم بشيءٍ من المضار، وإن لم يُسلبوا التمكن والاقتدار. وسيأتي في المرتبة الخامسة في الفرقة الرابعة الكلام على أنه في جُملته دون تفاصيله قرآني بُرهاني، وأن المعتزلة توافِق عليه، وننقلُ هناك إجماع المعتزلة على ذلك في أربع مسائل، وبإحكام النظر في هذه المسألة يتبينُ في العقل ما ورد في السمع من قدرة الله تعالى على هداية من يشاء من جميع عباده اختياراً بالدواعي والصوارف. وبيان ذلك: أن المرجع في الترجيح الذي هو ضميمة القدرة، وشرط تأثيرها إلى الدواعي والصوارف، ولا شكَّ أن موادَّها من فعلِ الله سبحانه إجماعاً، بل الدواعي والصوارف أنفسها كلها من فعل الله سبحانه على الصحيح كما يظهر لك إن شاء الله تعالى. والدليلُ على ذلك أن المرجع بها إلى الشهوة والنُّفرة والمحبة والكراهة، والعلم بالمنافع والمضارِّ والظن بها، والخوف والرجاء المتعلقين بها، وإنما ذكرتُ المحبة والكراهة مع الشهوة والنفرة للاختلاف في أنها مُترادفة أو لا كما مرَّ في الكلام على الصفات. ¬
ولا خفاء في أن كل هذه الأمور ضرورية لا اختيار للعبد فيها إلاَّ ما يخالف فيه بعض المعتزلة في العلوم النظرية، وفي الظنون، فأمَّا العلوم (¬1) النظرية، فإنها متولِّدة عن العلوم الضرورية بالإجماع، لكن من النُّظار من يقول: إن النظريات عند استحضار مقدماتها ضروريات، وهو الصحيح، لأنه لا يمكن الناظر اختيار الجهل حينئذٍ، فدلَّ على أن اختياره إنما هو في النظر. والتحقيق أن المخالف إنما يُسمِّيها اختيارية لتوقفها على الاختيار في النظر، ولا مُشاحَّة في العبارة، فالظاهر أن الخلاف لفظي، وأما الظن، فالصحيح أنه ضروريٌّ من فعل الله تعالى، أما الظن القبيح عقلاً وشرعاً الذي ليس براجح، ولا يُسمى ظنّاً إلاَّ مجازاً باشتراك، فإنه من فعل العبد، وفيه يقول الله تعالى (¬2): {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ} وذلك في صورتين. أحدهما: ما خالف الأدلة القاطعة كظن المشركين ربوبية غير الله. وثانيهما: ما خالف القرائن الصحيحة، أو كان عن قرينة باطلة، كظنِّ الفُجَّار في الأبرار أنهم مثلهم في الاجتراء في (¬3) الفواحش والخبائث. وأما سائر الظنون الراجحة الصادرة عن القرائن الصحيحة الضرورية، فإنها فعل الله كما هو اختيار شيخ الاعتزال أبي الحسين البصري وأصحابه. والدليل على ذلك، عدم القدرة على دفعه، وهي الحجة في كل ما تنسِبُه إلى الله تعالى، وخصوصاً حين تكون القرينة ضروريةً كمشاهدة الغَيْمِ الرَّطْبِ الثقيل والبرق فجأةً، وسماع دَوِيِّ الرَّعْدِ والرياح التي يُرْسِلُها الله بُشرى بين يدي رحمته في أوقات المطر. ¬
وإنما خالف بعض المعتزلة في ذلك، لكونه قد يكون غير مُطابِقٍ، ويلزمهم في المطابقة تجويز أنه من الله، وسيأتي في مسألة الأقدار إنه قد يجوز أن يريد الله تعالى وقوع مثل ذلك لمصلحةٍ غير مستلزمةٍ لقبيح، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44]. ومثلُ ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43]. ومثلُ تخويفه لأوليائه من سخطه وعذابه، وأيضاً فالبلادة والغَباوة والنِّسيان بعد العلم، والجهل والجنون المبتدأ، وضعف الحواس المتولِّد عنها الغلط في الإدراك خصوصاً ضعف البصر والحول، وظنُّ النائم واعتقادُه، كلها فعل الله بالإجماع، والظن الذي لم يطابق أهون من ذلك، بل هو بعض ما يتولد عنها مع ما لا يخُصُّه من الاعتقادات الباطلة المتولدة، وعندهم فاعل السبب والمُسَبِّب واحدٌ غالباً، ولا قُبحَ فيه عقلاً لوجهين: أحدهما: أنه لو كان قبيحاً، لقَبُحَ من المكلف، وهو خلاف الإجماع، وكيف يقال: إنه قبيح؟! وهو مراد الله تعالى من كل مكلَّفٍ (¬1)، والثواب مترتب عليه عند الخصوم. وثانيهما: أن القبح إن كان في العمل، فليس (¬2) بقبيح إجماعاً، وإن كان في عدم مطابقته، فلم يدل على المظنون على جهة القطع، فيقبح بانكشاف المخالفة، بل عدم المطابقة مطابقٌ لِجَنَبَةِ (¬3) التجوبز التي هي من لوازم الظن، ¬
وإنما دلَّت القرينة على أن أحد الجائزين (¬1) أقرب بالنظر إلى القرينة وحدها ما لم يعارضها ما هو أرجحُ منها، وبالنظر إلى الشخص والوقت، وما لم ينكشف خلاف ما دلَّت عليه، فمتعلّقُه الرجحان المقيَّد بهذه القيود كقول الخصم في ظن المجتهد إذا تغير، ولا بُدَّ من مراعاتها. بل لقائلٍ أن يقول: وإن سلَّمنا أنه خطأ، فإنه من الخطأ الذي هو نقيض الإصابة، كخطأ المجاهد في الرمي، والمريض في ظنه أن الماء مُرٌّ لنفسه، لا من الخطأ الذي هو نقيض الصواب، ولا يُنسبٌ الخطأ إلى الله اسماً كسائر النقائص المخلوقة، لأنه لم يُنْسَبْ إلى العبد إلاَّ بالنسبة إلى انكشاف خلاف ما ظنه. فثبت أن القدرة والداعي فعل الله عز وجل، ولكن حصول الفعل بهما اختياريٌّ بالضرورة، كما قال أبو الحسين وكثيرٌ من الأشعرية: إنا نُفَرِّقُ بالضرورة بين حركة المختار، وحركة المَسْحُوبِ والمَفْلُوج، ونعلم بالضرورتين العقلية والسمعية حسن الأمر والنهي، والمدح والذم فيما يتعلَّق بأفعالنا دون صُوَرِنا وألواننا، وذلك يأتي متكرراً بزيادات لا تخلو من فائدة إن شاء الله تعالى، وخلاف المعتزلة في ذلك لفظيٌّ لما يأتي في المرتبة الخامسة في الفرقة (¬2) الرابعة. فإن قيل: أليس قد نصَّ الله في كتابه على أن له الحجة البالغة، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب " (¬3)، وتصديق ذلك في كتاب الله في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقوله تعالى: {أنْ تَقُولوا يومَ القيامة إنَّا ¬
كُنَّا عَنْ هذا غافلينَ} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله: {بَلَى قَدْ جاءَتْكَ آياتي فكَذَّبْتَ بها} [الزمر: 59] جواباً على من قال: {لَوْ أنَّ الله هداني} [الزمر: 57] وأمثال ذلك كثير جداً. ولا شكَّ أن المعلوم من السمع قرآناً وسُنةً أن مراد الله تعالى بهذا وأمثاله قَطْعُ أعذار المُكلَّفين، فإذا كانت الدواعي إلى المعاصي من فعله، والمعاصي عند حصول الدواعي واجبة الوقوع بالنظر إلى الواقع، وإن كانت ممكنة بالنظر إلى القدرة والمقدور، كان ذلك عُذراً للعبد غير مقطوع بشيءٍ، مع أنَّ الشرع ورد بقطع الأعذار التي هي دُون هذا، والجواب من وجوه: الأول: أن من يقول بإيجاب الداعي، وتوقُّف الفعل عليه يقول: إن الشرع إنما ورد بقطع ما يُمْكِنُ في عقول العباد وعوائدهم قطعه من الأعذار دون ما يستحيل في عقولهم وعوائدهم، وهذا مما يستحيل عندهم لما سيأتي عند الكلام على تحقيق مذاهبهم من استحالة نفس الاختيار بغير ذلك فإنهم قالوا: القادر: هو الذي يتمكن من الفعل أو الترك (¬1) مع المرجِّح، ويستحيل وجودُ قادر يتمكن من الإتيان بكل واحد منهما بدلاً عن الآخر من غير مرجِّح، ولا يمكن دخول هذه الحقيقة في الوجود عندهم، وهو قول حُذَّاق أهل الكلام من جميع الطوائف كما يأتي تقريره. وحاصلُ الأمر أن نذكر أمرين: جُملي وتفصيلي. أما الجملي: فهو أن العقل إنما يوجب قطع أعذار الخلق في إنكار ¬
الربوبية، وتقديسها عن كل عيبٍ ونقص وظُلم، فمن أنكر أحدها، قامت عليه البراهينُ، ومن اعترف بهما، فقد اعترف بأن الله حكيم نافذ المشيئة، غنيٌّ كريم لا يجوز عليه الظلم ولا العبث، فلا يصح منه أن يُنازع ربه سبحانه وتعالى في حكمةٍ خفية لوجهين: أحدهما: أن علمه الجُملي بحكمته كافٍ. وثانيهما: أن علمه بكمالِ ربه سبحانه في أسمائه الحسنى ها هنا ونقص العبد في كل معنى، وكثرة جهالاته، وخُبثِ كثيرٍ من طبائعه، وغَلَبَتِها عليه يكفيه وازعاً عن سنة الشيطان -لعنَه الله- حين نازع ربه سبحانه في سجوده لآدم، وهي سنة السفهاء الذين قالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]. ولو كان العقل والشرع يوجبان إزاحة كُلِّ عذرٍ باطلٍ، لوجب إزاحة كل عذر لهم من قولهم: {أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارجِعْنا نعملْ صالحاً} [السجدة: 12]، واقتراحهم على الرسول أن يكون ملكاً، وأن يفجر الأنهار (¬1) لهم تفجيراً، وأن يأتيهم بآبائهم بعد موتهم، واعتذارهم بعدم رؤيتهم لربِّهم عزَّ وجلَّ وغير ذلك. وإذ قد قامت الحجة على ثبوت الرب وعدله، وحكمته فلا يجب إزاحة شيءٍ بعد ذلك من لَجاجِهم بالأعذار الباطلة، وما أزاحه الله من سائر الأمور فعلى سبيل التفضل كشهادة الجوارح يوم القيامة، ولا تدل على وجوب إزاحة سائرِ الأعذار الباطلة، والله سبحانه أعلم. وأما التفصيلي: فنقول: إما أن يُريد السائل أن يَسْلُبَ الله المكلفين الدواعي والصوارف كلها، سواءٌ كانت إلى الخير أو إلى الشر، ولا يزيد على تمكينهم بالقدرة، أو يريد أن يخلق دواعي الخير وحدها لجميع الخلق من غير ¬
معارضةٍ لها بشيءٍ من دواعي الشر. أما الأول: فظاهر السقوط، لأنه يؤدي إلى ألاَّ يقع منهم فعلٌ ألبتة، لا خير ولا شر، ولأنهم يعتذرون في عدم وقوع الخير بعدم الداعي إليه مع أن القصد بهذا قطع عذرهم هذا خُلْفٌ، ولأن سلب الدواعي يستلزم سلبَ العلوم والظنون، وذلك يستلزم سلب العقول، وحصول الجنون، وذلك أعظم الأعذار، والقصد قطعها، هذا خُلف أيضاً. وأما الثاني: وهو خلق دواعي الخير محضةً من غير معارضة، فالكلام فيه في وجوه: أحدها: أنه مقدورٌ لله تعالى، وهذا إجماع المسلمين. وثانيها: أن المكلفين معه يبقون مختارين مستحقين للثناء، وهذا كذلك. وثالثها: أنه يحسُنُ إثابتُهم مع ذلك لبقاء الاختيار، كما يحسن الثناء عليهم لذلك، وهذا مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وقد مرَّ تقريره في الإرادة. ورابعها: -وهو المقصود هنا- أن الله تعالى إنما ترك ذلك لِحِكَمٍ لا يعلم جميعها وتفاصيلها إلاَّ هو، وهو تأويل المتشابه، وسرُّ القدر. وقد تقدم كلام الزمخشري في ذلك في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُم فمِنْكُم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، وفي قوله تعالى للملائكة: {إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 30]، وسيأتي أن جهل موسى عليه السلام بتأويل فعل الخَضِر يدل على جهل الراسخين بتأويل فعل الله تعالى. وتقدم قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة: إن الله قادرٌ على خلق الكفار على بِنْيِة المعصومين، وإنما لم يخلقهم كذلك لحكمة استأثر بعلمها، فرجع أهل البدعة إلى ما بدأ به أهل السنة بعد السفر البعيد كما قال شيخُ الاعتزال ابن أبي الحديد:
فيك يا أُغلوطة الفِكَرِ ... تاه عَقْلي وانْقَضَى عُمُري سافَرَتْ فيك العُقُولُ فما ... رَبِحْتَ إلاَّ عَنَا السَّفَرِ (¬1) وقد أشار الله سبحانه إلى الجمع بين صحة الأوامر والحكمة فيها مع العلم بنفوذ القدر فيما حكاه من قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحدٍ} [يوسف: 67] إلى آخر الآية، وسيأتي شرح ذلك في الفائدة الرابعة في وجوب العمل مع القدر، والفائدة فيه في الحكمة. وأما التفصيل، فلا سبيل إليه، ولا مُوجب لمعرفته، ولكن في كتاب الله إشارة إلى بعض حكم الله تعالى في ذلك، وهو فيما ذكر الله من محبته الابتلاء، وتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطيب حيث ورد على أعظم صيغ المبالغة، والإقناط من الطمع في خلافه، حيث قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]. وخرج الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " (¬2) حديث كُرْز بن علقمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: هل للإسلام من منتهى؟ فقال: " نعم، أيُّما أهل بيت من العرب والعجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام، ثم تقع بهم الفتن كأنها الظُّلَلُ ". وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، وهو كما ¬
قال، فإنه رواه جماعة قالوا -واللفظ للحميدي-: حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، حدثني عروة بن الزبير، قال: سمعت: كرز بن علقمة. وتابع سفيان معمر بن راشد (¬1)، ويونس بن يزيد عن الزهري، وساق حديث معمر بمتنه وحروفه سواء، ثم قال: صحيح، وليس له علةٌ، ولم يخرجاه لتفرُّد عروة بالرواية عن كُرْز، وهو صحابي خُرِّجَ حديثه في مسانيد الأئمة. قال الحاكم: سمعتُ الحافظ علي بن عمر -يعني الدارقطني- يقول: ما يُلْزِمُ البخاريَّ ومسلماً إخراج حديث كرز " هل للاسلام من منتهى " فقد رواه عروة بن الزبير، ورواه الزهري وعبد الواحد بن قيس كلاهما عنه (¬2). قال الحاكم: والدليل الواضح على ما ذكره أبو الحسن أنهما جميعاً اتفقا على حديث عتْبان بن مالك، وليس له راوٍ غيرُ محمود بن الربيع. قلت: ومن أحسن الشواهد لمعناه قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] فالفتنة في هذه الآية خاصة بأهل الاستقامة، وهي لهم خيرٌ، لقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17]. ومن أحسن الأدلة على إرادة الابتلاء قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، والحجة بيِّنةٌ في قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا}. وقال ابن الأثير في " نهايته " (¬3): " ذكر فتناً كأنها الظُّلَلُ ": هي السحابُ أو الجبال. قلت: السحاب أنسبُ لتطبيقها. ¬
وفي " الصحيح في ذكر مواقع الفتن كأنها مواقع القَطْرِ " (¬1). وفي حرف الفاء من " النهاية " (¬2): المؤمن خُلق مُفَتَّناً (¬3)، أي: مُمْتَحناً بالذنب. وفي " المسانيد " لهذا المعنى شواهدُ كثيرة. ولا شك أن الله تعالى لو لم يخلق دواعي الشر، بَطَلَ الابتلاء المعلوم أنه مقصود. وفي " نوابغ الزمخشري " (¬4): العزيز يبتلى من الخطوب بالأعز حتى كأن العُزَّى أخت الأعزِّ، ألا ترى كيف يبتلي الله أحبَّ خلقه إليه بأعظم البلاء، كما ابتلى خليله بالأمر بذبح ولده عليهما السلام، وقال سبحانه: {إنَّ هذا لهو البلاءُ المُبينُ} [الصافات: 106]. وقد قيل في وجه ذلك: إنه أراد ظهور ما عَلِمَ في الغيب من صحة محبة إبراهيم لربه واستحقاقه مرتبة الخُلَّة حيثُ آثر رضاه في هذا المقام العزيز. ولذلك ثبت في " صحيح مسلم " و" الترمذي " عن ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لو كنتُ مُتَّخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، لكنَّ صاحبكم خليل الله ". وزاد ¬
بعضُهم في أوله: " ألا إنِّي أبرأ إلى كُلِّ خليلٍ من خُلَّتِه " (¬1). وروي عن جندب بن عبد الله أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس: " ألا إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ " الحديث (¬2). وهو دليل عزة مقام القرب والحب عن الشرك فيه بخلاف مقام العفو كما يأتي في شرح العزيز الغفور. والصوفية في هذا المقام أربابُ الذوق والأحوال الرفيعة، لهم فيه كل معنى مليح، من ذلك ما أنشده الشيخ أبو بكر بن محمد (¬3) الشهير بداية في كتاب " المنارات ": ولما ادَّعيتُ الحبَّ قالت كَذَبْتَني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسِيا فما الحُبُّ حتى يَلْصَقَ البطنُ بالحَشَا ... وتذبُلَ حتى لا تُجيب المناديا وتنحُلَ حتى ليس (¬4) يُبقي لك الهوى ... سِوى مُقْلَةٍ تبكي بها وتُناجيا ومنه دُوبَيْت (¬5) ¬
قدْ مِلْتُ إليهم (¬1) ومِنِّي مالُوا ... قلبي نهبوا ومِنْ حياتي نالوا إذ قلت بما أعيشُ قولوا قالوا ... بالحبِّ فعِشْ وحُبُّهُم قتالُ ومن أحسن ما قيل في هذا قصيدة المرتضى الشهرزوري ذكرها ابن خَلِّكان بطولها في ترجمته من " تاريخه " (¬2) لحسنها، ومن أولها: لَمَعَتْ نارُهم وقد عَسْعَسَ اللَّيـ ... ـلُ وملَّ الحادي وحار الدليلُ فتأملتُها وقلبي (¬3) من البَيْـ ... ـن عليلٌ ولَحْظُ عيني كليلُ وفؤادي ذاك الفؤاد المُعَنَّى ... وغرامي ذاك الغرامُ الدخيلُ ومن آخرها: نارُنا هذه تُضيء لِمَن يَسْرِ ... ي بليلٍ لكنها لا تُنيلُ مُنتهى الحظِّ ما تزوَّدَ مِنها اللحـ ... ـظُ والمدركونَ ذاك قليلُ جاءها من عرفت يبغي اقتباساً ... وله البَسْطُ والمُنى والسُّولُ فتعالت عن المنال وعزَّتْ ... عن دُنُوٍّ إليه وهو رسولُ فبقينا كما عَهِدْتَ حَيارَى ... كُلُّ حدٍّ من دونها مغلولُ (¬4) نقطع (¬5) الوقت بالرَّجاء وناهيـ ... ـك بقلبٍ غِذاؤُه التعليلُ كلما ذَاقَ كَأسَ يأسٍ مَريرٍ ... جاء كأسٌ من الرجا مَعسُولُ هذه حالُنا وما بلغ (¬6) العِلْـ ... ـمُ إليه وكلُّ حالٍ يحولُ ¬
وإلى هذا المعنى أشار الله عزَّ وجلَّ حيث قال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، وقال عز وجل: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]. ومما يُلوِّحون به إلى هذا المعنى: وبَدا له من بَعْدِ ما اندمل الهوى ... برقٌ تألَّق مَوْهِناً لَمَعَانُهُ يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذَّرَى مُتمنِّعٌ أركانهُ فمضى لينظر كيف لاح فلم يُطِقْ ... نظراً إليه وصده سجَّانهُ فالنارُ ما اشتملت عليه ضُلُوعُه ... والماءُ ما سَمَحَتْ به أجفانُهُ (¬1) وأنشد في " العوارف " (¬2) كانياً عن النفس والشيطان: أيا جَبلي نَعْمَان بالله خلِّيا ... رياح الصَّبا يَسْرِي إلي نسيمها أجد بردها أو تشفِ مني حرارةً ... على كَبِدٍ لم يبق إلاَّ صميمها فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسَّمَتْ ... على نفس محزونٍ تجلَّت همومُها ورقائق ابن الفارض في هذا المعنى في السماء علوّاً، ولو أوردتها لطالت، ولا حاجة إلى التكثير بذكرها، لأنها معروفةٌ في ديوانه. فإن قيل: هذا صحيح، ولكن الابتلاء في نفسه من المتشابه، فهل أشارَ ¬
الله عز وجل في كتابه إلى شيء من الحكم المطوية في ذلك؟ قلنا: نعم، أشار إلى ذلك بإشاراتٍ متنوعة، وأعطى كل أحدٍ من الفهم في ذلك ما شاء، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاَّ بما شاء، فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ونحوها في هود [7] وفي الكهف [7] فإن البلاء مضمَّنٌ معنى العلم، وهو يتعدى إلى مفعولين كما ذكره الزمخشري (¬1) في تفسيرها، والله لم يذكر مفعول الابتلاء الثاني في كثير من آيات الابتلاء، وذكره في هذه الآية الكريمة، فكان زيادة بيانٍ يقضي على الآيات التي لم يبين ذلك فيها. وفي معنى هذه الآيات {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] وأمثالها كثير. وذلك يدل على أن المقصود بالابتلاء وجودُ أحسنِ العمل وأفضله، وأحسن الجزاء وأكمله، وإن وُجِد القبيح بسبب الابتلاء وتوابعه، فهو غيرُ مقصود لنفسه قصد الغايات، وإنما هو مقصودٌ لغيره قصد الوسائل والمقدمات، وذلك لما ثبت من القطع على أن الحكيم لا يريد الشر لنفسه، وهو من القواعد الفطرية القطعية. ألا ترى أن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الإيمان بالله تعالى هو الجهاد، كما ثبت في " الصحيح " (¬2) ولذلك خلق الله الأضداد، والملائكة، ¬
والشياطين، والمسلمين، والكافرين، والعقول، والأهواء، والقلوب، والنفوس ليقوم سوق الجهاد، وإليه الإشارة بقوله: {والذين جَاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]. وروي في الحديث " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " (¬1) وهو معنى صحيح، والمراد من الجهاد ما يحصل به من تمحيص المؤمنين وخلوصهم، واتخاذ الشهداء منهم، ونصرهم، وشفاء صدورهم، وتمييزهم ممن يدعي مرتبتهم الشريفة ممن ليس منهم، وكل هذا منصوص، فلا نُطَوِّلُ بذكر الآيات فيه. وإنما الذي وهب الله سبحانه لي من الفهم هنا أمران: أحدهما: أن مقام القرب والحبِّ والخُلَّة محفوفٌ بأعظم ما حُفَّت به الجنة ¬
من المكاره، لأن وصف العزة يستحيلُ أن تتخلفَ عنه آثاره، وفيه أن مقام الحب غير مبتذلٍ ولا رخيص، وقد تقدم ما وقع لأهله، مثل عزم الخليل على ذبح ولده، وبراءة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى كل خليل من خُلَّتِه. وفي البخاري من حديث أبي هريرة: " ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُهُ، كنت سمعه الذي يسمع به، ويصره الذي يبصر به " الحديث (¬1). وقد آنس الله وحشة القاصرين حيثُ قَرَنَ العزيز بالغفور، والغفار بالرحيم، والوهاب في آيات كثيرة، وهذه نكتة نفيسة جداً. وثانيهما: أن المقصود الأول من تمييز الخبيث من الطيب في تمحيص المؤمنين هو الخيرُ الحاصل للطيب لا الشر الحاصل للخبيث لقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُمْ أحسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] ولم يقل: أيكم أقبح (¬2) عملاً. ومن أحسن ما يحتج به على هذا بعد ما ذكرناه من كتاب الله تعالى قولُه في سورة النحل: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] إلى آخر الآيات في الوعد والوعيد والمشيئة. وأصرح من ذلك كلِّه قصة الخَضِر وموسى لتأويل الشرِّ فيها بأنه المقصود به الخير نصاً صريحاً، وبيان أن ذلك هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله. ومن أحسن ما يُستدلُّ (¬3) به على ذلك قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33]. ¬
قال الزمخشري (¬1): ولا يأتونك بمثالٍ (¬2) عجيبٍ من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثلٌ في البطلان إلاَّ أتيناك نحن (¬3) بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، وبما هو أحسن معنىً ومُؤَدَّى من سؤالاتهم (¬4). ويُوضِّح ذلك ما اتفقوا على صحته من حديث " سبقت رحمتي غضبي "، وأن الله تعالى كتب هذا في كتابٍ ووضعه على العرش (¬5). ويعضده ما انفرد به مسلم، وهو على شرط الجماعة كلهم من حديثِ علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث التوجُّه في الصلاه المعروف، وفيه " الخيرُ في يديك، والشر ليس إليك " (¬6). ذكر النواوي في شرح " مسلم " (¬7) أن معناه ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه، وهذا هو الذي أُريده، ولله الحمدُ والمنة. وإنما قلت: إنه على شرط الجماعة لأنه من حديث عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي، عن علي عليه السلام، ولم يتخلف أحدٌ من أهل دواوين الإسلام عن تخريج حديثهما، ولا ذكر أحدٌ فيهما شيئاً مما يقع فيه كثيرٌ من الثقات من غلطٍ ولا تدليس، فلعلهم ما تركوا تخريجه إلا لظنِّهم أن هذه اللفظة تخالف القواعد، وليس كذلك، فلله الحمد. وقد خرَّج الحاكم في تفسير سورة بني إسرائيل من " المستدرك " من حديث ¬
صِلَةَ بن زُفَرَ، عن حذيفة بن اليمان أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يُجمع الناس في صعيدٍ واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حُفاةً عُراةً كما خُلقوا سكوتاً، لا تكلم نفس إلاَّ بإذنه، فيُنادى: محمد، فيقول: لبَّيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك " (¬1) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (¬2). قلت: وفيه شهادةٌ على صحة ما خرجه مسلم في " الصحيح "، وفي اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك في خطاب الرب في الصلاة في المقام المحمود ما يدل على أنه من أنفس المحامد الربانية، والحمد لله الذي هدانا لمعناه وما كنا لِنَهْتدي لولا أن هدانا الله. ولا شك أن اسمه العزيز أحد الأسماء الحسنى يقتضي في أحد معنييه عن مرتبة القرب من الله تعالى والحبِّ له والأنس به يختص بذلك من يشاء، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]. وفي الإجادة في هذا المعنى: وبعض معاني العِزِّ تقضي بذاك إنْ ... تُساعِدْ عليه واسِعَاتُ المراحم ففي عزة الخيرات رفعٌ لِقَدْرِها ... فعَزَّ مقامُ العِزِّ عن كُلِّ لائمِ ¬
لذلك ما نال الوسيلة والثَّنا ... بخير مقامٍ غير سَبْطِ (¬1) البراجمِ كذلك عزَّ القُطْبُ فينا ودون عِز ... زه عِزَّة الأبدال ثم الأكارمِ وفي الشُّعرا (¬2) تكريرُ خير إشارة ... بذلك في وَصفَيْ عزيزٍ وراحمِ كذلك في صادٍ (¬3) تمدَّح ربُّنا ... بِعِزَّةِ وهَّابٍ وسيع المَراحمِ عزيزٌ على الأعدا رحيمٌ بغيرهم ... كما جاء وصفُ المؤمنين الأكارمِ (¬4) وعلى معنى قوله تعالى في تبارك [2]: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عَمَلاً} وفي الكهف [7]: {لِنَبْلُوهُم أيُّهم أحسَنُ عَمَلاً} وفي الأنفال [17]: {ولِيُبْلِيَ المؤمنين منه بلاءً حسناً}. يدل ظاهر لفظه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على ما قدمته على أحد الوجوه الذي تحتملها الآية على قول أهل السنة، وذلك أنه يحتمل أن المعنى أنه سبحانه خلق الجميع من الكُفار والمسلمين لحصول عبادة العابدين، ووقوعها على أكمل الوجوه وأتمِّها وأفضلها وأحبها إلى الله تعالى وأجملها، وأن الكفار لو لم يخلقوا وعلم العابدون أن الله تعالى لم (¬5) يخلُقْ من يبغضه (¬6) ويعذبه، بطل الخوف والرجاء اللذان هما جناحا عملِ العاملين، وخير ما شَرُفَتْ به قلوبُ المخلصين. وقد سبق في حكمة الله تعالى أن وقوع الأعمال على هذه الصفة وهذه ¬
بحث في تقدير الشرور وخلقها
الأسباب أولى، وإن كان قادراً على هداية الخلق بغير سبب من هذه الأسباب، ومن غير خلق هذه الشرور. ويوضِّح ذلك أن الشرور مقتضياتٌ لخيرات، مثل حديث الحسن بن علي عليهما السلام المشهور في القُنوت، وفيه: " وقِني شر ما قضيت " (¬1)، فإنه يدل على أن القضاء ليس هو الشر بنفسه، وأنَّ الشر هو المقضي، وأنه يصح القضاء بالشر مع وقاية الشر. ويعضده حديث " إنَّ الدُّعاء يرُدُّ القضاء، وإنهما يتعالجان إلى يوم القيامة " (¬2)، أي: يرد المقضي كما يُرَدُّ السهم بالترس، وأما القضاء نفسه، فإنه ¬
قديم سابق للدعاء. وقد ذكرت في " الإجادة " وفي هذا الكتاب طرفاً صالحاً في الحكمة في خلق الشرور وتقديرها على قَدْرِ ما تحتمله عقول البشر من ذلك (¬1)، بل على قدر ما يحتمله عقلي وحدي، وأنا من أجهل البشر. من ذلك: أن المحاسن لا تُعرف إلاَّ بأضدادها، فلا يعرف قدر العافية إلا بالألم، ولا قدر الراحة إلاَّ بالنصب، ولا قدر الغنى إلاَّ بالفقر، ولا قدرُ الآخرة إلاَّ بما تقدمها من الدنيا والبرزخ والموقف، ولا قدر نعمة الهداية إلاَّ بوجود أهل الضلالة، حتى قال بعض المعتزلة: إن حقيقة اللذة هي الخروج من مؤلمٍ، ¬
ولذلك استحالت اللذة على الرب سبحانه، وإلى ذلك الإشارة بنحو قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]. ومن هنا كان الرب سبحانه وتعالى غياث المستغيثين، وقد ورد نحو هذا المعنى في الحديث حيث ورد أن الله تعالى لما أخرج ذريه آدم على صورة الذر وأراهم آدم رأى فيهم المُعافى والمبتلى، فقال: يا ربِّ لو سَوَّيْتَ (¬1) بين ذريتي، فقال تعالى: إني أردت أن تُشكَرَ (¬2) نعمتي (¬3). ¬
وقالوا في هذا المعنى: ولولا البُعْدُ ما حُمِدَ التَّلاقي ... ولولا الهَجْرُ ما طَابَ الوِصَالُ وقد رأينا جميع العُقلاء في الدنيا يسعون في تكميل الملاذِّ في الدنيا وتمامها بشرورٍ عظيمة على غيرهم بغير ذنبٍ من ذبح الحيوانات في الأفراح وركوبها، واستعمالها (¬1) في حرثِ الأرض، وحرب العدو، ونزع الماء من الآبار، وحمل الأثقال، ومنعها من شهواتها المُخِلَّة بمنافعهم مثل منع ذكور الخيل من غشيان الإناث مع الشَّبق الشديد، بل منعِ الإماء من ذلك والعبيد، وشغلهم عِوَضاً عن ذلك بالاستخدام والكدِّ. وقد ذكر ابن عبد السلام في " قواعده " (¬2) الردَّ على من استقبح ذلك عقلاً من البراهمة، بأنهم غَفَلُوا عن أن بعض الحيوانات أشرف من بعض، وأن العقل يقضي بحسن انتفاع الأشرف بهلاك الأدنى أو كما قال. ويشهد لما ذكره أن أهل الفِطَر السليمة من العرب حكموا بأن أنصف بيتٍ ¬
قالته العرب قول حسان (¬1): أتَهْجُوهُ ولَسْتَ لهُ بكُفْءٍ ... فشَرُّكُما لٍخَيْرِكُما الفِداءُ ومن ذلك فداء الذبيح عليه السلام بالكبش، وفداء عبد الله بن عبد المطلب بمئةٍ من الإبل، واستحسانُ أهل الفطر السليمة لذلك غير مستند إلى ورود الشرائع وإجماع العقلاء على استحسان ذلك قبل نُبوغ البراهمة وبعض المعتزلة. ويلزمهم قبح التداوي لإخراجِ دود البطن لما فيه من دفع ضررٍ خفيف بقتل أُلوفٍ من الحيوانات التي لم يصدر من أحد منها قبيح ألبتة، فموتُ المتداوي المذنب على قولهم أهون من قتل واحدٍ من الدود. ويلزمهم أن يقبُحُ سقي الزرع والحرث ونحو ذلك إذا أدى إلى موت ذرةٍ بسبب الماء والحرث. ويلزمهم قبح شرب الماء من المناهل إذا كان يؤدي إلى فراغه، وفراغه يؤدي إلى موت كثيرٍ من حيواناته. ¬
وكذلك يلزمهم قبح إخراج الذِّبَّانِ من المنازل ونحو ذلك مما لو فعله أحد عُدَّ من المجانين بإجماع العقلاء. وشبهة المُقبِّحين لذلك النظرُ إلى مَضَرَّة الحيوان فقط، من غير موازنةٍ بينها وبين ما يحصل بترك ذلك من مضارِّ أشرف الحيوان وتضررهم بفوات لذاتهم، بل قد اشتهر بين أهل المكارم ذمُّ من أشفق على ما يملكه من الأنعام ولم يُهِنْها في نيل محامد الكرام، كقول القائل في الحث على السفر لطلب الفضائل: أثِرْها تطلُبِ القُصْوى ودَعْها ... سُدىً يَرْمي الغروبُ بها الشُّروقا فلم يُشفِقْ على حَسَبٍ غلامٌ ... يكونُ على ركائبه شفيقا ومن ذلك قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم} [البقرة: 216]، وقول بعض الصحابة: جاء الشرع بالكُره والرضا، فوجدنا خير الخير في الكُره أو كما قال، وسيأتي من ذلك طرفٌ صالح في مرتبة القضاء والقدر. قال أبو حيَّان (¬1): عُداتي لهم فضلٌ عليّ ومِنَّةٌ ... فلا أذهَبَ الرحمنُ عَنِّي الأعاديا هُمُ بحثوا عن زَلَّتي فاجتَنَبتُها ... وهُمْ نافَسوني فاجتَنيتُ (¬2) المعاليا وفي هذا ظهور اشتمال الشر على الخيرات، وشُهِرَ ذلك بين العقلاء، وأجمع العقلاء من المسلمين والفلاسفة أن الموجود في الدنيا، إما خيرٌ مَحْضٌ كالملائكة والأفلاك، أو الخير فيه غالبٌ كالنار فيها خير كثير، والمقتضى بالذات خير، والشر واقع بالتَّبَع، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرٌّ كثير، ¬
وجاءت النصوص بأن الآخرة هي دار الحمد والخلود، فكيف يُظنُّ في أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين أنه يريد الشرور فيها لأنفسها بمجرد صدورها عنه، وتقديره لها؟ أو كيف يُظن أن هذه عقيدة سوء في الكريمِ الرحيم، وفي فضله العظيم العميم؟! ألا ترى أن الله تعالى إنما ذم من كذَّب بيوم القيامة، وما يكونُ فيه من الفضل، والعدل، والانتصاف، والانتقام، وذلك ما لا يحصى. وكذلك ذمَّ مُنْكِرَ مطلق عذاب الكفار الواقع قطعاً، لأنه يستلزم إنكار يوم الدين، كقوله حكايةً عن الكفار: {وما نَحْنُ بمعذَّبين} [الشعراء: 138] وإن لم يكن نصاً صريحاً في ذلك، لجواز تعلق قبحه بالتكذيب وعدم التقييد لذلك بمشيئة الله تعالى، أو كذَّب بالحسنى لقوله تعالى: {وأمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بالحُسنى} [الليل: 8 - 10] وأظهر تأويلاتها أنها المثوبة بالحسنى من الله تعالى، وهي الجنة والرحمة الدائمة في الدار الآخرة كقوله: {لِلَّذين أحْسَنُوا الحُسْنى وزيادةٌ} [يونس: 26]، وقوله: {وكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى} [النساء: 95] مع القرينة الدالة على ذلك، وهي ما ظَهَرَ نزاعهم فيه من الحياة بعد الموت، وتكرَّر الردُّ عليهم فيه. ولذلك كان وصف الرب تعالى بنقيض أسمائه الحسنى كفراً بالإجماع، وإليه الإشارة بقول بعضهم في أنها المحكمة التي لا تأويل لها. لِمَ لا يكونُ الجودُ والعَفْوُ مُحكماً ... ونعتُ الكَمال مستحيلٌ بَدِيلُه وقد قطع الغزالي وابنُ تيمية وأصحابهما من أهل السنة بهذا، وهو قول البغدادية من المعتزلة، وإنما يُنسب إليهم البدعة بنفي قدرة الله تعالى على غير هذا، ويُخالفون ابن تيمية (¬1) وأصحابه في القطع بدوام النار والعذاب الذي لم ¬
يَرِدْ نَصٌّ يكفر مُنكِرَ دوامِه كما وردت النصوص بكفر منكر القيامة والجنة. وأما مسألة دوام العذاب -نعوذ بالله ورحمته السابقة الواسعة الغالبة منه- فليس مما أجمع عليه أهلُ الإسلام، ولا عُلِمَ بالضرورة من الدين لما يأتي من اختلاف المسلمين فيه لورود الاستثناء من الخلود في غير آيةٍ من كتاب الله تعالى، ولما في ذلك من الآثار عن جماعه جِلَّةٍ من الصحابة ومُفَسِّري كتاب الله تعالى من أئمة الأثر وحُفَّاظ السنن. ومما يدلُّ على أن المراد الأول هو الخير، وأن جميع ما يوجد من الشرور غير مقصودة لكونها شُروراً، وجوهٌ غير ما تقدم. منها: الأحاديثُ الصحيحة الشهيرة التي فيها " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيُغفرُ لهم " لفظ حديث أبي هريرة. ولفظ حديث أبي أيوب الأنصاري " لو أنكم لم يكن لكم ذنوبٌ يغفرُها الله، لجاء بقومٍ لهم ذنوب يَغْفِرُها لهم " خرَّجهما مسلمٌ وغيره. ولهما طرقٌ وشواهد تقدم ذكرها مجوّداً في الإرادة (¬1). ومنها: ما ورد في كتاب الله تعالى من ترك أمور نافعة لكونها مفاسدَ مثل بسط الرزق، قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لعبادِه لَبَغَوْا في الأرض} [الشورى: 27]، وقال سبحانه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} الآية [الزخرف: 33]. وعكس ذلك نص القرآن الكريم على الأمرِ بأمور ضارة لكونها منافع، مثل ¬
أمر الخَضِرِ بقتل الغلام لمصلحة أبويه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80]. ومن الأول -وهو منع بعض الخيرات لكونها مفاسد- قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. قال الزمخشري (¬1): المراد بالآيات التي اقترحتها قريش [من قلب الصفا ذهباً، ومن إحياء الموتى وغير ذلك] (¬2) وعادةُ الله في الأمم (¬3) أنَّ من اقترح منهم آية، فأُجيب ثم لم يؤمن أن يُعَاجَلَ بعذاب الاستئصال. والمعنى أنها لو أُرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك. واستوجبوا العذاب المستأصل، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. انتهى بحروفه. وهو تفسيرٌ صحيح مأثور، خرج الهيثمي في معناه ثلاثة أحاديث: أحدها: عن جابر في تفسير سورة هود (¬4). ¬
والثاني: عن ابن عباس، ذكره في تفسير سورة الإسراء (¬1) الثالث: عن الزبير (¬2)، ذكره في تفسير سورة الشعراء (¬3). ¬
وينبغي أن نذكر أحدها، وهو حديثُ ابن عباس، قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، ويُنَحِّيَ الجبال عنهم، فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا، أُهلِكُوا كما أهلكتُ مَنْ قبلهم، قال: " بل أستاني بهم "، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية. وفي رواية: فدعا فأتاه جبريل، فقال: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك عذَّبته عذاباً لا أُعذِّبه أحداً من العالمين، وإن شئت، فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة، قال: " بل (¬1) باب (¬2) التوبة والرحمة ". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. قلت: ويشهدُ لصحة معناه أنه تعالى قال للحواريين لما اقترحوا نزولَ ¬
المائدة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]. وقد ذكرت في الأقدار في الحكمة في الشرور أنَّ هذه الآية من أبين الدِّلالات على أن كثيراً مما نحسبه خيراً شر عظيم، ألا ترى أن كل أحد يجتهد في وضوح معرفة الآيات الدالة على الله، ويَوَدُّ أن يكاشف بالخوارق ليطمئن قلبه كما سأل ذلك الخليل الذي علم الله سبحانه أنه يستحقه وينتفع به ولا يتضرر كما قال فيه {وكُنَّا به عالمينَ} [الأنبياء: 51]، وأحدنا لو أُعطيَ ذلك مع ما علم الله من ركوبه الذنوب بعد ذلك كان وسيلةً إلى التنكيل به لما علم الله في عقوبات عبيد السوء من المصالح والغايات الحميدة. ومنه: حديثُ عُبادة بن الصامت: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يُخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رَجُلان، فقال: " خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلةِ القدر فتلاحى رجلان، فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم " رواه البخاري في " الصحيح "، ورواه أحمد من طريق محمد بن أبي عدي، عن حُميد، عن أنس، عن عُبادة، وهو سندٌ صحيح على شرط الجماعة (¬1). ومما يعضد ذلك مع ما تقدم حديث جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لما عُرِجَ بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يفجُرُ بامرأة، فدعا عليه، فأُهِلك، ثم رأى رجلاً على معصيةٍ، فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إنه عبدي، وإنَّ قَصْرَهُ مني ¬
ثلاث: إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يستغفرني فأغفر له، وإما أن أُخْرِجَ من صلبه من يعبدني، يا إبراهيم أما علمتَ أن من أسمائي أنِّي أنا الصبور" رواه الطبراني (¬1)، وسيأتي. وقد أذكرني هذا قول يحيى بن معاذ رضي الله عنه في قوله تعالى: {فقُولا له قَوْلاً ليناً} [طه: 44]: هذا لطفك بمن قال: أنا الله، فكيف لطفك بمن قال: أنت الله؟ (¬2). وفي " الصحيح " أن الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحْسِنُوا القِتْلَة " (¬3)، وهذا في قتل الكافر المعاقب بالقتل. وخرج أحمد (¬4) من حديث عُبادة بن الصامت أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ¬
يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله "، قال: أريد أهون من ذلك، قال: " السماحة والصبر " قال: أريدُ أهون من ذلك، قال: " أن لا تَتَّهِم الله تبارك وتعالى في شيءٍ قَضَى لك ". وله شاهدٌ وطُرُقٌ في " مجمع الزوائد ". ويأتي في أحاديث الأقدار والرِّضا بها ما يُقوي هذا خصوصاً فيما قضاه الله تعالى للمؤمن، وأنه خيرٌ له، كما شهد لذلك قوله تعالى: {وَعَسى أنْ تَكرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية. فبمجموع هذه الأمور مع صحة قبح إرادة الشر لكونه شَراً يقتضي قيام الحجة على حكمة الله تعالى في كل ما قدَّره، وأنه تعالى مُنَزَّهٌ عن الظلم، بل عن العَبَثِ واللعب الذي لا يضُرُّ أحداً. فيجب القطع بأنَّ جميع ما تكرَهُ العقول من أفعاله وأقداره غيرُ خالٍ عن الحِكَمِ، والمصالح، والغايات والحميدة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى للملائكة: {إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُون} [البقرة: 30] فلو لم تكن المصالحُ مراعاة في أفعاله ما سألت عن ذلك الملائكة، ولا كان الجواب عليهم بسعة العلم. ¬
وقصةُ موسى والخضر صريحةً في ذلك كافية لمن كان له أدنى حظ من عقل أو إيمان، ولا يقال: هلاَّ ترك الله خلق الغلام الذي أمر الخَضِر بقتله، لأنه سبحانه لو ترك ذلك وأمثاله لم يكن شيءٌ من الشرور والابتلاء، وإنما كلامنا في أن الحكمة الخفية اقتضت ذلك لما يُعلَمُ ولما لا يُعْلَمُ. ألا ترى أن الله تعالى لو لم يخلُقِ الغلام، ويأمر الخضر بقتله، لم تكن قصة الخضر وموسى، ولا علمنا هذا الدليل القاطع على أن أفعال الله المتشابهة لها تأويلاتٌ حسنة في العقول، فإنا لم نَجِدْ في السمع دليلاً على ذلك أوضح من قصتهما، فقد حصل بوقوع هذا الشر، وظهوره حجةٌ قاطعة على أن الله لا يريد الشر لنفسه، وإلا لما احتاج الخَضِر إلى تأويل ذلك لموسى، ونحو ذلك من الحكم. وأما قولهم: إن طلب الإيمان من المؤمن مع رُجحانه نظيرُ طلب تحصيل الحاصل، وطلبه من الكافر مع مرجوحيته مثل طلب تحصيل الممتنع، فمردود. أما الأول: فلأنَّ الطلب من المؤمن هو الداعي الحامل على الإيمان، فلم يكن طلباً لتحصيل الحاصل، وكيف يقال ذلك ولولا توجُّهُ الطلب إليه لم يُفْعَلْ، ولا كان المطلوب طاعةً، ولا كان مؤمناً أصلاً؟! وأما الثاني: فقد تقدم في الإرادة أنه يستحيل تعلقها بما عَلِمَ المريد أنه لا يكون، فكيف يتوجه حقيقة الطلب الذي تصحبه الإرادة إلى ما عَلِمَ أنه ليس بحاصل؟ وإنما يتوجه إلى الكفار لفظُ الأمر لقيام الحجة، وغير ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، لا ما توهمه السائل من إرادته سبحانه أن يبطلوا أقداره الماضية ويعارضوا مشيئته النافذة، وعلمه الحق، والمعتزلي يَفِرُّ من سبق الإرادة، ولا فرق بين سبقها وسبق العلم في وجوب الكائنات مع بقاء الاختيار باعتبار الجهتين. ولنختم ذلك بنكتة نفيسة، هي سر هذا الكلام كله ولبابه، وذلك أن التعذيب بمجرد الاستحقاق بمنزلة المباح، وهو حقيقة العبث في حقه تعالى،
لأنه لا يترجَّح إلاَّ بالشهوات والأهواء، ويستحيل وقوعه من الله من غير مرجِّحٍ بالنظر إلى الحكمة، فوجب القول بأن عذاب الكفار المقطوع بوقوعه راجحٌ لحكمةٍ غير الذنوب، وهو قول البغدادية كالمرجِّح لآلام الأطفال والبهائم سواء، لكن الرب سبحانه وتعالى أحبَّ أن يضُمَّ إلى تلك الحكمة وقوع العذاب الراجح في نفسه قبل الذنوب بسبب الذنوب على جهة العقوبة عليها، لما في ذلك من صلاح المؤمنين، ومن الغايات الحميدة المجهولة مع ما ذكرته أو علم أن ذلك لا يحسن أو لا يكون أحسن إلاَّ بذلك. ونظير ذلك إخراجُ آدم من الجنة، فإنه راجحٌ من غير ذنب، لأنه خلق في علم الله خليفةً في الأرض كما نصَّ عليه القرآن، ثم جعل الله ذلك الخروج من الجنة مقدَّراً بسبب الذنب، وعقوبةً عليه لمصالح استأثر الله بعلمها، منها (¬1): المنُّ على آدم بالتوية وجعله أُسوةً لأولاده، وغير ذلك من امتحان الملائكة وسؤالهم وجوابهم وحكايته في الكتاب، وانتفاع أهل الإيمان بذلك. ولهذا جاء الحديث الصحيح بأن الرسل والكتب قطعُ عُذْرٍ لا قطع حجة (¬2)، والله سبحانه أعلم. وقد تقدم في الإرادة مجوّداً مبسوطاً فليراجع، وفي الكلام على الأطفال، وإقامة الحجة عليهم ما يُقوِّي ذلك كما سيأتي. فإن قيل: لو كان الخير هو مقصود الرب الأول مع أنه تعالى على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، وجب أن يكون هو الغالب، ويكون الشرُّ هو النادر، وقد قال الله تعالى: {وقليلٌ مِنْ عِباديَ الشكورُ} [سبأ: 13]، وجاء في الحديث: " أن السَّالِمَ يوم القيامة واحدٌ من ألفٍ " (¬3). ¬
فالجواب: أن السائل غفل عن النظر إلى جميع المخلوقات، ولم يذكر الا الجن والإنس، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، بل قال تعالى في الحجارة: {وإنَّ مِنْها لما يَهْبِطُ من خَشيةِ الله} [البقرة: 74]، ودخول حرف التأكيد، وتخصيص بعضها ينافي التأويل مع بطلان موجبه كما هو مقرَّرٌ في موضعه. وإنما تأوَّلوا ذلك بأنه مجاز بمعناه (¬1) الحقيقي أن الله تعالى يُهْبِطُها بقدرته، ويُصَرِّفُها بمشيئته، وذلك يستلزم أنها تهبِطُ من خشية الحَجَّارين، بل من خشية المعاول والفُؤوس مجازاً، وهذا يُبطل ما سِيقَتْ له الآية من كون هذه الحجارة المخصوصة أرقَّ من قلوب أولئك، لأن قلوبهم مثل هذه الحجارة في هذا المعنى المجازي، فإخبار أحكم الحاكمين بما يرجع حاصله إلى مثل هذا المعنى المعلوم قبل الخبر بذلك بعيدٌ. وقد صحَّ حنين الجذع لفقد الذكر، وضمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له حتى سكن، وتعليل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالضَّمِّ دليل وَجْده حقيقةً (¬2). ¬
وكذا صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في أحد: " إنه جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحِبُّه " (¬1). وقال موسى عليه السلام: " ثوبي حَجَرُ، ثوبي حجر، ثوبي حجر "، وضرب الحجر حين فرَّ ثوبه (¬2). ¬
وسبَّحت الجبال مع داود بالنص (¬1). وقال الله تعالى في الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5] وجوَّد الرازي تفسيرها في " مفاتح الغيب " (¬2)، ورد على المبتدعة تأويلها. وقد بسطت هذا في " الإجادة " (¬3). ومنه: {قالَتا أَتَيْنا طائِعينَ} [فصلت: 11]، وأبعد من ذلك كله عن التأويل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] وفي " النهج " (¬4) تقريرها عن علي عليه السلام. ففي هذه الآية تفضيل هذه المخلوقات في اختيارها على الإنسانِ، وتأويلُها ¬
بمجرد التخيل، والجزم بذلك ينافي بلاغة الكتاب العزيز، وجزالته، وبُعده عن الهزل، ورفعته، والذي جرَّأ من تأوَّل هذه الأشياء ظَنُّ العلم ودعواه {وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85] وقد بسطتُ الكلام في هذه المسألة في غير هذا الموضع، ولله الحمد. وقال تعالى: {ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، والأحاديثُ طافحة في ذلك، وقصة (¬1) النملة وكلامها مع سليمان عليه السلام، وقصةُ الهُدهُد تُغني عن التطويل بذكر الأخبار في ذلك. وقد جاء في كثرة الملائكة من الآثار ما لا يتَّسِعُ له هذا الموضع، ممن ذكره ابن كثير في أول " البداية والنهاية " (¬2). قال ابنُ قيم الجوزية في " الجواب الكافي " (¬3): ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما من حركات (¬4) الأفلاك، والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنباتِ، وحركات الأجنَّة في بُطون أمهاتها، فإنها بواسطة الملائكة المدبِّرات أمراً، والمُقَسِّمات أمراً، كما دلَّ على ذلك نصوص القرآن والسنة في غير موضعٍ، والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة (¬5)، فإن الله وَكَّلَ بالرحم ملائكةً، وبالقَطْر ملائكةً، وبالنَّبات ملائكة، وبالروح والأفلاك والشمس والقمر والنجوم، ووكَّل بكل عبدٍ أربعةً: كاتِبَيْنِ عن يمينه وشماله، وحافِظَيْنِ من بين يديه ومن خلفه، وملائكةً تَوَلَّى قبض روحه وتجهيزها إلى مُستقرِّها من جنةٍ أو نار، وملائكةً موكَّلةً بمساءلته وامتحانه في قبره وعذابه أو ¬
نعيمه، ووكَّل بالجبال ملائكة، وبالسحاب ملائكة، ووكَّل بغرس الجنة ملائكة إلى آخر ما ذكره في ذلك، وأحال به إلى كتابه الذي صنفه في أقسامِ القرآن العظيم (¬1). وخرَّج الهيثمي (¬2) من حديث أبي أُمامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وُكِّلَ بالمؤمن تسعون ومئة مَلَكٍ يَذُبُّون عنه ما لم يُقَدَّرْ عليه، [من ذلك: البصر تسعة أملاك] يذُبُّون عنه كما تذُبُّون عن قصعة العسل الذباب في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل جبلٍ وسهلٍ، كلُّهم باسط يديه فاغِرٌ فاه، وما لو وُكِلَ العبد إلى نفسه طَرْفَةَ عينٍ خَطِفَتْهُ الشياطين " انتهى من حديث عُفير بن معدان. وفي الحديث: " أنه يدخل البيت المعمور في السماء من الملائكة كل يوم سبعون ألف ملكٍ لا يعودون إليه أبداً " (¬3). ¬
وفيه: " أنه ليس في السماء موضع أربع أصابع إلاَّ عليه ملكٌ ساجدٌ " رواه الترمذي وأحمد (¬1). فالسائل غَفل عنهم، وعن سائر المخلوقات الكثيرة المعلومة كالجراد والحِيتان والذَّرِّ وما لا يُحصى والمجهولة المشار إليها بقوله: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]. وقد نسب الله تعالى السجود إلى الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابِّ، وهو السجود الحقيقي كما يذهب إليه أهل السنة بدليل عطفه عليه كثيراً من الناس، ولو أراد المجازي لعطف الناس جميعاً. ¬
فإذا نظرتَ إلى ذلك عرفت أنَّ الشر الذي هو معصية الله بالنظر إلى طاعته كالقَطْرةِ من البحر، وأن الخير في مملكة الرب تعالى هو المقصودُ بأنه قد وقع كما أراد العزيز القدير الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كُنْ فيكونُ، هذا مع ما في نجاة الواحدِ من ألفٍ من عظيم المَسَرَّة عنده، والنعمة عليه في ذلك والسرور به معلومة، وكَمْ بين ذلك وبين فرحته بالسلامة، ولا هالك ألبتة، بل لعله لا يجد للسلامة موقعاً خصوصاً. وقد جاء في الحديث المُتَّفق على صحته " أن الهلاك من يأجوجَ ومأجوج، ومن لا حَظَّ له في الإسلام " (¬1) فلا يُنكر تمام نعيم الأولياء وتكميله بعذابٍ عدد التراب من أعدائهم المستحقِّين للانتقام منهم بما ظلموا المؤمنين، وكفروا بربِّ العالمين. ولا فرق بين نفع ألف ولي بعذاب عدوٍّ لهم ظالم متعدٍّ عليهم مستحقٍّ ¬
كلام البصريين من المعتزلة: إن إرادة الإضرار بالمبطلين لمصلحة المحقين
للعذاب، وبين نفع وليٍّ واحد بعذاب ألف ظالم من أعدائه المستحقين عظيمَ الانتقام منهم، بل تظاهُرُ الكثير من المُبطلين على الأقلين من المُحقين أدْعَى إلى التنكيل بهم، وأشفى لقلب المؤمن المتألم منهم، حيث لم يشكروا نعمة القوة والكثرة والتمكين، وبدَّلوا ما يجب من شكرها بنصر المظلوم بِشَرٍّ بَدَلٍ من انتهاك (¬1) حُرمةِ المستضعفين من أولياء رب العالمين. وقد نصَّ الله تعالى على أنه يُريد بعذابهم في الدنيا بالعذاب الأدنى، وهو الحربُ والقتل نصر المؤمنين وإذهاب غيظهم، وشفاء صدورهم، وربُّ الدارين واحد، وحكمته فيهما واحدة بل قد نصَّ على ذلك حيث قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. وسيأتي ما ورد في كتاب الله تعالى من ذلك حيث ذكرنا الوجه في ترجيح عذاب الكفار على العفو عنهم مع أن العفو أحبُّ إلى الله تعالى في كتبه وشرائعه، وأنه عزَّ وجلَّ لا يتركُ العفو حيث يكون راجحاً، إلاَّ أن يكون في الانتقام مصلحةٌ راجحة من إنصاف مظلوم، أو سرور محبوب، أو نحو ذلك. قالت البصريةُ من المعتزلة: إرادةُ الإضرار بهم لمصلحة غيرهم ظلمٌ قبيح. قلنا: ممنوعٌ لصدوره من المالك العدل الحكيم، فيجبُ الجزمُ بالحسن، وإن خَفِيَ وجهُه على أنه غيرُ خافٍ. فقد قدمنا إطباق العقلاء على فعله واستحسانه في التلذُّذ بما ليس له ذنب من الحيوان لخساسته بالنظر إلى المنتفع به، فكيف تلذُّذ المؤمن أو كمال لذته بعذابٍ مُستحَقٍّ على عدوِّه مع مصالح في ذلك، وغاياتٍ حميدة لا يعلمها إلا الله تعالى. والمعترض قد أجاز الإضرار بالعذاب الدائم بمجرد إباحته من غير نظرٍ إلى ¬
الكلام فيما ورد أنه يعطي الله كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فداء من النار
مصلحة، فأجاز العبث واللَّعِب، ومَنَعَ الراجح الواجب، وقد قال الله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66]. ففي هذه الآية إشارةٌ إلى أنه لا يجوزُ العفوُ عن جميعهم مع جواز العفو عن بعضهم مع أن ذنبَهُم واحدٌ، وذلك مشعِرٌ بأنه سبحانه علم أن [في] تعذيب بعضهم بذنبه صلاحاً، وفي العفو عن جميعهم فساداً، وهو العليمُ الحكيمُ سبحانه وتعالى. ومع معرفة السر في عذاب الكافرين يعُظُم الرجاء للمسلمين حيث لم يكن في عذابهم نصرٌ للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل هم شفعاؤهم وأحبَّاؤهم، ولذلك يقول الله تعالى: " شَفَعَتِ الملائكةُ، وشفع النبيُّون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلاَّ أرحم الراحمين، فيخرجُ من النار مَنْ ليس في قلبه خيرٌ قَطٌّ ممن قال: لا إله إلاَّ الله " (¬1) كما ثبت في " الصحيح ". وكذلك ورد في "صحيح مسلم" " أن الله يُعطي كُلَّ مسلمٍ يهودياً أو نصرانياً، فيقول هذا فداؤُك من النار " (¬2)، وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَفَدَيْناهُ ¬
بِذِبْحٍ عَظيمٍ} [الصافات: 107] في الخروج بذلك من الخُلْفِ في الوعيد مع أن الخلف في الوعيد يسمى عفواً لا خُلْفاً، ويحسُنُ عقلاً وسمعاً كما ورد الأمرُ به في اليمين على ما غيره خيرٌ منه، وأجمعت الأمة على استحباب الحِنْثِ فيه، وإنما ينقُصُ صاحبه متى عجز عن تنفيذ الوعيد. ومع حُسنِه عقلاً لا سمعاً (¬1)، فإنَّ الله تعالى لا يفعله إلاَّ بتأويلٍ، كما ورد في الفِداء بالكافر، لأنه تعالى يفعلُ من كُلِّ حَسَنٍ أحسنه. وهذا وجهٌ منصوص في الحكمة في خلق الكفار ليكونوا فِداءً لعُصاة المسلمين من النار، وهو حديثٌ صحيح على شرط الجماعة، فإنه خرجه مسلم من طرقٍ عن قتادة أنه قال: إن عوناً -يعني: ابن أبي جحيفة- وسعيد بن أبي بُردَةَ كلاهما حدَّثاه: أنهما شَهِدَا أبا بُردةَ يُحَدِّثُ عمر بن عبد العزيز، عن أبيه أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. وكل رجاله مُجمعٌ عليهم في كتب الجماعة، وقتادة صرَّح بالسماع، فلا يُخاف من تدليسه. على أن أحمد بن حنبل رواه (¬2) في " المسند " من غير هذه (¬3) الطريق. قال أحمد: حدثنا أبو المُغيرة النضر بن إسماعيل القاصُّ، حدثنا بُرَيدُ بن عبد الله بن أبي بُردة، عن جدِّه أبي بردة به. وخرجه أحمدُ أيضاً من طريقٍ ثالثةٍ عن محمد بن سابق، عن الربيع النصري، عن مُعاوية بن إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه. وخرجه أيضاً من طريق مسلم لكن: عن المَسْعودي، عن سعيد بن أبي بردة. وخرجه الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " بلفظ مُفَسَّرٍ أحسن من ¬
لفظ مسلم -وفي بعض إسنادٍ آخر يُقوي إسناد (¬1) مسلم (ح) -: وأخبرني أبو بكرٍ الفقية، هو ابن إسحاق، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا عُبيد (¬2) الله بن عمر القواريري، حدثنا حَرَمي (¬3) بن عمارة، حدثنا شدَّاد بنُ سعيد أبو طلحة. فقال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عثمان (¬4) الآدمي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا حَجَّاج بن نصير، حدثنا شدَّاد (¬5) بن سعيد أبو طلحة الراسبي (¬6) عن غَيْلان بن جَريرٍ، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: قال (¬7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تُحْشَرُ هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنفٍ يدخُلُون الجنة بغير حسابٍ، وصنفٍ يُحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصنف يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات (¬8) ذُنوباً، [فيسأل الله عنهم -وهو أعلم بهم- فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك] فيقول الله: [حطوها عنهم و] (¬9) اجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي ". ¬
قال الحاكم: صحيحٌ من حديث حرمي (¬1) على شرطهما (¬2)، فأمَّا حجَّاج، فإني قَرَنْتُه إلى حرمي (¬3) لأني عَلَوْتُ فيه (¬4). انتهى. وشواهده في تقسيم أهل الجنة إلى ثلاثة أقسام كثيرةٌ في القرآن والتفسير والحديث، وهذا موضع ذكرها، فصحَّ الحديث صِحَّةً لا ريب فيها. ويدل على صحة هذا الاعتبار ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] قال: أي لا يُؤْخَذُ منها فِديةٌ، لأنها معادلة للمفدى، ومنه الحديث: " لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ " (¬5) أي: توبة ولا فِدية. انتهى كلامه. والمقصود منه الحجة على أن الفدية في اللغة تقومُ مقام المَفْدي، وقد قدمنا إطباق العقلاء عليه بالفطرة، وهذه الآية عند أهل السنة في الكفار بالأدلة الواضحة، والنصوص البيِّنة، ولله الحمد والمنة. ومن ذلك ما ورد من أن الله تعالى لا يُبالي بالكافرين في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، وكذا جاء في الحديث " ذكر حُثالة لا يَعْبَأُ الله بهم " (¬6)، وكذا قوله: " إلى النارِ ولا أُبالي " كما سيأتي بطرقه ¬
ومعناه في أحاديث الأقدار. وقد ذكر ابن تيمية وأصحابه أن الانتصار للمؤمنين بعذاب الكافرين لا ينافي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وستأتي الإشارة إلى كلامهم في ذكر الحكمة في تقدير الشرور. والذي نراه التسليم لقوله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] مع الطمأنينة والجزم بحكمته عزَّ وجلَّ في جميع أفعاله، ورجحان جميع ما فعله، ووجوب الحمد والثناء على كل ما فعله، والجزم بأنه لا يصح منه تعالى وقوع العبث، ولا اللعب، ولا المباح، لأنه منه عز وجل بمنزلة العبث منا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. الوجه الثاني: من الجواب على أصل السؤال: أن الداعي إما أن يكون غيرَ موجب، كما يقوله بعض المعتزلة فلم (¬1) يرد السؤال، وإن كان موجباً على معنى وجوب الاستمرار مع بقاء الاختيار، فإمَّا أن يدلُّ الدليل على أن ذلك مسقط للتحسين والتقبيح كان أولى من كان حجة له هو سبحانه الذي لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، والذي لا تطرَّق إليه التُّهم بفعل القبيح لغناه عنه، وعلمه الذاتي بكلِّ شيءٍ، فإنه سبحانه هو الذي لا تهتدي العقول إلى التحسين في حقه لعلمه ما لا نعلم من وجوه (¬2) الحكمة. فإذا دلَّ العقل على سقوط التقبيح والتحسين في حقِّنا لأجل أمرٍ هو بعينه قائمٌ في حقه تعالى، كان على سقوط ذلك في حقه عزَّ وجلَّ أدل، وذلك لأنه ¬
سبحانه لا يفعل إلاَّ بالداعي الراجح قطعاً كما يأتي في مسألة الأطفال. وإن كان الداعي الموجب غير مُسقطٍ للتحسين والتقبيح واللوم، لم يَرِدِ السؤال، وهذه قسمةٌ دائرة معلومة الصحة، وهو جوابٌ صحيح. الثاني: وعوَّل الفخر الرازي في وجوب أفعال الله سبحانه مع بقاء الاختيار، ذكره في مسألة الإرادة، وجعل وجوبها بالإرادة لا بالدواعي، لأنه لا يقول بها في حق الله تعالى، ولا محيص له عنها. الوجه الثالث: أن السمع قد دلَّ دلالةً قاطعة، بل ضرورية على أن الله تعالى أقام الحجة على خلقه، ورجَّح لهم الطاعة على العصيان، وأيُّ ترجيحٍ أبلغ مما وعد به على طاعته من عظيم ثوابه، وتوعَّد به على عصيانه من أليم عقابه، والعلم بصحة السمع لا يتوقَّف على كون الداعي مُسقطاً للذَّمِّ والعقاب، مُبطلاً للتحسين والتقبيح، فيصح الاحتجاج بالسمع على أنه غير مبطلٍ لذلك، والعلم الضروري بورود السمع بذلك حاصلٌ جُملةً وتفصيلاً. أما الجملة: فوروده بالذم والمدح، والأمر بالنهي، وكفى في هذا المقام بقوله عز وجل: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15]. وأما التفصيلُ، فدلالتُه على أنه كُلِّف باليسير، وأُمِرَ بالتيسير، والعلم الضروري حاصلٌ بذلك أيضاً، ولكن نتبركُ بذكر شيءٍ من النصوص على ذلك. قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي آية {إلاَّ ما آتاها} [الطلاق: 7].
وقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم: 46] وكرَّرها في غير سورةٍ بالتأكيد لهذا المعنى. بل صرَّح القرآن الكريم بأنه سبحانه سمح من الممكنات ما يشُقُّ كقوله: {ما جَعَلَ عليكُم في الدِّين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُريدُ الله بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {الله لَطيفٌ بعبادِه} [الشورى: 19]. وقد ذكرت جملةً شافيةً مما ورد في هذا المعنى من السنة النبوية والآثارِ الصحابية في تأليفٍ مفردٍ، ولله الحمد. وسمع تلك الأخبار والآثار جميعُ العقلاء والنُّظَّار من المسلمين والكفار في خير الأعصار، فلم يعترضوها، ولا اعترضوا ما وافقها من السنن المستفيضة، مثل حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع في خلق الخلق على الفطرة حُنفاء، " وأنَّ كل مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرةِ، وإنما أبواه يُهوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه " (¬1). بل القرآن الكريم ناطقٌ بذلك، قال تعالى: {فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30]. وسمع العقلاء هذه الآية الكريمة فما أنكرتها عقولهم، ولا ادَّعوا فيها أنها من المتشابه. ثمَّ ما جاء من وصف هذه الشريعة بأنها الحنيفية السهلة السمحة (¬2)، ومطابقة هذه النصوص لِفِطَر العقول كلها غير من مَرِضَ قلبه بداء الكلام، وخاض فيما يستحيل دَرْكُه بالأفهام، وعارض الفِطَرَ العقلية والنصوص الشرعية الجليَّة الضرورية بمجرد الافتراء على المعقول أنه يجزم (¬3) حيث تساوي ¬
الدواعي على استحالة ترجيح القادر لأحد مقدوريه بالاختيار، وهذه الدقيقة هي التي أعيت أذكياء النُّظار، كما يأتي في كلام الفرقة الرابعة من أهل المرتبة الخامسة. وما أحسن قول الرازي في وصيته (¬1) في مثل ذلك: وأما ما انتهى الأمر فيه (¬2) إلى الدقة والغموض، فعلى ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها، إلى آخر ما ذكره. وذكر ابن عبد السلام في " قواعده ": إن البصيرة مثل البصر وإن ما خَفِيَ فيها لم يَزِدِ النظرُ فيه إلاَّ حيرةً، كما أن ما خَفِيَ على البصر لم يزد التحديقُ إليه إلا كلالاً، على أن أدنى تأمُّل يَهْجُمُ باليقين في ذلك على المنصف، فإن الداعي إلى طاعة الله أرجح في العقل الذي إليه الترجيح عند التعارض من الدواعي إلى العصيان، وكذلك الصوارف. فلا أعظم داعياً إلى الطاعة من طيب العَيْشِ في الدَّارَيْن، وقرة العين بالرضا بالقضاء، والخلود في الجنة، وحلول رضوان الله، والإيمانِ من سخط الله ومن جميع المكاره، وقد رأينا حرص الحيوان على هذه الحياة العاجلة المكدرة كما قيل: فما رَضِيَتْ بالموتِ كُدُرٌ مَسِيرُها ... إلى الماء خمسٌ ثم يَشْرَبْنَ مِنْ أجْنِ (¬3) ¬
فكيفَ بالنعيمِ المُقيم في جوار الرحمن الرحيم، العليِّ العظيم، الجواد الكريم، مع النبيين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقاً. ولا أعظم صارفاً من المعصية من غضب الله وعذابه، وخوف حلول جميع أنواع البلاء عاجلاً وآجلاً إلى ما لا يمكن تقصِّي القول فيه. فمن أراد التنبيه على شيءٍ من ذلك فعليه بتأمُّل كتاب الله، وصحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن أحسن مَنْ جَمَعَ في ذلك ابن قيم الجوزية تلميذُ شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنه استمدَّ، وذلك في كتاب له سماه " الجواب الكافي " فرحمه الله، لقد جوّد في الزجر عن المعاصي، وأجاد وأبدع، وأفاد وأمتع، وجاء بما لم يُسبق إلى مثله. وبالجملة، فلا خلاف بين العُقلاء من المسلمين وغيرهم في هوان قدر الدنيا وشهواتها، وعظم مقدار الآخرة عند المسلمين، وهذا مما لا نِزاع فيه بالنسبة إلى الحقيقة والأمر الخارج. وأما خطورُ هذه الأشياء بالبال، واستحضارها في الخاطر، وما يترتب على ذلك من آثارها على اختيار العبد خصوصاً في أول أحوال التكليف، ولا يلزم من هذا أن لا يسبق ذلك المشيئة والقَدَرُ عند أهل السنة كما لا يلزم أن يسبق ذلك العلم عند الجميع. وكذلك لا يلزم من سبق هذه الأمور نفي الاختيار في أفعال العباد عند أهل السنة، كما لا يلزم من سبقها نفي اختيار الرب تعالى مع تعلق العلم والإرادة والقدر بأفعال الله تعالى إجماعاً، والاختيار وسبق القدر مثل البناء والأساس، ¬
لا بد من إثباتهما معاً كما قال الخطابي، وكما يأتي واضحاً في مسألة الأقدار قريباً إن شاء تعالى. فإن فكر العبد، وتذكر، واستعان بربه سبحانه، واختار طاعته، اهتدى وزاده هدى، كما قال تعالى: {والذين اهتَدَوْا زَادَهُم هُدىً وآتاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، وقال: {والذين جاهَدُوا فِينا لَنَهدِينَّهمْ سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]، وهذه الآيات الكريمة تفرق بين الهُدى الاختياري وهو الأول، وبين الهدى الاضطراري وهو الثاني الذي وقع جزاءً على الأول. وإن ترك العبد الفكر والنظر في ترجيح دواعي الطاعة واستحضارها، وترك الاستعانة بربه سبحانه لم يُعَجِّل عليه سبحانه وتعالى في أول ذنب بالعُقوبة إن شاء الله تعالى حتى يظهر فيه آثار أسمائه الحسنى، لما ورد في القرآن والسنن الصحاح المستفيضة من إرادته السابقة سُبحانه في المذنبين أن يغفر لهم، ويُقيم حجته عليهم كما مر تقريره في مسألة الإرادة. فإن شكر العبدُ نعمة ربه في عفوه عنه بإمهاله بعد ذنبه حتى مكَّنه من التوبة، وذكَّره ذلك، قَبِلَه ربه عز وجل، وإن تمادى في عصيانه ولم يشكر نعمة ربه في إمهاله وغفرانه، فإن (¬1) وَكَلَه إلى نفسه وعامله بعدله، وعاقبه على سوء اختياره، خَذَلَه، وسَلَبَه ألطافه كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقال: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها. وإن أراد أن يمُنَّ عليه ويرحمه، عطف عليه باللطف والهدى من بعد كما بدأه بذلك من قبل، وكما في حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون، فيغفرُ لهم " (¬2)، واختص من شاء بعطفه كما اختص بالخلق من يشاء، ¬
وبالتكليف من يشاء، وبالملك من يشاء، وبالعلم من يشاء، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، قال الله تعالى في عطفه بعد أعظم العصيان، وأفحش الكفران: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 51 - 52]، وقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقال تعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:26 - 27]، وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]، وقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106]، وقال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]. ثم إن الله تعالى بعد ترجيح العاصي للعصيان باختياره الموافق لعلم الله وقدره ومشيئته لا يزال سبحانه يفعل من مُرَجِّحات الطاعة والموقظات عن الغفلة ما يُؤكِّد الحجة البالغة، ويُجَدِّدها تفضُّلاً منه سبحانه تارةً بما يفعله من الأمراض كما قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]، وتارة بما يُريهم من مصارع آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وجيرانهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]. وتارة بما يقرع أسماعهم من مواعظ الله وحججه على ألسنة أنبيائه وأوليائه، فلا يزال سبحانه وتعالى يقابل الدواعي إلى معصيته بالدواعي إلى طاعته، والعاصي لا يزداد إلاَّ تمادياً على سوء اختياره، وطول غفلته كما شكاه نوحٌ عليه السلام من قوله، ولذلك عظَّم الله شأن التذكر والموجب (¬1) للترجيح، وقال في ¬
المرتبة الرابعة: وجوب الأفعال مع بقاء الاختيار، وتتم هذه المرتبة بذكر خمس فوائد
غير آية: {لَعَلَّهُم يذَّكَّرون} أي: لمحبته ذلك لهم، وطلبه منهم عند أهل السنة كما مضى. وقال في الغافلين: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وتأمَّل قوله تعالى: {بَلْ هُمْ أضَلُّ} فإنه يدلُّ على أن الله تعالى مكَّنهم من اختيار الصواب بخلاف الأنعام. وسيأتي ذكر إجماع أهل السنة على أن الله سبحانه ... (¬1) إلى العبد رحمةً من الله وعدلاً، وحكمةً بالغة لا عجزاً عن هداية من ضل كما يُلْزِمُ أكثر المبتدعة، ومع ذلك، فإن اختيار العبد لا يقع إلاَّ مُوافقاً لعلم الله وقدره ومشيئته، كما أن اختيار الرب لا يقع إلاَّ كذلك ولم يقتضِ ذلك نفي اختياره عز وجل. وكما أن سبق العلم عند المعتزلة وسائر العُقلاء لا يستلزم نفي الاختيار، فكذلك سبق المشيئة والقضاء والقدر عند أهل السنة، وقد مضى في مسألة الإرادة بيان ما تحتمله العقول من معرفة وجوه الحكمة في ذلك، وما الصحيح فيه أنه من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاَّ الله تعالى. ويأتي في الكلام على الحكم في تقدير الشر، وطرفٍ صالح من ذلك في مسألة الأقدار إن شاء الله تعالى. المرتبة الرابعة: وجوب الأفعال مع بقاء الاختيار بالنظر إلى تقدُّم القضاء والقدر والعلم والكتابة والقول ونحو ذلك، والمقصود بهذه المرتبة يَتِمُّ إن شاء الله تعالى بذكر خمس فوائد. الفائدة الأولى: فيما وَرَدَ من النهي عن الخوض في القَدَرِ وبيان مرتبة ذلك من الصحة في بيان معناه. والوارد في ذلك عموم وخصوص، أمَّا العموم، فكل ¬
ما يمنع من الخوض فيما لا يُعلم من نحو قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، ويأتي الكلام على حكمة الله تعالى في تقدير الشرور، وفيه ذكر حكمته في ذلك، وأما الخوض فجملة ما عرفته في ذلك عشرة أحاديث. الحديث الأول: ما خرجه الترمذي (¬1) من حديث أبي هريرة أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نتنازع في القدر، فقال: " أبهذا أُمِرْتُم أم بهذا أُرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه ". قال الترمذي: هذا حديثٌ غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه من حديث صالح المُرِّيِّ، وله غرائب ينفرد بها، ولا يُتابَعُ عليها، وفي الباب عن عمر (¬2) وعائشة (¬3) وأنسٍ (¬4). ¬
الحديث الثاني: عن عبد الله بن عمرو بن العاص، خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تَفَقَّأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب، فقال لهم: " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم ". خرَّجه أحمد بن حنبل في " المسند " من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (¬1). وفي هذا الطريق خلافٌ بين الحُفَّاظ كثيرٌ شهيرٌ. الحديث الثالث: عن ثوبان مرفوعاً (¬2). رواه الطبراني، وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي، قال ابن عَدِي: لا بأس به، ولكن قال الهيثمي والنسائي: إنه متروكٌ (¬3). ¬
الحديث الرابع: عن أبي الدرداء مرفوعاً (¬1)، رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن يزيد بن آدم، قال أحمد: أحاديثُه موضوعة (¬2). الحديث الخامس: عن ثوبان أيضاً (¬3). خرَّجه الطبراني بإسنادِ حديثِ ثوبان السابق، وجعلهما حديثين، وفي هذا زيادة الأمر بالإمساك عند ذكر الصحابة. الحديث السادس: عن ابن مسعود مرفوعاً " إذا ذُكِرَ أصحابي فأمْسِكُوا، وإذا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا ". رواه الطبراني (¬4)، وفيه مُسْهِرُ بن عبد الملك، وثَّقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف، وبقيتهم رجال الصحيح! قاله الهيثمي (¬5). الحديث السابع: عن أنس مرفوعاً (¬6)، رواه أبو يعلى، وفيه يوسفُ بن ¬
عطيَّة، وهو متروك. الحديث الثامن: عن أبي هريرة مرفوعاً، " أُخِّرَ الكلامُ في القدر لشرار هذه الأمة ". رواه البزار (¬1)، والطبراني في " الأوسط " وقال: " أشرارُ أمتي في آخر الزمان ". قال الهيثمي: ورجالُ البزار في أحد الإسنادين رجال الصحيح غير عمر بن أبي خليفة، وهو ثقة. الحديث التاسع: عن ابن عباس مرفوعاً، " اتقوا القدر فإنه شُعبة من النصرانية " (¬2)، رواه الطبراني، وفيه نزار بن حيَّان، وهو ضعيف، وهو يفيد النهي عن القدر نفسه لا عن الكلام فيه. الحديث العاشر: عن أبي رجاء العُطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول وهو على المنبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال أمر هذه الأمة قِوَاماً أو مقارباً ما لم يتكلموا في الوِلْدانِ والقدر " (¬3). رواه البزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح، أخرجه الذهبي في " تذكرته " (¬4) في ترجمة محمد بن حبان صاحب " الصحيح " عنه، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، أخبرنا يزيدُ بن صالح اليشكري ومحمد بن أبان الواسطي قالا: أخبرنا جريرُ بن حازم، قال: سمعت أبا رجاء العطاردي، وساق الحديث. ¬
النهي عن الخوض في القدر ينصرف إلى الجدل بغير علم وبغير حق
قال الذَّهبي: هذا حديث صالح الإسناد غريب لم أجده في الكتب الستة. قلتُ: رواه الحاكم في " المُستدرك " من طريق سليمان بن حرب، وشيبان بن أبي شيبة، ويزيد بن صالح، ومحمد بن أبان أربعتهم عن جرير بن حازم، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، وقال: على شرطهما، ولا نَعْلَمُ له علةً. وقد رواه السبكي موقوفاً على ابن عباس (¬1)، ولم يذكر رفعه، فإذا سَلِمَ من الإعلال برُجحان الوقف كان أصلحها إسناداً. ومعنى هذه الأحاديث إن شاء الله تعالى: التحذيرُ من مجاراة المبتدعة في القَدَرِ، والجدل بغير علم، وبغير حقٍّ المؤدي إلى الباطل، وإثارة الشر كما هو الظاهرُ من حديث أبي هريرة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أُخِّرَ الكلام في القدر لشرارِ أُمتي في آخر الزمان " فهذا الذي أُخر هو الخوض فيه على أحد هذه الوجوه (¬2) الفاسدة. فأمَّا الخوض فيه على جهة التعرف والتعلم لما جاءت به الشريعة، ثم الإيمان به على الوجه المشروع، فإنه لم يؤخر هذا لشرار الأمة، بل قد تواتر أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاضوا في معرفته، وفي وجوب الإيمان به كما يأتي ذلك في الفائدة الثالثة، فلم يزجُرْهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك القَدْرِ من الخوض فيه لما كان وسيلةً إلى الإيمان به، ولم يكن فيه شيءٌ من شعار المبتدعة، وكذلك لم يترك الجواب (¬3) عليهم بالقدر الواجب بيانُه في ذلك. وقد احتجَّ الإمام العلامة أبو عمر بن عبد البر على ذلك في كتابه " التمهيد " بحديث محاجَّة موسى وآدم في القدر، وهو من أصح الأحاديث كما يأتي بيانه. ¬
تواتر عن أبي هُريرة رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ورواه مع أبي هُريرة غيرُ واحد (¬2)، فلله الحمدُ والمنة. وكذلك ورد في " الصحيحين " من حديث ابنِ عباس مراجعةُ عمر بن الخطاب، وأبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنهما في أمر القَدَرِ في أمر الطاعون حين عَزَمَ عمر على الرجوع بالمسلمين خوفاً عليهم منه، فقال أبو عبيدة: أفِراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان يكره خلافه، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيت لو كانت لك إبلٌ، فهبطتَ بها وادياً له عُدْوَتَانِ إحداهما مُجدِبَةٌ، والأخرى: مُخْصِبَة، لكنت إن رعيتها في المُخصِبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في المُجْدِبة رعيتها بقدر الله (¬3)، ثم جاء عبد الرحمن بنُ عوف، فروى لهم الحديث في ذلك، فلم يَعِبْ هذه المراجعة عليهما أحدٌ من المسلمين، وكانوا في أعظمِ جمعٍ من جموعهم. ¬
فدل على أن المحرَّم بالنصوص ما يدلُّ العقل على المنع منه، وهو الخوضُ فيما لا يعلم من سِرِّ الله تعالى فيه، وعلى وجه المِراء وطرائق المبتدعة في تحكيم الرأي، وتقديمه على الآثار، وعلى كل وجهٍ يُؤدي إلى المفسدة. وذلك مثل ما (¬1) خرَّجه أحمد في " المسند " عن عُقبة بن عامر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هلاك أُمَّتي في الكتاب " قالوا: يا رسولَ الله، ما الكتابُ؟ قال: " يتعلمون القرآن فيتأوَّلُونه على غير ما أنزله الله عزَّ وجلَّ " (¬2). وفي إسناد أحمد عبدُ الله بن لهيعة، عن أبي قبيل عن عُقبة، وهو ضعيف عند الأكثر، وقد أثنى عليه أحمد وغيره (¬3)، ولكن الحاكم قد خرَّج الحديث من ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
طريقٍ صحيحة غير طريق ابن لهيعة، وهو يشهدُ لصدق ابنِ لهيعة وحفظه في هذا، خرَّجها الحاكم (¬1) في تفسير سورة مريم من حديث ابن وهب عن (¬2) مالك بن خير (¬3) الزَّبَادي، عن أبي قَبيل، عن عُقبة ... الحديث. وقال: صحيحٌ على شرط مسلم. وما ينزِلُ عن مرتبة هذه الأحاديث المقدمة في القدر، ومتنُ حديثه يصلُحُ مثالاً. فالهلاكُ بالقدر كالهلاك بالكتاب يجبُ تأويله في كل منهما على الهلاك بسببِ التكذيب بهما، إذ التأويلُ الباطلُ لهما أو تكلُّف علم ما لا طريق إليه فيهما كما ذلك كلُّه شعار المبتدعة، وقرينة التجوز واضحة، وهي أن الإيمان بهما واجبٌ، والهلاك المعلق بالواجب لا يكون إلاَّ من بعض الوجوه قطعاً. وقد تواترت الأحاديث في وجوب الإيمان بالقدر، ونص كتاب الله على صحته كما يأتي ذلك كله. ثم إن الله تعالى قد ذكر القدر في غير آيةٍ، وقد أمر الله تعالى بتدبُّر كتابه بقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آياتِه} [ص: 29]، فوجب بذل الجهد في تدبر كل ما في كتاب الله من الألفاط المفردة، والمعاني المتركبة منها إلاَّ ما لم نستطع معرفته مما لم يُرِدِ الله سبحانه خطابنا به من المتشابه، وإنما أنزله علينا لنؤمن بمعناه جملة، ونتبرك بتلاوته (¬4)، وربما خصَّ بمعناه بعض أنبيائه وملائكته. ¬
فهذا ما حضرني في هذه الفائدة، ولا خفاء على العاقل أن الخوض في هذه اللُّجَّة التي هابها فضلاءُ العقلاء لا يكون إلاَّ مصحوباً بحُسْنِ النية وشدة الرغبة إلى الله في الهداية، والتوقُّف على القول بغير درايةٍ، والفكرِ الطويل، وتحرِّي الإنصاف، والجمع بين أطراف الكلام التي يظهر تنافيها، وتطلُّبِ المحامل الحسنة، وعدم المؤاخذة بظاهر العبارة متى دلَّت القرينة على صحة المراد فيها، فإنها مسألة صعبة تقصُرُ فيها العبارات الطويلة، فكيف بالإشارات الخفيَّة. وقد روى ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬1) عن مالكٍ الإمام أنه قيل لإياس: ما رأيك في القدر؟ قال: رأيُ ابنتي، يريد لا يعلم سِرَّهُ إلاَّ الله تعالى، وبه كان يُضْرَبُ المثل في الفهم. وقد حُكي أن يحيى بن آدم ذكر أثر عبد الله بن عباس المقدم الموقوف لعبد الله بن المبارك، فقال ابن المبارك: فيسكت الإنسان على الجهل وهو إشارةٌ من ابن المبارك إلى ما ورد من الحثِّ على العلم، وما فيه من الخير، والتحذير من الجهل، وما فيه من الشرِّ، وأن هذه القاعدة المعلومة لا تُترك إلا بتحريمٍ متَّفَقٍ على صحته. وأقول: إن الإنسان بالضرورة يسكت على الجهل حيث لا طريقَ إلى العلم، وأقصى مَرامِ الخائضين في القدر أمور: أحدها: العلمُ بالعجز عن درك السرِّ فيه، وفائدة العلم بذلك سكون النفس عن المطالبة بالمعرفة والذوق لا بمجرد التقليد. وثانيها: معرفة ما يمكنُ معرفته من الوارد في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والجُمَلِ العقلية، وحكم أئمة الإسلام والأولياء. ¬
الفائدة الثانية: في ذكر ما قاله العلماء وأهل اللغة في تفسير القدر والقضاء
وثالثها: التحذيرُ من طرائق المبتدعة، وتقديمهم الرأي على الآثار في هذه القاعدة العظمى. الفائدة الثانية: في ذكر ما قاله العلماء وأهل اللغة في تفسير القدر والقضاء على اختلاف مذاهبهم وأدلتهم وأفهامهم. قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " (¬1) ما لفظه: لم يَتَّفِقْ لي وجدان البيان للقدر (¬2) على التحقيق، فتكلفتُه حتى دفع الله تعالى بفضله عني كُلفتَه، وحقيقته وجودٌ في وقتٍ واحد، وعلى حالٍ يُوافق العلم والإرادة والقول عن القدرة، فصارت القاف والدال والراء تدل بوضعها على القُدرة والمقدور الكائن بالعلم، ويتضمَّن الإرادة عقلاً والقول نقلاً. قلت: وكلامه هذا لا يخلو من تساهُلٍ في العبارة، فإنه جعل القدر مشروطاً بموافقة مجموع العلم والإرادة والقول، ولم يدل على ذلك دليلٌ، وموافقةُ أحدها يكفي في تسمية الموجود المتأخر مقدَّراً مقدوراً، وتسمية السابق لها قدراً أيضاً، فإنه لا معنى لكون الحادث مقدَّراً بقَدَرٍ سابقٍ إلاَّ مطابقته في الوجود، وصفاته سابقةٌ له متعلقة (¬3) به تعلُّقاً صحيحاً يستلزم فرض بطلانه المحال. وسواءٌ كان ذلك السابق علم الله وحده، أو قوله أو كتابته، أو إرادته أو غير ذلك، لأنه ترك ذكره للكتابة والتيسير، وقد ورد ما يقتضي تسميتها قَدَراً، كالقولِ -كما يأتي- في أحاديث الأقدار، بل في القرآن الكريم. وأيضاً فإنه جعل الوجود هو القدر، وهو المُقَدَّر، وإنما القدر السابق هو ¬
التعليقُ، ثم جعل دِلالة القدر على الإرادة، والقول دلالة تضمُّنٍ دون العلم والقدرة والمقدور، وجعل دلالته على هذه الثلاثة مطابقةً، وفيه نَظَرٌ، لأن دلالة المطابقة هي الوضعية اللغوية كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق دلالة التضمُّن، كدلالة الإنسان على النطق وحده، ودلالة الالتزام (¬1) على ما يستلزمه، مثل حاجته إلى الأكل والشرب. وأقول والله الموفق: إن القدر تعلُّق أمر متقدم من صفات الله تعالى كعلمه، أو من فعلِه ككتابته بأمرٍ متأخِّرٍ صادر عن فاعله بسبب اختياره وتمكينه، وصدور اختيار أسبابه عن الحكيم القادر المُقَدِّر. وسواءٌ كانت تلك الأسباب أسباب القدر المؤثرة فيه كالقدرة أو غير المؤثرة كالدواعي تعلُّقاً يَرْبِطُ الممكن بالواجب ربطاً يستلزم فرض بُطلانه المحال مع بقاء إمكانه باعتبار الجهتين. وهذا على جهة التقريب الرسمي دون التحديد الحقيقي كما يعرف ذلك أهل هذا الشأن، ولذلك لم ألتزم فيه شروطهم. وقولنا: " من صفات الله كعلمه أو من فعله كالكتابة والتيسير "، وإنما قيل: " من فاعله " ليدخل الرب تعالى، وإنما قيل: " بسبب صدور أسبابه عن القادر الحكيم المقدِّر سبحانه " ليخرج على المخلوقين، فإنه واجب المطابقة، ولا يسمى قدراً في اللغة لعدم خلقهم لأسباب المقدر، وإلا لزم أن يكون علمهم بالفقه قدراً. وإنما قيل: " الحكيمُ " احترازاً من قول من يقول: بنفي الحكمة في سبق الأقدار، فإنها لم تكن سدىً، بل لا بُدَّ أن تكون مشتملةً على الغايات الحميدة. ¬
وإنما قيل: " يستلزم فرض بطلانه المحال " لأنه الدليل على وجوب وقوع المقدَّر بالعلم، أو القول، أو الكتابة، أو الإرادة ووقوع المُيَسَّر بالدواعي كما يأتي بيانه. ألا ترى أن فرض وقوع المرجوح من الله عند المعتزلة يؤدي إلى المحال، وليس فيه إلاَّ مخالفة الدواعي الراجحة مع صفة الله تعالى بالقدرة والاختيار. وقوله: " باعتبار الجهتين " إشارة إلى أن القدر لا يُحيل الذوات عن صفاتها، ولذلك كان الله تعالى مختاراً عند الجميع مع تعلُّق القدر بأفعاله سبحانه {كانَ على رَبِّك حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم: 71]. وقيل: تعلُّق أمرٍ بأمرٍ ليَعُمَّ الشيء الحقيقي والإضافي. وقال الخَطَّابي: قد يَحسِبُ كثير من الناس أن معنى القَدَر من الله، والقضاء معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدَّره وليس كذلك، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن قدرٍ منه خيرها وشرها. والقدر: اسمٌ لما صدر مقدَّراً على فعل القادر، كالهدم، والنشر، والقبض، اسم لما يصدر عن فعل الهادم، والناشر، والقابض، يقال: قَدَرتُ الشيء، وقدَّرت، خفيفةً وثقيلة، والقضاء في هذا معناه: الخلق كقوله تعالى: {فقضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]. فإذا كان كذلك، فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصدٍ وتعمُّدٍ وتقدير إرادة اختيار، والحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلزمهم عليها. وجماعُ القول في هذا أنهما (¬1) أمران لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر، لأن ¬
أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هَدْمَ البناء ونقضه. انتهى كلامه. وتلخيصه: أن العلم سبق باختيار العباد لأفعالهم، وقدَّر الله وقضى أن يكونوا مختارين، وأراد بذلك ويَسَّرَه لهم، فلو أبطلنا اختيارهم، أبطلنا العلم والقدر والقضاء، وجعلناها غير مطابقة، وهي الأساس، ولو أبطلناها أبطلنا صفات الربوبية الواجبة، فيلزم إثبات الأمرين. والله أعلم. وفي " الصحيحين "، و" موطأ مالك "، و" سنن أبي داود "، و" سنن النسائي " من حديث ابن عباس، وذكر الطاعون أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتي إذا كان بسَرْغَ (¬1) لقيَهُ أُمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام .. ، وساق الحديث إلى قوله: فنادى عمرُ في الناس: إني مُصبحٌ (¬2) على ظَهْرٍ (¬3)، فأصْبِحُوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفِراراً من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة -وكان يكرهُ خلافه- نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيت لو كانت لك إبلٌ فهبطت بها وادياً له عُدوتان، إحداهما خَصِبَةٌ (¬4)، والأخرى جَدِبَةٌ، أليس إن رعيت الخَصِبَة (¬5) رعيتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبة رعيتها بقدر الله. انتهى (¬6). وفيه إجماعهم على صحة القدر، وعلى أنه لا يستلزم الجبر، لأنه لم ينكر ذلك مُنكرٌ، وهم في أكثر ما كانوا جمعاً. وقال ابن الأثير في " النهاية " (¬7): هو عبارة عما قضاه الله وحكم به من ¬
الأمور، وهو مصدر: قَدَرَ يَقْدِرُ [قَدَراً]، وقد تُسَكَّن دالهُ، ومنه حديث الاستخارة " فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْه " (¬1) أي: اقضِ لي به وهيِّئْهُ. وقال الزمخشري (¬2) في تفسير قوله تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]: القَدَرُ والقَدْرُ: التقدير، وقُرىء بهما (¬3) [أي:] إنا خلقنا كل شيءٍ مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه، وقد علمنا حاله وزمانه. وقال الزمخشري (¬4) أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وإنَّه لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]: يعني: علمه أن الحذر لا يُغني عن القدر (¬5). وقال أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد الجوهري في " صحاحه " (¬6): القدر والقدر ما يُقَدِّره الله من القضاء. ¬
وأنشدَ الأخفش: ألا يا لَقَوْمي لِلنَّوائِب والقَدر ... وللأمْرِ يأتي المَرْءَ من حيث لا يدري (¬1) والمَقْدِرَةُ: من القدرة، بالحركات الثلاث، وهي القضاء والقدر بالفتح لا غير. قال الهُذلي: وما يَبْقَى على الأيَّام شيءٌ ... فيا عَجَباً لمَقْدرة الكتاب (¬2) وقَدَرْتُ الشيء: أقْدُرُهُ وأقْدِرُه قدراً من التقدير. ¬
قال الشاعر (¬1): كِلا ثَقَلَيْنا طامع (¬2) بِغَنيمةٍ ... وَقَدْ قَدَرَ الرحمن ما هو قادر انتهى كلام الجوهري. وفي كتب الكلام أن القدر يكون بمعنى الكتابة، وأنشدوا فيه: واعلم بأنَّ ذا الجلال قد قَدَرْ ... في الصُّحفِ الأولى التي كان سَطَرْ أمرَكَ هذا فاجْتَنِبْ منه النَّتَرْ (¬3) وهذا معنىً صحيحٌ تشهد له الأحاديث الصحاح كما يأتي. وأما القضاء فقال الجوهري (¬4): هو الحكم، وقضى: حكم، ومنه قولُه تعالى: {وَقَضَى ربُّك ألاَّ تَعْبُدوا إلاَّ إيَّاهُ} [الإسراء: 23]. وقد يكونُ بمعنى الفراغ، تقول: قضيتُ حاجتي، وقد يكونُ بمعنى الأداء والإنهاء، تقول: قضيتُ دَيْني، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إلى بَني إسرائيل في الكِتاب} [الإسراء: 4]، وقوله: {وَقَضَيْنا إليه ذلك الأمرَ} [الحجر: 66] أي: أدَّيناه إليه وأبلغناه ذلك. وقد يكون بمعنى الصنع والتقدير، وقال أبو ذُؤَيب: ¬
وعَلَيْهما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُما ... داود أو صنع السَّوابِغ تُبَّعُ (¬1) ويقال: قضاه أي: صنعه وقدره، ومنه قوله يعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماواتٍ} [فصلت: 12]. ومنه القضاء والقدر ... إلى قوله: وقَضَّوا بينهم منايا بالتشديد، أي: أنفذوها (¬2). وقال القاضي عياض في " المشارق " (¬3): قضى صلاته، أي: فرغ منها، ومنه: فلما قضينا مناسكنا، وقضى الله حَجَّنا ... ، إلى قوله: قال الأزهريُّ (¬4) قضى في اللغة يرجِعُ إلى انقطاع الشيء وتمامه والانفصال منه، يقال: قضى بمعنى حتم، ومنه: قضى أجلاً، أي: أتَمَّه وحَتَمه، ومنه: " فإن الله قضى على نفسه سمع الله لمن حمده "، أي: حتم ذلك وحكم بسابق قضائه بإجابة قائله. ويأتي بمعنى الأمر: {وقَضَيْنا إليهِ ذلك الأمْرَ} [الحجر: 66]. وبمعنى الفصل في الحكم، ومنه: {يَقْضِي بينهم} [في آيات منها: يونس: 93] ومنه: قضى الحاكم، وقضى دينه، وكلُّ ما أُحْكِمَ عمله، فقد ¬
قُضِي، ومنه: إذا قضى أمراً، أي: أحكمه، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماواتٍ} [فصلت: 12]، ومنه: فلمَّا قضى قراءته أي: فرغ، وقُضِيَ الشيء: تمَّ. وبمعنى أنفَذَ وأمضى، ومنه: {فَاقْضِ ما أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72]. وبمعنى الانفصال والخروج عن الشيء، ومنه: قضى دينه. وقال الزمخشري (¬1): في تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]: أوحينا إليهم وحياً مَقْضِيّاً، أي: مقطوعاً مبتوتاً بأنهم مفسدون لا محالة (¬2). وقال الزمخشري (¬3) في تفسير قوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]: قُطِعَ وتمَّ ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما. فقد حصل مِنْ مجموع كلام العلماء ونَقَلَةِ اللغة، وأدلة المعقول والمنقول على ما مَضَى منه اليسير، ويأتي منه الكثير ما يدلُّ على أن القدر واجبٌ، والمُقَدَّر ممكن، وهذا هو الوجه في دقة الكلام فيه، فإن اجتماع الوجوب والإمكان مُحالٌ، فمن ثمَّ تباينت فيه أقوال أهل الكلام والجدل في الظاهر مع اتفاقها في المعنى. فمن نظر إلى وجوب القدر، قال: لا حيلة في مخالفته، ومن نظر إلى إمكان المقدر في ذاته، قال: لا يخرُجُ الممكن عن صفته الذاتية بسبب تعلُّقِ ما ليس من الموثِّرات. وكلُّ واحدٍ من الخصمين يُورِدُ على الآخر ما يُفحمُه ويُلْقِمُه الحجر. ¬
وسببه أن اجتماع الوجوب والإمكان في القدر لا يمكن جَحْدُه، ومن جحده، عطَّل (¬1) العقل والنقل، وبقي أن يُقال: فكيف ثبت اجتماع الوجوب والإمكان بالضرورة، وهل هذا إلاَّ بمنزلة ثبوت المحال بالضرورة. والجواب: أن ذلك لا يكون (¬2) مُحالاً باعتبار الجهتين، ولو كان مُحالاً، ما جمعه الله تعالى، وقد جمعه سبحانه كثيراً، فما استنكر ذلك أحدٌ لا من المؤمنين ولا من غيرهم، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]. وقد تقدَّم بطلان تأويلها بالإكراه في آخر مسألة الإرادة وهو كقولِ المعتزلة: إن صدور القبيح مُمتنعٌ من الله تعالى، مؤدٍ إلى المُحال، مقطوعٌ بامتناعه وجوباً مع بقاء الاختيار والإمكان بالنظر إلى القدرة والمقدور. والتحقيقُ في ذلك كله: أن الإحالة إنما تكون في صدق النقيضين معاً، وذلك لا يلزم إلاَّ حيث يتَّحِدُ المَنْفي والمُثبت من جميع الوجوه، فتكون الذات المسند إليها ثبوت الوجوب اللازم لنفي الإمكان، وثبوتُ الإمكان اللازم لنفي الوجوب واحدةً، والجهة التي أُسند (¬3) إليها الوجوب والإمكان واحدة. وكذلك الزمان والمكان، والحقيقة والإضافة، والبعض والكل، والقوة، والفعل، والشرط، والعموم والخصوص، فإذا قلت: زيدٌ كاتب، زيدٌ ليس بكاتب، لم يصح القطع بكذب أحدهما متى جاز أن يختلفا بالذات، فيكون زيدٌ الموصوف بأنه كاتب غير زيدٍ الموصوف بأنه غير كاتب، أو يختلفا في جهة الوصف بالكُلية (¬4)، وإن كان زيد واحداً فيكون كاتباً بالقوة، كما يقال: الخمر ¬
مسكر قبل شُربه بالقوة، غير كاتبٍ بالفعل، كما يقال: الخمر غير مُسكرٍ قبل شربه بالفعل. وكذلك قولنا: زيدٌ أبٌ غير أب قد يصدُقُ كله، أي: أبٌ بالإضافة إلى أولاده، غير أبٍ بالإضافة إلى غير أولاده. وكذلك الزِّنجي أسود بالإضافة إلى أكثره، غير أسود بالإضافة إلى جميعه، ففيه أسنانه بيض. وكذلك زيدٌ عالم بالنظر إلى علوم العقل الضرورية، ومن هنا خُوطب الكفار بنحو قوله: {لعلَّكم تعقِلون}، {وأنتم تعلمون} ليس بعالم بالنظر إلى خصوص كثيرٍ من العلوم، ولذلك خُوطِبَ الخلق كلهم بنحو قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 216]. وتبين تخصيص هذا العموم بنحو قوله عز وجل: {وَمَا أُوتيتم من العِلْمِ إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85]، وقوله تعالى: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32]. وبالجملة فالجمع بين النقائض شهيرٌ بين العامة والخاصة على هذا الاعتبار، ولذلك لم يلتبس عليهم ما جاء من ذلك في القرآن الكريم من نحو قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]. وقد جاء ذلك مُستفيضاً في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن فيه إلاَّ ما في الأسماء الحسنى من نحو: المُعِزِّ المُذِلِّ، الضارِّ النافع، المقدِّم المؤخِّر، المُحْيي المُميت، المبدي المُعيد، الباسط القابض. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الإمكان والوجوب في أفعال العباد مختلفان في الذات والجهة معاً. أمَّا الوجوب، فإنه من صفات القدر السابق، والإمكان من صفات المقدور الحادث المتأخِّر الممكن في ذاته.
وأما الجهة، فإن الحادث بنفسه إن وصفناه بالوجوب والإمكان لم نجعل جهتهما واحدة في ذلك، بل نصفه بالإمكان بالنظر إلى ذاته واختيار فاعله، وبالوجوب بالنظر إلى تعلق الواجب به تعلُّقاً غير مؤثِّر في وجوده. وقد أجمعت المعتزلة مع الأمة على جواز التكليف بالممتنع لغيره كطلب الإيمان ممن عَلِمَ الله أنه لا يُؤْمِنُ. وكذلك صحَّ الأمر والنهي، والمدح والذم على ذلك، وهو بينَ العقلاء شائعٌ مستحسنٌ ضروري، من أنكره لم يُراجع إلاَّ بالفعل، فيضرب ضرباً شديداً، فإن أحسَّ في نفسه وِجْدان اللوم للضارب، فقد اعترف، وهذا كما قال تعالى: {أفَسِحْرٌ هذا} [الطور: 15]، وقال تعالى: {هذه النارُ الَّتي كُنتُم بها تُكَذِّبونَ} [الطور: 14]. فإن قيل: إن الوجوب المختصَّ بجهة، وجوبٌ خاص، والخاص يستلزم العام، فإن وجود الإنسان يستلزم وجود الحيوان بخلاف العكس، فالجواب من وجهين. الأول: أن هذا خيالٌ باطل، ضلَّ بسبب الغلط فيه خلقٌ كثير، وبَنَوْا عليه من البِدَعِ ما لا يُحصى. وبيانه: أن الجنس العام مجرَّد لفظٍ لا وجود له في حال عمومه ألبتة، ووجوده عاماً مع عدم جميع أنواعه مُحالٌ، وأهل المنطق يُسمُّونه العرض العام، والوصف العرضي، والاشتراك فيه اشتراكٌ في مجرد عبارة لا سوى، ولذلك قال المحققون: إن ذوات المخلوقات لم تُشارك ذات الرب في شيءٍ حقيقي، ثم تميزت ذات الرب بعد المشاركة. وقالت المعتزلة: إن العباد قد شاركوا الربَّ عزَّ وجلَّ في الذاتية، أي: في كونهم أشياء، وهو سبحانه شيءٌ، ومن ها هنا عَطَّل المُعَطِّلَةُ.
الفائدة الثالثة: ما يدل على القدر من كتاب الله وسنة رسوله بذكر أحاديث
وقالت الباطنية والإسماعيلية: لا يوصف سبحانه بصفةٍ قط، فيكون مثل من وُصِفَ بها مِنَّا، فلا يوصف بأنه شيءٌ، ولا موجود ولا عالم ولا قادر. وقد رد الجويني (¬1) بهذا على من زعم من الكُلاَّبية أن القرآن الكريم كان كلاماً في القِدَمِ غير أمرٍ ولا نهي ولا خبر ولا خطاب. الوجه الثاني: أنه لو استلزم الوجوب الخاصُّ الإمكان العام المطلق، كان ذلك (¬2) يستلزِمُ نفي الاختيار، وليس للمعتزلي أن يحتج بهذا الإمكان الخاص على نفي ذلك الوجوب الخاص. ولا للجَبْري أن يحتجَّ بذلك الوجوب الخاص على نفي ذلك الإمكان الخاص، لأنا إن جعلنا لكلِّ واحدٍ منهما أن يحتج بذلك على الآخر أدى إلى صحة النقيضين وهو محالٌ. وإن جعلنا الحجة لأحدهما دون الآخر، أدَّى إلى تناقض المثلين، وهو مُحالٌ. ومن جَهِلَ هذا التحقيق، نسب إلى أهل السنة ما لا يليق، وتوهَّم من بعض عباراتهم نفي الاختيار، وإثبات الإجبار والاضطرار، ومن عدم النظر إليه حارَتِ الأفكار، وعَثَرَ فرسانُ النُّظَّار في مسائل الأقدار. الفائدة الثالثة: التنبيه على الجمل، وبعض التفاصيل مما حَضَرني مما يدلُّ على القَدَر من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. أمَّا كتاب الله تعالى، فهو محفوظٌ معلومٌ، لكن نتبرَّك بإحضارِ بعض آياته المباركة للواقف على هذا الكتاب (¬3). ¬
واعلم أن الوارد فيه أنواع كثيرة، وبالجملة فكُلُّ آيةٍ فيها دِلالةٌ على أن للرب (¬1) سبحانه أثراً ما في فعلٍ من الأفعال، فهو مما يصلُحُ إيراده هنا من سؤاله عز وجل الهداية والإعانة كما في فاتحة الكتاب التي يقرأُ بها كلُّ مُصَلٍّ من المسلمين. وكذلك المِنَّةُ بنعمة الإيمان كما في الفاتحة أيضاً في قوله: {صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عليهِمْ} [الفاتحة: 7] فإن نعمة الإيمان مرادةٌ هنا بالإجماع، فهذه ثلاث حُجَجٍ من فاتحة الكتاب وحدها. وكذلك الاستعاذة من الشيطان التي يبدأ بها كل قارىء. وكذلك الاستعاذة بالله من الضلالة، يدلُّ على ذلك مثل ما حكى الله تعالى عن الراسخين في قولهم: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتنا} [آل عمران: 8]. وكذلك كل آية فيها نسبة الهدى والضلال إلى الله سبحانه وتعالى. وكذلك ما هو في معنى ذلك من التيسير لليُسرى والعُسرى وجميع ما تقدم من آيات المشيئة. وما لو أفردناه لطال، وفي الإشارة إليه كفايةٌ، فهذه جملة نبَّهتُ طالب الحق عليها. وأما التفاصيل: فمنها قوله تعالى: {إلاَّ امرأَتَه قَدَّرْناها مِنَ الغَابرينَ} [النمل: 57]، وفي آية: {قَدَّرْنا إنَّها لَمِنَ الغَابرينَ} [الحجر: 60]، وقوله تعالى: {وأهلَكَ إلاَّ مَنِ سَبَقَ عليه القولُ} [هود: 40]، وقال: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى: {الَّذي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 3]، فحذف مفعول قدَّر وهدى لعمومها: قدَّر كل شيءٍ، {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ} [القمر: 49]، وهدى كُلَّ أحد {إنَّا هَدَيْناهُ السبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كَفوراً} [الإنسان: 3]، وقال: {وكُلُّ شَيْءٍ عندَهُ بمِقْدارٍ} [الرعد: 8]، وقال: {ما ¬
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23]. وأكثرُ المصائب من أفعال العباد في تعادي بعضهم بعضاً وتظالمهم وتحاسُدِهم وجناياتهم، وقد تكونُ معصيةً، فتكون مكروهة من حيث قَبُحَتْ لا من حيث قُدِّرَتْ، كيمين الزور الغموس التي يحكم بسببها بحقِّ الغير، وقد لا تكون معصيةً ألبتة كفعل الخَضِر عليه السلام في قتل الغُلام، وقال: {قُلْ لَنْ يُصيبنا إلاَّ ما كَتَبَ الله لنا} [التوبة: 51]. وقال في تقدير أفعال العباد خُصوصاً: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، وقال: {هُوَ الَّذي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ} [يونس: 22]، وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] كما تقدم مع آيات المشيئة المتقدمة جميعها. وقال: {كذلك كِدْنا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]، وقال: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء: 69]، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29]، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وليس هو (¬1) إلزام الأمر لعمومه، وخصوص هذا بالمؤمنين. ومنه قراءة أُبي: {وأتبعناهُم ذُرِّيَّاتِهم بإيمانٍ} (¬2). ومنه التيسير لليُسرى والعسرى وما فيهما من آياتِ الهدى والضلال مثوبةً وعقوبةً كما مضى. ¬
ومثل قوله: {وفي ذلكم بلاءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظيمٌ} [البقرة: 49] بعد قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]. وقال: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15]. وقال في تقدير المعاصي خُصوصاً: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4]. وقال في هود وفي السجدة: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، [السجدة: 13]. وقال على جهة التعيين لواحد مخصوص: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} إلى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 7 - 12]. وقال في تقدير أفعال العباد: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]. وقال حكاية عن نبيه يعقوب عليه السلام. {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} (¬1) [يوسف: 67 - 68]. وقال في يحيى بن زكريا: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] وعيسى ¬
كذلك، وهو في يحيى أوضح، لأنه لم يقل أحد: إنه كان كامل العقل يومئذ، وذلك دليل على سبق القدر للعمل. وقال: {كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلي} [المجادلة: 21]، وقال: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] فعلَّلَ نجاتهم من العذاب بسبق الكتاب، وهو عين ما يمنع منه الخصوم. وعن سعد بن أبي وقَّاص: أرجو أن تكون رحمةٌ من الله سبقت لنا. رواه الحاكم (¬1) وقال: على شرط الشيخين. وقال: {إنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِنَّا الحُسْنَى} [الأنبياء: 101]. وجاء بتعليل أفعال الله، وهي اختياريةٌ بكلماته الواجبة كقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19]. وكذلك تعليلُ أفعال العباد الاختيارية، كقوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] هذا مع قوله تعالى: {لا تبديلَ لِكلماتِ الله} [يونس: 64] وليس المراد به إلاَّ هذه. أما كلمات كتبه الشرعية، فقد نصَّ على تبديلها، قال تعالى: {وإذا بَدَّلْنا آيةً مَكانَ آيةٍ} [النحل: 101]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]، وفي معناها قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13]، وقال: {والله ¬
يحكمُ لا مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ} [الرعد: 41]. وقال في تأثير أفعال العباد الاختيارية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}، [الفتح: 24]، وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، وقال: {إنَّا فَتَحْنَا لك فَتْحَاً مُبيناً} إلى {ويُعَذِّبَ المنافقين} [الفتح: 1 - 6] الآية. وفي معناها: {إنَّا عَرَضْنا الأمانة} إلى آخر السورة: [الأحزاب: 72 - 73]، وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 - 2] وقال: {إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج: 19] الآية، وقال: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا} [المعارج: 38 - 39]، وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} إلى قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 36 - 37]، وقال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] وفيه جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وقال: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94 - 95]، وقال: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58]. وقال في يحيى بن زكريا: {وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ} [مريم: 15]، وفي عيسى بن مريم مثل ذلك.
وذلك مثلُ حديث " السعيد من سَعِدَ في بطن أمِّه " (¬1) على أنه مُفسَّرٌ بحديث ابن مسعود المتفق على صحته كما يأتي في الأخبار، وليس كما تظُنُّه الجبرية. وقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 78 - 79]. وقوله في آخر هذه: {فمِنْ نَفْسِكَ} محمولٌ على السبب الذي سبق من الربِّ تقديره بدليل قوله: {ما أصابَكَ} ولو كان معصية لقال: ما أصَبْتَ كما ذلك معروف، فهو كقوله تعالى: {ما أصابَ من مُصيبةٍ إلاَّ بإذنِ اللهِ} [الحديد: 22]. وقوله تعالى: {وفي ذلِكُمْ بَلاءٌ من ربِّكم عظيمٌ} بعد قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49]. وقوله: {وليس بِضارِّهم شيئاً إلاَّ بإذنِ الله} [المجادلة: 10] وإنما نسبه إلى العبد، لأنه حدث من العبد فعل سببه واختياره. ونظيره قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 - 167]. فجمعت هذه الآية مذاهب أهل السنة في تقدير أفعال العباد الاختيارية بقوله: {مِنْ عندِ أنفُسِكم} وسبق تقديرها من الله تعالى بقوله: {فبإذن الله}. ¬
وبيانُ تعليل القدر بالحكمة في قوله: {ولِيَعْلَمَ} يدل على أن الإذن هنا الإرادة بدليل هذا التعليل، فإن الإذن لا يُعَلَّلُ، فدلَّ على أن الإذن ليس بمعنى العلم. وقد بيَّنه الله عز وجل في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكم عنهم لِيبتلِيَكُم} [آل عمران: 152]، ومثلها: {هُوَ الَّذي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عنكُم وأيديَكُم عنهم} [الفتح: 24]. وفي " الضياء " ما يدلُّ على أن الإذن إذا كان من العلم كان بفتح الهمزة، وفتح الذال المعجمة (¬1)، ويُقَوِّيه: أن عادتهم التفريق بين المصادر التي أفعالها متماثلة مشتبهة. وقوله: {وجعلناهُم أئمةً يَدْعُونَ إلى النَّار} [القصص: 41] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام: 123]، وقوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60]، وقال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 85]، وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء: 200 - 201]، وقال: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163]، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 3] إلى آخر ¬
السُّورة، وقال: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} إلى قوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 1 - 6]، وقال: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 52 - 53]، وقال: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 3]، وقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، ونوره هنا يتعلق بأفعال المؤمنين من الهدى، وذلك يتوقف على اختيارهم مع أن تمامه منسوب إلى الله تعالى على جهة القطع. ومثله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]، وقال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 44]، وقال: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]، وقال: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وهي من أوضح الأدلة على مذهب أهل السنة في صحة الجمع بين نفوذ القضاء ونفي الجبر، لأنه لا يصح الجبر في حق الرب سبحانه إجماعاً. وقال: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ (¬1) رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6]، وقال: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ ¬
مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119]. ومثل آخرها: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآية [السجدة: 13] والإشارة بذلك إلى الاختلاف بدليل أول الآية وآخرها وسائر نصوص كتاب (¬1) الله البينة. وقال الله تعالى: {ولَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُم على الهُدى} [الأنعام: 35]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله: {ولا يزالُونَ مُختلفين} [هود: 118]، ولأن وقوعه هو المعلوم ضرورةً. وقد ثبت أن ما أراده الله وقع، وقد جوَّزه الإمام المنصور بالله عليه السلام في " المجموع المنصوري "، وذكر فيه وجهاً لطيفاً، وهو أن يكون المراد: خلق أولياءه لمخالفة أعدائه، وشرط في صحة هذا أن تكون " إلاَّ " بمعنى (¬2) الواو. ويُقوِّي الوجه اللطيف الذي ذكره ما ذكرتُه في هذا الكتاب في مرتبة الدواعي في تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكم أحسنُ عملاً} [الملك: 2]، وكذا ذكر الزمخشري في " كشَّافه " (¬3): إشارة إلى ما دل عليه السلام الأول وتضمنه، يعني: ولذلك التمكين والاختيار الذي كان فيه الاختلاف خلقهم ليُثيب مختار الحق بحُسْنِ اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. انتهى. وقد ألمَّ هذا الموضع بمذهب الأشعرية في صرف إرادة الله المتعلقة بأفعال العباد إلى (¬4) تعليقها بأفعال الله تعالى على ما مر تقريره في مسألة الإرادة. وفي قوله تعالى: {وتمَّتْ كلمةُ ربِّكَ لأَمْلأنَّ} [هود: 119] لقوله في غيرها: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13] دليلٌ واضح ¬
على أن هذا مراد لله (¬1) تعالى أصيلٌ اقتضته حكمةٌ بالغة حتى حقَّ به قوله الحق، وتمت (¬2) به كلمته الصدق، ولا تبديل لقوله، ولا مُعَقِّب لحكمه. ولو كان أمراً مضادّاً لمراده تعالى، ما حَسُنَ في لغة العرب وروده بهذه الصيغ، ولكن نعلم قطعاً أنه لا يريد الشر لكونه شراً، بل يُريده لخيرٍ وحكمةٍ، وذلك هو تأويله الذي لا يعلمه إلاَّ هو سبحانه، أو من شاء أن يخُصَّه من خلقه سبحانه وتعالى. ويدل على القول الأول ما ذكره الله من جعله لكل نبي عدوّاً شياطين الإنس والجن، وسائر ما تقدم من أنه لو شاء، لهدى الناس جميعاًً، ومِنْ جعلِهم أمة واحدة ونحو ذلك. ويدل عليه قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213]. فقوله: {بإذنه} يتعلق بـ " اختلفوا "، والضمير فيه يرجع إلى غير المؤمنين، والقرائن واضحةٌ في ذلك، وهذا الحق هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، ولقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. فدلَّ ذلك، على أن الحق التوحيد وعبادة الله وحده، والإشاره بالاختلاف إلى من خالف في شيءٍ من ذلك. ¬
ونحو (¬1) ما تقدم قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي} [آل عمران: 79] الآيات. وعن ابن عباس: كانوا على الإيمان (¬2). قال الهيثمي في " مجمع الزوائد ": رواه أبو يَعْلى والطبراني ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. انتهى. وجعله الزمخشري (¬3) المختار من الوجهين. والوجه الثاني: أن المراد كانوا على الكُفْرِ (¬4). ¬
قلت: والذي يوضح الأول قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] بعد قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وفي اختلاف بني إسرائيل آيةٌ أصرح منها. وأيضاً فلن يجتمع الناس مع بقاء كثرتهم واختلاف فِطَنِهم وطبائعهم وإسلامهم على كُفرٍ ولا إسلام. وقد حكى الله اختلاف الملائكة في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69]. وجاء في الحديث الصحيح: اختلافهم في الذي قتل مئة نفسٍ ثم تاب (¬1). واختلف الخَضِرُ وموسى (¬2)، وسليمان وداود (¬3)، وآدم وموسى (¬4)، بل قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وأمثالها. فدلَّ على أن الاختلاف من لوازم الاختيار فيما يوجب الاجتماع عادةً، ولا يقع غير ذلك عادةً، كما لا يجتمعون على مأكولٍ واحد دون سائر الأطعمة، ولا على اختيار بلد ولا صناعة إلاَّ أن يشاء الله، لكن قد أخبر الله أنه لا يُريدُ جمعهم على الكُفْر، وذلك بَيِّنٌ في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. الآية. ¬
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]. وكيف يُخلي الله الخلق من عباده الصالحين، وهم ثمرة خلق العالمين، ولذلك تقوم القيامة عند فقدهم كلهم كما ورد مرفوعاً، ولولاهم ما خلق الخلق بدليل قوله للملائكة بعد ظهور صلاح آدم لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] فإنه نقض عليهم بذلك ما ظنُّوا من فساد جميع الآدميين الذي هو شرٌّ محض لا خير فيه، وهو القبيح عقلاً، أما وجود شر لخير فيه ذلك (¬1) الخير هو المقصود من ذلك الشر، فلا قُبْحَ فيه على ما أوضحته في تفسير قوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدون} [الذاريات: 56]، كما تقدم بيان مذهب الأشعرية في المشيئة. وأيضاً فلم يجتمع الخلق على الكفر قطُّ لوجود الأنبياء في المتقدمين وكثرتهم، فقد جاء في الحديث " أنهم مئة وعشرون ألف نبيٍّ " صلوات الله عليهم وسلامه (¬2). ¬
ويشهد بذلك قوله في الآية: {وما اختلَفَ فيه إلاَّ الذينَ أُوتوه} [البقرة: 213] والضمير في قوله: {فيه} راجعٌ إلى الحق. ¬
وقد قُصِرَ الاختلاف فيه على الذين أوتوا الكتاب فدلَّ بمفهومه على نفي الاختلاف في الحق عمَّن قبلهم، وكذا مفهومُ قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19]. ولعل ذلك الاجتماع إنما كان بسبب الابتلاء، فلما نزل الكتاب بالابتلاء، وقع الاختلاف بسبب الابتلاء (¬1)، لا بسبب نزول الكتاب، ألا ترى أن الملائكة غيرُ مختلفين بسبب عدم الابتلاء بدليل قصة هاروت وماروت. ولو سلمنا أن الإشارة في قوله: {ولذلك خَلَقَهم} [هود: 119] إلى الرحمة لَزِمَ منه أن الضمير في خلقهم راجع إلى من رَحِمَ لا إلى المختلفين ولا إلى الجميع. كما أنه إذا صح أن الإشارة فيه إلى الاختلاف كان الضمير راجعاً إلى المختلفين، لا إلى المرحومين الذين استثناهم الله تعالى. وبالجملة فالضمير لا يرجع إلى جميع المذكورين قبل الاستثناء وبعده، لأن حكمهم مختلف، فالضمير ليس من ألفاظ العموم، والأمور المقدرة يجب الاقتصار فيها على الضرورة، ولا يُضْمَرُ أكثر من الحاجة، فتأمل ذلك، فإنه مفيدٌ ولله الحمد. وعلى هذا التقدير يزولُ الإشكالُ على كل تقديرٍ، ولا يلزم أن الله تعالى أراد خلاف ما علم، لأنه إذا عاد الضمير إلى المرحومين، ووقعت الإشارةُ إليهم، فقد علم الله أنهم من أهل الرحمة وخلقهم لذلك، ولا بُدَّ (¬2) من حكمة الله تعالى في الجميع، في خلق السعداء للرحمة جليةً، وفي خلق الكفار للاختلاف خفيَّةً، وما أحسن كلام المنصور بالله عليه السلام المقدم في ذلك، ويمكن أن ¬
تكون الإشارةُ إلى الجميع، أعني: الرحمة والاختلاف، والضمير للجميع أي: خلق المرحومين للرحمة وغيرهم للاختلاف. ومما يُصادِمُ مذهب المعتزلة مصادمة النصوص الصريحة قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178]. والمعتزلة تأوَّلوا جميع هذا تارة بأن الإضلال بمعنى العقاب وتارة بمعنى الحكم، وتارةً بما فيه تعسُّفٌ. والجواب من وجوه: الأول: النزاع في المُوجِبِ للتأويل من الأصل. والثاني: دعوى العلم الضروري لمن بحث عن أحوال السلف أنهم كانوا لا يتأولون شيئاً من ذلك، وبيان هذا يحصُلُ بتأويل ما يأتي من الأخبار المتواترة الآن. الثالث: أن تأويلاتهم وإن تَمَشَّتْ في بعض المواضع فإنها لا تمشي في كثيرٍ منها إلاَّ بتعسُّفٍ معلوم البطلان، كما تقدم بيانه في مرتبة الإرادة، وكذلك تقدم إيضاح الوجه الأول والثاني فيها ولله الحمد. أما الأحاديث وآثار الصحابة والسلف في الإيمان بالقدر، فلا سبيل إلى استقصائها، وهي على كثرتها تنحصِرُ في قسمين: أحدهما: ما يدلُّ على ثبوت القدر وصحته. وثانيها: ما يدلُّ على وجوب الإيمان به، وذمِّ من كذَّب به، وأنا أُورد في كل قسمٍ ما تيسَّر لي وقت تعليق هذا الجواب من غير إسهاب ولا استيعاب، وأتركُ الكلام على أسانيد ما نقلته من الكتب الستة لشهرتها، وأُنَبِّهُ على ما في
إسناد الحديث الذي من غيرها ليتمكَّن من البحث عنه في كتب الرجال من كان أهلاً لذلك. وجملة ما تيسَّر لي تعليقه في هذا مئتا حديثٍ، بل أكثر من مئتين كما تراه، فمنها في القسم الأول مئة ونَيِّفٌ وخمسون وفي القسم الثاني سبعون، وهذا زائدٌ على التواتر، فللهِ الحمد والمنة. القسم الأول: ما يدلُّ على صحته على جهة الاستظهار وإلا فقد تقدم من قواطع القرآن والبرهان ما يُغني عن الزيادة في البيان. الحديث الأول: عن عليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: كنا في جنارةٍ في بقيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرَةٌ فنكَّس وجعل يَنْكُتُ بمِخصرتِه، ثم قال: " ما منكم من أحدٍ إلاَّ وقد كُتِب مقعدُه من النار، ومقعده من الجنة " فقالوا: يا رسول الله، أفلا نَتَّكِلُ على كتابنا؟ فقال: " اعملوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، أمَّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعمل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] (¬1). رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما "، والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الحديث، والمعنى متقاربٌ، ورواه النسائي. ذكرها المزي في " أطرافه " (¬2)، ولم يذكرها أبو القاسم بن عساكر. ¬
ولعليٍّ عليه السلام ستة أحاديث في إثبات القدر على مذهب السلف وأهل السنة تأتي متفرقة، وإنما نَبَّهْتُ على ذلك لدعوى المعتزلة أنهم على مذهبه عليه السلام، وسيأتي تطابق الروايات عند تبيين ذلك من طريق أهل البيت وطريق أهل الحديث كما مر مثل ذلك في المشيئة، فقد تواتر عنهم براءته من رأيهم ولله الحمد والمنة. الحديث الثاني: عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، قال: جاء سراقة بن مالك، فقال: يا رسول الله بيِّنْ لنا ديننا كأنَّا خلقنا الآن، فِيمَ العمل اليوم؟ قال: " بما جَفَّتْ به الأقلام وجرت به المقادير " قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وكل عاملٍ بعمله " أخرجه مسلم في " الصحيح " (¬1). الثالث: عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: " نعم "، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: " كل ميسر لما خلق له ". أخرجه مسلم وأبو داود. وفي رواية البخاري نحوه، وزاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] (¬2). الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال عمر يا رسول الله، أرأيت ما نعمل، فيه أمرٌ مُبتدأ، أو فيما قد فُرِغَ منه؟ فقال: "فيما قد فُرِغ يا ابن الخطاب، وكل مُيَسَّرٌ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأما من كان من ¬
أهل الشقاوة فإنه يعمل للشقاوة" (¬1). وفي رواية قال: لما نزلت {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: فعلام نعمل؟ وساق نحو الأولى (¬2). خرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح. قال: وفي الباب عن علي، وحذيفة بن أسيد، وعمران بن حصين، وأنس رضي الله عنهم. وخرج أبو داود معنى الأول من حديث ابن عمر، عن أبيه عمر رضي الله عنهما في حديث جبريل عليه السلام في الإيمان بالقدر خيره وشره (¬3). الخامس: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه مَلَكاً بأربع كلمات، بِكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلاَّ ذراعٌ، فيَسْبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلاَّ ذراعٌ، فيسبق ¬
عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود (¬1). ويقارب معناه من كتاب الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} [النبأ: 29] كما في التفسير في قوله تعالى في لقمان: {وما تَدْري نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] وأما آيات الأقدار فقد مضت والله سبحانه أعلم. السادس: عن عامر بن واثلة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. خرجه مسلم (¬2). السابع: عن عمر رضي الله عنه بحديث نحو هذا في تفسير قوله تعالى: {وإذْ أخَذَ ربُّك مِنْ بَني آدمَ} الآية [الأعراف: 172] رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وابن حبان في " صحيحه " عن مالك، عن زيد بن أبي أُنيسة، أن [عبد الحميد بن] الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسارٍ الجهني، أن عمر سأل عن هذه الآية {وإذْ أخَذَ ربُّك} [الأعراف: 172] الحديث بطوله كما يأتي في مسألة الأطفال. وفيه مرفوعاً: " إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنة يُدخله به، وإذا خلقه للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل النار، فيدخله به النار " (¬3). ¬
هكذا هو في " الموطأ "، وقال الترمذي: حديثٌ حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم: وبينهما نُعيم بن ربيعة (¬1). وكذلك رواه أبو داود من طريق عمر بن خَثْعم، فأدخل بينهما نعيم بن ربيعة (¬2). قال الدارقطني وتابع عمر بن خثعم على ذلك أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك (¬3). ¬
الثامن: عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وكَّل الله بالرَّحم مَلَكاً يقول: أي ربِّ نُطفةٌ، أي ربِّ عَلَقةٌ، أي ربِّ مُضْغَةٌ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ وكتب ذلك في بطن أمه ". أخرجه البخاري ومسلم (¬1). التاسع: عن طاووسٍ قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيءٍ بقَدَرٍ، وسمعتُ ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْسُ " (¬2). خرجه مالك ومسلم في " الصحيح " (¬3). ¬
العاشر: عن عامر بن واثلة أنه سمع ابن مسعودٍ يقول: الشقيُّ من شقي في بَطْنِ أُمِّه، والسعيد من وُعِظَ بغيره، وسمع من حُذيفة بن أسيدٍ الغِفاري نحو ذلك (¬1). أخرجه مسلم في أول الحديث (¬2)، وقد أشرت إليه بعد حديث ابن مسعود. الحادي عشر: عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله " فقال: كيف يستعمله؟ قال: " يُوَفِّقُه لعملٍ صالحٍ قبل الموت ". أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح (¬3). الثاني عشر: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرجل ليعمل الزمن ¬
الطويلَ بعمل أهل الجنة، ثم يُخْتَمُ له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختم له عمله بعمل أهل الجنة ". أخرجه مسلم (¬1). الثالث عشر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله خلق خلقه في ظُلمةٍ، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضَلَّ، فلذلك أقول: جَفَّ القلم على علم الله ". أخرجه الترمذي، وأحمد، والبيهقي، والبزار، والطبراني (¬2). وقال الهيثمي (¬3): أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات. الرابع عشر: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وأحب إلى الله، وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن (¬4) بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء (¬5) فعل، فإن " لو" تفتح عمل الشيطان ". أخرجه مسلم (¬6). ¬
الخامس عشر: عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سعادة المرء رضاه بما قضى الله، ومن شقاوته سَخَطُه بما قضى ". أخرجه الترمذي، وقال: غريب (¬1). السادس عشر: عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " حاجَّ آدمُ موسى، قال: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك، فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمرٍ كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدَّره علي قبل أن يخلقني "، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فحجَّ آدمُ موسى " (¬2). أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك في " الموطأ "، والترمذي، وقال: حسن غريب من حديث سليمان التيمي، عن الأعمش، وفي الباب عن عمر وجندب، ¬
وقد روى بعضُ أصحاب الأعمش هذا عنه، عن أبي صالحٍ عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقد روي هذا الحديث من غير وجهٍ عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وبوَّب (¬3) عليه باب حجاج آدم وموسى. فقوله: وفي الباب عن عمر وجُندب يدل على عدم تفرُّد أبي هريرة بهذا الحديث. وذكر ابن كثير في الأول من " البداية والنهاية " (¬4): أنه متواتر عن أبي هريرة، وذكر من طرقه الجمة ما يُصدِّقُ ذلك، ثم ذكر له شواهد عن غير أبي هريرة. ولا حجة لنفاة القدر في مَلام موسى لآدم، لأنه كان في ذلك كالناسي الغافل عن تذكُّر القدر، لا أنه جاحدٌ له، ولذلك لما ذكَّرَه آدم لم ينكره. وقد تقدم أن وجهه أنه لامه على خروجه من الجنة وإخراج ذريته، وكل ذلك من فعل الله تعالى لا ذنب فيه له، لأنه عقوبة ذنبه، ولو شاء الله ما عاقبه لا سيما وذنوب الأنبياء صغائر، ولا حجة للعصاة في القدر إجماعاًً والله أعلم. السابع عشر: ذكر الهيثمي من شواهد حديث أبي هريرة حديث جندب مرفوعاً بنحوه. قال: رواه أبو يعلى وأحمد بنحوه، والطبراني ورجاله رجال الصحيح (¬5). ¬
الثامن عشر: عن أبي سعيدٍ مرفوعاً نحوه، رواه أبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح (¬1). التاسع عشر: عن عمر بن الخطاب نحوه، كما أشار إليه الترمذي (¬2). العشرون: عن أبي هريرة: شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فقال لرجل ممن معه يدَّعي الإسلام: " هذا من أهل النار " فلما حضر القتال، قاتل الرجل من أشد القتال، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: " أما إنه من أهل النار " فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو كذلك وجد الرجل ألم الجِراح، فأهوى بيده إلى كِنانته، فانتزع منها سهماً فانتحر به، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لبلال: " قم فأذِّن لا يدخل الجنة إلاَّ مؤمنٌ، وإن الله ليُؤَيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر ". وفي رواية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وهو من أهل ¬
الجنة، ويعملُ عمل أهل الجنة وهو من أهل النار، فإنما الأعمال بالخواتيم". خرجه البخاري في باب القدر (¬1). الحادي والعشرون: عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يأتي ابن آدم النَّذْرُ بشيء لم يكن قد قدَّرته، ولكن يلقيه القدر وقد قدرته له، أستخرج به من البخيل "، أخرجه البخاري في القدر (¬2). الثاني والعشرون: عن أبي سعيد عنه - صلى الله عليه وسلم -: " المعصوم من عصم الله ". خرجه البخاري فيه (¬3). الثالث والعشرون: عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النُّطق، والنفس تَمَنَّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك ويُكَذِّبُه "، خرجه البخاري (¬4). ¬
الرابع والعشرون: حديث المغيرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مَعطِيَ لما منعتَ ". خرجه البخاري (¬1). الخامس والعشرون: حديث ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يَحْلِفُ: لا ومُقَلِّبَ القلوب ". خرَّجه البخاري (¬2)، وترجم الباب بقوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]. السادس والعشرون: حديث ابن عمر، أن عمر قال: ائذنْ لي، فأضْرِبَ عُنُقَه، يعني: ابن صَيَّاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن هو -يعني: الدجَّال- فلا تُطيقُه ". خرجه البخاري (¬3). ¬
السابع والعشرون: حديث عائشة أنها سألت رسول - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون؟ فقال: " كان عذاباً يَبْعَثُه الله على من يشاء من عباده، فجعله الله رحمةً للمؤمنين، ما مِنْ مُؤمنٍ يكون في بلدٍ يكون فيه، فيمكُثُ فيه صابراً مُحْتَسٍباً، يعلم أنه لا يُصيبه إلاَّ ما كتب الله له إلاَّ كان له مثل أجر شهيدٍ ". خرجه البخاري (¬1). الثامن والعشرون: حديث البراء بن عازب، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقُلُ التراب معنا، وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنَا فأَنْزِلَنْ سكينةً علينا ... وثَبِّت الأقدام إنْ لاقَيْنا والمشركون قدْ بَغَوْا علينا ... إذا أرادُوا فِتنةً أبَيْنا أخرجه البخاري (¬2). التاسع والعشرون: حديث أنسٍ أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ أن يقول: " يا مُقَلِّبَ القلوب ثبتْ قلبي على دينك " (¬3). خرجه الترمذي من رواية أبي سفيان، اختلف عليه، قيل: عن أنس، وقيل: عن جابر. قال الترمذي: وحديثه عن أنس أصحُّ (¬4). الثلاثون: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسولُ الله ¬
- صلى الله عليه وسلم -، وفي يده كتابان فقال: " أتدرون ما هذان الكتابان؟ " فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: " هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِل على آخرهم لا يُزاد فيهم، ولا ينقُصُ منهم أبداً " ثم قال للذي في شِماله: " هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماءُ أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم لا يزيد فيهم ولا ينقص منهم أبداً " فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان قد فُرِغَ منه؟ فقال: " سدِّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عَمِلَ أيَّ عملٍ، وإن صاحب النار يُختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أيَّ عملٍ " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما، ثم قال: " قد فرغ ربكم من العباد فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير ". خرجه الترمذي (¬1)، قال: وفي الباب عن [ابن] عمر، وهذا حديث حسن ¬
صحيح (¬1). الحادي والثلاثون: حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب. ذكره الهيثمي (¬2) مرفوعاً بنحو الأول، وقال: رواه الطبراني من حديث ابن مجاهد عن أبيه (¬3). الثاني والثلاثون: ذكره الهيثمي عن البراء بن عازب مرفوعاً، رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق الهُذيل بن بلال " (¬4). الثالث والثلاثون: عن عبد الله بن بُسر (¬5): خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبسط يمينه، ثم قبضها، ثم قال: " أهل الجنة بأسمائهم " إلى آخره، لم يصرح بذكر الكتاب. رواه الطبراني من طريق عبد الرحمن بن أيوب السَّكوني وبَقِيَّة (¬6). ¬
الرابع والثلاثون: حديث أبي عزَّة يسار بن عبدٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قضى الله لعبدٍ أن يموت بأرضٍ جعل له إليها -أو قال: بها- حاجةً ". خرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح (¬1). الخامس والثلاثون: مثل الأول، أخرجه الترمذي من طريق مَطَر بن عُكَامِسٍ الصحابي، وقال: حسن غريب (¬2). السادس والثلاثون: حديث الزهري، عن أبي خِزامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رجلاً قال له: يا رسول الله، أرأيت رُقىً نَسْتَرْقي بها (¬3)، ودواءً نتداوى به، وتُقاةً نتقيها يرد ذلك من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله " (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السابع والثلاثون: عن عليٍّ رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الدعاء يرُدُّ القضاء " (¬1). خرجه السيد أبو طالب في " الأمالي " وقال: تأويله أن يكون القضاء مشروطاً بترك الدعاء، وهذا الذي ذكره هو الذي أراده أهل السنة. الثامن والثلاثون: نحو الأول عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يرد القضاء إلاَّ الدعاء ". خرجه الترمذي (¬2)، وقال: وفي الباب عن أسيد، وقال: حديث حسن غريب. التاسع والثلاثون: عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]. رواه ¬
الترمذي (¬1)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن العربي في " شرح الترمذي ": صحيح صحيح (¬2). الأربعون: حديثُ الاستخارة، وفيه " فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لي ". خرجه البخاري (¬3). الحادي والأربعون: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ". خرجه مسلم، والترمذي، وفي الترمذي: " قدَّر الله المقادير " (¬4). الثاني والأربعون: عن أبي عثمان (¬5) مولى أبي هاشم، قال: سألت أبا هريرة عن القدر، فقال: اكتفِ منه بآخِرِ سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ ¬
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] فنعتهم قبل أن يخلقهم بما عَلِمَ أنهم يكونون عليه إذا خلقهم، وقال تعالى فيهم: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} [الفتح: 29]. رواه النسائي (¬1). الثالث والأربعون: عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها في أصلاب آبائهم ". أخرجه أبو داود، ومسلم، والنسائي (¬2). الرابع والأربعون: عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن أولاد المشركين، فقال: " الله إذ خلقهم، أعلم بما كانوا عاملين ". خرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي (¬3). الخامس والأربعون: عن أبي هريرة مرفوعاً مثله. خرجه البخاري، ومسلم، والنسائي (¬4). ¬
ووجه إدخال هذه الأحاديث في القدر ما فيها من ذكر علم الله بأعمال الأطفال، والاحتجاج بذلك على أنهم كما علم الله سبحانه، وأما معانيها، فسيأتي الكلام عليها (¬1) في الوهم التاسع والعشرين. السادس والأربعون: عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الدعاء: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت وتعاليت ". رواه أهل السنن الأربعة، والحاكم في " المستدرك " (¬2)، ورواه الإمام الهادي في " الأحكام "، والسيد أبو طالب في " الأمالي ". السابع والأربعون: عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك، لم يضروك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجفَّت الصُّحُف ". رواه النواوي في " الأربعين " (¬3). ¬
الثامن والأربعون: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من زعم أن الله يشاء لعباده الطاعة، فلم تنفذ مشيئة الله، وشاء لهم إبليس المعصية، فنفذت مشيئة إبليس، فقد وَهَّن الله في ملكه، وجوَّرَه في حُكمه. رواه الإمام أحمد (¬1) بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. وكان أحمد بن عيسى من قدماء أئمة أهل البيت، وذكر محمد بن منصور: أنه ممن أُجْمِعَ على فضله، وكان يُسمَّى فقيه آل محمد - صلى الله عليه وسلم -. التاسع والأربعون: عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رجلاً سأله عن القدر؟ فقال: طريقٌ وَعْرٌ فلا تسلُكْهُ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: بحرٌ عميقٌ فلا تَلِجْهُ، قال: فسكت الرجل ساعة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ قال: سِرُّ الله فلا تُفْشِهِ (¬2). رواه الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان ممن أجمع على فضله وعلمه، ذكره محمد بن منصور. ورواه مُحِبُّ أهل البيت محمد بن منصور الكوفي في كتابه " كتاب الجُملة والأُلفة ". الخمسون: ما رواه محمد بن منصور رحمه الله أيضاً، فقال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا أبو حفص عمر القزاز، عن جعفرٍ، يعني: الصادق، عن أبيه، يعني: الباقر عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول: "سبق العلم، وجفَّ القلم، ومضى القضاء وتم القدرُ بتحقيق ¬
الكتاب، وتصديق الرسل، وما العباد عاملون، وبالسعادة من الله، لمن آمن واتقى، وبالشقاء من الله لمن كذَّب وكَفَرَ، وبالولاية من الله للمؤمنين، وبالبراءة من المشركين ... إلى آخر الحديث. وقد تقدم بيانه في مسألة المشيئة. الحادي والخمسون: ما رواه محمد بن منصور أيضاً بإسناده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أعمال العباد كلها على مشيئة الله وإرادته ". الثاني والخمسون: عن محمد بن منصور رحمه الله أنه قال: بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسِك ما تشاء، ويإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد " إلى آخر الحديث بطوله. وروى الإمام الحسن بن يحيى عليه السلام بعضه بلا إسناد، وقال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ألا إن أبغض خلق الله إلى الله تعالى عبدٌ وَكَلَهُ الله إلى نفسه. خرَّج هذه الأحاديث الخمسة السيد الشريف الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني العلوي في كتابه " كتاب الجامع الكافي " في مذهب أحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، والقاسم بن إبراهيم من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب محبهم محمد بن منصور رحمه الله، وهو في الغالب من أنفس كتب أهل البيت عليهم السلام. وروى ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " بسنده أن رجلاً قال: يا أمير المؤمنين أتيتك من بلدةٍ ما رأيت لك بها مُحبّاً، يعنى: البصرة، فقال عليه السلام: لو يستطيعون أن يُحبوني لأحَبُّوني، إني وشيعتي في ميثاق الله لا يُزاد فينا ولا يُنْقَصُ إلى يوم القيامة.
رواه في شرح قوله عليه السلام: أما إنه سيظهر عليكم رجلٌ رحب البلعوم ... إلى آخره، وفي ذكر المنحرفين عنه عليه السلام. الثالث والخمسون: عن عِمران بن حُصين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب جل ثناؤه في الذكر كل شيءٍ، ثم خلق السماوات والأرض ". رواه البخاري (¬1). الرابع والخمسون: عن ابن عباس: " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتُبْ، فقال: يا ربِّ وما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما هو كائنٌ من ذلك إلى قيامِ الساعة ". رواه البيهقي في " الأسماء والصفات "، وله طرق تأتي، فهو حديث قوي (¬2). ¬
الخامس والخمسون: من " مجمع الزوائد " للهيثمي عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كَتِفَه اليُمنى، فأخرج ذُرِّيَّة بيضاء كأنهم الدُّرُّ، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء، كأنهم الحُمَم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أُبالي، وقال للذي في اليسرى: إلى النار ولا أبالي ". رواه أحمد، والبزار، والطبراني ورجاله ثقات (¬1). والسادس والخمسون: عن أبي نضرة، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (¬2). والسابع والخمسون: عن عبد الرحمن بن قتادة السُّلمي عنه - صلى الله عليه وسلم -، زاد: فقال رجل: فعلى ماذا نعمل يا رسول الله؟ قال: " على مواقع القدر " (¬3) رواه ¬
أحمد، ورجاله ثقات، وخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال فيه: على موافقة القدر، وقال: صحيح اتفقا على رواته إلاَّ الصحابي. والثامن والخمسون: عن أنسٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه أبو يعلى من طريق الحكم بن سنان الباهلي (¬1). ¬
والتاسع والخمسون: عن أبي موسى عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه البزار، والطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق روح بن المسيب (¬1). والستون: عن أبي سعيد الخدري عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه البزار (¬2)، ورجاله رجال الصحيح غير (¬3) نمر بن هلال، وقد وثَّقه أبو حاتم (¬4). والحادي والستون: عن ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وزاد فيه: " فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر ". رواه البزار، والطبراني في " الصغير "، ورجال البزار ¬
رجال الصحيح (¬1). والثاني والستون: عن هشام بن حكيم بن حزام عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وزاد ذكر تيسير كل للعمل الذي سبق. رواه البزار والطبراني من طريق بقية بن الوليد (¬2). والثالث والستون: عن مُعاذٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه الطبراني من طريق البراء بن عبد الله الغَنَوي (¬3). ¬
والرابع والستون: عن الحسن أن الله أخرج أهل الجنة من صفحة (¬1) آدم اليمنى، وأهل النار من اليُسرى. خرَّجه ابن أبي الدنيا (¬2) عن خلف بن هشام بلفظ: " حدثنا "، قال: حدثنا الحكم، عن حوشب، عن (¬3) الحسن. وروى عبد الرزاق عن مَعْمرٍ، عن قتادة، عن الحسن نحوه (¬4). قلت: فهذه عشرة أحاديث تواردت على معنى واحدٍ فلا شكٍّ في صحته، وقوله فيها: " ولا أُبالي " ليس فيه التعذيب بغير ذنبٍ ولا حجة، ولهذا ذكر العمل في موافقته للقدر، وإنما هو مثل قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ ربِّي لَوْلا دُعَاؤُكُم} [الفرقان: 77] فأثبت عدم المبالاة على حال. ومثل قوله: {فَرِيقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير} [الشورى: 7] ولم يستلزم إهمال الأعمال، وإنما خرجت هذه الأشياء مخرج التمدح بالقدرة التامة، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح: 14]. ¬
وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 129]. وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40]. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]. وقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]. وليس في شيء من ذلك أنه يفعل شيئاً من ذلك بالمشيئة من غير حكمة باطنةٍ، ولا حجة ظاهرة. ألا تراه مع ذلك يقول عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ويقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، ونحوه: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]. وكذلك: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]. وكذلك قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. وعلى هذا يتخرج معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الخير بيديك والشر ليس إليك " (¬1). والجمع بين هذه الآيات وآيات الحكمة توجب القطع بنفي العبث واللعب بالخلق عن أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين كما يأتي مطولاً مقرراً في آخر هذه المسألة إن شاء الله تعالى. ¬
وأما حديث أبي هريرة المرفوع في إخراج ذرية آدم، فلم يذكر فيه قَسْمَ الذُّرِّيَّة قسمين: قسماً إلى الجنة، وقسماً إلى النار، وإنما ذكر " خَطِىءَ آدم، فخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُه، ونَسِيَ فنسيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ". فكذلك رواه عنه المَقْبُري، وأبو صالح، وعطاء بن يسار، خرج حديث المَقْبُري البزار، وأبو يعلى، والترمذي، وقال: حديث غريب (¬1)، والنسائي من طريق أخرى، وخرج حديث أبي صالحٍ الترمذي، وقال: حسن صحيح (¬2)، ورُوي من غير وجهٍ من أبي هريرة، ولم يُذكر " خَطِىء فخَطِئَت ذُرِّيته، ونسي فَنَسِيَتْ ذريته ". خرَّج حديث ابن عمر، عن أبي هريرة البزار بإسنادٍ لا بأس به. الخامس والستون: عن ابن مسعودٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - نحو الحديث الخامس المتفق عليه، وقد تقدم (¬3)، وفي هذا زيادة: فقال رجل: ففيم العمل؟ فقال: " اعملوا فكُلٌّ سيُوجَّه لِما خُلِقَ له ". قال الهيثمي: رواه أحمد (¬4) من طريق علي بن زيد، عن أبي عُبيدة، عن أبيه، وهو ابن مسعود. السادس والستون: عن ابن مسعودٍ عنه - صلى الله عليه وسلم -: "فُرِغَ إلى آدم من أربعٍ: من ¬
الخَلْق، والخُلُق، والرِّزق، والأجل". رواه الطبراني في " الأوسط "، وذكره الهيثمي في باب ما فُرِغ منه من " مجمع الزوائد " (¬1). السابع والستون: عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلاً بعشائرهم وقبائلهم لا يُزاد فيهم ولا يُنقص منهم " ثم ذكر مثل ذلك (¬2) في أهل النار، إلى قوله في جواب السائل: " كل ميسر لما خلق له ". رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق بكار بن محمد السِّيريني (¬3). والثامن والستون: عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال هذا الحيُّ من قريش آمنين حتى يرُدُّوهم عن دينهم كُفَّاراً حما (¬4)، فقام إليه رجلٌ، فقال يا رسول الله: أفي الجنة أنا أم في النار؟ قال: " في الجنة " ثم قام إليه آخر فقال: أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال: " في النار " ثم قال: " اسكُتوا عنِّي ما سَكَتُّ عنكم، فلولا أن لا تَدَافَنُوا لأخبرتُكُم بملَئِكم في النار حتَّى تعرفوهم عند ¬
الموت، ولو أُمِرْتُ أن أفعل، لفعلتُ. رواه أبو يعلى من طريق ليث بن أبي سليم (¬1). والتاسع والستون: عن أنسٍ قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبان، فخطب الناس، فقال: " لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتكم به " ونحن نرى أن جبريل معه. قال الهيثمي: فذكر الحديث إلى أن قال: فقال عمر: يا رسول الله، إنا كنا حديثي (¬2) عهدٍ بجاهلية، فلا تُبْدِ علينا سوأتنا اعف، عفا الله عنك. رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح (¬3). وذكر الهيثمي أخذ الميثاق في النشأة الأولى، وذكر فيه حديث ابن عباس، وأبي أُمامة. وسيأتي (¬4) ذكر ذلك في الكلام في الأطفال. والسبعون: حديث أبي أُمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " فأهل الجنة أهلها، وأهل النار أهلها " فقال رجل: ففيم العمل؟ فقال: " يعمل كل قومٍ لما خُلِقُوا له "، فقال عمر: أرأيت يا رسول الله أعمالنا هذه أشيءٌ نبتدِعُهُ أو شيءٌ قد فُرِغَ منه؟ قال: " على شيءٍ قد فُرِغَ منه "، قال: الآن نجتهد في العبادة. رواه الطبراني في ¬
" الأوسط " و" الكبير " باختصارٍ من طريق سلم بن سالم، وإسنادُ " الكبير " من طريق جعفر بن الزبير (¬1). والحادي والسبعون: عن ابن عباس: " إن أول شيءٍ خلقه الله القلم، وأمره أن يكتُبَ كُلَّ شيءٍ ". رواه أبو يعلى ورجاله ثِقاتٌ (¬2). والثاني والسبعون: عنه [عن النبي]- صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله القلم، قال له: اكتُبْ، فجرى بما هو كائِنٌ إلى قيام الساعة ". رواه الطبراني (¬3) ورجاله ثقات، قال (¬4): وقد تقدم حديثٌ في تفسير سورة (ن) (¬5). قلت: هو ابن عباس (¬6)، قال: إن أول شيء خلقه الله القلمُ والحوتُ، قال: ما أكتب؟ قال: " كلُّ شيء كان إلى يوم القيامة " الحديث. رواه الطبراني، وقال: لم يرفعه عن حماد بن زيد إلاَّ مؤمَّل بن إسماعيل (¬7). قال: ويأتي حديث في البر والصلة (¬8)، يعني: نحو هذا. ¬
والثالث والسبعون: عن حيَّان بن عبيد الله بن زهير البصري عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس نحوه بزياداتٍ كثيرة تَعَلَّقُ بتفسير قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية [الحديد: 22]، وقوله (¬1) تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، وبقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. رواه الطبراني من طريق الضحاك بن مزاحم (¬2). وقد تقدم حديث ابن عباس، وأهل الحديث يعدُّونها أحاديث لتعدد الطرق. والرابع والسبعون: عن مِرثدٍ -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قال: خطَّ الله خَطَّيْن في كتابه، ثم رفع القلم، فكتب في أحدهما الخلق، وكتب في الآخر ما الخلق عاملون. رواه الطبراني (¬3) من طريق الحسن بن يحيى الخُشَني. ¬
والخامس والسبعون: عن الحسنِ بن علي رضي الله عنه قال: رُفِعَ الكِتاب، وجَفَّ القلم، وأمورٌ تُقضى في كتابٍ قد خلا. رواه الطبراني من طريق ليث بن أبي سُليم (¬1). والسادس والسبعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص في تنازُع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في القدر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بينهما بما حكم به إسرافيل بين جبريل وميكائيل وذكر في المرفوع: " لو أراد الله أن لا يُعصى، ما خلق إبليس ". رواه الطبراني في " الأوسط "، واللفظ له من طريق عُمر بن الصُّبح، والبزار بنحوه (¬2). قال: وتأتي أحاديث في موضعها من هذا النحو. ¬
والسابع والسبعون: عن جابرٍ عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استقرَّت النطفة في الرحم أربعين يوماً أو ليلةً، بعث الله إليها مَلَكاً فيقول: يا رب، ما أجلُهُ؟ ذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟. رواه أحمد (¬1) من طريق خُصَيف. والثامن والسبعون: عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله أن يخلق نَسَمَةً، قال ملك الأرحامِ: أيْ ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ شقي (¬2) أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتى النكبة يُنكَبُها ". رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح (¬3). والتاسع والسبعون: عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من سَعِدَ في بطنها ". رواه البزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح (¬4). ¬
والموفي ثمانين: عن عائشة مرفوعاً نحو حديث ابن عمر المتقدم، وفيه زيادات. فيه مرفوعاً: " فما من شيء إلاَّ وهو يُخلق معه في الرَّحم ". رواه البزار ورجاله ثقات (¬1). والحادي والثمانون: عن ابن مسعودٍ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله جل ذكره خلق يحيى بن زكريا في بطن أُمِّه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً ". رواه الطبراني، وإسناده جيد (¬2). روى هذه الأحاديث الخمسة الهيثمي في باب ما يكتب على العبد في بطن أمه (¬3). الثاني والثمانون: عن ابن مسعودٍ حديث زيد الخيل، وتسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، وقوله: أسألُك عن علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد، إني أُحبُّ الخير وأهله، ومن يعمل به، وإن عَمِلْتُ به ابتغيت (¬4) ثوابه، فإن فاتني منه شيءٌ، حَنَنْتُ إليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هي علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد، لو أرادك في الأخرى (¬5) هيَّأك لها، ثم لا يُبالي في أيِّ وادٍ ¬
سلكتَ". رواه الطبرانى من طريق عون بن عُمارة (¬1). الثالث والثمانون: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، نعمل على ما فُرِغَ منه أو على أمرٍ مُؤْتَنَف؟ قال: " على أمرٍ قد فُرِغَ منه "، قال: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: " كل ميسر لما خلق له ". رواه أحمد والبزار والطبراني من طريق عطاف بن خالد (¬2). الرابع والثمانون: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت ما نعمل فيه أقد فُرِغَ منه، أو في شيء مبتدأ، أو أمرٍ مُبتدع؟ قال: " فيما قد فرغ منه "، فقال عمر: ألا نتكل؟ فقال: "اعمل يا ابنَ الخطاب، فكل مُيَسَّر، أما من كان من أهل السعادة، فيعمل للسعادة، وأما أهلُ الشقاء (¬3)، فيعملُ للشقاء" (3). رواه أحمد من طريق عاصم بن عُبيد الله (¬4). ¬
الخامس والثمانون: عن أبي الدرداء، قال: قالوا: يا رسول الله نعمل في أمرٍ مُستأنفٍ، أو في أمرٍ قد فُرِغ منه بالعمل أو شيءٍ نستأنفه؟ قال: " بل في أمر قد فُرِغ منه "، قال: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال: كل امرىءٍ مُهَيَّأ لما خُلِقَ له ". رواه أحمد، والبزار وحسن إسناده، والطبراني من طريق سُليمان بن عُتبة (¬1). السادس والثمانون: عن ذِي اللحية الكلابيِّ أنه قال: يا رسول الله، نعمل في أمرٍ مُستأنفٍ أو في أمر قد فُرِغ منه؟ فقال: " لا بل في أمرٍ قد فُرِغ منه " قال: ففيم العمل إذاً؟ قال: " فكل ميسر لما خلق له ". رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات (¬2). السابع والثمانون: عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله: أرأيت ما نعمل، أشيءٌ قد فُرِغ منه، أو شيءٌ يُستأنف؟ قال: " بل شيء قد فُرِغ منه "، قال: ففيم العمل؟ قال: " كل ميسر لما خلق له ". رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (¬3). الثامن والثمانون: عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله أنعملُ فيما جرت به المقادير، وجفَّ به القلم، أو شيءٌ نأتَنِفُهُ؟ قال: " لِما جرت به المقادير، وجفَّ به القلم " قال: ففيم العمل؟ قال: " اعمل فكل ميسر لما خلق له ". رواه ¬
الطبراني والبزارُ بنحوه إلاَّ أنه قال في آخره: فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذاً. ورجال الطبراني ثقات (¬1). التاسعُ والثمانون: عن جابر بن عبد الله قال: قام سراقة بن مالك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت أعمالنا التي نعمل أمأخوذون (¬2) بها عند الخالق خيرٌ فخير، وشرٌّ فشر، أو شيء قد سبقت به المقادير، وجفت به الأقلام؟ قال: " يا سراقة قد سبقت به المقادير وجفت به الأقلام " قال: فعلام نعمل يا رسول الله؟ قال: " اعمل يا سراقة، فكل ميسر لما خلق له " قال سراقة: الآن نجتهد. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق عبد الكريم بن أمية (¬3). الموفي تسعين: عن سراقة بن مالك بن جُعْشُم المُدْلِجي أنه قال مثل الأول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل ميسر له عمله "، فقال: يا رسول الله، الآن الجِدُّ، الآن الجِدُّ، قال الهيثمي روى ابن ماجه بعضه (¬4). رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (¬5). ذكر الهيثمي هذه الأحاديث الثمانية في باب كل ميسر لما خلق له (¬6). الحادي والتسعون: عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " فرغ الله إلى كل عبدٍ من خمس: من أجله ورزقه، ومضجعه، وشقي أو سعيدٍ ". ¬
وفي رواية: " وعمله ". رواه أحمد والبزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وأحد إسنادي أحمد ثقات (¬1). الثاني والتسعون: عن ابن مسعودٍ قال: أرْبَعٌ قد فُرِغَ منهن: الخَلْقُ، والخُلُقُ، والرزق، والأجل، ليس أحدٌ بأكسب من أحدٍ وقال (¬2): الصدقة جائزة قُبِضَتْ أو لم تُقْبَضْ. رواه الطبراني من طريق عيسى بن المسيب (¬3). الثالث والتسعون: عن أبي الدرداء قال: ذكرنا زيادة العمر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " لا يُؤَخِّرُ الله نفساً إذا جاء أجلها " فذكر الحديث. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق سليمان بن عطاء (¬4). ذكر هذه الثلاثة الأحاديث الهيثميُّ في باب ما فُرغ منه (¬5)، وحديثاً رابعاً قد ¬
تقدم في " مجمع الزوائد " في باب فرغ إلى كل عبد من خلقه (¬1). الرابع والتسعون: عن أبي الدرداء قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سمعتم بجبلٍ زال عن مكانه، فصدِّقوا، وإذا سمعتم برجلٍ زال عن مكانه، فلا تُصدِّقوا، فإنه يصير إلى ما جُبِلَ عليه ". رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح إلاَّ أن الزُّهري لم يُدرك (¬2) أبا (¬3) الدرداء (¬4). الخامس والتسعون: عن عبد الله بن ربيعة قال: كنا عند عبد الله، يعني: ابن مسعود، فذكر القوم رجلاً فذكروا من خُلُقه، فقال عبد الله: أرأيتم لو قصصتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تُعيدوه؟ قالوا: لا، قال: فَيَدَهُ؟ قالوا: لا، قال: فرِجْلَه؟ قالوا: لا، قال: فلن تستطيعوا أن تُغَيِّرُوا خُلُقَه حتى تُغيِّروا خَلْقَهُ. فذكر الحديث. رواه الطبراني ورجاله ثقات (¬5). السادس والتسعون: عن ابن مسعودٍ قال: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبُّ ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة (¬6) إلاَّ من يحب (¬7). رواه الحاكم، وقال: صحيح تفرَّد به أحمد بن جناب ¬
المصيصي وهو ثقة، عن عيسى بن يونس، قال: ومن شرطنا في هذا الكتاب أنا نخرج أفراد الثقات إذا لم نجد لها علَّة، وقد وجدنا لعيسى بن يونس فيه شاهدين (¬1)، أحدهما: على شرط هذا الكتاب. وفي " مجمع الزوائد " (¬2) للهيثمي في باب: لا يموت عبدٌ حتى يبلغ أقصى أثره. السابع والتسعون: عن أسامة بن زيدٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما جُعِلَتْ مِيتَةُ عبدٍ بأرضٍ إلاَّ جُعلت له فيها حاجةٌ ". رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (¬3). وعن أبي عزة نحوه، وفيه زيادة. رواه البزار. ورواه الترمذي باختصار وصححه، وقد تقدم من طريق محمد بن موسى الحرشي (¬4). ¬
وفي باب خلق الله كل صانع وصنعته (¬1). الثامن والتسعون: عن حُذيفة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " خلق الله كُلَّ صانع وصنعته ". رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله بن (¬2) الحسين بن الكردي (¬3)، وهو ثقة. ورواه الحاكم في " المستدرك " والبيهقي (¬4) ويأتي الكلام عليه في آخر مسألة الأفعال، وفي باب الإيمان بالقدر. التاسع والتسعون: عن أبي الدرداء، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لكل شيءٍ حقيقةٌ وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ". رواه أحمد، والطبراني، ورجاله ثقات (¬5). والموفي مئة: عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يؤمن المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه أحمد ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في " الأوسط " (¬6). ¬
والواحد والمئة: عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الأُمورُ كُلُّها خيرها وشرها من الله " وقال: " القَدَرُ نظام التوحيد، فمن (¬1) وحَّد الله، وآمن بالقدر فقد استمسك بالعُروة الوُثقى ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق هانىء بن المتوكل (¬2). والثاني والمئة: عن معاوية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَعْجَلْ على شيءٍ تَظُنُّ أنك إذا استعجلت إليه أنك تُدرِكُهُ، وإن كان الله لم يُقدرْ ذلك، ولا تستأخر عن شيءٍ تظن أنك إن استأخرت عنه أنه مدفوعٌ (¬3) عنك، وإن كان الله قدَّره عليك ". رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق عبد الوهاب بن مجاهد (¬4). ثم ذكر الهيثمي أحاديث متفرقة المعاني في أبوابٍ شتى، منها. الثالث والمئة: عن ابن مسعود موقوفاً: لأن يَقْبِضَ أحَدُكُم على جمرةٍ حتى تبرُد خيرٌ له من أن يقول لأمر قضاه الله: لَيْتَهُ لم يكن. رواه الطبراني من طريق المسعودي (¬5). والرابع والمئة: عن أنسٍ مرفوعاً: " كل شيءٍ بقضاءٍ وقَدَرٍ، ولو هذه "، وضرب بأصبعه السبابة على ذراعه. رواه الطبراني في " الأوسط " (¬6). والخامس والمئة: عن الضَّحَّاك بن مُزاحِمٍ، قال: اجتمعت أنا وطاووسٌ ¬
اليماني، وعمرو بن دينار، ومكحولٌ الشامي، والحسن البصري في مسجد الجَنَدِ، فتذاكرنا القدر حتى ارتفعت أصواتنا، فقام طاووسٌ، فقال: أنْصِتُوا أُخبِرْكُم بما سمعت أبا الدرداء يُخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله افترض (¬1) عليكم فرائض، فلا تضيعوها، وحدَّ حُدُوداً، فلا تَعْتَدوها، ونهاكم عن أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تكلَّفُوها، رحمة من ربكم فاقبلوها، الأُمور كُلُّها بيد الله، من عند الله مصدرها، وإليه مرجعها، ليس للعباد فيها تفويضٌ ولا مشيئةٌ ". فقام القوم جميعاً وهم راضون بما قال طاووس. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق نهشل (¬2) بن سعيد (¬3) الترمذي (¬4)، ورواه مصنف " أخبار صنعاء " وِجَادَةً، قال: وجدت بخط سليمان بن محمد عن الضحاك بن مزاحم وساق (¬5) مثله سواء. ويأتي في آخر مسألة الأفعال تحقيق معنى قوله: " مصدرها من عند الله " إن صح على التفصيل والتحقيق (¬6). وفي الجملة: إن المراد بذلك أوائلها ومُقدِّماتُها وأسبابُها، وتقدير اختيار العباد لأفعالهم ليبلوهم أيُّهُمْ أحسن عملاً، ولما شاء الله تعالى من الحِكَمِ البالِغة، وتقدير صدور المعاصي من أهلها باختيارهم على وجهٍ تقوم به الحُجَّة عليهم، ويستحق الرب بجزائهم اسم الغفار، أو العدل الحكيم. ولا يصح أن يكون غفاراً لنفسه (¬7)، ولا عدلاً عليها، وإنما يصح ذلك متى ¬
كان للعباد أفعالٌ اختياريةٌ قطعاً عقلاً وسمعاً، لقوله تعالى في نحو ذلك: {قُلْ هو مِنْ عِنْدِ أنفَسِكُم} [آل عمران: 165]، وقوله: {وَيَقُولونَ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78]. وسيأتي من ذلك الكثير الطَّيِّب، وإنما المراد على نحو قول الخليل: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 - 82]، ونحو قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسِقينَ} [البقرة: 26]، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فيما يرويه عن ربه]: " إنما هي أعمالُكُم أُحْصِيهَا لكم، ثم أُوفِّيكُم إياها، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسه ". خرجه مسلم في " صحيحه " (¬1) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وسيأتي ذلك مبسوطاً في خاتمة مسألة الأفعال، وبيان نصوص الأئمة فيه. والسادس والمئة: عن عائشة مرفوعاً: " الطَّيْرُ تَجْري بقَدَرٍ ". رواه البزار، وقال: لا يُرى إلاَّ بهذا الإسناد، ورجاله رجال الصحيح غير يوسف بن أبي بردة وثقه ابن حبان (¬2). السابع والمئة: عن أبي أُمامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُكِّلَ بالمؤمن تسعون ومئة مَلَكٍ، يَذُبُّون عنه ما لم يُقَدَّرْ عليه، [من ذلك البصر: تسعة أملاك] يذبُّون [عنه] كما تَذُبُّون عن قصعة العَسَل الذُّبَاب في اليوم الصَّائِف، وما لو بدا لكم ¬
لرأيتموه على كُلِّ جَبَلٍ وسَهْلٍ، كلُّهم باسطٌ يديه، فاغِرٌ فاه، وما لو وُكِلَ العبد إلى نفسه طرفة عين خَطِفَتْهُ الشياطين". [رواه الطبراني] من طريق عُفير بن معدان (¬1). والثامن والمئة: عن أبي هريرة مرفوعاً: " لا ينفعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ ". رواه البزار (¬2) من طريق إبراهيم بن خثيم. والتاسع والمئة: عن عائشة مرفوعاً بمثله. رواه البزار (¬3) أيضاً من طريق زكريا بن منظور. وخرَّج الحاكم في " المستدرك " (¬4) حديث: " إذا نزل القدر، عَمِيَ البصر " ذكره في قصة الهُدهد. ويشهد له من كتاب الله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44]. ¬
والعاشر والمئة: عن أنس مرفوعاً: " عَجِبْتُ للمؤمن إن الله لا يقضي له قضاءً إلاَّ كان خيراً له ". رواه أحمد وأبو يعلى بمثله، ورجال أحمد ثقات، وأحد أسانيد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح غير أبي بحر (¬1) ثعلبة وهو ثقة (¬2). والحادي عشر والمئة: حديث: " إن القلب بين أُصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبُه ". عن عثمان. رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث محمد بن عيسى (¬3) الطرسوسي (¬4). والثاني عشر والمئة: عن عائشة نحو حديث عثمان. رواه أحمد من طريق مسلم بن محمد بن زائدة، قال بعضهم: صوابه صالح بن محمد بن زائدة (¬5). والثالث عشر والمئة: عن عائشة أيضاً نحوه أيضاً رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق المُعَلَّى بن الفضل (¬6). ¬
والرابع عشر والمئة: عن أم سلمة نحوه. رواه الترمذي، ورواه أحمد من طريق شهر بن حوشب (¬1). والخامس عشر والمئة: عن أبي هريرة نحوه أيضاً، رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق عبد الله بن صالح (¬2). والسادس عشر والمئة: عن نعيم بن همار نحوه، وزاد: " وكل يوم الميزان بيد الله يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ". رواه الطبراني ورجاله ثقات (¬3). ¬
والسابع عشر والمئة: عن سبرة بن فاتكٍ في ذكر الأصابع والميزان. رواه الطبراني ورجاله ثقات (¬1). والثامن عشر والمئة: عن المقداد، ولفظه: " لَقَلْبُ ابن آدم أسرع تقلُّباً من القِدْرِ إذا استجمعت غَلْيَاً ". رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات (¬2). قلت: أحاديث الباب مرفوعة، وأورد في باب الأعمال بالخواتيم اثني عشر حديثاً، وفي باب علامة خاتمة الخير سبعة أحاديث، صارت تسعة عشر حديثاً. والتاسع عشر والمئة: عن أنسٍ مرفوعاً، وفي متنه: " وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله قبل موته " قالوا: يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال: " يُوَفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ ثم يقْبِضُه عليه ". رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في " الأوسط " ورجال أحمد رجال الصحيح (¬3). والعشرون والمئة: عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوبٌ في الكتاب من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحوَّل فعمل بعمل أهل النار، فمات ". الحديث. رواه أحمد وأبو يعلى ¬
بأسانيد، وبعض (¬1) أسانيدهما رجالُ الصحيح (¬2). والحادي والعشرون والمئة: عن ابن عمر، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابضاً على شيءٍ في يده، ففتح يده اليمنى فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من الرحمن الرحيم فيه أهل (¬3) الجنة بأعدادهم وأسمائهم وأحسابهم مُجْمَلَ عليهم إلى يوم القيامة، لا يُنْقَصُ منهم أحدٌ، ولا يُزادُ فيهم أحد، وقد يُسْلَكُ بالسعيد طريق الشقاء حتَّى يقال: ما أشبهه بهم، ثم يُزال إلى سعادته قبل موته، ولو بِفَواق ناقة "، وفتح يده اليسرى فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من الرحمن الرحيم فيه أهل النار بأعدادهم وأسمائهم وأحسابهم مُجْمَل عليهم إلى يوم القيامة لا يُنقصُ منهم، ولا يُزاد فيهم أحدٌ، وقد يُسلك بالأشقياء طريق أهل السعادة حتى يقال: هو منهم وما أشبهه بهم، ثم يُدركُ أحدُهم شقاوةً قبل موته، ولو بفواق ناقةٍ "، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " العمل بخواتيمه ". ثلاثاً. رواه البزار من طريق عبد الله بن ميمون القداح (¬4). ¬
والثاني والعشرون والمئة: عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة ثم يُختم له بعمل أهل الجنة ويعمل العامل سبعين سنة بعمل أهل الجنة ثم يُختم له بعمل أهل النار ". رواه البزار والطبراني في " الأوسط " ورجال الطبراني رجال الصحيح (¬1). والثالث والعشرون والمئة: عن العُرس بن عميرة سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن العبد يعمل البُرهة بعمل أهل النار، ثم تَعْرِضُ له الجادة من جَوَادِّ الجنة، فيعمل بها حتى يموت عليها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة بُرهةً من دهره، ثم تَعْرِضُ له الجادة من جوادِّ النار، فيعمل بها حتى يموت عليها، وذلك لما كتب له ". رواه البرازُ والطبراني في " الصغير " و" الكبير " ورجالهم ثقات (¬2). والرابع والعشرون والمئة: عن ابن مسعود، قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد يُولد مؤمناً ويموت مؤمناً، وإن العبد يولد كافراً ويموت كافراً، والعبد يعمل بُرهةً من دهره بالسعادة، فيُدرِكُهُ ما كُتِبَ له، فيموت كافراً، والعبد يعمل بُرهةً من دهره بالشقاء، ثم يُدرِكُه ما كُتِبَ له فيموت سعيداً ". رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير " باختصار من طريق عمر بن إبراهيم العبدي (¬3). والخامس والعشرون والمئة: عن عبد الله بن عمرو عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد ليكتب مؤمناً أحقاباً، ثم يموت والله عليه ساخِطٌ، وإن العبد ليكتب كافراً ¬
أحقاباً، ثم يموتُ والله عنه راضٍ، ومن مات همَّازاً لمَّازاً مُلقّباً للناس، كان علامته يوم القيامة أن يَسِمَه على الخُرطوم من كلا الشفتين ". رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق عبد الله بن صالح (¬1). والسادس والعشرون والمئة: عن عليٍّ رضوان الله عليه، قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، فحَمِدَ الله وأثنى عليه وقال: " كتابٌ كتبه [الله] فيه أهل الجنة بأسمائهم وأنسابهم مجمل عليهم، لا يُزاد فيهم ولا يُنْقَصُ منهم إلى يوم القيامة، صاحب الجنة مختوم بعمل أهل الجنة، وصاحب النار مختوم بعمل أهل النار وإن عَمِلَ أيَّ عملٍ، وقد يُسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاء حتى يقال: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، فتدركهم السعادة فتستنقذهم منهم (¬2)، وقد يُسلك بأهل الشقاء طريق أهل السعادة حتى يقال: ما أشْبَهَهَهُ بهم، بل هو منهم، فيدركهم الشقاء، من كتبه الله سعيداً في أمِّ الكتاب، لم يُخرجه من الدنيا حتى يستعمِلَه بعملٍ يُسعِدُه قبل موته، ولو بِفَواق ناقةٍ "، ثم قال: " الأعمال بخواتيمها ثلاثاً ". قال الهيثمي: لعلي عليه السلام حديثٌ في " الصحيح " في القدر غير هذا. رواه في " الأوسط " من حديث حماد بن واقد الصفار (¬3). قلت: وله حديث في وجوب الإيمان بالقدر يأتي في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. قلت: وله حديث في وجوب الإيمان بالقدر يأتي في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. والسابع والعشرون والمئة: عن أبي أُمامة مرفوعاً: "لا تَعْجَبوا بعملِ عاملٍ ¬
حتى تنظروا بِمَ يُختم له". رواه الطبراني (¬1) من طريق فضَّال بن جُبيرٍ (1). والثامن والعشرون والمئة: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أخبره بعض من شهد - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل ممن معه: إن هذا لَمِنْ أهل النار، فلما حضر القتال، قاتل الرجل أشد القتال، حتَّى كثرت به الجراح، فأتاه رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله أرأيت الرجل الذي ذكرت أنه من أهل النار، فقد قاتل والله أشد القتال في سبيل الله، وكثرت به الجراح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنه من أهل النار "، فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينا هم على ذلك وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كِنانته، فانتزع منها سهماً، فانتحر به، فاشتد رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد صدَّق الله قولك. رواه أحمد (¬2) ورجاله رجال الصحيح. والتاسع والعشرون والمئة: عن كعب بن مالك نحوه. رواه الطبراني (¬3) من طريق محمد بن خالد الواسطي وجماعة لم أعرفهم. والثلاثون والمئة: عن أكثم بن أبي الجَوْن القصة نحوه وزيادة في المرفوع: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، تُدرِكُهُ الشقوة أو السعادة عند خروج ¬
نفسه يُختم له ثلاثاً". رواه الطبراني (¬1) وإسناده حسن. والحادي والثلاثون والمئة: عن عمرو بن الحَمِقِ الخزاعي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله قبل موته "، قيل: وما استعمله؟ قال: " يفتح له باب عملٍ صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله ". رواه أحمد والبزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح (¬2). والثاني والثلاثون والمئة: عن جُبير بن نُفير أن عمر الجُمَعي حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، استعمله قبل موته " فسأله رجل من القوم: ما استعمله؟ قال: " يهديه الله تبارك وتعالى إلى العمل الصالح قبل موته ثم يقبضه عليه ". رواه أحمد (¬3) من طريق بقية، وقد صرح بالسماع. قلت: هكذا رواه الهيثمي عن الجُمَعيِّ، بضم الجيم وفتح الميم. قال الذهبي في كتابه " المشتبه " (¬4): كذا صحفه بعضهم، وإنما ذا عمرو بن الحَمِق. فهو الحديث الأول على الصحيح. ¬
والثالث والثلاثون والمئة: عن أبي عِنَبَة - قال سريج بن النعمان (¬1): -وله صحبة-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله بعبد خيراً عسَّله " قيل: وما عسَّلهُ؟ قال: " يفتح له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه ". رواه أحمد والطبراني وفيه بقية، وقد صرح بالسماع في " المسند "، وبقية رجاله ثقات (¬2). والرابع والثلاثون والمئة: عن أبي أُمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، طهَّره قبل موته " قالوا: يا رسول الله، وما طهور العبد؟ قال: " عَمَلٌ صالحٌ يُلهِمُه إياه حتى يقبضه عليه ". رواه الطبراني (¬3) من طرق، وفي بعضها " عسَّله " بدل " طهره " وفي إحدى طرقه بقية بن الوليد، وقد صرح بالسماع، وبقية رجاله ثقات. والخامس والثلاثون والمئة: عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد ¬
الله بعبدٍ خيراً عسَّله". قلت: يا رسول الله، وكيف يُعسِّلُه؟ قال: " يُوفِّقُه لعمل صالح قبل موته فيقبضه عليه ". رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح غير يونس بن عثمان وهو ثقة (¬1). والسادس والثلاثون والمئة: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله " ثم صَمَتَ، فقالوا: يا رسول الله، في ماذا يستعمله؟ قال: " يستعمله عملاً صالحاً قبل أن يموت ". رواه الطبراني في " الأوسط " عن شيخه أحمد بن محمد بن نافع (¬2). والسابع والثلاثون والمئة: عن حُذيفة قال: أسندتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدري، فقال: " من قال لا إله إلاَّ الله ابتغاء وجه الله، ختم الله له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله، ختم الله له به دخل الجنة، ومن تصدَّق بصدقةٍ ابتغاء وجه الله، ختم الله له بها دخل الجنة ". رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير عثمان بن مسلم البتي، وهو ثقة (¬3). والثامن والثلاثون والمئة: عن ابن عباس، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل قال: أنا خلقتُ الخير والشر، فطُوبى لمن قدَّرْتُ على يده الخير، وويْلٌ لمن قدَّرت على يده الشر ". رواه الطبراني (¬4)، وخرجه الهيثمي في باب فضل قضاء الحوائج، وقال: فيه مالك بن يحيى النكري (¬5). وذكر في باب حُسْنِ الخُلُق عن أبي هريرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الأخلاق ¬
مِن الله، فمن أراد الله به خيراً منحهُ خُلُقاً حسناً، ومن أراد الله به سوءاً، منحه خُلُقاً سيئاً". رواه الطبراني في " الأوسط " (¬1) من طريق مسلمة بن علي (¬2). وعنه مرفوعاً: " أوحى الله إلى إبراهيم: إن كلمتي سبقت لمن حَسُنَ خُلُقه أن أُظِلَّه تحت عرشي " الحديث. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق مؤمَّل بن عبد الرحمن الثقفي (¬3). قلت: وفي " صحيح مسلم " (¬4) من حديث علي مرفوعاً: " اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلاَّ أنت " الحديث. التاسع والثلاثون والمئة: عن ابن مسعود، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما قال عبدٌ قطُّ إذا أصابه همٌّ أو حُزْنٌ: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك، عَدْلٌ فيَّ قضاوك " الحديث. خرجه الحاكم وابن حبان في " صحيحيهما " والسيد أبو طالب في " أماليه " (¬5). ¬
وفي قوله: " ماض في حكمك، عدل في قضاوك " ترجمة عن مذهب أهل السنة بأن لله تعالى كمال القدرة والقدر والمشيئة في العباد مع كمال العدل في ذلك القدر والقضاء. وروى الحاكم في " مستدركه " (¬1) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] قال: قال آدم: يا رب ألم تخلُقْني بيدك؟ قيل له: بلى، ونفختَ فيَّ من روحك؟ قيل له: بلى، وعطستُ فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتُك غضبك؟ قيل: بلى، وكتبت عليَّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أفرأيت إن تبتُ، هل راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وذكر ابن كثير في آخر ما ورد في خلق آدم من المجلد الأول من " البداية والنهاية " (¬2)، وذكر في الأحاديث الواردة في خلق آدم عليه السلام: إن الله خلقه من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر الأرض، فجاء فيهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك ". رواه أحمد عن يحيى، ومحمد بن جعفر، وهوذة، ثلاثتهم عن عوف، عن قَسَامَة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً. وكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في " صحيحه " من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح (¬3). ¬
وقد ذكر السُّدي عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث خلق آدم وفيه: " وأخذ من وجه الأرض ولم يُؤخذ من مكانٍ واحدٍ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين " (¬1). الأربعون والمئة: عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله، إني رجلٌ شابٌّ أخافُ على نفسي العَنَتَ، ولا أجِدُّ ما أتزوج به أفلا أختصي؟ فسكت عني فقلتُ له مثل ذلك، فقال: " يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاقٍ فاخْتَصِ على ذلك أو ذَرْ ". أخرجه البخاري والنسائي (¬2). الحادي والأربعون والمئة: عن ابن عباس أنه قال في الغلام الذي قتله الخَضِرُ: إنه طبع كافراً. رواه البخاري ومسلم موقوفاً (¬3)، ورواه مسلم وحده عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً (¬4). ¬
وخرج الحاكمُ عن ابن عباس موقوفاً: أنه سُئِل عن الولدان في الجنة؟ فقال: " حَسْبُكَ ما اختصم فيه موسى والخضر ". وقال: صحيح الإسناد (¬1). وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: " والله لقد لعنك (¬2) الله وأنت في صَلبِ أبيك ". رواه الطبراني من حديث عطاء بن السائب (¬3). وخرجه الهيثمي في باب من ذم من القبائل وأهل البدع (¬4)، وله شواهد ذكرت في هذا الكتاب. ومن المناقب. الثاني والأربعون والمئة: عن عبد الله بن سَبُعٍ قال: سمعتُ علياً رضي الله عنه يقول: لتُخْضَبَنَّ هذه من هذه، فما ينتظِرُ بي الأشقى، قالوا: يا أمير المؤمنين، أخبرنا به فنُبِيرُ عِترته! فقال: إذاً والله تقتلون بي غير قاتلي، قالوا: فاستخلِفْ علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فماذا تقول لربك؟ قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتَهُم. رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سَبُعٍ، وهو ثقة (¬5). ¬
ومن التفسير: الثالث والأربعون والمئة: عن أبي ذرٍّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكنزُ الذي ذكره في كتابه لَوْحٌ من ذهب مُضَمَّنٌ: عَجِبْتُ لمن أيْقَنَ بالقدر ثم نَصِبَ، وعَجِبتُ لمن ذكر النار ثم ضَحِكَ، وعجبتُ لمن ذكر الموت ثم غفل " رواه البزار (¬1) من طريق بشر بن المنذر، عن الحارث بن عبد الله اليحصبي. والرابع والأربعون والمئة: عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَمِنهُم شَقِي وسَعِيدٌ} [هود: 105] ونحو هذا من القرآن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلاَّ من سبق له من الله السعادة، ولا يَضِلُّ إلاَّ من سبق له من الله الشقاء، ثم قال لنبيه: {لَعَلَّك باخِعٌ نفسَكَ أن لا يَكُونوا مُؤْمِنينَ} [الشعراء: 3] رواه الطبراني (¬2) ورجاله وُثِّقوا. والخامس والأربعون والمئة: عن ابن عُمَرَ في قوله: {يَمْحُو الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ} [الرعد: 39] أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يمحو الله ما يشاء إلاَّ الشقاوة والسعادة، والحياة والموت ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق محمد بن جابر اليمامي (¬3). ¬
وأما حديث أمِّ حبيبة الذي خرجه مسلم (¬1) في الأمر بسؤال الجنة، والاستعاذة من النار دون الدعاء بالعُمُر والرزق وتعليل ذلك بسبق القدر في العمر والرزق فوجهه -والله أعلم- أن الدعاء فيما كلفنا باكتساب أسبابه عبادةٌ مطلوبة منه كالعمل، لأنه من جملة الأسباب المطلوبة، وأما فيما لم نُكلَّف، كالدعاء بالرزق والعمر، فإنه مباحٌ لنا، غير مطلوبٍ منا، وثمرة طلب المقدورات يذكر في المرتبة الرابعة. والسادس والأربعون والمئة: عن جابرٍ في قوله تعالى: {وكُلَّ إنْسَانٍ ألزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِه} [الإسراء: 13]، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " طير كل عبد في عنقه "، رواه أحمد (¬2) من طريق ابن لهيعة. وفائدة ذكره مع الآية معرفة عدم ¬
تأويلها (¬1). ومن كتاب الفتن في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني سألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يُهْلِك أمتي بسنة عامة، ولا يُسَلِّطَ عليهم عدواً فيَهْلِكَهم عامة، وأن لا يلبِسَهُم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعضٍ، فقال: يا محمد، إني قضيت قضاءً لا يُرَدُّ، وإني قدرت أني لا أُهلِكُهم بسنة عامةٍ، وأن لا أُسلِّط عليهم عدوّاً بعامة، فيهلكوهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ". رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح (¬2). والسابع والأربعون والمئة: عن جابر بن عَتيكٍ أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بأن لا يُظهِر عليهم عدواً من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأُعطِيَها، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم، فمُنِعها، فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة. رواه أحمد (¬3) لرجاله ثقات. ¬
والثامن والأربعون والمئة: عن أبي هريرة نحوه، وفيه: " سألت ربي فمنعنيها " رواه الطبراني في " الأوسط " (¬1)، ورجاله ثقات. ورواه البزار عن أبي بصرة الغفاري، وابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وابن عباس، ونافع بن خالد الخزاعي عن أبيه، وجابر (¬2) بن عتيك أيضاً غير حديثه الأول. وكلها عند الطبراني (¬3) والحديث في الكتب الستة بطرق معروفة. ¬
وخرج الحاكم في " المستدرك " عائشة مرفوعاً: " الطير تجري بقدر " (¬1). وخرَّج حديث حكيم بن حزام مرفوعاً في الرقى هل ترُدُّ من قدر الله؟ قال: " هي من قدر الله ". وقال فيه: صحيح على شرطهما (¬2). وخرج الحاكم من ذلك شيئاً كثيراً، ومنه عن كريب، عن ابن عباس (¬3). التاسع والأربعون والمئة، والخمسون والمئة، والحادي والخمسون ¬
والمئة، والثاني والخمسون والمئة: ذكر الهيثمي في مناقب أشج عبد القيس مرفوعاً: " إن فيك خُلُقَين يحبهما الله ورسوله " قال: الله جَبَلَني عليهما أمْ أنا أتَخَلَّق بهما؟ قال: " بل جبلك الله عليهما " قال: الحمد لله الذي جبلني (¬1) سلى خُلُقين يُحبُّهما الله ورسوله. رواه أحمد (¬2) والطبراني وأبو يعلى، أما أحمد، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة برجال الصحيح، وأما الطبراني وأبو يعلى، فعن مزيدة جد هود (¬3) العبدي ورجالهما ثقات، وفي بعضهم خلاف (¬4)، وله طرق وشواهد. منها: عن الزارع، رواه البزار من طريق أم أبان بنت الزارع (¬5). ومنها: عن نافع العبدي، رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق سليمان بن نافع العبدي (¬6). الحديث الثالث والخمسون والمئة: ما رواه أبو داود في كتاب ¬
" المراسيل " (¬1) من حديث محمد بن مسلمة، عن ابن وهب، [عن يونس]، عن ابن شهابٍ، قال: بُلِّغْتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا خطب: " كل ما هو آتٍ قريبٌ، [لا بُعْدَ لما هو آتٍ]، لا يُعَجِّل الله لِعجلةِ أحدٍ، ولا يَخِفُّ لأمر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً، ويريد الله أمراً، وما شاء الله كان، ولو كره الناس، ولا مُبَعِّدَ لما قرَّب الله، ولا مُقَرِّب لما بَعَّدَ الله، ولا يكون شيءٌ إلاَّ بإذن الله ". الحديث الرابع والخمسون والمئة: عن أبي هريرة رضي الله عنه (¬2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تسألُ المرأة طلاق أُخْتِها لِتكفأَ ما في إنائها، فإنه ليس لها إلا ما قُدِّر لها ". رواه البخاري ومسلم (¬3). وقال ابن عبد البر في " التمهيد " (¬4): إنه أصح حديث روي في الباب، يعني: باب القدر. الحديث الخامس والخمسون والمئة: عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة، فقال: " ألا تُصلِّيان؟ " فقال علي: إنما أنفُسنا بيد الله، إن شاء يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرجع إليَّ شيئاً، ¬
ثم سمعته وهو منصرفٌ يضرب فخذه ويقول: {وكانَ الإنسان أكثَرَ شيءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (¬1). وفي رواية النسائي: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة، فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هَوِيّاً من الليل، فلم يسمع لنا حسّاً، فرجع إلينا، فأيقظنا فقال: " قوما فصَلِّيَا " قال: فجلست أعْرُكُ عينى وأقول: أما والله ما نُصَلِّي إلاَّ ما كتب الله لنا، إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا بعثنا. الحديث (¬2). وقد ختمت هذا القسم بحديث علي كما افتتحه بحديثه عليه السلام، ثم وسطتُ بينها من حسان آثاره روايات أهل بيته ما يشهد بغلط المعتزلة عليهم، وسيأتي في القسم الثاني شيء من ذلك، ولله الحمد والمنة. وتقدمت أحاديث لم يذكر عددها سهواً، وهي اثنان وعشرون حديثاً، منها: ثلاثة بعد الثانية والثلاثين. ومنها: خمسة بعد التسعة والثلاثين. ومنها: ثلاثة بعد الحادي والأربعين والمئة. ومنها: حديث بعد الستة والأربعين والمئة. ومنها: عشرة (¬3) بعد الثمانية والأربعين والمئة، صارت مئة وخمسة وسبعين حديثاً. ¬
ويلحق بهذا ما خرَّج أبو داود في باب لزوم السنة (¬1) أن رجلاً كتب إلى عُمَرَ بن عبد العزيز يسأله عن القدر؟ فكتب إليه أما بعد: فإني أُوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سُنَّة رسوله، وترك ما أحدث المُحْدِثون بعد ما جرت به سُنَّتُه، وكُفُوا مُؤْنَتَه، ثم اعلم أنه لم تُبتدع بِدعة إلاَّ قد مضى قبلها ما هو دليلٌ عليها وعِبْرةٌ فيها، فإن السنة إنما سنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمْقِ والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على (¬2) علم وقفوا، وبِبَصرٍ كَفُّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أحرى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلاَّ من اتبع غير سبيلهم، ورَغِبَ عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلَّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه (¬3) ما يشفي (¬4)، وقد قصَّر قومٌ دونهم فَجَفَوا، وطمح عنهم أقوام فغَلَوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم، كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم أحدث الناس من مُحدَثَةٍ هي أبين أثراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذِكره في الجاهلية الجهلاء في كلامهم وشعرهم يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ولم يزده الإسلام إلاَّ شدة، ولقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث، قد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيءٌ لم يُحِطْ به علمه، ولم يُحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا. لقد قرؤوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتابٍ وقَدَرٍ وكتبت الشقاوة، وما يُقَدَّرْ يَكُنْ، وما شاء الله كان، ¬
وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ثم رَغِبُوا بعد ذلك ورَهِبُوا. القسم الثاني: ما يدل على وجوب الإيمان بالقدر وذمِّ منكره. الحديث الأول: عن يحيى بن يَعْمَرَ، قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة: معبدٌ الجُهَني، فانطلقت أنا وعُبيد بن عبد الرحمن الحِميري حاجَّيْن أو ومُعتَمِرَيْن، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، فاكتنفتُه أنا وصاحبي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريءٌ، وأنهم بُرَآءُ مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحنُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ قال: " أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً " قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويُصدِّقُه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " الحديث. أخرجه مسلم في " الصحيح " وهذا لفظه، والترمذي، وأبو داود، والنسائي (¬1). ¬
الثاني: عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه. خرجه مسلم ولفظه: " وتؤمن بالقدر كله " (¬1). وذكر الحافظُ محمد بن موسى المراكشي أن البخاري إنما لم يخرج حديثَ ابن عمر لاضطرابٍ وقع في إسناده، فإن من الرواة من جعله عن عمر، ومنهم من جعله عن ابنه عبد الله بن عمر (¬2). قلت: وهذا لا يضر لأنهما ثقتان. الثالث: عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربعٍ "، وذكر فيها: " ويؤمن بالقدر ". رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط الشيخين (¬3)، قال: وقد قصّر بروايته بعض أصحاب الثوري، وهو عندنا مما لا يُعبأ به، يعني أنه اختلف فيه على سفيان، فرواه عنه أبو عاصم ومحمدُ بن كثير، فقالا: عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن علي به، ورواه أبو حذيفة، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن رجل، عن علي (¬4). ¬
قال: وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي كثير الوهم، وإن كان البخاري يحتج به لا يُحكم له على أبي عاصم النبيل ومحمد بن كثير وأقرانهم، بل يلزم الخطأ إذا خالفهم، ويدلُّ على ما ذكرته متابعة جرير بن عبد الحميد للثوري في روايته عن منصور، عن ربعي، عن علي، ثم ساقها وقال فيها: " ويؤمن بالقدر كله ". قلت: وكذلك اختلف على شعبة، فرواه عنه أبو داود عن منصورٍ، عن ربعي، عن علي. ورواه النضر بن شميل، عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن رجل، عن علي. ورواه ابن ماجه من طريق شريك، عن منصور، عن ربعي، عن علي. ذكره المزي في " أطرافه " (¬1). قلت: ويمكن أن ربعياً سمع الحديث عن رجل، عن علي، ثم سأل علياً عنه، فرواه بالوجهين معاً. والله أعلم. الرابع: عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ". خرجه الترمذي (¬2) من طريق عبد الله بن ميمون، قال: وفي الباب عن عُبَادة وجابر، وعبد الله بن عمرو. ¬
الخامس: عن عُبادة بن الصامت قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تَطْعَمَ طَعْمَ حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلمُ، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ فقال: اكتبْ مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ". يا بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من مات على غير هذا فليس مني ". خرجه أبو داود واللفظ له، وللترمذي نحوه، وقال: حسن غريب من هذا الوجه (¬1). وأخرج الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي في كتابه " مجمع الزوائد " (¬2) على الكتب الستة شواهد كثيرة لحديث عمر بن الخطاب في الإيمان بالقدر خيره وشره. فمنها: السادس: عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث عمر وأتم منه، وفيه: " وتؤمن بالقدر كله خيره وشره ". وقال: رواه أحمد والبزارُ بنحوه، وفي إسناد أحمد شهر بن حوشب (¬3). قلت: هذا يدل على أن إسناد البزار غير (¬4) إسناد أحمد. ومنها السابعُ والثامن: عن علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُنِيَ الإسلامُ على ثلاثة: أهلُ لا إله إلاَّ الله، فلا تُكَفِّروهُمْ ¬
بذنبٍ، ولا تشهدوا عليهم بِشِركٍ، ومعرفةُ المقادير خيرها وشرها من الله، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا ينقُضُ ذلك جَوْرُ جَائِرٍ". رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه إسماعيل بن يحيى التيمي من ذرية أبي بكر رضي الله عنه (¬1). ومنها التاسع: عن ابن عامرٍ، أو أبي عامر، أو أبي مالكٍ عنه صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث بطوله، وفيه: " وأن تؤمن بالقدر كله خيره وشره ". رواه أحمد من طريق شهر أيضاً (¬2). العاشر: وهو الشاهدُ الرابع عن أنس عنه - صلى الله عليه وسلم - بالحديث ولفظه: " ويؤمن بالقدر كله " رواه البزار (¬3) من طريق الضحاك بن نبراس (¬4). ¬
ومنها الحادي عشر: عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير ذكر عمر بالحديث، وفيه: " ويؤمن بالقدر خيره وشره وحُلوه ومُرِّه من الله ". خرجه الطبراني في " الكبير " (¬1) ورجاله موثقون. ومنها الثاني عشر: عن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتيته لأبايعه، فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنه رسول الله، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: ثم ألقى عليَّ كساءه، ثم أقبل على أصحابه، فقال: " إذا جاءكم كريمُ قومٍ فأكرموه ". رواه الطبراني في " الكبير " (¬2) من طريق حُصين بن عمر. ومنها الثالث عشر: عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ". رواه البزار وقال: إسناده حسن (¬3). انتهى ما ذكره الهيثمي في باب الإيمان دون ما ذكره في باب القدر. الرابع عشر: وخرج حديث عدي بن حاتم في باب القدر. رواه الطبراني من طريق عبد الأعلى (¬4) بن أبي المساور (¬5). ¬
الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر: قال أبو داود في باب القدر من " السنن " (¬1): حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن أبي سِنان، عن وهب بن خالد الحمصي، عن ابن (¬2) الديلمي قال: أتيتُ أُبي بن كعبٍ، فقلت له: قد وقع في نفسي شيءٌ من القدر، فحدثني لعلَّ الله أن يُذهبه من قلبي، فقال له: لو أنفقت مثل أُحُدٍ ذهباً في سبيل الله ما قَبِلَهُ الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا، لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك. قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك. ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك. وإسناده صالح. التاسع عشر: خرَّج أيضاً (¬3) حديث حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لكل أُمَّةٍ مجوسٌ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، فمن مات منهم، فلا تشهدوا جنازته، ومن مَرِضَ منهم، فلا تعودوهم، وهم شِيعة الدجال، وحقٌّ على الله أن يُلحِقَهُم بالدَّجَّال ". ¬
من طريق عمر بن عبد الله مولى عفرة، عن رجل من الأنصار. العشرون: قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بنُ أبي حازمٍ (¬1) عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " القَدَريَّة مَجوس هذه الأمة، إن مَرِضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا، فلا تشهدوهم " (¬2). رجاله ثقات، إلاَّ أنه منقطع أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج أحدُ الثقات بلا مدافعة، لكنه لم يدرك عبد الله بن عمر، ولا عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد روى عنهما. قاله الذهبي (¬3). الحادي والعشرون: عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تُجالِسُوا أهل القدر ولا تُفاتِحُوهم ". رواه أبو داود أيضاً (¬4). الثاني والعشرون: عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صِنفان من أُمتي ليس لهما في الإسلام نصيبٌ: المُرجئة والقدرية ". رواه الترمذي (¬5) قال: ¬
هذا حديث غريب، وفي نسخة: حسن غريب، وروى أيضاً نحوه عن ابن عباس بطريق أخرى. الثالث والعشرون: عن نافع أن ابن عمر جاءه رجل فقال: إنَّ فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه أحدث، فإن كان قد أَحْدَثَ، فلا تُقْرِهِ مني السلام فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسفٌ ومسخٌ أو قذفٌ في أهل القدر ". رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح (¬1). الرابع والعشرون: عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يكون في أمتي خسفٌ ومسخٌ، وذلك في المكذبين بالقدر ". رواه الترمذي (¬2). وروى الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬3) في المجلد الخامس في باب ما جاء فيمن يكذب بالقدر أحاديث كثيرة. منها الخامسُ والعشرون: عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة عاقٌّ، ولا مُكَذِّبٌ بالقدر ". رواه أحمد والبزار والطبراني من طريق ¬
سليمان بن عُتبة الدمشقي (¬1). والسادس والعشرون: عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيكون في هذه الأمة مسخٌ ألا وذلك في المكذبين بالقدر ". رواه أحمد من طريق رشدين بن سعد (¬2). والسابع والعشرون: عن ابن عمر، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مثله. ورجاله رجال الصحيح (¬3). والثامن والعشرون: عن سهل بن سعدٍ (¬4) قال: ما كان زندقة إلاَّ بين يديها التكذيب بالقدر. رواه الطبراني من طريق إبراهيم بن أعين، وذكره ابن العربي في " عارضة الأحوذي " (¬5) وعزاه إلى " مسند " أبي أسامة وهو الحارث بن ¬
محمد بن أبي أسامة أحد الأئمة. والتاسع والعشرون: عن جابر بن سمرة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ثلاثٌ أخاف على أمتي: الاستسقاء بالأنواء، وحَيْفُ السلطان (¬1)، والتكذيب بالقدر ". رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، والثلاثة من طريق محمد بن القاسم الأسدي (¬2). والثلاثون: عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أخاف على أمتي خمساً: تكذيبٌ بالقدر، وتصديقٌ بالنجوم ". رواه أبو يعلى مقتصراً على اثنتين من الخمس من طريق يزيد الرقاشي (¬3). والحادي والثلاثون: عن أبي أُمامة قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم، وتكذيبٌ بالقدر، وحَيْفُ السلطان ". رواه الطبراني من طريق ليث بن أبي سُليم (¬4). والثاني والثلاثون: عن ابن عباس، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هلاك أمتي في ثلاث: ¬
العصبية والقدرية والرواية من غير ثبت". رواه الطبراني من طريق هارون بن هارون (¬1). والثالث والثلاثون: عن أبي الدرداء، قال - صلى الله عليه وسلم -: " أخاف على أمتي ثلاثاً: زَلَّة عالمٍ، وجدال منافقٍ بالقرآن، والتكذيب بالقدر ". رواه الطبراني من طريق معاوية بن يحيى الصدفي (¬2). والرابع والثلاثون: عن أبي موسى عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن أمتي لا تزال مستمسِكةً بدينها ما لم يُكذِّبُوا بالقدر، فإذا كذبوا بالقدر، فعند ذلك هلاكهم ". رواه الطبراني، وأبو البركات تابعي لم أعرفه، وبقيتهم ثقات (¬3). الخامس والثلاثون: عن أبي أُمامة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لم يكن شركٌ منذ أهبط الله آدم إلاَّ بَدْؤُه بالتكذيب بالقدر، وما أشركت أمة إلاَّ بتكذيب القدر، وإنكم ستُكذِّبون به أيتها الأمة، فإذا لقيتموهم، فكونوا أنتم سائلين، ولا تُمكِّنوهم من المسألة، فيدخلوا الشبهات ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق سلم بن سالم (¬4). والسادس والثلاثون: عن عبد الله بن عمرو، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما هلكتْ أمةٌ إلا ¬
بالأنواء، وما كان بدءُ إشراكها إلاَّ التكذيب بالقدر". رواه الطبراني في " الكبير " و" الصغير " إلاَّ أنه قال: " ما هلكت أمةٌ قطُّ حتى تُشْرِكَ بالله، ولا أشركت أمة بالله حتى يكون أول إشراكها التكذيب بالقدر " من طريق عمر بن يزيد النصري من بني نصر (¬1). والسابع والثلاثون: عن معاذ، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما بعث الله نبياً قط إلاَّ وفي أمته قَدَرِيَّة ومرجئة (¬2) يُشوِّشُون عليه أمر أمته، ألا وإن الله قد لعن القدرية والمرجئة على لِسان سبعين نبياً ". رواه الطبراني وفيه بقية، ويزيد بن حصين ولم أعرفه (¬3). ¬
والثامن والثلاثون: عن محمد بن عبيد، عن ابن عباس، أنه قيل له: إن رجلاً قد قَدِمَ علينا يُكَذِّبُ بالقدر، قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه، لأعضَّنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت عُنُقُه في يدي لأدُقَّنَّها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كأنني بنساء بني فِهْرٍ يَطُفْنَ بالخزرج تصطفِقُ ألياتُهُنَّ مشركاتٍ، هذا أول شرك هذه الأمة، والذى نفسي بيده لينتَهِينَّ بهم سْوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قد قدَّر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قد قدَّر شرّاً ". رواه أحمد (¬1) من طريقين، وفيهما محمد بن عبيد المكي وفي إحداهما رجل لم يسم، وسماه في الأخرى العلاء بن الحجاج، وقال في " المسند ": إن محمد بن عبيد سمع ابن عباس (¬2). والتاسع والثلاثون: عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلاَّ كان بعدهُ وقفة تملأ بهم جهنم. رواه الطبراني (¬3) من طريق أبي داود الأعمى. والأربعون: عن سعيد بن جبير قال: كنت في حلقة فيها ابن عباس، فذكرنا القَدَرَ، فغضب ابن عباس غضباً شديداً، وقال: لو أعلم أن في القوم أحداً ¬
منهم، لأخذته، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قلت: وساق حديثاً أظنه في معنى الأول لم يتحرر لي لسقوط شيء فيه. رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير صدقة بن سابق وهو ثقة. ورواه البزار وزاد: وهم القدرية (¬2). والحادي والأربعون: عن ابن عباس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعلك أن تبقى حتَّى تُدرِكَ قوماً يُكذِّبون بقَدْرِ الله الذنوب على عباده استَقَوْا كلامهم ذلك من النصرانية، فإذا كان كذلك فابرأ إلى الله منهم ". رواه الطبراني (¬3) من طريق عبد الله بن سمعان. ¬
والثاني والأربعون: عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا، فلا تشهدوهم ". رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة (¬1)! والثالث والأربعون: عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القَدَريَّة مجوس هذه الأمة، إن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ". رواه الطبراني في " الأوسط " (¬2) من طريق زكريا بن منظور. والرابع والأربعون: عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله أهل القدر: الذين يُكذِّبون بقدر، ويُصدِّقون بقدر " (¬3). رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق ابن لهيعة. الخامس والأربعون: عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كذَّب ¬
بالقدر، كذَّب بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -". رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه محمد بن الحسين القصاص ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات (¬1). السادس والأربعون: عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عمر: لُعِنَتِ القدرية على لسان سبعين نبياً، آخرهم نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان يوم القيامة، وجمع الناس في صعيدٍ واحد، نادى منادٍ يُسمع الأولين والآخرين: أين خصماءُ الله؟ فتقوم القدرية. رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه محمد بن الفضل بن عطية، ورواه أبو يعلى في " الكبير " باختصار من رواية بقية بن الوليد، عن حبيب بن عمر (¬2). والسابع والأربعون: عن عمر بن الخطاب [قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: " إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: ألا لِيَقُمْ خصماء الله وهم القدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق بقية وحبيب بن عمر أيضاً (¬3). ¬
والثامن والأربعون: عن أبي سعيد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " في آخر الزمان تأتي المرأة، فتجد زوجها قد مُسِخَ قرداً، لأنه لا يؤمن بالقدر ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق بشار بن قيراط (¬1). والتاسع والأربعون: عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا منه بريءٌ ". رواه أبو يعلى من طريق صالح بن سرج (¬2). والخمسون: عن سهل بن سعدٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر ". رواه الطبراني (¬3) من طريق إسماعيل بن أبي الحكم. والحادي والخمسون: عن أبي أمامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقٌّ، ومَنَّانٌ، ومدمن خمر، ومُكَذِّبٌ بقدر الله ". وفي رواية: " ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً " فذكر نحوه رواه الطبراني بإسنادين أحدهما من طريق بشر بن نُمير، والآخر من طريق عمر بن يزيد (¬4). ¬
والثاني والخمسون: عن واثلة بن الأسقع، قال رسول الله: " صِنفان من [هذه] الأمة لا تنالُهُما شفاعتي: المُرجئة والقدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " (¬1) من طريق محمد بن مِحْصَن. والثالث والخمسون: عن جابر، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " صِنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: المرجئة والقدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق بحر بن كَنِيزٍ السَّقَّاء (¬2). والرابع والخمسون: عن جابر، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق قرين بن سهلٍ (¬3). ¬
الخامس والخمسون: عن أبي سعيد، قال - صلى الله عليه وسلم - مثله. رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عمرو بن القاسم بن حبيب التمار وعطية العَوْفي (¬1). والسادس والخمسون: عن أنس، قال - صلى الله عليه وسلم -: " صِنفان من أمتي لا يَرِدان عليَّ الحوض ولا يدخلان الجنة: القدرية والمُرجئة ". رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفَرْوِي، وهو ثقة (¬2). قلت: تقدم بزيادة. والسابع والخمسون: عن سهل بن سعد الساعدي قال - صلى الله عليه وسلم -: " لكل أمةٍ مجوسٌ، ولكل أمةٍ نصارى، ولكل أمةٍ يهود، وإن مجوس أمتي القدرية ونصاراهم الخَشَبيّة (¬3)، ويهودهم المرجئة ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق يحيى بن سابق (¬4). ¬
والثامن والخمسون: عن أنس، قال - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يرض بقضاء الله، ويؤمن بقدره، فليلتمس إلهاً غير الله ". رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " من طريق سُهيل بن أبي حَزْم (¬1). والتاسع والخمسون: عن أبي هند الدَّارِي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي، ويصبر على بلائي، فليلتمس ربَّاً سِواي ". رواه الطبراني من طريق سعيد بن زَيَّاد، وهو ابن فائد بن زَيَّاد بن أبي هند (¬2). ¬
والستون: ذكر الهيثمي في تفسير سورة " اقتربت " عن عبد الله بن عمرو: ما أُنزلت هذه الآية {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49] إلاَّ في [أهل] القدر. رواه البزار (¬1) من طريق يونس بن الحارث. الحادي والستون: وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في القدرية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]. رواه الطبراني (¬2) من طريق عبد الوهاب بن مجاهد. الثاني والستون: وعن زُرارة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: " نزلت في أُناسٍ من أمتي في آخِر الزمان يُكَذِّبون بقدر الله عز وجل " (¬3). ¬
قلت: كذا في كتاب الهيثمي في نسخة منه، ولم يُبين من أخرجه، ولا حال رواته، وأظنُّ ذلك سقط من النسخة. ومن غير كتابه: الثالث والستون: عن أبي أُمامة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}: " إنما أُنزلت في القدرية ". وفي إسناده عُفير بن معدان (¬1)، وقد تقدم ما يشهد لصحته. وقد خرجه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح (¬2). ¬
وقال ابن العربي في " شرح الترمذي " (¬1): صحيح صحيح. وتقدم في مسألة الإرادة أثر وهب بن مُنبِّهٍ: كنت أقول بالقدر حتى قرأتُ بضعاً وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلها: من جعل شيئاً من المشيئة إلى نفسه، فقد كفر، فتركت قولي، وتقدم الكلام على إسناده. الرابع والستون: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ستة لَعَنتُهم ولَعَنهُمُ الله -وكُلُّ نبي مُجابٌ-: الزائد في كتاب الله، والمكذِّب بقدر الله، والمُتسلِّط بالجبروت ليُعِزَّ من أذل الله، ويذل من أعز الله، والمُستَحِلُّ لِحُرَمِ الله، والمُستَحِلُّ من عِترتي ما حرَّم الله، والتارك لسنتي ". رواه الحاكم في " المستدرك " (¬2) في تفسير سورة الليل، فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن دُرستويه (¬3) الفارسي، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا إسحاق بن محمد الفَرْوي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال (¬4)، عن عُبيد الله بن مَوْهب، عن عمرة، عن عائشة بالحديث. ثم قال: قد احتج الإمام البخاري بإسحاق بن محمد الفروي (¬5)، وعبد ¬
الرحمن بن أبي الرجال (¬1) في " الجامع الصحيح " وهو أولى بالصواب من الإسناد الأول. قلت: وهذا الإسناد الأول: قال الحاكم (¬2): حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن وهب الحافظ، حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني أبي، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب، قال: سمعت عليَّ بن الحسين يُحدِّث عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ستةٌ لعنتهم ولعنهم الله -وكل نبي مُجابٌ-: الزائد في كتاب الله، والمُكَذِّبُ بقدر الله، والمُتسلِّطُ بالجبروت لِيُذِلَّ من أعز الله، ويعز من أذلَّ الله، والتارك لِسُنتي، والمُستَحِلُّ من عِترتي ما حرَّم الله، والمُستحِلُّ لِحُرَمِ الله ". قال الترمذي (¬3): هكذا روى عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن عُبيد الله بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة به. وروى سفيان الثوري وحفص بن غياث وغير واحد عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (¬4). ¬
قلت: عبد الرحمن بن أبي الموالي ثقة حجة، وهو أحد شيوخ البخاري، خرج عنه البخاري في " الصحيح " حديث الاستخارة في أحاديث القدر، وهو من مشاهير الشيعة أصحاب محمد بن عبد الله بن الحسن. قال الذهبي في " الميزان " (¬1): وهو ثقة مشهور. وقد روى هذا الحديث السيد أبو طالب في " الأمالي " والهيثمي في " مجمعه " (¬2)، كما خرجه الترمذي (¬3)، والحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " أيضاً (¬4)، وقال بعد روايته: وهذا صحيح، ولا أعلم له عِلة، وقد احتج البخاري بعبد الرحمن بن أبي الموالي. قلت: خرجه الحاكم عنه، عن عبيد الله بن مَوْهَبٍ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة. وهذه طريقٌ فيها زيادة أبي بكر، عن عمرة وهي خالته، وأما عُبيد الله بن موهب: فهو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب، وقع منسوباً إلى جده. والله أعلم. ومن " مجمع الزوائد " للهيثمي: الخامس والستون: عن عمرو بن شعيب، قال: كنت عند سعيد بن المسيب، فسمع قوماً يقولون: قدَّر الله كل شيءٍ إلاَّ الأعمال، فوالله ما رأيتُ سعيد بن المسيب غَضِبَ غضباً شديداً أشدَّ منه. ثم ساق الحديث. وفيه: عن رافع بن خديج، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون قومٌ من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى، يُقِرُّون ¬
ببعض القدر، يكفرون ببعضه، يقولون: الخير من الله والشر من الشيطان، فما تلقى أمتي منهم من البغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة، يمسخ الله عامَّتهم قردة وخنازير، ثم يخرج الدجال على أثر ذلك". وفيه: " أن عامة من هلك من بني إسرائيل بالتكذيب بالقدر ". وفيه: فقلت: جُعِلْتُ فداك يا رسول الله، فكيف الإيمان بالقدر؟ قال: " تؤمن بالله وحده، وأنه لا يملك معه ضراً ولا نفعاً -إلى قوله:- ثم خلق خلقه، فجعل من شاء منهم للجنة، ومن شاء منهم للنار عدلاً ذلك منه، وكل يعمل لما فُرِغَ له منه، وصائرٌ إلى ما فُرِغَ له منه ". رواه الطبراني من طرق أحسنها طريق ابن لهيعة (¬1). ¬
والمرادُ بالشر هنا -إن صح الحديث- الأمراض وسائر البلاوي، فإنها من الله، وإن كانت أسبابها من العباد على ما سيأتي بيان النصوص على ذلك في آخر الكلام على أفعال العباد. ألا تراه يقول في آخره: " وكُلٌّ يعمل " ففرَّق بين العمل والقدر، فأضاف كلاًّ إلى من هو منه، ولو قدرنا فيه شبهة، وجب تقديمُ القواطع عقلاً وسمعاً، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} [آل عمران: 78]، وقول الكليم عليه السلام: إنه من عمل الشيطان (¬1). وما لا يحصى من ذلك كما سيأتي مبسوطاً شافياً في خاتمة مسألة الأفعال. السادس والستون: عن الوليد بن عبادة، أن عبادة لما حُضِرَ (¬2) قال له ابنه عبد الرحمن: أوصني، قال له: يا بني اتق الله، ولن تتقي الله حتى تؤمن بالله، ولن تؤمن بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " القدر على هذا، من مات على غيره، دخل النار ". وفي رواية: لم يطعم طَعْمَ الإيمان، وإنك لم تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر. رواه الترمذي (¬3) موقوفاً باختصار، ورواه الطبراني في " الكبير " بأسانيد، وفي ¬
" الأوسط " أحدها من طريق عثمان بن أبي العاتكة، وبقيتهم ثقات، وفي بعضهم كلام (¬1). والسابع والستون: عن الحارث، قال: رأيتُ ابن مسعودٍ يَبُلُّ أصبعه في فيه، ثم يقول: والله لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أنه ميت ثم مبعوثٌ بعد الموت. رواه الطبراني (¬2). والثامن والستون: عن أبي الحجاج الأزدي، قال: سمعتُ سلمان بأصبهان يقول: لا يؤمن عبدٌ حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. رواه الطبراني (¬3). ¬
والتاسع والستون: عن عمرو بن العاص مرفوعاً: " لن يؤمن أحدٌ حتَّى يؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات (¬1). والسبعون: عن الشعبي، عن عدي بن حاتم أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام؟ فقال: " تشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله، وتؤمن بالأقدار خيرها وشرها، حلوها ومرها ". رواه الطبراني من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور (¬2). والحادي والسبعون: عن أنس بن مالك (¬3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثٌ من أصل الإيمان: الكفُّ عمن قال: لا إله إلاَّ الله، لا نُكفِّرُه بذنبٍ ولا نخرجه من الإسلام بعملٍ، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن تقاتل آخرُ أمتي الدجال، لا يُبطِلُه جَوْرُ جائِرٍ، [ولا عدل عادلٍ] والإيمان بالأقدار ". رواه أبو داود (¬4)، وحكاه أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله. الحديث الثاني والسبعون: عن أبي الأسود الدؤلي أنه سأل عمران بن ¬
قول المؤلف: وقد انتهى ما تيسر لي تعليقه من أحاديث القدر من غير استقصاء
حُصين، وابن مسعود، وأُبيَّ بن كعبٍ، عن القدر، فقالوا: لو أن الله عز وجل عذَّب أهل السماء والأرض، عذَّبهم وهو غيرُ ظالم، ولو أدخلهم في رحمته، لكانت رحمته أوسع من ذنوبهم، ولكنه كلما قضى يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فمن عذَّبه، فهو الحق، ومن رحمه، فهو الحق، ولو كان لك مثلُ أحد ذهباً تُنفِقُهُ في سبيل الله ما قُبِلَ منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. رواه الطبراني (¬1) بإسنادين، ورجال هذه الطريق ثقات. وقد انتهى ما تيسَّر لي تعليقه من أحاديث القدر من غير استقصاء، فلقد وقفتُ بعد الفراغ منها على كلام ابن عبد البر في أحاديث القدر في " التمهيد " (¬2) فذكر فيها حديثاً مرفوعاً من حديث أبي هريرة (¬3) رضي الله عنه لم أكتبه فيما جمعته، وذكر أنه أصح حديث في الباب، فعَجِبْتُ من تتبع أحاديث هذا الباب فاتني أصحُّها وأشهرها بعد هذا الجمع الكثير، وهو الحديث الذي أوله: لا تسأل المرأة طلاق أُختها، فإنه ليس لها إلاَّ ما قُدِّر لها ". ورواه (¬4) في القدر من حديث أبي هريرة، وأبو داود في الطلاق، والنسائي في عشرة النساء كلهم عنه. ¬
وقد تجنَّبتُ سياقة كثيرٍ من المتون بألفاظها، وذكر الأسانيد، وتقصِّي الكلام على الرجال والعلل لوجهين: أحدهما: خوف الإملال. وثانيهما: الاستغناء بالتواتر، فإن الكلام على الأسانيد تصحيحاً وتضعيفاً وتعليلاً لا يحتاج إليه مع التواتر ولذلك جمعت فيما نقلت أحاديث الثقات والمجاريح كما هو عادة الحفَّاظ إذا نقلوا المتواترات، وإنما نبهت على الثقة من غيره بذكر من في كل سند ممن فيه كلام أو خلاف أو جهالة أو جرح مبهم أو مبين أو غير ذلك، وإن كان لا يُحتاج إلى ذلك في المتواترات اقتداءً بأئمة السنة في الإنصاف، وترك العصبية، والمبالغة في تعليم التحري في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتنبيهاً على هذه الفضيلة التي اختصَّ بها أئمة السنة، وهي بيان ضعف الضعيف وإن وافق ما هو الصحيح عندهم، وهذه الأحاديث تدل على أحكام: الحكم الأول: أن القدر حقٌّ في نفسه، ودلالتها على هذا القدر ضرورية مع ما تقدمها من الآيات القرآنية والبراهين العقلية. وقد تقدم في الفائدة الثانية أن القول بالقدر لا يوجب نفي الاختيار في أفعالنا، كما لا يوجب ذلك في أفعال الله تعالى. الحكم الثاني: أن الإيمان بالقدر واجب، ولا شك أن الوجوب مَدْرَكٌ سمعي، وأن الحديث الواحد الصحيح، أو الحسن ينتهض دليلاً على الوجوب، فكيف بما تقدم؟ فإنه يفيد العلم بوجوبه، فقد مر في القسم الثاني سبعون حديثاً كلها تدل على وجوب الإيمان به مع ما انضم إليها من إجماع السلف الصالح على تلقيها بالقبول، وتقدم الإنكارُ على أحدٍ من رواتها ثقاتهم وضعفائهم، ومثل هذا لو حصل في خبرٍ واحد لوجب أن يكون حجةً بالإجماع، وإنما اختلفوا
هل يخرج بذلك عن كونه مظنوناً أولا؟ مع اتفاقهم على وجوب العمل به وصحة الاحتجاج به. الحكم الثالث: ما أفادته من ذمِّ القدرية، ولا شك أن ما وجب الإيمانُ به، فتاركه مذمومٌ، وقد انعقد الإجماع على أن القدرية فرقة مذمومةٌ، وأما تكفيرهم، فقد مر في كلام القاضي أبي بكر بن العربي المالكي، أنهم عشرون فرقة: فرقتان منهم لا يُعَدَّانِ في فِرَق الإسلام. قلت: والضابط في التكفير أن من ردَّ ما يُعلَمُ ضرورةً من الدين، فهو كافر، وفي هذا بعض إجمال. والتحقيق أن من علمنا ضرورة أنه رد ما يعلم من ضرورة الدين، وعلمنا بالضرورة أنه يعلمه هو ضرورةً مثل ما نعلمه ضرورةً، فلا شكَّ في كفره. وأما من جوَّزنا أن يجهل من الدين ما نعلمه نحن ضرورة، فهذا موضع يكثر فيه الاختلاف، والأولى عدم التكفير لعدم الدليل عليه. وقد مر تحقيقُ ذلك في آخر مسألة الصفات. والقدر الذي يدل على كفر القدرية كلهم من النصوص غير متواتر كما يعرف ذلك ممن ميز ما يدل على الكفر من سواه، وإنما المتواتر والمجمع عليه ذمهم. أمَّا حديث " القدرية مجوس هذه الأمة " فقد ذكر الحافظ زين الدين أبو حفص عمر بن بدرٍ الموصلي في كتابه " المغني عن الحفظ من الكتاب بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب " (¬1): إن ما جاء في المرجئة، والجهمية، ¬
والقدرية، والأشعرية لا يصح في هذا الباب شيء. نقل ذلك ابن النحوي في تلخيصه لهذا الكتاب المذكور وكذلك الموصلي المذكور مختصراً من كتاب ابنِ الجوزي (¬1)، فقد تطابق هؤلاء الأئمة الثلاثة على نقل هذا عن المحدثين. واعلم أنهم يُطلقون مثل هذه العبارة على ما يقوى بكثرة طرقه وشواهده، وربما صح كما ذلك مقرر في علوم الحديث، ولكن هذا مقام صعب، وما زال أهل التحري من علماء الإسلام يتورَّعون في مقام التكفير، فإن إخراج رجلٍ مسلم من مِلَّةِ الإسلام عظيم، وقد صحَّت الأحاديث في تعظيم ذلك، وفي الحديث الصحيح " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (¬2). الحكم الرابع: اختلف الناس في القدرية، وهي لفظةٌ ليست لغوية، فيرجع فيها إلى أئمة اللغة، ولذلك أعرض الجوهري عن تفسيرها، وكذلك نشوان بن سعيد في " شمس العلوم "، وولده محمد في " ضياء الحلوم "، وأما مجد الدين، فقال في " القاموس " (¬3): القدرية: جاحدوا القدر، وقال في تفسيره: القدر محرك هو القضاء، والحكم، ومبلغ الشيء، والجمع أقدار. ولم يوجد في أشعار العرب وديوانها، ولم يتحقق صحة الحديث الوارد في تفسيرها، فالمتحقق الآن أنها مُولَّدة اصطلاحية، ولم يبق إلاَّ النزاع في من تُطلق عليه. وقد قدمنا ثبوت الأحاديث (¬4) وبالإجماع على أنها تطلق على فرقةٍ مذمومةٍ، ¬
وهذا يدل على أنهم نُفاة القدر عن الله تعالى، وسيأتي قول القاضي عياض عن النواوي أنهم نفاة علم الغيب، لأن الأدلة: عقلاً ونقلاً، قرآناً وسنة دلَّت على ثبوت القدر، ودلت النصوص الصحاح على وجوب الإيمان به، فامتنع أن يكون الإجماع قد انعقد على ذمِّ من آمن بما يجب الإيمان به، وأثبت ما دلت الأدلة على ثبوته، وليس في هذا من الإشكال إلاَّ أمران: أحدهما: أن يتوهم أن القدر هو الجبر ونفي الاختيار وهذا باطل قطعاً باتفاق المعتزلة، وأهل السنة، والأشعرية بل بالأدلة القاطعة الواضحة لمن قال به من المعقول والمنقول من القرآن أو السنة وتواتراً ضرورياً كما مرَّ بعض ذلك، ويأتي تمامه إن شاء الله تعالى. وثانيهما: أن يقال: كيف يصح ذلك باشتقاقِ النسب وأسماء الفاعلين أنها تكونُ من الإثبات ومن النفي كالموحد والمشبه ونحو ذلك. والجواب من وجوه: الوجه الأول: أن هذا بحثٌ لغوي، والمرجع فيه إلى أئمة العربية، ولم ينُصُّوا على أن النسبة لا تصح إلى النفي لو قدرنا ما لم يعلم من نصِّ بعضهم على ذلك فلا تقوم حجةٌ إلاَّ بإجماعهم، أو نص من يُوثَقُ به منهم من غير معارضة ممن هو مثله أو أرجح منه، وكِلا الأمرين غير واقع، وإنما المشهور بينهم في شرط النسبة وقوع الملابسة بين المنسوب والمنسوب إليه كما هو شرط الإضافة. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {فَأَنساهُ الشَّيطَانُ ذِكرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]: إن الإضافة تكون بأدنى ملابسة (¬1). انتهى. ¬
وذكر الطبراني أن حبيب الروم الصحابي رضي الله عنه أنه إنما سُمِّيَ حبيب الروم لكثرة غزوه لهم وحبِّه (¬1) لجهادهم (¬2). ذكره الهيثمي في المناقب في كتاب " مجمع الزوائد " (¬3). وقد أجمعوا على أن في باب النسبة ما هو وارد على خلاف القياس، فالرازي نسبة إلى الري ولا زاي فيه، والصنعاني نسبة إلى صنعاء ولا نون فيه، والمروزي نسبة إلى مرو ولا زاي فيه، بل السِّجزي بكسر المهملة وسكون الجيم والزاي نسبة إلى سجستان، والقَرَوي نسبة إلى قيروان، والبساسيري نسبة إلى بَسا بزيادة سِيري، ويُنسب إليها فسوي أيضاً، ذكره ابن خلكان (¬4). وقيل في وجهه: إن العَجَمَ تُبْدِلُ الفاء من الباء كقولهم: أصفهان وأصبهان، ولذا ذكر أن البندهي نسبة إلى بنج ديه، ويقال فيه أيضاً: الفنجديهي بالفاء، والبوصيري إلى بوصير قوريدس، ويقال فيه أيضاً: كوصير كوريدس بنقصان ستة أحرف، وهي أربعة مواضع كلها في صعيد مصر، والحصني والحَصْكفي، كلاهما نسبة إلى حِصن كيفا (¬5) وأمثال ذلك كثيرة. ¬
الوجه الثاني: المنازعةُ في كون هذه اللفظة مخالفةً لقياس النسبة، وذلك أن أئمة العربية على أن النسبة إذا كانت إلى كلمتين على جهة الإضافة، وكان المضاف إليه متناولاً لمسمى بحياله باقياً على دلالته حُذِفَ المضاف، ونسب إلى المضاف إليه مثل الإضافة إلى ذي يَزَن، وذي جَدَن، وذي رُعَيْنٍ، وعبد مناف، وأبي بكرٍ، وابن عباس، وابن القاسم، وقوم لوط. ممن ذكر ذلك الزمخشري في " المفصل " (¬1)، وذكر نحو ذلك الجوهري في " صحاحه " في مادة: شَمَسَ (¬2) الأولى معجمة. فعلى هذا إذا (¬3) أردنا النسبة إلى نفي القدر حذفنا " نفي " لخفاء النسبة إليه، وجعلناها إلى " القدر " لشهرته كما ذكروه في الأزلي نسبة إلى نفي الزوال بلم يزل كما سيأتي، ولا مانع من هذا إلاَّ كونه يُوهِمُ الخطأ، والقرينة تمنع ذلك كما تمنعه في سائر النسب المخالفة للقياس، وهي ذم القدرية ووجوب إثبات القدر. ولو امتنع مثل هذا، لامتنع ورود المجاز، لأنهما كلاهما لا يُفهمان إلا بالقرينة، فما خصَّ باب النسبة بالامتناع من ذلك؟ وهو الباب الذي شهد أئمة النقل بأن فيه ما هو وارد على خلاف القياس. الوجه الثالث: أن الأحاديث المتقدمة في تفسير القدرية لمن قال: لا قدر، وإن لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد اشتهرت بين أهل اللسان وأهل المعرفة به من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة العلم، ولم يُنْقَلْ إن أحداً منهم قدح فيها بأنها لا تصح في اللغة. وقد تقدم قول وهب بن مُنبِّه في ذلك. وحكى السيد المرتضى في " الغرر " (¬4) أن أبا القاسم البلخي حكى عن ¬
عبد الله بن الحسن بن الحسن أنه قال لولده محمد: إني لا أعِيبُ عليك شيئاً إلا قولك بالقدر، فقال: هل تلومني على ما لا أقدر عليه أو على ما أقدر عليه؟ فقال: والله ما أعاتبك (¬1) عليه أبداً. ففي هذا معا أنهما فَهِمَا من القدر نفيه، ولم يختلفا في ذلك، وأمثال ذلك كثيرة. وتقدم مثل ذلك في الكلام على المشيئة عن أحمد بن عيسى بن زيد وغيره من قدماء أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعن المعرِّي وأبي نُواس مثل ذلك في شعرهما، وهما من أهل اللغة والبلاغة. ففي شعر المعري: لا تكن مُجبراً ولا قَدَرِياً ... واتَّخِذْ مَذْهَباً يكن بَينَ بَينا (¬2) وفي شعر أبي نُواس: ما صحَّ لا قَدَرٌ ولا جَبْرُ ... ما صَحَّ إلاَّ الموتُ والقَبْرُ (¬3) ¬
فجعلا القدر مقابلاً للجبر وضده، وذلك في كلام السلف كثير إذا تُتُبِّعَ، واللغة تَثْبُتُ بأقلَّ من ذلك. وأما الجوابُ عما أورده المرتضى في حكايته، فهو ما تقدم في الفائدة الثانية من أن إثبات القدر لا يستلزم نفي القدرة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] وقد مرَّ تقريره في ردِّ شبه المعتزلة في آخر مسألة الإرادة. ومن أخصر ما يعارضون به أنهم يَصِفون الرب سبحانه بالقدرة على الكذب وجميع القبائح، ويمنعون من تجويز وقوع ذلك منه، ويوجبون استحقاقه المدح على تركها، فدل على صحة القدرة على الممتنع وصحة الثناء والذم عليها. وإنما معنى القدر القطع بوقوع أحد المقدورين بدليل أنه جارٍ في أفعاله تعالى لقوله: {كانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَقضياً} [مريم: 71]، بل شرط القدر أن يكون في المقدورات دون المحالات، فلا يقال: إن الله قد قدر على الجماد المعدوم ترك المعاصي. ¬
الوجه الرابع: أنها قد جاءت ألفاظٌ صحيحة شهيرةٌ على خلاف هذه القاعدة التي في اشتراط الإثبات في المشتقات، وقد حضرني منها اثنتان وعشرون لفظةً منها: التَّحنُّث والتحنُّف والتحرُّج والتَّأثُّم والتَّحوُّب والتهجد والتنجُّس، وهو فعل ما يُخرِجُ عن الحِنث، والحَنَف والحرج والإثم والحَوْب والهُجُود. ذكر ذلك كله الثعالبي في " فقه اللغة " (¬1) وغيره من أئمة اللغة. وفي " الصحيحين " من حديث عائشة " وحُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه الليالي ذوات العدد " (¬2). قال الجوهرى في " الصحاح " (¬3): تحنَّث: تعبَّد واعتزل الأصنام، مثل تحنَّف، وفلان يتحنَّث من كذا: أي يتأثم منه. قال (¬4): والحنيف: المسلم، والحَنَف: الاعوجاج، وقد يُسمى المستقيم بذلك كما سُمِّي (¬5) الغراب أعور، وأنشد الجوهري قول جِرَان العَوْد (¬6): ولما رأينَ الصُّبْحَ بادَرْنَ ضوءَهُ ... رَسِيمَ قَطَا البَطْحاء أو هُنَّ أقطَفُ وأَدرَكْنَ أعجازاً من الليل بعدما ... أقام الصلاةَ العابِدُ المُتَحنِّفُ وقوله: سُمِّي (5) الغراب أعور، إشارة إلى ما ثبت أنهم يقولون له ذلك لحدة ¬
بصره على الشؤم. نص عليه الجوهري (¬1). ومن ذلك القَذُور من النساء التي تتجنَّب الأقذار، وقال أبو عبيدة: ناقة قَذُورٌ تبرُكُ ناحيةً من الإبل وتستبعِدُ. قال الكِلابي: رجُلٌ قُذَرةٌ مثل هُمَزَةٌ: يتنزه عن المَلائِم، ورجل قاذورة، وذو قاذورة: لا يخالط الناس لسوء خلقه ولا يُنازِلُهم (¬2). ¬
قال مُتمم بن نويرة يرثي أخاه: فإنْ تَلقَه في الشرب لا تَلْقَ فاحِشاً ... على الكَأْسِ ذا قاذُورةٍ متربِّعا (¬1) ذكر ذلك كله الجوهري (¬2) وقال النعمان بن بشيرٍ الأنصاري: ولكنَّها نَفْسٌ عليَّ كَريمةٌ ... عَيوفٌ لأصهارِ اللِّئامِ قَذورُ رواه الطبراني من طريق أبان بن بشير بن النعمان في مكاتبة جرت بين (¬3) النعمان ومروان (¬4). ومن ذلك الرَّيِّض، قال الجوهري (¬5): هي الناقة أول ما رِيضَتْ، وهي صعبةٌ بَعْدُ. وقال الثعالبي (¬6): هي الدابة لم تُرَضْ. ومن ذلك تشميت العاطس بالمعجمة، فإنه إنما يسمى بذلك، لأنه يُزيل الشماتة بالعاطس، وينفيها عنه. ¬
ومن ذلك ما خرَّجه مسلم في " الصحيح " والنسائي وابن ماجه من حديث خبَّاب بن الأرت شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّ الرَّمْضاء فلم يُشْكِنا (¬1). زاد البيهقي (¬2): في وجوهنا وأكُفِّنا. ذكر الزمخشري في " الفائق " (¬3) أنه يحتمِلُ أن المراد أنه رخَّص لهم ولم يُزِلْ لهم الشكاية بالنهي. قلت: ويعضُدُه صحة الأمر بالإبراد بالصلاة عن أول وقتها في الحرِّ، كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة (¬4). وحديث ابن عباس (¬5): أُمِرَ - صلى الله عليه وسلم - أن يَسجُدَ على سبعة أعظُمٍ لا يكفُّ شعراً ولا ثوباً. خرجاه (¬6). ولمسلم (¬7): " أُمرتُ أن أسجُدَ " فذكره. ¬
وقال ابن الأثير في " النهاية " (¬1): إنه لم يُجبهم إلى ذلك ولم يُزِلْ شكواهم، يقال: أشكيت الرجل: إذا أزلت شكواه، وإذا حملته على الشكوى. والمقصود من إيراد هذا الحديث بيان نقل ابن الأثير عن أهل اللغة، وعمل كثير من الفقهاء بمقتضى ما نقله. ومن ذلك: " المُقسِط "، قال ابن الأثير في " النهاية " (¬2): في أسماء الله المُقسِطُ وهو العادل، يقال: أقسط يُقسِطُ، فهو مُقسِطٌ، وقَسَطَ يقسط، فهو قاسِط: إذا جار، فكأنَّ الهمزة في " أقسط " للسَّلْبِ، كما يقال في أشكى. ومن ذلك التجزيع: بمعنى نفي الجزع، وذلك في قول ابن عباس لعمر عند موته يُجَزِّعُه، أي: يُزيل جزعَهُ (¬3). ومن ذلك التفزيع: إزالة الفزع، ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬4) في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23]. ومن ذلك المحكِّمة، قال الجوهري (¬5): الخوارج يُسَمَّوْنَ المُحَكِّمة لإنكارهم أمر الحَكَمين وقولهم (¬6): لا حُكْمَ إلاَّ لله. ومن ذلك: الأزلي نسبة إلى لم يزل، ثم حذف حرف النفي، ثم أبدلت الياء ألفاً، لأنها أخفُّ، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن: أزَني (¬7). ¬
ومن ذلك: تسمية الأعمى بصيراً، وقد روي في ذلك حديث مرفوعٌ رواه الطبراني والبزار من حديث جُبير بن مُطعِم (¬1). أورده الهيثمي (1) في باب الزيارة وإكرام الزائر في كتاب البر والصلة، وقال: رجال البزار رجال الصحيح غير إبراهيم بن المستمر وهو ثقة. ومن ذلك: الخيار في البيع، قد جاء في " الصحيح " بمعنى نفي الخيار، وذلك في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، إلاَّ بَيْعَ الخِيار " (¬2). قال النواوي في شرح " مسلم " (¬3): إلاَّ بيعاً نُفِي فيه الخيار، فإنه لا يثبت فيه خيار المجلس. وحكى ابن كثير هذا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وأمثال ذلك كثير لمن تتبَّعَه في كتب اللغة. وقد ذكر الثعالبي في أواخر " فقه اللغة وسِرِّ العربية " (¬4) باباً فيما يخالف لفظه معناه من هذه الأمور، وكان من أئمة اللغة. وكذلك الزمخشري ذكر في " المفصل " (¬5) في قسم الأفعال أن همزة أفعل قد تكون للسلب نحو: أشكيته، وأعجمت الكتاب إذا أزلت الشكاية والعجمة، ثم ذكر أن فعَّل مضاعف العين يؤاخيه في ذلك نحو: فزَّعته، وقذَّيتُ عينه، وجَلَّدت البعيرَ وقرَّدته، أي: أزلت الفَزَع والقذى والجلد والقُراد. انتهى. ¬
فدلَّ هذا على شُهرة هذا المعنى. الوجه الخامس: أنه قد ثَبَتَ بناء اسم الفاعل لما هو في الحقيقة مفعولٌ، كقوله تعالى: {والنَّهارَ مُبْصِراً} [يونس: 67]، وقوله تعالى: {في عِيشةٍ رَاضيةٍ} [الحاقة: 21] ومنه قولهم: سَيْلٌ مُفْعَمٌ على اسم المفعول، وشعرٌ شاعرٌ، ونهاره صائمٌ أي: مصومٌ فيه، ونهرٌ جارٍ [أي] مجري فيه، لأن النهر اسمٌ لساقيه الماء (¬1). وسيأتي ذلك. ونصَّ علماء المعاني على أن المجوِّز لذلك هو الملابسة، فإن النسبة أولى بمخالفة بعضه القياس، ومما يُشبه هذا قولهم: القَمران والعُمران. وقد ذكر ابن قتيبة في " مُشكل القرآن " (¬2) باباً في المقلوب ومنه قولهم: للدَّيِغ: سليم، وللعطشان: ناهِلٌ، وللفَلاة: مفازَةٌ، وللشمس: جَوْنة، وللغراب: أعور، وللحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجَوْن. قال: ومنه قول قوم شعيب: {إنَّكَ لأنْتَ الحَليمُ الرَّشيدُ} [هود: 87]، [كما] تقول للرجل تستجهلُه: يا عاقل، وتستخفُّه: يا حليم، وأنشدوا قول الشاعر: فقلتُ لِسيِّدِنا يا حليـ ... ـمُ إنَّك لم تأسُ أسْوَاً رفيقاً (¬3) ¬
إلى قوله: ومن ذلك أن يُسمَّى المتضادَّان باسمٍ واحد، كما يقال للصُّبْحِ: صَرِيمٌ ولليل صريم، إلى آخر ما ذكره. وذكر ابن خلكان من هذا قولهم للأسود: كافورٌ، وللشاعر المشهور: الأبله، قال: وإنما سُمِّي بذلك، لكثرة ذكائه على قول، ووجَّهه أنه من أسماء الأضداد. ذكره ابن خلكان في ترجمة الأبله من حرف الميم (¬1)، وابن خلكان من الأدباء، فدل على شهرة هذا عندهم، فكيف يُقطع ببطلان أحاديث وردت في تفسير القدرية بمن يقول: لا قدر. الوجه السادس: أنها نسبةٌ إلى الإثبات لا إلى النفي. بيانه: أن المتبدعة أثبتوا القدر لأنفسهم، ونَفَوْه عن ربهم عز وجل، فنسبوا إليه لإثباته عن أنفسهم لا لنفيه عن الله تعالى، ومدعي الشيء لنفسه أولى أن يُنسبَ إليه مِمَّن يدَّعيه لغيره. ذكر هذا الوجه ابن قتيبة وإمام الحرمين كما سيأتي. الوجه السابع: أنه قد ثبت أنها لفظةٌ مستعملةٌ في الاصطلاح الأخير، ولم يثبت أنها (¬2) لُغويةٌ ولا شرعية، وإن كانت تحتمل ذلك، فلا يمتنع أن تكون مخالفةً لوضع اللغة وقانون العرب إذا (¬3) لم تكن من لغتهم، ولأهل الاصطلاحات أن يصطلحوا على ذلك. ¬
وبعد، فقد وقع ذلك، والوقوع فرع الصحة، فإن طائفة أهل السنة بغير شكٍّ على تسمية نافي القدر قدريّاً، والإجماع غير مُشتَرَطٍ في صحة الاصطلاح. وأما ذمُّ نافي القدر المسمى بالقدري، فلم يأخذه أهل السنة من الاصطلاح، بل من أدلة العقول والقرآن والأحاديث الصِّحاح، وقد ظهر بهذه الوجوه السبعة أن المعتمد في هذه النسبة هو الاستنباط من مجموع أمرين: أحدهما: الإجماع على أنها كلمةُ ذمٍّ. وثانيهما: الدليلُ القاطع على ثُبوت القدر وصحته، ووجوب الإيمان به، وهما يستلزمان أن المذموم به من نفى القدر، أو نفى وجوب الإيمان به. وأما ما يتعلق (¬1) به الفريقان من الاحتجاج في هذه المسألة بما استنبطوه من حديث " القدرية مجوسُ هذه الأمة " (¬2) فبناءٌ على صحته -ولستُ أرى صحته- فأُعَوِّلُ على ذلك، وإن كان المنصور بالله ذكر في أول " الشافي " (¬3) أنه مجمعٌ على صحته، فليس كذلك، وقد خالفه المؤيد بالله وسبقه بعدم تصحيحه، ذكره في " الزيادات ". وكذلك أئمةُ الحديث نصُّوا على عدم صحته كما تقدم، وإنما قال الحاكم: إنه صحيحٌ على شرطهما، إن صح سماعُ أبي حازم عن ابن عمر (¬4)، وهذا سوءةٌ في التصحيح، لأنه لم يصح سماع أبي حازم عن ابن عمر، وما لم يصح بمثل هذه الطريق ممكن. ¬
وإنما مُستندُ المنصور ما رآه من اشتغال الطائفتين من المتكلمين بتأويله دونَ تضعيفه، فجعله من قبيل المُتَلقَّى بالقبولِ، وهذا لا يدل على الصِّحة لأمرين: أحدهما: أن المتكلمين من الطائفتين وإن كانوا أئمة الجدال، فلكلِّ علمٍ رجالٌ. وثانيهما: أن الصحيح عند المحققين أن التلقي بالقبول لا يدل على القطع بالصحة، كما ذلك مُقَرَّرٌ في الأصول، وعلوم الحديث، وهذا هو مذهبُ الأكثرين والمحققين كما ذكره النواوي. وإنما قال به من أئمة الحديث ابنُ الصلاح (¬1)، وابن طاهر، وأبو نصر (¬2)، وتضعيف المُحَدِّثين أخصُّ من وهم التلقي بالقبول، والقدح البَيِّنُ مُقََدَّمٌ على التصحيح عند أهل الحديث، وأهل الأصول. وأما قول الخطابي وغيره من أهل السنة: إنه مُشتقٌّ من إثبات القدري قدرةً لنفسه حتى قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي " (¬3): إن القاف والدال والراء تدل على القدرة والمقدور، فمخالفٌ للحديث الوارد في تفسير القدرية بأنهم الذين يقولون: لا قَدَرَ (¬4). وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره " (¬5) يدل على ذلك، ولأن ذلك مخالف لقياس النسبة إلى القدرة، فإن قياسه بضم القاف وسكون ¬
الدال، ولا يُقال: إن النسبة مخالفةٌ للقياس، لأنا نقول: إن مخالفة القياس فيها لا يُقضى بها إلاَّ لِتعذُّر القياس، ولذلك لم يُفَسَّر القدرية بنفاة القدر إلاَّ لمنع الأدلة من ذمِّ من أثبته. ومع هذا فالذي ذكر ابن العربي مُشْكِلٌ جداً، فإن معاني هذه المادة تباينُ تبايُناً كثيراً عند اختلاف تركيبها كسائر تراكيب الكلام ومواده، إلاَّ ترى أن القاف من هذه المادة متى كُسِرَت وسُكَّنَت الدال دلَّت على الوعاء الذي يُطبخ نيه، وذلك غير معنى القضاء والتقدير، وكذلك القدرة بضم القاف غير القضاء والقدر. وأما قولهم: إن القدريَّ هو الذي يُثْبِتُ (¬1) لنفسه قُدرةً، فإن عَنَوْا أنه الذي يُثبتُ لنفسه قدرةً خلقها الله تعالى، فهذا إجماع المسلمين، وإن عَنَوا قُدرةً لم يخلُقها الله تعالى له، فلم يَقُل بذلك أحدٌ من مبتدعة المسلمين، وإنما حملهم على ذلك الفِرارُ من النسبة إلى النفي. وقد تقدم من الأدلة ما يَقْضي بصحته وشُهرته، وأنه على تقدير عدم الصحة اصطلاحٌ مُوَلَّدٌ لم يُبْنَ عليه تكفيرٌ ولا تفسيقٌ ولا حُكْمٌ شرعي، وإنما تثبتُ الأحكام على الأدلة الصحيحة عقلاً وسمعاً سواءٌ صَحَّت هذه التسمية أو لم تصح، فلا حاجة إلى تَكلُّفِ أمرٍ غير واضح. فإذا تقرَّر أن القدرية هم نُفاة القدر، وقد ثبت أن عِلْمَ الله تعالى السابق وكتابته مقادير الخلائق هما أساس القدر وعموده على ما نطقَتْ به النصوصُ السابقة فلا تكون القدرية على التحقيق إلاَّ نفاة علم الله السابق وكتابته، وبهذا فسَّرهم النواوي في أول " شرح مسلم " (¬2)، وعزاه إلى القاضي عياض ونَقَلَةِ المقالات من المتكلمين المتقدمين، وذكر أنهم قد انقرضوا، وحكى عياضٌ بعد قليلٍ أنه قول الفلاسفة. ¬
قال النواوي ما لفظه: قال أصحاب المقالات من المتكلمين المتقدمين: وانقرضت القَدَريَّة القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبقَ أحدٌ من أهلِ القبلة عليه. وحكى بعد هذا بقليل عن القاضي عياض في براءة ابن عمر من القدرية أنه قال: هذا في القدرية الأول الذين نَفَوا علم الله تعالى بالكائنات، والقائل بهذا الأمر [كافر] بلا خلافٍ، وهؤلاء الذين يُنكرون القَدَرَ، وهم الفلاسفة في الحقيقة. وقال غيره: يجوز أنه لم يُرِدْ بهذا الكلام التكفير المُخرج من الملة، فيكون من قبيل كُفران النِّعَمِ، إلاَّ أن قوله ما قَبِلَ الله منه ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر إلاَّ أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل الله عمله لِمعصيتِه وإن كان صحيحاً. وفسَّر النواوي الصحة بعدم وجوب القَضاء، وعدم القَبول بعدم الثواب. قال: وقد حكى ابن قتيبة في كتابه " غريب الحديث " (¬1) وإمام الحرمين في كتابه " الإرشاد " (¬2): أن بعض القدرية قالوا (¬3): لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية -إلى قوله- وهذا تمويهٌ من هؤلاء الجهلة ومباهتة ونزاعٌ (¬4)، فإن أهل الحق يفوِّضون أمورهم إلى الله تعالى، ويضيفون القدر إلى الله تعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومدَّعي الشيء لنفسه، ومضيفه إليها أولى أن يُنسَبَ (¬5) إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه. انتهى. وكذلك ذكر ابن بطال أن مذهب أهل السنة أن القدر هو علم الله وغيبه ¬
الذي استأثر به. ذكره في شرح الباب الثالث من أبواب القدر من " صحيح البخاري ". وقد كثر إطلاق بعض أهل الحديث والأشعرية القدري على المعتزلي مع أن المعتزلة تُثبت علم الله السابق وكتابته حتى توهم ابن السيد البَطَلْيَوْسي في " شرح سقط الزّند " من شعر المعري ينكر كون الله تعالى يعلم الغيب. وسببُ وهمه في ذلك ما رآه من تسميتهم قدرية مع اعتقاده أن القدرية تنكر علم الغيب. وسبب تجاسرهم على تسميه المعتزلي بذلك خلاف المعتزلة في مسألتين: إحداهما: مسألة الإرادة، فإنهم يقولون: إن الله تعالى يريد وقوع الطاعات من جميع العُصاة، ويجب عليهم اللطف بهم، ولكن ليس في معلومه تعالى ولا في مقدوره لهم، ولو كان في معلومه، لكان في مقدوره، ولو كان في مقدوره ولم يفعله، كان مُخِلاًّ بما يجب عليه، وقد تقدم الرد عليهم في ذلك في الكلام على الإرادة. المسألة الثانية: الإضلال، وهو إضلالٌ وسلبُ اختيار، فإنهم يمنعون جوازه من الله تعالى ويقبحونه، والسمع ورد بجوازه عقوبةً على العاصي، كقوله تعالى: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26]، وقوله: {فَسَنُيسِّرُه للعُسْرَى} [الليل: 10]، وقوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] إلى ما لا يُحصى كثرة. وبيان عدم الموجب لتاويله والقاطع لِلَّجَاج أنا إن فسرنا القدر بالعلم ولوازمه فالقدرية المذمومة من نفاه وإن فسر القدر بالجبر (¬1)، فالقدري المذموم من أثبته، لكن التفسير الأول هو المعروف بدليل قوله تعالى: {كان على ربِّكَ حَتْماً مَقْضِياً} [مريم: 71] وقد تقدم بيانه. ¬
الفائدة الرابعة: فيما بينه الله تعالى من حكمه التي لا تحصى في تقدير الشرور
الفائدة الرابعة: فيما بَيَّنَهُ الله تعالى من حِكَمِهِ التي لا تُحصى في تقدير الشرور، والاقتصار على ما جاء من ذلك عن الله تعالى، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون التعدي إلى ما وراءه لقوله تعالى: {وما كان الله لِيُطلِعَكُم على الغَيْبِ} [آل عمران: 179]، وقوله تعالى: {فلا تَضرِبُوا لله الأمثالَ إنَّ الله يعلمُ وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] وما أنفعها لمن عقلها {وما يَعْقِلُها إلاَّ العَالِمون} [العنكبوت: 43] ولقوله تعالى: {ولا يُحِيطون بشيءٍ من عِلمِهِ إلا بما شاء} [البقرة: 255] مع قوله: {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ الله} [آل عمران: 7]. وقد ذمَّ مبتغي تأويله في أُمِّ الآيات المحكمات حيث قال سبحانه: {ابتِغَاء الفِتنةِ وابْتِغاءَ تأويلِه} [آل عمران: 7] قالوا: المتشابه خطابٌ لنا من حكيم فيجب أن نفهمه. قلت: المقدمة الأولى -وهي الصغرى- ممنوعة (¬1)، لأن كونه خطاباً لنا لا يُدْرَكُ بالعقل، ولا يثبُتُ بالنص، وأولى من ذلك أن نقول: المتشابه لا طريق لنا إلى فهمه كالفواتح، فوجب أن لا يكون خطاباً لنا من الحكيم، والصغرى ضروريةٌ وجدانية مع اعتبار الأدلة الصحيحة على دعوى التفسير، والكبرى اتفاقيةٌ بيننا وبين الخصوم، فوضح الحق ولله الحمد على أن ذم الله تعالى لمبتغي (¬2) التأويل يكفي حجةً. وكذلك قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] فرأسُ العلم والرسوخ فيه معرفة العجز عن تعدِّي ما بيَّنه الله تعالى في مثل هذه المتشابهات، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة الراسخين: هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السُّدَد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا ¬
تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: {آمَنَّا به كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنا} [آل عمران: 7]. فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل (¬1) ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمُّق فيما لم يُكلِّفهم منه رسوخاً، وتقدم إسناده. اعلم: أنه قد اشتد حِرص الخلق على ذلك وخوضهم فيه، وذلك لدقته وغموضه كما قيل: أحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعَا (¬2). واعلم أن الله سبحانه لو أراد إطلاعهم عليه، لنصَّ على ذلك، أو ساق أفهامهم إليه من غير نصَّ إليه على أسهل أمرٍ كما قيل: إذا الله سَنَّى حَلَّ عَقْدٍ تَيَسَّرا (¬3) ¬
وإذا أراد الله تعالى منع أسهل الأمور، تعذَّر على جميع القادرين كما صرف اليهود عن معارضة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمنّي الموت بعد قوله تعالى: {ولَنْ يَتَمَّنَوهُ أبداً} [البقرة: 95] وكما صرف الله المنافقين عن معارضته عليه الصلاة والسلام بالمتابعة بعد قوله: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعونَا كَذلِكُم قال الله مِنْ قَبلُ} [الفتح: 15]. ولله تعالى حكمةٌ بالغةٌ في منع كثيرٍ من المعارف كما نصَّ على ذلك في منع معرفة الخلق لوقت يوم القيامة حتى قال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]. وكما حجب الغيوب عن الخلق، قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]. وفي قوله تعالى للحواريِّين: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] إشارةٌ إلى أن زيادة البيان قد تكون سبباً في زيادة العذاب، فيكون مصلحة في طيِّ كثير من العلوم وإليه الإشارة بقوله عز وجل: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. وفي سبب نزولها في ذلك حديثان عن جابر وابن عباس، وإسناد كل منهما رجاله رجال الصحيح. ذكرهما الهيثمي في تفسير هود والإسراء (¬1). ¬
ويُشْبِهُ هذا الباب من بعض الوجوه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102]. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9]. وأوضح من هذا المعنى قوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. وقد بيَّن الله تعالى حُكْمَ من منعه من الإيمان بالحكمة جهلُه الذي توهمه علماً بعدم الحكمة، فقال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 83 - 85]. بل أخبر الله تعالى بامتناع موافقة الحق لأهوائهم حيث قال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71]. وفي " الصحيحين " من طريق ابن عباس: "أن الخَضِرَ قال لموسى عليهما السلام: يا موسى إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلَمَهُ، وإن (¬1) لك علماً لا ينبغي ¬
أن أعْلَمَه" (¬1). وهي دليلٌ أن جهل بعض العلوم أنفعُ. وقد خرج البخاري حديث عُبادة في ليلة القدر، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنِّي أردتُ أن أخبركم بها، فتلاحى رجلان، فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم " (¬2). وأصرحُ من هذا قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]. وبيانُ ما ذكره سبحانه في الآية الأولى ضروري، وذلك أن خلقه مختلفون أشدَّ الاختلاف في الاستحسان والاستقباح كما قال بعضهم: والذي أنت له مُستَحْسِنٌ ... ما على استقباحه عندي مَزيدُ حتى قَضَتْ معتزلة بغداد بوجوب الأصلح على الله لأهل النار، وقضوا بوجوب تخليد العصاة في النار، وهم من المعجبين برأيهم، فكيف يمكن هذا مع موافقة الحق للخلق. فثبت أن الحِكمة كما تقتضي بيان بعض العلوم، فقد تقتضي لَبْسَ بعضها، فكيف يطمع الذي لا يَمْلِكُ من العلم إلاَّ ما وهبه الله تعالى له في معرفة ما أراد الله تعالى لَبْسَه عليه، ولا سيما في معرفة تأويل المتشابه الذي ذمَّ الله تعالى من ابتغاه، وجعل طلبه من علامات الذين في قلوبهم زَيغٌ، وقرنه بابتغاء الفتنة، وقَصَرَ معرفته على الله تعالى، ولو كان الراسخون يعلمون، ما ذُمَّ من ابتغاهُ منهم، ولكان ذلك من جُملة طلب العلم، ووردت (¬3) النصوص بالحث عليه. ¬
وإنما ذمَّ من ابتغى تأويل المتشابه لِتعاطيه علم ما لم يُعْلَم، وما أنصف من تأوَّل هذه الآية، وجعلها من المتشابهات وهي أُمُّ المحكمات، وخالف قول أمير المؤمنين، وإمام الراسخين فهذه سنة الله عزَّ وجلَّ في لَبْسِ بعض العلوم على خلقه لحكمةٍ بالغة، فاصبر لها {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] كما قال عز وجل. ومما قلتُ في ذلك: وسارَ كليمُ الله والخضر والرِّضا ... يُبَيِّنُ أن المُحْكَمات السرائرُ وأن جميع الراسخين مُقَصِّرٌ ... عن السِّرِّ حَدُّ الراسخين الظواهِرُ ومن قولي في ذلك أيضاً: وسار ابن عمرانٍ مع الخَضْر إذْ جَنى ... له مَنْعُهُ عِلمَ الغرائب جُوعُ دليلٌ لِصَون السِّرِّ عن مِثلِهِ فما ... عليه لعلم الراسخين وقوعُ ومَنْ مِثلُه فَليَخْسَأِ الحكماء عن ... حِمَىً هو عن مثل الكليم مَنيعُ ومن قولي فيه أيضاً في آخر الإجادة (¬1) في الإرادة: وذا كُلُّه عِلم الظواهر غير ما ... طَوَى سِرَّ غيب الحكمة المتكاتِم فذلك مِنْ سِرِّ الإله وسِرُّهُ ... تَرَفَّعَ قَدْراً عن وِصالِ المكالِمِ فَعَزَّ جميع الراسخين عن الشّفا ... عزاء جميلاً للنفوس الهوائم فهذا مرامٌ شطَّ مَرْمَى العقول في ... مَداهُ فما في سُبْلِه غيرُ نادِمِ ومن قولي في ذلك أيضاً: رجائي له أضعافُ خَوْفي لأنَّهُ ... يُبَيِّنُ لي والحق حقٌّ دليله يبين (¬2) لي أحكامه وخصوصهُ ... ولم يشتبه معقوله ومقوله ¬
ولولا يكون العفو والجود محكماً ... ونعتُ الكمال مستحيلٌ بديله ودلَّ عليه نعتُه (¬1) وصفاتُه ... وأسماؤه الحسنى ودلَّتْ عدوله ودلَّ (¬2) عليه حكمة وتواترت ... شرائعه فينا به ونُقُولُه وهذا إلى ما ليس يُحصى إشارةً ... يُبَيِّنُها تفصيله وفصوله ولكنَّ منه ما أُسِرَّ حديثهُ ... فَدَقَّ على من لم يسر جليله وألطف منهم ما طوى الغيب علمهُ ... فعزَّ على أهل الخُصوص حُصُولُه وفي كَتْمِهِ تأويله من كليمه ... دواءٌ لمن أعْيَى الأُساة سبيله فبُشراي بعد اليأس وهو حظيةٌ ... بوجدان ما كان العَذُول يُحيله وهذه مقدمةٌ تخضع لها النفوس المدعية للذكاء إن بقي فيها (¬3) التفاتٌ إلى شيء من الأدب والحياء، وبعدها نسرد ما بيَّنه الله تعالى من ذلك، وأنزله سبحانه على قدر علمنا لا على قدر علمه الذي لا يمكن تصوُّر البشر له إلاَّ بالإيمان بمثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27]. وقد أجاد البوني حيث قال: إن نسبة علم الخلق إلى علم الحق مثل نسبة لا شيء إلى ما لا نهاية له. واعلم أن القدر السابق أقسام: فمنه: ما لا يصح أن يُعَلَّل، وهو علم الله السابق، لأنه من صفات الله الواجبة، وعَدَمُهُ محالٌ على الله تعالى، فلا يقال: لِمَ سبق في علمه. ومنه: ما هو تَبَعٌ للعلم، ولا أثر لمجرده في العمل كالكتابة والإعلام ¬
بذلك، وإيجاب الإيمان به، والحثِّ على استحضاره في القلب، وقد نص الله على الحكمة في ذلك في أمورٍ نذكرها ولا نحتم حكمة الله فيها ونقصرها، لجواز تعدُّد الحكم، وورود السمع بتعدده في غير آيةٍ، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46]. وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]. فأولها التَّسَلِّي بذلك في المصائب، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23]. وردَّ الله على المنافقين في قولهم في إخوانهم: {لَوْ كانُوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا} [آل عمران: 156] بقوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156]. وقال تعالى في ذم من لم يؤمن بذلك: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168]. وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]. فدلت الآيات على تعليل هذا التقدير بتسلي المؤمنين بتسليم الأمر لله.
وخرَّج أحمد حديث عبادة " أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله " قال: أريد أهون من ذلك، قال: " السماحة والصبر " قال: أريد أهون من ذلك، قال: " لا تَتَّهِم الله تبارك وتعالى في شيءٍ قضى لك " (¬1). وتقدم له شواهد في مرتبة الدواعي، ومرتبة الأقدار وأحاديث الرضا بالقضاء، خصوصاً بما قضاه الله تعالى للمؤمن. وثانيها: التوكل على الله تعالى، والاستعانة به كما علمنا سبحانه أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقال: {وإليهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] وقال: {إنَّ الأمْرَ كُلَّه لله} [آل عمران: 154]. ولا شك أن التوكل على الله مع اعتقاد نفوذ الأقدار وجُفوف الأقلام إنما (¬2) يكون أقوى، ولذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول: " لو" وقال: " إنها تفتح عمل الشيطان " وأمر أن يقال: " قدر الله وما شاء الله فعل " (¬3). ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدير ثبوته وصحته واعتقاده مُصاحباً للوصية بالتوكُّل كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيء لم يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّتِ الصحف " (¬4). وثالثها: عدم العجب بالعمل لجهل الخواتم، وذلك هو السِّرُّ في حديث ¬
ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق وقد تقدم (¬1). وليس السر فيه التزهيد في العمل كما يظنه المُخَذلون (¬2) أمر الله بالعمل مع القدر كما تقدم في الفائدة في العدل. وأما سر التزهيد في الثقة بالعمل، والعجب به، والتيه على الخلق ونحو ذلك من المفاسد، وما طواه الله عنا أكثر، ولذلك أطلق التجهيل لنا في كثير من الآيات من غير استثناء، كقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]. واستثنى القليل في بعضها، فقال: {وما أُوتيتُم من العِلمِ إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85]. وقد تقدم في المرتبة الثالثة في ذكر الدواعي كلامٌ نفيسٌ جداً في بعض ما أشار الله تعالى إليه من الحِكَم والمصالح في خلق العُصاة، وأسباب المعاصي، وكذلك في مسألة الإرادة، فخُذْهُ من هنالك. ومن ذلك تقديرُ الأمراض والهموم وسائر الشرور المنقطعة، والأحاديث طافحةٌ بتعليل ذلك وذكر ما فيه من الأعواض والخيرات والاعتبار والتذكير، وقد نبَّه الله سبحانه على ذلك بقوله: {وعَسَى أن تَكرَهوا شيئاً وهو خَيرٌ لكم} [البقرة: 216]. وفي الآية إشارةٌ إلى قول أهل العقليات: إنه ليس في مخلوقات الله تعالى ما هو شر من كل وجه، وبالنسبة إلى كل أمر، وما من شر من وجه أو وجوه الا وهو خيرٌ من وجهٍ أو وجوه وإن جَهِلَها الخلق، وهو معنى قوله: إن الحكيم لا يريد الشر للشر، وإنما يريده لخيرٍ هو تأويله كما دلَّ ذلك تأويل الخَضِر لما فعله. ¬
ولذلك سوَّى الله تعالى بين الشرِّ والخير في قوله سبحانه: {ونَبلُوكُم بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتنةً وإلينا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وقوله تعالى: {وبَلَونَاهُم بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ لَعلَّهُم يَرجِعُون} [الأعراف: 168]. واعتقادُ هذا يكفي المسلم، وقد تعرَّض أهل الكلام لتبيين وجه الحكمة في كل ذلك، وتلخيص وجه التحسين على حسب اختلاف فِطَنِهِمْ وعقولهم، وضربوا فيه أمثالاً مختلفةً، ونقض بعضهم على بعض، ولا حاجة إلى ذكر ذلك لما فيه من مخالفة (¬1) ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح، وقال الله تعالى: {فلا تَضْربوا لله الأمثال إن الله يَعْلَمُ وأنتُم لا تعلمون} [النحل: 74] وإنما نتكلَّم بجليات المعقول، وصحيحات المنقول دون المواقف والمحارات. ومما ورد التعليل به في الأمراض ونحوها الابتلاء مثل ما تقدم من قوله تعالى: {ونَبْلُوكُم بالشَّرِّ والخَيرِ فِتنةً} [الأنبياء: 35]، وقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]. والأحاديث متواترةٌ وثبوت الأجر بالآلام، وفي تكفير الذنوب بها أيضاً، والقرآن مصرِّحٌ بتعليلها للاعتبار، وقد جاء في ذلك الحديث المشهور في خلق ذُرِّيَّةِ آدم إخراجهم من ظهره، وفيه أن آدم لما رأى فيهم الغني والفقير، والصحيح والأليم، قال: يا ربّ هلاَّ (¬2) سوَّيْتَ بين ذُريتي، قال تعالى: " فعلتُ ذلك لتشكر نعمتي " أو كما قال (¬3). ذكره ابن كثير من طُرُقٍ في خلق آدم، أول الجزء الأول من " البداية والنهاية " (¬4). ¬
وذكر صاحب " شرح جمع الجوامع " للسبكي، عن الجنيد أنه قال: كلمت يوماً رجلاً من القدرية، فلما كان الليل رأيت في النوم كأن قائلاً يقول: ما ينكر هؤلاء القوم أن يكون الله قبل خلقه للخلق، علم أنه لو خلق الخلق، ثم مَكَّنَهم من أمورهم، ثم رد الاختيار إليهم، للَزِمَ كل امرىءٍ منهم بعد أن خلقهم ما عَلِمَ أنهم له مُختارون (¬1). وأما قول بعض المتكلمين: إن الجزاء لا يُسمَّى ثواباً، ولا يُكَفِّر ذنباً، فخلافٌ للسمع من غير قاطع عقلي، وليس هذا موضع التطويل ببَسْطِ ذلك. قالوا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]. قلنا: عمومٌ مخصوصٌ بالنصوص وبنحو {وأثقالاً مَعَ أثقالِهم} [العنكبوت: 13]، والوجه أن سياق العموم لنفي الظلم، وسياق الخصوص لذلك بعينه، فكان له عاضداً لا ناقضاً، وكان كالحكم في الدنيا بحقن الدماء وتحريم الأموال إلاَّ بحقها. قالوا: {وأنْ لَيْس لِلإنسانِ إلاَّ ما سَعى} [النجم: 39]. قلنا: عمومٌ مخصوص بالأجر على الألم المتفق عليه عند الخصوم، ووجهه أنه المراد ليس له ما تمنى وتحكم إلاَّ ما استحق إلاَّ ما شاء الله أن يتفضل عليه به لقوله تعالى: {ويَزيدُهُم مِنْ فَضلِهِ} [النساء: 173]. قالوا: لا يصح استحقاق تعظيم الغير. قلنا: هو كالصفة للمنافع ولا يستحق منفرداً، سلمنا ولا مانع من استحقاق المنافع دون هذه الصفة، وتسميتها ثواباً، لأنها جزاء، والتعظيم جزاءٌ، وكُلُّ واحد منهما ثواب. ¬
قالوا: الثواب دائم. قلنا: الدوام صفةٌ كالتعظيم، فإذا استحقَّت المنافع، بطل دوامها كالثواب المحبط، ويستحيل بقاء الصفة مع بطلان الموصوف، ويجوز أن يتفضل الرب بدوام العوض، ألا ترى أن المجاهد إذا استحق شيئاً من الغنائم على جهة التعظيم مجازاة، ووجب أن يقضي منه ديونه. وأيضاً: فكل أمرهم مبنيٌّ على وجوب الثواب عقلاً، وقد مر إبطاله، ولكنه يجب في حكمة الله لوجوب (¬1) صدقه، وما يتعلق بغير المكلفين يكون القِصاص فيه بالأعواض أو بما يُهيئه لشكره (¬2) وجب الحق عليه. ويلزم المعتزلة الأمان من العذاب بسبب ظلم العباد، وقتلهم، لأنهم أوجبوا على الله أن لا يُميت الظالم إلاَّ بعد أن يكون له من الأجر ما يوفي جميع المظلومين، وهذا خلاف المعلوم. ومن ذلك قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]. وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]. وقوله سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. ¬
فهذا تعليلٌ انتظم حكمتين: العقوبة والتذكير، كما صح في الحدود أنها تنتظم حكمتين: العقوبة والتكفير (¬1)، فقد سمَّاها الله عذاباً ونَكالاً، وصح أنها مكفراتٌ، وذلك من فضل الله تعالى. ومن ذلك ما يكون عقوبة نص على انتظام التذكير والتكفير إليه بالنظر إلى فاعله إن كان في عقوبته تذكيرٌ لغيره، كقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66]. وكقوله تعالى: {وَوَقَع القولُ عليهم بما ظلموا} [النمل: 85]. وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10]. وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]. وقال: {وَلَوْلَا دِفاعُ (¬2) اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251]. وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165]. وقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ¬
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142]. ومن ذلك: الحكمة في المتشابه، وقال الله سبحانه في جواب من سأل عنها: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. ونحوها قوله تعالى: {وما جَعَلْنا أصحابَ النَّارِ إلاَّ ملائكَةً} الآية [المدثر: 31]. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54]. وقال في بعض حكمته في التكليف: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73]. وقد دل السمع على أن إرادة الله وقوع بعض الاعتقادات غير المطابقة لحكمة ومصلحة، كقوله تعالى: {إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43]. فيجوزُ في بعض المتشابه مثله، وقد يرد بما ظاهره في أفهام الجاهلين باطلٌ، والدليل على تأويله عند العلماء قائمٌ، ومتى ورد عليهم لم يشُكُّوا فيه، وذلك، كقوله لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فإنه لما ورد على عالم أن الله يعلم الغيب {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] وهذا شرط حسن للمجاز عند علماء البيان أن يرد على عالمٍ بامتناعِ ظاهره كما مرَّ في موضعه. ومن ذلك خلقٌ من المعلوم إنه يعصي، فيُعفى عنه بتوبةٍ أو شفاعةٍ أو رحمةٍ، وإن ناله بعض ما يستحقه من العقوبة، ففي " صحيح مسلم " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو لم تُذْنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيَغْفِرُ لهُم ". وفي حديثٍ فيه أيضاً: "يُذنِبُون كَيْ يَغفِرَ لَهُمْ". وفي " مسند أحمد ": "يذنبون فيَغفرُ لهم". رواه مسلم في " الصحيح " من حديث أبي هُريرة، وأبي أيوب. وفي الباب عن أنسٍ، وابن عباس، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو بن العاص (¬1)، ولذلك طُرقٌ كثيرة، وشواهد قويةٌ، تقدم ما عرفت منها في مسألة المشيئة. ¬
وعن جابرٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لَمَّا عُرِجَ بإبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، رأى رَجُلاً يَفْجُرُ بامرأةٍ فدعا عليه، فأُهْلِكَ، ثم رأى رَجُلاً على معصيةٍ، فدعا عليه، فأوحى الله إليه: إنه عبدي وإنَّ قَصْرَه مني، إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يستغفرني فأغفر له، وإما أن يخرُجَ من صُلبِهِ من يعبُدُني، يا إبراهيم أما علمت أن من أسمائي أني أنا الصبور ". رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عليٌّ بن أبي علي اللَّهَبي، قال أحمد: له مناكير (¬1)، قلت: لكنه صحيح المعنى بشواهده. وقال شيخ الإسلام في كتابه " منازل السائرين " (¬2): إنما يُخَلِّي الله تعالى بين العبد وبين الذنب لأمرين: أحدهما: أن يعرف عزَّته في قضائه، وبرَّه في ستره عليه، وحلمه في إمهال راكبه وفضله في مغفرته له، وكرمه في قبول العذر عنه. وثانيهما: ليِعلَمَ طالبُ البصيرة الصادقة أن سيئته لم تُبْقِ له حسنةً بحالٍ، فيصير بين مشاهدة الحكم والمِنَّة، فيُقيم عليه حجة عدله، ويعاقبه بذنبه. وإنما ذكرت كلام شيخ الإسلام هنا، وليس من شرط ما أنا فيه أن أُورد إلا ما هو حُجةٌ من كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه رحمه الله أحسن العبارة والترجمة عن كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبعد ما فيها. ومن ذلك خلقٌ من المعلوم أنه يصير إلى النار من الكفار، وقد تباينت (¬3) مذاهب المتكلمين في ذلك، وفي ذكر مقالاتهم وحججهم ومناقضاتهم شناعاتٌ يفرح بذكرها أعداء الإسلام، فلنتقصر على ذكر ما يناسب السمع قرآناً وسنة. ولا شك أن هذه المسألة أمُّ (¬4) المتشابهات، وأنه لا يعلم تأويل المتشابه ¬
إلا الله تعالى، وهذا يستلزمُ بالقطع امتناع الخوض في ذلك حتى يعلم التأويل، وهذا أصح ما يجاب به في هذه المسألة العظمى ولله الحمدُ. وقد نص الله سبحانه على أنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه سواه، فقال سبحانه للملائكة حين قالوا: {أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ} [البقرة: 30]: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]. وهذا كافٍ لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيدٌ، فلا أعلم من الملائكة ولا أقرب إلى الله سبحانه. على أنه سبحانه قد ذكر في كتابه الكريم بعض حكمته في ذلك. فمن ذلك: التعليل بالابتلاء، لقوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} إلى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:47 - 48]. وقال تعالى: {لِيَبلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَملاً} [الملك: 2]. ومعنى الابتلاء: هو فعل سببٍ لظهور المعلوم عند الله لتعلق الأحكام بظهوره، لا فعل سببٍ ليحصل معه العلم به. فإن قيل: هذا واضح، ولكن الابتلاء من المتشابه المحتاج إلى التعليل أيضاً. فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى -وإن حذف المفعول الثاني من مفعولي الابتلاء المضمَّن معنى العلم- فإنه لم يبينه في قوله تعالى: {لِيَبلُوكُم أيُّكُم أحْسَنُ
عملاً} [الملك: 2] وذلك يقتضي أن المقصود الأول من خلق جميع المكلفين العصاة والمطيعين لو علموا أنه لا يخلق من يستحق العقاب كانت مفسدةً عظيمةً لبطلان الخوف والرجاء كما أن الله لو بسط الرزق لكانت مفسدة، ولو جعل الأنبياء ملائكة، لكانت مفسدةً. وقد مر تحقيق ذلك في الدواعي، وبعضه في الإرادة في أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وهو مذهب البغدادية. ويعضده الوجه الآخر الذي مر في تفسيره أيضاً، وهو إنه يوجد من مكلَّفٍ حتى الكفار نوعٌ من العبادة ولو كَرْهاً في النشأة الأولى والمعرفة لله ولو في الآخرة على ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. ولذلك فسَّر ابن عباسٍ {إلاَّ لِيَعْبُدونِ}: ليعرفوني (¬1). وروي عن داود أنه قال: يا رب لِمَ خلقت الخلق؟ " قال: " كنتُ كنزاً مخفيّاً فخَلَقْتُ الخلقَ لأُعرَفَ " (¬2). ¬
فصل: ومن ذلك تقدير الشر الدائم الذي لا ينقطع مثل عذاب النار
وثانيهما: أن ذلك لم يصح، فقد بينا أن المختار أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلاَّ الله، وإنما شرطنا أن نذكر العلل المنصوصة سمعاً، والجلية عقلاً. فصل: ومن ذلك تقديرُ الشر الدائم الذي لا ينقطع مثل عذاب النار والخلود فيها -نعوذ بالله ورحمته التي وَسِعَتْ كل شيء من ذلك- وها هنا اشتد الاضطراب، وتفاقم الخَطْبُ على النُّظَّار، وتَبَلَّدَ الأذكياء منهم، وتفرقوا أيادي سَبَا (¬1)، ونقضوا قواعدهم، وخالفوا معارفهم، وكاد كثيرٌ منهم يلحق بأهل التجاهل إلاَّ من عصمه الله تعالى بحسن الإسلام، وقوة اليقين، وعدم التهمة لأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين. فأما كلام الفلاسفة والزنادقة في ذلك، فهم فيه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ ¬
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج: 8 - 10]. وإنما نورد هنا كلام من أقر بالتوحيد، وسعى في التصديق بكلام الحميد المجيد. واعلم أن اضطرابهم في ذلك مبني على الغفلة عن قاعدتين عظيمتين. إحداهما: أن الله تعالى يعلم من كل نوع من أنواع المعلومات ما لا نعلمه، ومن أعظم تلك الأنواع وأجلِّها قدراً، وأدقِّها سراً، وألطفها نوع المعلومات من الحكم والمصالح والغايات الحميدة، بل متى فتح الله على بعض عباده من ذلك مثل سمِّ الخياط، أو وهب له منه قطرةً من بحار لم يستطع أحدٌ من الخلق الاطلاع على مكنون حكمته، ولا وسعت الطباع البشرية الصبر على التسليم لفضل معرفته، وكفى في ذلك عبرةً بقصة الخَضِر والكليم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، فإنها تكُفُّ كفَّ الاعتراض على الأعلم في باب المصالح والحكم. ومن لم يُسَلِّمْ هذه القاعدة، يلزمه مساواة الخالق والمخلوق في معرفة المصالح وجميع دقائق الحكمة، وكيف يستوي ربُّ الأرباب والمخلوق من التراب. وما أحسن ما قاله الفخر الرازي: العلمُ للرحمن جلَّ جلاله ... وسِواه في جَهَلاتهِ يَتَغمْغَمُ ما للتراب وللعلوم وإنما ... يَسْعَى لِيَعْلَمَ أنَّه لا يعلمُ وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى ... وسافَرْتُ واستبقيتُهم في المفاوزِ وخُضْتُ بِحاراً ليس يُدْرَكُ قَعْرُها ... وسيَّرْتُ نفسي في فَسيح المَفاوِزِ
ولَجَّجْتُ في الأفكار ثم تراجع اخـ ... ـتياري إلى استحسان دين العجائزِ (¬1) وقال ابن أبي الحديد المعتزلي (¬2): طلبتك جاهداً خمسين عاماً ... فلم أحصل على برد اليقينِ نوى قَذَفٍ وكمْ قد مات قَبْلِي ... بِحَسْرَتِهِ عليك من القرونِ فهل بعد المماتِ بك اتِّصالٌ ... فأعلَمَ غامِضَ السِّرِّ المَصونِ وأنشد الشهرستاني: وقد طُفْتُ في تِلك المعاهد كُلِّها ... وسَيَّرْتُ طَرْفي بين تلك المعالمِ فلم أر إلاَّ واضِعاً كفَّ حائِرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادِمِ (¬3) وكل هؤلاء من أمراء المعقول وفرسان المشكلات (¬4)، وقبلهم سألت عن ذلك ملائكة السماوات، كما جاء ذلك في محكم الآيات، وذلك من أعظم الحجج البينات. ومما قلت في ذلك: أقِلُّوا (¬5) الجدال فما عندكم ... جميعاً من العلم إلاَّ القليلْ وفي قصة الخَضِر المُرتَضى ... وموسى اعتبارٌ عَرِيضٌ طويلْ وفيها لأهل النُّهى والرُّسوخ ... من العارفين عَزاءٌ جَميلْ ¬
وإنَّ سؤال الخليل العِيانْ ... لِكَيْ يَطمَئِنَّ على ذا دَليلْ فمن يعلم السِّرَّ بعد الكَليم ... ومَنْ لا يُوسوِسُ بعد الخليلْ وقد أورد بعضُ المتأخرين من أتباع المعتزلة هنا إشكالاً وتقدم في الدليل الأول في المرتبة الثانية في مسألة المشيئة، وتقدم جوابه من ثمانية أوجه، فليُطالَعْ مِنْ هُنالك. القاعدة الثانية: وهي المعتمدة أن هذه المسألة من المتشابه الذي أخبر الله جَلَّ جلاله أنه لا يعلم تأويله إلاَّ هو، وذم المبتغين لتأويله وقرنهم بمبتغي (¬1) الفتنة كما تقدم تقريره، وأنه قول علي بن أبي طالبٍ رضوان الله عليه. وقد أوردت الكلام على تفسير هذه الآية بالأدلة في مؤلَّفٍ لطيف مُجَوَّدٍ، فليطالَع، والحمد لله. وهذه المسألة هي أمُّ المتشابهات، وأغمض الخفيات، ومحارة علماء المعقولات والمنقولات، فكيف يتعرض جميع المكلفين والمتكلفين لمعرفة سِرِّه المكنون في تأويلها، وغيبه المحجوب في تفاصيلها، فلا يتعرض لمعرفتها حكيمٌ بعد قوله تعالى: {ولا تُسأَلُ عَنْ أصحابِ الجَحيمِ} [البقرة: 119]. وما هو إلاَّ كما قال ابن الجوزي (¬2) رحمه الله: بحر لا يتمكن منه غائص، ليل لا يَبِصُّ للعين فيه كوكبٌ. مَرَامٌ شَطَّ مَرْمَى العقل فيه ... فدُونَ مَداهُ بِيدٌ لا تَبِيدُ خَرِسَتْ في حظيرة القدس مَقولة لِم، وعَشِيَتْ لجلال العِزِّ عين الفكر، فأقدام الطلب واقفةٌ على جمر التسليم. ¬
وقد تقدم القولُ في أن كل ما أراد الله طيَّه من الحكم والأسرار لم يتم لأحد الاطلاع عليه، وكان الجهل به من جملة قيد الله السابق، وأمره النافذ على رغم الخلائق، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ومن الناس من يسعى فيما لا ينفعه، بل فيما يضره من العلوم والأعمال كما قال تعالى: {ويتعلمون ما يَضُرُّهم ولا يَنفَعُهُم} [البقرة: 102]. وهذه المسألة هي التي ألجأت غلاة الأشعرية إلى القول بنفي الحكمة، وسيأتي في الكلام على مسألة الأطفال إيضاح بطلان قولهم بالضرورتين العقلية والشرعية، والمبالغة في إبطال قوله، وهي التي ألجأت ابن تيمية وأسلافه وأتباعه إلى القول بفناء النار (¬1) والتأليف في ذلك. وأشار الغزالي إلى نُصرة قولهم في " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى " في شرح الرحمن الرحيم، وجوّد الاحتجاج لهم في ذلك، وفي بعض مباحثه في ذلك نظر ليس هذا موضع ذكره. والأولى بالسني الوقوف على ما وقف الله عليه ملائكته الكرام حيث أجاب علبهم أنه يعلم ما لا يعلمون، وترك التكلف فيما لم يؤمر به، والتأدب بمثل قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ} [الإسراء: 36]، والحذر من الشذوذ عن الجماعة، والنفرة من كل بدعة وشناعة، فإن نازعته النفس، فليتنبه على ¬
فائدة عظمى تُشَدُّ إلى معرفتها الرِّحَال ولا يعرف قدرها إلاَّ أذكياء الرجال من فُرسان هذا المجال، وهي أن من طبع النفس إنكار ما لا تعرفه، والنُّبوَّ عما لا تألفه، ولا يَفطِمُها عن هذه الضرورية الطبيعية إلاَّ معارضتها بمثلها في الضرورة، لأن القوي لا يُعارَضُ بما هو دونه في القوة فلذلك لا يُعارَضُ الضروري بالاستدلالي القطعي، والقطعي بالظني، فمن أراد كسر قوة هذه الطبيعة، فذلك بالإكثار من أمرين: أحدهما: أن يستحضر على الإنصاف الفكر إنه قد وقع ما لا تَعْرِفُه نفسه، ولا تألَفُهُ بالضرورة العقلية، والوقوع فرع الصحة، فكيف تشُكُّ لأجل ذلك فيما جاء به الشرع مما لا تعرفه ولا تألفه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {أم خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أمْ هُمُ الخالقونَ} [الطور: 35] وأمثالها في كتاب الله تعالى. ومن ذلك: إثبات القِدَم، ولا بُدَّ منه، فمن لم يثبت القِدَمَ للرب سبحانه من الفلاسفة أثبت القِدَم للعالم، ولو قدرنا وجود من ينفي القدم، ويساعد النفس إلى استنكاره أمران: أحدهما: القول بثبوت معنى القدم وما لا نهاية له للأمور المعقولة مما لا وجود له مثل الجهات الست، فإنه لا نهاية له ضرورة، لأن تصور طرف لا جهة بعده ولا فراغ محال. وكذلك يلزم ثبوت صفة (¬1) القدم للعدم لا يقال: يصح ذلك، لأنها أمورٌ غيرُ حقيقية، لأن العقل إنما امتنع من تصور قِدَمِ الأمر الحقيقي، لكون القدمِ لا نهاية له، لا لكونه صفة أمر حقيقي. وثانيهما: القول بحدوث هذا العالم، وخروجه من العدم لغير موجب، وهذا محالٌ في ضرورة العقل، فثبت أنه يلزم ما هو محالٌ أو محارة، فالمحال ¬
لازم من تقدير الكفر، والمحارة لازمةٌ لبعض من قصَّر علمه من أهل الإسلام، فمن لم يقل بالإسلام لوقوعه منه في محارةٍ، قال بالمحال لا محالة، ومن قال بالإسلام، صَحَتْ نفسُهُ من الوقوع في المحارة، فإن المحارة: عبارةٌ عما لا يمكن العقل تصوُّرَه مع تجويزه بالنظر إليه في نفس الأمر، وإنما هو ممتنعٌ بالنظر إلى تصوُّر العقل له، والمُحال ممتنع بالنظر إلى تصور العقل وإلى نفس الأمر، فإنما مع الإصغاء إلى التشكيك غاية الإصغاء يَجِدُ العقل يجزم حينئذٍ بإمكان المحارة، وامتناع المحال. ومن لم يميز بينهما، كابن عربيٍّ الصُّوفي، جوَّز المُحالاتِ كلها، وإلى ذلك أشار بقوله (¬1): صورة الكونِ مُحالٌ ... وهي حَقٌّ في الحقيقةِ وهي سَفسَطَةٌ محضةٌ ومعها لا يصح له قوله: وهي حق في الحقيقة، فتأمل. ولا يندفع مثل هذا إلاَّ بوجدان بطلانه بالضرورة التي لا اختيار في كسبها، فالمريب في الإسلام وما جاء به بسبب ذلك كالمستجير من الرَّمضاء بالنار، لا بل كالمستبدل الظُّلَمَات بالنور، وبالظِّلِّ الحرور. وإذا كان لا بد من وقوع الكفار في المُحالات، وبعض المسلمين في المحارات في باب مدارك العقول التي لا خلاف أن العقول تعرفها، فكيف باب التحسين والتقبيح الذي يَقِفُ على الوجوه والاعتبارات والأمور الإضافيات، ويتقدم الجزم فيه بالنفي والإثبات على الإحاطة بمعرفة جميع الحِكَمِ والغايات والتأويلات، وخوض العقل في هذا الباب قد أنكره جماعة جِلَّةٌ من أهل ¬
المعارف والعقليات، والخوض في اللطائف الخفيات، فهو أولى بتجويز المحارات العقلية، والتسليم للنصوص الشرعيات. وثانيهما: تخويف النفس بالوقوع في المَخُوفات الهائلة، بل عذاب الآخرة، نعوذ بالله منه، ولو أمكن إيقاعها في المخوف، كان أنفع لها، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] ولكن تخويفها يكفي عند عدم التمكن من أكثر منه، فإنها لا تؤمن بالغيب والمحارات والمستبعدات، فإنها لا تأمَنُ منها، لأنها كفارةٌ مطبوعةٌ على عدم الإيمان بشيءٍ من ذلك نفياً وإثباتاً. وهذا أوضح دليلٍ على أنها لم تستند في نفي ما لا تعرفه من المحارات إلى علم يقين، لأنه لو كان كذلك لما وجدت الخوف والتخويف، فإن المتيقن لانتفاء العذاب لا يَجِدُ عند التخويف خوفاً ولا يتشكك بالتشكيك (¬1)، فإنه لو قال لنا قائلٌ: إن العشرة أقل من الخمسة، والبعض أكثر من الكل، وشَكَّك علينا في ذلك، لم نَشُكَّ أبداً. فوجدان الشك والخوف عند التخويف مستلزمٌ للجهل ضرورةً، وإلى هذا الوجه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ أرأيتُم إنْ كان مِنْ عِندِ الله وكَفَرتُم بِه} إلى قوله: {إنَّ الله لا يَهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10]. وقوله: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47]. وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 83 - 84]. وأمرٌ ثالث يلحق بهذين الأمرين مما يُعلَمُ به ظلم ابن آدم وكَذِبُه في دعاويه ¬
أنه يُؤثِرُ هواه على ما يعلم أنه حق، كما يُؤثِرُ الإقبال على دار الفناء مع العلم الضروري الذي لا ينجي منه عملٌ، ولا تُرجى فيه شفاعةٌ، ولا تشكك فيه شبهةٌ، وما أحسن قول بعضهم: حسبي من الجهل علمي أن آخرتي ... هي المعاد (¬1) وأنِّي لا أُراعيها وأن دُنياي دارٌ لا قَرارَ بها ... ولا أزَالُ مُعَنَّى في مساعيها وهكذا النفس ما زالتْ مُعَلَّلةً ... بباطلِ العَيْشِ حتى قام ناعيها وكم من أمرٍ راجحٍ بالضرورة لا تساعد إلى المسارعة (¬2) إليه، فقِسْ على ذلك اعتذارها بالشكِّ في الاستدلاليات، فما هو إلاَّ من الخُبثِ والخداع والمَكْرِ والفساد، فنسأل الله العظيم الإعانة على هذه النفس الأمَّارة بالسُّوء إلا ما رحم الله. فهذه مذاهب السنة، وهي سبيل السلامة، وقد كنت دوَّنْتُ هنا أقاويل المتكلمين من المبتدعة وأهل السُّنَّة، وكلام ابن تيمية وأصحابه في المنع من دوام العذاب وادعاءهم أن السمع ما ورد بذلك قطعاً وأن العقل يمنع منه، وما رووا في ذلك من اختلاف السلف، وسيأتي تلويح الغزالي إلى هذا في " المقصد الأسنى " (¬3) في شرح " الرحمن الرحيم " من الأسماء الحسنى، وإنشاده ذلك: لَقَدْ أسْمَعْتَ لو (¬4) نَاديتَ حَيَّاً ... ولكن لا حَياةَ لِمن تُنادي ولكنه سمَّاه سراً، وادَّعى منع الشرع من إفشائه، وأنه يَفسُدُ بسببه كثيرٌ من الناس، وذكر ذلك في مقدمات كتابه " إحياء علوم الدين "، وفي بعض كلامه استدراكٌ عليه قد ذكرته فيما تقدم. ¬
ومنتهى إقدام الخائضين في هذه الغمرة، وأقوى ما تمسَّكوا به هو نقل كلام بعض الصحابة والتابعين وأئمة السنة في تفسير قوله عز وجل: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، وفي آيةٍ أخرى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ونحوهما. بل خصَّ بهذا الحديث جميع عموم القرآن كما يخصُّ بآيات التوبة جميع عمومات الوعيد، وكما هو القاعدة في تخصيص العُمومات، وإن كَثُرَتْ بالخصوص على جهة القطع دون التوقف، أو يجعل هذا من المتشابه، ويجب الوقف، ويرد تأويله إلى الله تعالى. فهذه ثلاثة أقوالٍ، والتقصي لتفاصيل أدلتهم ومعارضتهم تخرج عن المقصود، وتحتاج إلى تأليفٍ مستقلِّ، وذِكرُ طرفٍ منه يُثير الشكَّ، ويُمْرِضُ القلب. والحق أنه إن حصل في هذه المشكلة علمٌ ضروريٌّ من الدِّين أو إجماع المسلمين، انقطع الاضطراب، وحمل عليه مختلف السنة والكتاب، وإلا وُكلَ تفسير المتشابه إلى رب الأرباب من غير شك ولا ارتياب، والله أعلم بالصواب. وقد صنَّف ابن تيمية في نصرة مذهبه، وصنف الذهبي في الرد عليه، ولي في ذلك مباحثٌ وزياداتٌ، وانتقاد على كل منهما، ولي في ذلك قصيدةٌ مُطوَّلةٌ سميتها " الإجادة في الإرادة " وهي أكثر من ألف بيتٍ " من أولها: تَحَيَّرَ أربابُ النُّهى مالمُرادُ بالـ ... ـعُصاة من الجن وأولاد آدمِ أخيراً أراد الله بالخلق أوَّلاً ... أم الشَّرُّ مقصودٌ لأحكم حاكِمِ؟ فإن كان خيراً هل يجوز فواته (¬1) ... على قادِرٍ للذات بالغيب عالمِ وإن كان شراً هل أُريد لنفسه ... أم الخير مقصودٌ به في اللوازمِ ¬
وهل سبقُ قصد الخير بالشر يقتضي الـ ... ـتطابق بين الابتدا والخواتمِ وهل جائِزٌ كِتمانُ بعض المُراد إذْ ... تساوى الورى والربُّ ليس بلازمِ أو الرب مُبدٍ للبَواطِن كُلِّها ... مُبينٌ لإخفا سِرّه غير كاتِمِ وأكثر أصحاب الكلام تكلَّفُوا ... وجَاؤوا بآراءٍ ضِعاف الدَّعائمِ فلا وقفوا في المشكلات ولا أتَوا ... لديها بآراءٍ صِلاب المعاجمِ فَمِنْ قاصِدٍ تنزيهه لو رَعَى له ... مِن الجَبَروت الحَقِّ غير التَّعاظُمِ ومن قاصدٍ تعظيمه لو رعى له ... مَحامِد ممدوحٍ بأحكم حاكمِ وحافظَ كُل العارفين عليهما ... وهذا الصراط المستقيم لقائم ولعلها من أحسن ما قيل في هذا المعنى لا سيما إن يسَّر الله لها شرحاً شافياً. وقد تكلَّم ابن قيم الجوزية في ذلك في كتابه " حادي الأرواح إلى دار الأفراح " (¬1) وجوَّد، ولكنه مائلٌ إلى نُصرة شيخه ابن تيمية بالكُلِّيَّة، غيرُ (¬2) متعرض لنصرة غيره، والله سبحانه عند لسان كل قائلٍ وقلبه ونيته. ولما كانت أحوال الخاصة تخالف أحوال العامة في التَّطلُّع إلى معرفة الأدلة والانتقاد، خصوصاً في مسائل الاعتقاد، وأحوال العامة لا تصلح بالخوض في الدقائق والتولج في المضايق، جعلت بسط الكلام في هذه المسألة الكبرى فُسحةً (¬3) في هذا الموضع من " العواصم "، من شاء من الخاصة أثبتها لانتفاعه بذلك، ومن شاء من العامة تركها لعدم صلاحيته لسلوك (¬4) هذه المسالك، والحمد لله الذي وفق لذلك. ومن أثبتها، فليجعلها مُؤَخَّرَةً من هذا الموضع إلى ¬
الفائدة الرابعة (!): بيان أن خلاف العلم والقدر ممكن مقدور غير محال
عقيب الفائدة الرابعة في العمل مع القدرة (¬1)، وذلك لطول الكلام فيها، فتوسُّطُه مع طوله يقطع تمام الكلام في القدر، ويفرِّق اجتماع فوائده، والله أعلم. الفائدة الرابعة: بيان أن خلاف العلم والقدر ممكنٌ مقدورٌ غيرُ محالٍ في النظر إلى ذاته، وإن كان غير واقع قطعاً لعارضٍ آخر، وهو المسمى في الأصول: الممتنع لغيره، والذي يدل على ذلك وجوهٌ، ذكر الرازي كثيراً منها، وذكر أكثرها مختارٌ في " المجتبى " في الرد على الرازي بالمعنى. الأول: لو كان ذلك محالاً، لانتقض بجميع أفعال الله تعالى، أو لزم تعجيزه سبحانه، لأن ما فعله، عَلِمَ فِعْلَه، وكان قادراً على تركه، وما تركه، علم عدمه، وكان قادراً على إيجاده، بل هو أولى في حقه، لأنه قد سبق علمه بأفعاله، وهو يعلم ما سبق في علمه مع قدرته على خلافه، بخلاف العبد، فإنه لا يعلم ما عَلِمَ الله في المستقبل، لكن المسلِمَ بعد الشيء (¬2) بعلم أن الله قد علمه، وأما الكافر، فلا يعلم ذلك أصلاً (¬3). ولذلك كانت الحجة على العبد باقيةً، والابتلاء له صحيحاً، حيث لم يكن له أن يقول: إنما عصى الله، لأن الله علم ذلك، فإنَّ علم ذلك محجوبٌ عن العبد، فدلَّ على كذبه باعتذاره (¬4) بذلك إن اعتذر به. على أنه لو صح أن يحتج العبد بذلك، لكان الله تعالى أولى من العبد بذلك في الاحتجاج على حسن تعذيبه بمجرد سبق العلم بذلك كما مضى تقريره. ¬
الثاني: أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع القدرة على الإيمان بالإجماع، أما عند المعتزلة، فظاهرٌ، وأمَّا عند أهل السنة، فلأنَّ الله تعالى يَقْدِرُ على فعل الإيمان فيمن عَلِمَ أنه لا يؤمنُ. وقد ذكر السهرستاني في " نهايته " إجماع الفريقين على أن العلم لا يُؤثِّر في المعلوم، وهو يعني بأمر الإيجاد، لا بأمر الدواعي في الترجيح، فثبوته إجماعٌ أيضاً. الثالث: لو كان العلم يُؤثِّرُ في المعلوم، لما تعلَّق علم الحادث المخلوق بالخالق القديم، وبالإجماع أن علمنا بالله تعالى ربنا (¬1)، وبالإجماع أنا غيرُ مؤثِّرين فيه، وهذا الوجه ذكره إمام الحرمين الجوينيُّ في مقدمات " برهانه " (¬2). الرابع: أجمع العقلاء على أن الأشياء ثلاثة أقسامٍ: واجبٌ، وممتنعٌ، وممكنٌ، ولو كان بين العلم والقدرة على خلافه تنافٍ، لامتنع قسمُ الممكنات بأسرها، لأن الممكن هو ما يصح وجوده وعدمُهُ على البدل. وهذه الممكنات إما موجودةٌ، أو معدومةٌ، وما هو موجودٌ منها علم الله وجوده، فيلزم أن لا يكون عدمه ممكناً في ذاته، وما هو معدومٌ منها، علم الله عدمه، فيستحيل وجوده، وحينئذٍ لا يبقى في الخارج ممكنٌ. الخامس: لو كان بينهما تنافٍ، لما حَسُنَ المدح والذم، والترغيبُ ¬
والترهيب، والثواب والعقاب، فوجوب الفعل وامتناعه حينئذٍ، ولا مدح ولا ذم في الواجب، ولا في الممتنع. السادس: وهو أدقها وألطفها، الطعن في قولهم: إن إيمان الكافر على خلاف المعلوم محالٌ فنقول (¬1): خلاف المعلوم مع ذلك المعلوم محالٌ أم بدلٌ عن (¬2) ذلك المعلوم؟ الأول مسلّم، والثاني ممتنعٌ (¬3) ولا يمكن دعواه، لأن الترك في الممكنات بدل عن وجودها، والإيجاد بدل عن الترك، صحيح، وإلاَّ فلا، لا نقلب الممكن ممتنعاً وإنه محالٌ، وإذا كان خلاف المعلوم بدلاً عن ذلك المعلوم ممكناً (¬4)، دخل في مقدور القادرين عليه. فإن قيل: لو قدر عليه، لزم من فرض وقوع الإيمان محال، وهو تغير علم الله تعالى. قلنا: لا نُسَلِّمُ ذلك، لا سمعاً ولا عقلاً. أما السمع: فلقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاَّ الله لَفَسَدتا} [الأنبياء: 22]، وعلى كلام الخصم، لاستحال أن يَفْسُدَ، لأن الله قد عَلِمَ عدم فسادهما. وأما العقل: فلأنَّا إذا فرضنا وقوعه، يلزم أن يكون الله علم وقوعه، كما يلزم أنه لو كان فيهما آلهةٌ إلاَّ الله عَلِمَ فسادهما، وليس هذا بتغيير العلم، بل هذا وقوع علمٍ مكان علمٍ بسبب اختلاف التقدير، والسمع الحق قد دل على تجويز تقدير الممتنعات لبيان امتناعها، وأنه يُبنى على التقدير ما يُبنى على التحقيق ¬
الفائدة الخامسة من الكلام على القضاء والقدر، وفيه كمال الجواب من جهة البرهان العقلي ومن جهة الأسلوب الجدلي بذكر وجوه
كما في هذه الآية، وأنه (¬1) معلومٌ أن معناها: لو كان فيهما آلهةٌ إلاَّ الله، لفسدتا، ولو كان ذلك كله لعلمه الله تعالى، لكنه لم يكن شيءٌ من ذلك، فلم يعلم الله وقوعه، ولذلك يقول الجميع في العلم: إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يلزم من ذلك التقدير تجهيل الله ولا محذور. وأما التكليف بخلاف المعلوم (¬2)، وهو الممكن في ذاته الممتنع لغيره، فهو جائزٌ بإجماع المسلمين إذا لم يعلم الكافر بعلم الله في عاقبته. وأما الفائدة فيه، فهي مذكورةٌ في الفائدة الخامسة المذكورة بعد هذه، وهذه الأجوبة مبنيَّةٌ على أن الله تعالى عالمٌ بأفعاله سبحانه كأفعال عباده، ومُقدِّرٌ لها كتقديره لأفعال عباده، فأمَّا علمه بأفعاله سبحانه، فواضحٌ، وأما تقديره لها، فلقوله تعالى: {كان على ربِّك حتماً مَقضيّاً} [مريم: 71] إلى سائر ما سبق في باب الأقدار وأحاديثها من عموم الأقدار لجميع الكائنات، والله أعلم. الفائدة الخامسة من الكلام على القضاء والقدر: بيان وجوب العمل مع القدر، وفائدته، وذلك أن يُقال: لا فائدة في العمل، فإن المطلوب به إن كان قد قُدِّرَ، حصل، عمل العبد أو لم يعمل، فإن (¬3) لم يكن قد قدر، لم يحصل، عمل العبد أو لم يعمل. والجواب من وجوه: الأول: ذكره الله تعالى في كتابه الكريم في غير آية مثل قوله سبحانه: {لِيَبلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عَملاً} [الملك: 2] وقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]، ¬
وقوله تعالى: {أنْ تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: {لِئلاَّ يكون لِلناسِ على الله حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] أي: أمرناهم بالطاعة كما تقول: أمرته فعصاني، أي: أمرتُه أن يُطيعني. فهذا وأمثاله مما ورد تعليل التكليف، وبعث الرسل به كثيراً في كتاب الله تعالى بأساليب متنوعةٍ، ومعناها ما علم بالضرورة من الدِّين من إقامة الحُجَّة، وقطع الأعذار، كما صرح به أعلم الخلق بالله عزَّ وجلَّ أنه قال: " لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله عز وجل، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب "، وهذا الوجه قرآني ضروريٌّ سمعاً وعقلاً، وقد تقدم بيانه بياناً شافياً في أوائل مسألة المشيئة حيث أوضحتُ الفرق بين حِكمة الله الراجعة إلى علمه الحق، وهي تأويل المتشابه، وبين حجة الله الظاهرة المطابقة لِعُرف الخلق وعقولهم، وهو ما قدَّرَه من الأعمال أو الكسب (¬1)، والموازين، والشهود، وشهادات الأعضاء ونحو ذلك. وقد تقدم واضحاً مبسوطاً، ولا حاجة إلى التطويل بذكره هنا، فراجعه من موضعه. ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 67 - 68]. فهذه الآية الشريفة صريحة في أنه لا يلزم من الأوامر بطلان الأقدار، ولا ¬
يلزم من تمام الأقدار بطلان الأوامر (¬1) كما ظنت المعتزلة، ولا بطلان الفوائد (¬2) كما ظن بعض الأشعرية. وقد اعترف الزمخشري (¬3) -على اعتزاله- أن علم يعقوب في هذه الآية هو عِلمُهُ أن الحذر لا يُغني من القدر. وهذا (¬4) يُصادِمُ قول القدرية، ومن ينفي الحكمة والتعليل والأعراض والأسباب والبواعث والدواعي كلها عن جميع (¬5) أفعال الله عزَّ وجلَّ مع ما يلزمهم مِن تسميتها كُلِّهَا عبثاً كما يأتي إن شاء الله تعالى. وقد أحب جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم أن يعرفوا غير هذا الوجه القرآنيِّ من وجوه الحكمة التي لا سبيل إلى القطع بحصرها كما مضى، فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يأتي في الوجه الثاني، وهو زيادةٌ، ولا معارضة بينهما، ويجوز أن ينفي من وجوه الحكمة ما لم يظهره الله تعالى لنا كما مضى تقريره. الوجه الثاني: الجواب النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، فإن هذا السؤال قد وقع في زمانه عليه السلام، وتولَّى جوابه كما ثبت (¬6) في أحاديث القدر، وطرقها كثيرةٌ صحيحةٌ، وألفاظُها متنوعة، ومعناها متقارب. وفي بعضها: أن الأعمال من قدر الله تعالى (¬7). وفي بعضها: " أنه قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ ¬
لليُسرَى} [الليل: 5 - 7] الآية (¬1). وفي بعضها: أنه قرأ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (¬2) [الشمس: 8]. وفي حديث أبي خُزَامة، عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت رُقى نسترقي بها ودواءً نتداوى به، وتُقى نتَّقِيَها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله ". رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عنه به (¬3). وقال المِزيُّ (¬4): وكذلك رواه مالكٌ ويونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي عن الزهري. ومعنى هذه الأحاديث وإن تنوعت ألفاظها واحدٌ، متواترٌ نقلاً، معلومٌ عقلاً. ومنه: لباسهم الدروع في الحرب، وركوبهم الخيول، وحملُهم السلاح كما أُمِرُوا بحمله في صلاة الخوف، وجميع أعمال الدنيا والآخرة، وفيه كمال الجواب من جهة البرهان العقلي، ومن جهة الأسلوب الجدلي. أما البرهان العقلي: فقوله حين سألوا عن (¬5) ذلك: " اعملوا " فأمرهم بالعمل حين أظهروا الجهل بفائدته، وهو تنبيهٌ لهم على ما غفلوا عنه مما يقضي به العقل السليم من وجوب امتثال العبد الجاهل من ربه العليم الحكيم مع جهل (¬6) العبد الفوائد في ما أُمِر به شاهداً وغائباً، فإن أمر الرب العليم الحكيم (¬7) ¬
الغني الحميد يكفي داعياً إلى الفعل، وباعثاً عليه، ومصحِّحاً لوقوعه بالنظر إلى القدرة كما مضى في اعتبار الجهتين في تفسير القدر، فخذه من هنالك. ولم تَجْرِ عاداتُ الساداتِ في الدنيا بإعلام عبيدهم بفوائد أوامرهم ومشاركتهم لهم في تفاصيل أسرارهم، وغايات مقاصدهم، ولا نُسِبَ من طوى ذلك عن عبيده إلى العبث واللعب في أوامره، فكيف يطرق ذلك عبيد السوء إلى ملك الملوك وأحكم الحاكمين، وعلام الغيوب، بسبب عدم مشاركته لهم (¬1) في سِرِّه المكنون في إبرازه، وغاياته الحميدة في أفعاله وأحكامه، وإلى هذا الإشارة بقوله (¬2) تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقوله: {ولا يُحِيطونَ بشيءٍ من عِلمِه إلاَّ بما شاء} [البقرة: 255]، وقوله: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وأمثالها. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " اعملوا " مع هذا الوجه فائدةٌ لطيفة، وهو أنه لم يأمر بالعمل، وصدر جوابه عليهم (¬3) بأن " كلاًّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له " لم يبعد أن يتوهَّم بعضهم سقوط الوجوب الشرعي، وبطلان الأوامر التى هي حجة الله على خلقه وثمرة إرساله رسله صلوات الله عليهم، كما تقدم في الآيات المذكورة في الوجه الأول. وأمَّا الأسلوب الجدلي: فهو أن العمل مطلوبٌ مقدَّرٌ، كما أن المطلوب به -وهو الجزاء- مرادٌ مقدَّرٌ، والمقدَّرات كلها مقطوعٌ بوقوعها على وجوهها التي يقع عليها على التفصيل، سواء أكانت المقدرات مطلوبةً في البداية من العبيد بالأمر، كأفعالهم الاختيارية في الدنيا، أو مرادةً في النهاية للرب سبحانه جزاء ¬
لهم متوقفة على أفعال الرب الاختيارية في الآخرة، فكما قدر فعل الله في جزائهم، وفعله سبحانه اختياري لا ضرورة فيه ولا جبر، ولم يستلزم وقوع القضاء والقدر فيه نفي (¬1) الاختيار والفوائد، وأنه ينبغي أنه سبحانه لا يفعله لعدم الفائدة فيه (¬2)، أو لعدم القدرة عليه، فكذلك ما قدر من أفعال العباد الاختيارية المطلوبة بالأمر لا يلزم من سبق تقديرها عدم القدرة عليها، ولا عدم الفوائد بها. ولذلك (¬3) ثبت في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49] إنما أنزلت في القدرية. ورواه الترمذي أيضاً، وقال: حديث حسن صحيح (¬4). وروي نحوه من طريق ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وزرارة، وأبي أُمامة، كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم (¬5). والظاهر أن معناه أنهم احتجوا على حُسْنِ معاصيهم بسبق القدر، فاحتج الله على حسن عذابهم بذلك بعينه (¬6) وهذا في غاية العدل والإفحام، كما ثبت في " الصحيح " أنه سبحانه يقول: " أليس عدلاً مني أن أُوَلِّي كُلاًّ ما تَولَّى " الحديث (¬7). ¬
فمن احتج بسبق علم الله بذنبه، احتج الله عليه بسبق علمه بعذابه، ونحو ذلك. وسِرُّ المسألة أن الكُلَّ مقدورٌ، والمقدور واجب الوقوع عقلاً وسمعاً، ولا يُسأل عن واجب الوقوع: لم وقع، ولا ما الفائدة في فعله، وإنما محارات العقول، بل المحال فيها عدم وقوعه لو صح فرض ذلك وتقديره. يُوضِّحُه أنا لو فرضنا وقوع الأمور على خلاف علم الرب عز وجل، وخلاف قدره السابق، وقضائه الماضي، لكان هذا محالاً فيه باعتبار إبطال المعلوم، فيجب أن لا يكون نقيضه محارةً ولا مُحالاً، ولا موضع دِقَّة وغموض، وإشكال وحَيرة، إذ يمتنع أن يتصف النقيضان معاً بذلك. وتحقيق الجواب النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أن الأفعال إن كانت فيها فائدة، بطل السؤال، وإن لم يكن فيها فائدةٌ، تعيَّن وقوعها بالقدر (¬1)، فإن جميع المسلمين يعلمون أن عِلْمَ الله تعالى قد سبق، وتعلَّق بجميع الكائنات مما كلفهم ومما لم يُكلِّفْهُم، وعلموا أنه يستحيل تغيُّر علم الله تعالى، ثم هم لا ينفكُّون عن العمل في أمور دنياهم ودينهم، فكما أنهم يأكلون ويشربون ويزرعون ويَسعَوْنَ في طلب المنافع ودفع المضارِّ مع علمهم بسبق العلم بذلك وأنه لا يتغيَّر، فكذلك مع علمهم بذلك (¬2) يسعون في أعمال الآخرة على حسب المقادير، فلذلك ترى كثيراً ممن يؤمن بالقدر أحسن عملاً من كثيرٍ ممن ينفي القدر وعكس ذلك. وخلاصة الجواب أن العمل مُقَدَّرٌ، فكيف يستأذنون في تركه، ولا سبيل ¬
إلى ترك ما قُدِّر فعله منه، ولا إلى فعل ما قدر تركه منه، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله (¬1): {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]. قال الزمخشري على اعتزاله: هو علمه أن الحذر لا يُغني عن القدر (¬2). فإن قيل: إنه يلزم من تفسير الجواب النبوي بهذا بطلان الاختيار، وبطلان الجزاء. قلنا: هو ممنوعٌ بالضرورة شرعاً، فإن الله تعالى مختارٌ في أفعاله مع سبق القدر بها، وممنوعٌ بضرورة العقل بما (¬3) علم ضرورة من استحسان العقلاء (¬4) للأمر والنهي، والمدح والذم، والعمل مع القدر، والفرق الضروري بين حركة المختار وحركة المسحوب والمفلوج. وتلخيص الكلام في ذلك قد مر في تفسير القدر، وأن وجوب الأقدار، وإمكان الأفعال غير متَّحِد المتعلق، بل هو مفترق باعتبار الجهتين، والله أعلم. الوجه الثالث: أن وقوع الفعل تبعٌ للقدرة والداعي، سواء حَكَمَ العقل بأنه مُفيدٌ أو ضارٌّ، كوقوع المعصية من المسلم المعترف بأنها ضارة، فإذاً لا معنى للسؤال عن الفوائد، وإنما يسأل عنها من لا يعمل إلاَّ بما (¬5) هو مفيدٌ في معقوله، وأما من يرتكب ما يعلم أنه يضُرُّ، ويستيقن أنه يُوبِقُه في الدنيا والآخرة، تارةً ¬
لشهوته، وتارة لغضبه (¬1)، ولا يتوقف على حكمة حكيمٍ (¬2)، فما اعتذاره عن العمل بعدم معرفة فائدته إلاَّ من جملة جدله وعناده ومكره وفساده {وكَانَ الإنسانُ أكثَرَ شيءٍ جَدلاً} [الكهف: 54]، {ويَمكُرُون ويَمكُرُ الله والله خَيرُ الماكرين} [الأنفال: 30]، {ولا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّء إلاَّ بأهلِه} [فاطر: 43]. الوجه الرابع: ذكره ابن العربي الفقيه المالكي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " (¬3)، فقال ما لفظه: قلنا: لا تطلب الفوائد في أمر الله وحكمه على مقتضى أغراض البشر، وإنما فوائد أمر الله وجودها على مقتضى المشيئة، ولم يطلعنا على ما يناسب (¬4) مفهومنا في أنفسنا، لأنه ليس كمثله شيءٌ في ذاتٍ ولا صفاتٍ ولا فعلٍ. الوجه الخامس: أشار إليه الفخر الرازي وغيره، فقال: إن الفائدة فيها تعجيل بشرى المؤمن وإنذار الكافر. قلت: لقوله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الكهف: 56] ونحو ذلك. وكذلك ظهور الأمارات على المقدَّر من الخير والشر، وما يتبع تلك الأمارات (¬5) من معرفة أولياء الله تعالى وموالاتهم وإكرامهم ونصرهم في الدنيا، ومعرفة أعداء الله تعالى وعداوتهم ونصر المؤمنين عليهم (¬6)، وسائر الأحكام الشرعية المرتبة على الأعمال. قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]. ¬
وذِكْرُ الرازي لهذا الوجه غفلةٌ منه عن مذهبه في نفي تعليل أفعال الرب عز وجل، وفي ذلك دليلٌ على الفطرة على خلاف مذهبه، فإذا غفل عنه، تكلم بالفطرة، فلله الحمد. الوجه السادس: ما ذكره ابن قيم الجوزية في " الجواب الشافي " (¬1) وهو ما لفظه: والصواب (¬2) أن ها هنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدر قُدّرَ بأسبابٍ، ولم يُقَدَّرْ مجرداً عن سببه، ولكن قُدِّرَ سببه، فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المُقدَّر، ومتى لم يأت بالسبب، انتفى المقدَّر، وهذا كما قُدِّرَ الشِّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الولد بالوطء، وقُدِّرَ حصول الزرع بالبذر، وقُدِّرَ خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِّرَ دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال. وهذا القسم هو الحق، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يُوفَّقْ له. إلى أن قال (¬3): وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونِحَلِها أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته (¬4) والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أعظم الأسباب الجالبة لكل شرٍّ، فما استُجلِبَتْ نِعَمُ الله واستُدفِعَتْ نِقَمُهُ بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه. وقد رتَّب الله حصول الخيرات في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العِلَّة، والمسبب على السبب، وهذا ¬
في القرآن يزيد على ألفِ موضع، فتارةً ترتب الحكم (¬1) الخبري الكوني، والأمر (¬2) الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله تعالى: {فَلمَّا آسَفُونَا انْتَقَمنا مِنهُم} [الزخرف: 55]، وقوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارقَةُ فاقطَعُوا أيديَهما} [المائدة: 38]، وقوله: {إنَّ المُسلمين والمُسلِماتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وهذا كثير جداً. قلت: وفيه أوضح دليلٍ على بطلان قول من قال: إن أفعال الله تعالى كلها لا يجوز أن يكون شيءٌ منها معلَّلاً بالحكم والمصالح. وكذلك أكثر ما يورده الشيخ في هذا الجواب، وسيأتي ذكر ذلك مع أضعافه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال الشيخ (¬3) وتارةً يُرتِّبه عليه بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] ونظائره .. وتارةً يأتي بآلة التعليل (¬4)، كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] (¬5). وتارةً يأتي بباء السببية، كقوله: {ذلِكَ بما قَدَّمت أيدِيكم} [آل عمران: ¬
182]، وقوله: {بما كنتم تعملون} [المائدة: 105]، و {بما كُنتُم تَكسِبونَ} [الأعراف: 39]، وقوله: {أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 136]. وتارةً يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً (¬1)، كقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وقوله تعالى: {أنْ تقولُوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله: {أنْ تقولوا إنما أُنزِلَ الكتابُ على طائفتَينِ مِنْ قَبْلِنا} [الأنعام: 156] أي: كراهة أن تقولوا. وتارة يأتي بفاء السببية، كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، وقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، وقوله: {فكذَّبُوهُما فكانوا مِنَ المُهلَكِينَ} [المؤمنون: 48] ونظائره. وتارةً يأتي بأداة " لما " الدالة على الجزاء، كقوله تعالى: {فلمَّا آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] ونظائره. وتارة يأتي بإنَّ وما عملت (¬2) فيه، كقوله: {إنَّهُم كانوا يُسارِعُون في الخيرات} [الأنبياء: 90]، وقوله في ضد هؤلاء: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77]. وتارة يأتي بأداة " لولا " الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144]. ¬
كلام الغزالي في فائدة الدعاء مع القدر
وتارة يأتي "بلو" الدالة على الشرط، كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66]. وبالجملة: فالقرآن من أوله إلى آخره صريحٌ (¬1) في ترتب (¬2) الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال. ومن فَقِهَ (¬3) هذه (¬4) المسألة وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكِل على القدر جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعةً، فيكون توكُّله عجزاً، وعجزه توكلاً، بل الفقيه، كل الفقيه الذي يَرُدُّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويُعارضُ القدر بالقدر، بل لا يمكن لإنسان أن يعيش إلاَّ بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر. وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده، يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة. فهذا وِزان (¬5) القدر المخوف في الدنيا وما يُضاده سواء، فَرَبُّ الدارين واحدٌ، وحكمته واحدةٌ، لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يُبطِلُ بعضها بعضاً. فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان. انتهى بحروفه. وللغزالي في " الإحياء " (¬6) معنى هذا بأخصر منه، وهو كلام مشهورٌ ذكره في فائدة الدعاء مع القدر، فقال ما لفظه: فإن قلت: فما فائدة الدعاء والقضاء لا ¬
مردَّ له؟ فاعلم أن من القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، والدعاء سببٌ لردِّ البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سببٌ لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم، فيتدافعان، وكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله عزَّ وجلَّ أن لا يُحمل السلاح، وقد قال الله عز وجل: {خُذُوا حِذْرَكُم} [النساء: 71]، وأن لا تُسقى الأرض بعد بثِّ البذر، فيقال: إن سَبَقَ القضاء بالنبات، نبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، وترتيب تفصيل المسبِّبات على تفصيل (¬1) الأسباب على التدريج، والتقدير هو القدر، والذي قدَّر الخير قدَّره بسببٍ، وكذلك الشر (¬2) قدر لدفعه (¬3) سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته انتهى. وقد ألم بهذا المعنى الإمام العلامة شرف الدين إسماعيل بن المقرىء الشافعي الزبيدي (¬4)، فقال وأجاد: ¬
تقول مع العِصيانِ: ربِّي غَافِرٌ ... صَدَقْتَ ولكِنْ غَافِرٌ بالمشيئةِ وربُّك رزَّاقٌ كما هو غافرٌ ... فَلِمْ لَمْ (¬1) تُصدِّقْ فيهما بالسَّويَّةِ فإنك ترجو العفو من غير توبةٍ ... ولستَ بِراجي الرِّزقِ إلاَّ بِحيلةِ على أنه بالرزق كَفَّل نفسُهُ ... لِكُلٍّ ولم يَكْفَلْ لكل بِجَنَّةِ فأما ما يُجيب (¬2) به بعض غلاة متكلمي الأشعرية من نفي رعاية الحِكَمِ والمصالح والأسباب والأغراض والدواعي والبواعث والغايات الحميدة عن جميع أفعال الله سبحانه وتعالى قاصدين بذلك الفرار من بدعة الاعتزال، فمن أبطل المُحال، وأشنع الضلال، وهو يستلزم نسبة العبث إلى الله تعالى، ويعارض ما عُلِمَ من ضرورة الدين من تعليل عذاب أعداء الله تعالى بذنوبهم، كقوله تعالى: {ذلكَ بما قدَّمَتْ أيدِيكُم} [آل عمران: 182]، وقوله: {بِما كُنتُم تَعْمَلون} [المائدة: 105]، وقوله: {بِما كُنتُم تَكسِبُونَ} [الأعراف: 39] كما تقدم مختصراً في كلام الشيخ ابن قيم الجوزية، وكما يأتي مستوفى إن شاء الله تعالى في الكلام على مسألة الأطفال. وبتمام هذا يتم الكلام على المرتبة الرابعة، وهي إطلاق أهل السنة للوجوب، بمعنى القضاء والقدر، دون نفي الاختيار في أفعال العباد. تم بعونه تعالى الجزء السادس من العواصم والقواصم ويليه الجزء السابع وأوله المرتبة الخامسة الكلام في أفعال العباد ¬
الجزء السابع
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء السابع مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 7
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المرتبة الخامسة: الكلام في أفعال العباد
المرتبة الخامسة: الكلامُ في أفعال العباد. وإنما قدمت (¬1) الكلام في المراتب الأربع، لأنها أساس الكلام فيها (¬2)، وهي من فضلات المسائل وفروعها، والأصل المُعتَمَد في الباب مسألة الإرادة، ولذلك أهمل الغزالي مسألة الأفعال والخوض فيها في كتابه " الاقتصاد " فأصاب. ومن اعتقد نفوذ مشيئة الله تعالى، وأن العبد فختار، وأنه غير مُستَقِلٍّ بنفسه، فقد استغنى عن الخوض فيه، عدا ذلك. وإنما تكلمتُ على مسألة الأفعال لِغَلَطِ المعتزلة على أهل السنة فيها، وجهل كثيرٍ من أهل السنة بمذهب (¬3) أئمتهم فيها، فيجب الإمساك عن الخوض فيها، والتحقيق (¬4) في البحث عنها، وأكثر الناس لا يصبر عن الخوض فيما لا يعنيه، ولا يتكلم بتحقيق ما يخوض فيه، وهذا هو الذي أفسد الدِّين والدنيا، فرحم الله من تكلَّم بعلم، أو سكت بحِلْمٍ. واعلم أنه لا خلاف بين المسلمين أن للعباد أفعالاً مضافةً إليهم يسمون بها مطيعين وعصاة، ويثابون على حَسَنِها، ويستحقون العقاب على قبيحها (¬5)، وأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، وله الحجة البالغة لا عليه، وأن عقابه لمن ¬
عاقبه (¬1) منهم عدل منه لا جَوْرَ فيه ولا ظلم. وعلم جميع (¬2) هذا ضرورة من الدين (¬3). وأجمعوا على أن أفعال العباد اختيارية غير اضطرارية، وأن الفرق بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب ضروري، إلاَّ من لا يُعْتَدُّ به في الإجماع مِنْ سَقَطِ المتاع الذين لم يرجعوا (¬4) إلى تحقيق في النظر، ولا إلى حسن في الاتباع، ولا لهم في ذلك سَلَفٌ ماضٍ، ولا خَلَفٌ باقٍ، وهؤلاء هم الجَبْرِيَّة. فالجبرية الخالصة، منهم الذين لا يثبتون للعبد قدرة أصلاً، والجبرية المتوسطة، منهم من يثبت للعبد قدرة، ولكن غير مؤثرة أصلاً. ذكرهما الشهرستاني في " الملل والنِّحَل " (¬5). قال: فأما من أثبت (¬6) للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل (¬7)، وسمى ذلك كسباً، فليس بجبري. ثم اختلف القائلون بالاختيار وتأثير قدرة العبد في العبارات اختلافاً متباعداً في المعنى. والأصل في ذلك أن من ترجم عن أصول الأشياء ورجوعها إلى الله تعالى في الابتداء والانتهاء، وكونها بتقديره وتدبيره، أوجبت (¬8) عبارته نفي الاختيار. ومن ترجم عن كمال حجة الله على عباده وتمكينهم وبيانه لهم، أوهمت عبارته استقلالهم بأنفسهم، واستبدادهم بحولهم وقوتهم. ¬
ومن (¬1) قصد من الطائفتين شيئاً من ذلك، فقد ضلَّ وابتدع، وخالف دليل العقل والسمع وإجماع السلف. والذي أجمعت عليه فِرَق أهل السنة أن العبد غير مستقل بنفسه، وذلك لما يجده العاقل من الضرورة والفطرة العقلية من شدة الحاجة إلى إعانة ربه عز وجل ومالكه له في كل أمر مع علمه الضروري بالتمكين وطلب الاستعانة من ربه فيه، وعدم الهم والعزم فيما لم يُقدره الله عليه (¬2)، وعدم الطلب للاستعانة (¬3) عليه. ومن هنا قال الله تعالى في فاتحة الكتاب التي يقرأ بها كل مصلٍّ في فرائضه سبع عشرة مرة في كل يومٍ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5 - 6] فطلب الإعانة والهداية أوضح دليلٍ على عدم الاستقلال والكفاية، وعلى أن للعبد فعلاً يستعين بالله عليه، ويحتاج في تمامه إليه، ولا يمنع من ذلك ورود الأمر به في قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]. فقد قال تعالى: {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بالله} [النحل: 127] فأمر سبحانه بالصبر، ومنع استقلال أكمل عباده به. وعلى ذلك نبَّه القرآن الكريم في قراءة " المخلَصين " بفتح اللام وكسرها في السبع المتواترة في غير آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ وأمثال ذلك كما مضى في مرتبة الأقدار (¬4). واعلم أن مراد أهل السنة بخَلْقِ الأفعال المبالغة في تنزيه الرب سبحانه من الشرك في الخلق لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] وليس غرضهم نفي حجة الله. ¬
بحث في إثبات الذوات في العدم
وكذلك تُثبِتُ كل طائفة منهم أمراً يستحق عليه العبد الجزاء كما سيأتي. وهذه نكتة نفيسة جداً، فهذا القدر هو الذي أجمع أهل السنة عليه في الجملة، ثم اقتصر أهل الحديث عليه، ومَنْ تجاوزه، فقد دخل في علم الكلام على قدر مجاوزته. واختلف أهل الكلام منهم في تفصيل (¬1) هذه الجملة وتعيين أثر قدرة الرب عز وجل، وأثر قدرة العبد، وتمييز أحد الأثَرَيْنِ على الآخر، وانتهى الأمر في ذلك إلى الدِّفَّة والغموض على كل مذهب، حتى قالت المعتزلة: إن الذوات ثابتةٌ في الأزل (¬2)، وهي غير مقدورةٍ لله عز وجل، والوجود حال غير مقدور له سبحانه ولا لخلقه. وقالت الأشعريةُ لهم: إذا كان كذلك، كان التكليف بالإيجاد تكليفاً بالمحال، لأن الوجود والموجود عند المعتزلة غير مقدورين. فأجابت المعتزله بأن المقدور الذات على صفة الوجود، لا كل واحد منهما منفرداً. قالت الأشعرية: هذه عبارة لا طائل تحتها، لأن المراد بذلك إما الذات (¬3) وحدها، أو الوجود وحده، أو مجموعهما، وليس في العقل قسمةٌ وراء ذلك، وعندكم الأقسام الثلاثة غير مقدورة، فيكون التكليف بتصوُّر القسم الرابع محالاً فضلاً عن التكليف بتحصيله. ومن المعتزلة من ألجأه هذا الالتزام (¬4) بأن المقدور هو الوجود لا الموجود، ويحتاج إلى إقامة برهان قاطع على تغايرهما، وبين أذكياء العقلاء في هذا نزاعٌ كثير، ومباحث غامضة. ¬
واعلم أن الذي ألجأ المعتزلة إلى إثبات الذوات في العدم استبعاد أن يتعلق العلم بغير شيءٍ حقيقي في الأزل، وقد اضطرهم ذلك إلى أبعد منه وهو تعليقهم القدرة بغير شيء حقيقي فيما لم يزل (¬1)، لأن الأشياء الحقيقية تثبت عندهم في الأزل لتعلق العلم بها، فلَيتَهم قَنِعوا في متعلق العلم بنحو ما قَنِعوا به في متعلق القدرة، وعكسوا مذهبهم في المسألتين كما فعل أهل السنة، بل كما فعل أصحابهم أصحاب أبي الحسين (¬2) الذين سَلِموا من هاتين الشَّناعَتَيْن. وفي هذا من الرِّكَّة والدقة ما ترى، وإنما قدمته لك قبل مذاهب الأشعرية حتى لا تستنكر ما ترى في بعضها من الدقة أو الركة، فإن أركها لا يزيد في الضعف على هذا، ولا يلزم منه أفحش مما يلزم من هذا. فطوبى لأهل الحديث والأثر، وهنيئاً لهم السلامة ولذة الخشوع والتلاوة والمناجاة، واتباع الرسل (¬3) عليهم الصلاة والسلام، ولولا محبتهم ومحبة الذَّبِّ عنهم (¬4)، وعن علمهم الذي ورَّثَه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما رَضِيتُ أن أرسم من هذا لفظة، ولا أُفرِّط لأجله في لحظة، ولولا مشاركة الأشعرية لهم (¬5) في رواية الحديث والتفسير، وقدح المعترض في السنة النبوية بروايتها عمن يخالف المعتزلة، وتعرُّضُه (¬6) لتكفير الرواة وتحريم الرواية عنهم، ما احتجت إلى تحقيق مذاهبهم، وتلخيص مقاصدهم. وإنما قصدتُ إيضاحها ليظهر عدم ما ادَّعاه من أنهم تعمدوا جحد المعلوم ¬
افتراق الأشعرية والمعتزلة في ذلك إلى عشر فرق
ضرورةً من الدِّين، وربما حصل للسني (¬1) برؤية الأمور الاعتبارية، والاغتباط بعلمه، فإن من لم يعرف علم الكلام ربما جوَّز أنهم على حقائق قد فازوا بمعرفتها دون الخلق، فلا بأس عندي بالنظر فيه لذلك ممن هو كامل الإيمان من غير تحكيمٍ للرأي على السنة والقرآن، ولا يوجد في النصوص الصحيحة ما يُحرِّم هذا القَدْرَ (¬2)، والله أعلم. إذا عرفت هذا، فاعلم أن الأشعرية والمعتزلة قد افترقوا في ذلك عشر فِرَقٍ أو أكثر من ذلك. الفرقة الأولى من المعتزلة: ذهبت إلى أن فعل العبد جعل الذات الثابتة عندهم في العدم على صفة الوجود، فإن تلك الذات غير مقدورةٍ ولا الوجود ولا مجموعهما كما مر ذكره. الفرقة الثانية منهم: جعلوا الوجود هو مقدور العبد وأثر قدرته، وهو عندهم صفة أو حال وليس بشيءٍ حقيقيٍّ، ذكرهما عنهم ابن المُطَهِّر الحِلِّي في شرح " منتهى السُّول " (¬3) في الكلام على الاشتقاق لاسم الفاعل. الفرقة الثالثة منهم: قالت: لا فعل للعبد إلاَّ الإرادة، منهم: الجاحظ وثُمامة (¬4)، وسيأتي أنه مثل قول بعض الأشعرية: إنه لا فعل له إلاَّ الاختيار. ¬
الفرقة الرابعة منهم: ذهبت إلى أن أفعال العباد حوادث لا مُحدِثَ لها. وهذان المذهبان معروفان في كتب المعتزلة ونقلهم، وسيأتي بيانهما في ضِمْن بيان مذهب الأشعرية. الفرقة الخامسة: ذَكَرَتْ أن أفعال العباد لا تَعَدَّى محل القُدرة، وما تعدَّاه فعل الله، وأنها حركاتٌ كلها، والسكون حركة اعتمادٍ، والعلوم والإرادات حركات النفس. حكاه الشهرستاني عن النظام قال: ولم يُرِد بالحركة النقلة، وإنما الحركة عنده مبدأ تغيُّرٍ ما، كما قالت الفلاسفة. ذكره في كتاب " الملل والنحل " (¬1). الفرقة السادسة: قالت إن تأثير قدرة العبد في الحركة والسكون، وإنهما صفةٌ إضافية لا ذاتٌ حقيقيةٌ. وهو قول الشيخ أبي الحسين وأصحابه وأتباعهم، ويَنَوْه على أن المعدوم ليس بشيء (¬2). وإلى نحو مذهبهم ذهب الجويني من الأشعرية، إلاَّ أنه يقول: إن الأكوان ذواتٌ، كما سيأتي تحقيق مذهبه. الطائفة السابعة: يقولون: إن المتولَّدات أفعالٌ لا فاعل لها. الطائفة الثامنة: يقولون: إن ما عدا الإرادة من أفعال العباد أحداثٌ لا مُحدِثَ لها، وحكاهما الشهرستاني (¬3) عن ثُمامَة، وربما يُوجَدُ في كتب المقالات غير هذه الأقوال عن المعتزلة وحدهم. وأما الأشعرية فافترقوا في ذلك أربع فرقٍ: ¬
الكلام في أن فعل العبد بنفسه الذي اثرت فيه قدرته هو بعينه مخلوق لله تعالى
الفرقة الأولى: قالوا (¬1): إن فعل العبد بنفسه الذي أثَّرت فيه قدرته هو بعينه مخلوقٌ لله تعالى على الحقيقة، وإن الشيء الذي خلقه الله تعالى، والشيء الذي فعله العبد من ذلك، هو شيء واحد مقدورٌ بين قادرين. وقد روى هذا الإمام أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حكاه عنه صاحب " الجامع الكافي في مذهب الزيدية " كما يأتي نصُّه، وكما تقدم معناه، وأنه قول أهل ذلك العصر الأول من أهل البيت وشيعتهم، كما تقدم في مسألة المشيئة مبسوطاً. ويأتي النص على هذا المعنى عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى عليه السلام مذهباً له، وروايةً عن علي عليه السلام آخر هذه المسألة. وهذا هو ظاهر عبارات من لم يَخُض في دقيق الكلام من أهل الحديث والأثر، وهو ظاهر اختيار أبي نصر بن السُّبْكيِّ في كتابه " جَمْع الجوامع ". وهو ظاهر عباره الغزالي في " الإحياء " فإنه نص على خلق الله للاختيار، وعلى بطلان الجبر، وادعى الضرورة في بطلانه. ذكره في " الإحياء " (¬2) في الرسالة القُدْسِيَّة منه. ويشبه أن يكون هذا قول أبي إسحاق الإسفراييني (¬3)، كذا وجدته بخطي فيما علَّقْتُه من كتب الرازي، وأظنه قاله في كتاب " الأربعين "، وأما في " نهاية العقول "، فجعل قول أبي إسحاق كقول الجُوَيني كما يأتي. ¬
قال الشهرستاني في " نهايته " عن الأستاذ أنه قال: كل ما وقع على التعاون، فهو كسب للمستعين، وحقيقة الخلق هو وقوع الفعل بقدرته مع صحة انفراده به. قال: وهذا أيضاً شرحٌ لما قاله الأستاذ أبو بكر: إن الكسب هو تعلق القدره به على وجهٍ ما، وإن لم يتعلق به من جميع الوجوه، والخلق إنشاءُ العين وإيجادها من العدم. ولا فرق بين قوليهما وبين قول القاضي -يعني الباقِلاَّني- إلاَّ أن ما سمياه (¬1) وجهاً واعتباراً سمَّاه القاضي صِفةً وحالاً. انتهى بحروفه من كلام الشهرستاني، وهو نقلٌ مُفِيدٌ لتضمنه نسبة وقوع الفعل على الوجوه التي يقبُحُ لوقوعه عليها إلى قدرة العبد على إنفرادها كما يأتي واضحاً في كلام الباقلاني. وتحقيق مذهب هذه الفرقة الأولى يضاد معنى الجبر ويُنافيه، وذلك أن الذي ألجأهم إلى هذا اعتقادهم إن العبد بانفراده لا يقدر على شيء ألبتة إلاَّ بإعانة ربِّه ومالكه. وعندهم أن الله قد خلق لعبده قدرة تؤثر في حدوث أفعاله، ولكن بشرط إعانة الله، كالعاجز الذي يحاول حَمْلَ الثقيل ويستعين عليه، فصارت إعانة الله عندهم هي شرطٌ في تمكين العبد واختياره، لا رافعة لذلك. كما لو قال الله تعالى لعبدٍ ضعيف: احمل هذا الجبل العظيم، فقال: إني لا أقدِرُ، فكيف تأمُرُني يا رب بما لا أقدر عليه؟ فقال الله تعالى: احمل وأنا أُعينُك، فإنه إن لم يحمل كان عاصياً، وإن حمل، كان مُطيعاً، ولم يكن حملُ الجبل فِعلَه وحدَه إلا مع حَمْلِ الله له معه. ¬
ويشهد لهذا قوله تعالى: {واصبِرْ ومَا صَبْرُك إلاَّ بالله} [النحل: 127]، وقوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2]، وقوله: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] مع قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. ومن ذلك قوله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 56 - 57]. وما علمنا من دعائه بقولنا: وقنا عذاب النار {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان: 65]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] مع قوله: {قُوا أنْفُسَكُم وأهْلِيكُم ناراً} [التحريم: 6]. وكذلك أجمع المسلمون على حمد الله تعالى على النِّعَم التي على أيدي عباده، وعلى حمدِ الله بعدَ حمدِ الله. وستأتي أيضاً النصوص القرآنية الجَمَّة على حمد الله على الإيمان وسائر أفعال الخير، وعلى التَّسَلِّي بقضاء الله في القتل وسائر المظالم مع تنزيهه عن الجَبْر عليها وجميع ما يُوجِبُ الملامة، ومنه الآية والحديث. أما الآية: فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23]. وأما الحديث: حديث خبر (¬1) آدم وموسى في آخر المجلد الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (¬2). ¬
ومن ذلك قوله تعالى: {فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] أمر بالقتل، وهو غير مقدورٍ للعبد بغير إعانةٍ من الله، وإنما يَقْدِرُ على الجرح دون إخراج الروح من البدن، وأمثال ذلك كثيرٌ جداً. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] لما خفَّف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر. رواه البخاري (¬1). وفيه أنهم لو صبروا على ما أُمِرُوا به من قتال الواحد عَشَرة لطوِّقُوا ذلك، وصبروا عليه. وهو من أحسن الأمثلة الواقعة لمذهب هذه الطائفة، فإن الواحد من المسلمين -ولو من أقواهم- لا يقدر على عشرةٍ من المشركين -ولو من أضعفهم- إلاَّ بإعانة الله تعالى مع ورود الأمر بذلك إجماعاًً ونصّاً. بل الواحد لا يقدر على الاثنين إلاَّ بإعانة الله كما قال: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66]، لا يقال: ليس المراد الأمر بمغالبتهم (¬2). قلنا: إن أردتم في (¬3) المطابقة فمُسَلَّمٌ، وإن أردتم في (3) الالتزام، فممنوعٌ، وإلا كان يستلزم الأمر بإلقاء النفس إلى التهلكة، لأن إلقاء النفس من الشواهق لا يزيد على بروز رجل ضعيفٍ لعشرةٍ من أقوياء أعدائه، وتجويز السلامة في الموضعين حاصلٌ، والله سبحانه أعلم. ¬
ويُشَيِّدُ (¬1) ذلك ما خرجه الحاكم في تفسير سورة الحح عن ابن عباس: أن الله أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، قال: ربِّ وما يبلُغُ صوتي؟ قال: أذِّنْ وعليَّ البلاغ (¬2)، قل: يا أيها الناس كُتِبَ عليكم حجَّ البيت بيت الله العتيق. فسمعه مَنْ بين السماء والأرض، وقال: صحيح الإسناد (¬3). وخرَّج في المغازي من حديث الخليل، عن عمروٍ، عن (¬4) جابرٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَمَنَّوْا لقاء العَدُوِّ، وسَلُوا الله العافية، فإنكم (¬5) لا تدرون ما تُبتَلُون منهم (¬6)، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك (¬7)، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض " الحديث (¬8). ¬
وفيه قصةُ علي عليه السلام في خيبر وحديثُ الراية (¬1). وعن ابن عباس في قصة موسى أنه إنما وجد النصب بعد مجاوزته الموضع الذي أمر الله تعالى به (¬2). فكل فعلٍ عندهم من غير إعانة الله مثل حمل الجبل على الضعيف، وقتال الواحد الضعيف لعشرة أقوياء، فإعانة الله تعالى للمؤمن واضحة، ويسمى عند هؤلاء خلقاً وتمكيناً ومشاركة في الفعل وإعانةً عليه. وأما العاصي، فلا يُسمى الله تعالى بذلك القدر مُعِيناً له، إنما يسمى عندهم خالقاً ومُمَكِّناً ومُبْتَلِياً وممتَحناً. ونحو ذلك قوله تعالى فيما فعله آل فرعون: {وفي ذلِكُم بَلاءٌ مِن ربِّكم عَظِيمٌ} [البقرة: 49]. ومنه: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152]. ¬
ولأن الإعانة في العُرْفِ إنما تكون على محبوب المعين دون المسخوط، والمعاصي مسخوطةٌ غير محبوبةٍ لله تعالى، كما مر تحقيقه في مسألة الإرادة. أو لأنَّ الإعانة عبارةٌ مُوهِمةٌ للرضا والمحبة، ولم يَرِدْ بها إذنٌ شرعي، وخَلْقُ الله لمعصية العباد عند هؤلاء مثل خلق القدرة على المعصية عند المعتزلة، لأن شرط التكليف التمكين، والتمكين عند هذه الفرقة من الأشعرية لا يصح مع استقلال العبد حتى يشاركه الله في فعله، فيكون فعلاً لفاعلين، لكنه يُسَمَّى بالنظر إلى قدرة الله تعالى مخلوقاً ومفعولاً، وبالنظر إلى قدرة العبد مفعولاً ومكسوباً، كما ذكرناه في أول المسألة بالتمثيل بحمل الجبل. وقريبٌ منه بالنظر إلى ما يُسَمَّى إعانة من المحبوبات لله سبحانه، وما لا يُسمَى إعانةً من المكروهات له سبحانه ما فعله لعيسى صلوت الله عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكْمَه والأبْرَص، وساغ نسبته إلى عيسى عليه السلام حيث قال: إني أخلُقُ وأُبرِىء، مع قوله: بإذن الله، فيُسَمَّى الله في مثل هذا مُعِيناً عليه، ومُحِبّاً له، وراضياً به. وقد تُنسَبُ الطاعة والخير كله إلى الله تعالى وحده مبالغةً في تعظيمه وحمده عليه، وتضعيف العبد وتقليل أثره كقوله تعالى: {لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] وقوله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وأمثال ذلك، وذلك الذي ينبغي من العبد كقوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]. ولما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:] " فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه ".
رواه مسلم في " الصحيح " (¬1) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه. وعن أبي الدراء رضي الله عنه، عن (¬2) زيد بن ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه علمه دعاء وأمره أن يتعاهد (¬3) به أهله كل يوم، وذكره، وفيه: " وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضيعةٍ وعورةٍ وذنبٍ وخطيئةٍ، وأنِّي لا أثِقُ إلاَّ برحمتك ". رواه أحمد والحاكم في " صحيحه " (¬4). بخلاف ما تُفَرِّقُ به السحرة بين المرء وزوجه، وإن كان بإذن الله كما نصَّ عليه بقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] (¬5)، فالتأثير في الفرقة على الحقيقة من خلق النُّفرة الضرورية هو فعلُ الله بالإجماع. وهذا التفريق قد أضافه الله تعالى إلى السحرة وذمَّهم به لما كان مسبَّباً عن اختيارهم كما أن الموت فعل الله، ويُذَمُّ به القاتل لما كان سبباً فيه. وهذا قول أبي هاشمٍ والأشعري والجُوَيْني وسائر أهل السنة في المسببات، كما يأتي في مسألة تكليف ما لا يُطاقُ. ¬
وكذلك من ألقَاهُ العباد في الماء والنار عُدواناً، فإن إثمه عليهم لكونهم سبب موته، وموته فعل الله، ولو شاء لأنجاه، ففِعْلُ الله عندهم في هذا الجنس يسمى ابتلاءً وامتحاناً، ولا يُسمَّى إعانةً ولا محبةً ولا رضاً. ويجب أن يضاف القدر المتعلِّق بقدرة العبد من هذه القبائح إلى العبد وحده، تحقيقاً لتنزيه الله تعالى وكمال تقديسه عن القبائح، وكمال عدله وحكمته فيما ابتلى به من تقدير وقوعها وأسبابها. ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّما النَّجْوَى من الشَّيطان} [المجادلة: 10]، وقوله: {إنَّما ذلِكُمُ الشيطانُ يُخَوِّفُ أولياءَهُ} [آل عمران: 175]، وقوله: {ومَا يَجْحَدُ بآياتنا إلاَّ الكَافِرونَ} [العنكبوت: 47]، وفي آيةٍ: {إلاَّ الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49]، وفي آية: {إلاَّ كلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، وقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105]. ومنه: قول الكليم عليه أفضلُ الصلاة والتسليم: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15] وقول يوسف: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، وقول أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] وسيأتي ذلك مبسوطاً مُطَوَّلاً في آخر هذه المسألة، وما ورد فيه من إجماع السلف والخلف. وكذلك قد تجتمع كلمة المسلمين على نسبة الأمر إلى الله تعالى من جهة، وإلى العبد من جهةٍ كما يقولون في كثير من الأرزاق، وهي التي توقف على أفعال العباد واختيارهم كالصدقات وقضاء الديون، وما يُثَابُ عليه العبد كأنها من جهة اختيار العبد فيها وثوابُه عليها منسوبة إليه. وليست المعتزلة تقول: إنها منسوبةٌ إليه من كل وجهٍ بحيث لا يُشْكَرُ الله عليها، بل هي مع ذلك رِزْقٌ من الله حلالٌ، منسوبةٌ إلى الله من سائر الجهات. وكذلك يقول خُصُومُ المعتزلة في جميع الأفعال.
فتأمل في ذلك النظائر والأمثال، فانظر الآن بعين التحقيق" هل حَمْلُ الله تعالى للجبل مع الضعيف إن أمره بحمله مُبْطِلاً لتكليفه وتمكينه واختياره، أو مُصَحِّحاً له؟ ولو كان قولهم: إن فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى يبطل كونه فعلاً للعبد، ويوجب الجبر كما زعمت المعتزلة، لم يكن أولى من العكس: وهو أن فعل العبد لما هو خلقٌ لله يبطل كونه خلقاً لله، وينفي عنهم الجبر. ولكن المعتزلة يُستخرَجُ من كلامهم ما هو عليهم، ولا يُستخرج عنه ما هو لهم، كما قال الشاعر: وعَينُ الرِّضا عن كلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... ولكنَّ عين السُّخْطِ تُبدِي المساوِيَا (¬1) ¬
قول أبي علي الجبائي في القرآن
فإن جَحَدتَ هذا المعنى، وأنكرت تصوره في العقول، جحدتَ الضرورة، وإن أقررت به ولكن قلت: ما الذي ألجأهم إلى هذا؟ وقلت: مقدورٌ بين قادِرَيْنِ غير صحيح في العقل. فالجواب: أن هاتين مسألتان غير الجبر، فأما الجبر، فقد تخلصوا منه، ومن جميع ما يترتب عليه من الشَّناعَات، وسوف يظهر ذلك بذكر ما يَرِدُ عليه، ويُجيبون به. وأما هاتان المسألتان، فهما من دقيق المسائل التي لم تُعْلَمْ من ضرورة العقل، ولا من ضرورة الدين، فإن أصابوا فيهما، أجادوا، وإن أخطؤوا فيهما، فقد أخطأ في مثلهما وفي أجْلَى منهما أئمة العلوم المعقولة والمنقولة لأسبابٍ لا يعرفها إلاَّ من خاض الغَمَرات التي خاضوها، أو راض نفسه مع معاناة الدقائق كما راضوها. وكفى لهم أسوةً في هذه المسألة شيخ الاعتزال، وعنترة فوارس الجدال إذا دُعِيَ في محافِلِه نزال، الشيخ أبو علي الجُبَّائي المتكلم الشهير، فإنه التجأ في مسألة القرآن إلى القول بأن تلاوة التالي المسموعة كلامان اثنان حقيقيان: أحدهما: كلام الله تعالى، تكلم به في لسان التالي عند تلاوته. وثانيهما: كلام التالي، تكلم به مع كلام الله تعالى، فالسامع له سامعٌ لله وسامعٌ من الله على الحقيقة، وعلى الحدِّ الذي سمع منه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام. وكذلك قال: إن كلام الله باقٍ، وإنه يَحُلُّ في الخط المكتوب، ويظهر مع الصوت وهو غير الصوت. ¬
حكى هذا عنه ابن مَتَّوَيه في " تذكرته " وهو من أئمة الاعتزال تلميذٌ لقاضي القضاة عبد الجبَّار، وحكاه عنه الشهرستاني في " نهايته ". فالذي ألجأ أبا عليٍّ الجُبَّائيَّ إلى ذلك مع غوصه على دقائق الكلام الحذر من مخالفة إجماع المسلمين على أن القرآن المتلُوَّ بالألسنة، المكتوب في المصاحف كلام الله تعالى، فحمله خوفه مخالفة السمع الدالِّ على أن الإجماع حُجَّة على هذا القول المعلوم بطلانه عقلاً وسمعاً، كما يَعرِف ذلك أدنى المميِّزين مع جلالة أبي علي في علم النظر، ما ذلك إلاَّ لخوف الابتداع وخوف مخالفة الإجماع، فلم تنتقصه المعتزلة، ولا ذمَّته بسقوط المنزلة. وكذلك أئمة الحديث والأثر، وكثيرٌ من أهل الكلام والنظر، لما سمعوا ظواهر القرآن والسنن تقضي بأن الله تعالى خالق كل شيءٍ، وأن إرادته ومشيئته أساس كل شيء، حتى قال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، وذمَّ الذين أقسموا لَيَصْرِمُنَّ جنتهم (¬1) مصبحين ولا يَستثنون، وأمر أكمل عباده بالاعتراف بذلك في قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، مع ما قرروه في كتبهم الكلامية من الأنظار العقلية، قضوا بذلك. على أن هذه الفرقة التي جعلوا فعل العبد وخلق الرب شيئاً واحداً، ولم يفرقوا بينهما، هم أقل فِرَق أهل النظر من أهل السنة، كما أَوضحه إن شاء الله تعالى. بل لا يكاد يتحقَّقُ القائل به من أئمة النظر منهم، ولكنه أكثر ما يلزم من إطلاق عباراتهم، وقد يقول به ولا يبحث عن دقائق الكلام لجلائه، فإن صحة المقدور بين قادرين مما يعقله الكافَّة، ولا يعجز عن فهمه أحدٌ من العامة (¬2). ¬
فإن قيل: فإذا لم يفعل المكلَّف الواجب، لزم أن لا تقوم عليه الحجة، لأنه لم يُعِنْه (¬1) الله تعالى حين لم يخلقه، ولو خلقه، ما قَدَرَ العبد على تركه، وهذا حقيقة الجبر ونفي الاختيار. قلنا: لم يختلفوا في أن الاختيار إلى العبد، وأن الله تعالى (¬2) يخلق عند اختياره ما اختاره العبد، حتى صرَّح بذلك الأشعري والرازي اللذان نُسِبَ إليهما أفحشُ الجَبْرِ الصريح، وتكليف ما لا يطاق كما يأتي. وإنما خلاف هذه الفِرقة الأولى لسائر فِرَق الأشعرية أثبتوا تأثير قدرة العبد في عين ما أثَّرَتْ فيه قدرة الرب عزَّ وجلَّ من وجود الذات وإخراجها من العدم بمعونة الله تعالى، كما هو قول بعض الفرقة الرابعة وهو الإمام الجويني كما يأتي، ويأتي الفرق بينهم، وأما أكثر الأشعرية، فإنهم منعوا تأثير قدرة العبد في إخراج الذات من العدم إلى الوجود. وأما الاختيار، فلم تختلف فرقهم الأربع في إثباته للعبد، وصلاحية قدرته فيه، سواء تعلَّقَ بالترك أو بالفعل، كما يأتي تحقيقه، ولكنه لا يكون اختياره إلا تابعاً وموافقاً لما سبق من مشيئة الله تعالى أن يفعل العبد مختاراً، كما لم يختلفوا هم والمعتزلة في أن الاختيار وضع الأمر لما سبق به علم الله تعالى وكتابه، كما تقدم تحقيق ذلك في الكلام على الأقدار، وبيان عدم التناقض في الجمع بين القول بنفوذ القدر والمشيئة والاختيار، بل الاختيار عند هذه الفرقة مقدور بين قادِرَيْنِ. وقد حاوَلَتِ المعتزلة الرد على هؤلاء والتكفير لهم. فأمَّا الرد عليهم، فلست أتعرَّض لنَقْضِه، بل هو عندي حقٌّ وصواب، ولكن ما هو من مقصود كتابي هذا، فإن سائر طوائفِ أهل السنة الثلاث الآتية ترُدُّ على ¬
مدار تكفير المعتزلة للقائلين من الأشعرية بأن فعل العبد مقدور بين قادرين
هذه الطائفة الأولى كما ترد عليهم المعتزلة، وكما يرد بعض المعتزلة على بعضٍ في تفاصيل مذاهبهم. والمختار عندي من مذاهب أهل السنة ما درج عليه السلف، ولزمه أهل الحديث والأثر من اتباع السنن، ولُزُومُ مناهج الأنبياء والأولياء، وترك رد الشرائع المعلومة عن المعصومين إلى ما يلائم خيالات الأذكياء المتكاذبين، وظنون العقلاء المتخالفين. وكيف يرد الأقوى إلى الأضعف، ومن لم يعترف بعلو مرتبة الأنبياء على الأذكياء، فما أنصف، وكفى فارقاً بينهم بعد ما خصَّهم الله تعالى به من المعجزات شدة الاختلاف بين الأذكياء التي تستلزم بالضرورة جهل بعضهم، كما يمنع بالضرورة علم جميعهم، فما اختلف في القطعيات عالمان قط، ولا يصح الاختلاف إلاَّ بين جاهلين، أو بين عالمٍ وجاهل إلاَّ ما كان مراداً لله تعالى مثل اختلاف سليمان وداود عليهما السلام، وسائر المجتهدين في الفروع، والله أعلم. وقد عصم الله رسله الكرام عن هذه النقيصة، فما زالت كلمتهم واحدة، الأول يُبَشِّرُ بالآخر، والآخر يوجب الإيمان بالأول، وسيأتي طَرَفٌ من حجة هذه الفرقة عند ذكر ما يروى منه، وبيان القدر القوي الجَلِيِّ من مذهبهم. وأما تكفير المعتزلة لهم، فإن رده هو مقصود كتابي هذا، وقد احتج من زعمه بأمورٍ مدارها على أنهم قد نسبوا القبائح إلى الله تعالى لقولهم بمشاركته سبحانه لعباده في فعلها، وما قبح من العباد من العقليات قَبُحَ من الله تعالى عند المعتزلة. والجواب عليهم من وجوهٍ: الوجه الأول: أن نقول: ما مُرادُكم بأن نسبة القبيح إليه تعالى كفرٌ؟ هل نِسبَتُه ممن يعتقد قُبحه أو لا؟ الأول: مُسَلَّم ولا يَضُرُّ تسليمه، لأنهم يعتقدون
حُسْنَ ذلك من الله تعالى، ويمنعون قُبحَه من الله تعالى. والثاني: ممنوعٌ لأمورٍ: أولها: أن من نسب إلى الله تعالى الحُسْنَ، وهو يعتقد أنه قبيح، كفر إجماعاً، لأنه قصد انتقاص الرب تعالى، فدل على أن الحكم للاعتقاد لا لمطابقته المعتقد، فيلزم في من اعتقد في أمرٍ قبيح أنه حَسَنٌ، ثم نسبه إلى الله تعالى، أنه لا يكفر، لأنه قصد مدح الرب عزَّ وجلَّ بكمال القدرة ونفوذ المشيئة، مع تصريحه بأن لله الحجة البالغة، عرفها أو لم يعرفها. وكم يقع للمعتزلة مثل هذا كثيراً، فإنهم اختلفوا في آلام الأطفال والبهائم ومن لا ذنب له. فمنهم من قال: يحسن مع العِوَضِ وحده. ومنهم من قال: مع الاعتبار وحده. ومنهم من قال: هي مع العوض وحده عَبَثٌ، لإمكان التفضل (¬1) بالعوض من دون ألمٍ، ومع الاعتبار وحده ظلم في حق الصغير والعَجْماوات، لأن المعتبر غير الأليم. وهذا (¬2) هو المختار عندهم، فيجب في الألم أن يكون جامعاً بين العوض والاعتبار، ومع هذا فلم يُكَفِّروا من جوَّزه بأحدهما، ويجعلوه بمنزلة من أجاز العبث أو الظلم على الله تعالى. وكذا تقدم أن قاضي القضاة منع من تكليف من عَلِمَ أن لُطْفَه في فعلٍ قبيحٌ، وقال: إنه غير مُزَاحِ العلة، ولم يُكَفِّرِ الشيوخ لتجويزهم على الله تعالى تكليف من هو كذلك، وأمثال هذا بينهم كثيرة، مثل قول أبي القاسم البَلْخِي والبغدادية: إن تكليف الكافر لمصلحة المؤمن تجوز على الله تعالى، وهذا ظلمٌ عند سائر المعتزلة. ¬
وكذلك اختلافهم في بعض صفات الله تعالى، ثم لا يُكَفِّرُ بعضهم بعضاً بذلك، وإذا خالفهم السني في شيءٍ منها، تَمَحَّلوا تكفيره بأنه قد عبد غير الله. والقصد بهذا تنبيه الغافل على ما بين الفِرَقِ من العصبية لعله يتقي الله تعالى في التقليد في التكفير والتفسيق، ويرجع إلى النظر الصحيح والتحقيق. الوجه الثاني: -وهو المعتمد- أن التكفير سَمْعِيٌّ قطعي عند المعتزلة، والصحيح أن كل قطعي من الشرع فهو ضروري، والمعلوم ضرورةً أو قطعاً من السمع إنما كفر من اعتقد في أمرٍ أنه قبيح ثم نسبه إلى الله تعالى، ومن ادَّعى كُفْرَ من أخطأ في استحسان قبيحٍ وتجويزه على الله تعالى لحسنه عنده من الله تعالى، احتاج إلى دليلٍ قاطعٍ، بل ضروي من السمع، وهذا غير موجودٍ قطعاً. الوجه الثالث: أن قدرة الله تعالى عند هؤلاء إنما أثَّرَتْ في مجرد الذات الحقيقية، وهي: الحركة والسكون، بل (¬1) المرجع بهما عند المعتزلة والأشعرية إلى مجرد اللبث في الجهة مع شروط عدميةٍ وإضافيةٍ مثل شرط النُّقلة في (¬2) الحركة، وشرط البقاء في السكون. ولا شك أن لبث الجسم في حَيِّزٍ إما فعل الله، لأن العبد لا يقدر على الانفكاك من ذلك القدر الذي هو حقيقة الذات في الأفعال عندهم، وإنما يكون اختيار العبد في صفات ذلك اللبث وأحواله التي يقبح بسببها ولم تُعَلَّقْ قدرة الرب بها. وأما الذات التي تعلقت قدرة الرب بها، فإنها لا تُوصَفُ بقُبْحٍ باتفاق الفريقين من المعتزلة والأشعرية، وإنما تَقْبُحُ عند الجميع لوقوعها على بعض ¬
الوجوه والاعتبارات الإضافية، وهي لا تقع على تلك الوجوه بقدرة الرب عند الفريقين أيضاً، لأن تلك الوجوه ليست بأشياء حقيقيةٍ عند الجميع، والمضاف إلى قدرة الله تعالى في أفعال العباد إنما هو إخراج ذوات الأفعال التي هي أشياء حقيقيةٌ من العدم إلى الوجود، وقدرة العبد تؤثر في وقوع ذوات الأفعال على تلك الوجوه المختلفة، ولأجل وقوعها بقدرة العبد وحده على تلك الوجوه استحقت أسماءً لا يصح إطلاقها على الله تعالى مثل: العبادة والطاعة والمعصية، فلو وقعت تلك الوجوه بقدرة الله سبحانه لزم أن يُسَمَّى مطيعاً وعابداً وعاصياً ومُصَلِّياً وصائماً، ونحو ذلك. فلما كانت هذه الأسماء لا تطلق عليه، إنما يطلق عليه أنه الخالق الموجد المبدع، دلَّ على أن متعلق قدرته سبحانه هو ما اشتق له منه الأسماء الحسنى، وأن الاشتقاق من الفعل الواحد يختلف بحسب اختلاف وجوهه. كما أن إيلام اليتيم ذاتٌ واحدة، وأسماؤه وصفاته تختلف، فحين يكون تأديباً له ممن له ذلك يُسَمَّى تأديباً وإحساناً وإصلاحاً وقربةً وطاعةً، وحين يكون على ضد ذلك يُسمى معصيةً وظلماً وعدواناً، وحين يكون من الله تعالى يستحيل فيه اسم المعصية والطاعة والظلم والقبح، ويبقى اسم الإحسان والإصلاح والتأديب. فهذا شيء واحد اختلفت أسماؤه لوقوعه على الوجوه المختلفة، فكذلك سائر الذوات الموصوفة بالقبح، متى استحقت اسم القبح لوجهٍ وقعت عليه بقدرة العبد لا يستحقه لعدم ذلك الوجه حين تقع تلك الذات منسوبةً إلى قدرة الرب. وبالجملة فإن المعتزلة والأشعرية اتفقوا على أن المعاصي والطاعات كلها ليست هي الذوات المُخْرَجة بالقدرة من العدم إلى الوجود، وإنما هي وجوهٌ تقع الذوات عليها، وجهاتٌ لاستحقاق الذمِّ والعقاب، والثناء والثواب، وتلك الوجوه لا نحتاج إلى قدرة الله لتُؤَثِّرَ فيها على انفرادها، لأنها ليست بأشياء.
مثالٌ لبعض (¬1) ذلك: التروك، فإنها توصف بالتحريم متى كانت تُروكاً للواجبات ويستحق عليها الذم والعقاب، وتوصف بالوجوب متى كانت تُروكاً للمحرمات ويستحق عليها الثناء والثواب، مع أن التروك عند جماهير المعتزلة عدمٌ محضٌ، وإنما هي جهةٌ لاستحقاق الذم والعقاب، أو الثناء (¬2) والثواب. ومن قال منهم: إنها كفُّ النفس، وأن الكفَّ أمرٌ ثبوتي كالبَلْخِي والجُبَّائي، قال: إن الحُسْنَ والقبح الذي في التروك عَدَمِيٌّ إضافي، لأن الترك الواحد قد يكون كفّاً عن الواجب والحرام معاً، مثل من ترك الصلاة والظلم واشتغل بالمباح، فإن المباح عند هؤلاء واجب بالنظر إلى كفه عن الحرام، وحرام بالنظر إلى كفه عن الواجب. فلو كان الوجوب والتحريم حقيقِيَّيْنِ كالسواد والبياض لم يجتمعا، فدل على أن الحسن والقبح ليسا بشيء حقيقي، وأن جميع الطاعات والمعاصي ليست بذواتٍ وأشياء تحتاج إلى قدرة الرب تعالى عند الجميع. وقد يظن أن الجويني وأبا الحسين يخالفان في هذا، وليس كذلك، كما سيأتي مُحَقَّقاً إن شاء الله تعالى. ومن أدَقِّ ذلك الكلام في الكذب، فإنه لا يجوز أن يضاف الكذب إلى الله تعالى عند أهل السنة، لأنه لم يكن كذباً لذاته التي أثَّرت فيها قدرة الله تعالى، بل الصحيح عند المعتزلة أيضاً أنه لا يكون كَذِباً إلاَّ كذلك بحيث إنه عندهم إذا جُرِّدَ عن نسبة بعضه إلى بعض بالقصد لم يُوصَفْ عندهم بانه صدق ولا كذب. فإن قلت: وما ذاتُه الموجودة بقدره الله تعالى عند أهل السنة؟ قلت: أحد أمرين: إما مجرَّد الصوت، لأنه من المُتَولَّدات عن الاعتماد، والمتولدات عندهم كلها فعل الله لعدم اختيار العبد فيها بعد وجود سببها كسواد ¬
كلام الشيخ مختار المعتزلي في عدم جواز تكفير أحد من أهل القبلة
المِدَاد بعد خلط العَفْصِ (¬1) وماء الزاج (¬2) ونحو ذلك. وإما الحروف مع الصوت (¬3) إن كانت أشياء زائدةً عليه، والموجود (¬4) منها بقدرة الله تعالى ليس إلاَّ حرفٌ واحد، وهو لا يوصف بالكذب ولا بالصدق قطعاً، فدل على أن الموصوف بالكذب جملة الحروف المعدوم منها والموجود (¬5)، وهو حرف واحد، وذلك أوضح دليلٍ على أن وصفها بالكذب وصفٌ عدمي إضافي، ونسبة مثل هذا الوصف العدمي إلى قدرة العبد وحدها من غير مشاركة الرب صحيحٌ عند جميع فرق أهل السنة، كما سيأتي بيانه عند الكلام على مذهبهم في الكسب وتحقيقه، إن شاء الله تعالى (¬6). وقد تقدم أن هذه الوجوه والاعتبارات غير محتاجةٍ إلى قدره الرب، وإنما هي جهاتٌ لاستحقاق الذم والعقاب. وقد قال الشيخ مختارٌ المعتزلي في كتابه " المُجْتَبى " في المسألة الحادية عشرة في كُفْرِ المُجْبِرَة ما لفظه: ولم يكفِّرْهُم صاحب " المعتمد "، وبه قال الرازي لِمَا مرَّ، يعني من تصديقهم جميع الأنبياء والكتب والقيام بأركان الإسلام المنصوصة. قال: وأما نسبتهم القبائح إلى الله تعالى فيقولون: إنه لا يَكذِبُ في الشهادة ¬
على الأنبياء، فتقبُحُ طريق معرفة النبي لهم، نعم إنهم جاؤوا خطأً فاحشاً، وتخبَّطُوا تخبُّطاً عظيماً، لكن لما أقروا بذات الله وصفاته الذاتية، فيجوز أن لا يبلغ عقابهم عقاب الكفرة. فإن قيل: إنهم كعبدة الأصنام، لأنهم يعبدون إلهاً فاعلاً للمعاصي والمنكرات، مُرِيداً للقبائح والسيئات، ومثله غير الله، وعبادة (¬1) غير الله كفرٌ. قلنا: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنهم اعتقدوا صانِعاً للعالم غير جسمٍ واجب الوجود لذاته، قادراً عالماً حيّاً، لم يزل ولا يزال سميعاً بصيراً، وأقرُّوا به، فجاز أن يَنقُصَ عقابهم عن عقاب الكَفَرة. والثاني: أن هذه الاختلافات ثابتةٌ في صفاته وصفات أفعاله بين أئمة العدل والتوحيد، وبين السنية وبين الأشعرية، وبين المرجئة وبين الخوارج وبين الشيعة، وكل واحدٍ من أرباب هذه المذاهب يعتقد أن ما يعتقده مخالفه غير الله تعالى. فلو لزم من هذا تكفيرهم لزم تكفير هذه الطوائف الإسلامية بأسرها، وأنه شنيع وممتنع عقلاً وسمعاً وإجماعاً. ألا ترى إمام المعتزلة أبا عليٍّ ينفي الأحوال، وابنه أبو هاشم يُثْبِتُها، والبغدادية ينفون الصفات والأحوال وقالوا بالأحكام، وكل واحدٍ يعتقد أن ما يعتقده مخالفه غير الله، أيحسُنُ تكفير أولئك الأئمة أو واحدٌ منهم. فثبت أنه لا يجوز تكفير أحد (¬2) من أهل القبلة إلاَّ من ثبت (¬3) بالتواتر والإجماع كفره والله أعلم. انتهى ذلك (¬4) بحروفه. ¬
تحقيق ما اشترك فيه أهل الكسب والفرقة الأولى من الأشعرية في تأثير قدرة العبد في وجوه الحسن والقبح
وقد مرَّ للمؤيد بالله عليه السلام نحو ذلك في " الزيادات "، وللإمام يحيى بن حمزة عليه السلام نحوه في كتبه منها " التمهيد " ومنها " التحقيق " وغيرهما. فهذه الفرقة الأولى، وقد شاركها أهل الكسب في تأثير قدرة العبد في وجوه القبح والحسن، فلو لم تؤثر قدرة العبد في ذلك عندهم، بطل التكليف قطعاً، بل هي مؤثرة فيها عند الجميع، ولكن زاد هؤلاء على أهل الكسب أمرين: أحدهما: جواز (¬1) تأثير قدرة العبد في وجود الذات مع الله تعالى لا على جهة الاستقلال. وثانيهما: تسمية ما أثَّرت فيه قدرة العبد مخلوقاً، وهو بعينه من غير تأويلٍ بخلاف أهل الكسب، فإن المخلوق متميز (¬2) عندهم عن فعل العبد عند التحقيق كما (¬3) يأتي. وقد صرح الشهرستاني بما ذكرته من اتفاقهم على تأثير قدرة العبد في وجوه القبح والحسن، كما تقدم ذكره من نصِّه، على أن المرجع بقول الأستاذ أبي بكر وأبي إسحاق إلى قول القاضي أبي بكر الباقِلاَّني بعينه، إلاَّ أن ما سمياه (¬4) وجهاً واعتباراً أسماه القاضي صفةً وحالاً. ولا شك أن الأستاذ وأبا إسحاق هما صاحِبَا هذه المقالة، وإماماً أهلها. فإن قلت: فهلاَّ كان تأثير قدرة العبد في وجوه الحسن والقبح مشروطاً بمشاركة قدرة الله تعالى في ذلك كالذوات، فإنه يلزم من استقلال العبد بالتأثير في ذلك أن يستقل دون الله تعالى بشيء من الأشياء، وهذا لا يجوز بإجماع أهل السنة. فالجواب: أن وجوه الحسن والقبح عندهم ليست بشيء البتَّة، حتى يكون ¬
العبد متى استقل بها، كان مستقلاًّ (¬1) بشيء، وإنما هي جهاتٌ للاستحقاق مثل تروك الواجبات، وتروك المحرمات عند المعتزلة، وما لم يكن شيئاً لم يحتج إلى ذلك. فإن قيل: وهل يصح التكليف وتوابعه بغير شيء؟ قلنا: إن أردت بغير شيء لُغَويٍّ، أو بغير شيء شرعي، أو بغير شيء معقولٍ أنه يُطلب ويُستحق عليه الجزاء فلا يصح التكليف بغير شيء. وإن أردت بغير شيء اصطلاحي، وهو الذات الذي يصح تصورها، ويعلق العلم بها منفردةً، فلا يصح بإجماع المعتزلة أيضاً. فإن قلت: فإن الاختيار شيء، وقدرة العبد لا تؤثر فيه إلاَّ مع قدرة الرب. قلت: السؤال مردود، فإن الاختيار ليس بشيء حقيقي، وإلا لزم المعتزلة ثبوته في العدم وهو محال، بل هو عدميٌّ إضافي. ولا يُعلَمُ أحدٌ (¬2) من المعتزلة -دع عنك أهل السنة- نص على أنه شيءٌ وجودي نصّاً، بل عند المعتزلة بأسرهم إلاَّ أبا الحسين أن الأشياء كلها ثابتة في الأزل، وأنه يستحيل تأثير قدرة الله تعالى فيها كيف إلاَّ قدرة العبد. وإنما تؤثر عندهم قدرة الله وقدرة العبد في الأحوال التي ليست بأشياء، فكيف ينكرون على أهل السنة قولهم: إن الذي أثرت فيه قدرة العبد وحدها هو الاختيار وحده، وليس بشيء. وقد احتج الرازي في " النهاية " -على أن الاختيار ليس بشيء حقيقي- أنه لو كان كذلك، لكان من جملة أفعال العبد المحتاجة في ثبوتها إلى الاختيار، فيحتاج كلُّ اختيارٍ يفعله العبد إلى اختيار آخر يختاره به، ويتسلسل إلى ما لا ¬
كلام الرازي أن العبد يفعل الاختيار عند الداعي الراجح من غير جبر
نهاية له، وذلك محال، وكذلك ما أدى إليه وهو القول بأن الاختيار شيء ثُبوتيٌّ. ثم ذكر الرازي أن العبد يفعل الاختيار عند الداعي الراجح من غير جبرٍ كما يفعل الله تعالى الواجب في حكمته عند المعتزلة وجوباً من غير جبرٍ. قال: ولا يصح للمعتزلة أن تلزم الجبر بذلك لوجهين: أحدهما: أن الداعي عند المعتزلة غير موجب. قلت: بل هو كذلك عند الجميع، فهذا الرازي من الغُلاة فيه قد نص في " النهاية " على بقاء الاختيار مع الداعي الموجب كما يأتي. قال الرازي: وثانيهما: أنهم يقولون بمثل ذلك في حق الله تعالى، ولم يقتض أنه عندهم غير مختار. وبهذا يعرف خطأُ الغزالي على أهل السنة حيث نسب خلق الاختيار إلى من يقول بالكسب، وينفي الجبر في الرسالة القدسية في أوائل كتاب " إحياء علوم الدين " (¬1)، إلاَّ أن يكون أراد بالاختيار التمكن، كما قال الجويني في مقدمات " البرهان " (¬2): لا يُكلف إلاَّ المتمكِّن، ولا يصح التكليف إلاَّ بالممكن. فلا شكَّ أنا خُلِقنا متمكِّنين مختارين بغير اختيارنا، كما تقدم في المرتبة الأولى من هذه المسألة. فهذا الرازي والبيضاوي والشهرستاني المقدمون في هذا الفن، المعوِّلون عليه في جميع أعمارهم لم يَنْسِبوا إلى أحدٍ من فرق السنة شيئاً من ذلك، وقرروا القول بأن الاختبار أثرُ قدرة العبد لا أثر قدرة الله تعالى. وحقق ذلك الرازي بأنه ليس بشيء حقيقي، واحتج على ذلك موضحاً أن ¬
ما كان شيئاً حقيقياً، فهو الذي يختص بقدرة الله تعالى وحدها على قولٍ، أو بالإعانة منه تعالى على القول الآخر. وأما قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] فذكر الواحدي في " أسباب النزول " (¬1) أنها نزلت جواباً للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أخبر تعالى أنه لا يبعث الرسل على اختيارهم، رواه الواحدي في " أسباب النزول " ونسبه إلى أهل التفسير ولم يَسْتَثْنِ منهم أحداً، فصار هذا راجحاً، ولو لم يكن إلاَّ مُحتملاً مرجوحاً، لكان القاطع مقدماً عليه كيف الضروري. وكذا قال البغوي (¬2)، وقال: هو كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكونَ (¬3) لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]. انتهى. وقد ظهر أن هذا من الاختيار الذي هو الاصطفاء والاجتباء والانتقاء، لا من (¬4) الاختيار الذي هو نقيض الاضطرار وليس فيه تأويل، بل هو من المشترك، ¬
كلام في الاختيار والإرادة والفرق بينهما
ومادة هذا من علم الغيوب، لقوله تعالى: {وكُنَّا به عالِمينَ} [الأنبياء: 51]، {وأضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، " وأستخيرك بعلمك " رواه البخاري (¬1)، ومادة الثاني من القدرة. فإن قيل: قد أجمعوا على أن الإراده أمر ثُبوتي وجودي، والاختيار هو الإرادة. قلنا: هذا ممنوع باتفاقهم، أما الأشعرية فظاهرٌ كما نص عليه الرازي، واحتج عليه في " نهاية العقول " كما ذكرته أول هذا الكلام. وأما المعتزلة فقد ذكر ابن متَّوَيه في " تذكرته ": قد ثبتت حيث ينتفي الاختيار، والاختيار قد يثبت حيث تنتفي الإرادة. مثال الأول: إرادة المُلْجَأِ إلى فعل ما يدعوه الداعي إليه كالهارب من السبع، فإنه يضطر إلى الهرب ويريده ولفعله وليس بمختارٍ فيه. ومثال الثاني: أنه متى حصلت القدرة والداعي وقع الفعل بهما وإن منع الله تعالى الإرادة، بل وإن خلق الكراهة. انتهى كلامه. وذكر في موضعٍ آخر منها، وذلك في أواخر فصول الإرادة: أن الإرادة إذا قارنت الفعل ووقع بها على وجهٍ سُمِّيَتْ نِيَّةً، ودلَّت على ما في الضمير، وذلك لا يوصف بها الله تعالى. وأما ما يتعلق منها بالحدوث فلا يُسمى نية، قال: وكذا ما يتعلق منها بالكلام يُسَمَّى قصداً، حتى قال: ويشبه بالقصد قولنا: إيثارٌ واختيارٌ. فدل على أن هذه الأسماء قد تُطلق على الإرادة عند تعلُّقاتٍ مخصوصةٍ، ووجوهٍ مختلفةٍ، تقع عليها الإرادة فتميز تلك الوجوه بعضها من بعض باختلاف ¬
هذه الأسماء، فخالفوا بين هذه العبارات لتدل على تلك المعاني المختلفات. فدلَّ على أن الاختيار غير الإرادة، وعلى أن الاختيار قد يُطلق عليها (¬1) عند وقوعها على وجهٍ مخصوص، فهو في بعض اعتباراته وصفٌ من أوصافها، أو حالٌ من أحوالها. فالإرادة بنفسها من غير نظرٍ إلى تعلقها بشيء، هي ذاتٌ حقيقية، ووجودها غير متعلقةٍ صحيحٌ عند المعتزلة، والعبد مكلف بتعليقها بوجوه الحسن دون القبح، وتخصيص الفعل بوقتٍ دون وقت، وقدرٍ دون قدر، وهذا التعليق والتخصيص هو بالاختيار لا بالإرادة، بل الإرادة فعلٌ للعبد يقع بالاختيار (¬2) فَافْتَرقا. ولا يُنْقَضُ هذا بقول البيهقي في " الأسماء والصفات " (¬3): وأما الاختيار، فقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وهو عند الأشعري يرجع إلى إرادته إكرام من يشاء [من عبيده بما يشاءُ من لطائِفِه]، وهو عند غيره من صفات الفعل، فلا يكون معناه راجعاً إلى الإرادة بمعنى، بل يكونُ راجعاً إلى فعل الإكرام. انتهى بحروفه. والجواب: أنه لا يُنَاقِضُ ذكرنا عن الأشعرية، فإن الاختيار غير الإرادة على الحقيقة، ولكن الأشعري تأول الاختيار في حق الله تعالى بالإرادة على سبيل المجاز، كما تأول الغضب والسُّخط في حقه تعالى بإرادته الذم والعقاب، وتأول المحبة والرضا بإرادة الثناء والثواب، وهذا عنده في حق الله تعالى. وأما في حق المخلوقين فلا يجب تأويل شيء من ذلك، بل تُستَعْمَلُ الإرادة، والاختيار، والغضب، والبُغْضُ، والمقت، والسخط، والمحبة، ¬
والرضا (¬1)، كل واحدٍ في مدلوله الحقيقي اللغوي، لأنه لا مانِعَ عنده من استعمالها في حقائقها في المخلوقين. وهذا التأويل الذي ذكره البيهقي عن الأشعري هو مذهب المعتزلة أجمعين في حق الله تعالى. واعلم أنه لا يُفَرِّقُ بين هذه الأمور ويميزها (¬2) إلاَّ من عرف علم اللطيف، وهو فنٌّ مستَقِلٌّ من فنون الكلام، وللمعتزلة فيه " تذكرة " ابن متويه، وللأشعرية فيه " الملخص " للرازي. وقد ذكر الغزالي في " المنقذ من الضلال " (¬3) تقصير المتكلمين فيه، لأنه ليس من مقصودهم الأول، وإنما عنى أن مقصودهم الذب عن الإسلام، ثم اضطروا إلى الكلام في بعضه، وإنما هو من مقصود علوم (¬4) الفلاسفة. فإذا كان المتكلمون قد قصروا فيه، فما ظنُّك بمن ليس من النظر في شيء إذا تعرض للخوض فيه، وإنما حملني على التنبيه على هذه الجمل (¬5) اليسيرة قَرْعُ أسماع الغافلين الخائضين في التضليل والتكفير بغير هُدَىً ولا كِتابٍ مُنِيرٍ. فيا عَجَبَاهُ ممن يُكفر طوائف من المسلمين ولم يعرف ما قالوا، ولا هو أهلٌ لفهم ما قصدوا، ولا فهم ما خافوا وحَذِرُوا ومن البَلِيَّةِ عَذْلُ من لا يَرْعَوِي ... عَن غَيِّهِ وخِطابُ مَنْ لا يَفْهَمُ (¬6) ¬
فإن قيل: فكيف يصح من العبد أن يختار أمراً وذلك الأمر مخلوقٌ لله عز وجل، والمخلوق لله تعالى كائن قطعاً. والجواب من وجهين: معارضة وتحقيق (¬1): الوجه الأول: وهو المعارضة بالعلم الذي تُقِرُّ به المعتزلة، فإنه يقال لهم: كيف يصح اختيار العبد في معلوم الله تعالى؟ فما أجابوا به، فهو جواب أهل السنة. الوجه الثاني: وهو التحقيقُ أن اختيار العبد سابقٌ لخلق الرب سبحانه سَبْقَ الشرط للعلة المؤثِّرَة كما سيأتي. وهذا السؤال قد تكرَّر وتكرَّر جوابه، فلا يُضْجَرُ منه، فإنه لا يخلو من فائدة أو زيادة وضوحٍ وبيان، وذلك وإن تكرر وطال خيرٌ من الجهل بمذاهب الرجال. وقد ذكر الرازي هنا معارضاتٍ للمعتزلة، قصد بها بيان أن مذهب المعتزلة ليس بأوضح من مذهبهم لاستلزام كل مذهبٍ في هذه المسألة للجبر ونفي الاختيار، لولا انفصال كل فِرقةٍ عن ذلك بالأنظار الدقيقة والاعتبارات اللطيفة، وقد مضى شيءٌ من ذلك عند ذكر مذهب المعتزلة أول المسألة. فإن قيل: إن المؤثِّر في قبح القبائح هو الإرادة، يوضحه الحديث المتفق عليه وعلى حُكْمِه " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىءٍ ما نوى " (¬2) والنية: ¬
هي الإرادة بعينها، وإذا كانت الإرادة (¬1) هي المؤثِّرة، لزم (¬2) نسبة القبيح إلى الله لأنها أثَرُ قدرته. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أنه لا يصح عند الجميع تأثير الإرادة في ذلك، بل ولا الاختيار، لأنهما يوصفان بالقبح، فلو كان القبح يستلزم ذلك احتاج قبح الإرادة وقبح الاختيار إلى إرادةٍ واختيارٍ سابقين، ويتسلسل إلى ما لا نهاية له. ذكر ذلك ابن متَّويه في " تذكرته " في " الإرادة " دون الاختيار، وذكر وُجُوهاً أُخَر في الإرادة غير مؤثرة في ذلك. منها: أن المُرِيد لو مُنِعَ من القصد، وهو عالمٌ بقبح القبيح يتمكن من التحرُّز منه، لكان إذا فعله يقبُحُ ذلك منه، ويستحق به الذم ولا إرادة هناك. فإن قلت: فما المؤثِّر في ذلك، فإنه لا بد من مؤثرٍ معقول (¬3)؟ قلت: هذه غفلةٌ عظيمة، فإنا قد (¬4) قررنا أن الحسن والقبح ليسا بشيء البتَّة، فكيف يحتاج ما ليس بشيء حقيقي إلى مؤثِّرٍ حقيقي، وقد بينا أنهما يتعلقان بالتروك العدمية المحضة، والعدم يستحيل التأثير فيه، وإنما سُمِّيَ الوجه الذي نشأ منه الحسن والقبح مؤثِّراً فيهما على سبيل المجاز، وذلك الوجه هو الحال الذي وقع الفعل عليه فاستحق به اسم الحسن والقبح ولوازمهما، وهو أمرٌ دقيق. وقد اشتد اختلاف المتكلمين في الأحوال: منهم من أثبتها كأبي عليٍّ الجُبَّائي من المعتزلة، والباقِلاَّني من الأشعرية. ومنهم من نفاها. وقد طوَّل الشهرستاني في ذلك، وأَفْرَدَ الكلام فيه في ¬
مسألةٍ مستقلةٍ جعلها من مهمات كتابه، ويأتي في بيان الكسب إشارة يسيرة إلى معناها. ومنهم من نفاها وجعلها مجرد عبارة، فإن صح ثبوت الأحوال وأنها أمور معقولة، فهو منشأ الحسن والقبح في الأفعال، وهي تُسمى موثرة فيهما مجازاً، وإن لم يصح ذلك كان الحسن والقبح معلومين بالإجماع، بل من ضرورة الدين وضرورة العقل عند المعتزلة وبعض أهل السنة، ولم يكونا مُعَلَّلَيْنِ، فليس كل معلوم معلَّلاً بمؤثرٍ متصورٍ في الذهن بالاتفاق كالتُّروك. وقد دقَّ الأمر في هذا على المعتزلة كما دق على الأشعرية، ونُسِبَ إلى بعض أوائل المعتزلة أن القبيح قبيحٌ لذاته (¬1) والحسن كذلك، وهو قولٌ مرذولٌ عند المعتزلة، وللأشعرية عليه ردود ضرورية ذكروها في الكلام على التحسين والتقبيح العقليين. ولذلك عوَّلت الأشعرية في هذه المسألة على السمع دون العقل، إلاَّ في صفة النقص كالجهل والكذب، وصفة الكمال كالعلم والصدق، واعترفوا بدَرْكِ العقل لها من دون أن يُدْرِك استحقاق الذم والعقاب على صفة النقص، ولا الثناء والثواب على صفة الكمال، فلا يعرف ذلك إلاَّ بالسمع عندهم، خلافاً للمعتزلة فإنهم جعلوا ذلك من المدارك العقلية، وليس اختلافهم إلاَّ في هذه النكتة على ما حققه الرازي. الوجه الثاني: أن ابن متويه ذكر في " تذكرته " أن الإرادة إذا قارنت الفعل، ووقع الفعل بها على وجهٍ سُمِّيت نية، فأما تعلق الإرادة بمجرد (¬2) الحدوث فلا يسمى نية، لأن النية مفيدةٌ للضمير، فلهذا لا يصح استعمال هذه اللفظة في الله تعالى. ¬
قال: وأما القصدُ، فيجب أن يكون مقارِناً للمراد، وأن يكونا معاً من فعل فاعلٍ واحدٍ، فلا يقع من أحدنا قصدٌ إلى فعل الغير، ولهذه (¬1) الطريقة تُسَمَّى الإرادة التي يقع بها الكلام خبراً قصداً، ولا يُسَمَّى ما يؤثر في كونه أمراً لمن هو أمر له مُسَمَّاه بأنها قصد هذا (¬2) التفصيل، ويشبه القصد من هذا الوجه قولنا: إيثارٌ واختيارٌ، لأن حكمهما حكمه (¬3) سواء. انتهى بحروفه. واشتراطه في القصد (¬4) أن يكون فاعله فاعل المقصود، إن أردنا بالقصد الإرادة نفسها، فهي مسألة خلافٍ بين المعتزلة يأتي بيانها في الوجه الثالث إن شاء الله تعالى. فإن أراد بالقصد وجهاً من وجوه تعلق الإرادة، فمُسَلَّمٌ وهو ظاهر مراده، وهذا الكلام يدل على أن للإرادة (¬5) تعلُّقاتٍ مختلفةً، بعضها: يتعلق بالحدوث، يتخصص الحدوث لأجله بوقتٍ دون وقت، وقَدْرٍ دون قدرٍ، فيسمى إرادةً ولا يُسمى نيةً، وبعضها: يتخصَّص بالوجوه المختلفة المُقتضية للحسن أو القبح، فتميز من بين سائر أقسام الإرادة بهذا المعنى، ويختص لأجل تميزه بهذا باسمٍ مُفرَدٍ: وهو النية التي توثر (¬6) في الأعمال، وهذا مطابِقٌ لما ورد به النص المتفق على صحته نقلاً ومعنىً وعملاً. وهذا التعلق المخصوص الذي ميز هذا النوع من الإرادات هو أثر قدرة العبد وحدها، فلذلك نُسَمِّيه ناوياً وليس بمتعلِّقٍ بقدرة الله تعالى، ولذلك لم يصح إطلاق الناوي على الله تعالى، كما اعترف بذلك ابن متويه، وكما سيأتي تقريره في كلام الباقِلاَّني في تعريف معنى الأحوال. وفي هذا جواب قول السائل: إن النية هي الإرادة، وبيانُ غَلَطِه في ذلك بإجماع المعتزلة والأشعرية بسبب افتراق العبد والرب في وجوه تعلق الإرادة. ¬
صح أن يُشتق للعبد ما لا يشتق للرب من اسم المُطيع والعابد والعاصي والكافر والمؤمن والمتقرِّب وما لا يُحصى، فكذلك الظالم وفاعل الظلم والقبيحِ ونحو ذلك. وقول ابن متويه: ويشبه القصد في هذا الوجه قولنا: إيثارٌ واختيارٌ يعني أنهما من أسماء الإرادة عند تعلقها ببعض الوجوه المخصوصة، وأنهما لا يتعلقان بفعل الغير كالقصد، فيجب أن يكونا وما تعلقا به من فعل فاعلٍ واحدٍ، كما هو قول الأشعرية في الإرادة، فالإيثار اسم لإرادة الإحسان إلى الغير ممن ليس له غيرُ ما أعطى، والاختيار هنا هو في معنى النية بزيادة شرط المقارنة والقدرة، فهو اسمٌ للإرادة على هذه الشروط المخصوصة. الوجهُ الثالث: أن الشيخ أبا هاشمٍ، وهو شيخ الاعتزال، قد جوَّر أن تؤثِّر الإرادة في الخطاب، وإن كانت من فعل الله تعالى والخطاب من فعلنا، فيكون خبراً أو إنشاءً بها، ويُنْسَبُ كونه خبراً أو إنشاءً إلينا، كما أن العلم الضروري بالصناعات المحكمة التي هي فِعْلُنا تؤثِّر في أحكامها، وتنسب الأحكام إلينا، مع أن العلم الضروري المؤثر في صحة الأحكام من فعل الله تعالى، وهذا كلامٌ صحيحٌ. وقد اعترضه ابن متويه بأنها لو أثرت، وهي من فعل الغير، لكان أحدنا إذا أوجد (¬1) الكلام ووجدت هذه الإرادة خرج عن الاختيار في جعل كلامه خبراً، ومعلومٌ أن كونه خبراً مضافٌ إلى الفاعل، ولا يمكن التسوية بينها وبين العلم، لأن مع وجود العلم تصح أحكام الفعل، ويبقى الاختيار له فيه، سواء كان العلمُ من فعله أو من فعل غيره. والجواب على ابن متويه: أنه قد اعترف في " تذكرته " أنه يصح وجود الإرادة غير متعلقةٍ، وهو مذهب أبي هاشم وغيره، فيمكن أن يقول: إن الله تعالى ¬
يُوجِدُها في المتكلم غير متعلقةٍ بكون كلامه خبراً أو إنشاءً، ثم يُعَلِّقُها المتكلم بأحدهما باختياره. بيانه: أنه قد ثبت أن للإرادة بالمراد تعلُّقاتٍ شتى، فبالنظر إلى حدوثه يسمى إرادةً، وبالنظر إلى كونه خبراً وصدقاً وكذباً يُسَمَّى قصداً، فلأبي هاشمٍ أن يجعل هذا التعلق المختص باسم القصد من فعلنا واختيارنا، وإن كانت الإرادةُ في ذاتها من فعل الله، وهي تسمى مؤثرة في الخطاب في الحقيقة العُرفية. وإن كان التأثير على التحقيق لهذا التعلق الخاص، لا سيما، وقد نصَّ ابن متويه في الكلام الذي مضى في الوجه الثاني على هذا المعنى، وهو أن المؤثر في الكلام هو نوع من الإرادة يختصُّ باسم القصد، فإنه إنما اختص بذلك الاسم لوقوع الكلام به على وجهٍ. وذكر في فصل آخر أن القبيح لا يقبُحُ بالإرادة في وجه القبح مثل كون الخبر كَذِباً، لأنه إنما يصير خبراً بالإرادة. قلت: ومعنى هذا أنها مُصَحِّحَةٌ لوقوع الكلام خبراً كاذباً، والمؤثِّر في قبحه وقوعه (¬1) كذلك لا بالإرادة، فليست هي المؤثرة، ولكنها مصححةٌ للوجه المؤثر. وكلامه ها هنا (¬2) لا يناقض ما قدمه من أن الكلام لا يصير خبراً إلاَّ بالقصد، لأن القصد نوعٌ من الإرادة، كما أن النية نوعٌ منها، والأنواع لا يتميز بعضها من بعض، ولا تتميز هي من أجناسها إلاَّ لوقوعها على الوجوه المختلفة، كما ذكر في تقاسيم الإرادة، حتى قسمها إلى: عَزْمٍ ونية وقَصْدٍ وإيثارٍ واختيارٍ ومحبةٍ وحَسَدٍ وغِبْطَةٍ ومُوالاةٍ ومُعاداةٍ، وكل هذه الأقسام يتميَّز بعضها من بعض بوجه مفهوم يقع الفعل عليه باختيار المختار، فيتغير اسم الإرادة ليدل تغييره وتبديله على المعاني المختلفة، وهذا التفصيل بمنزلة التقييد. وقوله في غير هذا الفصل: إن الكلام يصير خبراً بالإرادة بمنزلة المطلق ¬
كلام في الملجىء للقائلين بصحة مقدور بين قادرين
المُتَجوَّز فيه، وإنما عنى بالإرادة حيث أطلق تأثيرها في الكلام، فعلى هذا القصد الذي بُيِّن في هذا التفصيل أن الإرادة (¬1) تسمى به حين تختص بالتأثير في الكلام. فعلى هذا لو سلَّم أهل السنة أن الإرادة فعل الله وحده في العبد والاختيار إلى العبد، جاز أن يوقع الفعل به على الوجه القبيح، ويكون القبيح منسوباً إلى العبد دون الله تعالى، كما أن الله لما أوجد فيه العلم والقدرة المؤثرين في الإحكام، ووقع الإحكام باختياره، كان الإحكامُ منسوباً إلى العبد. على أنا لو سلمنا ضعف كلام أبي هاشم في ذلك، فقد عرفت مما ذكرته أن الأمر قد انتهى في هذه المسائل على الدقة الكبيرة (¬2)، فمن بنى مذهبه على مثل هذا وشاركه في أساس مذهبه مثل أبي هاشم وأتباعه كان خليقاً عند المعتزلة بعدم التكفير، بل بعدم التشنيع والتحقير، وكل ما بُنِي على التدقيق، فهو دقيقٌ بلا خلاف بين أهل التحقيق، فيرتفع بذلك التكفير والتفسيق، وتَنسَدُّ إليه عند الإنصاف الطريق. فإن قيل: فكلام هذه الفرقة ينبني على صحة القول بمقدورٍ بين قادرين، وتجويز فعلٍ واحدٍ لفاعلين، فما الذي ألجأهم إلى هذا؟ قلت: أمران عقلي وسمعي: أما العقلي: فالفِرار من تعجيز الله عز وجل، فإن من قال بإحالة ذلك استلزم القول بأن الله عزَّ وجلَّ لا يقدر على أعيان مقدوراتِ العباد، حتى أفعال ما ضربه الله تعالى مثلاً في الضعف والحقارة من البعوضة والذباب والعنكبوت، وقد التزمت هذا المعتزلة إلاَّ أبا الحسين، حتى قالت البهاشمة من المعتزلة: إن في العدم ذواتٍ مُمكِنَة الوجود، وهي غير مقدورةٍ لله تعالى، وهي جميع مقدورات العوالم والحيوانات. ¬
وقد أُلزِمُوا (¬1) التكفير في هذا، واعتذروا عنه بحيلتهم المعروفة في تسميته مُحالاً، وتفسير المحال بأنه لا شيء، والمنع من القدرة على لا شيء. وبهذه الحيلة احتال كل عدوٍّ للإسلام في تعجيز الرب جل جلاله عن كثير من الممكنات، حتى اعتذر بذلك من منع من معاد الأجساد من الزنادقة. ومن العجب أن الذي ألجأ المعتزلة إلى هذا القول الساقط أمرٌ قريب، وهو قولهم: إن أحد القادِرَيْن لو أراد إيجاد مقدوره، وأراد الآخر خلافه، أدى إلى أحد باطِلَيْن: إما وجودُ مقدور القادر من غير إرادته، وإما عدمه عندها (¬2). وجوابه واضحٌ: وهو أن مقدوره إنما يكون مقدوراً له بشرط عدم المانع، ومع وجود المانع ليس بمقدورٍ، والقادران إن كانا مِثْلَيْنِ كالعبد مع العبد جاز أن يتمانعا حين يستويان، وأن يغلب أحدهما الأضعف حين يتفاضلان، وإن لم يكونا مثلين كالعبد مع الرب عزَّ وجلَّ كان في مقدور الله تعالى واقعاً مطلقاً متى أراد، ومقدور العبد مشروطاً بعدم منع الرب عزَّ وجلَّ له، وليس في هذا دِقَّةٌ، فمعذرتهم في هذا غلطةٌ داحِضَةٌ لا شبهةٌ غامضةٌ. ولولا كثرة التجرُّؤ على ذي العزة والجلال ما أقدموا على تعجيزه سبحانه بمثل هذا الخيال، ولكن ليس يلزم من القول بقدرة الرب تعالى على أفعال العباد القطع بأنه سبحانه قد شاركه في فعلها، فإنه سبحانه موصوفٌ بالقدرة التامة على ما يفعل وعلى ما لا يفعل، وهذا هو مذهبُ طوائف أهل السنة الثلاث الآتي ذكرها، وهو أوسط الأقوال وأعدلها. وأما الأمر السمعي، فهو نوعان: عمومٌ وخصوصٌ. أما العموم: فكثيرٌ شهير، مثل قوله تعالى: {الله خَالِقُ كلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله: {وخَلَقَ كُلَّ ¬
شيءٍ فقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]، وهو أشهر وأكثر من أن يُذْكَرَ ويُحصر، غير أنهم اختلفوا في تفسير الخلق والخالق. فمنهم من فهم أنه المؤثر في الذات علي جهة الاستقلال من غير معين، فجوز أن يؤثر العبد في الذات، وهو غير مستَقِلٍّ، وهؤلاء اعتبروا الاستقلال دون مجرد التأثير، وهم الفرقة الأولى. ومنهم من اعتبر مجرد التأثير في وجود الذات، وهم أهل الكسب الأشعري وأتباعه، وأما الجُوَيني وأصحابه فسيأتي تحقيق مذهبهم في الفرقة الرابعة. النوع الثاني: الخصوص (¬1) الوارد في ذلك، وهو قليلٌ ومحتمل لما في تفسيره من الخلاف بين أهل السنة، كما سيأتي في مثل قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وقوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]. وحديث حذيفة بن اليمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله يصنعُ كلَّ صانعٍ وصَنْعَتَهُ ". رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " (¬2) وغير ذلك، وسيأتي ذلك مستقصى ويُبين اختلاف أهل السنة في الاحتجاج بهذه الحجج الخاصة والصحيحُ من أقوالهم إن شاء الله تعالى. الفرقة الثانية: الذين يُنْسَبُ إليهم الجبر المحض، وأنه لا تأثير لقدرة العبد في فعله، ولا في صفةٍ من صفات فعله، بل يقولون: إن الله تعالى يخلق الفعل بقدرته، ويخلق للعبد قدرةً متعلِّقَةً به، مقارنةً له (¬3) في الوجود، غير سابقةٍ عليه (¬4) ولا مؤثِّرةٍ فيه، ولا تصلُحُ لتركه ولا لضِدِّه ولا لغيره. ¬
وهذا (¬1) قول الأشعري، وقد شَذَّ به ولم يُتابَعْ عليه، ورد عليه أصحابه هذا كما ردَّ به المعتزلة، وذلك واضحٌ في كتبهم. وأهل هذا القول على رِكَّتِه وتصريحهم بما يُفهم منه الجبر الصريح، قد صرَّحوا بما يخرجهم عن صريح الجبر، وجحد الضرورتين العقلية والشرعية، فروى عنهم الرازي في " نهاية العقول " واللفظ له، والبيضاوي في " مطالع الأنوار " (¬2)، والشهرستاني في " نهاية الإقدام " أنهم يقولون: إن الاختيار إلى العبد، فإن اختار الطاعة خلقها الله تعالى فيه عقيب اختياره لها، وإن اختار المعصية خلقها الله تعالى فيه عقيب اختياره لها. قال الرازي: ولهذا يحسن عندهم توجيه الأمر والنهي إليه. قلت: وقد تقدم الكلام على الاختيار، وأنه وصفٌ إضافي وليس بشيء حقيقي وما يترتب عليه من الكلام سؤالاً وانفصالاً. وتحقيق مذهب هؤلاء أن اختيار العبد شرطٌ عادي (¬3) في الحركة والسكون، كما أن فعله عند المعتزلة شرطٌ عادي (3) في تأثير السحر وفي خلق الولد من النطفة وسائر المسبِّبات ففعل العبد على هذا مرتبطٌ بالعبد وبالرب من جهتين ¬
مختلفتين، فارتباطه بالعبد من أجل اختياره ارتباط المشروطات بشروطها، وارتباطه بالرب من أجل قدرته ارتباط المعلولات بعِلَلِها، ولهذا الارتباط يصح أن يُسمى (¬1) العبدُ فاعلاً، والربُّ فاعلاً، وليس هذا من تجويز مقدورٍ بين قادِرَيْنِ، وفعلٍ بين فاعلين في شيء على التحقيق. وإن كان صاحب " الخارقة " (¬2) قد أطلق ذلك عليه فقال ما لفظه: وأما قوله: لا (¬3) يصح مقدورٌ بين قادرين، وكذا فعلٌ بين فاعلين، فنقول: إذا كانا فاعلين لمعنى (¬4) واحد، وقادرين بمعنى واحدٍ، فذلك هو الممتنع، وأما إذا كانا على وجهين مختلفين فلا يمنع. وبيانه: أن الآدمى محلٌّ لفعل الله تعالى ومحلٌّ لمقدوره، ولا تمانُعَ بين الله وبين عبده لأن الله تعالى فاعلٌ مُخترعٌ، والأدمي محل لذلك، فأين التمانع؟ وهذا كما تقول: قتل الأمير فلاناً، وتقول: قتله الجلاد، ولكن (¬5) الأمير قاتلٌ بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر. وذلك أنه تعالى خلق في العبد القدرة، وارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبطت بقدرة الله تعالى ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبطت بقدرة الله تعالى ارتباط المعلول بالعلة، وكل ما له ارتباط بقدرة، فإن محلَّ القدرة يسمى فاعلاً كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد ¬
قاتلاً، والأمير قاتلاً، لأن القتل ارتبط بقدرتيهما، ولكن على جهتين مختلفتين. انتهى. وفيه بيان أنه ليس من المقدور بيان قادرين في شيء، بل هذا مقدوران بين قادرين، فمقدور العبد مجرد الاختيار لا سوى، ومقدور الرب ما سوى ذلك. فهؤلاء اعتقدوا أن كل موجودٍ من جسمٍ عَرَضٍ، ومن مُحْكَمٍ وغير محكم يسمى مخلوقاً، وكل مخلوق فلا يطلق على الحقيقة إلاَّ فيما خلقه الله تعالى، واحتجوا بنحو قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3]، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]. فلم يجيزوا مقدوراً بين قادرين، لأنه يقتضي أن يشترك العبد والرب في إيجاد الشيء المخلوق، وإن كان العبد غير مستقلٍّ، بخلاف الطائفة الأولى فأجازوا ذلك مع إعانة الله تعالى لعبده وإذنه، ولا يسمى خالقاً إلاَّ المستقل، وسيأتي الكلام على هذه الآيات في الكلام على الفرقة الرابعة، إن شاء الله تعالى. وأما الاختيار فليس عند هؤلاء شيئاً حقيقياً، فلا يستحق الدخول في عموم خلق كل شيء، فلذلك نَسَبُوه إلى قدرة العبد. ولبعض المعتزلة قول شبيه (¬1) بهذا، وهو قول الجاحظ وثُمامة بن الأشرس: إنه لا فعل للعبد إلاَّ الإرادة، لكن المعتزلة يتعافَوْنَ البدع فيما بينهم حتى يقول بها غيرهم، وألزموه الكفر، وأخرجوه من الإسلام، وإلا فأيُّ فرقٍ بين قول الأشعري وثمامة والجاحظ. فأما كون الإرادة شيئاً حقيقياً بخلاف الاختيار، فلا أثر لذلك، لما مضى من تقرير إجماع المعتزلة على أن الحسن والقبح لا يتعلَّق بذوات الأشياء ¬
عدم الخلاف بين الأشعرية في إثبات الاختيار للعبد وتفسير الجبر عند الرازي
الحقيقية، فالحسنُ والقبحُ اللذان في الإرادة مثل الحسنِ والقبحِ اللذين في الاختيار عند المعتزلة، والذنوب والحسنات، إنما نشأت من ذلك لا من الذوات عندهم، بل قول الأشعريِّ أبعد من الجبر من قولهما. إن قالا: ليس للعبد فعلٌ إلاَّ الإرادة من دون الاختيار لزم الجبر، وكانت كإرادة المريض للعافية عند (¬1) حصول العافية، فإن مقارنة الإرادة للعافية لا توجب أن العافية فعلٌ للعبد (¬2). وإن قالا: إن الاختيار للعبد مع الإرادة، فالذي (¬3) أخرجهما من الجبر هو القول بأن الاختيار إلى العبد، وقد شاركهما في ذلك الأشعري، على أن للأشعري أن يُفَسِّر الاختيار بالإرادة، وينازع في كونها ذاتاً حقيقية، ويذهب مذهب أبي الحسين في الأكوان، ولا يمنعه من ذلك ضرورةٌ عقلية ولا شرعية. واعلم أنه لا خلاف بين فرق الأشعرية في إثبات الاختيار للعبد، حتى إن الرازي في " نهاية العقول " صرَّح بأن الحق هو الجبر، ثم يُفَسِّر الجبر بوقوع الفعل عند الرجحان قطعاً مع بقاء الاختيار، وهذا تصريح بأن تسميته لذلك جبراً خلاف في مجرد العبارة، إلا أن الرازي وحده كثير التَّلوُّن في تصرفاته، وليس من جنس الأشعرية، وله في " المحصول " هفواتٌ قلَّ من يُدْرِكُ غَوْرَها. فمنها: أنه صرح فيه (¬4) بنفي الاختيار، وناقض نصوصه المتكررة في " النهاية "، كأنه تكلم في " النهاية " عن المذهب، وفي " المحصول " عن اختياره هو في نفسه، وذلك أنه يتحامى مخالفة أصحابه (¬5) في علم الكلام دون أصول الفقه، ولذلك حكى كلام الفلاسفة في كتابه " الأربعين " في الوصف العدميِّ في المسألة الأولى منه، ثم قال بعده: وهذا سؤالٌ قويٌّ، ثم أجابه وقرَّر الجواب على الصواب ومضى. ¬
ولما تكلَّم في " المحصول " على الوصف العدمي في باب القياس ذكر كلام الفلاسفة واختاره تصريحاً، وذكر الجواب الذي رد به عليهم في " الأربعين "، ثم نَقَضَهُ في " المحصول ". وتراه في " النهاية " يتلوَّن، ففي مسألة حدوث العالم قال: لا جواب على الفلاسفة إلاَّ بمذهب المعتزلة في ترجيح الفاعل لأحد مقدوريه من غير مرجحٍ. وفي مسألة خلق الأفعال أبطل قول المعتزلة في هذه المسألة بعينها. وكذلك صرَّح فيما أحسِبُ بنفي الاختيار في مقدمات " المحصول " في أصول الفقه في الاحتجاج على نفي التحسين العقلي، وجوّد ابن الحاجب الرد عليه في " المنتهى " كما نقلته في هذا الكتاب في آخر هذه المسألة. واضطرب الرازي في " مفاتح الغيب " فقال: إن إثبات الإله يُلجِىءُ إلى القول بالجبر، وإثبات الرسل يُلجِىءُ إلى القول بالقدر (¬1)، ثم قال: بل هنا سر آخر وهو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجَّح أحدهما على الآخر إلا بمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقةً بديهيةً بين الحركات الاختيارية والاضطرارية، وجزماً بديهياً بحُسْنِ المدح والذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة. فكأن هذه المسألة وقعت في حيِّز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته، وبحسب تعظيمه نظراً إلى حكمته، وبحسب التوحيد والنُّبُوَّة، وبحسب الدلائل السمعية. ¬
كلام الذهبي في الفخر الرازي
فلهذه المآخذ التي شرحناها، والأسرار التي كشفنا عن (¬1) حقائقها، صَعُبَتِ المسألة وغَمُضَتْ، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق. انتهى كلامه. وإنما أوردته ليعرف أنه ليس كل ما (¬2) وُجِدَ نُسِبَ إلى طائفة الأشعرية، فكيف بمن يَنْسِبُ مثل ذلك إلى أهل الحديث والأثر. وقد قال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (¬3) ما لفظه: الفَخْرُ بن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عريٌّ عن الآثار، وله تشكيكاتٌ على مسائل من دعائم الدين (¬4) تُورِثُ حَيْرةً، نسأل الله أن يُثَبِّتَ الإيمان في قلوبنا، وله كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " (¬5) ¬
سِحرٌ صريح، فلعله تاب منه إن شاء الله تعالى. انتهى. فمن تشكيكاته ما تراه يصنع في المعجزات، فإنه في الكلام على التحسين والتقبيح من " المحصول " نفى الاختيار، ثم أورد من أدلة المعتزلة ما يلزم من نفي التحسين والتقبيح بطلان النبوة، وقرر ذلك أبين تقريرٍ، ثم إنه اقتصر في جوابه على المعتزلة بأن لهم من القواعد ما يقتضي بطلان النبوة أيضاً، ثم أورد ذلك وأوضحه وقرَّره أبين تقريرٍ، ثم ترك ذلك في كتابه على هذه الصفة. وما يزيد أعداء الإسلام على ما صنع شيئاً، بل لا يستطيع أعداء الإسلام مثل هذا، فإن كُتُبَهم مهجورةٌ، وهذا جعل هذا مقدمةً لأصول الفقه، أحد أركان علوم الإسلام، وصدر من أحد علماء الإسلام، وأخرجها مخرج الرد على المبتدعة، فنفوس أهل السنة قبل التأمُّل تميل إليها، وإذا تأملت، وجدته قرَّر بطلان النبوات على كلا المذهبين، تقريراً يعلم أنه يصعب على أكثر المسلمين الانفصال عنه. فما هذا صُنْعَ المعتزلة والأشعرية، فإن الجميع يَسْعَوْنَ في تقرير النبوَّات، كما صنع القاضي عياض في كتابه " الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى "، وذكر الذهبي في ترجمة الجاحظ من " النبلاء " أنه جود الكلام في النبوات فرحمه الله (¬1). وكذلك فليكن علماء الإسلام، وكذلك هذا الكلام الذي ذُكِرَ عن الرازي آنفاً فيما أودعه تفسيره قوله: إن مسألة الجبر والقَدَرِ وقعت في حيِّز التعارض بالنظر إلى العلوم، فإنه مما لا يخفى على مثله فساده، لأن استحالة التعارض بين العلوم مطلقاً، ثم بين العلوم الضرورية خاصة مما يعرفه المبتدىء في العقليات، وهو يمرض القلوب من كلا الطرفين، ويُشوِّش على أهل المذهبين، ويستلزم مذهب أهل التجاهل، وأنا لا ندري ولا يدري أنا لا ندري، وإذا ¬
مقالة الرازي في وصيته
تأمَّلت، وجدته مخالفاً لإجماع المسلمين، ولم ينف الاختيار أحدٌ من أئمة الدِّين. وقد حاف الرازي وما أنصف في دعواه التعارض بالنظر إلى العلوم الضرورية، فما علمنا أحداً ادعى ثبوت الجبر بالضرورة، بل الجَمُّ الغفير من الأشعرية وأبو الحسين وأصحابه من المعتزلة ادَّعوا الضرورة في ثبوت الاختيار، كما تأتي ألفاظهم في ذلك إن شاء الله تعالى. وكما أقرَّ الرازي مع الجماعة ثم انفَرَدَ وحده، وشذَّ عن الجماعة، وادَّعى معارضة هذه الضرورة التي قد أقر بها مع الناس، ومن حق الضرورة أن يشترك فيها جميع الناس. فأما قوله: إن الممكن لا يترجَّح إلاَّ بمرجِّحٍ، فإن هذا ضروري، فمُسَلَّمٌ له ذلك. وأما قوله: إن ذلك يقتضي الجبر، فغيرُ مُسَلَّمٍ، بل ولا صحيح في النظر كما يأتي، وكما أقر به في " النهاية "، وسيأتي لفظه في ذلك. فانظر كيف أوهم الضرورة في هذا القدر، وأدرجه في العلم الضروري بأن الممكن لا يترجَّح إلاَّ بمرجِّحٍ، وله أمثال هذا كثيرٌ. والقصد التحذير مما في مصنفاته من هذا القبيل ونسبته (¬1) إلى طائفة الأشعرية، وأهل السنة، وليس القصد إساءة الظنِّ به، فإن بركات العلم والإسلام قد أدرَكَتْهُ، ولله الحمد، فتاب عن جميع ذلك، وقال في وصيَّتِهِ رحمه الله ما لفظه (¬2): وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فعلى (¬3) ما ورد في ¬
الكلام في أن الكسب معقول
القرآن والأخبار الصحيحة المتَّفَقِ عليها بين الأمة المتعين فيها المعنى الواحد والذي لم يكن كذلك، فأقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مُطْبِقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وكلُّ ما مَرَّ بقَلْبِي، أو خطر ببالي، فأشهد وأقول: كل ما علمت مني أني أريد به تحقيق باطلٍ أو إبطال حقٍّ، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت أني ما سعيتُ إلاَّ في تقرير ما اعتقدت أنه الحق وتصورتُ أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي فذلك جهدُ المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة، فأغثني وارحمني يا من لا يزيدُ ملكه عرفانُ العارفين، ولا ينقص بخطأ المجرمين، وأقول: ديني متابعةُ محمد سيِّدِ - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما. إلى آخر كلامه في هذا المعنى. وإنما أوردته هنا ليَحْسُنَ فيه ظنُّ الواقف على ما في مصنفاته مما ذكرته، ومن أمثاله على أنه يمكن أنه لم يُرِدْ بالجبر نفي الاختيار، وإنما أراد وجوب وقوع الراجح بالنظر إلى الداعي كما هو مذهب أبي الحسين المعتزلي، بل ذلك هو الظاهر من تصرُّفات الرازي، فإنه صرح في " نهاية العقول " ببقاء الاختيار مع وجوب وقوع الراجح، وسمَّى ذلك الوجوب فيها جبراً كما سيأتي بحروفه في ذكر الفرقة الرابعة، فيكون الحمل عليه في تسميته بهذا الاسم، لما فيه من إيهام القول الباطل بالجبر المحض الذي يستلزم إفحام الرسل، وتقبيح الأمر والنهي والمدح والذم، والثواب والعقاب، وما عُلِمَ بالضرورتين العقلية والشرعية، كما اعترف بذلك هو، والله سبحانه أعلم. الفرقة الثالثة: أهل الكسب، وهم جمهور الأشعرية، وقد طال اللَّجَاجُ بينهم وبين المعتزلة وبعض من يخالفهم من الأشعرية في أن الكسب معقولٌ أو غير معقولٍ، والإنصاف يقتضي أنه معقولٌ، كما عقله الشيخ مختارٌ المعتزلي في كتابه " المجتبى " وبيَّن الجواب عنه، بل هو واضحٌ جليٌّ كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.
قال الشيخُ مختارٌ في " المجتبى ": وأما معنى الكسب عندهم، فقال بعضهم: إنه تعالى يخلُقُ الفعل، ويخلق قدرته في العبد مستَقِلَّةً بالفعل مقارِنَةً له غير مؤثِّرةٍ فيه. زاد الرازي: إن الله عنذهم إنما يفعل ذلك عند اختيار العبد لذلك كالمسببات عند المعتزلة. قال الشيخ مختار: وقال بعضهم: أصل الحركة بقدرة الله تعالى وتعينها بقدرة العبد وهو الكسب. وقال بعضهم: إن الفعل بالله تعالى وصفته بالعبد، وهو قريبٌ من الثاني. انتهى. وقد رأيت أن أُورِدَ كلام الأشعرية بنصِّه لعدم التفات المعتزلة إلى تحقيقه فيما رأيت من مشهور مصنفاتهم، فاقول: قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام ": قال القاضي -يعني الباقِلاَّني-: الإنسان يُحِسُّ من نفسه تفرقةً ضرورية بين حَرَكَتَي الضرورة والاختيار، كحركة المرتعش، وحركة المختار، والتفرفة لم تَرْجِعْ إلى نفس الحركتين من حيث الحركة، لأنهما حركتان متماثلتان، بل إلى أمرٍ زائدٍ على كونهما حركتين، وهو كون أحدهما مقدوره ومراده، ثم لا يخلو الأمر من أحد حالتين: فإما (¬1) أن يُقال: تعلَّقت القدرة بأحدهما، كتعلق العلم من غير تأثيرٍ أصلاً، فيؤدي ذلك إلى نفي التفرقة، فإن نَفْيَ التأثير كنفي التعلق فيما يرجع إلى ذاتي الحركتين، والإنسان يجد التفرقة بينهما وبينهما لا (¬2) في أمر زائد على وجوديهما وأحوال وجودهما، ثم لا يَخْلُو الحال: إما أن يرجع التأثير إلى الوجود والحدوث. ¬
وإما أن يرجع إلى صفةٍ من صفات الوجود، والأولُ (¬1) باطل لما ذكرنا من أول لو أثرت في الوجود، لأثرت في كل موجودٍ، فيتعين أنه يرجع التأثير إلى صفةٍ أخرى، وهي حالٌ زائدة على الوجود. قال: وعند الخصم قادرية (¬2) الباري تعالى لم تؤثر إلاَّ في حالٍ هو (¬3) الوجود، لأنه أثبت في العدم سائر صفات الأجناس من الشيئيَّة (¬4) والجوهرية والعَرَضية والكونية، إلى أخصِّ الصفات من الحركة والسكون والسواديَّة والبياضية، فلم يَبْقَ سوى حالةٍ وهي الحدوث، فليأخذ منا في قدرة العبد مثله. قلت: قد تقدم أن بعض المعتزلة لا يجعلون الحال الذي هو الوجود مقدوراً على الحقيقة عند المناقشة، وإنما المقدور جعل الذات عليها، وقد تقدم (¬5) ما عليهم في ذلك من الإشكال. ثم ذكر الشهرستاني قول المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية في نفي الكسب، وأنه غير معقولٍ. ثم قال في الجواب: ألسنا أثبتنا وجوهاً واعتباراتٍ للفعل الواحد، وأضفنا كل وجهٍ إلى صفةٍ أثَّرت فيه مثل الحدوث، فإنه من آثار القدرة، والتخصيص ببعض الجائزات فإنه من آثار الإرادة، والإحكام، فإنه من دلائل العلم، وعند الخصم كون الفعل واجباً ومندوباً وحلالاً وحراماً وحسناً وقبيحاً صفاتٌ زائدةٌ على الوجود، بعضها ذاتية للفعل، وبعضها من آثار الإرادة. وكذلك الصفات التابعة للحدوث، مثل كون الجوهر متحيِّزاً وقابلاً للعرض، فإذا جاز عنده إثبات صفاتٍ هي أحوالٌ أو وجوهٌ واعتباراتٌ زائدة على الوجود (¬6) لا يتعلق بها القادرية وهي معقولة ومفهومة، فكيف يُستَبْعَدُ إثبات وجه ¬
أثرِ القُدرة الحادثة معقولاً ومفهوماً. ومن أراد تعيين ذلك الوجه الذي سمَّيناه حالاً، وأثبته أثراً، فطريقه أن يجعل حركة إما (¬1) اسم جنسٍ يشمل (¬2) أنواعاً وأصنافاً، أو اسم نوعٍ يتمايز بالعوارض واللوازم، فإن الحركة تنقسم إلى أقسامٍ، فمنها ما هو كتابةٌ، ومنها ما هو قولٌ، ومنها ما هو صناعة باليد، وينقسم كل قسمٍ أصنافاً، فتكون كونها حركة كتابةً، وكونها صناعة متمايزين، وهذا التمايز راجعٌ إلى حالٍ في إحدى الحركتين يُمَيِّزُها (¬3) عن الثانية، مع اشتراكهما في كونهما حركةً. وكذلك الحركة الضرورية والحركة الاختيارية فتضاف تلك الحال إلى العبد كسباً وفعلاً، ويُشْتَقُّ له منها اسمٌ خاص مثل: قام وقعد، وقائِمٌ وقاعدٌ، وكتب وقال، وكاتبٌ وقائلٌ، ثم إذا اتصل به أمرٌ ووقع ذلك على وفق الأمر سُمِّي عبادةً وطاعةً، فإذا اتصل به نهيٌ ووقع على خلاف الأمر سُمِّي جريمةً ومعصيةً، ويكون ذلك الوجه هو المكلَّف به، وهو المقابل بالثواب والعقاب كما قال الخصم: إن الفعل يقابل بالثواب والعقاب لا من حيث إنه موجودٌ، بل من حيثُ إنه حسنٌ وقبيحٌ، فالحسن والقبح حالتان زائدتان (¬4) على كونه فعلاً، وعلى كونه موجوداً، والخصم أبعد من العدل، فإنه أضاف إلى العبد ما لم يُقابَلْ بثوابٍ ولا عقابٍ، وقابَلَ بالثواب والعقاب ما لم يكن من آثار قدرة العبد. والقاضي الباقِلاَّني عيَّن الجهة التي لا تقابل عنده بالجزاء وهي الوجود، فأثبتها فعلاً للرب سبحانه، وعيَّن الجهة التي هي تُقابَلُ بالجزاء وهي كونُ ذلك الوجود طاعةً أو معصيةً، فأثبتها من فعل العبد وكسبه، ثم قابلها بالجزاء، وذلك هو العدل. إلى آخر ما ذكره من تقرير هذا المذهب، وهو كلامٌ طويلٌ. ¬
وفي هذا القدر كفايةٌ مع ما يَرِدُ من ذكر الشهرستاني لمذاهب المعتزلة والجواب عنه. ثم ذكر أن كلام المعتزلة ينحصر في مسلكين (¬1): أحدهما: مَدْرَكُ العقل (¬2)، والثاني: مَدرَكُ السمع. قال: أما الأول: فهو أن الإنسان يُحِسُّ (¬3) من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرَّك، وإذا أراد أن يَسْكُنَ سكن، ومن أنكر ذلك، فقد جحد الضرورة، ولولا صلاحية القدرة الحادثة لإيجاد ما أراد لما أحس (¬4) من نفسه ذلك، قالوا: وأنتم توافقونا على إحساس التفرقة بين حركتي الضرورة والاختيار، ولم يَخْلُ من أحد أمرين: إما أن يرجع إلى نفس الحركتين من حيث إن إحداهما واقعةٌ بقدرته، والأخرى واقعة بقدرة غيره. وإما أن يرجع إلى صفةٍ في القادر من حيث إنه قادرٌ على أحدهما أو غير قادر (¬5) على الآخر، وإن كان قادراً فلا بد من تأثيرٍ ما في مقدوره، ويجب أن يتعين الأثر في الوجود، ولأن حصول الفعل بالوجود لا بصفةٍ أخرى تقارن الوجود، وما سميتموه كسباً فغير معقولٍ، فإن الكسب إما أن يكون شيئاً موجوداً أم لا، فإن كان شيئاً موجوداً فقد سلَّمْتُمُ التأثير في الوجود، وإن لم يكن موجوداً، فليس بشيء فلا تأثير. وأكدوا هذا بقولهم: إثبات (¬6) قدرةٍ لا تأثير لها كنفي القدرة، فإن تعلقها بالقدرة كتعلق العلم بالمعلوم، ولا يجد الإنسان تفرقة بين حركتين في أن ¬
إحداهما (¬1) معلومةٌ، والثانية مجهولةٌ، ويجد التفرقة بينهما في أن إحداهما (1) مقدورةٌ، والثانية غير مقدورةٍ. قال الشهرستاني في الجواب مع اختصار بعضه: ما ذكرتُموه من التفرقة بين الحركتين، إما الوجدان فمُسَلَّمٌ، ولكن ما قلتم من أنها راجعةٌ إلى أن إحداهما (¬2) موجودةٌ بالقدرة الحادثة فغيرُ مُسَلَّمٍ، وأحال إلى ما تقدم من البيان، ثم عطف بنحو ما تقدم. إلى أن قال: فالوجود من حيث هو وجود (¬3) إما خيرٌ مَحْضٌ، وإلا لا خيرٌ ولا شرٌّ انتسب (¬4) إلى الله سبحانه إيجاداً وإبداعاً (¬5) وخلقاً، والكسب المنقسم إلى الخير والشر منتسبٌ إلى العبد فعلاً واكتساباً، وليس ذلك مخلوقاً بين خالقين، بل مقدورٌ بين قادرين من جهتين مختلفتين، أو مقدورين متمايزين، ولا يُضاف إلى أحد القادرين ما يضاف إلى الثاني. إلى أن قال: المسلك الثاني لهم في إثبات الفعل للعبد (¬6) ايجاداً قولهم: التكليف متوجِّهٌ إلى العبد بافْعَلْ، أولا تفعلْ، فلم يَخْلُ الحال من أحد أمرين: إما أن لا يتحقق من العبد فعلٌ أصلاً، فيكون التكليف سَفَهاً وعَبَثاً، ومع كونه سفهاً يكون متناقضاً، فإن تقديره: افعَلْ يا مَنْ لا يفعلُ. وأيضاً فإن التكليف طلبٌ، والطلب يستدعي مطلوباً ممكناً من المطلوب منه، وإذا (¬7) لم يُتصوَّر منه فعلٌ بَطَلَ الطلب. وأيضاً فإن الوعد والوعيد مقرونٌ بالتكليف، والجزاء مقدر (¬8) على الفعل ¬
والتَّرك، فلو لم يحصل من العبد فعلٌ ولم يتصور ذلك بَطَلَ الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، فيكون التقدير: افعل وأنت لا تفعل، ثم إن فعلتَ ولم تفعل فيكون لك الثواب أو العقاب على ما لم تفعل، وهذا خروجٌ عن قضايا الحِسِّ، فضلاً عن قضايا العقول، حتى لا يبقى فرقٌ بين خطاب الإنسان العاقل، وبين خطاب الحمار، فلا فصل بين أمر التَّسخير والتعجيز، وبين أمر التكليف والطلب. قالوا: ودَعِ التكليف الشرعي، أليس المتعارف منا، والمعهود بيننا مخاطبة بعضنا بعضاً بالأمر والنهي، وإحالة الخير والشر على المختار، وطلب الفعل الحسن، والتحذير عن الفعل القبيح، ثم تُرَتَّبُ المجازاة على ذلك. فمن أنكر هذا فقد خرج عن حد العقل خروج عناد، فلا يُناظَرُ إلاَّ بالفعل كمناظرة السُّوفِسْطائِيَّة (¬1) فيُشتَم ويُلطَمُ، فإن غضب من الشتم وتألم من اللطم، وتحرك للدفع والمقابلة (¬2) فقد عرف بأنه رأى من الفاعل شيئاً يوجب الجزاء والمكافأة، وإلا فما له غَضِبَ منه، وأحال الفعل عليه. والجواب من وجهين: أحدهما: الإلزامات على مذهبهم، والثاني: التحقيقُ على مذهبنا. الأول: نقول: عَيِّنُوا لنا ما المُكَلَّفُ به، فإن القول بأن التكليف متوجِّهٌ على العبد ليس يُغني في تقدير أثر القدرة الحادثة وتعيينه. فإن قلتم: المكلَّف به هو الوجودُ من حيث هو وجودٌ، لا من حيث كونه قبيحاً وحسناً، ومن المعلوم أن المطلوب بالتكليف (¬3) مختلف الجهة، فمنه: واجبٌ مطلوبٌ فِعْلُه، ومنه: حرامٌ مطلوبٌ تَرْكُهُ. وإن قلتم: المكلَّف به هو جهة الوجود، وهو الذي يستحق المدح والذم ¬
عليه، فمُسَلَّمٌ، وذلك الوجه ليس (¬1) يندرج تحت القدرة عندكم، بل هو صفةٌ تابعةٌ للحدوث، فيا هو المكلف به حقيقةً لم يندرج تحت القدرة، وما اندرج تحت القدرة لم يكن مكلفاً به. فإن قيل: المقدور هو وجود الفعل، إلاَّ أنه يلزمه وجود ذلك الوجه المكلف به لا مقصوداً في الخطاب. قيل: وما يُغنيكم هذا الجواب، فإن التكليف لو كان مُشعِراً بتأثير القدرة في الوجود، لكان المكلَّف به هو الوجود من حيث هو وجودٌ لا غير، ولكان تقديرُ الخطاب أوجد الحركة التي إذا وُجِدَتْ وُجِدَ (¬2) معها كونها حسنةً وعبادةً وصلاةً وقُربَةٌ، فما هو مقصودٌ بالخطاب غير موجودٍ بإيجاد العبد، فيعود الإلزام عكساً عليكم: افعل يا من لا يفعل. فليت شعري أي مكلفٍ به يندرج تحت قدرة المكلف، ولا يندرج تحت قدرة غيره، وبين مكلفٍ به يندرج تحت قدرة المكلف ولا يندرج (¬3) من جهة ما كُلِّفَ به، والمندرج تحت قدرة غيره من جهة ما لم يُكَلَّف به، أليست القضيتان لو عُرِضَتا على محل العقل، كانت الأولى أشبه بالخبر. إلى قوله: لزمهم (¬4) الأعراض التي اتفقوا على أنها حاصلةٌ بإيجاد الله تعالى، وقد ورد الخطاب بتحصيلها وتركها، وتوجه الثواب والعقاب عليها، وهي أيضاً مما يتعارفه الناس ويتداولونه مثل بعض الألوان والطعوم، واستعمال الأدوية والسموم والجراحات المُزْهِقَةِ للرُّوح، والفهم عقيب الإفهام، والشِّبَع عقيب الطعام، إلى غير ذلك، فإن هذه كلها حاصلةٌ بإيجاد الباري، وقد ورد الخطاب بتحصيلها عقيب أسبابٍ يُباشِرُها العبد، ووجهُ الإلزام أن الخطاب يتوجَّهُ بتحصيل أعيانها مقصوداً، ولذلك يُعاقَبُ عليه ويُمدَحُ. ¬
ومن المعلوم أن من استأجر صبَّاغاً ليُبَيِّضَ ثوبه فسوَّدَه غَرِمَ، ومن قتل إنساناً بالسُّمِّ، استَوْجَبَ القَوَدَ، ومن أحرق ثوب إنسانٍ، أو غرَّق سفينة، أو فتح نقباً حتى هلك زرعٌ أو خَرِبَتْ دارٌ، عُوقِبَ على ذلك وضَمِنَ وغَرِمَ، فمورِدُ التكليفِ غير ما اندرج تحت القدرة، وما اندرج تحت القدرة غير مَورِدِ التكليف. والجوابُ عن السؤال من حيث التحقيق: أنا قد بيَّنَّا وجه الأثر الحاصل بالقدرة الحادثة، وهو وجهٌ أو حالٌ مثل ما أثبتوه للقادرية والأزلية، فخذوا من العبد ما يُشابِهُ فعل الخالق عندكم، ولينظر إلى الخطاب بافعَلْ أو لا تفعل (¬1)، أو خُوطِبَ أوْجِدْ أو لا تُوجِد، أو خوطِبَ: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، فجهة العبادة التي هي أخصُّ وصف الفعل حاصلٌ بتحصيل العبد مضافٌ إلى قُدرته، فما ضرَّكم (¬2) إضافة أخرى يعتقدها وهي مثل ما اعتقدتموه تابعاً. فالوجود عندنا كالتابع أو كالذاتي الذي كان ثابتاً في العدم عندكم، والفرقُ بيننا أنا جعلنا الوجود متبوعاً وأصلاً، وقلنا: هو عبارةٌ عن الذات والعين، وأضفنا إلى الله تعالى وجميع ما يلزمه من الصفات، وأضفنا إلى العبد ما لا يجوز إضافته إلى الله تعالى، حيث لا يقال: أطاع الله وعصى الله، وصام وصلَّى وباع واشترى ومشى، فلا تتغيَّرُ صفاته بأفعاله، بخلاف ما يضاف إلى العبد، فإنه يُشتَقُّ له وصفٌ واسمٌ من كل فعلٍ يباشره وتتغير ذاته وصفاته بأفعال، ولا يجحد العلماء بجميع (¬3) وجوه اكتسابه وأعماله، وهذا معنى ما قاله الأستاذ أبو إسحاق: إن العبد فاعلٌ بمعنى، والرب سبحانه فاعلٌ بمعنى. ثم ذكر الشهرستاني الجواب على أصل الأشعري والجبرية الخُلَّص بنحو ما تقدم من قول الرازي عنهم، إلى أن قال: ومما يُوضِحُ الجواب غاية الإيضاح أن التكليف بافْعَلْ ولا تفعل، ورد بالاستعانة بالله تعالى في نفس المكلف به كقوله: {اهْدِنا الصِّرَاطَ المستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ¬
بَعدَ إذْ هَدَيتَنا} [آل عمران: 8]. وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {واصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ} [النحل: 127] لأنه قصر إمكان المأمور به على إعانة الله تعالى، وحصره فيها. قال: وسواءٌ كانت الهداية بنفسها المسؤولة بالدعاء أو الثبات عليها، فلا شك أن العبد لو كان مستقلاًّ بإنشائها بقدرته مستنداً بالثبات عليها، كان مستغنياً عن هذه الاستعانة، ثم الله سبحانه يمُنُّ على من يشاء من عباده بأن هَدَاهُمْ إلى الإيمان، وعند الخصم هو محمولٌ على خلق القدرة، وهي صالحة للضدين جميعاً على السواء، وذلك يبطل قضية الامتنان بالهداية، قال الله تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عليكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ} [الحجرات: 17]. وتحقيق ذلك من غير حَيْدٍ عن الإنصاف أن العبد كما يُحِسُّ من نفسه التمكن من الفعل يُحِسُّ الافتقار والاحتياج إلى مُعِينٍ في كل ما يتصرف ويجد في استطاعة، وفِقدان الاستقلال والاستبداد بالفعل في كل ما يأتي ويَذَر، ويُقَدِّمُ ويؤخر من تصرفات فِكْرِهِ نظراً واستدلالاً، ومن حركات لسانه قِيلاً وقالاً، ومن تردُّدَات يديه يميناً وشمالاً، فيُحِسُّ الاقتدار على النظر، ولا يُحِسُّ الاقتدار على عدم العلم بعد حصول النظر، فإنه لو أراد أن لا يحصل العلم لم يتمكن منه، ويُحِسُّ من نفسه تحريك لسانه بالحروف، ولو أراد أن يُبَدِّلَ المخارج ويغير الأصوات حَسَّ (¬1) ذلك، ويُحِسُّ تحريك يده وأَنْمَلَتِه، ولو أراد تحريك جزءٍ واحدٍ من غير تحريك (¬2) الرِّباطات المتصلة لم يتمكن من ذلك. وعند الخصم القدرة صالحةٌ للأضداد والأمثال وهي متشابهة في القادرين، والعبد مستقلٌّ بالإيجاد والاختراع وليس لله من هذه الأفعال إلاَّ خلق القدرة، واشتراط النية وهو من أضعف ما يُتصور، والحق في المسألة تسليم التمكن والتأنِّي والاستطاعة على الفعل على وجهٍ يُنْسَبُ إلى العبد معه وجهٌ من الفعل ¬
يليق بصلاحية قدرته واستطاعته وإثبات الافتقار والاحتياج إلى الله تعالى، ونفي الاستقلال والاستبداد، فيجد في التكليف مورداً إلى موردي الخطاب فعلاً واستطاعةً، ويصادف في الجزاء تفضُّلاً ومقابلة، والله أعلم، وهو الموفق سبحانه. انتهى كلام الشهرستاني في " نهاية الإقدام "، وبعضه يحتاج إلى شرحٍ لمن لم يَتَدَرَّبْ في علم الكلام، ولكن قد طال الكلام، والزيادة على هذا تُورِثُ السَّآمة والملل. وقد أوجز الرازي العبارة في تفسير الكسب، فقال في كتاب " الأربعين ": إن الله تعالى يخلق الحركة المطلقة بقدرته سبحانه، والعبد بقدرته يجعل تلك الحركة صلاةً وظلماً، أو كما قال. وقال الرازي في " النهاية " والشيخ مختار في (¬1) " المجتبى " في تفسير طريقة الباقِلاَّني في الكسب: هي أن القدرة الحادثة وإن لم تكن مؤثِّرَةً في وجود الفعل، لكنها مؤثرة في وجود صفةٍ له، وهي كونه طاعةً ومعصيةً. انتهى. قلت: وبعض المتكلمين من الأشعرية كإمام الحرمين وأصحابه وبعض المعتزلة كأبي هاشم وأصحابه شَنَّعُوا على أهل الكسب في قولهم: إنه غيرُ معقولٍ، فإن معنى " غير معقول " (¬2) أنه يستحيل تصوُّرُه في الذهن وتفهمه، وإذا استحال ذلك، استحال الجواب المعين عليه بالبطلان، وهذا غلوٌّ في العصبية فاحش وليس كذلك (¬3)، ولا في معناه شيء من الغموض والدقة، فإن الكسب هو فعل العبد بعينه الذي هو الطاعات والمعاصي والمباحات وسائر التصرفات، وهذا شيءٌ ليس فيه دقةٌ، وإنما اختاروا تسمية فعل العبد بالكسب دون الفعل، ¬
ومعناهما واحدٌ عندهم، لأن الكسب يختص بفعل العبد دون فعل الرب، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى كاسباً بخلاف الفعل فإنه مُشتَرَكٌ، فيجوز أن يُسَمَّى الله تعالى فاعلاً، وأن يُسَمَّى العبد فاعلاً، ثم الله تعالى يختص باسم الخالق المبدع المخترع، والعبد يختص باسم المطيع والعاصي وسائر أنواع الأفعال. ولما كان الكسب يعُمُّ الطاعة والمعصية، ويختص بفعل العبد دون فعلِ الرب عز وجل، اختاروه (¬1) في التعبير عن فعل العبد كما اختاروا الخلق في التعبير عن فعل الرب عزَّ وجلَّ مع اعترافهم أن الفعل والكسب صادرٌ (¬2) عن العبد، وأنهما مترادفان، وله يُنْكِروا أفعال العباد، ولكن خصَّصُوها لتميز بعض أسمائها (¬3) الصحيحة لغة وشرعاً ونصّاً وإجماعاً وهو الكسب. فإن كان المعتزلي لم يعرف ما الكسب، فليبحث كتب اللغة والتفسير، وليسأل ما معنى قول الله تعالى: {لها مَا كَسَبَتْ وعَلَيها ما اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وتَشْهَدُ أرجُلُهم بما كانوا يكسِبُونَ} [يس: 65] وأمثال ذلك. فإن قال: هو أعمال العباد من الواجبات والمحرمات، ترك مذهبه وأقرَّ بما قاله أهل الكسب، وإن فسَّره بتفسير المعتزلة ومذهبهم، وهو أمرٌ رابع ليس هو ذات الشيء ولا وجوده ولا كليهما (¬4)، فقد جاء في (¬5) المثل: رمتني بدائها وانسَلَّتْ (¬6)، وأين الكسب وجلاؤه ووضوحه من إثبات الذوات في الأزل، ¬
غلط بعض متكلمي المعتزلة على أهل الكسب من الأشعرية في مواضع
ودعوى الفرق بين الثبوت والوجود، والقِدَمِ والأزل، والقديم والأزلي مع عدم معرفة أهل اللغة للفرق بينها، وإذا جاز لهم أن يصطلحوا في ذلك على ما لا يعرفه غيرهم، فما الذي حصر الاصطلاح على المجهولات عليهم، وحَظَرَهُ على غيرهم. وقد حكى صاحب " شرح الأصول الخمسة " (¬1) عن الجاحظ أنه يقول: إن المؤثِّر في أفعال العباد هو الطبع. وحكى عن ثُمامة بن الأشرس أنه يقول: إنها حوادث لا مُحْدِثَ لها (¬2)، فلم تَنْسُبِ المعتزلة إليهما من الجبر والتشنيع نحو ما نسبته إلى أهل الكسب، فبهذا (¬3) يعرف أن فيهم أهل هوى، وإن لم يشعر بعضهم. وقد غَلِطَ بعض متكلِّمي المعتزلة عليهم في مواضع: الموضع الأول: ذكروا عن أهل الكسب أنهم يقولون: لا فاعل في الشاهد، وهذا غلطٌ فاحش، وقد تقرَّر في كلامهم الذي نقلته (¬4) عنهم أنهم يُسمون الكسب فعلاً، والمكتسب فاعلاً، وإنما يمنعون إطلاق الخلق والإيجاد والإبداع والاختراع متى كانت تُفيِدُ إخراج المعدوم إلى الوجود، وإنشاء عين (¬5) الذات الأزلية عند المعتزلة، مع أنهم لا يمنعون إطلاق هذه الأشياء في الشاهد ¬
على غير هذا المعنى، فإنه يجوز نسبة الخلق إلى العبد متى صُرِفَ عن ذلك المعنى إلى معنى التقدير، كما قال تعالى عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]، وكما قال سبحانه: {فتبارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقينَ} [المومنون: 14]. وكذلك الخلق بمعنى الكذب، قال الله تعالى: {وتَخْلُقون إفْكاً} [العنكبوت: 17]، وأما الخلق الذي يختص بالله تعالى هو إنشاء عين الذات، وعلى هذا قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرُ الله} [فاطر: 3] وأمثالها. الموضع الثاني: ذكروا عنهم أنهم لا ينسبون الاختيار إلى الفاعل من العباد، وأنهم ينسبونه إلى الله تعالى، وهذا لم يصح عن الجبرية الأشعرية كما تقدم، فكيف بأهل الكسب؟ وقد تقدم تصريحهم بخلاف ذلك، وتكذيبهم في حكايتهم لمذاهبهم حرامٌ بالإجماع، ولو فتحنا باب التكذيب لأهل المذاهب لم تكن فِرقةٌ أولى به من فرقةٍ، ولانسَدَّ باب نقل المقالات عن أربابها. الموضع الثالث: ذكروا عنهم أنهم يقولون: قدرة العبد على الكسب مقارنةٌ لمقدورها، فلا تؤثر فيه، ولا يخرجهم القول بالكسب عن الجبر. وهذا جحدٌ لصريح ردهم على الأشعري في قوله: قدرة العبد متعلقةٌ بفعله غير مؤثرةٍ فيه. وقد تقدم تصريحهم بالرد عليه كما في كلام الباقلاني (¬1) الماضي، وسيأتي ردُّ ابن الحاجب عليه في مواضع من " مختصر المنتهى ". وقد ذمَّ صاحب " الخارقة " منهم صاحب " الرادة " بأنه يرمي أهل الكسب بمذاهب أهل الجبر، ونص على أن الكسب غير معقولٍ، ويجتزىء بهذا القدر في إبطاله، وعابَه بهذا أشد العيب، وتمثل في الرد عليه بقول الشاعر: ¬
أتانا أن سهلاً ذمَّ جهلاً ... علوماً (¬1) ليس يعرفهنَّ سهلُ ولو لم يخلُ منها ذَبَّ عنها ... ولكن الرضا بالجهل سهلُ فإن قيل: كيف يصح القول بالكسب وهو مبنيٌّ على أن الله تعالى يوجبُ ذات فعل العبد، وأن العبد أكسب تلك الذات صفة الحسن والقبح، وليس يصحُّ أن تكون الذاتُ لفاعلٍ، وصفتها لفاعلٍ آخر. فالجواب أن من (¬2) أورد هذا السؤال، فقد عقل ماهية الكسب، وبطل دعواهُ أنه غير معقولٍ، ودعواه أنه قولُ الجبرية، ودعواه أنه كفرٌ، فإنه يؤدي إلى تلك الشناعات، ولم يبق إلاَّ أنه صوابٌ أو خطأ، وهذا سهلٌ، فإن المعتزلة عشرُ فِرَقٍ، وبين أبي علي وأبي هاشم والبصرية والبغدادية وأصحاب أبي الحسين من الاختلاف في القطعيات ما هو أكثر من هذا، وهذه المسألة بعينها مما اختلفوا فيه. وقد جوَّز أبو (¬3) الحسين ما منعه السائل من كون الذات الجسمية فعلاً لله تعالى، وصفتها الكونية في الجهات فعلاً للعبد، وكفى وشفى في الرد على من منع ذلك، ومن أحبَّ ذلك فليطالع كتبه وكتب أصحابه مثل محمود بن الملاحِمِي (¬4)، وصاعد، ومختار صاحب " المجتبى "، والإمام يحيى بن حمزة. ومن أرَكِّ (¬5) ما جاءت به البهاشمةُ في منع ذلك أنهم احتجوا بكلامنا وكلام الغير، قالوا: فإنا لما (¬6) قدرنا على ذات كلامنا، قدرنا على جعله على جميع صفاته من كونه خبراً أو إنشاءً، ولما لم نقدر على كلام الغير لم نقدر على ¬
جعله على شيء من تلك الصفات، فدارت العلة على القدرة على الذات وجوداً وعدماً. فنقض أبو الحسين ما ذكروا بأنه (¬1) ليس لكلامنا بكونه خبراً أو إنشاءً صفةٌ حقيقية، لأنه لا يوصف بالخبر والإنشاء من الكلام إلاَّ الجُمَلُ، ويستحيل وصف الحرف الواحد بذلك، مع أنه لا يصح عند الخصم أن يوجد (¬2) من الكلام إلا الحرف بعد الحرف، والمعدوم لا يصح وصفه بصفةٍ حقيقيةٍ. سلمنا أن كلامهم في هذه المسألة هو الصحيح دون كلام أبي الحسين، وأن كلام الشيخ أبي الحسين مع البهاشمة يختص بصفات الأجسام التي هي باقيةٌ دون التي لا بقاء لها كما يشير إلى ذلك كلام الشيخ مختار في " المجتبى " في الرد على من قال بالكسب، فإنه لا يلزم أهل الكسب منه شيء، لأن كلامهم في الكسب إنما هو إكساب (¬3) الذات صفات الحسن والقبح، وهي إضافيةٌ لا وجود لها، بدليل أنا نصف التروك بها، وليست التروك بأشياء على المذهب الصحيح وهو مذهب البهاشمة. ولو سلمنا أن التروك أشياء، فالقول بأن الوجوب والتحريم ونحوهما ليست بأشياء حقيقيةٍ وإنما هي أوصافٌ إضافية كلمة إجماعٍ بين المتكلمين، ولو كانت أعراضاً وجوديةً، لوجب قيامُ العَرَض بالعَرَض، فإن الصلاة عَرَضٌ، فلو كان وجوبها عرضاً آخر وهي متصفة به، لكان العرض قد حل العرض. وخلاصة مذهبهم أن الهَمَّ بالفعل اختيار وقوعه على الوجوه من أثر قدرة العبد، وذلك سابقٌ على حدوثه الذي هو قدرة الله، فلما كان الله يخلق حدوث الفعل في العبد بعد همِّ العبد واختياره المؤثر في حسن كسب العبد وقبحه (¬4)، ¬
وتسميته بأخصِّ أسمائه لم يمنع ذلك لتقدم اختيار العبد في نيته من فعل الله تعالى لشعوره به قبل وقوعه وحال وقوعه (¬1)، فإنه إنما وقع على جهة الامتحان عندهم، كما يؤثر الله في التفريق عند السحر عند الجميع على جهة الامتحان، وكما يؤثر سبحانه في قبض الأرواح عند فعلنا لسبب ذلك. وكذلك سائر المسبَّبَات عند الجميع فتؤثر نية العبد في المسببات إجماعاً مع عدم استقلاله في ذلك إجماعاً، والتشاغلُ بمثل هذا يحتاج إلى الاعتذار. ولولا أن القصد بذكره أن يكون وسيلةً إلى ترك التكفير لمن غَلِطَ في هذه الدقائق التي لا تُعْلَمُ ضرورة من الدِّين، فإني ما قصدت إلاَّ هذا، ولم أقصد تصحيح القول بالكسب دع عنك الجبر، فإن المختار عندي قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة، وابن تيمية وأصحابه من أهل السنة، فإنهم قد صححوا أن الحركة والسكون وَصْفَانِ إضافيان تابعانِ للذات، ولهم ردودٌ قوية على من زعم أن الأكوان ذواتٌ ثُبوتيةٌ، وأين من يعرف ما قالوا كيف الأمر برده بالبراهين القاطعة (¬2). ولو ذهب ذاهب من أهل الكسب إلى مذهبهم لجوز تأثير قُدرة العبد في الأكوان، ونزَّلَها أنفسها منزلة الوجوه والاعتبارات عند الباقلاني، وهو مذهبٌ صحيح الاعتبار، قوي الأساس على قواعد النظار. وإذا ضمه الجويني إلى ما اختار، لم يبق عليه غُبار، ومنتهى ما يلزم أهل الكسب أن يكون فعل العبد، وخلق الرب سبحانه مقدورين مختلفين معنىً، متلازمين وجوداً، بين قادرين غير متمانعين، ولا ماء من ذلك قاطعٌ بحيثُ يمنع قدرة الله تعالى عن أن يشرك العبد في فعله هذه المشاركة، بل منتهى ما فيه مقدورٌ واحدٌ بين قادرين، وقد جوزه أبو الحسين وأصحابه من المعتزلة وجماهيرُ الأشعرية، وليس فيه كفرٌ ولا فسوقٌ ولا عصيان ولا مُروق. ¬
ومتى كان الخطأُ متوقِّفاً على مثل هذه الدقائق لم يكن التكفير فيه بلائقٍ، وهدا هو مقصودي (¬1) بوُلُوج هذه المضايق والبحث عن الحقائق، والله تعالى عند لسان كل ناطقٍ، وسريرة كل كاذبٍ وصادقٍ، لأن هذا الكتاب إنما صُنِّفَ في الذب عن السنة النبوية لا في الذب عن الجبرية، ولا عن الأشعرية، لكن الذي أنكر صحة السنن النبوية وصحة التمسك بها توسَّل إلى ذلك بأن رُواتها أو كثيراً منهم جبرية كفار تصريحٍ، متعمِّدُون للكذب على الله تعالى ورسوله، وجعل الأشعرية وخصومهم من أهل الحديث والجمود (¬2) من جملة الجبرية الخالصة الغلاة (¬3)، فقصدت تمييز بعضهم من بعض، لأنه كما ذكره الشيخ مختار المعتزلي في " المجتبى "، فإنه ميَّز أهل الكسب من غُلاة الجبرية الخالصة، وقال: إنه المشهور من مذهبهم، وإنه قول أكثر أهل السنة فنُفْرِد لكل واحد من المُجْبِرةِ الخالصة والكسبية مسألةً على حَِدَةٍ. انتهى كلامه بحروفه. وقد أوضحت في المجلد الأول (¬4) إجماع الأمة والعترة على قبول أهل التأويل من طرقٍ عديدة من طريق العترة والشيعة والمعتزلة وأهل السنة، وإنما كلامي هنا في بيان الوجه في قبول أهل الإجماع لأهل التأويل، وبيان دقة الأمر الذي تأولوا فيه، وبيان مراتب البدع، كل ذلك حتى لا يلزم انطماس السنن والآثار التي هي تفسير القرآن، وعليهما (¬5) عمل جميع أهل الإسلام والإيمان، وقد تقدم أنه يلزم مُنكِرُ ذلك أكثر من مئتي إشكال لما (¬6) يؤدي إليه من الضلال والإضلال، والله المستعان. الفرقة الرابعة من أهل السنة: الذين قالوا: إن فعل العبد واقع بقدرته ¬
لتمكين الله تعالى له ذلك، وسابق مشيئته وتقديره وتيسيره، والتأثير عندهم لقدرة العبد المخلوقة من غير استقلال العبد بنفسه، ولا استغنائه طَرْفَةَ عين عن ربه، لتوقُّف تأثير قدرته على ما سبقها من مشيئة ربه عزَّ وجلَّ وتقديره وتيسيره، وهذه الفرقة طائفتان: الطائفة الأولى: الذين يقولون إن الأكوان التي هي أفعال العباد كالحركة والسكون ليست ذواتاً حقيقيةً، وإنما هي صفاتٌ إضافيةٌ. ومثال الصفات الإضافية: القبلية والبعدية، فإن اليوم " قَبْلٌ " بالنظر إلى غدٍ، و" بعدٌ " بالنظر إلى أمس، وليس له بذلك وصفٌ حقيقيٌّ كالسوادية والبياضية. وهذا القول أعدل الأقوال كلِّها وأقواها، وهو المختار لمن سبح في هذه الغمرات، ولم يَقِفْ مع أهل الحديث والأثر في ساحل النجاة. وإنما كان أقوى هذه الاختيارات، لأنه سلم من جميع التكلُّفات، وساعدت عليه قواطع البراهين العقليات، والنصوص السمعيات، أخذ من قول أهل السنة: تأثير القدرة الحادثة في مجرد الأمور الإضافيات، وعدم تأثيرها في وجود الأشياء التي هي ذوات حقيقيات، وسَلِمَ من جميع ما تُورِدُه المعتزلة ويورده بعض الأشعرية على بعضهم من الإشكالات (¬1). ولم يبق الخلاف بين أهله وبين سائر أهل المقالات إلاَّ في أن الأكوان صفاتٌ لا ذواتٌ، والدلالة على ذلك من أوضح الدلالات، وقد تقدم ما قلته في ذلك وشرحتُهُ من الأبيات. وقد توافق على هذه المسألة جماعةٌ جِلَّةٌ من أمراء علم المعقولات والمنقولات، مثل شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية وأصحابه من متكلِّمِي أهل الحديث والأثر، والإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وشيخ الاعتزال أبي الحسين البصري وأصحابه، وهم ¬
رجالُ المعتزلة كما قاله الفخر الرازي، وفي كتب هؤلاء من نُصْرَةِ هذا (¬1) المذهب ما يُغني عن التطويل بذكره ها هنا. الطائفةُ الثانية: من يقول بأن الأكوان أشياءُ حقيقيةٌ وجوديةٌ، وذلك إمام الحرمين (¬2) أبو المعالي الجُوَيني وأصحابه، وعزاه الرازي في " النهاية " إلى الشيخ أبي إسحاق، قال الرازي في " النهاية ": صرح به الجويني في كتابه " النِّظامي "، ورواه الإمام يحيى بن حمزة في " التمهيد " عن الجويني، وصرح به الجويني في مقدمات كتاب " البرهان " له بأن القول بالكسب (¬3) تمويه بهذه العبارة، وقال فيه: وأما سِرُّ ما يعتقده في خلق الأفعال، فلا يحتمله هذا الموضع. انتهى بحروفه. ثم إني لم أقف على قوله في ذلك منصوصاً في كتبه، لكن قال أبو نصرٍ السبكي في " جمع الجوامع " (¬4) له ما لفظه: وقال إمام الحرمين: خلق الطاعة. وقال شارح " جمع الجوامع ": قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام ": وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثراً هو الوجود، إلاَّ أنه لم يثبت للعبد استقلالاً بالوجود ما لم يستند إلى سببٍ آخر، ثم تسلسل الأسباب في سلسلة الترقِّي إلى البارىء تعالى، وهو الخالق المُبْدعُ المستقِلُّ بإبداعه من غير احتياج إلى سبب، إلى قوله: وإنما حمله على تقرير ذلك الاحترازُ عن (¬5) رَكَاكَةِ الجبر. قلت: لكنه رحمه الله وقع في ركاكة تأثير قدرة العبد في إخراج الذوات من العدم إلى الوجود، فلو قال: بما (¬6) اخترناه من أن الأكوان إضافيةٌ كالطائفة الأولى ¬
سَلِمَ من الرَّكاكتينِ في كِلْتا المقالتين. قال الشهرستاني بعد قوله " إن الجويني فر من ركاكة الجبر ": والجبر لازِمٌ في كل تقديرٍ حتى الاختيار على المختار جبر. قلت: هذا معنىً صحيحٌ، وقد قدمت ذكره في المرتبة الأولى، ولكنها عبارة مبتدعةٌ مكروهةٌ لأنها توهم خلاف الصواب، وهذا وَلَعٌ شديد بتسمية العبد مجبراً وإن لم يكن تحت هذه التسمية في الاختيار، كما ذلك دَأْبُ الرازي يطلقُ المجبر وهو يعني به المختار، ويقول: الصحيحُ هو الجبرُ، ويفسِّره بالاختيار (¬1)، وهذه مراغَمَةٌ للمعتزلة، وفيها مفسدةٌ بَيِّنَة، فإنها تُوهِمُ خلاف الصواب في اعتقاد أهل السنة، ويكون عُذراً للغالط عليهم في مذهبهم، وهذا وأمثاله هو الذي شبَّ نار الاختلاف، وبهَّج منار الاعتساف، وقد جوَّد الغزالي التحذير من هذا وأمثاله في مقدمة كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " فليطالع، فإنه مفيدٌ جداً. وما الذي ألجأ الشهرستاني إلى القول بلزوم (¬2) الجبر على كل تقدير، وهو الذي أبطل مذهب الجبر، وادعى الضرورة في فساده، وصرَّح بأن من وقف على كلامه في الإرادة هانت عليه تمويهاتُ الجبرية بهذه العبارة كما تقدم. واعلم أن الأساس الذي ينبني عليه قول هذه الفِرقة الرابعة في عدم استقلال العبد بنفسه، هو القول بأن الداعي الراجح موجبٌ لوقوع ما دعى إليه بالاختيار لذلك من الفاعل. وهذا القول مُجْمَعٌ عليه عند البحث، وإن كان يروى فيه الاختلاف الشديد فإنما (¬3) هو في العبارة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، وهو قول من قدمته من هاتين الطائفتين، وحكاه الرازي في " الأربعين " عن جمهور الفلاسفة، وهو اختيار الرازي. وإنما ادعيت أن الخلاف فيه لفظي لأن القائمين بحرب أهله وتَعْفِيَة رسمه ¬
هم المعتزلةُ غير أبي الحسين وأصحابه، ومع غُلُوِّ المعتزلة في إنكاره قد صرَّحوا بتصحيحه في أربع مسائل مهمةٍ: المسألة الأولى قالت المعتزلة: إن الله تعالى قادرٌ على فعل القبيح مع أنه لا يفعله قطعاً، ما ذلك إلاَّ لرجحان الداعي إلى تركه، وبطلان الصارف المعارض للداعي، ومن قال: إن الداعي مُوجِبٌ لم يزد على ذلك شيئاً، فإن الرازي -وهو من الغلاة في إيجاب الداعي- صرح في " النهاية " إنه لم يرد بالإيجاب نفي الاختيار، وأن القول بذلك خروجٌ عن الإسلام. المسألة الثانية: احتجوا على أن أفعالنا لنا لا لله تعالى بوقوعها على حسب قصورنا ودواعينا، وانتفائها على حسب كراهتنا وصوارفنا، وهذا الدليل لا نسلم صحته إلاَّ مع القطع باستمرار هذا التلازم بين رُجحان الداعي (¬1) ووجود الفعل على وجهٍ لا يجوز وقوع (¬2) خلافه في الخارج، إذ لو صح أن تكون أفعالنا في بعض الأحوال غير متوقِّفةٍ على دواعينا، لبطل الاستدلال، ومع تسليم استمرار التلازم يزول النزاع، فإنه الذي أراد من قال بأن الداعي موجبٌ. المسألة الثالثة: احتجتَّ المعتزلة على ثُبوت التحسين والتقبيح عقلاً بأن من خُيِّرَ بين الصدق والكَذِب مع استواء الدواعي من كل وجهٍ إلاَّ أن أحدهما صِدْقٌ، فإن العاقل يختار الصدق ويفعله دون الكذب قطعاً بمُجَرَّد ترجيحه للصدق على الكذب (¬3) المرجوح بمجرد قدرته عليه، وهذا هو عين مذهب الأشعرية. المسألة الرابعة: احتجت المعتزلة وسائر (¬4) المسلمين أن المشركين إنما لم يعارضوا القرآن الكريم لعجزهم عن المعارضة لا استحقاراً له، ولمن جاء به، ولذلك فإن (¬5) العقلاء إذا دُعُوا إلى أمرٍ يكرهونه ويهون عليهم لدفعه وإبطاله بَذْلُ ¬
اتفاق المعتزلة والأشعرية على بقاء الاختيار مع القول بإيجاب الداعي
أموالهم وأنفسهم، وكان من يدعوهم إلى ذلك يدعوهم بحجة يُبْرِزُها، وكانوا متمكنين من إيراد ما يدحضها من غير ضررٍ عليهم، ولا مشقة عظيمةٍ تلحقهم، فلا بد أن يأتوا بها، ومتى لم يأتوا بها (¬1) دل على أنهم غير متمكنين من الإتيان بها (1). قال الجاحظ، ثم الإمام المؤيد بالله: ألا ترى أن واحداً لو جاء وادَّعى النبوة في قومٍ وهم له كارهون، ولتكذيبه مجتهدون، فقال لهم: معجزي أن من كلمته منكم في هذا اليوم لا يمكنه أن يجيبني بكلمةٍ، ثم أخذ يكلمهم طول النهار من غير أن يجيبه أحدٌ منهم مع قوة دواعيهم إلى توهين أمره، وتوهين أصحابه عنه بإظهار كذبه، دلَّنا ذلك على أن جوابه قد تعذر عليهم وأن ذلك حجة له، وهذا مما لا يختلُّ على أحد أنصف من نفسه على ما قلنا. وجملة هذا الباب أن كل من علمنا من حاله أنه لا يفعل فعلاً ما مع وفور الدواعي إليه، وقوة البواعث عليه، ومع ارتفاع الموانع عنه، وفَقْدِ الحواجز دونه، يعلم أنه لم يفعله إلاَّ لتعذُّره عليه، لولا ذلك لم يكن لنا طريقٌ من جهة الاكتساب يُتوصَّل به إلى العلم بتعذر شيء على أحد. انتهى بحروفه من كتاب الإمام المؤيد بالله في إثبات النبوات الذي أخذه من كلام العترة والشيوخ، ولا سيما كتاب الجاحظ المستجاد (¬2) في هذا الباب، وفيما جمعه الإمام المؤيد بالله من ذلك عن العترة والشيوخ وسائر علماء الإسلام ما يطيب ويكثر، ويكاد يخرج عن الحصر من اجتماع الكلمة منهم على الاستدلال بتلازم الدواعي في الأفعال على ما نحققه هنا، ولكنا نقتصر على هذه الأربع المسائل على أن الواحدة منها كافيةٌ، فإن قليل البراهين العلمية في القوة مثل كثيرها. فهذه الأربع المسائل دلت على موافقة جميع المعتزلة في إيجاب الداعي مع بقاء الاختيار. وأما موافقةُ الأشعرية على بقاء الاختيار مع القول بوجوب الداعي (¬3)، ¬
فنصوصهم الصريحة المتواترة، بل صرح الرازي ببقاء الاختيار في المعنى مع لزوم الجبر في اللفظ كما مضى (¬1). وقد قصدت تكثير النقل لألفاظ الأشعرية في إثبات الاختيار ليُقابَلَ جحد بعض المعتزلة لذلك، وقد تقدم طرفٌ من ذلك، وأُرِدفُه هنا وفيما بعد بما يوجب الاضطرار إلى العلم باتفاق مقاصدهم على ذلك. أما هنا فأُورِدُ كلام الرازي في " نهاية العقول "، لأنه من الغُلاة في تصحيح الجبر والمصرِّحين به، ومع ذلك فقال في مسألة خلق الأفعال من " النهاية " ما لفظه: قوله: الممكن يحتاج إلى المرجِّح في حق القادر أم في حق غيره؟ قلناة على الإطلاق، إلى أن قال: قوله: الهارب من السَّبُعِ يختار أحد الطريقين لا لمرجِّحٍ. قلنا: لا نُسلِّمُ، بل الله تعالى يخلق فيه إرادةً ضروريةً لسلوك أحد الطريقين دون الآخر، فأما إن لم يخلقها فيه توقَّف، كما أنا توافقنا على أن الله تعالى لو خلق فيه صارِفاً عن العدو، فإنه يترك العدوَّ والفِرار. إلى أن قال في تجويز أسئلة المعتزلة: قلنا: هذا الكلام يقدح في كون الله تعالى فاعلاً مُوجِداً، بيانه: أن صدور الفعل عن قادريَّتِه إما أن يتوقف على داعٍ مرجح أو لا، فإن لم يتوقف فلم لا (¬2) يجوز مثله في العبد، وإن توقف، فإما أن يكون حصول ذلك الفعل واجباً مع ذلك المرجِّح أو لا، فإن كان واجباً، لزم من قدم إرادته قِدَمُ مُرادِهِ، فيكون ذلك قولاً بقدم العالم، ولأن أفعال العباد من جملة مراداته عندكم، فيلزم قدم أفعال العباد، وذلك معلوم الفساد بالبديهة، وإن لم يكن حصول الفعل في حقه تعالى واجباً مع ذلك المرجح، فلم لا يجوز مثله ها هنا، إلى قوله في وجوب هذا. ¬
قوله: هذه (¬1) الحجة تنفي كون الله تعالى مُوجِداً. قلنا: لا نُسَلِّمُ. قوله: إما أن تكون أفعاله واجبةً، أو لم تكن. قلنا: بل هي واجبة، فإن الله تعالى كما إرادته واجبةٌ، وصفاته واجبةٌ، فتعلُّقات صفاته بمتعلقاتها واجبة (¬2). فعلى هذا نقول: تعلق إرادة الله تعالى بإيقاع الحادث المتعيِّن في الوقت الفلاني واجبةٌ، ولما كان ذلك التعلق (¬3) واجباً، استغنى عن مرجِّحٍ آخر، فلما كانت الصفة متعلِّقةً بتخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت المخصوص لا جَرَمَ، لم (¬4) يلزمنا قدم العالم وقدم سائر الحوادث. لا يُقال: لما كان تعلق إرادته سبحانه بإيجاد بعض الأشياء على بعض الوجوه واجباً، وتعلقها بإيجاد تلك الأشياء على بعض الوجوه واجباً، وتعلقها بإيجاد تلك الأشياء على غير تلك الوجوه مُحالاً، لم يكن البارىء سبحانه وتعالى مختاراً قادراً، بل كان عِلَّةً موجبة، وذلك خروج عن الإسلام، لأنا نقول: إن كون الفاعل بحالٍ يجب أن يكون فاعلاً لبعض الأشياء لا تخرجه عن الفاعلية، ألا ترى أن عند المعتزلة الإخلال بالواجب يدل إما على الجهل أو الحاجة، فإذا وَجَبَ على الله تعالى الثواب، استحال إخلاله به لاستحالة مما يلزمُ من ذلك الإخلال في حقه وهو الجهل أو الحاجة، وإذا استحال منه أن لا يفعل، وجب أن يفعل، ففي هذه الصورة وجوب صدور الثواب عن البارىء تعالى واستحالة إلا صدوره عنه لا محالة تكون لأجل وجوب الداعي إلى الفعل، واستحالة حصول الداعي إلى الترك، ولا يُنَافي كونه قادراً، لأنه في ذاته بحالةٍ لو لم تكن ¬
هذه الإراداتُ واجبةً، بل لو حصلت له إراداتٌ أُخَر، لكان هو تعالى عند تلك الإرادات قادراً على عين (¬1) ما أحدثه الآن. واعلم أنه لا خلاص للمعتزلة عن هذا الإشكال إلاَّ إذا قالوا: إن تركه تعالى للواجب لا يُؤَدِّي إلى محالٍ، أو (¬2) لا يقولون: إنه يؤدي إليه أو لا يؤدي إليه، بل يُمْسِكُون عن القولين، ولكن هذا الجواب ركيكٌ، لأنهم إن (¬3) عنوا بذلك أن أحد القسمين حقٌّ في نفسه، ولكن لا ينطقون به، فذلك مما لا يُفِيدُهم، لأنه ليس المقصود من الإلزام أن ينطقوا به، وان عَنَوْا بذلك فساد طَرَفَي النقيض، فهو معلومٌ البطلان بضرورة العقل. إلى أن قال: قوله: القادر هو الذي يمكنه الفعلُ والترك، فلو كان كذلك لم تحصل المكنة في شيء من الأحوال. قلنا: إن عنيتم بقولكم " القادر: هو الذي يكون متمكِّناً من الفعل والترك " أنه الذي يمكنه الإتيان بكل واحدٍ منهما بدلاً عن الأخر من غير مرجِّحٍ، فلا يمكن دخول هذه الحقيقة في الوجود، فإن النزاع ما وقع إلاَّ فيه. وإن عنيتم أنه الذي يمكنه الإتيان بكل واحدٍ بدلاً عن الآخر عند حصول الدواعي المختلفة (¬4) فذلك حاصِلٌ، واعتبار الدواعي لا ينافي ما ذكرنا. إلى أن قال: قوله: لم لا يجوز أن يقال: حصول أحد المقدورين عند حصول الداعية يصير أولى بالموجود، ولكن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد (¬5) الوجوب؟ قلنا: لوجوهٍ: الأول: أنه يلزم (¬6) أن يكون كلُّ واحدٍ من الأمرين معقولاً ممكناً، وكلُّ ¬
ممكنٍ فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محالٌ (¬1) وإلاَّ لكان أيضاً محالاً، لأن ما لا يوجد إلاَّ عند وقوع المحال فهو محال. إلى آخر ما ذكره. انتهى ما أردتُ من نقل كلامه، وهو صريحٌ في أنه ما عنى بوجوب الفعل وإحالة الترك ما يخرج عن القدرة والاختيار، ويُبْطِلُ معنى الفاعلية، وإنما عنى الذي عنته المعتزلة في فعل الله تعالى لما يجب في حكمته والاحتجاج به كثير في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]. فهدا الرَّدُّ عليهم مبنيٌّ على أنه لا يقع من الأفعال ما لا داعي إليه، وإن كان مُمكِناً في نفسه بالنظر إلى القدرة، وإنما لم يقع مثل ذلك، لأنه لا داعي إلى عذاب الولد والحبيب وإن كانا مذنبين، فإن الداعي إلى العفو عنهما موجود، والصارف مفقود، وحينئذ يجب وقوع العفو ويترجَّح على العقاب. ومن ذلك قوله تعالى لمن ادعى ذلك منهم: {فَتَمَنَّوُا المَوتَ إنْ كُنتُم صادِقينَ} [البقرة: 94] وإنما ألزمهم تَمَنِّيه لوجوب الداعي الراجح لو صحَّت دعواهم. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] فإنه قطع على نفي تمنِّيهم لذلك، وعَلَّله بوجود الصارف الراجح، وذلك الصارف هو علمهم بما قدَّمت أيديهم وما يستَحِقُّون عليه من العقوبة. ومن ذلك قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]. ووجه الاحتجاج بذلك أن الكذب لا يقع إلاَّ لداعٍ أو جهلٍ بقبحه، وقد تبين نزاهة الرسل في الأمرين معاً، إذ (¬2) كانوا مهتدين لا يجهلون قبحه غير سائلين لأجرٍ، فلا (¬3) يُتَّهَمُونَ بالحيلة بالكذب على تحصيل المال، والكذب لا ¬
يجب لمجرد كونه (¬1) كذباً، ولا نفع (¬2) لذلك عند جميع العقلاء، فيجب في من هذه حاله اعتقاد صدقه. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية [الزخرف: 33] وذلك يدلُّ على أن الداعي إلى الكفر لو كان راجحاً للجميع، لوقع من الجميع. ونحو ذلك قوله تعالى: {ولو بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبادِه لبَغَوا في الأرضِ} [الشورى: 27]. ومنه قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُم إنْ شَكَرتُم وآمَنْتُمْ} [النساء: 147]. ومن ألطفه قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154] فإنه مع بنائه على أن المرجوح لا يقع مبنيٌّ على لطيفةٍ أخرى: وهي أن تفضيل الذكور على الإناث عقلي لما يلزم الذكور من المنافع الراجحة، والخصال الحسنة المحمودة. ومثلها قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. وقد كانت العرب تعرف هذا ومن لا يعرف النظر الدقيق، ولهذا قال علماء المعاني في قول الشاعر (¬3): ¬
والعيشُ خيرٌ في ظِلا ... لِ الجهل مِمَّنْ عاشَ كَدَّا إن معناه: ممن عاش كدّاً مع العقل، حتى يمكن الترجيح، إذ لو اجتمع العيش مع العقل لم يصح من عاقلٍ أن يفضِّل عليه العيش مع الجهل. ومع ذلك جميع ما تقدم في مسألة الإرادة من التيسير لليسرى والعسرى، ومن آيات المشيئة التي لا يمكن حَمْلُها على الإكراه، لقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28 - 29] على ما تقدم تقريره. فثبت بهذه الجملة أن الراجح واقعٌ، والمرجوح ممتنعٌ، وأن الاختيار مع ذلك ممكنٌ كما مضى تقريره (¬1)، وكما سيأتي. وهذا القسم هو المسمى بالممكن لنفسه، الممتنع لغيره، والتكليف به جائز بالإجماع مثل تكليف من عَلِمَ الله أنه لا يؤمن ومع توقُّف الفعل على الدواعي والصوارف وتوقُّفِهما على خلق الله لها، فأجمعت فِرَقُ الإسلام، بل العقلاء على أنه لا تأثير لها في وجود الفعل. ممن ذكر الإجماع على ذلك الشهرستاني في " نهاية الإقدام " أن العلم لا يؤثر في المعلوم إجماعاً، ومما يدل على ذلك وجوه: ¬
الوجه الأول: أن العلم (¬1) لو كان يؤثر، وكذلك سائر الدواعي، لَزِمَ نفيُ القدرة والاختيار عن الرب عز وجل، فإن ما علم الله وجوده أو كان راجحاً، استحال عدمه، وما علم عدمه أو كان مرجوحاً استحال وجوده، ولو كانت هذه الاستحالة إلى ذات المعلوم (¬2) رَفَعَتِ القدرة والاختيار، فثبت أنه لا استحالة بالنظر (¬3) إلى الذات، وإنما تُطلَقُ الاستحالة هنا مع إطلاق الإمكان باعتبار الجهتين كما مر في أول مسألة الأقدار. الثاني: أنه يلزم أن يكون العلم (¬4) مُغْنِياً عن القدرة وكذلك الرجحان، فيكون ما علم الله وجوده أو ترجَّح وُجِدَ، سواء كان من علم أو من ترجَّح له قادراً أو لا، وفي ذلك انقلاب العلم والدواعي قدرة، وهذا مُحالٌ. الثالث: أنه يلزم أن يحسن من الله تعالى الاحتجاج على العباد بمجرد سبق العلم بأنه يعذِّبُهم من غير ذنب ولا حجة، ورجحان الداعي وإن لم يكن داعي حكمةٍ كما تقدم في مسألة الإرادة، والسمع بريءٌ من مثل هذه الحجة، والعقل يدرك رِكَّتها إدراكاً ضرورياً، ولو كان في ذلك حجة، لم يقل الله سبحانه وتعالى: {لئلاَّ يكونَ لِلنَّاسِ على الله حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسلِ} [النساء: 165]. وقد حكى الله تعالى، وحكت عنه أنبياؤه كيفية إقامة حُجَجِه على عباده يوم القيامة، ولم يكن في شيء منها أنه احتج على أحد من خلقه بمجرد سَبْقِ علمه بتعذيبه بغير ذنبٍ ولا حجةٍ، وفي " الصحيح ": أنه " ما أحدٌ أحبَّ إليه العذر من الله " (¬5) فسبحان من له الحجة والحكمة والعزة والمشيئة. الوجه الرابع: أنه كان يلزم أن لا يتعلق العلم بالرب القديم سبحانه، لأنه ¬
يستحيل التأثير فيه، فلما علمنا تعلُّق علمه وعلمنا بذاته المقدَّسة، علمنا أن تعلق العلم بالمعلوم لا يؤثر فيه ألبتة، وهذا الوجه ذكره الجويني في مقدمات كتابه " البرهان " (¬1). الوجه الخامس: ما تقدم في غير موضع من الاحتجاج في هذه المسألة بالسمع المعلوم لفظه ومعناه بالضرورة مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نفساً إلاَّ وُسْعَها} [البقرة: 286]، بل عُلِمَ من الدِّين الامتنان على العباد بالسماحة من الممكنات، وأن التكليف ورد باليُسْرِ دون العسر، وبَذْلِ السهولة ونفي الحرج، وسمع ذلك جميع العقلاء من المسلمين وغيرهم، فلم يعترضه أحد. وكذلك من سمعه من العقلاء، علم صدقه، إلاَّ من مَرِضَ قلبه بداء الكلام، وهذا يدل على أنه الفِطرة، وعلى أن التوغُّل في الكلام يُغَيِّرُ الفطرة، ولهذا لا يوجد من ينكر العلوم كلها إلاَّ في المشتغلين بالمعقولات كالسُّوفِسطَائِيَّة وأمثالهم (¬2). الوجه السادس: ما ذكره ابن الحاجب من أن ذلك يؤدي إلى أن التكاليف كلها محالٌ، قال: وهو خلاف الإجماع مع ما تقدم من الحجج العقلية من وِجْدان الفَرْقِ الضروري بين الحركتين الاختيارية والاضطرارية، والعلم الضروري بحسن الأمر والنهي في أفعالنا، واستحقاق المدح والذم فيها دون أجسامنا وألواننا. وقد أقرَّ بهذا الرازي، ولكن ادعى أنه معارض بعلم ضروري مثله، فأوهم (¬3) أن العلوم الضرورية تتعارض، وذلك يستلزم بطلان العلوم، ولم يقل بذلك أحد. وأما قوله: إن الممكنين لا يقع أحدهما دون الآخر إلاَّ بمرجِّحٍ وإن ذلك ضروري فمُسَلَّم، لكن لزوم نفي الاختيار من هذا غير ضروري، بل ولا نظريٌّ، بل وهميٌّ باطل. ¬
فانكشف أن قوله: إن الضرورتين تعارضتا، تمويهٌ نازل منزلة قول القائل: إن النفي والإثبات قد اجتمعا، وإن النقيضين قد صدقا، ولو كان مثل ذلك يصح لم يكن إلى صحته طريق، لأن ذلك يبطل الثقة بالعلوم، ومعرفة الصحة والبطلان لا يكون إلاَّ مع بقاء العلوم. وإنما يصح أن يقال: تعارض المذهبان المستخرجان من هاتين الضرورتين فدلَّ (¬1) على فساد أحد الاستخراجين، وهو استخراج نفي الاختيار من وجوب وقوع الراجح، ووجوب احتياج الممكن إلى مرجِّحٍ، لأن هذا الوجوب وجوب أولويةٍ واستمرارٍ، لا وجوب عجزٍ واضطرار، كما أقر به الرازي في حق البارىء تعالى، وقال: إن خِلافه خروجٌ من الإسلام كما مرَّ (¬2). وقد قطعنا بعدم تأثير الدواعي، فنقطع أيضاً بتوقف تأثير القدرة عليها وتوقف الجميع على الاختيار، فإنا نقطع بقدرة أحدنا على ما لا يفعله قطعاً من التردِّي من الشواهق بغير موجبٍ، وشرب السموم، وقتل الأولاد، ومع قطعنا بأنا لا نفعل ذلك، فإنا نجد فرقاً ضرورياً بين تركنا لذلك بسبب الصارف عنه، وبين ترك ذلك عند العجز عنه بالمنع بالغلِّ والقيد، وأن الداعي الراجح هنا لو دعا إلى الفعل ما صدر منا، وإذا دعا الداعي الراجح إلى الفعل في الصورة الأولى وقع لا محالة. وبهذا الفرق الضروري، جميع ما تقدم، يندفع الجبر ويثبت الاختيار، وتقدم في مسألة الأقدار وفي أول الكلام على الأفعال تحقيق ذلك على حسب وُسْعِ البشر، ومدارك العلوم (¬3) والنظر. واعلم أنه ليس للمعقول (¬4) وراء هذا مَدْرَك، وكل ما ذكرناه من إحساس الاختيار ووقوع الراجح قطعاً، وحاجة الممكن إلى الراجح ضروري في فِطَرِ ¬
بيان المراد من قول أهل السنة: إن أشعال العباد مخلوقة
العامة، وإنما استفاد الخائضون فيه تحرير العبارات، وإثارة العداوات، وتطويل الخصومات، واستراح أهل الحديث والأثر حين غَلَّقوا هذه الأبواب، وقنعوا بما في أوَّليَّات الفِطَنِ والألباب، وأيَّدُوها بمعارف السنة والكتاب. فصل: وإذ قد تم الكلام على فِرَق أهل السنة ومقالاتهم وتقريراتهم من نفي (¬1) الاختيار، بقي تفسيرُ قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، وقولهم: لا خالق إلا الله تعالى، فإن أكثر الغالطين عليهم في مذاهبهم ما غلطوا إلاَّ بسبب قلة الفهم لمرادهم في هاتين المسألتين. وأنت إذا تأملت ما تقدم من كلامهم، عرفت ذلك، ولكني أحببت زيادة البيان لقوة عصبية المعتزلة عليهم في ذلك. ولنبدأ بقولهم: إنه لا خالق إلاَّ الله تعالى، وهذا إجماعُ أهل السنة، ونصوص القرآن دالَّةٌ عليه، غير أن هذا الإجمال يحتاج إلى تفصيل مُرادهم، وإيضاح مقصدهم، وعلى معرفته تركيب (¬2) معرفة مرادهم بخلق أفعال العباد، وذلك أن " الخلق " لفظةٌ مشتركةٌ بين ثلاثة معانٍ، والألفاط المشتركة يتعرَّض الجدليُّ للتشغيب فيها إن لم يتبين المراد بالنص الجلي، ولا يُكتفى فيها بمجرد القرائن. فقد يكون الخلقُ بمعنى التقدير، مثل تقدير الخَرَّازين للجلود أنطاعاً وأسقيةً، ونعالاً، والخلق بهذا المعنى يطلق على العباد بشرط دلالة (¬3) القرينة عليه، والله سبحانه أجَلُّ من أن يَتَمَدَّح بالتفرد بهذا، قال الله تعالى بهذا (¬4) المعنى حكايةً عن عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]، وقال تعالى: {فَتَبارَكَ الله أحسنُ الخَالِقينَ} [المؤمنون: 14]. ¬
وقال الجوهري في " صحاحه " (¬1): يقال: خلقتُ الأديم، إذا قدَّرتَهُ (¬2)، قال زهير (¬3): ولأنت تفري ما خلقتَ وبعـ ... ـضُ القوم يخلُقُ ثم لا يَفْرِي وقال الحجاج: ما خلقتُ إلاَّ فريتُ، ولا وعدتُ إلاَّ وَفَّيتُ. انتهى كلام الجوهري. والخلق بهذا المعنى يطلق على العباد مع القرائن الدالة عليه، وذلك من جملة أفعالهم التي مَكَّنهم الله تعالى منها بمشيئته وأقداره وسابق علمه وتقديره، على ما مضى من شرح ذلك وتقريره. المعنى الثاني: الخلق بمعنى الكذب، قال الله تعالى: {وَتَخْلُقون إفْكاً} [العنكبوت: 17]. وقال في حكاية كلام الكفار: {إنْ هذا إلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص: 7] وهو كثير شهير. والله تعالى مُنَزَّهٌ عن إضافة الخلق بهذا المعنى بإجماع المسلمين، ومن تأوَّل في تجويز هذا على الله تعالى، فهو من المُلحدين. المعنى الثالث: الخلق بمعنى إنشاء الموجودات من العدم وتصوير العوالم والصور، وتركيبها وتدبيرها على ما اشتملت عليه كتب التشريح، ثم على ما شاهده (¬4) كلُّ ذي نَظَرٍ صحيح. ¬
والخلق بهذا المعنى هو الذي تفرَّد الرب عز وجل به كله دِقِّهُ وجِلِّهُ، صغيره وكبيره، وعظيمه ويسيره، وهو الذي تمدَّح الرب سبحانه بالتفرد به، والذي أراد أهل السنة بنسبته إليه وقصره عليه، ولا يجوز إطلاق الخلق على غير الله تعالى -وإن أُريد به التقدير- إلاَّ مع القرينة الدالة على ذلك كالربِّ، فإنه لفظة مشتركة يقال: رَبُّ الدار، ورب المال، بهذه القيود والقرائن، ومتى تجرد (¬1) عنها لم يَجُزْ إطلاقه إلاَّ على الله تعالى، وهذا هو محل النزاع بين أهل السنة وبعض المعتزلة، ففي المعتزلة من يسلِّمُ مذهب أهل السنة وهم البغدادية، فقد حكى ابن متويه في " تذكرته ": أن المخلوق عندهم بغير إلهٍ. ومن المعتزلة من جعل الخلق على الحقيقة للعباد فلا يطلق على الله تعالى إلا مجازاً، وذلك لمخالفته في معناه، لا أنه جعل المعنى الذي ينسبه أهل السنة إلى الله تعالى مقصوراً على العباد: منهم أبو عبد الله البصري (¬2) ذهب إلى أن الخلق بمعنى الفكر، والفكر لا يجوز على الله تعالى، وهذا ما لا أصل له إلا أن يكون استخرج ذلك من قول اللغويين: إن الخلق بمعنى التقدير، وظن أن الفكر بمعنى التقدير، وغفل عن كون صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين. فلو ذهبنا هذا المذهب، عطَّلناه سبحانه عن (¬3) جميع صفاته، فإن الإرادة فينا تستلزم الحاجة، وصفة العلم والقدرة والحياة تستلزم الجسمية والبنية المخصوصة، وقد تقدم ذلك. والعجبُ من الزمخشري مع تَضَلُّعه في (¬4) علم اللغة واشتغاله بتفسير القرآن ¬
والحديث، وتصنيفه فيهما " الكشَّاف " و" الفائق "، كيف اختار هذا المذهب الباطل، وزَعَم في " أساس البلاغة " (¬1) أن قولنا: خلق الله الخلق من المجاز. والذي يدلُّ على بطلان كلامه ومن تابعه من المعتزلة أن أهل اللسان العربي والمعاصرين (¬2) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين وغيرهم استعملوا هذه اللفظة مضافةً إلى الله عزَّ وجلَّ ومقصورةً عليه، وشاع ذلك وذاع، وتواتر واستفاض، وصدعت به النصوص، وتداوله العموم والخصوص، وكان السابق إلى الأفهام من غير قرينةٍ. وأجمع أهل علم التفسير من التابعين وتابعيهم بإحسانٍ على أن نسبة الخلق إلى الله تعالى من المحكم الذي لا يحتاج إلى التأويل، ولا علامة للحقائق في جميع اللغة إلاَّ مجرد الاستعمال الذي لا يبلغُ أدنى أدنى أدنى (¬3) مراتب هذا الاستعمال المتواتر المعلوم من الضرورات كلها: ضرورة اللغة وضرورة القرآن، وضرورة السنن والآثار، وضرورة إجماع المسلمين. ولو كُلِّفَ الزمخشري أن ينقل مثل هذا الاستعمال العظيم في كل لفظةٍ زعم أنها حقيقة لغصَّ بريقه، بل لو كُلِّفَ بهذه اللفظة بعينها، وهي أن الخلق بمعنى التقدير أن ينقُل مثل (¬4) ذلك أو قريباً منه لانقطع، وليس المجاز شيئاً (¬5) يختصُّ به الزمخشري، فعلامته معروفة: وهو ما لا يسبق الفهم إليه إلاَّ بقرينة، وهذا يَفُتُّ في عَضُدِ دعواه. وأقلُّ أحوال هذه اللفظة أن يكون إطلاقها على الله حقيقةً عُرفيَّةً أو شرعيَّةً، وهما أقوى من الحقيقة اللغوية كما قال علماء الإسلام في لفظة الصلاة وسائر ألفاظ الشرع. ¬
وعلى كلام الزمخشري اسمه الخالق واسمه الخلاَّق وهما من أسمائه الحسنى، متى أُطلِقا وتجرَّدا عن القرائن سبق الفهم إلى أن المراد بهما بعض الخرَّازين ومن يُستَخْبَثُ ذكره من أخسِّ أهل المهن من صُنَّاع النعال ومُصلِحي ما تخرَّقَ، ولا ينصرف إلى الله تعالى إلاَّ مع القرينة كما هو حق المجاز. بل أخبث من هذا أنه يلزمه نفي هذين الاسمين الشريفين عن الله تعالى من غير قرينةٍ، كما هو علامة المجاز (¬1)، فإنه لا يجوز لك أن تصف الرجل الشجاع بأنه أسد وتسميه بذلك إلاَّ مع القرينة، ويجوز لك أن تنفي عنه اسم الأسد بغير قرينة باتفاق علماء المعاني والبيان، وإلا لزم الحاجة إلى القرينة في الحقيقة والمجاز معاً، ولم يقل بذلك قائل. فعلى كلام الزمخشري يجوز للمسلم أن (¬2) يقول: إن الله تعالى ليس بخالقٍ ولا خلاَّقٍ من غير قرينةٍ ولا بيانٍ لمراده. ويوضح بطلان ما توهَّمه أنه بنى (¬3) ذلك على أن حقيقة الخلق (¬4) التقدير، وحقيقة التقدير عنده يستلزم الفكر، وذلك يستلزم النقص، فوجب أن لا يُنْسَبَ إلى الله تعالى إلاَّ مجازاً. والجواب عليه أن كل ما استلزم (¬5) النقص لا يُنسَبُ إلى الله تعالى لا حقيقةً ولا مجازاً، والأسماء الحسنى أرفع مرتبةً من ذلك عند أهل الحق، على ما بَسَطْتُهُ في الصفات، ثم في الإرادة، ولله الحمد. وهذا المُسَمَّى منهم بالعلامة، فكيف بشيوخ الكلام منهم الذين وصفهم الزمخشري بضيق العَطَنِ والمسافرة عن علم البيان مسافة أعوام، ذكره في تفسير ¬
{بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} (¬1) [المائدة: 64]. وهاك أيها السني ما يُقِرُّ عينك في هذه المسألة من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد. والوارد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أقسام: القسم الأول: المُجْمَعُ على صحة الاحتجاج به عند فِرَقِ أهل السنة. والقسم الثاني: المختلف في صحة الاحتجاج به بين علمائهم. أما القسم الأول فهو أنواع: النوع الأول: النصوص الدالة على تمدُّح الرب عزَّ وجلَّ بالتفرد بالخلق والاختصاص به دون غيره، وذلك مثل قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللهِ} [فاطر: 3]، وقوله سبحانه: {أفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرونَ} [النحل: 17] وقوله تعالى: {ألاَ لَه الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]. النوع الثاني: العامُّ المُعَلَّل بما يمنع جواز التخصيص، مثل قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]. فقوله: {قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيء} وإن (¬2) خرج مخرج العموم، والعمومُ يحتمل التخصيص، فإن تعليلها يوجب القطع على منع تخصيصها، وذلك من وجهين: الأول: أن الكلام خرج مخرج التمدُّح بالتفرُّد بمُسَمَّى (¬3) الخلق. وثانيهما: أنه خرج مخرج الإنكار على من أثبت هذه المِدْحَةَ لغير الله ¬
تعالى، فلو كان المراد بالعموم خلق بعض الأشياء لحَسُنَ من العباد مشاركته في مثل هذا التمدح بخلق كل شيء، وهم يريدون تقدير بعض الأشياء من النِّعال والأنطاع ونحو ذلك، ولا أعظم جنايةً على كتاب الله تعالى من تطريق مثل هذا إلى مماح آياته السنية، وصرائح نصوصه الجلية. النوع الثالث: العام من غير تعليل، وهو كثير جداً، مثلُ قوله تعالى: {الله خَالِقُ كلِّ شَيءٍ} [الرعد: 16]، وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله: {وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَه تَقديراً} [الفرقان: 2] وهو كثير جداً. وفي هذه الآية مع عمومها دليلٌ على بطلان دعوى الزمخشريِّ لقَصْرِ الخلق في الحقيقة على التقدير، لأن الله تعالى نصَّ على المغايرة بينهما، حيث عطف التقدير على الخلق في قوله: {وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَه تَقديراً} [الفرقان: 2] فدل على أن الخلق في المعنى الذي نص عليه أهل السنة من إنشاء العين من العدم. ومن الدليل على ذلك من السنة الصحيحة ما لا يُحصى، مثلُ حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تبارك وتعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلُقُ كخلقي، فليخلُقُوا ذَرَّةً، وليخلقوا حبَّةً أو شَعِيرةً ". خرجه البخاري آخر " الصحيح " (¬1). وفي " الصحيحين " (¬2) من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن أصحاب الصُّوَرِ يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحْيُوا ما خلقتم ". ¬
وفي " الصحيحين " (¬1) أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ". وفي روايةٍ " الذين يُشَبِّهُون بخلق الله ". وفي هذا وفي حديث أبي هريرة تفسير قوله: " أحيوا ما خلقتم " أي ما شبَّهتُم بخلق الله تعالى، وادَّعيتم من خلقه ما لستم له بأهل، فلو كان الخلق لله تعالى مجازاً وللعباد حقيقةً، لم يحرم عليهم معلَّلاً بهذه العلة، التي هم عند الزمخشري أحقُّ بها من الله تعالى، بل هي لهم دونه. ولما كانت الحياة ونحوها من الأعراض تُسَمَّى مخلوقة لأنه لا تقدير فيها، ويحتمل في مجرد التقدير والتصوير لما ليس فيه روح أن يسمى خلقاً، سواء كان من فعل الله تعالى أو من فعل العباد، بخلاف إيجاد الأعيان وإنشائها من العدم، وذلك لقول عيسى عليه السلام: {أَنِّي (¬2) أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا (¬3) بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، ولِما ثبت في " الصحيحين " أنه يقال للمصوِّرين: " أحيوا ما خلقتم " أي: ما صوَّرتم، فسمى التصوير خلقاً، كما سماه عيسى عليه السلام. يوضحه: أن ليس القصد إضافة كل خلقٍ إلى الله تعالى، ولا تفرُّدَه ¬
سبحانه لكل ما يُسمى خلقاً، لأن الكذب يسمى خلقاً، ولا يجوز إضافته إليه سبحانه، كما قال تعالى: {وتَخْلُقُون إفْكاً} [العنكبوت: 17]، وقال: {إنْ هذا إلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص: 7]. وإنما القصد تفرُّدُه سبحانه بالخلق الذي هو إنشاء الأعيان من العدم الذي لا يقدر عليه سواه، وتفرده بالقدره على خلقِ كل مخلوقٍ، كما دلت عليه الكتبُ السماوية والنصوص النبوية. وإذا عرفت معاني الخلق، وأن أهل السنة ما قصروا على الله تعالى منها إلا إنشاء العين من العدم، عرفت معنى قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، وأخذته من نصوصهم البَيِّنَة في تلخيص مذاهبهم، كما تقدم في الفرق الأربع، وعرفت حينئذ أنهم إنما عنوا بالمخلوق أعيان الذوات المُخرَجَة من العدم، التي يصح عليها تحقيق الاتصاف بالوجود التي هي عند المعتزلة ثابتةٌ في العدم، والتي لا تصح عند المعتزلة أن تعلق بها قدرة الرب عز وجل، كيف إلاَّ العبدُ الضعيفُ؟ وأما ما يقع عليه الجزاء بالذم والعقاب، والثناء والثواب، من الأمور العدمية والإضافية، التي ليست بشيء حقيقي أصلاً كالتروك على الصحيح، وإنما هي جهات استحقاقٍ مثل تروك الواجبات، وتروك المحرمات عند الخصوم، فليست عند أهل السنة مخلوقةً كما يأتي (¬1) الدليل عليه قريباً من وجوه ثلاثة قرآنية. وكيف يصح عندهم وصف ما ليس بشيء في الحقيقة بالحق، وإن كانت تُسمى أشياء في العرف كما أن التروك تسمى فيه أشياء، ولا (¬2) عبرة بالألفاظ. وقد مر تقدير أن الثواب والعقاب لا يستلزمان أن يكونا على أشياء حقيقية عند المعتزلة (¬3)، فإن الثواب يُستحق بترك الحرام، والعقاب يُستحق بترك الواجب، والعقل يُدرِكُ ذلك بالفطرة، والعقلاء أجمعون (¬4) عليه، فإنهم يذُمُّون ¬
من ترك قضاء الدين، وترك رد الودائع، ولا يُرَاعُون في ذلك القطع بأن التروك أمر وجودي، له حقيقة في الخارج كما له حقيقة في الذهن، بحيث لا يجزم عاقل على ذم من ترك قضاء الدين، ورد الوديعة، حتى يكون من ذلك على بصيرة، فجمهور النقلة لمذهب أهل السنة من خصومهم جهلوا أو (¬1) تجاهلوا مذهب أهل السنة وغَلِطُوا على جميع فرقهم. فأما الفرقتان الأولتان، فإنهم وإن اتفقوا على أن أفعال العباد المقابلة بالجزاء مخلوقةٌ أنفسها، فإنهم متفقون على بقاء اختيار العبد لها، وأن اختياره لوجودها شرط في وجودها سابق على الوجود، وإن الاختيار ليس بشيء حقيقي، فلا يصح وصف الخلق بذلك كما مر تحقيقه. ولا يلزمهم الجبر إلاَّ بنفي الاختيار، كما لم يلزم الجبرُ إمامي الاعتزال الجاحظ وثُمامة بن الأشرس وأتباعهما مع قولهما: إن قدرة العباد غير مؤثرةٍ في أفعالهم، وإنه ليس لهم فعل إلاَّ الإرادة، ثم اختلفا (¬2): فقال الجاحظ: إن المؤثر في أفعال العباد هو الطَّبْعُ الضروري الراجع إلى قدرة الله وخلقه. وقال ثمامة: إن أفعال العباد حوادث لا مُحدِثَ لها، وهذا شرٌّ من قول هاتين الطائفتين، لأنه يستلزم جواز استغناء الحوادث عن مُحدِثها جل وعز، ومع ذلك فلم يَعُدَّهُما أحد من المعتزلة من الجبرية. وأما الفرقتان الآخرتان، فإنهما لم يَنْسُبَا إلى الله تعالى التفرد بالخلق إلاَّ في إنشاء العين الثُّبوتية وإخراجها من العدم إلى الوجود، ولم ينسبوا إلى الله تعالى خلق ما ليس بشيء حقيقي من الإضافات والوجوه والأحوال والاعتبارات التي ¬
تختلف بها أسماء الذوات، فإن ذات (¬1) الحركة المخلوقة واحد، ثم تختلِفُ أسماؤها باختلاف أحوالها، فتُسَمَّى طاعةً ومعصيةً وكتابةً وصناعةً، وأجمعوا هم والجمهور أن المخلوق من مُسَمَّى الصلاة والعبادة والطاعة والمعصية ذواتها التي هي مُطلَقُ الحركة دون الوجه المخصوص الذي سُمِّيَتْ به (¬2) طاعة ومعصية. وأما القدر المقابل بالجزاء، فليس هو مرادهم بقولهم: إن الله خالق كلِّ شيء، لأنه ليس بشيءٍ حقيقي، والخلق لا يصح أن يطلق على غير شيء، والله عز وجل إنما تمدح بأنه خالق كل شيء لا خالق لا شيء، لأن المراد كل شيء يُسَمَّى مخلوقاً، والقدر المقابل بالجزاء لا يسمى مخلوقاً لوجوه: الأول: قوله تعالى: {ربَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً} [آل عمران: 191] فلو كان الله تعالى خالق الباطل الذي فعله العباد لم يتنزه عن خلق الحق في حالِ كونه باطلاً، لأن خلق الباطل أشدُّ قبحاً من خلق غيره في حال كونه باطلاً، كما أن من فعل الكفر لم يَتنَزَّه (¬3) عن ترك الضلال كفراً. الثاني: قوله تعالى: {ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] فلو كان الله خالق تغييرهم، لكان خلقاً آخر لا تغييراً لخلق الله، كما أن الشيب في الشعر خَلْقٌ آخر بعد السواد لا تغييرُ خلق الله، ولقال الله: ثم أنشأناه خلقاً آخر، كما قال في تغيير النطفة إلى العلقة، ثم (¬4) قال في آخر التغييرات: {فتبارك الله أحسنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] ولم يقل: أحسن المغيِّرِين. وكذلك لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمات المغيرات خلق الله (¬5)، ولم يجعل تغييرَهُنَّ خلقاً منه آخر كما خلق النطفة علقةً، وخلق الشيب بعد الشباب. ¬
الإشكال على قول الجويني وأصحابه بخلق الأفعال
الثالث: قوله تعالى: {الذِي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي على حسب ما أراد، فوجب وصف جميع مخلوقات الله بالحسن، فلو كان القدرُ المقابل بالجزاء من أفعال العباد مخلوقاً، لم تُوصَفْ معاصيهم بالقبح، ووجب وصف قبائحهم بالحسن، وهذا باطلٌ بالإجماع. وعلى أن في أهل السنة من يقول: إن الحركة المطلقة وصفٌ إضافيٌّ لا شيءٌ حقيقي، وإن الشيء الحقيقي المخلوق هو المتحرِّك نفسه، لا مجرَّد حركته، وهو القوي الصحيح كما تقدم. وأما الإمام الجويني وأصحابه، فيقولون بخلق الأفعال كما يقوله أهل السنة، ولكن توجيه ذلك يُشكِلُ عليهم جداً مع قولهم: إن الحركة شيءٌ حقيقيٌّ، وإنها أثر قدرة العبد حتى يتأمل مقصدهم وزال الإشكال. والإشكال عليهم من وجهين: الوجه الأول: أنه يلزم أن لا يصح وصفهم لفعل العبد بأنه مخلوق. والجواب ما ذكره الشهرستاني حيث قال: " وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثراً هو الوجود، إلاَّ إنه لم يُثْبِتْ للعبد استقلالاً بالوجود ما لم يستند إلى سبب آخر، ثم تسلسل الأسباب في سلسلة الترقِّي إلى البارىء تعالى وهو الخالق المبدىء المستقل بإبداعه من غير احتياجٍ إلى سبب. وقد أشار الشهرستاني بهذا إلى موافقة الجويني لأهل السنة في مسألتين: أحدهما: توقُّفُ الأفعال على الدواعي مع أن الدواعي من فعل الله تعالى. وثانيهما: توقُّف الأفعال على سبق (¬1) مشيئة الله تعالى وقضائه وقدره على ما مر تحقيقه. ¬
فإن القول بذلك هو الفاروق ما بين السني والبدعي، وإن بقية الاختلاف إنما أكثرُهُ في العبارات. فتأمل هذه الفائدة العظمى وأيقِظْ بها قلبك، وشُدَّ بها يديك، فهي من نفائس علوم الخاصة، وما يعقلها إلاَّ العالمون. فمن هنا أطلق إمام الحرمين وأصحابه على أفعال العباد أنها مخلوقة، ويحتجون على صحة هذه التسمية بما ذكرناه من أدلة السمع الخاصة والعامة المُتَّفَقِ عليها بينهم، والمختلف فيها على حسب رأيهم في المختلف فيها. وقد أشار الغزالي في مقدمات " الإحياء " (¬1)، بل صرح أن الحامل على تسمية أفعال العباد مخلوقة إنما هو الإيمان بقوله تعالى: {خَالِقُ كلِّ شيء} [الأنعام: 102]، وصرَّح فيها ببطلان الجبر، وأن بطلانه ضروري للفرق بين الحركة الاختيارية والضرورية ضرورةً، والله أعلم. الوجه الثاني: أن يقال: يلزمهم أن يوصف العبد بأنه خالقٌ لأفعاله. والجواب عنهم في ذلك أنه لا يلزم في كل شيء أن يسمى مخلوقاً في اللغة لوجهين: أحدهما: أن تسمية كل شيء بذلك يحتاج إلى نقل صحيح عن أهل اللغة وهو معدوم، ولم يُعهَد عن أحدٍ من أهل اللغة أنه يقول: خَلَقتُ قياماً (¬2) ولا صياماً ولا حلالاً ولا حراماً. الوجه الثاني: أنه يُفهَمُ من كثيرٍ من الكتاب والسنة وكلام البُلَغاء أن ذلك يختص ببعض الأمور دون بعض. من ذلك قوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] فعطف الهدى المتعلِّق بالأفعال على الخلق المتقدم لها، وظاهره المغايرة ¬
في التسمية، وإن كان الكل بمشيئته سبحانه. وكذلك قوله تعالى: {ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54] وهي أبينُ آيةٍ في هذا، لأنه قسَّم المسمَّيات فيها إلى قسمين مختلفين متغايرين: أحدهما: الخلق، وهو أخصُّهما ولذلك قدمه. وثانيهما: الأمر، وهو أعمُّهما ولذلك أخَّره، لأن الخلق نوع من جنس الأمر يدخل تحته بدليل قوله تعالى: {وإلَيْهِ يَرجِعُ الأمرُ كُلُّه} [هود: 123] فدخل فيه الخلق والأمر. فإن قالت المعتزلة: يخرج منه التكاليف، لقوله تعالى في آخر الآية: {فَاعْبُدْه وتَوكَّلْ عليه} [هود: 123] فأمره بالعبادة، وما كان إلى الله لم يأْمُر به. قلنا: هذا ممنوع لقوله تعالى: {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ} [النحل: 127] بأبلغ صيغ المبالغة، وهي الحصر بالاستثناء بعد النفي العام، وقد تقدم تقرير ذلك عقلاً وسمعاً مع منع الجبر قطعاً عقلاً وسمعاً. وكذلك خصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوعيد فيمن تعرَّض لمثل ذلك الجنس المُجْمَعِ على تسميته خلقاً، وقيل للمصوِّرين: " فليخلقوا حبَّةً أو شعيرةً " وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله، والذين يُشَبِّهُون بخلق الله " (¬1) ولم يقل لهم: اخلقوا قياماً ولا قعوداً، ولا قيل لمن قام وقعد: إنه ضاهى بخلق الله. وكذلك في " الصحيح " (¬2) ذم الواشمات بتغيير خلق الله وتسميتهن المغيرات خلق الله، ففرَّق بين كسبهن الحادث وبين الخلق. ويشهد له من القرآن قوله تعالى: {ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119]. ¬
ويدل على ذلك حديث رِفاعة بن رافع، وسيأتي (¬1) في تفسير قوله تعالى: {والله خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُون} [الصافات: 96]. وهذه أحاديث صحاحٌ، وفيها شهادة على الفرق المعلوم من الدين والعقل بين خلق الرب سبحانه وفعل العبد الضعيف، وأن بينهم من التمايز والتباين العظيم ما أوجب (¬2) على العبد تحريم تشبيهه لكسبه الراجع إلى الوجوه الإضافية العدمية، الموقوف على سائر القَدَرِ والتيسير والمشيئة بخلق ربه عز وجل. بل هذه مذاهب الأشعرية في جميع أفعال العباد إلاَّ ما كان تقديراً وتصويراً في الأجسام، فإنه يُسَمَّى خلقاً بمعنى آخر، أي: تقديراً. وأما سائرُ أفعال العباد (¬3)، فعند أهل السنة كلهم أنها من حيث نُسِبَتْ إلى العباد لا تسمى خلقاً، وإنما تُسمى كسباً وعملاً وفعلاً. فالوجه عندي في ذلك فيها واحدٌ، وهو أن أهل اللغة سَمَّوْها بذلك فَرْقاً بينها وبين إيجاد الأجسام من العدم وتصويرها، لا (¬4) لأنها أفعالُ العباد خاصة، بل هذا مذهب البغدادية من المعتزلة: أن الخلق اسمٌ لما يوجده الله بغير مباشرةٍ. وبعد اعتراف الأشعرية بأسمائها هذه، بقي (¬5) تسميتها خلقاً مجرد دعوى تحتاج إلى دلالةٍ تقطع الخلاف. ولأمرٍ ما اختلفت العباراتُ عن أفعال الله تعالى أيضاً فعبَّر سبحانه عن بعضها بالخلق، وعن بعضها بأخصِّ أسمائه كإنزال المطر، ورفع السماء، فإن المطر والسماء يُسَمَّيَان مخلوقين، والإنزال والرفع لا يُسَمَّيَان مخلوقين بل مفعولين. ¬
وكذلك قال الله تعالى: {مِنْها خَلَقْناكُم وفِيها نُعِيدُكُم} [طه: 55] ولم يُسَمِّ الإعادة إلى الأرض خلقاً، لأنها عبارة عن الدَّفْنِ الذي هو من جنس أفعال العباد. وأوضح من هذه الآية {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20]. ولذلك فرَّق أئمة السنة بين الخلق والجعل في مسألة القرآن كما مضى تقريره في مسألة القرآن. وقد يجوز في بعض ما عُدِلَ به عن لفظ الخلق إلى اسمه الخاصِّ به أن يسمى خلقاً مثل قوله: {وَمِنْها نُخرِجُكم تَارةً أُخرى} [طه: 55] فإن الإخراج هذا (¬1) يجوز أن يسمى خلقاً إن كان ترجم به عن الخلق، وإن كان إنما أراد الإخراج من حيث هو إخراجٌ، ولم يُشِرْ به إلى الخلق، فلا يظهر تسميته خلقاً على انفراده، فقد يستدل الجويني ومن وافقه من أصحابه ومن معتزلة بغداد بهذه الأمور على أن الخلق في اللغة يختص بالمعاني التي قدمنا ذكرها، فيجبُ قَصْرُه عليها، وتفسيرُ {خالق كلِّ شيء} بما (¬2) يُسمى خلقاً، ولا يلزم من قال بهذا من أهل اللغة محذورٌ، ولا مخالفةٌ لمذهب أهل السنة وحقيقته، لأنهم إنما يقولون: الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق من الأمر لا من الخلق، فرقاً بين مجرد (¬3) التسمية مع اعترافهم بأن الخلق والأمر، كلاهما لله (¬4) وحده لا شريك له، على أنهم لم يصرحوا بهذا، وإنما هو منتهى ما يلزمهم (¬5) عند التحقيق، ولهم أن يوافقوا على ما أجمع عليه السلف الصالح منهم من تسمية ¬
الأفعال مخلوقةً: أي: مقدَّرةً لأن تسميته بذلك بهذا المعنى تسميةٌ صحيحةٌ باتفاق أهل اللغة. فعلى هذا التلخيص أن الله خالق كل شيء بمعنى التقدير، وخالق كل شيء بمعنى الإيجاد، وما بمعنى الثاني -وهو الإيجادُ- يختص بالأشياء الحقيقية وهي الذوات، ويكون معناه: خالق كل مخلوق، ويخرج منه الأمر مع كونه لله وإلى الله (¬1) وحده لا شريك له، ولذلك لم يدخل القرآن في قوله تعالى: {خالِقُ كلِّ شيء} [الأنعام: 102] عند فرق أهل السنة القائلين بقِدَمِه والمانعين من ذلك، على ما مر تحقيقه في مسألة القرآن في آخر الكلام في الصفات، مع أنهم مُجمِعُون مع اختلافهم في القِدم على أن القرآن ليس بمخلوقٍ، وأن القول بأنه مخلوق، ولذلك أنكر ذلك قدماء أهل البيت عليهم السلام كما ثبت في " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، وقد تقدم في مسألة القرآن. وثبت بهذا أنه لا حجة في العمومات على أن أفعالنا مخلوقةٌ، لأن معنى: إن الله خالق كل شيء، أي: كل شيء يسمى مخلوقاً، ولذلك خرج القرآن من ذلك، لأن الكلام لا يسمى في اللغة مخلوقاً إلاَّ (¬2) بمعنى المكذوب، وكذلك لا تسمى أفعالنا بذلك. فثبت أن كل شيء يسمى مخلوقاً من الأجسام وصورها والطعوم والألوان والروائح وسائر ما في العوالم من نحو ذلك، داخلٌ في أن الله خالق كل شيء، وما لم يثبت أنه يسمى مخلوقاً كأفعالنا لا يدخل في ذلك بمرَّة (¬3). ولو سلمنا أنه يدخل فيه لغةً جاز تخصيص القبائح منه، كما هي مخصوصةٌ من قول سليمان عليه السلام: {وأُوتينا من كلِّ شيءٍ} [النمل: 16] بل من قوله تعالى في بلقيس: {وأُوتِيَتْ من كلِّ شيء} [النمل: 23]. ¬
ألا ترى أنها لم تُؤْتَ ملك سليمان، ولو أُوتِيَتْ ذلك ما قهرها وغلبها، ولو دخلت في هذا القبائح كانت زانيةً بَغِيَّةً، مسافِحَةً مجاهرةً، ولو كانت كذلك ما تزوجها عليه السلام. يوضحه: أن الله يعلمُ كلَّ شيء، ولا يلزم أن يعلم عدم موجودٍ، ولا سعادة شقيٍّ، ولا كذب صادقٍ، لأن المعنى: يعلم كل شيء معلوم، فكذلك هو خالقُ كل شيء، وكذلك لم يدخل شيء في ذلك من كلمات الله تعالى التي تَقِلُّ البحار عن أن تكون مِداداً لها. فليلخص (¬1) من هذا أن أهل السنة وإن أجمعوا على أن أفعال العباد تُسَمَّى مخلوقةً، فلم يعنوا بذلك أمراً يُوجِبُ الجبر وينفي الاختيار، واختلف تفسيرهم لهذه العبارة بما تقوم معه لله سبحانه وتعالى على عباده الحجة البالغة، والحمد لله رب العالمين. القسم الثاني: من أدلة أهل السنة على خلق الأنعال: ما اختلفوا في صحة الاحتجاج به، وتفرَّد به الفرقتان الأوَّلتان، ومَنَعَ من الاحتجاج به الفرقتان الآخرتان: آيتان وحديثان. الآيةُ الأولى: {وَمَا رَمَيْتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمَى} [الأنفال: 17] احتج بها من قال بخلق الأفعال أنفسها، وأجاب الآخرون بأنها مَسُوقَةٌ لبيان إعانة الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أثر تلك الرمية، أو تولِّيه سبحانه لأثرها كله، وليس في الآية ما يدلُّ على أن الله تعالى هو المتفرِّدُ بكل ما فعل (¬2) العبد من جميع الوجوه، وكيف يصح ونص الآية شاهدٌ بإثبات فعل العباد حيث قال: {إذْ رَمَيْتَ} فالله تعالى أثبت الرمي في نص الآية منسوباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونفاه عنه في نصها أيضا، فوجب تأويلُ ذلك على كل مذهب، وتنزيله منزلة قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] مع قوله تعالى: {لَيسَ على الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61]. ¬
والوجه في الآية أنها نزلت في رَمْيَةٍ (¬1) مخصوصة، وقع لها أثرٌ (¬2) عظيمٌ لا يقع مثله في الرمي الذي يكون مصدره من قدر العباد وقواهم، فأثبت الله تعالى الرمي منسوباً إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا كان منه في ذلك من الكسب اليسير، ونفاه عنه، لأن أثره العظيم منفيٌّ عنه، فنَزَّلَ الله تعالى رَمْيَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - منزلة المنفي عنه المعدوم بالنسبة إلى ذلك الأثر العظيم. ودلَّ على ذلك التجوُّز في نفي الرمي عنه مطلقاً بنصِّه (¬3) على نسبة الرَّمْيِ إليه - صلى الله عليه وسلم - في صريح الآية عقلاً وشرعاً من ثبوت عمى الأبصار، على نحو ما ذكرنا في تأويل الرمي أنه من كون مَضرَّة عَمَى الأبصار كَلاَ شيءٍ بالنسبة إلى مضرَّةِ عمى البصائر. وأما أولُ آية الرمي. وهو قوله تعالى: {فَلَمْ تَقتُلُوهم ولكِنَّ الله قَتَلَهم} [الأنفال: 17] فيحتمل أنها على الحقيقة كذلك، لأن الإماتة فعلُ الله تعالى، وجميع المسببات عند أهل السنة فعل الله، وهي عند المعتزلة مختلفةٌ، بعضها فعل الله كالإحراق بالنار وصبغ الثياب بالألوان، وبعضها يخالفون فيه، وليس هذا موضع تفصيل (¬4) هذا. وقد تقدم في كلام الشهرستاني في الكسب إشارةٌ إلى ما يسمى فعلاً للعبد، ويدخله الأمر والنهي عرفاً، وهو مجمَعٌ على أنه من (¬5) أثر قدرة الله عند أهل السنة والمعتزلة، وعدَّ منه إزهاق الأرواح، فما كان من هذا القبيل لم يحتج إلى تأويل نسبته إلى الله تعالى، بل ينعكس الأمر، ويجب تأويل نسبته إلى العباد، فنقول: معنى القتل المنسوب إلى العباد أسباب القتل، وفي بعضها نفيٌ، بل كلها نفي للقتل عنهم، وإثباته لله تعالى. ¬
وأما آيةُ النفي فتعارض فيها النفي والإثبات، فاستحقَّتِ التأويل، ولو لم نتأولها وجرينا على ظاهر نفي الرمي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن ظاهرها يجري على مذهب أحدٍ من فرق أهل السنة الأربع، فإنهم يجمعون على نسبة أفعال العباد وإن كانت مخلوقةً، ويكون ظاهرها محتاجاً إلى التأويل بالإجماع. ولذلك احتج بظاهرها ابن عربي الطائي في " فصوصه " (¬1) على الاتحاد، وظن أن ظاهرها كلها (¬2) تساعده على ذلك، وليس كذلك، فإنه إن ساعده ظاهرُ شطرها، نافره ظاهرُ الشطر الثاني، وكفى بذلك تعارُضاً يوجب ترك الظاهر والعدول إلى سائر الآيات المُحكَمَات الدالة على إثبات أفعال العباد، ونفي ما توهَّمَهُ من الاتحاد، وبطلانُ جميع ذلك أوضح من أن يعين الاحتجاج عليه دليل، فإنه معلوم (¬3) من ضرورة الدين والعقل، والمُعَوَّل عليه في مثل هذه المعلومات هو القرائن الضرورية القاضية بالعلم، والعقول المفطورة على الفهم، التي لولا هي، لم يصح الخطاب، ويُخصَّ (¬4) به ذوو الألباب في نصوص الكتاب. ولآية الرمي سببٌ نزلت عليه، فَلْتَتِمَّ الفائدةُ في الإشارة إليه، قال الواحدي في " أسباب النزول " (¬5): أكثر أهل التفسير أن الآية نزلت في رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - القبضة من حصى (¬6) الوادي يوم بدرٍ حين قال للمشركين: " شاهت الوجوه " ورماهم بتلك القبضة، فلم تَبْقَ عينُ مشرك إلاَّ دخلها منه شيء. قال حكيم بن حزام: لمَّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حَصَاةٍ وَقَعَتْ في طَشْتٍ، ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الحصيات، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: {ومَا رَمَيْتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رَمى} [الأنفال: 17]. ¬
ورُوي غير هذا في أسباب النزول، وهذا أشهره. وفي " المستدرك " (¬1) من حديث سعيد بن المسيب، عن أبيه: أن الآية نزلت في طعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بن خلفٍ. وقال على شرطهما. الآية الثانية: قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]. وقد احتج بها الطائفتان الأوَّلَتَان من أهل السنة، منهم أبو عبيد، ومنع ذلك الآخرون منهم ابن قتيبة، فإنه رد على أبي عُبيدٍ في " مشكل القرآن ". ولأجل اختلاف أهل السنة في ذلك قال ابن كثيرٍ في أول " البداية والنهاية " (¬2) في قصة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: وسواء كانت " ما " مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون والأصنام مخلوقةٌ، فكيف يعبد مخلوقٌ لمخلوقٍ. انتهى. فأشار إلى القولين ولم يتعرض لنصرة أحدهما على الآخر لاختلافهم في ذلك. ووجه كلام المُحتَجِّين بها هو ما يُتَوهَّم قبل التأمل من أن ظاهرها يقتضي ذلك، ووجه كلام المانعين من أهل السنة المنع من ظهور ذلك في الآية، ثم دعوى ظهور خلافه، فهذان مقامان. ¬
المقامُ الأول: المنع من ظهور معناها فيما زَعَمُوا، وذلك أن المنع يترتب على ظهور الاشتراك الذي يمنع تحقيقه من الظهور، وبيان الاشتراك الذي فيها ما في لفظة " ما " من الاحتمال المعلوم عند أهل علم البيان (¬1) ونُقَّاد هذا الشأن، فإنها مُحتَمِلَةٌ لمعنيين: الأول: أن تكون موصولةً بمعنى: الذي، مثل قوله تعالى: {أتَعْبُدونَ ما تَنْحِتونُ} [الصافات: 95]. الثاني: أنها مصدريةٌ بمعنى: وعملكم. وعلى تقدير أنها موصولةٌ تكون أيضاً محتملةً لمعنيين: أحدهما: أن المراد بالذي تعملونه الأصنام، أي تعملون أشكالها ومقاديرها، كما يقال: صنع النجار الباب، وهذا السيف صنعه فلانٌ، وتسميتُها معمولة حقيقة وعملاً مجازاً، أو حقيقة (¬2) عُرفِيَّة شائعة. ومنه حديث رفاعة بن رافع البدري رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم حين دعاهم إلى الإسلام: " من خلق السماوات والجبال؟ " قلنا: الله، قال: " فمن عمل هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن، قال: " فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق وأنتم عملتموها؟ والله أحق أن تعبدوه من شيءٍ عملتموه ". رواه الحاكم في أول كتاب البر من " المستدرك " (¬3) وصحَّحَه، كما يأتي بإسناده وتمام متنه، وهو ظاهر كلام المفسرين. قال البغوي (¬4): وما تعملون بأيديكم من الأصنام. هذا وهو من أهل السنة، وممن ظن مع هذا أن الآية تدل على خلق الأعمال. ¬
الثاني: أن يكون المرادُ: وما تعملونه من أعمالكم، وعلى هذا التقدير فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المراد من أعمالكم مُطلقاً، فيدل على خلق الأفعال كالمصدرية. وثانيهما: أن يكون المراد من أعمالكم في الأصنام وهو صنعتها (¬1) أصناماً، وعلى هذا يكون المعنى: وما تعملون فيه. وذلك أن الفعل قد يُطْلَقُ على المصدر، وهو الذي في مَحلِّ القدرة: مثل حركة اليد عند تصوير الأصنام، وقد تُطلَقُ على الأثر المتعدِّي عن محلِّ القدرة (¬2) وهو التصوير الباقي (¬3) بعد فراغ الفاعل من حركته، وهذا المتعدِّي هو الذي أنكره ثُمامة والمطرِّفِيَّةُ من الزيدية أن يكون فعلاً للعبد، وسَمَّوْهُ مفعولاً لا فعلاً. والمراد في هذا الوجه الثاني: والله خلقكم والذي تعملون فيه عملكم، أي: والأصنام التي تصورون فيها تلك التصاوير. والاحتمال الأول معناه: وخلق الأجسام التي هي عملكم، أي: مَعمُولكم، ومع وضوح الاحتمالات، بل الاحتمال الواحد يبطل ظهور الآية فيما ادَّعَوْا، ويبقى في حيِّز الاحتمال حتى يقضي الترجيح الصحيح لما ادَّعوه، لكنه قاضٍ عليهم لا لهم كما يظهر في المقام الثاني، وهو ظهورُ خلاف ما فهموه. وذلك أن المعوَّل عليه في مثل هذه المشكلات هو ترك العناد والعصبية أولاً، ثم ترك القرائن العقلية النظرية واللغوية العادية تعمل عملها، وتطلب أثرها، ولا شك أنها تقضي بأن المراد بما تعملون الأصنام أنفسها كما ثبت ذلك ¬
في حديث رفاعة الصحيح، وذلك لوجوهٍ: الوجه الأول: أن الله تعالى ساق الآية للاحتجاج على بطلان عبادة الأصنام، وليس في كون أعمال العباد مخلوقةً حجةٌ على بطلان عبادة الأصنام، وفي كون الأصنام مخلوقةً لله تعالى أوضح برهانٍ على بطلان عبادتها لوجهين: أحدهما: أن الله تعالى نصَّ على هذا المعنى في غير آيةٍ، والقرآن يُفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وقال في سورة النحل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ (¬1) مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]. وثانيهما: أن المشركين حينئذ يُنَبِّهون على أنهم مثلها في كونهم مخلوقين، وليس ينبغي أن يكون العبد والرب من جنسٍ واحد، لا سيما والعابد منهما هنا (¬2) أشرف من المعبود بالضرورة من جهتين: الجهة الأولى: أنه حيٌّ ومعبودُهُ جمادٌ. والجهة الثانية: أنه الذي صوَّره المعبود، وعلى الهيئة التي كانوا يستحسنون معها العبادة، فإنهم لم يكونوا يستحسنون عبادة الحجر المطموس الذي لا شَكْلَ له، حتى يكونوا هم الذين يُشَكِّلُونه ويضاهون بصورته خلق الله تعالى، وهو من هذه الجهة يسمى معمولاً لهم ومفعولاً، كما يقال في السيف: إنه عَمَلٌ، ونحوه، وكذلك سائر الحُلِيِّ التي هي من تصرُّف الصُّنَّاع في خلق الله، وهذه التسمية حقيقةٌ عُرفِيَّةٌ، وكذلك سائر المسببات كالمِدَاد وسائر الأصباغ. ¬
وهذه معصيةٌ أخرى تضمنها تصويرهم للحجارة، وهي من أدل دليلٍ على (¬1) عِظَمِ الجهالة، إذ مجرد تشكيل الصورة من غير حياةٍ غير مميِّزٍ للجماد بمَزِيَّةٍ يشرف بسببها على غير المصوِّر فجمعوا من جهالاتهم (¬2) في ذلك ظُلُماتٍ بعضها فوق بعض. وهذا الوجه قوي جداً، لأن مقدماته معلومةٌ ضرورية (¬3)، فإنا نعلم بالضرورة أن الآية مسُوقَةٌ لإقامة الحجة على بطلان ربوبية الأصنام، ونعلم ضرورةً أن الحجة بما ذكرناه أقوم وألزم، وأنها على تقدير أن المراد خلق أعمال العباد خَفِيَّةُ المعنى، والله سبحانه أعلم. الوجه الثاني: أن قرينة الحال وصنعة البيان تقتضي أن قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} في آخر الآية موافقٌ (¬4) لقوله: {ما تَنْحِتُونَ} في صدرها، لأنه صَدَّرَ الآية الكريمة بإنكار عبادة المنحوت في حال خلق الله له، لكن سمَّاه معمولاً، تجنُّباً للتكرار، فإن الواو حاليَّةٌ في قوله: {والله خَلَقَكُم} والحال هذه العجيبة (¬5) القاضية تَبْرَأُ منكم في الجهل إلى هذه الغاية البعيدة. وأنت إذا نظرت في طِبَاقِ الكلام وسياقه لم يحسن أن يكون المعمول غير المنحوت، ووجب أن يكون هو إيَّاهُ. أما إن الأول لا يحسن (¬6)، فلأنَّ الجملة الحالية تقتضي في مثل هذا الموضع زيادة شدة النكارة معها، كما تقول: أتسُبُّ فلاناً وهو أخوك؟! أتَجْفُوهُ وهو أبوك؟! ولو كان المعمول غير المنحوت لم يكن الشرك معه أقبح، ألا ترى أن الشرك على تقدير خلق الأعمال ليس بأقبح من الشرك مع خلاف ذلك. وأما إنه يجب أن يكون المنحوتُ هو المعمول، فلما في ذلك من زياده قُبْحِ الشرك، لأنه لا يَخْفَى على عاقلٍ أن أقبح الشرك أن يجعل لله شريكاً وهو خلقه وملكه. ¬
فدلَّ على أن قوله تعالى: {وَما تَعْمَلُونَ} كِنايةٌ عن قوله: {ما تَنْحِتُونَ} خالف بين لفظهما من اتحاد معناهما، لِمَا في ذلك من حُسْنِ السَّبْك وعدم التَّكرار، على ما يعلمه أهل اللسان من أئمة البديع والبيان. الوجه الثالث: حديث رفاعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على ذلك كما سيأتي الآن. الوجه الرابع: النصُّ على أن أعمالهم مخلوقةٌ لله تعالى يُنافي توبيخهم والاستنكار الشديد لصدوره عنهم. ولذلك قضى جمهور أهل السنة في الخلق الذي تَمَدَّح الرب سبحانه بالتفرد به أنه خلق الأعيان وإنشاؤها (¬1) من العدم وتشكيل (¬2) الصوره التي ورد الوعيد لمن ضاهاه من العبيد. فكيف إذا ورد ذكر الخلق في مثل هذه الصورة احتمل (¬3) مثل هذه الاحتمالات؟ أليس توجيهه إلى خلق الأعيان المُنْشَأة من العدم أسبق إلى الأذهان، وأقوم في البرهان، وأجْدر أن يفسر به القرآن، وأولى بنص المعاني والبيان! ويؤيِّدُ (¬4) مذهب هذه الطائفة من أهل السنة قول إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - فيما حكى الله سبحانه عنه في غير هذه الآية في سورة العنكبوت: {إنَّمَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أوْثاناً وتَخْلُقُون إفْكاً} [العنكبوت: 17] فنسب إليهم الخلق الذي بمعنى الكذب، وذمَّهم به لما كان من أفعالهم الاختيارية المحرمة عليهم، وإن كانوا مع ذلك تحت مشيئة الله وعلمه وقضائه وقَدَرِهِ. ولا شك أن لأفعال العباد عند جميع فِرَق أهل السنة جهتين مختلفتين: جهة يدخلها الحسن والقبح، ومنها تُنْسَبُ الأفعال إلى العباد. ¬
وجهة لا يدخلها القبح ويدخلها الحسن وحده دون القبح، ومنها تُنسَبُ كل الكائنات إلى الله تعالى، ولكن المجادل لا يحسن منه أن يُلَقِّنَ خَصْمَه شُبهةً وإن كانت باطلةً. ولا شك أن نسبة الأفعال إلى الله تعالى من شُبَهِ الكفار، ولذلك احتجوا بأقلِّ (¬1) شبهةٍ منها فيما حكى الله عنهم، وقالوا: {لَو شَاءَ الله ما أشْرَكْنا} [الأنعام: 148] وقد مَرَّ الجواب عليهم مُستوفىً ولله الحمد والمنة في آخر مسألة المشيئة. فلم يكن الخليل عليه السلام لِيُلَقِّنَهم أعظم من هذه الشبهة التي قد (¬2) لَهِجُوا بها ودَقَّتْ (¬3) على خلائق من علماء المِلَّة (¬4) الإسلامية كيف إلاَّ عبَّاد الحجارة الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشَاوةً مع ما أُوتِيَ الخليل عليه السلام من وضوح الحجة، وحُسْنِ العبارة حتى في الدعاء إلى الله تعالى، وحسن الثناء عليه. ومن ألطف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: {وإذا مَرِضْتُ فَهُو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، وإن كانا معاً فِعْلَ الله بإجماع المسلمين، لأن سبب المرض قد يكون منه إما بتناول ما يضُرُّه، وإما بذَنْبٍ يرتَكِبُهُ، والشفاء لا يُضَافُ إلاَّ إلى الله تعالى، وإن كان العبد سببه، لأنه على كلِّ تقديرٍ من نِعَمِ الله تعالى التي يجب شكرها، وأقل الشكر الاعتراف بها. فمن عرف مثل هذه المباحث، وتمكن من معرفة الراجح، وإلا فلا يَفُتْهُ العمل على قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. على أن الحاكم قد روى حديثاً يصلح إيراده في تفسير هذه الآية الكريمة، ¬
ذكره في أول كتاب البر والصلة من " المستدرك " وصححه فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المقرىء الشَّجَرِيُّ، حدثني أبي، عن عبيد (¬1) بن يحيى، عن مُعاذ بن رفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن أبيه رفاعة بن رافع، وكان قد شَهِدَ بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قَدِما مكة، فلما هبطا من الثَّنِيَّة رَأَيَا رجلاً تحت الشجرة -إلى قوله- قلنا: من أنت؟ قال: " انْزِلُوا " فنزلنا، فقلنا: أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول؟ فقال: " أنا " فقلت: فاعرض فعرض علينا الإسلام، وقال: " من خلق السماوات [والأرض] والجبال؟ " فقلنا: الله، فقال: " من خلقكم؟ " قلنا: الله، قال: " فَمَنْ عَمِلَ هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن، قال: " فالخَالِقُ أحقُّ بالعبادة أم المخلوق فأنتم أحق أن يعبدوكم وأنتم عملتموها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه " إلى قوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (¬2). قلت: فقال - صلى الله عليه وسلم -: " فمن عَمِلَ هذه الأصنام التي تعملون " مقرِّراً للحجة عليهم، ولم يقل: فمن خلق عملكم لهذه الأصنام. وأصرح من ذلك قوله: " والله أحق أن تعبدوه من شيءٍ عملتموه " ولم يقل: من شيءٍ خلق الله عملكم فيه وعبادتكم له. وفي تفسير كتاب الله تعالى بالرأي وعيدٌ شديد ليس هذا موضِعَ ذكره، ¬
ونرجو أن لا يكون العمل بمقتضى القرائن اللغوية والفِطْرية من ذلك إن شاء الله تعالى، وما (¬1) كَثُرَ فيه الإشكال، ودَقَّ فيه الاحتمال، فأعوذ بالله من الخوض فيه بآراء الرجال، وهذا المستند الذي معي قد أبْدَيْتُ صفحته للناظرين، فمن عرف خيراً منه وأوضح وأبيَنَ فَلْيَتَّبِع الهدى، ولا يَمِلْ عن الأقوى، فإن ذلك صنيع أهل الأهواء، وما أصبت فيه فبحمد الله ومشيئته وحُسْنِ توفيقه، وما أخطأت فيه فبسُوء اختياري، والله سبحانه من ملامته بريءٌ كما صح عن أبي بكرٍ وعمر أنهما قالا ذلك كما سيأتي بيانه. وكما صح عن ابن مسعود أنه قال مثل ذلك في قصة بَرْوَعَ بنت واشِقٍ وهو المُجَارُ على لسان محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كما يأتي بيان صحة ذلك ونظائره في آخر خاتمة هذه المسألة الجليلة إن شاء الله تعالى، وبيان تواتر نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصدر الأول على صحة هذه العبارة وحسنها، وعلى مطابقته لقواعد فِرَقِ أهل السنة الجميع، ولله الحمد. وأما الحديثان النبويَّان: فالحديث الأول: ما حكى البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " (¬2) عن الإمام الحافظ أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى أنه روى -يعني في غير " الصحيح "- فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن أبي (¬3) الهيثم المُطَّوَّعي ببخارى، أخبرنا محمد بن يوسف الفِرَبْرِي، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري (¬4) يقول: حدثنا علي بن عبد الله -يعني: ابن المديني- حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك، عن رِبْعِيِّ بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " وتلا بعضهم عند ذلك: {والله خَلَقَكُم ومَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] (¬5). ¬
ذكره البيهقي في باب الفرق بين التلاوة والمَتْلُوِّ. وقال في باب بدء الخلق من " الأسماء والصفات " (¬1) أيضاً: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد الفقيه (¬2)، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن رِبْعي بن حِرَاش، عن حذيفة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث كما تقدم. انتهى ما أورده البيهقي رحمه الله تعالى. وخرج البزار هذا الحديث في " مسنده " (¬3) ولفظه: " خلق الله كل صانعٍ وصنعته ". قال الهيثمي (¬4) ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله أبي الحسين بن الكردي، وهو ثقةٌ. ومعنى هذا الحديث معنى صحيح، يشهد له ما نصَّ الله سبحانه عليه من تعليمه بالقَلَمِ، ومنَّ (¬5) بذلك على عباده، وهو نصٌّ في أنه سبحانه المعلِّمُ لصنعة ¬
الكتابة، وليس فيه حجةٌ على خلق الأفعال، إذ ليس كلُّ فعلٍ يسمى صنعةً، فإن الصنعة اسمٌ لُغَوي تختصُّ بما يحتاج إلى علاجٍ ويُفهَمُ، بحيث يختص به بعض العقلاء في الحقيقتين اللغوية والعُرفية، وهي مقدَّمةٌ على اللغوية، ومنتهى الأمر أن هذا محتملٌ، والقطع ببطلانه في الظنِّيَّات حرامٌ إلاَّ بدليلٍ، كيف في القطعيات؟! الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله تعالى حين يريد أن يَخْلُقَ الخلق يبعث ملكاً فيدخُلُ الرحم، فيقول: يا رب ماذا؟ فيقول: غُلامٌ أو جاريةٌ، فيقول: يا رب، شقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقول: شقيٌّ أو سعيدٌ، فيقول: يا رب، ما أجله ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، فما من شيءٍ إلاَّ وهو يُخْلَقُ معه في الرحم " (¬1). قال الهيثمي (¬2): رواه البزار ورجاله ثقات. قلت: فيه الاشتراك في لفظة الخلق، فقد تكون بمعنى التقدير ومعناه هنا (¬3) صحيحٌ ولا نزاع فيه، وقد تكون بمعنى الإيجاد ولا يَصِحُّ هذا المعنى، لأن العمل غير موجودٍ في الرحم، ولأن سياق الحديث يدلُّ على ذلك من أوله، وانما ذكر الخلق في آخره ليُتَرجِمَ عما تقدم في أوله من الأمور التفصيلية، فكأنه قال: ما مِنْ شيءٍ من الذُّكورة (¬4) والأُنُوثة، والرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، إلا يُخلَقُ في الرحم. فهذان الحديثان أقوى ما عرفت في ذلك، ولم يذكروا منهما إلاَّ حديث حُذيفة، ولعلهم إنما تركوا حديث عائشة لظهور الأمر (¬5) فيه، وأن الخلق فيه بمعنى التقدير. ¬
وأما ما رواه الطبراني (¬1) عن ابن عباسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه قال: قال الله عز وجل: أنا خلقت الخير والشر، وطوبى لمن قَدَّرْتُ على يديه الخير، وويلٌ لمن قدَّرْتُ على يده الشر " فلا حجة فيه لوجهين: أحدهما: أن فيه مالك بن يحيى النُّكري، وهو ضعيف، وتكلم فيه ابن حبان (¬2)، وقال البخاري: في حديثه نظر (¬3)، ولم أعلم أن أحداً وَثَّقَه. وثانيهما: أن الخير والشر المنصوص في الحديث إنهما مخلوقان ليسا عبارةً عن الأعمال بدليل قوله: " فطُوبى لمن قَدَّرْتُ على يده الخير ". فالتقدير على اليد هو العمل، وعلى تقدير أن الخير والشر هما العمل نفسه، فإن لفظة " الخلق " مشتركة، وأحد معانيها: التقدير، وأحد معانيها: إيجاد العين، ولا يجوز القطع على أن المراد أحدُ المعنيين إلاَّ بدليل، ولا الظن إلاَّ بقرينةٍ، والقرينة هنا تدل على أنه بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد، وتلك القرينة هي قوله: فطوبى لمن قَدَّرتُ " فإن هذا أمرٌ نِيطَ بقوله: " خَلَقْتُ " وهو كالترجمة عنه، وذلك مُدرَكٌ بالذوق عند أهل اللسان، ومنتهى ما فيه أنه محتَمَلٌ، فلا يصح القطع بأنه غير مرادٍ. ومما يصلح أن يحتج به الفرقتان الأوَّلتان من أهل السنة قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]. ¬
دعوى الإجماع من السلف على خلق الأفعال والرد عليها
وتفسيرها في حديث: " كلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطرة، وإنما أبواه يُهوِّدانِهِ ". الحديث (¬1). وفيه ما تقدم في حديث عائشة وابن عباسٍ من الاحتمال الناشىء من الاشتراك في معنى الخلق، ويُوضِحُه أن الخلق هنا راجعٌ إلى الفِطْرَةِ. وقد دلَّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحته، أنها العقل القابل للإسلام حتى يخالفه الأبوان، يوضحه ما تقدم من امتناع تفسير الخلق بإيجاد الأعمال، لعدم وجودها في ذلك الوقت بالضرورة، وهذا منتهى ما عَرَفْتُ في هذه المسألة الجليلة. وقد ادعى بعض الفرقتين الأُولَيَيْنِ الإجماع على ما اختاره، ولم يُسَلِّمْ لهم ذلك الآخرون. والحق عندي في دعوى الإجماع في ذلك من السلف رضي الله عنهم أنه يُمكِنُ أنها صحيحةٌ على وجهٍ دون وجهٍ، وذلك أن الخلق لفظةٌ مشتركة بين التقدير ويين إيجاد الرب عزَّ وجلَّ للذوات، ولا شكَّ أن أفعال العباد مخلوقةٌ بالمعنى الأول: أي مُقَدَّرةٌ معلومةٌ مكتوبةٌ، مقطوعٌ بوقوعها منهم باختيارهم على جهةٍ تُوجِبُ الحجة عليهم وتقطع أعذارهم، من غير جَبْرٍ ولا سَلْبِ اختيارٍ، وفي الآثار في (¬2) " الجامع الكافي " عن قدماء أهل البيت ما يكفي ويشفي. وأما المعنى الثاني ففي دعوى الإجماع عليه بخصوصه بُعْدٌ كثيرٌ مع شهرة هذا النزاع بين متكلمي أهل السنة، فكيف بغيرهم من سائر متكلمي أهل الإسلام؟! فكيف بالسلف الذين كانوا أبعد الناس عن الخوض في مثل هذا والتنصيص عليه؟! وسيأتي قريباً كلام القاضي عياض، والنَّواوي، وابن الحاجب في اختلاف أهل السنة في ذلك، مع ما مضى من ذلك. ¬
والظاهر أنه يتعذَّر نقلُ نصٍّ واحدٍ عن رجل واحدٍ منهم في ذلك بطريقٍ صحيحةٍ بل لا أعلم مثل ذلك نُقِلَ عن أحدٍ منهم بطريق ضعيفةٍ إلاَّ ما رُوِيَ عن علي عليه السلام من طريق أهل البيت عليهم السلام، وهي من أحسنِ الطُّرُق، لكنها مُنقَطِعَةٌ غير مُسنَدَةٍ، ذكرها في " الجامع الكافي " عن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي، عن علي عليه السلام قال: سُئِلَ عليٌّ عليه السلام، فقال -يعني في أفعال العباد-: هي من الله خَلْقٌ، ومن العباد فِعْلٌ، لا يسأل عنها أحدٌ بعدي. قال أحمد: إنما يعذب الله العباد على فعلهم، لا على خلقه. وقال أحمد: إنها من الله خَلْقٌ، ومن العباد فعلٌ، لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا فعل العباد تقدم خلق الله. روى الجميع عنه محمد بن منصور الكوفي المرادي في كتاب أحمد، وقد تقدم من توعِير معرفة الإجماع ما يُزهِّدُ في كثيرٍ من دعاويه، فمن أشفِّ ما اعتمدوه من دعوى الإجماع أمران: أحدهما: قول أبي عبد الله البخاري رحمه الله (¬1)، سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقةٌ. انتهى. قلت: البخاري وشيخه عبيد الله بن سعيد، وشيخُه يحيى القَطَّان رحمهم الله، أئمةٌ أثباتٌ من أجِلاَّء ثقات المسلمين لا ريب في صدقهم، لكن القطَّان كان في الطبقة السادسة، فإنه وُلِدَ سنة عشرين ومئةٍ، وتُوفِّيَ سنة ثمانٍ وسبعين ومئة، وذلك قريبٌ من رأس المئتين. وقد قال الذهبي في آخر الطبقة الرابعة من " التذكرة " (¬2) وهو ما بعد المئة الأُولى إلى الخمسين ومئةٍ ما لفظه: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرة عمرو بن عُبيد العابد، وواصل بن عطاء الغَزَّال، ودعوا إلى ¬
الاعتزال " والقول بالقدر "، وظهر بخُراسان الجَهْمُ بن صفوان ودعا إلى تعطيل الرب عزَّ وجلَّ وخَلْقِ القرآن، وظهر في قُبَالَتِه مقاتل بن سليمان المفسِّر وبالغ في إثبات الصفات حتى جَسَّمَ، وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف، وحذَّرُوا من بِدَعِهم. اننهى. وهو يدُلُّك (¬1) على أن القطان وشيوخه الذين سمع منهم ما (¬2) حكاه عنهم من خلق الأفعال قد كانوا بعد زوال أَلفَة الأمة، وانشقاق (¬3) عصا الإجماع، وظهور الاختلاف والابتداع، فإن حملنا كلامه على ظاهر قول أصحابنا، وهو أنهم الذين يوافقونه في العقيدة من أئمة الحديث والأثر فصحيحٌ، وقد ذكرت في الفرقة الأولى أن غالب المحدِّثين على ذلك، فقد ذكر ابن الحاجب في " المنتهى " أن القول بتكليف ما لا يُطاقُ نُسِبَ إلى الأشعري لقوله بخلق أفعال العباد. وقد نقل النواوي في كتاب الجُمُعة من " شرح مسلم " (¬4) والقاضي عياض ما يدل على اختلاف بين مُتَكلِّمي أهل السنة في ذلك دع عنك غير أهل الكلام منهم، فقال في تفسير الختم على القلوب المنسوب إلى الله، دع عنك أفعال العباد (¬5): قال القاضي: اختَلَفَ المتكلِّمُون في هذا اختلافاً كثيراً، فقيل: هو إعدامُ اللُّطف وإعدام أسباب الخير، وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلِّمي أهل السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل: هو علامةٌ جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تَمدَحُ ومن تذُمُّ. هذا بعد أن ذكر أن الختم بمعنى الطبع والتغطية، ومثله الرَّيْنُ، وقيل: الرَّين اليسير من الطبع، والطبع اليسير (¬6) من الإقفال، والإقفال أشدُّها. انتهى كلامه. ¬
وتفريقه بينها يدلُّ على تفسيره بغير الخلق، لأن الخلق لا يكون بعضُهُ أشدَّ من بعضٍ، فثبت أن القول بخلق الأفعال على الجملة صحيحٌ عن (¬1) كثيرٍ من أهل السنة، شهيرٌ بينهم في العصر الذي ذكره البخاري، ولكن لا يكون ذلك روايةً لإجماع الأمة بغير شكٍّ. وكذلك إن أراد إجماع أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقةٌ على الجملة، مع ما بيَّنَّاهُ من اختلافهم في تفسير ذلك صحيحٌ أيضاً. وكذلك إن حملنا كونها مخلوقةً على كونها مقَدَّرةً بقدرٍ أن يختاروها غير مجبرين صحيح أيضاً. وأما إن حملنا كلامه (¬2) على أنه أراد بأصحابنا أهل الإسلام، وأن الخلق هو فِعلُ الله، وأن المخلوق من أفعال العباد هو القدر المقابل بالجزاء بلا خِلافٍ في ذلك فغير واضحٍ، ولا يَصِحُّ لأحدٍ أن يروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن قدماء التابعين في ذلك نَصّاً ولا ظاهراً. ولو كان شيءٌ من ذلك يصح لدوَّنَتْهُ الأئمة في دواوين الإسلام من الصِّحاح والسنن والمسانيد والتواريخ، كما دوَّنُوا كلام يحيى القطان هذا عن أهل عصره الذين لا يُوازنون عندهم صحابياً واحداً، وأين آثار الصحابة الصحاح فهي ثابتةٌ [ثبوت] النصوص النبوية، ولذلك دوَّنَها أهل السنة لما عُلِمَ من سلامة أذهانهم من ظلمات الشُّبَهِ وبُعْدِهم عن التكليف لتعريف العقل ما لا يعرفه، والتعرُّض لعلم ما لا يعلم، والتعاطي للدعاوي الباطلة على العقول وعلى الإسلام، وثباتهم على الفطرة التي فطر الله عباده عليها، وتركهم ما لا يعنيهم، وحفظهم لما علموه بالضرورة من نبيهم صلوات الله عليه وسلم، بل لم يذكر ذلك الإمام مالكٌ في " الموطأ "، وقد ذكر في أواخره (¬3) أمثال ذلك، مثل ما ذكر ما جاء في ¬
القدر ونحوه، وكذلك أمثال ذلك ممن صنَّف في ذلك العصر وتكلم في الاعتقاد، ولا ذكره من يليهم. الأمر الثاني: ما رُوِيَ من ذلك في العقيدة الشهيرة التي رواها أبو الحسن الأشعري في كتاب " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " (¬1) وهي التي أولها: جُملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله. قال الذهبي في ترجمة زكريا بن يحيى (¬2) المعروف بالساجي في الطبقة العاشرة من " التذكرة " (¬3): إن الأشعري أخذ عن السَّاجي تحرير مقالة أهل الحديث والسلف. قال الذهبي: قال ابن بَطَّةَ: حدثنا أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي قال: قال أبي: في القول في السنة التي رأيت عليها أهل الحديث الذين لَقِيتُهم، إلى آخرها. قال الذهبي في " الميزان " (¬4) في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي: راوي الإجماع عن أهل السنة على هذه العقيدة التي ذكر فيها إجماعهم على خلق الأفعال. قال أبو الحسن بن القطان: إنه مُختَلَفٌ فيه في الحديث وَثَّقَه قومٌ وضعَّفه آخرون. قلت: فبطل الاحتجاج بروايته، إذ لا قائل بتقديم التوثيق على الجرح ¬
المتساويين (¬1)، على أنه إنما حكى عمن رأى من المحدِّثين، وليس ذلك من عبارات الإجماع (¬2) في شيء، وعلى أن رواية الإجماع تحتاج إلى استفسارٍ لشدة الخلاف في كثيرٍ من صُوَرِهِ. فمن الناس من يرى إجماع أهل مذهبه حجةً، بناءً على أنهم أهل الحق، وأنهم المُعتَبَرُون في الإجماع، وهذا كثيرٌ. ومن الناس من يرى عدم علمه بإنكار القول بعد إنتشاره دليلاً على إجماع الباقين على موافقة المتكلم، وهذا كثيرٌ أيضاً. على أن في هذه العقيدة التي أخذها الأشعري عن الساجي ما لفظه: ويقرون أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ويزيدُ وينقُصُ، ولا يقولون: مخلوقٌ ولا غيرُ مخلوقٍ، مع قوله فيها: وعلى أن أعمال العباد يَخلُقُها الله. فهذا يدل على ما رواه الرازي والشهرستاتي والبيضاوي أن الأشعري لا يجعل الأعمال المخلوقة هي مَورِدُ التكليف، ويجعله ما ليس بمخلوقٍ، إذ لا يمكن حمله على التناقض الصريح في كلامٍ واحدٍ متقاربٍ، مع أن الرجل من أئمة النظر وأهل الحِذْقِ بالكلام والجدل. أو يكون أراد بالخلق الذي أثبته التقدير، وبالخلق الذي لم يُثْبِتْهُ الفعل، فلا شكَّ في خلق الأفعال بمعنى تقديرها فيهم، وعبارة من ادَّعى الإجماع محتملةٌ لذلك، والله سبحانه أعلم. وكذلك عقيدة أهل السنة التي رُوِيَتْ عن حرب بن إسماعيل الكَرْمَاني صاحب أحمد بن حنبل عن أهل السنة، ليس فيها ذِكْرُ خلق الأعمال البتة، وإنما فيها ذكر مشيئة الله تعالى، وذلك يُفَسِّرُ القدر، وبين المسألتين فَرْقٌ كما مرَّ تقريره في تفسير القدر في آخر مسألة المشيئة في المرتبة الثانية. ¬
على أن الذهبي نصَّ في " النبلاء " (¬1) في ترجمة أحمد على وضع تلك العقيدة على الإمام أحمد رحمه الله، فقال بعد أن أسندها وذكر شيئاً من ألفاظها، ما لَفْظُه: إلى أن ذكر بهتاً (¬2) من هذا الأُنمُوذَج المنكَر، والأشياء التي والله ما قالها الإمام أحمد، فقاتَلَ الله واضِعَها، فانظر إلى جهل المحدِّثين يروون مثل هذه الخُرافة ويسكُتُون. انتهى كلام الذهبي. وقد ذكرته في الذبِّ عن أحمد رحمه الله تعالى، وأعدته هنا لعلَّ المحدِّثين يتنَبَّهُون لمثل ما كان الذهبي رحمه الله يَتَنَبَّهُ له من هذه البواطل التي تشتهر ولا أصل لها. وبعد أن نقل الإجماع واحدٌ فقد ينقله خلقٌ كثير مستندين إلى ذلك الواحد كما نقله أبو محمد بن حزم في كتابه " الإجماع "، ونقله عنه الفقيه جمال الدين الرَّيْمِي (¬3) في كتابه في " الإجماع " فلا تفيد كثرة النَّقَلَةِ من المتأخِّرين قوَّة الظن بسبب ذلك. وهذا آخر ما وعدت بذكره في القسم الثاني من أدلة أهل السنة على خلق الأفعال التي اختلفوا فيها، واختص بها الفرقتان الأوَّلَتَان منهم من أصحاب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (¬4)، ولم يحتج إليها جمهورُ الأشعرية أصحابُ ¬
بحث في إيراد النصوص عن أهل السنة على ثبوت الاختيار
الكسب أتباع القاضي أبي بكر الباقلاني، وأصحاب ابن تيمية وإمام الحرمين، وما قصدتُ بجميع ما ذكرته إلاَّ نصيحة المسلمين، وبراءة أئمة السنة من نفي الاختيار. ثم أختِمُ الكلام في هذه المسألة العظمى بما يُؤيِّدُ ما ذكرتُه من براءتهم عن نفي الاختيار بذكر فصلٍ أُورِدُ فيه جُملةً شافيةً مما وقفت عليه من نصوصهم الدالة على تواتر ذلك لاختلاف أهلها بُلداناً وأزماناً وأسباباً (¬1)، ولا أُمَيِّزُ من هو من الفرقة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة في هذا الفصل، وبالله التوفيق. فمن ذلك قول صاحب " الخارقة " في أوائلها: خلق الله الفعل (¬2) في عبده لا يؤدي إلى الإجبار، كما أن علمه بوجوده ووقوعه في محلٍّ مخصوص ووقتٍ مخصوص لا يؤدي إلى الإجبار، وإلا فما الفرق بين الأمرين، إذ ما عُلِمَ، فلا بُدَّ من وجوده، وما خُلِقَ فلا بد من حدوثه ... إلى قوله: فليت شعري، أي الأمرين أسلم، أنُصَدِّقُ الله تعالى فيما قال، ونَرجِعُ على أنفسنا باللوم والتعيير فيما خالفنا فيه الشريعة؟ أم نقول: نحن مُستَبِدُّون بخلق أفعالنا ولا يقدر الله تعالى على خلق شيء منها؟ إلى قوله: فقد بان أنَّ مقالة المُجْبِرَةِ: إن الإنسان مُجبَرٌ على جميع أفعاله، مُلجَأٌ إليها، مُضطَرٌّ إلى فعلها، وأنه لا فعل له أصلاً، تجويرٌ للبارىء وإبطالٌ للتكليف (¬3)، وحَسْمٌ لباب الثواب والعقاب، ومَقالَةُ القدرية تجهيلٌ للبارىء بأمر خلقه، وتعجيزٌ له عن تمام مشيئته فيهم، وكلا الصِّفَتَيْنِ لا تليق بمن وصف نفسه بأنه أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين. فظهر لك أن أهل السنة والجماعة قد سَلَكُوا طريقةً سليمةً من شناعة المقالتين، ¬
مُنتَظِمَةً لكل واحدٍ من الطرفين، ارتفعت عن تقصير الجبربة، وانحطت عن غُلُوِّ القدرية. إلى قوله: وقد رُوِيَ عن جعفر بن محمد عليه وعلى آبائه السلام أن رجلاً قال له: العباد مجبُورُون؟ فقال: الله عزَّ وجلَّ أعدَلُ من أن يُجبِرَ عبده على معصيته، ثم يُعَذِّبَه عليها، فقال له السائل: فهل أمرُهم مُفَوَّضٌ إليهم؟ فقال: الله أعزُّ من أن يُجَوِّزَ في مُلكِهِ ما لا يريد، فقال له السائل: فكيف ذاك إذاً؟ قال: أمرٌ بين الأمرين، لا جَبْرٌ ولا تفويضٌ. فبنى أهل السنة تفريع مقالتهم هذه على أصل الغَرَض منه أن لله تعالى علم غيبٍ سَبَقَ بكلِّ ما هو كائن قبل كونه، ثم خلق الإنسان فجعل له عقلاً يُرشِدُه، وقدرةً يصح بها (¬1) تكليفه، ثم طوى علمه السابق عن خلقه، وأمرهم ونهاهم، وأوجب عليهم الحجة من جهة الأمر والنهي الواقعين عليهم، لا من جهة علمه السابق فيهم، فهم يتصرفون بين مطيع وعاصٍ، وكلهم لا يعدو علمه السابق فيهم (¬2)، وليس في علم الله الأمور إجبارٌ على ما توهَّمَه المُجبِرُون، ولا تَتِمُّ الاستطاعة على ما يهُمُّ به من الأمور إلاَّ بأن يُعينه الله عليه، فإن عصمه مما يَهُمُّ به من المعصية، كان فضلاً، وإن وَكَلَه إلى نفسه، كان عدلاً، فإذا اعتبرت حال العبد من جهة الإضافة إلى علم الله السابق فيه، وجدته في صوره المُجْبَر، وإذا اعتبرت حاله من جهة الإضافة (¬3) إلى الاستطاعة المخلوقة له، والأمر والنهي الواقعين عليه وجدته (¬4) في صورة المُفَوَّض، وليس هناك إجبار مُطلَق، ولا تفويضٌ مُطلَق، إنما هو أمرٌ بين أمرين يَدِقُّ عن أفكار المُعَبِّرِين، ويُوِلهُ أذهان المتولِّهين، وهذا (¬5) ما أشار إليه أهل السنة من قولهم: إن العبد لا مُوثَقٌ ولا مُطلَقٌ. ¬
ولأجل هذا الإشكال والدِّقة رأى المشيخةُ من أهل السنة وجِلَّة العلماء الوقف عن الكلام في ذلك، وترك الخوض فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ذُكِرَ القضاء فأمْسِكُوا " (¬1). فكان هذا المذهب أحسن (¬2) المذاهب لمن أراد الخلاص والسلامة، لكن عند الضرورات تُباح المحظورات. انتهى بحروفه. ومن ذلك قول البيضاوي في كتابه " طوالع (¬3) الأنوار " وقد ذَكَرَ احتجاج المعتزلة بالآيات الدالة على أن أفعال الله عزَّ وجلَّ لا تتصف بصفات أفعال العباد من الظلم ونحوه، قال ما لفظه: أجيب بأن كونه ظلماً اعتبار تعرُّض بعض الأفعال بالنسبة إلينا لقُصُور ملكنا واستحقاقنا، وذلك لا يمنع صدور أصل الفعل عن البارىء تعالى مجرداً عن هذا الاعتبار. واعلم أن أصحابنا لما وجدوا تَفْرِقَةً بديهيةً بين ما يزاوله وبين ما يُحِسُّه من الجمادات ورادَّهم قائم البرهان عن إضافة الفعل إلى العبد قطعاً، جمعوا بينهما وقالوا: الأفعال واقعةٌ بقدرة الله تعالى وكسب العبد، على معنى أن العبد إذا صمَّم العزم فالله يخلق الفعل، وهو أيضاً مُشْكِلٌ، ولصعوبة هذا المقام أنكر السلف على المناظرين (¬4) فيه. انتهى بحروفه. ومن ذلك قول ابن الحاجب في كتابه " مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل " وهو كتاب مُتداوَلٌ في أيدي الزيدية في هذه الأعصار، فأحببتُ أن أستكثر النقل منه، ليتَوَضَّحَ لهم غَلَطُهم على أهل السنة في النقل، وقد ذكر ما يدل على ذلك في مواضع: منها: نَقْضُه في مسألة التحصين والتقبيح استدلال بعض الجبرية على ¬
بطلان التحسين والتقبيح بما معناه: أن العبد غير مختارٍ، بدليل أن الفعل مع الرجحان واجبٌ، ومع عدم الرجحان ممتنع، فإن قُدِّرَ تخلُّفُه مع الرجحان ووقوعه مع عدمه، فهو اتفاقي، وأكثر من تَلَهَّجَ بهذه الرازي، لكنه رجع في " نهاية العقول " إلى أن ذلك لا يوجب نفي الاختيار كما تقدم. قال ابن الحاجب في " المنتهى " في رد هذه الشبهة ما لفظه: وهذا ضعيفٌ، فإنا نُفَرِّقُ بين الاختيارية والضرورية ضرورةً، ويلزم عليه فعل البارىء، وأن لا يوصف بحُسْنٍ ولا قبحٍ شرعاً، والتحقيق أنه يترجح بالاختيار. انتهى كلامه. وهو نصٌّ لا يحتمل التأويل في نفي الجبر. ومنه قوله في المحكوم فيه، وهو من أفعال العباد ما لفظه (¬1): شرط المطلوب الإمكان، ونُسِبَ خلافه إلى الأشعري، ثم ذكر احتجاج من قال بذلك بأمرين: أحدهما: أن القدرة مقارِنَةٌ للمقدور (¬2). وثانيهما: أن الأفعال مخلوقةٌ. ثم أجاب عن الوجهين معاً بأن ذلك يستلزم أن التكاليف كلها تكليفٌ بالمستحيل، وهو باطلٌ بالإجماع. هذا نصُّ ابن الحاجب، وفيه أوضح دليلٍ على مخالفتهم للأشعري في معنى خلق الأفعال، وفي مقارنة القدرة على ما تقدم تقريره. وإنما قال: نُسِبَ خلافه إلى الأشعري، على صيغة ما لم يُسَمَّ فاعله، لأن الأشعري لم يَنُصَّ على التكليف بغير الممكن، ولا هو لازِمٌ له قطعاً لما تقدم ¬
من نَقْلِهم عنه أنه يرى أن التكليف غير مُتَوجِّهِ إلى الفعل المخلوق عنده، وإنما هو متوجِّهٌ إلى الاختيار، وليس الاختيار عنده بمخلوقٍ إذ ليس بشيء حقيقيٍّ. ولكن ألزمه القول بجواز التكليف بالمحال من وقف على ظاهر قوله: إن الأفعال مخلوقةٌ وإن القدرة مقارنة، وقد تقدم أنه لم يَقُلْ بذلك في مورد الطلب والتكليف، لأن المقارنة غير مؤثرةٍ ألبتة، ولا يصح أن تقارن ما وقع بها من الاختيار، وإنما تقارن المخلوق بقدرة الله تعالى. وقال ابن الحاجب في هذه المسألة (¬1): لو كُلِّفُوا بعد علمهم لانتفت فائدةُ التكليف، ومثله غير واقعٍ. وقال في المسألة الثانية (¬2): لو صحَّ لأمكن الامتثال. وقال في المسألة الثالثة في معنى الترك (¬3): لا تكليف إلاَّ بفعلٍ، لنا: لو كان لكان مُستدعىً حُصُولُه منه، ولا يُتَصَوَّرُ، لأنه غير مقدورٍ له، وأُجِيبَ بمنع أنه غير مقدورٍ له كأحد قولي القاضي. وقال في المسألة الرابعة (¬4): قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، ومَنَعه الإمام والمعتزلة، فإن أراد الشيخ أن تعلُّقه لنفسه فلا ينقطع بعده، وإن أراد أن تنجيز التكليف به باقٍ، فتكليفٌ بإيجاد الموجود، وهو محال، لامتناع إتيان المكلَّف به (¬5)، ولعدم صحة الابتلاء، فتنتفي فائدة التكليف قالوا: مقدورٌ حينئذٍ باتفاقٍ، فيصح التكليف به. قلنا: بل يمتنع (¬6) بما ذكرنا. ففي هذا التصريحُ بمخالفتهم للأشعري، والتصريح بأن الأشعري يُعَلِّلُ صحة التكليف بكونه مقدوراً، وذلك يدل على صحة ما ذكره الرازي ¬
والشهرستاني عنه من إثبات الاختيار. وقال ابن الحاجب (¬1) في المحكوم عليه: الفهم شرط التكليف، لنا: لو صحَّ، لكان مُستدعىً حصوله منه طاعةً كما تقدم. وقال فيه (¬2): يصح التكليف بما عَلِمَ الآمر انتفاء شرط وقوعه من الإرادة، قالت المعتزلة: لو صح لم يكن الإمكان شرطاً فيه، وأُجيب بأن الإمكان المشروط فيه أن يكون مما يتأتَّى فِعلُه عادةً عند وقته واستجماع شرائطه كما لو جَهِلَ الآمر، وهو اتفاق. قالوا: لو صح لصحَّ مع علم المأمور، أُجِيبَ بانتفاء فائدة التكليف وهو (¬3) يطيع ويعصي بالعزم والبشر والكراهة. وقال في البيان والمبين (¬4): تأخير البيان عن وقت الحاجة مُمتنِعٌ. إلى آخر كلامه في المسألة. وكذلك توجيهُه للصلاة في الدار المغصوبة باعتبار الجهتين، وكلامه في الواجب المخَيَّر وفي ما لا يَتِمُّ الواجب إلاَّ به، وأمثال ذلك. كل ذلك يدل على مراعاتهم للعقل والشرع في منع المحالات، ولو تعرَّضْتُ لشرح كلامه وبيان مقاصده لطال، وبيان مأخذي من مقاصده، لطال وأمَلَّ، فمن أحبَّ ذلك فليطالع شروح كتابه. والذي يدل على ما أنا بصدده أن شرَّاح كتابه من الأشعرية يقرِّرون ما ذكره في هذا، ولا يقدحون عليه، ولا ينسبونه إلى التفرُّد باختيار شيء، كما قد يكون من الرازي، ثم كتاب الأصل الذي مختصر المنتهى راجعٌ إليه هو تأليف السَّيف الآمديِّ، أحد أئمَّتهم في الكلام، وكتابه أحد كتبهم المشهورة، وهذه الأمورُ تفيد العلم الضروري بأنهم لا ينفون الاختيار. ¬
فالعجب ممن استخرج لابن الحاجب نفي الاختيار وصريح الجبر من قوله في شرح مقدمة " الكافية " في الإعراب في المفعول به من المنصوبات في قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أنه يفيد العموم في المخلوقات، وهذا ظن من لم يعرف مذهبهم في الشيء الحقيقي الذي يوصف بأنه مخلوقٌ. فإن قلت: قول الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، وقوله بمقارنة القدرة صريح في التكليف بالمحال. قلت: كلاَّ، بل فيه أقوى قرينةٍ على أنه ما أراد ذلك، فإنه لو أراد ذلك، وخَلَعَ رِبْقَةَ النظر في التمييز بين الممكن والمحال، لم يقيده بحال حدوثه ولا يشترط قدرةً مقارنةً، ولقال: إنه يصح التكليف بالفعل بعد حدوثه أبداً، ومن غير قدرةٍ أصلاً، ولكن قد اشتهر بين أهل النظر أن العبارة قد تُوهِمُ غير مقصد العالم، لا سيما فيما كَثُرَ غموضه ولَطُفَت دِقَّتُه، ولذلك يكثر اعتراض النُّظَّار للحدود، فلا يكاد تصح عبارة مع صحة المقصود، وربما (¬1) تعذرت العبارات. بالمرة، وحُكِمَ بالخطأ على كل عبارةٍ كما زعم بعضهم في تحديد العلم. والذي أحسِبُ أن الأشعري أراد به ما أراد به المعتزلة في التكليف بالمسبَّبَات بعد فعل أسبابها، وبُطلان الاختيار فيها، فإن التكليف قد يُطلَقُ ويراد به تنجيز الفعل، وليس هذا مقصوداً هنا، وقد يطلق ويراد الحكم على الفاعل باستمرار حكم الطاعة والعصيان (¬2) من غير طلبٍ لتنجيز الفعل، وهذا قد يُتَصَوَّر وقوع الاختلاف فيه لدقته وغموضه، وقد وقع شيخ المعتزلة أبو هاشم في مثل هذا. قال الجويني في " البرهان " (¬3): مسألة: من تَوسَّط أرضاً مغصوبةً على علم، فهو متعدٍّ، مأمورٌ بالخروج عن الأرض المغصوبة، ثم الذي ذهب إليه أئمتنا أجمعون أنه إذا افتتح الخروج (¬4) واشتد أقرب المسالك، وأخذ [فيه] ¬
على مبلغ الجهد، فليس هو مع التَّشمير واجتناب التقصير ملابِساً عدواناً، بل هو منسلك في سبيل الامتثال (¬1). وقال أبو هاشم: هو إلى الانفصال عاصٍ، وعَظُمَ النكير عليه من جهة أن من فيه الكلام لا يألوا جهداً (¬2) في الامتثال، وإذا كانت حركاته امتثالاً، استحال أن تكون محتسبةً عليه عدواناً، وهذا المسلك ناءٍ عن طريق القول في الصلاة في الدار المغصوبة، فإن العدوان في تلك المسألة غير (¬3) مختصٍّ بالصلاة وحكمها، فانفصل مقصود الصلاة عن مقتضى النهي عن الغصب، كما سبق مقرراً. والأمر بالخروج فيما نحن مدفوعون إليه مباين للعُدوان على حكم المضادَّة، فكان الحكم (¬4) للخارج بمُلابسة الامتثال في جهة ترك العدوان مناقضاً لاستصحاب حكم العدوان عليه، وهذا يَلزَمُ أبا هاشمٍ جدّاً، من حيث إنه جعل أكوان الغاصب خارجةً عن وقوعها طاعةً في جهة الصلاه، ورأى تقرير ذلك تناقضاً، فكيف يحكم على الخارج بالامتثال مع استمرار حكم العدوان عليه؟ والذي هو الحق عندي أن القول في ذلك معروضٌ على مسألةٍ من أحكام المظالم، وهي أن من غصب ما لا وغاب به، ثم ندم على ما تقدم وتاب (¬5)، فالذي ذهب إليه المُحَصِّلُون أن سقوط ما يتعلق بحق (¬6) الله يتنجز إما مقطوعاً به على رأيٍ، أو مظنوناً على رأي، وأما ما يتعلق بمطالبة الآدميِّين، فالتوبة لا تبرئُهُ منها، ولست أعني بها الغُرْمَ، وإنما أعني بها الطلبة الحاقة في القيمة. ¬
فأما المغارم، فقد ثبتت من غير انتساب إلى المآثم، كالذي يجب على الطفل بسبب ما جنى، والسبب في بقاء المظلمة مع حقيقة الندم، وتصميم العزم على استفراغ كُنْهِ الجهد في محاولة الخروج عن حق الآدمي، أن (¬1) الذي تورط فيما يندم عليه، فلا (¬2) ينجيه الندم ما لم يخرج عما خاض فيه. فإذا وضح ذلك (¬3) انعطفنا على عرض المسألة قائلين: من تخطى (¬4) أرضاً مغصوبةً، نظر، فإن اعتمد ذلك متعدِّياً، فهو مأمورٌ بالخروج، وليس خارجاً عن العدوان والمظلمة، لأنه كائنٌ في البقعة المغصوية والمعصية مستمرة، وإن كان في حركاته في صوب الخروج ممتثلاً للأمر، وهذه تلتفت على (¬5) مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها تقع امتثالاً من وجه، وعصياناً (¬6) واعتداءً من وجهٍ، وكذلك الذاهب إلى صوب الخروج ممتثلٌ من وجهٍ، عاصٍ ببقائه من وجهٍ. فإن قيل: إدامة حكم العصيان عليه متلقّىً من ارتكابه نهياً، والإمكان مُعتَبَرٌ في المنهيات اعتباره في المأمورات، فكيف الوجه في إدامة معصيةٍ فيما لا يدخل في وسعه الخلاص منه؟ قلنا: تسبُّبُه إلى ما تورَّط فيه آخراً سبب معصيته، وليس هو عندنا منهيّاً عن الكون في هذه الأرض مع بذله المجهود في الخروج منها، ولكنه مرتبك في المعصية مع انقطاع (¬7) تكليف النهي عنه، هذا تمام البيان. ¬
ويظهر الغرض منه بمسألةٍ ألقاها أبو هاشم حارت فيها عقول الفقهاء، وأنا ذاكرها ومُوضحٌ ما فيها: وهي أن من توسط جمعاً من الجرحى، وجثم على صدر واحدٍ منهم، وعلم أنه لو بقي على ما هوعليه، لهلك من تحته، ولو انتقل عنه، لكان في انتقاله هلاك من انتقل إليه، فكيف حكم الله عليه؟ وهذه المسألة لم أتحصَّل فيها من قول الفقهاء على ثَبَتٍ، والوجه المقطوع به سقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم سُخط الله عليه. أما وجه سقوط التكليف، فلأنه يستحيل تكليفه ما لا يُطِيقُه، ووجه استمرار حكم العصيان عليه تسبُّبُه إلى ما لا تخلُّصَ منه. انتهى كلام الجويني. وفيه ما ترى من الإنصاف، فإنه لم يُعنِّف (¬1) عدوَّهم أبا هاشم، ويؤاخذه بظاهر العبارة، ويلزمه الجبر وتكليف ما لا يُطاق، بل غاص فكره اللطيف في غَمْرَةِ هذه المشكلة حتى استخرج العذر لأبي هاشم. وكذلك يجب من المعتزلي أن يستخرج عذر أبي الحسن الأشعري كما يستخرجه حُذَّاق أتباعه، ولو فعل الفريقان هكذا لذهب عنهم نصب الشيطان، والله المستعان. إذا عرفت كلام الجويني في مراد أبي هاشم، فاعلم أن منهم من يُسمِّي بقاء حكم العصيان تكليفاً، وإن لم يكن فيه اقتضاء فعلٍ وطلب تنجيزه، فيَنْسُبُ إليه أن يقول بتكليف المحال، ومن ذلك قول الأشعري: " لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوث " أراد استمرار الحكم من غير طلبٍ، وإنما صح استمرار الحكم عنده، لأن اختياره كان سبب خلق الله تعالى لذلك ووقوع العبد فيه، وانقطاع اختياره فيه حينئذٍ غير عُذرٍ له، لأن اختياره أوَّلاً هو كان سبب انقطاع اختياره ثانياً، كالرامي يتُوبُ قبل أن يُصيب، ثم يصيب سهمه ويقتل، والمُلْقِي لغيره في النار يندَمُ عقيب إلقائه. ¬
وهذا هو معنى تكليف ما لا يطاق عند من أجازه (¬1) من غير طلبٍ لوقوع ما لا يطاق ممن لا يطيقه، كما سيأتي ذلك عند الكلام عليه بخصوصه، ولذلك قال ابن الحاجب فيما تقدم: إن القول بخلق الأفعال ومقارنة القدرة يؤدي إلى أن التكاليف كلها تكليفٌ بالمحال، قال: وذلك خلاف الإجماع. ففي حكايته للإجماع هذا دِلالةٌ على أن من جوَّز ذلك جوَّزه في صورةٍ نادرةٍ، ومع نُدُور ذلك، فإنما خلاف المخالف فيه في تسمية ذلك الذي لا طلب فيه تكليفاً، كما أن من جوَّز تكليف من (¬2) لا يفهم إنما أراد بذلك تنفيذ طلاق السكران، والاقتصاص منه إذا جنى، وإيجاب الأرش عليه والغرامة، وسمى ذلك تكليفاً له، ولم يُرِدْ أن الله أراد تفهيمه ما لا يفهم في حال سكره، فيجب على الوَرِعِ المتَّقي أن يَتَثَبَّت في النقل، ولذلك لم يجزم ابن الحاجب بنسبة تكليف المحال إلى الأشعري. ومن ذلك كلام قطب الدين الشيرازي (¬3) أحد أئمة المعقولات منهم، فإنه قال في شرح كلام ابن الحاجب المتقدم في بعض شبهة الراجح والمرجوح في نفي التحسين والتقبيح ما لفظه: وتوجيه الاعتراض الأول أن نقول: ما ذكرتم من الدليل تشكيكٌ في الضروريات، فلا يستحِقُّ الجواب، لأنا نُفرِّقُ بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية بالضرورة، ونُدرِكُ أن أفعالنا اختياريةٌ. ويمكن توجيهه بوجهٍ آخر: وهو دلالة البديهة على أن البعض ليس اضطرارياً مع استلزام دليلكم كون الكل كذلك. إلى آخر كلامه في شرح بقية الحُجَجِ الثلاث المقدمة. ¬
فانظر كيف تواتَرَتْ (¬1) عنهم النصوص البَيِّنَة على دعوى الضرورة في أن أفعالنا اختياريةٌ لنا، وهذا أبلغ من قول المعتزلة، فإنهم قالوا: إن علمنا بذلك استدلاليٌّ يُنسب المُنكِرُ له إلى التأويل، ويحتاج إلى المناظرة. وإذا كان مثل هذا من المنصوص في كتبهم المتداولة في بلاد الزيدية والمعتزلة، فكيف يحسُنُ بمن يدعي العلم والتُّقى أن ينسب إليهم كما فعله هذا المعترض، وكما يفعله كثير من المعتزلة والشيعة في مصنفاتهم. ومن ذلك قول قطب الدين الشيرازي في " شرح مختصر ابن الحاجب " في مسألة التحسين والتقبيح ما لفظه: والتحقيق في هذه المسألة أن فعل العبد جائزٌ صدوره ولا صدوره، ويترجح وجوده بالاختيار (¬2). قوله -يعني صاحب الشبهة-: الفعل مع المرجح إن كان لازماً كان اضطرارياً، ممنوعٌ، لأن وجود الشيء بشرط الغير لا ينافي القدرة عليه، وإلاَّ لَزِمَ نفي قدرة الله تعالى لوجوب صدور المعلومات عنه بشرط إرادته الجازمة .. إلى آخر ما ذكره. وقال الجويني في مقدمات " البرهان " (¬3): فإن قيل: ما عَلِمَ الله أنه لا يكون، وأخبر عن (¬4) وَفْقِ علمه أنه لا يكون، فلا يكون، والتكليف بخلاف المعلوم جائزٌ. قال الجويني: قلنا: إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدورٌ في نفسه، وليس امتناعه بالعلم (¬5) بأنه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه، فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، والعلم (¬6) بالمعلوم لا يغيِّرُه ولا يوجبه، بل يتبعه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يُؤَثِّرُ في المعلوم، لما تعلق العلم بالقديم ¬
سبحانه وتعالى، وتقريرُ ذلك في الكلام. وقال الشهرستانيُّ في " نهايته ": ولذلك اتفق المتكلِّمون بأسرهم على أن العلم يَتْبَعُ المعلوم، فيتعلق به على ما هو عليه، ولا يُكْسِبُه صفةً، ولا يكتسب عنه صفةً. وقال ابن عبد السلام في أواخر " قواعده " (¬1) في فصلٍ ذكره في البدع وأقسامها، إلى قوله: وللبِدَع المُحَرَّمة أمثلةٌ، منها: مذهب القدرية، ومنها: مذهب الجبرية، ومنها: مذهب المرجئة، ومنها: مذهب المُجَسِّمَة، والرَّد على هؤلاء من البدع الواجبة. انتهى بحروفه. وهو يكفي في تأويل ما يخالفه من الظواهر في كتابه " القواعد "، وهذا وإن كان له عبارةٌ رَدِيَّةٌ في بعضه تُوهم أن الله تعالى عذَّب العصاة على نفس ما خلقه فيهم بغير سببٍ آخر، وهذا خطأ منه، وشرُّ عبارةٍ مع اعترافه بنفي الجبر وثبوت الاختيار، فإن المقابل بالجزاء هو غير الأمر المخلوق في السمع والعقل، ولكنهما اتَّحدا في الذات على قول، وتمايزا (¬2) فيها على القول الآخر، كما مر تحقيقه، وإلا أدَّى إلى (¬3) القول بالجبر الذي صح تزييفه (¬4)، فتأمل ذلك. وقال البغوى (¬5) في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]: اختلف العلماء في إسناد الختم إلى الله تعالى، فقيل: هي (¬6) علامةٌ جعلها الله تعالى على قلوبهم تعرفهم الملائكة، وقيل غير ذلك، ¬
وقال أهلُ السنة: ختم الله على قلوبهم بالكفر. وقال الشيخُ الصالح العارف شهاب الدين السُّهْرَوَرْدِي الصوفي في كتابه " عوارف المعارف " (¬1) في الباب الثامن والعشرين ما لفظه: ومن أولئك قوم يزعمون أنهم (¬2) يغرقون في بحار التوحيد، ولا يثبتون لأنفسهم حركةً ولا فعلاً، ويزعمون أنهم مجبورون على الأشياء، وأن لا فعل لهم مع الله تعالى، ويسترسلون في المعاصي، ويركنون إلى (¬3) البطالة والاغترار بالله تعالى، والخروج عن الملة، وترك الحدود والأحكام والحلال والحرام. وقد سُئِلَ سَهلٌ عن رجلٍ يقول: أنا كالباب لا أتحرك إلاَّ إذا حُرِّكْتُ، فقال: هذا لا يقوله إلاَّ صِدِّيقٌ أو زنديق، لأن الصِّدِّيق يقول هذا (¬4) إشارةً إلى أن (¬5) قِوام الأشياء بالله مع إحكام الأُصول، ورعاية حقوق العبودية، والزنديق يقول ذلك إحالةً للأشياء على الله تعالى، وإسقاط اللائمة عن نفسه، وانخلاعاً من الدين ورسمه. وقد تقدم كلام الخطابي في تفسير القضاء والقدر، وتصريحه فيه بنفي الجبر، وقد نقله عنه بلفظه النواوي في " شرح مسلم " (¬6)، وابن الأثير في " جامع الأصول " (¬7). وقد بالغ شيخ الإسلام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية الحنبلي رحمه الله في ذم الجبرية في جميع مصنفاته التي يعرض فيها ذكرهم، ومن أخصِّ ما له في ذلك كلامه في رسالته المعروفة "بالفرق بين الأحوال الربانية والأحوال ¬
الشيطانية" (¬1) وهو قوله: ومن ظن إن القدر حجة لأهل الذنوب (¬2) فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الذين أشركوا لو شاء الله ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا} قال الله ردّاً عليهم (¬3): {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149]. ولو كان القدر حجة لم يعذب الله المكذبين للرسل، وتكلم في حديث مُحاجَّة آدم وموسى في هذه الرسالة المذكورة بكلامٍ نفيس يأتي عند الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى. وكذلك رفيقه في السماع وتلميذه ابن كثيرٍ رد على الجبرية بما يأتي ذكره عند الحديث. وقال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية في كتابه " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " (¬4) بعد ذكره لأنواع الشرك في الفصل الثاني الذي ترجم عليه بأنه يكشف سر المسألة ما لفظه: وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده بما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فعاقب عبده على فعله وهو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره سبحانه على الفعل أعظم من إكراه المخلوق [للمخلوق]، فإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد لو أكره عبده على فعلٍ، أو ألجأه إليه، ثم عاقبه عليه، لكان قبيحاً، فأعدل العادلين، وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعلٍ لا صنيع له فيه ولا تأثير، ولا هو واقعٌ بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقبه عليه عقوبة ¬
الأبد، تعالى عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، وقول هؤلاء شرٌّ من قول أشباه المجوس والطائفتان (¬1) ما قدروا الله حق قدره. وكذلك لم يقدُرُه حق قدره من قال: إنه يجوز أن يُعذِّب أولياءه، ويُنَعِّمَ أعداءه عقلاً، وإنما الخبر (¬2) المحض جاء عنه بخلاف ذلك، فمنعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله، وقد أنكر سبحانه على من جوَّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوإِ الأحكام. وقال في هذا الكتاب وقد ذكر أنواع المغرورين نحواً من ذلك وأخصر (¬3). وقال في كتابه " حادي الأرواح " (¬4) وقد ذكر الحديث الصحيح الذي فيه " الخير بيديك والشر ليس إليك " ما لفظه: ولم (¬5) يقف على المعنى المقصود من قال: الشر لا يُتَقَرَّبُ به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ من الوجوه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمالُ المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات [كمال] يُحمَدُ عليها ويثنى [عليه] بها، وأفعاله كلها خيرٌ ورحمة وعدلٌ وحكمة لا شر فيها بوجهٍ ما، وأسماؤه كلُّها حسنى، فكيف يضاف إليه الشر، بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه إذ فعله غير مفعوله، ففعله خيرٌ كله، وأما المفعول المخلوق ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً، فهو لا يضاف إليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: وأنت لا تخلق الشر، حتى يُطلَبَ تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفاً وفعلاً واسماً. انتهى. وقد فسَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الآخر الذي خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأثر الشريف الإلهيِّ الذي فيه: "يا عبادي، إنما هي أعمالُكُم أُحْصِيها عليكم، فمن وجد خيراً، ¬
بحث في الاعتذار لأهل السنة عما يوهم نسبة الجبر ونفي الاختيار إليهم
فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسه" (¬1). وفيه إشارةٌ إلى ما تقدم من حكمة الله سبحانه في خلق الشُّرور الدنيوية والأخروية، وبعض أسباب الشرور الدينية، وأن فعل الله تعالى وخلقه في ذلك حَسَنٌ لوقوعه في حسان (¬2)، وإن لم يُحِطِ البشر بجميع وجوه حكمته في بعض أفعاله ولا شيءٌ منها في بعضها، فالله سبحانه وتعالى له الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والإراده النافذة، والقدرة القاهرة، والكمال المطلق، وقصورُ العبد الظلوم الجهول عن معرفة أعيان الحكم على التفصيل لا ينتهض معارضاً للبراهين القاطعة الدالة على ثبوت أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، ومن أُشْرِبَ قلبه صفو الإيمان أغناه هذا الإجمال، ومن أصابه الشيطان بشيء من شؤم الكلام، والبدع، فليراجع ما تقدم في المرتبة الرابعة في حكم الله تعالى في تقدير الشرور، وما ذكرناه في المرتبة الثانية في الحكمة في عدم هداية الجميع. خاتمةٌ: ومما أوهم على أهل السنة أنهم يقولون بالجبر ونفي الاختيار أنهم فِرَقٌ مختلفةٌ كما تقدم في مسألة الأفعال، ومنهم من يخوض في علم الكلام ويُعَبِّرُ بعباراتٍ مبتدعةٍ، ولا يتوقف على عبارات الكتاب والسنة والسلف الصالح السالمة من الشناعة، وإيهام ما لم يُقصد. ولنذكر من ذلك عبارةً واحدةً في كتب بعض المتكلمين من الأشعرية كالغزالي ومن تابعه من المتأخرين: وهي أن الكفر وأنواع القبائح والفواحش من الله تعالى، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح مع تصريحه قبل هذا في " الإحياء " بنفي الجبر المحض، وإثبات الكسب للعبد الذي يختص باسم الكفر والقبائح (¬3). ¬
وكيف يصحُّ له مع هذا قوله: إن ذلك الكسب الذي هو كفر وكذب وفجور وظلم من الله سبحانه وتعالى. بيانه: أن الكفر والمعاصي إن كانت على زعمه من الله وحده ولا أثر فيها من العبد، فهذا محض الجبر الذي اعترف ببطلانه، ففيه أيضاً نفيُ الكسب الذي اعترف بثبوته وأنه لا بد منه، وإن اعترف أن ذلك من الله ومن العبد معاً، فإما أن يقول بتمييز ما هو من الله عما هو من العبد، كقول الأشعرية بالكسب، فالذي من العبد عندهم يُسَمَّى كسباً، والذي من الله عندهم يسمى خلقاً، لا كسباً ولا كفراً ولا معصيةً، والذي من العبد هو الكسب الذي هو كفرٌ ومعصيةٌ. وكذلك إن اختار تمييز الخلق من الكسب، وقال: مقدورٌ بين قادرين، فإنهم فرَّقوا في المعنى والاسم كما تقدم تحقيقه، ولو كانت المعاصي من الله كان عاصياً، وقد تمدح سبحانه بالمغفرة، ولا يصح لمن ليست المعاصي منه قطعاً، وإلا كان غافراً لنفسه سبحانه وتعالى. وما الملجىء إلى هذه العبارة المُوهِمَة للجبر الذي قد اعترف ببطلانه مع براءة الكتاب والسنة وعبارات السلف منها، بل مُضَادَّةٌ لذلك كله لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وإن كانت ذهبت العلوم فأين الأدب والعقول، فيالها من زلةٍ قبيحةٍ، ونسبةٍ إلى أهل السنة غير صحيحة، بل فيها تمكينٌ لأعدائهم من التشنيع عليهم، وجنايةٌ عليهم بالتنفير عنهم، وتجهيلٌ لعوامِّهم لاعتقادهم من ظاهرها أن العبد مُجْبَرٌ غير مختارٍ، بل إنه لا فعل له ألبتة لا اختياري ولا اضطراري، لمصادمته لما جاءت به الشرائع، وعُلِمَ من الكتاب والسنة من إضافة أفعال العباد إليهم بهذه العبارة بعينها وسائر العبارات كما أُوضِحُه إن شاء الله تعالى. ومع وضوح الخطأ في هذه العبارة على أهل السنة فقد قلَّد المُبتَدع لها كثيرون، على ظن أنها عقيدة أهل السنة.
فإن كان المتكلم بهذا أراد الترجمة عن أوائل الخلق فإن الله تعالى خلق الكافر وقدرته والداعي له، ولم يمنعه بمانعٍ ضروريٍّ، ولا مانعٍ اختياريٍّ، ووكله إلى نفسه ليَبْلُوَه ويُقيم عليه حجة عدله، لما له في ذلك من الحكمة البالغة على ما أشار إليه قوله تعالى في أهل السعادة: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكويرة 29]، وقوله تعالى في أهل الشقاوة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] وسائر ما تقدم في ذلك فهذا أمرٌ متفق عليه. وهذه العبارة لا تدل عليه بل تُضَادُّه، لأن الله تعالى علم وقوع المعاصي من العاصي باختياره حجة عليه، وما قَدَّر الله أنه من غيره، لم يكن من الله، وإلا لكان قد انعكس عليه مراده في القدر، والقَدَرُ سَبَق بأن الحجة لله، والذنب من المذنب واقعٌ بالاختيار على وجهٍ يكون حجة عليه في علم الله وعقول العقلاء. وقد قدمت الكلام في تسلسل الأمور وتدريجها بالحكمة البالغة إلى قدر الله وقضائه في المرتبة الأولى، وأن ذلك إجماع من يُعْتَدُّ به من المسلمين، لم يخالف فيه إلاَّ من نفى علم الغيب. وإن كان المتكلم أراد بذلك الجبر ونفي الاختيار رد عليه بالتفرقة الضرورية بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب كرهاً كما مضى، وبالنصوص الصَّادِعَة: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] وهو نصٌّ جليٌّ لا يمكن مدافعته البتة، ولله سبحانه الحجة البالغة. ومن ذلك قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومنه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ
سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]، وقوله: {عَلِمَتْ نفسٌ ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ} إلى: {يَعْلَمونَ ما تَفْعَلونَ} [الانفطار: 5 - 12]، وأمثال ذلك، ولا حاجة إلى التطويل فيه لعدم ظهور المنازع، وفي كتب الأشعرية مِنْ رد الجبر مثل ما في كتب المعتزلة. وإن كان المتكلِّم بذلك أراد الترجمة بذلك عن مذهب أهل السنة أجمعين فقد فَحُشَ خطؤه، وقد مضى بيان افتراق مذاهبهم (¬1) وإجماعهم على نفي الجبر وإثبات الاختيار. وإنما صواب العبارة عن مذهبهم الذي لا يفترقون فيه: أن الكفر وجميع القبائح من العباد باختيارهم بقَدَرٍ من الله سابقٍ، وتمكينٍ للعباد لاحقٍ، لما (¬2) في الجمع بين التقدير والتمكين من الجمع بين حكمة (¬3) الله البالغة، وحجته (¬4) الدامغة، وعِزَّتِه القاهرة، ومشيئته النافذة، ومطابقة آياته الكريمة وحسنى أسمائه الشريفة، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، ومن أُمَّهاتها: الملك الحميد. فاقتضى تفرده بكمال الملك والعزة، وعلم الغيوب، والقدرة على كل شيء، والكمال الأعظم في ذلك كله، نفوذ المشيئة وسبق القضاء، كي لا يفوت عليه مرادٌ فيما يتعلق بالعباد مثل مالا لا يتعلق بالعباد. وهنا خالفت طوائف المبتدعة من المعتزلة والقدرية، ويكفيك في هذا المقام أن تؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وبما ورد من آيات المشيئة مثل قوله تعالى: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29] وقوله: {وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاها} [السجدة: 13] ونحو ذلك. وتؤمن مع ذلك بأنه حكيم في جميع ذلك، له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وزياده السُّنِّيِّ على هذا القدر يوقعه في نفي التقديس والتسبيح، فافهم ¬
ذلك، وكن منه على عظيم الحذر. واقتضى تفرده بكمال الحمد والعدل والثناء والتسبيح والتقديس أوْفَرَ نصيبٍ لأفعاله الشريفة الحميدة العادلة السديدة من التنزيه والتعديل، والحكمة والترجيح، والتسبيح والتقديس، ولو على جهة الإيمان الجملي بالتأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وذلك لكمال الحجة لله تعالى على خلقه بالتمكين والإقدار والاختيار، وخلق العقول والأسماع والأبصار، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] في آيات كثيرة زاد سبحانه على ذلك القدر، فقطع كثيراً مما لا يجب في عرف العقلاء قطعه من أعذار الجاهلين، حتى لم يَقْضِ يوم القيامة بعلمه الحق، مع حُسْنِ ذلك لو فعله، حتى أضاف إليه ما يعتاده أهل العدل وأهل العقول من الخلق من إحضار الكتب والموازين والشهود العدول، حتى أشهد الأيدي والجلود حين يَعْرِضُ المنافقون للقدح في ملائكته الشهود (¬1) الكرام، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي نحو ذلك لقول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، فلم تمنعه عِزَّتُه القاهرة من لطيف الحكمة كما هو عادة الجبابرة، بل جمع كمال اللُّطف في العدل إلى كمال العز في الملك، وكان بذلك حميداً مجيداً: حميد النعوت والأسماء والأفعال، مجيد الملك والجلال والكمال، ولذلك قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. وثبت في " الصحيحين " عن أعلم الخلق به محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب " (¬2). وثبت في " صحيح مسلم " في الحديث الجليل الرَّبَّاني، الذي عَظَّمَهُ علماء ¬
بحث في أن الاختلاف بين المعتزلة والجبرية وأهل السنة راجع إلى ثلاثة أقوال
السنة من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن الله تعالى يقول: " إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً، فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسه " (¬1). فكيف يحسُنُ نسبتُها إلى الله تعالى من جميع الوجوه على الإطلاق، أو يحسن إيراد ما يوهم ذلك من العبارات، والله تعالى يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، و {تَعالَى عَمَّا يقولون} [الإسراء: 43] فكيف يقال فيما تعالى عنه، وسبَّح نفسه العزيزة: إنه منه. وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى بعبارة أخرى في كتاب محبة الله من " الإحياء " في السبب الرابع منه. واعلم أن جميع الاختلاف والتطويل هنا يرجع إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا (¬2) مشيئة، لا قبل مشيئة الله ولا بعدها، وهو قول الجبربة. الثاني: أنه لا مشيئة لله ولا قدرة ولا أثر في فعل العبد إلاَّ الواجب عليه بعد التكليف عندهم، وهو قول المعتزلة. وثالثها: أن للعبد مشيئةً واختياراً وفعلاً بتيسيره (¬3)، وهو قول أهل السنة. فالمعتزلة احتجوا بقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُم أنْ يَستَقِيمَ} [التكوير: 28]. وأهل السنة احتجوا بقوله بعد ذلك: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، وكذلك: " لا حول ولا قوة إلاَّ بالله " وفي الكهف: {لا قُوَّةَ إلاَّ بالله} [39]، وفي ن: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18]، وذلك كثيرٌ معلومٌ ضرورةً. ¬
والجبرية احتجوا بقوله (¬1): {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، {وما تشاؤون} وترك الاستثناء فيها، فهم أَرَكُّ الفرق الثلاث. وأهل السنة أعدلهم وأوسطهم، فإنهم جمعوا بين المُطْلَق والمقيَّد، فقدموا الاستثناء المنطوق المنصوص على الإطلاقين: التخيير الذي تمسَّكت به المعتزلة، وإطلاق التعجيز الذي تمسكت به الجبرية. وبذلك يجب العمل عند علماء الأصول في المطلق والمقيد، وعليه اجتمعت الفرق المختلفة في مسائل لا تُحصى، حيث لا عصبيَّةَ ولا هوى، وإنما أُتِيَ أهل السنة من عبارات مبتدعةٍ قبيحةٍ صَدَرَتْ من كثيرٍ من أهل الكلام منهم تُوهِمُ الجبر، وتُضادُّ الحق. وكذلك توسَّط أهل السنة في نظر العقول، فاعترفوا بالاختيار الضروري الفارق بين حركة المختار والمفلوج والمسحوب، مع الاعتراف بالافتقار إلى الله تعالى في كل طرفة عينٍ، وعدم الاستقلال كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فدل على ثبوت الاختيار والافتقار، والجبرية أنكروا الاختيار الضروري من العقل والدين، والمعتزلة أنكروا الاحتياج (¬2) إلى الله عز وجل في الأفعال بعد تعلق القدرة، وما يجب عندهم من اللطف الذي يقدر على تركه منه، وذلك خلاف المعروف بين المسلمين والمعلوم من دين المؤمنين، فالله المستعان. وقولهم: لو قَدَرَ عليه ولم يفعله كان قبيحاً، كقول الفلاسفة: لو قدر على أحسن من هذا العالم ولم يبادر بالجود به، كان بخيلاً، تعالى الله عن قول المبطلين عُلُوّاً كبيراً. وبالجملة: فالمعلوم من العلوم الضرورية العقلية والشرعية أن الأنبياء والكتب الربانية، وجميع الأديان، ما وردت بنفي الأفعال عن العباد، ولا بنفي المشيئة عنهم، وإنما وردت بتوقف أفعالهم ومشيئتهم على مشيئة الله وتقديره عند ¬
أهل السنة، وعلى تخلية الله بينهم وبين نفوسهم على قول المعتزلة. وكما قال أهل السنة تواردت النصوص كتاباً وسنةً، كما مرَّ وكما لا يُحصى، نحو قوله تعالى: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]. ومن ذلك الحديث المشهور في النهي عن أن يقال: " ما شاء الله وشاء فلانٌ " بل يقال: " ما شاء الله ثم شاء فلان " (¬1). وكذلك قال الله: {وما تشاوون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، و {لا قُوَّةَ إلاَّ بالله} [الكهف: 39] والإجماع منعقدٌ على ذلك، فقد أجمع أهلُ السنة على وجوب كراهة الكفر والقبيح من الجهة التي صار منها كفراً وقبيحاً، لأنه من تلك الجهة غير منسوبٍ إلى الله، بل هو منها منسوبٌ إلى كسب العبد فكيف يُنْسَبُ من حيث سُمِّيَ كفراً وقبيحاً إلى الله تعالى وهو يجب علينا (¬2) الرضا بأفعاله سبحانه، فلو صح الجميع لوجب التناقض. وقد اجتهد أهل السنة في التبرُّؤ من الجبر، وافترقوا على فِرَقٍ كثيرة تقدم بيانها، كل منهم بين ما يتعلق بقدرة العبد أهل الكسب وغيرهم، ولولا فرارهم من الجبر، ما ذكروا الكسب (¬3)، والأدلَّة عليه، وهذه العبارة تلزمهم الجبر، ¬
وتُبطِلُ عنايتهم في التبرُّؤ منه، فثبت أنها جِنايةٌ عليهم. يوضحه: أنها عبارةٌ توافق مذهب الجبرية الباطل بالضرورة عند أهل السنة وبالوفاق، فكيف تكون مع ذلك موافِقَةً لمذهب السنة ومُترجمةً عنه، وعن الجبر الذي هو نقيضه، فتأمَّل ذلك. وأهلُ السنة ما أنكروا على المعتزلة إثبات أفعال العباد، ولا نِسبتها إليهم، ولا اختيارهم فيها، بل نسبوا من جحد ذلك من الجبرية إلى مخالفة الضرورة، وزادوا في دعوى الضرورة في ذلك على جمهور المعتزلة. وإنما أنكر أهل السنة في هذه المسألة على المعتزلة، أو على أكثرهم قولهم: إن إرادة الله فيما يتعلق بهداية العباد غير نافذةٍ، وإن أفعالهم غير مقدورةٍ لله تعالى بأعيانها، مبالغةً في المنع من مقدورٍ بين قادرين، وإن الذوات غير مقدورةٍ لله عزَّ وجلَّ لثبوتها في الأزل، وتعجيز الرب جل جلاله عن هداية العصاة واستلزام مذهبهم لذلك، وإن منعت المعتزلة من تسميته تعجيزاً مع تسميتهم له غير مقدورٍ كما مرَّ بيانه. وأما قول أهل السنة: إن أفعال العبادِ مخلوقةٌ لله مفعولةٌ للعباد، فقد تقدم بيان مرادهم بذلك مبسوطاً، وأنه لا يقتضي سقوط حجة الله على عباده إلا الجبرية الغُلاة، أما على (¬1) قول الجويني وأصحابه من أهل السنة، فلأنَّ كونها مخلوقةً مُفَسَّرٌ عندهم بكونها مقدرة، لأن التقدير أشهر معاني الخلق، ولذلك ادعى فيه أنه الحقيقة دون غيره، وقد تقدم مبسوطاً، وأما بقيتهم، فلأن الخلق من الله عندهم من فعل العبد بمنزلة تمكين العباد من المسببات كلَوْنِ المداد ونحوه عند المعتزلة، فهو بمنزلة خلق القدرة والقادر، لا أنه القدر المقابل بالجزاء كما مرَّ محقَّقاً. وقد أجمعت على تنزيه الله سبحانه من الظلم، بل من العبث واللعب، ¬
الغلو أساس البدعة
جميعُ الشرائع السمعية والبراهين العقلية، كما اجتمعت على تعظيم جلاله، وعزته في نفاذ مشيئته، وعموم قدرته وبطلان قول المعتزلة في خلاف ذلك. وقد بالغ أئمة الكلام من الأشعرية في نفي الجبر وتزييفه كالشهرستاني في " نهاية الإقدام "، والجويني في كتبه في الأصول والكلام، كما مضى قريباً في مسألة الأفعال بحمد الله تعالى. وظهر من ذلك أن الجبرية في الأفعال مثل الاتحادية في التوحيد، وذلك أن أهل الاتحاد سمعوا تعظيم المقربين لله ونسيان ما عداه، حتى جرى على ألسنتهم: أنه لا موجود سواه، أي في قلوبهم، فحسبوهم جحدوا الضرورة في وجود المخلوقات فقالوا: إن الله -تعالى عن قولهم- هو خلقه، ليصح لهم بزعمهم حقيقة التوحيد، ولا يكون مع الله سواه، فصوَّبوا عبادة الأصنام لذلك إلاَّ (¬1) في مجرد تحقيقها. وكذلك الجبرية لما سمعوا تعظيم إلى ملف لمشيئة الله تعالى وتأثيرها أنكروا أن يكون لغيره سبحانه مشيئةٌ أو فِعلٌ (¬2)، وجعلوا ذلك مُحَالاً وعجزاً، والرب يتعالى عنه (¬3)، فلم يثبتوا قدرةً لله تعالى على أن يجعل أحد عباده قادراً فاعلاً مختاراً. فرجع تعظيمهم لقدرة الله تعالى إلى تهوينها، ونسبة القبائح إليه، ولم يعلموا أن مشيئة العباد وأفعالهم متى ثبتت بمشيئة الله، كان أعظم لإجلال الله وتقديسه، فاحذر مواقع الغُلُوِّ، فإنها أساس البدعة، نسأل الله السلامة. وبعد هذا كله يجب على العبد أن ينظر فيما يحبه سيِّدُه ومولاه ثم يقصده ويتحرَّاه، وقد نظرنا في كتاب الله تعالى، فوَجَدْنا الله سبحانه وتعالى يحبُّ التنزه ¬
الأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أن الكفر وكل قبيح هو من العباد
عن قبائح الأسماء والأفعال، ويحب الاتصاف بالعدل والحكمة وإقامة الحجة وإعذار الخلق (¬1)، وإزاحة العِلَل الباطلة وكثيرٍ من أعمال المُبْطِلين، ولولا ذلك ما كَلَّفَهم، ولا نَصَبَ لهم حِساباً وموازين، وبعث رُسُلَهُ، وأنزل كتبه، وكتب أعمالهم، وأشهد ملائكته عليهم، فلمّا لم يقبلوهم أشهد جلودهم. فنظرنا: هل المناسِبُ لهذا أن تُنْسَبَ ذنوبُهم إليه، ونقول: هي منه؟ أو إليهم، ونقول: هي منهم؟ فلا يشك عاقل أن القول بأنها منهم أنسب لما يحب ربُّنا لو لم يَنُصَّ على أنها منهم، كيف وقد نص عليه نصوصاً جمة كما أُوضحه الآن. ثم قد أرشدنا إلى الأدب في العبارة فيما أنزل في كتابه على رسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ومعناهما واحدٌ، لكن لما تعلق بأحدهما بعض المفاسد اللفظية كيف إلاَّ ما يُوهِمُ تَوْهِينَ حُجَجِ الله وحكمته التي شرع جميع ما ذكرنا لتقويتها وبيانها، حتى تسمى بالحق المبين ليكون آخر كلام الخلائق يوم الدِّين {الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] كما جاء في الكتاب المبين. وهذه مقدمةٌ أحببتُ تقديمها تمهيداً لما أُورِدُه من الأدلة على بطلان هذه العبارة التي ظنَّ المغتَرُّ بها أنه ترجم بها عن مذاهب السلف وأهل السنة، بل ظن أنه ترجم بها عن الكتاب والسنة، فعَظُمَ خطؤه، وفَحُشَ في ذلك. والأدلة على ذلك لا تُحصى، وقد رأيت أن أجعلها أنواعاً، كل نوعٍ يشتمل على الإشارة إلى أدلةٍ جَمَّةٍ. النوع الأول: ما يَدُلُّ على أن الكفر وكُلَّ قبيح من العباد بلفظ " من " المسمى بحرف الجر الذي معناه الابتداء من غير استقصاء، فلنذكر هنا نَيِّفاً وعشرين آية من كتاب الله تعالى، من ذلك: ¬
قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فجعل الظلم منهم بالنصِّ. وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] فجعل الكفر منهم بالنص. وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182]، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]. بل قال تعالى في عقوبة الذنوب: {قُل هُوَ مِنْ عِنْدِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، وقال تعالى في ذلك: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فأما قوله قبلها: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله} بعد قوله: {وإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}، {وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 79] فلأن المراد عقوبات الذنوب التي من فعلِ الله بالاتفاق، ولذلك قال: {مَا أَصابك} ولو كانت للذنوب، لقال: ما أصبت، وإنما رد عليهم بقوله: {قُلْ كلٌّ من عِنْدِ الله} [النساء: 78] لأنهم تشاءموا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسبوا إليه (¬1) عقوبات الله لهم على تركها (¬2). فلا نسبوها إلى خالقها سبحانه وتعالى، ولا إلى فاعل سببها. ومنه قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]. ومنه قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]. ¬
ومنه قوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] ففرق بين ما هو من الله وما هو من الناس، وإن كان الكل بقدرٍ سابقٍ، فلا يقال في الجميع: إنه من الله. ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وهذا في الحلال كيف في الحرام؟! ومنه قوله (¬1): {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13]. ومنه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. ومنه قوله تعالى: {ولكِنْ يَنالُه التَّقْوى مِنْكُم} [الحج: 37]، وهذا في طاعة الله تعالى التي يحسن إضافتها إلى فضله، ويجب حمده عليها، فكيف بمغضباته التي حرَّمها وقبَّحها، ولام فاعلها ولعنه وأعد له عقوبته. ومن ذلك قوله سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]. ومنه: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25]. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9]. ومنه: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] ومنه ما حكى الله عن موسى من قوله: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ} [القصص: 15]. ¬
ونحوه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]. وقوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] وهاتان الآيتان مُصَدَّرَتان بإنما التي تقبل الحصر، وقصر ذلك على الشيطان لعنه الله. وفي القرآن الكريم كثيرٌ من هذا بغير لفظ " من "، ومعناه معناها كقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282]. ومن ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد قالا معاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنه اصطفى من الكلام أربعاً " إلى قوله: " ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قِبَلِ نفسه كُتِبَ له ثلاثون حسنةً، وحُطَّ عنه ثلاثون سيِّئَةً " رواه النسائي واللفظ له، والحاكم في " المستدرك " بمعناه وقال: صحيح على شرط مسلم (¬1). قلت: وله شاهد في كتاب الله، وهو قوله تعالى: {وتثبيتاً من أنفسهم} ¬
[البقرة: 265]، وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: " يا ابن آدم، ما أنصفتني، الخير منِّي إليك هابِطٌ، والشر منك إليَّ صاعدٌ " أو كما ورد، وبه يخطب خطباء المسلمين في جُمَعهم وجماعاتهم ولا ينكره مسلم. وفي مراسيل [أبي داود] عن أبي رجاء محمد بن سيف الأزديِّ أنه سأل الحسن عن النُّشْرَةِ؟ فقال: ذكر لي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه قال:] " إنها من عمل الشيطان " (¬1). ¬
ومنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فإنها تدل على أنه لا يضاف إلى الله ما فيه نقصٌ ولا قُبْحٌ. ومنه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فدل على أن حكم الجاهلية ليس حكماً من الله، فكذلك كل حكمٍ قبيحٍ. ومنه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]. ومنه: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32]. ومنه: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] ففرَّق بينهما، والكل بقَدَرٍ سَبَقَ من الله، وأمثالُ ذلك كثير. وهذا أيضاً في الأحاديث وفي آثار السلف كثيرٌ شهير، وقع في محافلهم المحشودة بجماعاتهم من غير نكيرٍ، واشتملت عليه دواوين الإسلام، وتواليفُ علماء السنة والإسلام، من غير مُناكرةٍ ولا تأويلٍ ولا معارضةٍ، فكان إجماعاًً من ذلك الصدر، إذ لا يُنْقَلُ شيءٌ من إجماعاتهم إلاَّ على هذه الصفة، أو على ما هو دونها، مع إجماعهم (¬1) على عدم تأويل ما ذكرته من آيات القرآن الكريم، والعادة (¬2) تقتضي العلم في مثل ذلك، كما تقدم في آيات المشيئة، فتأمل ذلك. فمن ذلك ما خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " وأبو داود والترمذي وغيرهما من أئمة السنة من حديث أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " التَّثَاؤُبُ من الشيطان، يضحك منه إذا قال: ها ". ¬
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬1)، وسيأتي كلام أئمة السنة في تفسيره. وخرج الجماعة من حديث أبي قتادة " الرؤيا الصالحة من الله، والحُلُمُ من الشيطان " (¬2). ولمسلم مثله عن (¬3) أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وروى البخاري والترمذي والنسائي عن أبي سعيدٍ كذلك، وقال: " إنما هي من الشيطان " (¬5) بالحَصْرِ. وخرج ابن ماجه وابن عبد البر في " التمهيد " مثل حديث أبي هريرة من حديث عوف بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6). وإنما تواترت النصوص في الرؤيا، لأنه يُتَوهَّمُ أنه يشتبه الأمر فيها ولا يتميَّزُ إلا بالنص. وخرج البخاري ومسلم والأربعة وغيرهم أيضاً حديث أبي هريرة في سجود ¬
السهو، وفيه: " إن أحدكم إذا قام يُصَلِّي جاءه الشيطان، فلَبَّسَ عليه، حتى لا يدري كم صلَّى " (¬1). وفي ذلك نسبة سبب النسيان إلى الشيطان، وتخصيصه بذلك ذمّاً له، كما شهد له قوله تعالى: {وما أنْسَانِيهُ إلاَّ الشيطان} [الكهف: 63]. وكذلك ثبت في " الصحيحين " (¬2) عن عائشة، عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الالتفات في الصلاة اختلاسٌ يَخْتَلِسُه الشيطان من صلاة العبد. وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صلاة الجمعة: إنَّ تقليب الحَصَى من الشيطان (¬3)، رواه مسلم في " الصحيح " وإماما أهل السنة مالك وأحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي وذا لفظه وأحمد به. وخرَّج أحمد في " المسند " وأبو داود، والنسائي، والحاكم في " المستدرك " من حديث أبي ثعلبة الخُشَنِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن تَفَرُّقكم في الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان " (¬4). ¬
قال الحاكم: صحيح الإسناد، وهو كما قال، خرجه أبو دواد، والحاكم في الجهاد، والنسائي في السير. وخرَّج الترمذي من حديث سهل بن سعد (¬1) مرفوعاً " الأناة من الله، والعجلة من الشيطان ". وقال: حديث حسن غريب أخرجه في كتاب البر (¬2). ومن ذلك حديث أبي هريرة المتفق على صحته " كل مولودٍ يولد على الفِطْرَة، وإنما أبواه يهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه " (¬3). ومن ذلك حديث المستحاضة وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: " إنما ذلك رَكْضَةٌ من الشيطان " خرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححاه من حديث حَمْنَةَ بنت جحشٍ (¬4). ¬
وقال ابن الأثير في " النهاية " (¬1): المعنى أن الشيطان قد وجد بذلك سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها. ذكره في حرف الراء مع الكاف. وفي " المسند " عن ابن عباس وأبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا تأكل الشريقة (¬2)، ¬
فإنها ذبيحةُ الشيطان" (¬1) وهي التي تشرق بالماء فتموت، وهو الحديث (355) من مسند ابن عباس من " جامع " ابن الجوزي. وقد أجمعت الأُمة إجماعاًً ضرورياً أنه يجب الرضا بما كان من الله تعالى، والتحسين له، والثناء به، وأنه يجب كراهة المعاصي وسخطُها والتقبيح لها، فلو كانت المعاصي من الله لتناقض الإجماعان، واتحد محلُّ السخط والرضا. والعجب من الغزالي أنه صرح في كتبه " منهاج العابدين إلى الجنة " وغيره أنه يجب الكراهة للمعاصي، ويجب الرضا بأفعال الله تعالى، ومع ذلك قال: إن المعاصي من الله، وقال أيضاً: إن الجبر باطلٌ بالضرورة، فما الفرق بين القول بالجبر، والقول بأن المعاصي من الله سبحانه وتعالى. ومن ذلك حديث ابن عباس: ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت النساء، فجعل عمر يَضْرِبُهُنَّ بسوطه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وقال: " مهلاً يا عمر، إنه ما كان من العين والقلب فمن الله، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ". رواه أحمد وابن تيمية في " المنتقى " (¬2). ¬
فهذه خمسة عشر حديثاً، عن أبي هريرة منها ست، وعن ابن عباس حديثان، وبقيتُها عن ابن عمر بن الخطاب وعائشة وأبي ثعلبة، وسهل بن سعد، وأبي قتادة، وأبي سعيدٍ، وعوف بن مالك، وحَمْنَة بنت جحش من غير استقصاءٍ، ومن غير الآثار الموقوفة على (¬1) الصحابة كما نذكره الآن عن ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وأبي بكر الصدِّيق، وعلي عليه السلام. قال الإمام الحافظ أبو داود في " سننه، (¬2) المشهورة، التي هي أحد دواوين الإسلام، في كتاب النِّكاح في باب من تزوج ولم يفرض صداقاً: حدثنا عُبيد الله (¬3) بن عمر هو القواريري، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن خِلاَس وأبي حسان، كلاهما عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود أنه أُتِي في مسألةٍ فاختلفوا إليه شهراً، أو قال: مراتٍ، قال: فإني أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان (¬4). ¬
وقال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل في مسند الجَرَّاح بن أبي الجراح من " مسنده " (¬1): قرأتُ على يحيى بن سعيدٍ، عن هشام قال: حدثنا قتادة بالحديث المتقدِّم ولفظه: " فإن أصَبْتُ فالله عزَّ وجلَّ يُوفِّقُني لذلك، وإن أخطأتُ فهو مِنِّي ". وفي الباب عن علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم. أما عليٌّ فهو إمام التنزيه لله تعالى، وهو في كلامه كثيرٌ غير قليلٍ، وذكر ابن حجر أن هذه العبارة قد وُجِدَتْ في كلامه عليه السلام في حكم أم الولده، ولم أقف عليها بنصِّها. وأما أبو بكر، فإنها مشهورة عنه في الكلالة فإنه قال فيها: أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني وأستغفر الله. رواه ابن حجر في " التلخيص " (¬2) في كتاب القضاء (¬3)، وذكر سنده عن عبد الرحمن (¬4) بن مهدي، عن حماد بن زيدٍ، عن سعيد (¬5)، عن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ أهيب لِمَا لم يُعلَم من أبي بكرٍ، فإنها نزلت به فريضةٌ لم يجد لها في كتاب الله أصلاً، ولا في السنة أثراً، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني، وأستغفر الله. ¬
إجماع الصدر الأول على تنزيه الله تعالى من إضافة الخطأ إليه
قال ابنُ حجر: وأخرجه قاسم بن محمد في كتاب " الحُجَّة والرد على المقلِّدين " (¬1). وروى ابن حجر في كتابه هذا أيضاً (¬2) أن البيهقي روى من طريق الثوري، عن الشيباني (¬3)، عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال: كتب كاتبٌ (¬4) لِعُمَرَ: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين، فانتهره عمر، وقال: اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمن عمر (¬5). قال ابن حجر: إسناده صحيح. قلت: وروى الذهبي في ترجمة عَمَّار من " النبلاء " (¬6) مثله عن عُمَرَ في قصةٍ أخرى من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، وهما من رجال الجماعة. فدلَّ ذلك على إجماع الصدر الأول على تنزيه الله تعالى من إضافة الخطأ إليه، كيف الكفر وجميع المعاصي والفواحش والكذب والرذائل؟! تعالى الله عمَّا يقول الكاذبون عليه (¬7) عُلُوّاً كبيراً، بل ما زال هذا إجماع من يُعتَدُّ به من المسلمين، فقد ذكر الذهبي في " الميزان " في ترجمة محمد بن علي (¬8) بن عطية ¬
أبي طالب المكي أنه وعظ في بغداد (¬1)، فقال: إنه لا أضرَّ على المخلوقين من الخالق، فبدَّعوه (¬2) وهجروه. وهذا في الضُّرِّ وسيأتي الكلام عليه، كيف في جميع القبائح الخبيثة؟! وهذا إشارةٌ إلى كلام (¬3) أهل السنة، فدَلَّ على أنهم أبرياء من هذه البِدعَةِ، وإن تكلم بها بعض من ينتسب إليهم، ثم ساق بعض هذا الكلام في أثر عبد الله بن مسعود إلى آخره وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال الحافظ النسائي في " سننه " التي هي أصح السنن بعد " الصحيحين " عند أئمة هذا الشأن في كتاب النكاح، في إباحة التزويج بغير صداق: حدثنا علي بن حُجْرٍ، حدثنا عليُّ بن مُسْهِر، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشَّعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود بنحوه ولفظه: فاختلفوا إليه فيها شهراً قال: سأقول فيها بجَهْدِ رأيي، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأً فمِنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براءٌ (¬4). ورواه النسائي أيضاً (¬5) من طريق زائدة بن قُدَامة، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود كلاهما عن ابن مسعود ولفظه: " فإن كان صواباً فمِنَ الله " وقد تفرَّد زائدة بذكر الأسود. وذكر ذلك أبو السَّعادات ابن الأثير في كتابه الجليل المعروف بـ "جامع ¬
الأصول" (¬1) في الفرع الأول من الفصل الثاني من كتاب الصَّداق من حرف الصاد، وعَزَاه إلى أبي داود والنسائي. وذكره الحافظ أبو الحَجَّاج المِزِّي الشافعي في كتابه الجليل المسمى " تحفة الأشراف في علم الأطراف " (¬2) في مسند معقل بن سنان. وذكره إمام الشافعية في عصره صاحب كتاب " البدر المنير " في الكلام على أحاديث الرافعي الكبير في كتاب الصداق منه، فقال ما لفظه، وقد أورد طرقه المختلفة فيه: وهو المسند كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال (¬3) الحافظ ابن النحوي: هذا حديثٌ صحيح، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابنُ حِبَّان في " صحيحه "، والحاكم في " المستدرك " من رواية معقل بن سنان، وقال الحاكم: على شرط مسلم. وقال ابن حزم في رسالته الكبرى في إبطال القياس: لا مَغْمَزَ فيه لصحة إسناده. ونقل الرافعي عن صاحب " التقريب " (¬4) أنه صحَّح الحديث وأنه قال: ¬
الاختلاف في الراوي لا يَضُرُّ الصحابة، لأنهم عُدُولٌ كلهم، ويحتمل أن بعضهم نسب الراوي إلى أبيه، وبعضهم إلى جَدٍّ قريب أو بعيد، وبعضهم إلى قومه. وقال البيهقي في " سننه " (¬1) بعد أن نقل كلام الشافعي في الوقف في صحة المرفوع: لكن عبد الرحمن بن مهدي إمام من أئمة الحديث، رواه وذكر إسناده ثم قال: هذا إسنادٌ صحيح ورُواته ثِقَات (¬2)، ومَعْقِل بن سِنان صحابي مشهور. قال -يعني البيهقي في " سننه "-: ورواه يزيد بن هارون، وهو أحد حُفَّاظ الحديث مع عبد الرحمن بن مهدي بإسنادٍ صحيح، وذكر سنده. ثم ساقه البيهقي باختلاف طُرُقه، ثم قال: وهذا الاختلاف لا يُوهِنُ الحديث، فإن جميع هذه الروايات أسانيدها صحاح، وفي بعضِها ما دَلَّ على (¬3) أن جماعةً من أشجع شَهِدُوا بذلك، فكأن بعض الرواة سمَّى منهم واحداً، وبعضهم سمى اثنين، وبعضهم أطلق ولم يُسَمِّ، وبمثل ذلك لا يُرَدُّ الحديث، ولولا ثقة من رواه عنه، يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما كان لِفَرَحِ عبد الله بن مسعود بروايته معنى، ثم ساقه من طريق فراس، [عن الشعبي، عن مسروق]، عن عبد الله، عن مَعْقِلِ بن سِنان، إلى قوله حكايةً عن الحاكم: فصار هذا الحديث على شرط الشيخين. وذكر الشيخُ تقي الدين بن دقيق العيد في كتاب " الاقتراح " (¬4) في القسم الرابع: في أحاديث رواها من أخرج له الشيخان في " صحيحيهما " ولم يُخَرِّجا تلك الأحاديث. وخالف الحفَّاظَ كُلَّهم أبو بكر بن أبي خَيْثَمة، فقال في ترجمة معقِل بن سنان (¬5): هذا حديثٌ مختلفٌ فيه. ¬
قال أبو سعيد: ما خلق الله مَعْقِل بن سنان، ولا كانت بَرْوَع بنت واشق! قال النواوي: هذا غلطٌ منه، وجهالةٌ لما عليه الحُفَّاظ، والصوابُ أنه حديث صحيح. وإنما ذكرت هذا، لأنبِّه (¬1) على بُطلانه، لئلاَّ يراه من لا يعرف حاله فيتوهَّمُه صحيحاً. ولقد أحسن صاحب " التقريب " من أصحابنا حيث صحَّح الحديث كما تقدم نقله. وعبَّر الشيخ نجم الدين (¬2) في كتابه " المطلب شرح الوسيط " عن كلام صاحب " التقريب " بأن قال: يحتمل أن يكون يَساراً أبوه، وسِناناً جدُّه، وأشجع قبيلَتُه، فنسبه أحد الرواة لأبيه، والآخر لجدِّه، والآخر لقبيلته. انتهى ما ذكره ابن النحوي. وفي " الترمذي " (¬3) أن الشافعي رضي الله عنه رجع إلى القول به بمصر، وأنه حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، ورُوِي عن ابن مسعودٍ من غير وجهٍ. انتهى. ¬
واعلم أن متن الحديث: أن ابن مسعود قضى في المرأة التي تزوجها رجلٌ ولم يفرض لها صداقاً، ثم مات قبل أن يدخل بها، أن لها صداق نِسائِها لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وعليها العِدَّةُ ولها الميراث، فقام مَعقِلُ بن سِنَان الأشجعي فشَهِد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك. وفي رواية: معقل بن سنان، وفي رواية: جماعة من أشجع، وفي رواية: اثنان، فاختلف الحُفَّاظُ في صحة المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب ذلك. وأما فتوى ابن مسعود، وقوله: إن أخطأتُ فمِنِّي ومن الشيطان، فلا خلاف في صحته وشُهرَتِهِ وعدالة رواته، وأنهم رجال الحديث وأئمة الإسلام كما تقدم بيانهم حين ذكرت الأسانيد، كابن مسعود الذي قال فيه (¬1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رضيتُ لأُمَّتي ما رَضِيَ لها ابن أُمِّ عَبْدٍ " (¬2)، وقال فيه: " إنَّ الله عَصَمَه من الشيطان " (¬3) وأجمعت الأمة على فضله وإمامته وعِلْمِه واجتهاده وجلالته في الإسلام. أفَتَراهُ حين نَسَبَ الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان، ونَزَّهَ منه ربه سبحانه وتعالى إنه (¬4) معتزليٌّ، أو أنه يُنكِرُ الأقدار وهو راوي حديث الصادق المصدوق ¬
"وإنَّ أحدَكُمْ يُجْمَعُ في بَطنِ أُمِّهِ" (¬1) كما مضى مقرَّراً في أحاديث الأقدار. أو ترى أن أهل ذلك العصر يُتَّهَمُون بهذه البدع حيث لم ينكروا عليه؟ أو أن علقمة والأسود وعبد الله بن عُتْبَة بن مسعود التابعين الأجلاَّءِ الرواة لذلك عن ابن مسعود اتُّهِمُوا بذلك؟ أو اتُّهِم بذلك من لم ينكر عليهم من التابعين وتابعيهم؟ وكذلك سائر رواية النبلاء الكبرى مثل إبراهيم، والشعبي، وإبراهيم التيمي، ومنصور بن المعتمر، وزائدة بن قُدامة، وهشامٍ، ويحيى بن سعيد القَطَّان، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي، وخِلاس بن عمرو، وأبي حسان، وداود بن أبي هند، وعليِّ بن مُسهِر، وعليِّ بن حُجْر، وعثمان بن أبي شيبة، وسفيان، وشعبة، وغُنْدَر، وبُنْدَار، وعبد الرزاق، كل هؤلاء من رجال البخاري وسائر أئمة الإسلام الستة وغيرهم، وحديثهم في جميع دواوين الإسلام إلاَّ اثنين منهم، فانفرد مسلمٌ بإخراج حديثهما دون البخاري: وهما أبو حسان، وداود بن أبي هند وقد خرَّج له تعليقاً، ولم يخرِّج الترمذي لعثمان، وكذا أبو داود وابن ماجه لم يخرِّجا (¬2) لعليِّ بن حُجْر، واحتج بهما الباقون، وقد رواه هؤلاء كلهم وحسبك بهم، وخلقٌ غيرهم. فقد قال المِزِّيُّ في " أطرافه " (¬3) رواه أبو داود في النكاح عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق (¬4)، عن ابن مسعود. ¬
وعن عثمان، عن يزيد بن هارون وابن مهدي، كلاهما عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، علقمة. ورواه النسائي فيه عن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن فراس نحوه. وعن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، وعن أحمد بن سليمان، عن يزيد بن هارون، كلاهما عن سفيان، عن منصور به. وعن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن زائدة بن قدامة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود معاً عن ابن مسعود. وعن علي بن حُجر [عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله]، وعن شعيب بن يوسف (¬1) النسائي، عن يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن الشعبي، عن الأشجعي، عن ابن مسعود. وعن محمد بن بشار (¬2)، عن محمد - يعني غُدر-، عن شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن مسعود. وعن أحمد بن (¬3) عبد الله بن الحكم المصري، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سيَّار (¬4)، عن الشعبي، عن ابن مسعود. وعن أحمد بن سليمان الرُّهَاوي، عن يعلى بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ابن مسعود. ¬
ورواه الترمذي ببعضه عن محمود بن غيلان، عن زيد (¬1) بن حُباب، وعن الحسن بن علي الخَلاَّل، عن يزيد بن هارون وعبد الرزاق، ثلاثتهم عن سفيان به، وقال: حديث حسن صحيح. كل هؤلاء وغيرهم رَوَوْهُ، ودوَّنُوه، واحتَجُّوا به، وعَمِل به أئمة الحديث كالثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، كلهم رووه وعملوا به، وهم أئمة السنة وأعداء البدعة، فما أنكر أحدٌ منهم هذا اللفظ على ابن مسعود، ولا على أحدٍ ممن رواه، ولا حذَّر من اعتقاد ظاهره، ولا ذكر له تأويلاً ألبتة. وروى البغوي في تفسيره للكلالة، لكنه قدمه إلى آخر باب المواريث من سوره النساء (¬2)، والدَّامغاني في رسالته في المذاهب مثل لفظ ابن مسعود في نسبة الخطأ إلى نفسه دون الله تعالى، عن الشعبيِّ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تَكَلَّم في الكلالة برأيه رضي الله عنه، ولم يُنكِرْه البغوي ولا تأوَّلَه، وهو من كبار أهل السنة. وعن ابن عباس نحو ذلك في قوله: إن الشيطان سَرَقَ كذا وكذا آيةً -يعني بسم الله الرحمن الرحيم- في أول كل سورة (¬3) يعني أنه سرق ذلك على من أسقطه من أوائل السور. رواه أبو عبيد القاسم بن سَلاَّم (¬4) بإسناد جيد، ولفظه: أغفلها الناس. ورواه البيهقي، ذكره ابن كثير في حديث " المنتهى ". ¬
وذكر الشيخ العارف السُّهْرَوَرْدِي في كتابه " عوارف المعارف " (¬1) في الباب التاسع أن الجبري زنديق إلى قوله: فأما من كان مُعتَقِداً للحلال والحرام، والحدود والأحكام، معترفاً بالمعصية إذا صدرت منه (¬2)، فهو سَلِيمٌ صحيحٌ، فصَرَّح بأن المعصية من العبد العاصي. وقال في الباب الستين في ذكر المَقَامات من قولهم في الرضا (¬3): وقال يحيى -يعني ابن معاذ-: يرجع الأمر كله إلى هذين الأصلين: فعل منه بك، وفعل منك له، فترضى بما عَمِلَ، وتُخْلِصُ فيما تَعمَلُ. انتهى بحروفه، وهو صريحٌ فيما ذكرتُ. وقال الأنصاري في المحاسبة (¬4): إنها تمييز ما للحق عليك مِما لك ومنك. وهؤلاء من كبار أئمة المعرفة والصلاح. وفي " نهاية غريب الحديث " (¬5) تأليف أبي السَّعَادات بن الأثير صاحب " جامع الأصول في أحاديث الرسول " وهي عُمْدَةُ أهل السنة في تفسير الحديث، وهو أحد علماء أهل السنة بلا نِزَاع، قال في كتابه هذا في تفسير " التثاؤب من الشيطان " كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لفظه: إنما جَعَله (¬6) من الشيطان كراهةً له، وإنما يكون من ثِقَلِ البَدَنِ، وميله إلى الكسل ¬
والنوم، فأضافه إلى الشيطان لأنه الذي يدعو إلى إعطاء النَّفْس شَهْوَتَها، وأراد به التحذير من السبب الذي يتولَّد منه، وهو التوسُّع في المطعم والشِّبَع فيَثْقُلُ عن الطاعات، ويَكْسَلُ عن الخيرات. انتهى بحروفه. فانظر إلى عبارات أئمة السنة واعترافهم بصحة إضافة القبائح إلى أهلها بحرف " مِنْ "، فإنه لم يجعل ذلك موضع الإكسال فتناوله، وإنما جعل موضعه أن التثاؤب قد يكون ضرورياً من فعل الله، لكنه حينئذٍ يكون سببه اختيارياً من فعل الشيطان، فأُضيف السبب والمُسَبَّبُ إلى الشيطان، كما قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وكما قال موسى كليم الله عليه السلام: {هذا من عَمِلِ الشيطان} [القصص: 15]. وأما فعل القبيح الاختياري الذي هو التوسع في المطعم فلا إشكال في أنه من الشيطان بغير تأويلٍ، ولو نقلنا جميع ما لأهْلِ السنة في هذا لطال وأدَّى إلى الإملال. وفي معنى كلامهم: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]. وكذا قال الفقهاء في المغصوب: إذا زاد إما أن يكون من الخالق أو المخلوق. ذكره ابن رشد (¬1) في الغصب من " نهايته " (¬2) مطولاً. وكل ذلك يدل على شهرة نسبة القبائح والفضائح والرذائل والفواحش إلى من اختارها لنفسه من شرار العباد من أهل الغَيِّ والفساد، ومتى نُسِبَتْ إلى تقدير العزيز العليم الذي قَدَّرَ وُقوعها بحكمةٍ بالغةٍ، وحُجَّةٍ دامغةٍ، نُسِبَتْ إلى ذلك بالعبارات التي ارتضاها ربُّ العباد لنفسه، واصطفاها في كتابه، وانتقاها في كلامه، فقال: إنها ابتلاءٌ من الله وتمحيصٌ، كما قال سبحانه وتعالى بعد ذكر ¬
آيات قرآنية تدل على أن المضاف إلى الله يختص بصفة الحق ولا يجوز أن يكون باطلا
فرعون: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] ولم يقل: إنه من ربِّكم بالإطلاق، لأنه قبيحٌ، والبلاء الذي فيه من الله تعالى حَسَنٌ. وبذلك جاء القرآن والسنة، وبه عَبَّرَت الصحابة والتابعون، فما نُقِلَ عن أحدٍ منهم بسندٍ صحيح ولا ضعيفٍ إنه قال: الكفر والفسوق والقبائح والفواحش والفضائح من الله، ولا تَفَوَّهَ أحدٌ منهم، ولا من أهل السنة القدماء بهذا، حتى تفاحَشَ الغُلَوُّ في علم الكلام والجدال، وفَشَا التقليد في ذلك، وابتُدِعَتْ عبارات أهل الجبر وأهل الاعتزال، وتَرْجَمَ عن الحق وأهله من لم يشتغل بتأمل القرآن والسنة، ويتوقَّفُ عليهما وعلى آداب السلف الصالح. النوع الثاني: قريبٌ من هذا الأول، لكن (¬1) دلالته بالمفهوم الصحيح الواضح، لا بالنُّصُوصِيَّة، من ذلك قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، وفي آية أخرى: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 26] وقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، وقوله تعالى: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] إلى أمثالٍ لذلك كثيرة. ففي هذه الآيات الكريمة أوضح دلالةٍ على أن المضاف إلى الله يختصُّ بصفة الحق، ولا يجوز أن يكون باطلاً، ولو كان كما زعم المخالف لَمَا كان لتخصيص الحق بذلك معنى ألبتة، ومن هنا تَسَمَّى بالحق، وكان قوله الحق، وحكمه الحق، وهو الحق اسماً ومعنىً، وقضاءً وقَصَصاً، وفعلاً وقولاً، وخلقاً وأمراً، وعدلاً وفضلاً، وابتداءً وانتهاءً، ودنيا وآخرةً، وتفاصيل ذلك ما لا يُحصِيه الكتاب، ولا يجمعه الكتاب، وجُملَتُها يَجْمَعُها الحقُّ المبين، الحق في نفسه، المبين لكونه حقاً بأفعاله وعجائب مخلوقاته، وعظيم نِعَمِهِ، فلم يكن سبحانه باطلاً منفِيّاً، ولا حَقّاً خَفِيّاً، بل جمع أسباب (¬2) الكمال، وتَنَزَّهَ من النقائص عن أدنى أدنى أدنى احتمالٍ. ¬
ولذلك ثبت في " البخاري " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في مناجاته في قيام الليل: " أنت الحقُّ، ووعدك الحق، ولِقَاؤُك الحَقُّ، وقولك حقٌّ " (¬1). ولذلك قال الله تعالى في حق من أنكره: {قُتِلَ الإنسانُ ما أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، فكذلك من أنكر اختصاصه بالحق دون الباطل من جميع الوجوه كما قدَّمْتُه، وكما يأتي في تفسير: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وما في معنى ذلك. النوع الثالث: قوله تعالى حكايةً عن كليمه موسى عليه السلام: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15]. وقال تعالى في نحو ذلك: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] يعني المعاصي المتعلقة بها من أفعال العباد، ولذلك قال بعد ذلك: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91]. ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]، ومنه: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]. ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن رسوله أيوب عليه السلام حيث قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فأضاف ما أصابه إلى الشيطان، وإن كان من فعل الله، لأنه عقوبةٌ على ذَنْبِهِ الذي هو من الشيطان، والله تعالى منه بريء، مبالغةً في الأدب، وعملاً بسنة الله في ذلك حيث قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وفي قراءة: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (¬2)، وقوله: ¬
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48]، وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] وأمثال ذلك كما يأتي في موضعه. فاخبرني أيها السُّنِّيُّ على الإنصاف: من أعلم بأقدار الله، والفرق (¬1) بين ما يضاف إلى الخلق وإلى الله: كبار أنبيائه ورسله، أو أصاغِرُ الأشاعرة المترجمون في دعواهم عن أهل السنة؟ وأيُّ كتابٍ أصدق من كتاب الله؟ وأي عبارةٍ أفصحُ منه؟ النوع الرابع: أنه ثبت بالنصوص والاجماع أن نسبة القبائح بالإضافة إلى الله تعالى لا يجوز ولا يصدق، أعني بصيغة الإضافة، فلا يقال في الذنوب: إنها ذنوب الله، ولا في الكفر: إنه كُفْرُ الله، فكذلك لا يقال: إنها منه، لأن ما كان منه أُضِيفَ إليه، قال الله تعالى في ذلك: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] فثبت أنه منهم حين حَسُنَتْ إضافته إليهم، وقَبُحَتْ إضافته إلى الله. وكذلك قوله تعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58]. وقوله حكايةً عن خليله عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] أضاف الخطيئة إلى نفسه، والمغفرة إلى ربه، ولم يجعلهما معاً من ربِّه. ومنه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167]، ومنه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ومنه: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]، ومنه: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 11]، ومنه: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]. يوضحه: أن الله تعالى ساوى (¬2) بين الإضافة بصيغتها والإضافة بمن، ¬
وعَطَفَها عليها في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] فجعل إضافة الصدِّ عن سبيل الله إليهم بصيغة الإضافة كإضافة الظلم إليهم بحرف " مِنْ "، وساوى بينهما في ذَمِّهم بهما، فوجب امتناعهما معاً في حَقِّهِ سبحانه. النوع الخامس: قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]. وقال: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120]. وهذا نصٌّ على الفرق بين الوعدين، فإن وعد الله موصوفٌ بالصدق، واجب الرُّكون إليه والإيمان به، وَوَعْدُ الشيطان على العكس من ذلك كله. وعلى قول الخصم: إنهما معاً من الله، فأيُّ مُسلمٍ يرضى لنفسه أن يقول: إن وعد الشيطان وعدٌ من الله كاذِبٌ؟ وأيُّ عارفٍ بلُغَة العرب لا يقطع على فساد هذه العبارة إن كانت ترجمةً عن (¬1) اعتقاد أهل السنة والسلف الصالح، أو على خُسْران قائلها إن كان مُترجِماً عن مذهب الجبرية مختاراً له. النوع السادس: أنه يلزمه أن يقول: إن الأمر بالفحشاء من الله، لأن الله قد أخبر أن الشيطان يأمُرُ بالفحشاء، وحكى أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وقد التزم الخصم أن كل (¬2) ما كان من الشيطان وغيره، فهو من الله. قلنا له: صادمت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. وإنْ قال: إنه من الله أمْرٌ، وهو لا يأمُرُ به، ناقض وقال ما لا يَعرِفُ. وكذلك إن قال: هو من الله، وليس هُو منه أمرٌ، فإن اعترف أن الأمر بالفحشاء من الشيطان كما دَلَّ عليه كتاب الله، فكذلك الكفرُ بالله وسائر القبائح. ¬
النوع السابع: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279]، وهذا وعيدٌ شديدٌ بالإجماع، فلو كانت أفعال العباد من الله لكان حرب المشركين للمسلمين حرباً (¬1) من الله للمسلمين، وهذا خلاف الإجماع، ولو كان كذلك، كانوا خارجين من ولاية الله، فدل على أن الفساد جاء من هذه العِبارة المُبتَدَعَة المُتَكَلَّفَة المُختَرَعَة المُتَعَسّفة. النوع الثامن: ما جاء بصيغة الحَصْرِ والقَصْر على غير الله، نحو قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]. ومنه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]. ومنه: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، ومنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47]، وفي آيةٍ: {إلاَّ الظَّالِمونَ} [العنكبوت: 49]، وفي آيةٍ: {إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]. ومنه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10]. فكيف يضاف (¬2) إلى الله بحرفٍ مما قصره الله على الشيطان، وحَصَرَه بهذا الحرف ذَمّاً لهم، ومقتاً ولوماً، وهل أوضح من ذلك دلالة على أن إضافة القبيح بهذا الحرف إلى الفاعل المختار صيغة ذمٍّ ولومٍ يجب تنزيه الله تعالى عنها. النوع التاسع: ما لا يصح في اللغة أن يكون إلاَّ من اثنين فصاعداً مثل الاقتتال، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] فأضاف إليه المشيئة الدالة على التفرُّد بالملك، وأضاف (¬3) إليهم الاقتتال الدالَّ على الضعف المستلزِم في كثيرٍ من الأحوال للقبح. ¬
وأما قوله في آخر الآية: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] فمعناه: من المشيئة النافذة الدالة على العزة والملك، لا من الاقتتال الذي يناقض العزة والملك، ولا يصح إلاَّ من العباد الضعفاء المتضادِّين المتغالبين المتكاذبين في الدعاوي، فلو كان ذلك من الله وحده، كان مُغَالِباً لنفسه، تعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً، وإنما يقع ذلك من عباده بينهم، وله العِزَّةُ والحكمة والمشيئة والحُجَّة والكمال في كل شيءٍ، لا إله إلاَّ هو. ومن أوضح هذا النوع قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] فكيف تكون مُشاقَّتُه تعالى منه، فيكون هو مُشَاقّاً (¬1) لنفسه. ومنه: {واللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما} [المجادلة: 1]. ومنه: {مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسَّا} [المجادلة: 3]. ومنه: {وَشَاوِرْهُم في الأمْرِ} [آل عمران: 159]. فإن قلت: عند (¬2) الخصم لا يُسَمَّى بذلك التقاتل والتنازع ونحوه من الوجه الذي يُنْسَبُ إلى الله. قلنا: وكذلك هو عندهم لا يسمى من ذلك الوجه كفراً ولا قبيحاً ولا معصيةً. ومن أوضحه قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فلو كان الله سبحانه هو خالق أفعال العباد من كل وجهٍ، ولا اختيار لهم ولا فعل، لم يكن مُحتاجاً إلى الأمر فيما وحده وهو منه لا من سواه. ¬
إجماع أهل السنة وغيرهم على أن الفعل من حيث يسمى كسبا لا ينسب إلى الله
النوع العاشر: ما جاء من الأفعال مُقَيَّداً بصفة ذمٍّ لازمةٍ له، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [النساء: 30] فإنه يتعذر أن يكون فعله عدواناً وظلماً من الله، لأنه يلزم أن يكون من الله عدواناً وظلماً، وهو من الله حَسَنٌ عنذ الخَصْمِ، وتَجَرُّدُه عن هذه الصفة القبيحة لا يمكن، لأن الله قد قيَّده بها وهو أصدق القائلين. ومنه: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]، ومنه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] فالرَّجْمُ بالغيب، والرَّهبة والرَّغبة مُحالةٌ (¬1) في حق الله تعالى، ونظائره كثيرةٌ. النوع الحادي عشر: ما كان من أفعال العباد بلفظ الكسب، مثل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، فإن أهل السنة وغيرهم أجمعوا على أن الفعل من حيث يسمى كسباً لا يُنْسَبُ إلى الله، لأن مفهوم هذا اللفظ لا يصح في حقه تعالى، وإنما ذكر أهل السنة أنه يُنْسَبُ إلى الله وحده من الجهة التي يُسَمَّى منها خلقاً وإبداعاً وإيجاداً من العدم. وهذا سبب تخصيص أهل السنة للعبد بالكسب، وما كان عندهم كسباً للعبد، فهو فعلٌ له أيضاً، وإنما خَصُّوه باسم الكَسْبِ، لأنه لا يصحُّ نسبته إلى الله بهذا الاسم، كما لا تصح نسبته إلى العبد باسم الخلق الذي هو إيجادُ الذات المعدومة، وأما الفعل، فإنه يصح أن يُنسَبَ إلى الله تعالى وإلى العبد، فتركوا التعبير به لاشتراكه، لا لأن كسب العبد ليس بفعلٍ له، فافهم هذه اللطيفة. ولذلك نص شيخ الأشاعرة الشهرستاني في " نهاية الإقدام " على أن لِفِعْلِ العبد اسماً من الجهة التي هي فعلٌ له يختصُّ بها العبد ويُسمى بها: كالكسب والعبادة والصلاة والصوم والمعصية والطاعة، ويُسمى بها كاسِباً وعابداً ومُصلِّياً وصائماً ومطيعاً وعاصياً. ¬
قال: ولو كان الله فعل ما فعل العبد من جهةٍ واحدةٍ لا يستحق هذه الأسماء سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقد تقدَّم كلامه ووجهه، ولذلك قال: إن من عرفه هانَتْ عليه تهويلات القدرية، وتمويهات الجبرية، وعِلْمُ ما حققه يجب الجزم به عقلاً ببُطلان هذه العبارة، كما يأتي في الوجوه النظرية. النوع الثاني عشر: قوله تعالى: {وإنَّ الشياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيَائِهم} [الأنعام: 121] فيلزم أن يكون وحي الشياطين وحياً من الله، ويلزم من ذلك أحد باطلين: إما أن يكون حقاً، وإما أن يكون وحي الله منقسماً إلى حقٍّ وباطلٍ. النوع الثالث عشر: قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وقالت الملائكة عليهم السلام: {أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها} [البقرة: 30]، فلو كان الفساد الذي من الخلق من الله ما استنكرتِ الملائكة أن يَخْلُقَ من يُفسِدُ، بل لكان مفسداً في المعنى، سبحانه عن ذلك وتعالى علواً كبيراً. وإن كان الخصم يقول: إنما لا نسميه بذلك، لأن الشرع منع منه، وليس كما زعم لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك، لكان امتناعنا من ذلك بالقهر، وليس المدح أن يمتنع عبيد الملك من ذمه بما فيه من النقائص خوفاً من عقوبته، فإن كثيراً من ملوك الأرض الناقصين كذلك، وإنما المدح أن يكون مُنَزَّهاً حقاً عن النقائص، ومع ذلك لا ينقصه أن يخلي بعض عبيده يذُمُّه وينقصه كَذِباً منه وزُوراً، ثم يحلم عنه ولا يُؤاخِذُه أو يعاقبه على ذلك بحق وعدل. الوجه الثاني: أنه لو كان كذلك، لكان استحقاقه عزَّ وجلَّ لأضداد تلك الأسماء غير صادقٍ، وهذا أفحشُ من الأول. فإن قلت: أليس الله تعالى خلق المفسدين، وقدَّر وقوع الفساد ولم يمنع منه مع قدرته؟
قلت: بلى، ولكنه فعل ذلك بالحق وللحق، والطبيب الذي يُؤلِمُ العليل بالفِصَاد والحِمْيَة والأدوية الكريهة لا يُسَمَّى ظالماً ولا مفسداً، ولا يسمى بشيء من أسماء اللوم البتة، بل هو مُحسِنٌ مُحِقٌّ ساعٍ في الخير، مُتوسَّلٌ إليه مُثْنٍ بكل خير عليه، فكيف بالله العليم الحكيم الرحمن الرحيم، الذي له المثلُ الأعلى والأسماء الحسنى، لا مِثْلَ للطف حكمته الخفية، وغايات تدبيره الحميدة؟! أما قولنا: إنه فعل ذلك بالحق، فحيث يكون عقوبةً على الذنوب مثل ما دلَّت عليه الآيات وغيرها كما تقدَّم. وأما قولنا: إنه فعله للحق، فلأنه سبحانه لا يعاقب العبد إلاَّ لحكمةٍ خفيةٍ، ومصلحةٍ راجحةٍ، هي تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله، ولولا ذلك لما اختار العقوبة على العفو، وقصور العقول عن ذلك لا يَضُرُّ علام الغيوب. وقد صرَّح الغزالي بهذا في " المقصد الأسنى " (¬1) في شرح الرحمن الرحيم، وفي مقدمات " إحياء علوم الدين " في كتاب العلم. وأشار إليه النواوي في " شرح مسلم " (¬2) وفي " الأذكار " (¬3) في شرح قوله عليه أفضل الصلاه والسلام: " الخير بيديك، والشر ليس إليك " فإن في أحد تأويلاته أنه ليس بِشَرٍّ بالنظر إلى حكمتك فيه. انتهى. وإنما تلزم الشناعة بنفي الحكمة عن الله باطناً وظاهراً، ولهذا موضعٌ يُبْسَطُ فيه القول غير هذا، وقد كشفت الغطاء عن هذا السر قصة موسى والخَضِر، فكل جاهلٍ بتأويل الخضر يعُدُّه متعدِّياً، وكل عالمٍ بتأويله يعدُّه مُحسِناً، فكيف بغلاَّم الغيوب البريء من النقائص والعيوب؟! النوع الرابع عشر: قال الله تعالى في السبع المثاني التي اختارها للصلوات ¬
الواجبات المفروضات من جميع كتبه المُنزلات، وكلماته الطيبات المباركات: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَستَعِينُ} [الفاتحة: 5] فالاستعانة من العبد بالله، ولا يصح أن تكون الاستعانة إلاَّ بين اثنين، لأن المستعين لا يكون إلاَّ مفتقراً محتاجاً، والمستعان به لا يكون إلاَّ غنياً حميداً كريماً عليماً قديراً لطيفاً رحيماً، فكيف يصح أن تكون الاستعانة له منه؟! فيجتمع فيه الفقر والغِنى، والعجز والقدرة. وقد احتج بهذه الآية الكريمة شيخ الأشاعره الشهرستاني في " نهاية الإقدام " على القدرية والجبرية، فقال ما معناه: إن العبد لو كان مستقلاًّ بنفسه وقُدرته ومشيئته لم يحتج إلى الاستعانة، ولو لم يكن له فعل يتوقف على اختياره وجهده لم يحتج إلى الاستعانة أيضاً، فإنك لا يصح في لغة العرب التي نزل عليها كتاب الله أن تستعين الله على أفعاله المَحْضَةِ، فلا تستعينه على أن يغفر لك أو يُطِيلَ عُمرَك، بل تسأله أن يفعل ذلك لا أن يُعِينَك عليه. قال: وكل مُنْصِفٍ يجد من نفسه ذلك، فإنه يهتم بما يقدر عليه، وتجد الداعي الباعث لك على أن تفعله وتُحسِنَ الاقتدار على الاحتراك فيه، ولا تجدُ اقتداراً على التمام وبلوغ أقصى المرام من أفعالك حتى تجد القدرة على الرَّمْي دون الإصابة، وعلى الكتابة دون التجويد الذي تَمَنَّاه، وعلى التساوي بحيث لا يختلف، وعلى الصلاة دون كمال الخشوع الذي لا نسيان فيه ولا غفلة ولا شيء من أنواع النقص. وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، ولذلك ورد الوعيد بالتَّخْلِيَة بين العبد وبين نفسه عند الغضب على العبد والمؤاخذة والاستعاذة من ذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. النوع الخامس عشر: ما جاء على جهة الشرط والجزاء لفظاً أو معنىً، أو ما يقارب ذلك، كقوله تعالى: {فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُم} [البقرة: 152] فإن الذكر الأول قُربَةٌ من العبد إلى الله، صدرت على نية التعبُّد والتذَلُّل لِعِزَّة الله، والذِّكر
الثاني فَضْلٌ عظيم من الله الرحمن الرحيم، فكيف يُجْعَلان معاً من الله وبينهما أبعد مما بين السماء والأرض من التفاوت، وأين ذِكْرُ العبد الحقير الذليل من ذكر الرب العزيز الجليل، ولو كانا معاً من الله لاستويا قَدراً، إذ لم يكن أحدهما عبادةً، والآخر ثواباً. ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَمّا زَاغُوا أزاغَ الله قُلُوبَهم} [الصف: 5] فالآية واضحة الدلالة على أن إزاغة قلوبهم من الله عقوبةٌ مُستَحَقَّةٌ بمحض العدل الحق على ما تقدم منهم من الزَّيْغِ الأول الواقع بتخلية الله بينهم وبين نفوسهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما بيَّنه الله في كتابه الكريم. فمن شفاه ذلك وكفاه لَحِقَ بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين، ومن تَوَغَّل في الدقائق الكلامية، وخالجه ما خالجهم من تركيب شكوكٍ على نصوص كتاب الله تعالى مقتضاها التَّطَلُّع إلى حكمة الله الخفيَّة في ذلك الابتلاء، فقد طلب أن يُعْطَى أكثر مما أُعطِيَ رسل الله ملائكته عليهم السلام، فقالت الرسل: {لا عِلْمَ لَنا} [المائدة: 109]، وقالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32]. والجواب عليه الحق أن الغاية القصوى في هذا المقام أنه لا يعلم تأويل ذلك إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فلا حرج في وِجدان النكارة في القلب، إنما الحرج في الإخلاد إليها، واعتقاد الجاهل أن ما لا يعلمه فإنه يبعُدُ أن يعلمه الله، وهذا ليس ينبغي منه اعتقاده في عالمٍ آخر من أبناء جنسه، كيف إلاَّ رب العالمين علاَّم الغيوب؟! فإذا تقرَّر هذا، فكيف يُتَصَوَّرُ في مثل هذا أن يكون الذنب والعقوبة معاً من الله، ولو كان كذلك لنصَّ على ذلك في كتبه الكريمة، فإن الملك العزيز الذي لا يخاف من أحدٍ ولا يَتَّقيه، ولو شاء لخلق الخلق في النار ابتداءً ولم يحتج إلى تمكينٍ وتكليفٍ وكتبٍ ورسلٍ وبَعْثٍ وحُكمٍ وعدلٍ وشهود عدولٍ وموازين، فحين عدل عن ذلك إلى هذا علمنا أن مراده أن يوصف بالعدل، وأن لا يُنْسَبَ
إليه ما عابه على عباده من قبائحهم وفضائحهم، والعلمُ بذلك ضروريٌّ لمن هو سيلم العقل، ونسبة الذنب والعقوبة عليه إلى الله سبحانه يُضَادُّ مراده بهذه الأمور كلها، فتأمَّل ذلك. ومن ذلك: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وإنما قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ليُبَيِّنَ أنه صَدَرَ منه على وجهٍ حَسَنٍ، وهو مجازاتهم بخلاف مَكْرِهمُ القبيح الذي لا أقبح منه، حيث وضعُوه موضع الشكر الواجب عليهم، وإنما سمَّى فعله مكراً على جهة المقابلة كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وهو أيضاً من هذا القبيل. وأما قوله: {أفَأَمِنُوا مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] فسماه مكراً استعارةً لأخذ العبد من حيث لا يَشْعُرُ كقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وهذا جزاء مكرهم وإن لم يتقدم ذكره لما عُلِمَ وتقرَّر من سنة الله في جزاء الشيء بمثله في قوله: {ومَكَرُوا ومَكَرَ الله} وفي ما لا يُحصَى، فهو من المطابَقَةِ في المعنى، ولذلك قيَّد المكر المذموم بوصف الشيء حيث قال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] فتقرر بهذه الآية أن المكر في نفسه غيرُ قبيحٍ لذاته، بل لوقوعه على وجهٍ قبيح، وهذا بَيِّنٌ ولله الحمد. وفي " صحاح " الجوهري (¬1) ما يدل على ذلك، فإنه فَسَّرَ المكر بالخديعة، ثم فَسَّرَ الخديعة في بابها (¬2) بأن يريد به المكروه من حيث لا يعلم، وهذا معنى صحيحٌ، فإن الله إنما يريد المكروه لمن يستحقه. ومنه قوله: {فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعاً} [الرعد: 42] وقد فُسِّرَ ذلك بالقدرة على المُجَازَاة مع علم الأعمال كلِّها والإمهال. ومن هذا النوع: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيها بِكُفْرِهم} [النساء: 155]. ومنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا ¬
بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] فكيف يحسُنُ أن يكون المعنى: حتى يُغَيِّرَ الله ما بأنفسهم، وكيف يصح أن لا يُغيِّرَ حتى يُغَيِّرَ، وكيف يُجعَلُ هذا هو معنى كلام الله على الحقيقة، فإلى هذا يَؤُولُ النَّظَرُ الصحيح. ومنه: {يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16]. ومنه: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80]. ومنه: {ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. النوع السادس عشر: أن الله وهو أصدق القائلين بأنه الغفور الغفار واسع المغفرة، فإما أن يكون الذنب من غيره والمغفرة منه، فذلك المعقول، أو يكون الذنب والمغفرة منه، فذلك المعقول، أو يكون الذنب والمغفرة منه معاً، فيكون غافراً لنفسه، وهذا شيءٌ لم يُعقَلِ التمدح به قط. النوع السابع عشر: قول يونس عليه السلام: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وما أعظم أدبه وألطفه عليه السلام حيث قَدَّمَ التسبيح قبل أن يُجْرِيَ ذِكرَ ظُلمه لنفسه، ناسِباً للظلم إلى نفسه دون رَبِّه، فما نَزَّهَ ربه إلاَّ في ذكر الظلم في خطابه لربه غير منسوب إلى ربه، كما نقول للملك العادل: إن الظلم -حاشاك من ذِكرِهِ- شِعارُ غيرك. ومن أدبه عليه السلام تقديم التسبيح على ذِكْرِ الظُّلم المنفيَّ عن الله، كأنه استقتح أن يتقدم ذكر الظلم في خطاب الله تعالى حتى يتقدمه تنزيه الله وتقديسه من مجرد مرور ذلك على لسانه في خِطَابِ الملك القدوس السُّبُوح، ربِّ الملائكة والروح. فكيف ترى مع ذلك تَحْسُنُ إضافة الظلم إلى الله بحرف " مِن " الدالة على الاختصاص، ولدلالتها على الاختصاص قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، فهذا في العقوبات لِلعُصاةِ التي خلقها وحده
سبحانه، فكيف بمعاصيهم الخاصة بهم التي أضافها إليهم، وذمهم بها، وعاقبهم عليها. النوع الثامن عشر: قال الله عز وجل: {الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه} [السجدة: 7] فكُلُّ ما كان من الله، فهو مخلوقٌ له، وكلُّ مخلوقٍ له، فهو حَسَنٌ بالنص والمعقول. أما النص فهذه الآية الكريمة، وأما المعقول فلأنَّه حكيمٌ ولا يجوز عليه الظلم، ولا العَبَثُ ولا اللَّعِبُ، فوجب الحُكْمُ على جميع أفعاله بالحسن، بخلاف معلوماته ومقتضياته المنسوبة إلى عباده شرعاً وعقلاً. ومن هنا أجمعت فِرَق أهل السنة على أنه لا بد من أثرٍ لقدرة العبد، فلا يجور أن يقال: الكفر من الله بهذا الاعتبار أيضاً، لأن الكفر مذمومٌ عقلاً وسمعاً وإجماعاً، وكذلك سائر المعاصي. النوع التاسع عشر: القول الكاذب من أقوال الكافرين، سواءٌ حكاها الله عنهم، كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24 - 25] أو لم يَحْكِهَا عنهم فإن القول بأنها من الله تصريحٌ بأن الكذب من الله، ولا فرق بين ذلك وبين تسميته منه، وذلك ممنوعٌ بالإجماع، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. النوع المُوفي عشرين: قوله تعالى: بعد ذكر تكليف العشرين بمئتين، والمئة بألف: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66]. ووجه الدليل من الآية الكريمة أن أفعال العباد لو كانت من الله تعالى، لما صحَّ تعليل التخفيف بضعفهم، لأن التعليل بذلك يقتضي أن الضعف وصفٌ لمن صدر منه الفعل الذي هو مغالبة (¬1) الكُفرَيْنِ، ولو كان ذلك الفعل صادراً من ¬
الله لَزِمَ أن يكون ضعيفاً، تعالى عن ذلك وعن ذكره عُلُوَّاً كبيراً. فهذا بالنظر إلى أفعال المؤمنين الغالبين. وكذلك لو كان فعل الكافرين المغلوبين من الله لزم منه محذوران فاحشان: أحدهما: أن يكون المؤمنون مُغالِبِين لربهم سبحانه وتعالى، وأن يكون آمِراً لهم بذلك. وثانيهما: أن يكون تعالى موصوفاً بأنه مغلوبٌ، تعالى عن ذلك. النوع الحادي والعشرون: قوله تعالى: {إلاَّ تَنْصُروهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] فكيف يكون عدم نَصْرِهِ من الله ونصره من الله (¬1)، وأمثال ذلك. النوع الثاني والعشرون: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا والله يُرِيدُ الآخِرَةَ}، [الأنفال: 67] فكيف تكون الإرادتان معاً منه. النوع الثالث والعشرون: قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون والسحرة: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 118 - 119] فكيف يُتَصوَّرُ الحق والباطل من جهةٍ واحدة؟ أو أن الغالب والمغلوب، والعزيز والصَّاغِرَ كذلك؟ فيكون الله تعالى كالمُغَالِبِ لنفسه، والمناقض لأمره أو حُكمِهِ، تعالى عن ذلك. النوع الرابع والعشرون: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) يَكَادُ (¬2) السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88 - 90]. ¬
تطابق القرآن والسنة والإجماع والعقول على حسن اعتراف المذنب بذنبه، وأنه من أسباب المغفرة
وهذا عند جميع المفسرين، بل العقلاء أجمعين، لشدة كراهة الله وبراءته منه وغضبه على مرتكبه، ولو كان قولهم هذا العظيم القبح من الله، وهو مرادٌ له محبوب مرضيٌّ، لم يُستفصح ولا يُستبلغ هذا الكلام ولا حَسُنَ هذا المذكور من هذه المخلوقات المطيعات الموافِقات لمولاهُنَّ. النوع الخامس والعشرون: قال الله تعالى: {وآخَرونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهم} [التوبة: 102]. وثبت في الحديث الصحيح " أن سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلاَّ أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت " (¬1). أجمع العلماء على أن تفسير أبوء بذنبي: أُقِرُّ وأعترف، نص على ذلك أهلُ السنة كالنواوي في " الأذكار " و" رياض الصالحين " و" شرح مسلم "، وابن الأثير في " النهاية " و" جامع الأصول ". فثبت أن القرآن والسنة والإجماع والعقول تطابقت على حُسْنِ اعتراف المذنب بذنبه، وأنه من أسباب المغفرة، وإنما بقي الكلام في تفسير الاعتراف: هل معناه اعتراف المذنب أن الذنب منه، أو اعترافه أنه ليس منه؟ فإن قال الخصم بالأول (¬2) انقطع النزاع، واجتمعت الكلمة على تقبيح القول بأن الكفر من الله. وإن قال: إنَّ الاعتراف في لغة العرب التي نزل عليها كتاب الله، وكانت لغة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو قول المذنب: إن الذنب ليس منه، عرفنا أنه معانِدٌ لا يستحق المناظرة. ¬
فإن ادَّعى إنه يمكنه إيرادُ أدلةٍ من القرآن والسنة ولغة العرب أن الاعتراف بالذنب هو الانتفاء منه، فليأت بها منسوبةً إلى مواضعها المعروفة كما فعلنا في أدلَّتِنا، فمرحباً بالوِفَاقِ، فإنه ليس بين المسلم وبين الحق عداوةٌ، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو الهادي إلى الصواب، لا إله إلاَّ هو. فإن رجع إلى أن العاصي وقدرته من الله، وأمثال ذلك، قلنا: هذا صحيح ومُجْمَعٌ عليه، ولكن ليس شيءٌ من ذلك يُسَمَّى ذنباً للعبد، وإنما كلامنا في القدر المختص بقدرة العبد عند أهل السنة المُسَمَّى ذنباً وكفراً وقبيحاً وفاحشةً، وأقل من هذا يكفي المُنْصِفَ، وأكثر منه لا يكفي المتعسِّف (¬1). وليس يَصِحُّ في الأذهان (¬2) شيءٌ ... متى (¬3) احتاج النهارُ إلى دليلِ (¬4) وقد كنت بسطت في هذه المسألة أكثر من هذا حتى سَئِمْتُ مع نشاطي، فظَنَنْتُ أن غيري أكثر سآمةً للتطويل مني، فاقتصرت خوف التنفير، وهذه الوجوه تُرَجِّحُ للسني قول الإمام المتفق على إمامته لفظاً ومعنى أبي المعالي الجويني، أحد أئمة أهل السنة، فإنه اختار أن فعل العبد أثر قدرته بمشيئة الله تعالى لتمكينه وسابق تقديره وتيسيره بالدواعي المقرونة بالحكمة والعدل، كما هو مُحقَّقٌ في موضعه من هذا الكتاب. ومما قلتُ في ذلك: ¬
الآيات القرآنية المرشدة إلى حسن العبارة فيما يضاف إلى الله تعالى من النعمة وكشف الضر
تَنَكَّبْ عن طريق الجبر واحذر ... غَوَائِل مُبْدَعَاتِ الاعتزال وسِرْ وَسطاً طريقاً مستقيماً ... كما سار الإمام أبو المعالي بأفْعالِ العِبَادِ غَدا إماماً ... رِضا عندَ التفرُّق غير غالي تكميلٌ يناسِبُ هذه الخاتمة: قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}. وكذلك قال في سورة الناس، وكذلك قال في سورة آل عمران: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] ولم يجعل الشر بيده مُسَمّى باسمه، ولذلك نظائر كثيرةٌ في كتاب الله تعالى. منها قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53 - 54]. وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. فانظر إلى ما في هذه الآية من الإرشاد إلى حسن العبارة فيما يُصاف إلى الله تعالى من النعمة وكشف الضُّرِّ اللَّذَيْنِ يسمى بهما مُنعِماً وكاشف الضُّرِّ، دون الضر نفسه، وإن كان من فعله، لأنه ليس بضُرٍّ بالنسبة إلى حكمته. ألا ترى أن إنزاله الضر بالظالم هو عين المنع للمظلوم، فهو يسمى به عادلاً بالنظر إلى الظالم، نافعاً محسناً بالنظر إلى المظلوم، ولذلك كثر مثل هذا في كتاب الله، وفي كلام أنبياء الله مثل إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه، لأنه قد يكون
عقوبةً على ذنبٍ كما في قصة أيوب، وقد يكون بأكل الإنسان بما يضُرُّه في العادة، وأضاف الشِّفاء إلى الله تعالى. وكذلك قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] كما تقدم. وقال الله تعالى في الزمر: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8]. وفيها أيضاً: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49]. وفي آخر السجدة: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 49 - 50] وبعدها: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51]. وفي آخر حم عسق: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48]. وفي هذه الآية الكريمة التصريح بالسبب في عدم إضافة ذلك إلى الله مع كونه فعله، وذلك بين قوله: {بِما قَدَّمَتْ أيدِيهِم} [البقره: 95] فهو مثلُ قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]. وقال الله تعالى في سورة يونس: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12]. وقال تعالى في هود: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ
لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9 - 10]. وقال تعالى في بني إسرإئيل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. وقال تعالى في الروم: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33]. وفي الروم أيضاً: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]. وهذه أيضاً مُوضحَةٌ للعلة في ذلك، مع ما فيه من النصوص كقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] الآيات في الزمر. وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]. وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] مع ما جاء في تفسيرها من الأحاديث. وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34]. ويقارب هذه الآيات في المعنى قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]. لكن هاتان وأمثالهما في ترك (¬1) بعض الخير لما علم (¬2) فيه من الشرِّ، وما ¬
تقدم في إنزال (¬1) الضر لدفع المعاصي لطفاً أو للعقوبة عليها. وربما جاء القرآن الكريم بلفظ إرادة السوء ولا يجيء بغيرها، لأنه يُشْتَقُّ لله منها اسم المريد كقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] ولم يقل: وإذا أساء إلى قوم، ولا أساء إليكم لوجهين: أحدهما: أنه لو قال ذلك، لسُمِّي مُسِيئاً، وذلك لا يجوز قطعاً، إنما يسمى عادلاً حكيماً في جميع عقوباته. وثانيهما: أن إرادة الله تعالى لم تُعلق إلاَّ بالسوء -بضم السين- الذي معناه هو المكروه في الطبيعة، وهذا يسمى محسناً كيف مريد؟ ولا أعلم شيئاً من الأول صريحاً إلاَّ ما يحتمل التأويل من قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] وهذا يشبه قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] مع أن الجزاء حَسَنٌ لا سَيِّىءٌ، لكن سمَّاه باسم السيئة الأولى على جهة المطابقة، وهي أحد أنواع البديع. وهذا لما سمَّاه ضُرّاً في أول الآية حيث وقع مراداً أضافه إلى نفسه بذلك الاسم المتقدم، مع القطع بأنه بالنَّظَرِ إلى حكمته عدلٌ وحكمة، وأن ما كان عدلاً وحكمةً لا يستحق أن يسمى ضراً حقيقة كما لا يُسَمَّى فِعلُ الطبيب بالمريض ضُرّاً. وكذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 17 - 18] فيه صرفٌ لاسم الضُّرِّ عن الله حيث قال: {يَمْسَسْكَ بِضُرِّ}، وفي آخر يونس مثلها ولم يقل: يَضُرُّكَ. ¬
بيان القول: أنه لا يجوز إفراد الضار عن النافع في الأسماء الحسنى
وهنا تنبيهٌ على نقض الحكم فيه بقوله: {فلا كاشف له إلاَّ هو} وذلك أنه نَبَّه بذلك على الرجوع فيه في كشفه، وذلك من الدواعي إلى إنزاله، وفي آخر الآية إشارةٌ إلى أن المراد التمدُّح بكمال القدرة والملك، فسُمِّي الله بهذه الأسماء، ويُشتَقُّ له من ذلك أحسن الأسماء لا حَسَنُها، وهي هذه الأربعة: القدير، القاهر، الحكيم، الخبير. ولذلك اختار الله تعالى للقِصاص اسم الحياة، لأنها هي المقصودة به، فقال: {وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ولم يسمه ضُرّاً. لذلك سلمنا أنه يسمى ضراً، فلا نُسَلِّمُ أنه يسمى بذلك ضارّاً، فقد جاء في كتاب الله سبحانه أن الله يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، ولم يرد في الأسماء الحسنى أنه المُغْوِي المضل، وإنما ورد فيها أنه النور الهادي، وذلك أنه لا تُسَمَّى إلاَّ الحسنى توقيفاً كما نصَّ على ذلك: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] فكان ذلك منه عدلاً لِحكمةٍ بالغة يسمى بها عادلاً لا مُضِلاًّ، وديَّاناً عزيزاً خَفِيَّ الحكمة، لا ظالماً ولا لاعباً، فافهم هذا، فإنه يفتح لك باب الفهم في أسماء الله الحسنى. ولذلك قال غير واحدٍ من العلماء: إنه لا يجوز إفراد الضارِّ عن النافع في الأسماء الحسنى، لأن مضرته للظالم هي عين منفعته للمظلوم، فهو نافعٌ بعين ما هو ضارٌّ، بل اسم النافع أولى به في ذلك الضرِّ، لأنه إنما أراد النفع بذلك الضُّرِّ لا الضُّرَّ، فمراده بضرر الظالم هو منفعة المظلوم لا مضرَّةُ الظالم، ولذلك أمر المظلوم بالعفو عن الظالم في كتابه وعلى لسان رسوله، وحثَّهُ على ذلك، ووعده عليه العفو والمثوبة. فلو كان مُراده بالعدل والانتصاف مضرَّة الظالم حَرَّمَ العفو عنه ولم يأمر به، ويدل عليه قوله تعالى: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14] بضم الكاف وكسر الفاء، وهو نوحٌ عليه السلام. فكان الداعي إلى جزاء الكافرين ما فيه من المثوبة للأنبياء والمؤمنين، وفي
ذلك آياتٌ كثيرة ذُكِرَتْ في غير هذا الموضع في ترجيح عقوبة الكافرين على العفو عنهم، ولا مُوجِبَ لقَصْرِ قوله: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} على أقرب مذكورٍ، بل الظاهر أنه تعليل لجميع ما قبله من هلاك قومه ونَجاتِهِ، كقوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15]. فثبت أن مراده بمضرَّة الظالم منفعة المظلوم، وهو يسمى بذلك نافعاً ومُحسِناً وعادلاً، ولذلك قلتُ في ممادحه تعالى: تبارك من أدنى مَمَادِحِهِ العَدْلُ ... ومُوجِبُهُ منه المحامِدُ والفَضْلُ فقد عاد منه العَدْلُ فضلاً وكَمْ به ... لأضْدَادِ سُبلِ الحمدِ قد جُمِعَ الشَّمْلُ والمعنى في البيت الثاني أنه لم يَعْدِلْ من الفضل إلى العدل إلاَّ لحكمةٍ راجحةٍ هي تأويل المتشابه الذي لو عُلِمَ، لظهر أن ذلك العدل مُشتَمِلٌ على ما يُصيِّرُهُ فضلاً راجحاً في الغاية الحميدة التي يجب الإيمان بها في جميع أفعاله، فإنه سبحانه لا يجوز عليه على الصحيح فعل المباح المتساوي الطرفين لأنه هو اللعب والعيب، وهو مُنَزَّهٌ عنهما. واعلم أنهم إنما نصُّوا على أنه لا يجوز إفراده عن النافع، لأنه وحده ليس باسمٍ حَسَنٍ (¬1) مُشتَمِلٍ بنفسه على الحمد والثناء، ولو كان كذلك، لأُفْرِدَ ولم يجب أو يُستَحَبَّ ضَمُّه إلى النافع، وقد نبَّه الله تعالى على الذم للضُّرِّ الذي لا نفع عليه حيث قال: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13]. فإن قيل: إن عذاب الآخرة من الله تعالى، وهو أعظم المضارِّ (¬2). ¬
قلت: ليس عذاب الآخرة منسوباً إلى الله تعالى من كل جهةٍ، بل من جهةٍ دون جهةٍ، كالكسب عند الأشعرية سواء، فإنه منسوبٌ إلى العبد لكونه جزاء ذنوبه، ومُتَفَرِّعاً عليها ومتولِّداً عنها، فهو من العبد ظُلمٌ لنفسه وضَرٌّ لها، ومن الله عدلٌ وحكمةٌ لا ظلمٌ ولا ضَرٌّ، وذلك لقوله تعالى: {ذُوقُوا ما كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] وفي آية: {ذُوقُوا ما كُنتُم تَكسِبُونَ} [الزمر: 24] سمَّاه كسباً لهم وعملاً، وقوله: {ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ ليوم القيامة} [الأنبياء: 47] وأمثالها، ولقوله: {ومَا ظَلَمُونا ولَكِنْ كانوا أنْفُسَهم يظلمون} [البقرة: 57]، [الأعراف: 160]. ولو كان العذاب من الله تعالى ضرّاً (¬1) محضاً من كلِّ وجهٍ لم يوصف بأنه كسبهم، وأنه ظُلمٌ من العبد لنفسه، ولا قال الله: {فَأخْرَجَهُما مِمَّا كانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، ولا قال: {مَا أصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، ولا قال أيوب عليه السلام في عقوبة الله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]. فالعدل فيه بَيِّنٌ، حيث كان جزاءً وفاقاً وقع بعد (¬2) التمكين والتقدم بالإنذار والقطع للأعذار، وإشهاد العدول والوزن بموازين الحق، والحكمة فيه من حيث إن له تأويلاً لا يعلمه إلاَّ الله، ولولا ما فيه من الحكمة الخفية التي اختصَّ بعلمها ربنا سبحانه وتعالى ما احتاج إلى التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وتمامُ هذا مذكورٌ في مسألة الحكمة في الشُّرور، والله الموفق. وحيث لم يصح أن الضَّرَّ في نفسه اسمٌ حَسَنٌ (¬3)، كيف يدخل في الأسماء الحسنى، وإنما معنى الأسماء الحسنى ما يفيد أحسن المدح الحَسَنِ، والوصف الجميل الحميد اللاَّئِق بالمَلِكِ المجيد، لأن الحسنى أحسن الأسماء لا حَسَنها، ولهذا قال العلماء: لا يقال: يا ربَّ الكلاب والخنازير، وإنما يقال: ¬
يا ربَّ كلِّ شيء، أو يقال: يا رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، فافهم المعنى في الأسماء الحسنى. بل قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، ولم يقل: إني أنا المعذِّب المُؤْلِم، فجعله من مخلوقاته لا من أسمائه الحسنى. فلو قيل: إنه مُنزِلُ الضر أو مُقدِّرُه أو خالقه، سلَّمنا أنه يسمى ضراً، فلا نسلِّم أنه يسمى بذلك ضارّاً، كان أنسب (¬1)، على أن اسم الضار مقروناً بالنافع لم يرد في " الصحيح " مع رواية البخاري ومسلم أوَّله، وهذا أشدُّ في العِلَّةِ فيه، وإنما رواه الترمذي (¬2) ولم يُصَحِّحْهُ ولم يُحَسِّنْه أيضاً، بل نص على أنه ليس له إسنادٌ صحيحٌ. وحسَّنه النواوي (¬3) وصححه الحاكم (¬4) وتُعُقِّبا بأنه لم يُرْوَ إلاَّ من طريق صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة. ¬
تفرَّد به صفوان، عن الوليد، وصفوان ثقةٌ ولكن الوليد مدلس مكثر من التدليس حتى عن الكذابين، وتَعانَى تدليس التسوية فلا ينفع قوله: حدثنا ولا سمعت، لأن معنى تدليس التسوية أنه قد سمع من شيخه شعيبٍ، ثم أسقط شيخ شعيبٍ الذي بينه وبين أبي الزِّناد، فيحتمل أن يكون في الإسناد ساقطٌ ضعيفٌ، بل كذَّابٌ، فكيف يَحسُنُ الحديث مع هذا، مع أنه قد رواه الثقات الحفَّاظ عن أبي الزناد بغير ذكر الأسماء. وقد رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن ابن عيينة، عن أبي الزناد بغير ذكر الأسماء (¬1). ورواه البخاري والنسائي من حديث شعيب بغير ذكرها. ورواه البخاري عن أبي اليمان الحكم بن نافع، والنسائي عن علي بن عياش كلاهما عن شعيب بغير ذكر الأسماء (¬2). ولذلك ذكرتُ أن صفوان لم يتابع على ذلك، عن الوليد (¬3)، ولم يتابع الوليد على ذلك عن (¬4) شعيب، كما لم يُتَابَعْ شعيبٌ على ذلك عن أبي الزناد، ولو صَحَّ شعيب. وأما قول الحاكم: إنه لا خلاف أن الوليد بن مسلم أوثق وأحفظ وأعلمُ وأجلُّ من أبي اليمان، وبِشر بن شعيب، وعلي بن عياش، فما يُغْنِي ذلك شيئاً مع ما ذكرنا من التدليس الفاحش عنه وتدليس التسوية، فما يصح له مع ذلك حديثٌ ¬
الكلام في أن سرد الأسماء الحسنى إنما هو مدرج في الحديث وإنما جمعوها من القرآن
إلا أن يَخْلُوَ الإسناد عنه، وعمن فوقه من العنعنة ونحوها منه إلى الصحابي على أقل الأحوال، ولم يحصل ذلك. وقد قال الحاكم: إن الوليد بن مسلم تفرد بسياقه، وإن ذلك هو العلة فيه عند البخاري ومسلم (¬1). فهي عِلَّةٌ قوية. وأما قول الحاكم: إنه قد وُجِدَ الحديث عند عبد العزيز فهو ابن حُصَيْن، وثَّقَهُ الحاكم، وقال ابن حجر في " تلخيصه " (¬2): بل هو متفقٌ على ضعفه. وذكر ابن كثير له شاهداً من طريق زهير بن محمد، عن موسى بن شعيب (¬3)، عن الأعرج. وزعم أن ابن ماجه روى ذلك، وطَلَبْتُه في كتاب " الأطراف " عن المِزِّي فلم أجده، ولا ذكر ابن ماجه شيئاً في هذه الترجمة، فيُحَرَّرُ ذلك. ثم قال: وقال ابن كثير في " إرشاده " (¬4) في كتاب الأيمان منه ما لفظه: والذي عوَّل عليه جماعةٌ من الحُفَّاظ المُتقنين أن سَرْدَ الأسماء في هذا الحديث مُدرَجٌ فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمدٍ أنه بلغه عن غير واحدٍ من أهل العلم أنهم قالوا ¬
ذلك: أي أنهم جمعوها من القرآن كما رُوِيَ عن جعفرٍ الصادق (¬1) بن محمد، وسفيان بن عيينة، وأبي زيدٍ اللغوي (¬2). انتهى بحروفه. وهو عندي قويٌّ جداً. فإذا كان كذلك لم يسلم لمن استنبط ذلك إدخال الضَّارِّ في الأسماء الحسنى بالرأي، فإنه شبيهٌ بالمُضِلِّ المُغْوِي المقابل لاسم (¬3) النور الهادي، وهو غير مناسب لما قدمت ذكره من الآيات، بل يسمى إضلال الفاسقين المستحقين لذلك عادلاً لإخفاء الحكمة دياناً مبتلياً عزيزاً ونحو ذلك. وكيف يوصف باسم الضارِّ على جهة المدح من مدحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه: " لا يَضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم " فيما خرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه (¬4). وهو يعُمُّ جميع أسماء الله الحسنى، لأن تخصيصه لبعضها تحكُّمُ، وهو يصلح لإرادة العموم مع اسم الضار النافع أيضاً على ما يأتي، مع أنهما معاً في معنى مالك الضر والنفع، وذلك في قوة مالك الملك، لكن شرط صحته ورود السمع بذلك. وتلخيص الدلالة في الحديث أن من تمدح بأنه لا يضر مع اسمه شيء لا يصح أن يكون اسمه ضاراً، ومن لا يصح أن يكون اسمه ضارّاً (¬5) لا يصح أن ¬
يكون ذاته ضاراً ولا فعله -كما ذكره ابن قيم الجوزية، ويأتي كلامه الآن- مُصَادِمٌ للحديث الصحيح عن علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في التوجه في الصلاة: " الخير بيديك، والشر ليس إليك ". رواه مسلم، وإسناده على شرط الجماعة، لأنه من حديث عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عُبيد الله بن أبي رافع عنه به (¬1). وروى الحاكم (¬2) في تفسير سورة بني إسرائيل نحو ذلك من حديث حُذيفة بن اليمان، وقال: على شرط الشيخين، وذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - أدخل ذلك في الثناء على الله تعالى في المقام المَحْمُود الذي فتح الله عليه فيه أحبَّ الثناء إليه، فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختص التوجه إلى الله في الصلاة، والتوسُّل إليه في ذلك المقام المحمود، إلاَّ بأحب المحامد إليه، وأكرَمِها عنده، وأعزِّها عليه، فكيف يكون نقيضها في الأسماء الحسنى؟ فتأمل ذلك. وقد تقدم (¬3) قول النواوي في " الأذكار " و" شرح مسلم ": إن معنا. ليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمتك فيه. وقد وقع لي مرةً أن من حِكَمِ الله التي لا تُحْصى في تقدير الشرور أن النِّعَمَ قسمان: جلبُ نفعٍ أو دَفْعُ ضررٍ، وأعظمهما (¬4) موقعاً في قلوب البشر، وأقواهما أثراً في إيقاظ الغافلين عن الشكر: هو دفع الضر، حتى لا تجد النعمة محل موقعها إلاَّ إذا كان فيها خروجٌ من ألمٍ وشدةٍ كالشرب بعد شدة الظَّمإ، والأمانِ بعد شدة الخوف، والوِصال بعد طول المهاجرة، وبلوغ الرجاء بعد اليأس، ¬
وحتى قال بعضُ علماء الكلام: إن اللذة هي الخروجُ من الألم. وإذا تقرر ذلك لم يمتنع (¬1) أن يكون من حِكَم الله في الشرور أن يكون له الشكر على كِلتا (¬2) النِّعمتين، وذلك على مقتضى الحديث الصحيح أنه " لا أحد أحبُّ إليه الحمد من الله " ويكون لأوليائه من مراتب الصبر الرفيعة ما (¬3) يكون لخالص الذهب عند إخلاصه، ثم يكون لهم من الثناء والثواب ما يقتضي (¬4) اسمه الشكور سبحانه، ومن ثَمَّ قال في حق خليله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110]. فتارة يبتلي بمجرد الخوف، ثم ينجي من الوقوع في المخافة بعد حصول الرجوع إليه بالدعاء، ومعرفة الإجابة (¬5) وقوة اليقين. وتارة يبتلي بوقوع الضر، ثم يكشفه عن العبد بعد ذَوْقِ العبد الذلة (¬6) والضرورة، وتضرعه إلى سيده ومولاه، ومعرفته له بكشف الضّرِّ عقيب دعائه، فيكون لله تعالى من ذلك اسم كاشف الضر، ومجيب الدعاء، والمغيث والمعين، ونِعْمَ المُستغاثُ والمستعان، وأمثال ذلك كما نبَّه القرآن عليه فيما ذكرته من الآيات. ثم وجدت هذا منصوصاً في حديث خلق آدم، وفيه: " أن الله تعالى أخرج ذرِّيَّتَه وأَرَاهُ إيَّاهُم، فرأى فيهم الغني والفقير، والصحيح والسقيم، فقال: يا رب، هلاَّ سوَّيت بين ذريتي، فقال تعالى: فعلتُ ذلك لتشكر نعمتي ". رواه ابن كثير ¬
كلام ابن القيم في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "والشر ليس إليك"
من طرقٍ في أول " البداية والنهاية " (¬1). وقال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي، وهو ابن قَيِّم الجوزية في كتابه " حادي الأرواح " (¬2): ولم يقف على المعنى المقصود من قال: إن المعنى: والشر لا يُتقرَّبُ به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ من الوجوه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المُطلَقُ من جميع الوجوه، وصفاته كلها (¬3) يُحمد عليها، ويُثنى بها، وأفعاله كلها خيرٌ ورحمةٌ وعدلٌ وحكمةٌ لا شر فيها بوجهٍ، وأسماؤه حسنى، فكيف يضاف إليه الشر، إذ الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصلٌ عنه، إذ فعله غير مفعوله، ففعله خيرٌ كله، وأما المفعول المخلوق ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً (¬4) فهو لا يضاف إليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: ولا أنت تخلق الشر (¬5)، حتى نطلب تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفاً (¬6) وفعلاً واسماً. انتهى ذلك. فمن اعتقد صحة حديث الأسماء وتَعْدادها على مذهب المتساهلين في التصحيح، وعدم النظر إلى إعلالها بمخالفة الحفاظ الثقات، أو قَلَّد من صحح واستأنس بمتابعة الأكثر على القبول، فليعتقد في معنى ذلك أمرين: أحدهما: أنه تعالى الضارُّ النافع بضره، المحسن فيه، العادل به، المحمود عليه، المانُّ به، المستحق أن يسمى ضره نفعاً ومِنَّةً وفضلاً ونعمةً ورحمةً، بالنظر إلى ما فيه من الحكمة، وأن يسمى هو سبحانه بسببه نافعاً عادلاً محسناً محموداً، واستُحِبَّ له أن يتلفظ بذلك أو أكثر منه. ألا ترى إلى قول ¬
الضار النافع اسم مركب من كلمتين كعبد الله
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة، وَلْيُحِدَّ أحدُكم شفرته وَلْيُرِحْ ذبيحته " (¬1). فهذا في أفعال عباده، فكيف أفعال الحميد المجيد؟! ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار " رواه الترمذي وابن ماجه (¬2). وفيه تنبيهٌ على أن الله تعالى يستحق الحمد على الإطلاق في الدَّارَيْن على العقوبة والمثوبة، وما حلا أو مَرَّ، أو نفع أو ضر، لكنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ مما لا يطاق الصبر عليه، كما سأل العافية وأمر بسؤالها. ومن ذلك قيل في محامده تعالى: الحمد لله الذي لا يُحْمَدُ على المكاره سواه. ولذلك قال الله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعد قوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43 - 44]، وبعد قوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41]. كما قرَّره ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح إلى دار الأفراح " وتقدم منه ما يكفي آخر الكلام في الأقدار، ولكني أفردتُه في جزء والحمدُ لله. وثانيهما: أن اسم الضار لا يجوز إفراده عن النافع، وحينئذ يصيران معاً كالاسم الواحد المركَّبِ من كلمتين كعبد الله، فلو نطقت بأحدهما وحده لم ¬
يكن اسماً مستقلاًّ للمسمى به، فلا يكون الضارُّ اسماً مستقلاً، بل الاسم: الضار النافع، لأنه في معنى: مالك الضر والنفع، بل في معنى: مالك الملك، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]. وهذا معنى مناسبة الأسماء التي بهذا الاعتبار، ومتى أفْرَدْتَ الضَّارَّ لم يُناسِب ذلك البتة، فليلزم هذا المعنى في قلبه ولسانه كل من أطلق هذا الاسم على الله تعالى وظن صحته، وقد نص على هذا غير واحدٍ من أهل العلم، ويدل (¬1) على ما اخترته ما تقدم من نحو قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1 - 2] إلى آخر السورة، وتواترت الأحاديث بنحو ذلك، ولم ترد الاستعاذة من شرِّ الله أبداً، بل من شر الشيطان وشركه، كما روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، مُرني بكلماتٍ أقولُهُنَّ إذا أمسيت وإذا أصبحت، قال: " قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربَّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشِرْكِهِ " رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (¬2). وروى أبو مالك مثل حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه: " نَعُوذُ بك من شرِّ أنفسنا، وشر الشيطان الرجيم وشركه، وأن نقترف سوءاً [على أنفسنا]، أو نَجُرَّه إلى مسلمٍ " رواه أبو داود (¬3). وفي حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ بك من شرِّ كلِّ شيءٍ أنت آخِذٌ بناصيته " (¬4). ¬
وعن علي رضوانُ الله عليه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند مضجعه: " اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التَّامَّات من شر كل دابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها " رواه أبو داود (¬1). وروى بُرَيدة أن خالد بن الوليد شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينام الليل من الأرَقِ، فعلَّمه يقول إذا أوى إلى فراشه: " اللهم رب السماوات السبع وما أظَلَّتْ، والأرضين وما أقَلَّتْ، والشياطين وما أضَلَّتْ، كُنْ لي جَاراً من شَرِّ خلقك كُلِّهم جميعاً أن يفرُط عليَّ أحدٌ أو يبغي عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك " رواه الترمذي (¬2). ورواه الإمام مالك في " الموطأ " (¬3) ولفظه: "أعوذ بكلمات الله التامة من ¬
غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون". فانظر كيف جَنَّبَ غَضَبَه وعقابه اسم الشر لَمَّا كانا مقرونين بالعدل والحكمة. وروى الترمذي نحوه من حديث عبد الله بن عمرو (¬1). وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: " يا أرضُ رَبِّي وربك الله، أعوذ بالله من شَرِّكِ وشَرِّ ما خلق فيك، وشر ما يدُبُّ عليك " رواه أبو داود (¬2). ¬
وفي سيد الاستغفار: " أعوذ بك من شر ما صنعتُ " رواه البخاري (¬1). ولذلك ترجمةٌ يطول تقصِّيها، وجملتها معلومةٌ، ومعلومٌ تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للربِّ تقدَّسَتْ أسماؤه من إضافة اسم الشر وما يُرادِفُه إلى الله تعالى. وأما الاستعاذة: فهي الاستجارة، ولا يُجِيرُ على الله سواه كما قال. وقد أوجب العلماء العمل بالراجح في أحكام المعاملات الدنيوية، فكيف لا يجب المصير إليه، والنُّصرة له في أسماء الله الحسنى، التي هي أعز ما في كتاب الله سبحانه، الذي هو أعز ما في الوجود بعد الله عز وجل. ولقد غيَّر (¬2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سَمَّى شِعْبَ الضلال شِعْبَ الهدى. رواه أبو داود (¬3). وغَيَّرَ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ حَرْبٍ وحَزْنٍ من أسماء أصحابه (¬4)، فكيف بأسماء الله الحسنى؟! وذمَّ الله تعالى الذين يجعلون لله ما يكرهون، فلا ينبغي التسامُحُ فيها، والقنوع بأدنى تأملٍ، والتقليد من غير ترجيحٍ، ولا يثبت التصحيح على من أطلق ذلك فلم يُرِدْ إلاَّ الخير، ولكن الأولى أن يجمع بين طيب العبارة وطِيبِ ¬
كلام الغزالي في شرح الضار النافع
المعنى، وبلوغ الغاية القصوى في ذلك. ومنه جاء ذكر يمينه في القرآن دون شماله، وفي الحديث: " كِلتا يديه يمينٌ " (¬1)، ولم نُرِدْ بتجَنُّب هذا الاسم في الأسماء الحسنى ما أراد من نفي سبق المقادير، أو ضعف مشيئة من هو على كل شيء قدير، وإنما أردنا أنه لا يصح اشتقاق هذا الاسم له من تلك المقدورات (¬2) المخلوقات الضارة لحكمته فيها البالغة، وإرادته فيها ما لا نعلمه من المنافع والعدل والدفع واللطف والاعتبار، كما أن الطبيب مع قطعه بعض الأعضاء، وكَيِّهِ بالنار لبعضها، لا يسمى ضاراً للأليم بالإجماع، فكذلك أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين. ألا تراه خلق الظلمات والنور جميعاًً، ويُسَمَّى النور لا الظلام، وخلق الشرَّ ولا يُسمَّى الشِّرِّيرَ (¬3)، ونحو ذلك. وكذلك اسم الضارِّ مع عدم الاتفاق على صحة وُرُودِ ذلك في السمع، فتأمل ذلك، واحذر كل الحذر من ظنِّك أنا قلنا (¬4): إن الله ليس بخالقٍ للضرِّ ولا مريدٍ ولا مُقدِّرٍ، وإنما قلنا: إنه خلقه ليُسَمَّى بسببه كاشف الضر، والنافع الدافع له. ألا ترى أن الحُمَّى حَظُّ المؤمن من النار، والحدود كفارات لأهلها مع تسمية الله لها نَكالاً وعقاباً، والكافر يُلْقَى في النار فِداءً للمسلم، ويُقتَلُ في الدنيا ليَشْفِيَ الله صدورَ قومٍ مؤمنين ويُذهِبَ غيظ قلوبهم. وقد بُسِطَ هذا في الحكمة في عذاب الكفار في الآخرة. وأما قول الغزالي في شرح هذا الاسم في " المقصد الأسنى " (¬5): فلا تظنَّنَّ ¬
أن السُّمَّ يَضُرُّ بنفسه، وقوله: إن الأمور الضارة في حق الرب سبحانه كالقلم للكاتب (¬1). إلى آخر كلامه في تحقيق نسبة الضرِّ إلى الله وإن كان على الجن والإنس والشياطين. وتلخيص ذلك فما أوجب ضمه إلى ما قرره في هذا الكتاب بنفسه، وفي مقدمة " إحياء علوم الدين " فإنه كشف الغطاء عن هذه الشبهة فقال في " المقصد الأسنى " (¬2) في شرح الرحمن الرحيم ما لفظه: سؤالٌ وجوابه، لعلك تقول: ما معنى كونه تعالى رحيماً وأرحم الراحمين، والدنيا طافحةٌ بالأمراض والمِحَنِ والبلايا، وهو قادرٌ على إزالة جميعها، وتاركٌ عباده مُمتَحَنِينَ. فجوابه: أن الطفل المريض قد تَرقُّ له أمُّه، فتمنعه من الحِجَامَةِ، والأبُ العاقل يَحمِلُه عليها قهراً، والجاهل يظن أن الرحيم هو الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب بالحِجامة من كمال رحمته، وأن الأم عَدُوٌّ له في صورة صديق، فإن ألم الحجامة القليل إذا كان سبباً لِلَّذَّة الكثيرة لم يكن شراً، بل كان خيراً. والرحيم يريد الخير بالمرحوم لا محالة، وليس في الوجود شرٌّ إلاَّ وفي ضِمْنِهِ خيرٌ، ولو رُفِعَ ذلك الشر لبطل ذلك الخير الذي في ضمنه، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمن ذلك الخير. قلت: وما أبين هذا المعنى وأوضحه في كتاب الله تعالى كما مضى قريباً، ولو لم يَرِدْ في ذلك إلاَّ قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75]، وقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27] وقوله: {وَعَسى أنْ تَكرَهُوا شَيئاً وهُوَ خَيرٌ لَكُمْ ¬
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. قال الشيخ (¬1): واليد المتآكلة قطعها شرٌّ في الظاهر، وفي ضمنها الخيرُ الجزيل، وهو سلامة البَدَنِ، ولو تُرِكَ قطعها لحصل هلاك البدن، ولكن قطعها لسلامة البَدَن شرٌّ، وفي ضمنه خيرٌ، لكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع هو السلامة التي هي خيرٌ محضٌ، وهي مطلوبةٌ لذاتها ابتداءٌ، والقطع مطلوبٌ لغيره ثانياً لا لذاته، فهما داخلان تحت الإرادة، لكن أحدهما مُرادٌ لذاته والآخر لغيره، والمراد لذاته قبل المراد لغيره، ولأجل ذلك قال الله تعالى: " سبقت رحمتي غضبي " (¬2) فغضبه إرادته الشر، والشر بإرادته، ورحمته إرادته الخير، والخير بإرادته، ولكن إرادة الخير للخير نفسه، وإرادة (¬3) الشر لذاته، يعني لكونه شراً، بل لما في ضمنه من الخير، فالخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض (¬4) وكلٌّ بقدرٍ، وليس ذلك مما يُنافي الرحمة أصلاً. والآن إن خَطَر لك نوعٌ من الشر لا ترى فيه خيراً، أو خطر لك أنه كان يمكن حصول (¬5) ذلك الخير لا في ضمن الشر، فاتهم عقلك القاصر في أحد الطرفين (¬6): إما في قولك: إن بعض (¬7) الشر لا خير تحته، فإن هذا مما تقصُرُ العقول عن معرفته، مثل أمِّ الصبي التي ترى الحِجامة شراً مَحْضاً، ومثل الغبيِّ الذي يرى القتل قِصاصاً شراً محضاً، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول، وأنه في حقه شر محضٌ، وذَهَلَ عن الخير العامِّ الحاصل للناس كافةً، ولا يدري ¬
أن التوصل بالشر الخاصِّ إلى الخير العام خيرٌ محضٌ، لا ينبغي لحكيمٍ (¬1) أن يُهْمِلَه. واتهم خاطِرَك الثاني وهو قولك: إنه يمكن تحصيل ذلك الخير لا في ضمن ذلك الشر، فإن هذا أيضاً دقيق [غامض]، فليس كلُّ مُحالٍ ومُمْكنٍ مما يُدرَك إمكانه واستحالته بالبديهة، ولا بالنظر القريب، بل يُعرف ذلك بنظرٍ غامضٍ دقيقٍ يَقْصُرُ عنه الأكثرون. فاتَّهِمْ عقلك في هذين الطرفين، ولا تشكَّ أصلاً في أنه أرحم الراحمين، وأنه سبقت رحمته غضبه، ولا تَستَرِيبنَّ (¬2) في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق اسم الرحمة، وتحت هذا سر منع الشرع من إفشائه، فاقنع بالإيماء (¬3) ولا تطمع في الإفشاء، ولقد نَبَّهت بالإيماء والرمز إن كنت من أهله فتأمل. لقد أسمعتَ لو نَادَيْتَ حَيّاً ... ولكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي (¬4) هذا حكم الأكثرين. وأما (¬5) أنت أيها المقصود بالشرح، فلا أظنك إلاَّ مستبصراً بسِرِّ القدر، مستغنياً عن هذه التحويمات (¬6) والشبهات. انتهى بحروفه. وهو قريبٌ من مذهب البغدادية، أو هو هو، وقد نصره شيخُ الإسلام الحَرَّاني إمام المعقولات والمنقولات، وجوَّد تلميذه ابن قيِّم الجوزية ذلك في ¬
كتابه " حادي الأرواح " وأفْشَى هذا السرَّ كما يأتي في مسألة دوام العذاب، ولم يَرَوْهُ سراً (¬1)، بل ذكروه (¬2) عن جماعةٍ وافرةٍ من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، واحتجوا عليه بالكتاب والسنة، وإن كان الوقف عما تجاسروا عليه أحوط في الدين وأولى بمن يحب اتباع السلف الصالحين، لكنه خير من الرمز بالأسرار في أمور الإسلام لما يؤدي إليه من سوء الظنون. مع أنه يمكن أن الغزالي أراد ما ثبت النهي عنه من إظهار (¬3) الرحمة والرجاء لمن يخاف عليه الفساد، وقد اختلفت الآثار في هذا المعنى، واستقرَّ الأمر على جواز رواية الأخبار في ذلك، كما يجوز تلاوة الآيات المُقتضية لذلك، ومن عصى الله تعالى بسبب ذلك، فما أُتِيَ إلاَّ من سوء اختياره (¬4)، إذ قد سمع تلك البِشَارات خلقٌ كثيرٌ من السلف الصالح ومن بعدهم، فشكروا عليها، وازدادوا نشاطاً، فالعاصي (¬5) بذلك كالعاصي بسماعه أن الله غفور رحيم، والله سبحانه أعلم. وأما قول الغزالي: إنه لا يمكن خلو الخير من الشر، فإن أرادَ في أنظار العقول، فذلك يُمكِنُه دعواه، والتشكيك فيه، والتجويز البعيد له، ولعل مراده في بعض مدارك العقول على سبيل المعارضة للشبه الفلسفية (¬6) بمثلها، وأما بالنظر إلى البراهين السمعية، فإنه معلومٌ ضرورة إمكان تحصيل كل خير بقدرة الله تعالى خالصاً من الشرور، ولكن لا يعلم أن ذلك أرجح بالنظر إلى حكمته التي هي تأويل المتشابه. فإن نازَعَ في هذا المقام منازِعٌ رَدَدْناه إلى السؤال الأول، وكم بين نعيم ¬
الجنة بعد مقاساة مصائب الدنيا وضروراتها وهمومها، وبين لَذَّتِها لو خُلِقَ أهلها فيها قبل ذلك؟! كما أنه لا يخفى أن لذة شرب الماء العذب بعد العطش الشديد أعظم منها قبله، وقد أوضحت هذا في مرتبة الدواعي، فيراجع (¬1) منها. وقد تواتر خَرْقُ العادات في المعجزات، ونطق القرآن بأن عيسى كان يُحيي الموتى، ويُبْرِىءُ الأكمه والأبرص، وأجابه الله في إنزال المائدة كما أجاب سليمان عليه السلام في إعطائه ذلك الملك العظيم الخارق لعادات ملوك المخلوقين أجمعين. وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 40 - 41] في آياتٍ كثيرةٍ في هذا المعنى دالةٍ على أن لله تعالى حكمةً في خلق المذنبين، مع قدرته على تبديلهم بخيرٍ منهم، لولا ما سبق في حكمته وحق من كلماته (¬2). وقال تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] مع أنه تعالى لم يفعل ذلك في حقِّ أهل الأُخدود، فدل على شمول قدرته، وغموض حكمته، وقد تواتر الأمر بسؤال العافية في الدَّارَيْنِ، وأجْمَعَ المسلمون على ذلك. وقال الغزالي أيضاً في كتاب العلم من " إحياء علوم الدين " (¬3) في أقسام العلوم الباطنة ما لفظه: القسم الثاني من الخفيات التي منع الأنبياء والصِّدِّيقون من ذِكْرِها: ما هو مفهومٌ في نفسه لا يَكِلُّ الفهم عنه، ولكن ذِكْرُه يَضُرُّ بأكثر المستمعين، ولا يَضُرُّ بالأنبياء والصدِّيقين، وسرُّ (¬4) القدر الذي منع أهلُ العلم به من إفشائه من هذا القسم (¬5)، فلا (¬6) يبعد أن يكون ذكر بعض (¬7) الحقائق مُضِرّاً ¬
ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش، وكما يضر ريح الورد بالجُعَل، وكيف يبعد هذا؟! وقولنا: إن الكفر والزنى والمعاصي والشرور (¬1) بقضاء الله وإرادته ومشيئته حقٌّ في نفسه، وقد أضر سماعه (¬2) بقوم إذا أوهم ذلك عندهم أنه (¬3) دلالةٌ على السَّفَهِ، ونقيضُ الحكمة، والرضا بالقبيح والظلم، وقد ألحد (¬4) ابن الرَّاوَنْدِي وطائفةٌ من المخذولين بمثل ذلك. وكذلك سر القدر إذا أُفشِيَ أوهم عند أكثر الخلق عجزاً إذ تقصُرُ أفهامهم عن درك (¬5) ما يُزيل هذا الوهم (¬6). ولو قال قائل: إن القيامة لو ذُكِر ميقاتها وأنها بعد ألف سنةٍ أو أكثر أو أقل لكان مفهوماً (¬7)، ولكن لم يذكر لمصلحة العباد وخوفاً من الضرر، فلعلَّ المدة (¬8) إليها بعيدةٌ فيطول الأمد (¬9)، وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها، ولعلها كانت قريبةً في علم الله، ولو ذُكِرَت لعَظُمَ الخوف، وخَرِبَتِ الدنيا، وأعرض الناس عن الأعمال، فهذا المعنى لو اتجه وصح، لكان مثالاً لهذا القسم. انتهى. وفي كلامه هذا والكلام المُقَدَّم قبله المنصوص في " المقصد الأسنى " ما يدل على أنه كان يُضمِرُ القول بوجوب الاعتراف بحكمة الله وتعليل أفعاله وأقداره كلِّها بالغايات الحميدة، والحِكَمِ البالغة في تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله تعالى، كما أوضحه الله تعالى في قصة موسى والخَضِرِ عليهما ¬
السلام، وأشار إليه في قوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وفي قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]، ولم يَرِدِ العكس من ذلك ولا يجوز أن يرد. بل قد صرح الغزالي بذلك في أوائل " إحياء علوم الدين " في كتاب العلم في ذكر علوم المكاشفة منه، فإنه قال: إن مَنْ عَلِمَ علوم المكاشفة، عرف حكمة الله تعالى في خلق الدنيا والآخرة. وقد أوضحتُ هذا المعنى في آخر مسألة الأفعال، ولعل هذا هو الذي أشار إليه الغزالي، أو بعض ما أشار إليه في خطبة (¬1) " المقصد الأسنى ": وكيف لا وللبَصِير عن هذه الغَمْرَة صارِفان، إلى قوله: والثاني: أن الإفصاح عن كُنْهِ الحقِّ فيه (¬2) يكادُ يُخالِفُ ما سبق إليه (¬3) الجماهير، وفِطَامُ الخلق عن العادات، ومألوفات المذاهب عسيرٌ، وجَنَابُ الحق يَجِلُّ عن أن يكون مشرعاً لكلِّ واردٍ، وأن يَطَّلِع عليه إلاَّ (¬4) واحدٌ بعد واحدٍ، ومهما عَظُمَ المطلوب قلَّ المُسَاعِد، ومن خالط الخلق جديرٌ أن يتحامى، ولكن من أبصر الحق عسيرٌ عليه أن يتعامى، ومن لم يعرف الله، فالسُّكوت عليه حَتْمٌ، ومن عرفه، فالسكوت له حَزْمٌ. انتهى. فإذا عرفت هذا من مذهبه، فينبغي أن يُجمَعَ بينه وبين ما يظن الغبي أنه يخالِفُه، وكان من تمام الصنعة أن يذكر كلامه في تفسير (¬5) الرحمن الرحيم بعد كلامه في تفسير الضار النافع، أو يشير إليه كي لا يتوهم الجاهل أن نسبة الضر إلى الله تعالى مع بقاء اسمه ومعناه، وليس كذلك، لأن مفهومه في اللغة: ما هو شرٌّ بلا نَفْعٍ، وذلك ما لا يدخل في فعل أحكم الحاكمين سبحانه ¬
وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى تَمَدَّحَ بأنه الذي يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاه، ولم يتمدح (¬1) بأنه الذي يضطرُّ، وإن كان هو خالق الضرورات، لأنه خلقها ليَسُوقَ العباد إلى دعائه، فيُجيبهم، فيعرفونه ويشكرونه، قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42 - 43]. وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. وفي " عوارف المعارف " للسُّهْرَوَرْدِي: إن الضرورات للعبد بمنزلة السوط للدابة، لا تُضْرَبُ به حتى تَتْرُكَ السير، أو تسير في غير الطريق. ومن هنا وجب شكر الله على ما نفع وضر، وحلا ومرَّ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحمد لله على كل حالٍ، وأعوذ بالله من حال أهل النار " رواه الترمذي وابن ماجه (¬2). فإذا تقرَّر في الشرور التي خلقها الله تعالى وحده، وليس للعباد فيها كسبٌ، ولا لقدرتهم بها تعلُّقٌ، لا تضاف إليه إلاَّ مُغَيَّرَة الاسم، مُعتَقَداً فيها أنها خيرٌ وبركةٌ ورحمةٌ وحكمةٌ، فكيف يضاف إلى الله تعالى ذنوبُ العباد وفواحِشُهم من الوجه الذي هي منه كفرٌ وفجورٌ مستحقةٌ لجميع الأسماء القبيحة، والمعاني الخَسِيسَةِ. وقد ذكر أهل العلم في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50] أن في ذلك تنبيهاً على أنه لا يُشتَقُّ لله تعالى أسماءٌ من مخلوقاته الضارة، لأنه لم يقل: إني المعذِّب المؤلم، كما قال: إني أنا الغفور الرحيم. وذلك تعليمٌ لحسن الأدب والتعبير عن مختلفات أفعاله التي دارَتْ على ¬
الحِكَم والغايات (¬1) الحميدة، وهذا هو مذهب أهل السنة. وكذلك ذكر الذهبي أنهم بَدَّعوا أبا طالبٍ المكيَّ حيثُ قال في وعظه: إنه ليس شيءٌ أضَرَّ على المخلوقين من الخالق. ولو مشينا على ظاهر تفسير الغزالي اسم الضار، ولم يُضَمَّ إليه تأويله المذكور في شرح الرحمن الرحيم، لكان (¬2) كلام الغزالي في شرح الضار مثل هذا الكلام المنكر أو أقبح. ذكر ذلك في ترجمته من " الميزان " (¬3) واسمه محمد بن علي بن عطية. فإن قلت: هل ورد في القرآن اسمٌ لله عزَّ وجلَّ يناسب ما وقع من المصائب والبَلاوِي؟ قلت: نعم، وهو المُبْتَلِي، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30]، وقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} [الفجر: 15]، وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وهو من أسمائه الحسنى، لأن الابتلاء من فعل الحكيم، لِيَمِيزَ الخبيث من الطيب، فالحكمة فيه ظهور طيب الطيب، وإبانته ورَفْعُ منزلته، لا ظهورُ خبث الخبيث، ولكن المحاسن لا تُعرَفُ إلاَّ بأضدادها. والحجة الواضحة على أن ذلك المراد لا عَكسُه قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] ولم يقل: أيُّكم أقبح عملاً، ولذلك قال العارفون: إن الخلق كلهم مثل شجرةٍ، ثمرتها المقصود بها أهل الخير منهم. وفي الحديث: " لما دعا الخليلُ على من رآه يعصي، قال الله له: إنَّ قَصْرَ عبدي مني إحدى ثلاثٍ: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني، فأغفر له، ¬
بحث في أنه هل يدخل اسمه المانع في معنى الضار
أو أُخرِجَ من صلبه من يعبدني" رواه الطبراني (¬1)، ومعنى قَصْره: منتهاه. وربما عبَّر عن المبتلي بالعزيز المقتدر، كقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]، كما أشار إليه في سورة الشعراء حيث قال بعد كل قصةٍ فيها تعذيب أعدائه الكافرين، ورحمة أوليائه المؤمنين: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] حتى تكرَّر ذلك ثمان مرارٍ بعد ثمان قصصٍ، فكان فيه تنبيهٌ لنا على تسمية العزيز القدير بالنظر إلى انتقامه (¬2) من الكافرين، وإنزاله بهم المضار والعقوبات، وتسميته بالرحيم بالنظر إلى المؤمنين كقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]. وكذلك قد يُسمَّى بالدَّيَّان أو الحكيم أو خَفِى الحكمة في هذه المواضع، ونحو ذلك مما وَرَدَ به السمع واستُعمِلَ في الثناء، والله أعلم. فإن قلت: فهل يدخل اسمه المانع في معنى الضار فيُستَحَبُّ اجتنابه في الأسماء الحسنى؟ قلت: كلا، فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " لا مانِعَ لما أعطيت ولا مُعطِيَ لِما مَنَعْتَ " (¬3). وقيل: إن معناه المانع (¬4) من المخاوف، والمنجي من المهالك، والله تعالى مانعٌ من الكفر وسائر المحرمات والقبائح والمذامِّ بالتحريم لها، والنهي عنها، والوعيد عليها. على أن الطبيب إذا منع المريض من شهواته الضارة لا يُسَمَّى ضارّاً في ¬
اللغة ولا في العُرْف، وإن سُمِّي مانعاً. وقد يمنع الله العبد من إجابة بعض ما يدعو به من مضرَّةِ العبد، فيعيضه به ما هو خيرٌ له كما ورد مرفوعاً. وفي الحديث: " إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدُكم مَرِيضَه الماء " (¬1) أو كما ورد. وفيه: " إن أمر المؤمن كله عجيبٌ: إن سرَّه كان خيراً له، وإن ساءه كان خيراً له ". روى أحمد معناه (¬2). وروى ابن أبي الحديد في " شرح النهج " أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أن قل لعبادي المتسَخِّطِين برزقي يَحْذروا أن أسْخَطَ عليهم، لأفْتَح عليهم الدُّنيا. وفي كتاب الله تعالى ما يشهد لصحة هذا، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، وكذلك قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]. ¬
وكذلك المميت لقوله تعالى: {يُحْيِي ويُمِيتُ} [البقرة: 258]، وقول الخليل: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81]، ولأنه في معنى القهار، وذلك لأن الموت لقاءٌ، وقد ثبت في " الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كَرِهَ لِقَاء الله كره الله لِقاءه " فقالوا: كلُّنا يَكرَهُ الموت. قال: " إنَّ المؤمن لا يَمُوتُ حتى يُبَشَّرَ، فيُحب الموت " (¬1). ورُوي أن الخليل عليه السلام قال: يا ربّ، أيُحِبُّ الخليلُ موت خليله؟ فقال الله تعالى: " هل يكره الخليلُ لقاء خليله؟! " قال: لا يا ربّ (¬2). وبالجملة: فقد ورد القرآن بالتمدُّح بفعل الخير، والقدرة على كل شيء من خيرٍ وشر، ومثوبةٍ وعقوبةٍ، وذلك بَيِّنٌ في قوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40]، وفي آية: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وفي آية: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]. وذلك لأن مُوجِبَ كماله وملكه الحق يقتضي أن يكون ملكاً عزيزاً مَخُوفاً مهيباً، يُخافُ ويُهابُ ويُخشى ويُتَّقى مثل ما يُستَرحَمُ ويُستَعطَفُ ويُسألُ ويُرتَجى، فيكشف السوء كما يُعطِي السُّؤل، ويمنع المخوف، كما يُبَلِّغُ المأمول. وفي هذه الآيات الثلاث إشارةٌ إلى ما قدَّمْتُه من أنه سبحانه يسمى بالنظر إلى فضله بالغفور الرحيم ونحو ذلك، ويُسَمَّى بالنظر إلى عدله في عقوباته بالقدير والمقتدر، والعزيز والقهَّار والمتكبِّر والجبار، ونحو ذلك مما ورد به السمع المعلوم الصحيح، والمدح المعقول الصريح. وكذلك يجوز أن يُنسَبَ الخير والشر معاً إلى قدرته وملكه وخزائنه، ولا يُفرد ¬
الشرُّ بذلك إذا صحَّ حديث ابن مسعود الذي فيه مرفوعاً: " اللهم إني أسألك من كل خيرٍ خزائنه بيديك، وأعوذ بك من كل شرٍّ خزائنه بيديك " (¬1). وقد ذكر صاحب " سلاح المؤمن " أن ابن حبان والحاكم أخرجاه، واللفظ للحاكم وصححه وقال: على شرط البخاري. وهذا يُؤذِنُ بأنه ليس على شرط مسلم، وقد يختلفان في الرجال مثلَ اختلافهما في توثيق عكرمة عن ابن عباس، وأبي (¬2) الزبير عن جابر، الأول شرط البخاري، والثاني شرط مسلم. ويُمكِنُ في مثل هذا الانتقاد فيُحرَّر ذلك، لكن يشهد له عموم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} الآية [الحجر: 21]. وعلى كل تقديرٍ، فإن كون الشر في خزائنه مثل كونه تحت قدرته، ولا معنى له سوى ذلك، وكونه تحت قدرته اسم مدحٍ وِفاقاً، لأنه من كمال الملك الذي يلزمه الخوف والرجاء، ولا يلزم منه أن يُسَمَّى شرِّيراً قطعاً، وكذلك اسم الضارِّ ولم يلزم من كونه تحت قدرته ومشيئته. وأين هذا من قول سيد الرسل المترجم عن محامده عزَّ وجلَّ بقوله في الأحاديث الصحاح المتقدمة: " الخير بيديك، والشر ليس إليك " ولو لَزِمَ أن ¬
يشتق له اسماً مما كان تحت قدرته وتقديره، لزم مناقشة أسمائه الحسنى تعالى عن ذلك. فأين هذا من اسمه القُدُّوس السُّبُّوح ربِّ الملائكة والروح، وأين من يعرف ذلك حتى يعرف ما يُضادُّه من الأسماء، ويعرف أن السمع لا يَرِدُ بالتناقض والتضاد فيما دون هذا، فالله المستعان. وما أحسن قول الغزالي في هذا المقام في تفسير القدوس فلنختم به هذا المعنى فنقول: قال في " المقصد الأسنى " (¬1) في شرح هذا الاسم الشريف ما لفظه: ولستُ أقول: إنه مُنَزَّهٌ عن العيوب والنقائص، فإنَّ ذِكر ذلك يكاد يَقْرُبُ من ترك الأدب، فليس من الأدب أن يقول القائل: مَلِكُ البلد ليس بحائِكٍ ولا حَجَّام، فإن نفي الوجود يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الإيهام نقصٌ، بل أقول: القدوس: هو المنزه عن كل وصف من أوصاف كمال المخلوقين الذي يظنه أكثر الناس كمالاً في حقهم، لأن الخلق أولاً نظروا إلى أنفسهم، وعرفوا صفاتهم، وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمالٌ ولكن في حقهم مثل علمهم وقدرتهم وسائر صفاتهم، ووضعوا هذه الأسماء بإزاء هذه المعاني، وقالوا: هذه الأسماء هي الكمال، فإذا أثنوا على الله تعالى، وصفوه بما هو أوصاف كمالهم، وهو منزه عن أوصاف كمالهم، كما هو منزَّهٌ عن صفات نقصهم، بل كُلُّ صفة متصوَّرةٍ للخلق، فهو منزه مقدس عنها وعما يشبهها، ولولا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يَجُزْ إطلاق أكثرها (¬2). انتهى. وهو نصٌّ صريح في معنى ما ذكرت من وجوب التحري في تصحيح الإذن الشرعي في اسم الضار ونحوه، وأن الواجب أن لا يطلق من ذلك ما في صحته خلافٌ بين أئمة السنة وعلماء الأثر، ونُقَّاد التصحيح، وحسبك بترك البخاري ومسلم لذلك مع رواية أولِ الحديث. ¬
وإنما حملهم على تعداد الأسماء الطمع في الإحاطة بالتسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة، وذلك أمر لا يمكن القطع بحصوله، ولا يُتَوَصَّلُ إليه إلاَّ بتوفيق الله، فإن لله تعالى أسماء كثيرة غير مُحصاةٍ، وهذه التسعةُ والتسعون من أسمائه وليست جميع أسمائه، لِما ثبت في حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم إني أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث (¬1). فدلَّ على أن تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته، أو توفيقٍ رباني، وقد عُدِمَ النص المتفق على صحته في تعيينها، فينبغي في تعيين ما تعين منها على ما ورد في كتاب الله منها بنصه، أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث. واعلم أن الحسنى في اللغة هو جمع الأحسن، لا جمع الحسن، فإن جمعه حِسان وحَسَنَةٌ، فأسماء الله التي لا تحصى كلها حسنةٌ، أي: أحسن الأسماء، وهو مثل قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] أي: الكمال الأعظم في ذاته وأسمائه ونُعُوته، فلذلك وجب أن تكون أسماؤه أحسن الأسماء لا (¬2) أن تكون حسنةً وحِساناً لا سوى، وكم بين الحَسَنِ والأحسن من التفاوت العظيم عقلاً وشرعاً ولغةً وعُرفاً. وما أحسن قول من قال في الإشارة إلى ما تضمنه حديث ابن مسعودٍ من كثرة أسماء الله الحسنى: وعلى تفنُّن واصِفِيهِ بِوَصْفِه ... يفنى الزمانُ وفيه ما لم يُوصَفِ ¬
سرد أسماء الله القرآنية
وهذا آخر هذه الخاتمة المباركة، ختمت بها مسألة الأفعال التي هي المرتبة الخامسة من الكلام على الوهم الثامن والعشرين، وقد طال الكلام فيه طولاً خرق عوائد المتوسِّعين، وذلك على الحاجة الداعية إلى ذلك، فإن الغرض في ذلك إيضاح الحق على حسب استتاره (¬1)، وذلك لا يتقدَّر بميزانٍ ولا مكيالٍ، بل يقف على مقتضى الحال، والحمد لله الذي بلّغ أقصى المراد، ووفَّقَ للاقتصاد في الاعتقاد أحب الحمد إليه، وأرضاه لديه، والحمد لله حمداً كثيراً (¬2) طيباً مباركاً فيه. وهذه الأسماء القرآنية: هو الله الذي لا إله إلاَّ هو، الإله، إله الناس، الواحد، الأحد، الرحمن، الرحيم، ذو الرحمة الواسعة، الغني، ذو الرحمة، الغفور ذو الرحمة، الذي كتب على نفسه الرحمة، أرحم الراحمين، خير الراحمين، الواسعُ كل شيءٍ رحمةً وعلماً، الغافر، الغفور، الغفار، واسع المغفرة، أهل التقوى وأهل المغفرة، الذي يغفر الذنوب جميعاًً، ولا يغفر الذنوب إلاَّ هو، الحاكم، الحكم، الحكيم الأحكم، أحكم الحاكمين، خير الحاكمين، العالم، العليم، الأعلم، علام الغيوب، الواسع كل شيءٍ رحمة وعلماً، الرب البَرُّ، رب الفلق، رب الناس، رب كل شيءٍ، ربُّ العالمين، رب العزة، رب العرش العظيم، الواسع، المُوسِعُ، واسع المغفرة، واسع كلِّ شيءٍ رحمةً وعلماً، الملك، المليك، المالك، ملك الناس، الرازق، الرزاق، خير الرازقين، الخالق، الخلاق، أحسن الخالقين، الناصر، نعم النصير، خيرُ الناصرين، الحافظ، الحفيظ، خير الحافظين، القويُّ الأقوى، ذو القوة المتين، العليُّ، الأعلى، المتعالي، القادر، القدير، المقتدر، العزيز، الأعزُّ، رب العزة، الشاكر، الشكور، قابل التوب، التواب، القريب، الأقرب، الحي، القيوم، القائم على كل نفس، الفاعل، الفَعَّال لما يريد، الوارث، خير الوارثين، الكريم، الأكرم، فالق الإصباح، فالق الحبِّ والنوى، العظيم، ¬
الأعظم، نعم المولى (¬1)، الشاهد، الشهيد، الكبير، الأكبر، القاهر، القهار، نعم القادر، نعم الماهِدُ، نعم الوكيل، الصمد، المتين، الخبير، المُبْرِمُ، الغني، الحميد، المجيد، الوهاب، الجامع، المحيط، الحسيب، المقيت الرقيب، كاشف الضر، الفاطر، المبتلي، اللطيف، الصادق، الحق، الودود، الحَفِيُّ، المستعان، الفتاح، نور السماوات والأزض، رفيع الدرجات، المنتقم، الزارع، الأول، الآخر، الظاهر الباطن، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن، الجبار، المتكبر، البارىء، المصوِّر، مخرج الميت من الحي، جاعل الليل سكناً، خير الفاصلين، أسرع الحاسبين، خير المنزلين، المتِمُّ نوره، البالغ أمره، الغالب على أمره، ذو الطول، ذو المعارج، ذو الفضل العظيم، ذو العرش العظيم، ذو الجلال والإكرام، الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وسِعَ كرسيُّه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما، لم يكن له كُفُوَاً أحدٌ، ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار وهو يُدْرِك الأبصار، ليس بظلاَّمٍ للعبيد، لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، ولا يُبَدَّل القول لديه، ولا يُخْلِفُ الميعاد، الذي يُجيرُ ولا يُجَارُ عليه، ولا شريك له في الملك، ولا ولي له من الذُّلِّ، له الحجة والحكمة، والمشيئة والنعمة والمِنَّة، والرحمة والرأفة، والملك والحمد، والخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، الم، الم، المص، الر، الر، المر، الر، الر، كهيعص، طه، طسم، طس، طسم، الم، الم، الم، الم، يس والقرآن الحكيم، ص، حم، حم، حم، حم عسق، حم، حم، حم، حم، ق، ن. زاد الترمذي (¬2) مما لم أجده بنصه في القرآن ثمانية وعشرين اسماً، وهي: القابض، الباسط، المُعِزُّ، المذل، الخافض، الرافع، العدل، الجليل، المُحْصِي، المُبدىء، المعيد، المُحيي، المُميت، الواحد، الماجد، المقدم، المُؤَخِّر، الوالي، المُقْسِط، الغني، المُغني، المانع، الضار، النافع، ¬
الهادي، الكافي، الرشيد، الصبور. وليس في " البخاري " (¬1) منها إلا: المقدِّم المؤخِّر. وزاد الحاكم في " المستدرك " (¬2): الحَنَّان، المنان، الكافي، الدائم، المولى، الجميل، الصادق، القديم، الوِتْرُ، المُدَبِّرُ، الشاكر، الرفيع. زادها على الترمذي. وزاد عليه مما في القرآن: الإله، الرب، الفاطر، المليك، المالك، الأكرم. وزاد ابن حزم مما في " الصحيح ": الوِتْرُ، السيد، السُّبُّوح، الدَّهرُ. وزاد مما لم أعرف من خرَّجه: المحسن، المعطي، المُجِلُّ. لكن تسميته سبحانه الدهر في الحديث محتملةٌ للمحاز، بل ظاهرة فيه، لتفسيره في متن الحديث أنه سبحانه مُقَلِّبُ الليل والنهار ومصرِّفُهُما (¬3). وأما المشتقات من أفعاله سبحانه، فلا تحصى، وقد جمع بعضهم منها ألف اسمٍ: مثل: كاتب الرحمة على نفسه، المحمول، العادل، المعبود، المُحْكِم، المنعم، المحسن، متمُّ النعمة، المُطعم، المُقَدِّرُ، القاضي، ¬
الوهم التاسع والعشرون: الكلام في تكليف ما لا يطاق
المدَبِّر، المحق، الشافي، الباري، الماحي، المُثبّتُ، المريد، الكافي، العاصم، القاصم، المدافع، المُمْلِي، الآخِذُ، المجير، المُزَكِّي، الموفق، المُصَرِّف، المُمَكِّن، مقلب الليل والنهار، الصانع، الواقي، المتكلم، المريد، المرجُوُّ، المَخُوف، المَخَشْيُّ، المرهوب، السابق، الدَّيَّانُ، المستجار، المُستعاذ، المُعَاذُ، المُنجي، المُلجِىء. ومن الممادح -وإن لم يكن مشتقاً- ما لا يُحصى، مثل: قديم الإحسان، دائم المعروف، المأمول، المُستَغَاثُ. وينبغي أن يُدعى معها بحديث ابن مسعودٍ، في النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، وابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عَدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذَهابَ هَمِّي وغَمِّي ". رواه أحمد في " المسند " وأبو عوانة في " صحيحه " (¬1). فهذا أجمع شيءٍ علمته فيها، وإنما ذكرت أوائل السور المُقَطَّعَة، لأنه قد رُوِيَ أنها أسماءٌ، وإن لم تصح، فقصدت ذكرها للاحتياط والتَّبرُّك بها، وكذلك صفات النفي، لأنها في معنى الأسماء، والله سبحانه أعلم. الوهم التاسع والعشرون: وَهْمُ المعترض أن مذهبهم الجميع القول بتكليف ما لا يطاق. وليس كذلك، فلم يذهب إلى هذا إلاَّ القليل من متأخري أهل علم الكلام منهم، كالرازي والسبكي من غلاة علم الكلام، دون حَمَلَة العلم النبوي، الذين أصل كلامنا فيهم، وذبُّنا عنهم، ومن ذهب إلى هذا منهم لم يُرِدْ ما يُفْهَمُ من ظاهر العبارة فيما ظهر لي، ولم أر فيهم من بالغ في نُصرته من غير ¬
تأويلٍ إلاَّ الرازي في مقدمات " المحصول " (¬1) دون " النهاية "، لكنه تاب من ذلك وأمثاله، فلا يَحِلُّ نسبته إليه، سامحه الله تعالى. وقد ردوا ذلك، وأنكروه عليه، وعلى من ذهب إليه في مُصنفاتهم المشهورة في بلاد الزيدية، مع قلَّةِ كتبهم فيها، مثل كتاب " مختصر " منتهى السُّول " في أصول الفقه " (¬2) لابن الحاجب، فإنه صرَّح فيه بردِّ هذا المذهب، وأورد الحجج على بطلانه، ولم يجزم بصحة روايته عن أحدٍ ممن يُعتمد عليه من أئمتهم، وإنما رواه بصيغة التمريض عن الأشعري، لأنه لم يَنُصَّ عليه الأشعري وإنما أخذوه له من قوله بخلق الأفعال، وعدم تأثير القدرة. وقد بيَّنَّا في مسألة خلق الأفعال أن الأشعري يقول بأن التكليف متوجِّهٌ إلى العزم، والاختيار الذي هو عنده فعل العبد وأثر قدرته كقول الجاحظ وثُمَامَة بن أشرس من المعتزلة، وليس يتعلق التكليف عنده بالأفعال، فإنها عنده أثر قدرة الله تعالى، فبطل تخريج هذا القول له من هذا الوجه. وتقدم هناك أيضاً بيان مقصد الأشعري في قوله: إنه لا ينقطع التكليفُ بفعلٍ حال حدوثه وإن لم يُرِدِ الطلب. وقد قرَّر شُرَّاح " مختصر المنتهى " كلام ابن الحاجب في تزييف هذا القول، ولم يقولوا: إنه خرج فيه عن مذهبهم، ولا مال عن القوي المنصوص عندهم. وكذلك يقول هو، يدل على أنه المنصوص المنصور في كتاب السيف الآمدي (¬3) أحد علماء الكلام منهم، لأن كتاب السيف الآمدي هو أصل كتاب ¬
ابن الحاجب، وليس في كتاب ابن الحاجب إلاَّ ما في كتاب السيف. وهذا يدلُّ على أن المشهور المنصوص في كتبهم هو التَّنزُّهُ من هذا المذهب الرَّكيك، بل صرَّح السبكي في " جمع الجوامع " أن الآمدي منع من تجويز التكليف بالمحال لذاته، وحكى عن جلة أئمتهم المنع من تكليف المحالِ على اختلاف تفصيل مذاهبهم، منهم: الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني، والمسمى عندهم بالحجة الغزالي، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني، والسيف الآمدي، وخاتمة محقِّقيهم الشيخ تقيُّ الدين، الشهير بابن دقيق العيد صاحب كتاب " الإمام " (¬1) كل هؤلاء حكى ذلك عنهم صاحبهم المخالف لهم أبو نصرٍ السُّبكيُّ في مقدمة كتابه " جمع الجوامع ". وكذلك الجويني صرَّح في كتابه " البرهان " في أصول الفقه ببطلان هذا المذهب، وكتاب الجويني موجود في بلاد الزيدية أيضاً. قال الجويني في " البرهان " (¬2) ما لفظه: فإن قيل: فما الصحيح من تكليف ما لا يُطاق؟ قلنا: إن أُريد بالتكليف طلبُ الفعل وهو مما لا يطاق فذلك محالٌ (¬3) من العالم باستحالة وقوع المطلوب. وإن أريد به وقوع (¬4) الصيغة، وليس المراد بها طلباً كقوله: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] فهذا غير ممتنع، فإن المراد بذلك: كوّنَّاهُم (¬5) قردة خاسئين، فكانوا كما أردناهم. إلى آخر ما ذكره في الرد على من قال بذلك. ¬
وهذا (¬1) الوجه الذي ذكره، وهو ورودُ صيغة الأمر من غير طلب الفعل المحال هو الذي أراد من جوَّز تكليف ما لا يطاق منهم، ولم يريدوا أن الله تعالى يريد به تنجيز وقوع ما لا يطاق في الخارج من العباد، وقواعد مذهبهم تمنع إرادة المحال، وذلك أنهم يعتقدون أن مرادات الله تعالى واقعة قطعاً، فلا يصح أن يريد المحال، لأن المحال لا يقع عندهم، ولأن الإرادة عندهم لا يصح تعلُّقُها بالمحال، بل لا تعلق من الممكن إلاَّ بالمتجدد كما مضى. ولكن المعتزلة لما كان مذهبهم أن الأمر والإرادة متلازمان، ربما تَوَهَّمَ ذلك في خصومهم من ليس له تحقيق منهم في هذه المسألة. وعند الأشعرية أن الأمر غير متلازم للإرادة، وقد تقدم تحقيقُ مذهبهم في ذلك في الكلام على الإرادة في مسألة الأفعال كما ذكر الشهرستاني، وقد وَضَحَ أنهم أرادوا تكليف ما لا يطاق ما لا إرادة فيه لتنجيز وقوع المحال، وهذا القدرُ هو القبيح عقلاً عند خصومهم، ولكن ادَّعَوْا في أحكامٍ مخصوصةٍ لا إرادة فيها لذلك أنها تُسَمَّى تكليفاً وذلك في صورٍ: الأُولى: الحالة التي يُسمى العبد فيها عاصياً ومطيعاً ومعاقباً ومُثاباً، وإن لم يتمكن من الانفكاك عن الفعل بسبب اختياره وتورطه لأجله فيما لا حيلة له فيه، كالرامي لغيره إلى النار يَنْدَمُ ويتوب قبل وقوع المرمي فيها (¬2)، ومثل من تَوَسَّطَ أرضاً مغصوبةً متعمداً، فإنه بخروجه عاصٍ، لا على أنه منهيٌّ عن الخروج كما تقدَّم تحقيقه في الفصل الذي ختمت به مسألة الأفعال، فإنه مذهب أبي هاشم ومذهب غيره من المعتزلة ومن غيرهم. ومن هنا نُسِبَ تكليف ما لا يطاق إلى الأشعري، وهو منه بريءٌ، لكنه لما اعتقد أن اختيار المكلف لفعله يكون سبباً لخلق الله لفعله، اعتقد أن الأفعالَ المخلوقة مسببات لاختيار العبد، وأنه وإن لم يكن فيها مختاراً، فقد فعل سببها، فوقع باختياره أول الأمر فيما لا خيار له فيه، فهو معاقب أو مثابٌ على ¬
تكليف ما لا يطاق عند من جوزه نازل منزلة قوله تعالى {يوم يكشف عن ساق}
ما ليس له فيه اختيار، لوقوعه فيه باختياره، وهذا معنى قول الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، أي لا ينقطع اللوم والعقاب، ولم يُرِدْ: لا ينقطع طلب التنجيز، وهذا المذهب شائع في المعتزلة والقائل به منهم أكثر، وجمهور أهل السنة على رده. الصورة الثانية: حكاها الغزالي في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " (¬1) فقال: فإن قيل: فهو ما لا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه عبث، والعبث على الله محال. قلنا: هذه ثلاث دعاوى: الأولى: أنه لا فائدة فيه، ولا نُسَلِّمُ، فلعل فيه فائدةً للعباد اطلع الله عليها، فليس الفائدة الامتثال والثواب عليه، بل ربما يكون في إظهار الأمر، وما يتبعه من اعتقاد التكليف فائدة، فقد ينسخ الأمر قبل الامتثال كما أمر الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذبح ولده ثم نسخ قبل الامتثال. إلى آخر ما ذكره. وهذه المسألة التي احتج بها، وهي النسخ قبل التمكن مسألة خلاف بينهم وبين المعتزلة أيضاً، والإمام المنصور بالله يقول فيها بقولهم، والجويني يقول فيه بقول المعتزلة. وقد ظهر أن من جوَّز منهم تكليف ما لا يطاق، وهي فرقة شاذة، فما أرادوا نسبة قبيح إلى الله في إرادة تنجيز وجود المحال وترتيب وقوع العقوبة عليه كما في التكليف بالممكن. فهذا نوع من التكليف خاص له أحكام تخصه عند هذه الفرقة الشاذة نازل منزلة قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]. وآخرها دليلٌ على الفرق بين الدعاء الذي ليس معه استطاعة وبين الدعاء في الدنيا، وهي حجةٌ لهم في تجويز مثل ذلك، مجرد تجويز على جهة ¬
تخصيص العام بالنادر ولمخالفتهم في أن تكليف هذه الدار مع القدرة. ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أن يَعْقِدَ بين شَعِيرَتَيْنِ " (¬1). خرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عباس (¬2). وخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ كَذَبَ في حُلُمِهِ كُلِّفَ عقد شعيرةٍ " (¬3). وفي أحاديث المصورين أنه يقال لهم يوم القيامة: " أحْيُوا ما خلقتم ". وهي صحاح مشاهير (¬4)، ترجم النسائي لها: ذكر ما يكلف أصحاب الصور يوم القيامة (¬5)، وساقها. لا يقال: هذه كلها في دار الآخرة، وليس فيها تكليفٌ وإنما كلامنا في دار التكليف، لأنهم يقولون: عِلَّةُ المنع عندكم ليس شيئاً يرجع إلى الدار إنما هو حُكْمٌ بأن العقل يُقَبِّحُ ذلك، وأنه ظلم مع ترتب العقاب عليه، وعَبَثٌ مع خلاف ذلك، فالآخرة، وإن لم تكن دار تكليف، فليست عندكم دار ظلمٍ ولا يحسن فيها قبيحٌ عقلي. والأوامر التي لا يراد بها تنجيز التكليف ولا معنى الطلب كثيرةٌ نحو قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، و {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50 - 51]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقوله: {مُوتُوا} [البقرة: 243] فماتوا، وقوله: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11]. ¬
وهو بابٌ واسع ومعانيه مختلفة، ولكن تسميته تكليفاً بدعة خارجة عن اللغة والعرف. قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي آية: {إلاَّ ما آتَاهَا} [الطلاق: 7] وهذا وعد صادق صدر على جهة التمدح، ومعناه واضح ولا يُعارِضُه ما يُقاربه في القوة والوضوح، والحق رَدُّ المحتملات إلى الواضحات (¬1) لا العكس. ومن أين للسني أن الله يرضى بقول القائل: إن تكليف المحال جائزٌ عليه، وهو يقول ما قدمنا، بل يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وأما قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فهي عامة فيما يطاق من ذلك مع المشقة والحرج، وما لا يطاق البتة، والعموم يجوز تخصيصه مع أنه لم يطلب منهم أن يقع في أنفسهم شيءٌ من ذلك، وإنما أخبر أنه يُحاسبهم عليه، فَيُعَذِّبُ من يشاء، ولعله إنما كان معذباً -لو تم ذلك- بما يطاق من ذلك، بل قد تبين أنه كذلك، بل صح في حديث عائشة أن الحساب للمؤمنين هو العرض (¬2). وكذلك صح في حديث ابن عمر المعروف بحديث النجوى (¬3). ¬
وأما قولهم: " كلّفنا ما لا نُطِيق " (¬1)، فقد يورد ذلك فيما يَشُقُّ (¬2) ويصعُبُ كثيراً، ولعله قول بعضهم، ولا حجة فيه مع أنه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، وفي توثيقه وتضعيفه خلافٌ كثير، ولذلك لم يُخَرِّجْ له البخاري شيئاً ولا أخرج هذا الحديث، ولعل مسلماً إنما أخرجه لموافقته لحديث ابن عباس بنحوه، لكنه لم يذكر قولهم: " لا نطيق " بل قال: إنه دخل في قلوبهم منها شيء، لم يذكر في قلوبهم من شيء. وكذلك لفظ النسخ لم يذكره ابن عباسٍ في حديثه عند مسلم، فلفظ ابن عباس علي ما ذكرته، وأن آخر الآية مفسرٌ لأولها لا ناسخ، والله سبحانه أعلم. وأما التحميل في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فليس بتكليفٍ إنما هو مثل إنزال الأمراض والبلاوي العظيمة. وما خالف هذه القاعدة المنصوصة في محكم كتاب الله تعالى على وفق الحكمة المعقولة من الأوامر ما لا يُطاق فليست للطلب والتنجيز، ولها معان لطيفة يعرفها أئمة المعاني والبيان، فلتطلب من مَظَانِّها. إذا عرفت هذا فاعلم أن من قال: ليس بتكليفٍ، كما هو الحق، فسره بما قدمنا عن الجويني، ومن قال: إنه تكليف، لم يُخالف في الحقيقة إلاَّ في معنى التكليف كما قال الغزالي فزعم أن إيراد صيغة الأمر في خطاب من يفهم يسمى تكليفاً وإن لم يُرِدْ به حصول الامتثال، والفائدة فيه عنده اعتقاد أنه مكلف، ومعنى كونه مكلفاً به كونه مخاطباً به، والعقوبة فيه على زعمه على ترك هذا الاعتقاد، لا على الامتثال. ¬
الصورة الثالثة: ما تقدم عن الفرقة الأُولى أنهم جزموا في مسألة الأفعالِ أن مقدورات العباد كلها غير مقدورة لهم وحدهم إلاَّ بإعانة الله تعالى، فهي بالنسبة إلى عدم إعانته غير مطاقة، وبالنسبة إلى إعانته مطاقة، على ما تقدم تحقيقه في مسألة مقدور بين قادرين، وأن شرط التكليف عندهم أنه يخلقها الله حين يختارونها حتى يمكنهم أن يفعلوها حين خلقها الله أن يؤثروا فيها مع الله تعالى أثراً ما تقوم به الحجة عليهم. والتأثير في الوجوه والاعتبارات فرعٌ على خلق الذوات، ولكن لا (¬1) يلزم من ذهب إلى تكليف ما لا يطاق بهذا أن يكون التكليف كله تكليف ما لا يُطاق، كما ألزمه ابن الحاجب وغيره من احتج على نفي الاختيار. وقد قال ابن الحاجب: إن ذلك خلاف الإجماع، فإن أراد بالتكليف الطلب لتنجيز الوقوع، والفعل محال، فالإجماع على بطلان ذلك صحيحٌ، وإن أراد طلب التنجيز للمحال عند إمكانه واستجماع شرائطه، فالخلاف مشهور، وهو خلاف في العبارة مثل خلاف أبي القاسم البلخي في نفي المباح وأمثال ذلك. الصورة الرابعة: وجوب الأرش على السكران في جناياته، وتنفيذ طلاقه، ونحو ذلك. منهم من سمى ذلك تكليفاً لم يرد بالتكليف أن الله تعالى أراد منه أن يفهم حال سكره، فنسب إليهم تجويز تكليف من لم يفهم، وتجويز ما لا يطاق وإرادة ذلك. فأما الإرادة فغلط واضح عليهم (¬2) وخطأ فاحش، وأما ما سموه تكليفاً من غير إرادة، فغير معلوم القبح، ولا مستلزم للمحال، ولكن هي لجاجٌ في بِدَعٍ أدى إليها بعض القواعد الكلامية، كما أدى خصومهم المعتزلة إلى مثل ذلك في مسألة المشيئة وغيرها. ¬
إذا تقرر هذا، فاعلم أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق غَلَطٌ في العبارة لا يخرُجُ صاحبه من الإسلام، فليس كل ما ظهر فيه الرِّكَّة من البدع، فقد كفر صاحبه، نسأل الله العافية من كل بدعة، والخروج من كل شبهة. وقد ذكرت غير مرة أن في كل فرقة طوائف شاذةً تقول بمنكراتٍ من البدع، فمن أضاف بدعهم إلى عموم الفرقة التي شَذُّوا منها، فقد أساء، وتَنَزَّل منزلة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي " الصحيح ": " لا يؤمن أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه " (¬1)، والله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]. وفي أهل السنة أيضاً من يَغْلَطُ، فَيَنْسِبُ إلى الزيدية مذاهب الإسماعيلية، والمطرفية، والحسنية (¬2)، ونحو ذلك فالله المستعان. والذي يُرجى لمن قال ذلك من أهل الإسلام أنه بالغ في التعظيم، فأساء العبارة، ومراده أن الله لو صدر عنه مثل ذلك، لوجب القطع بأن له فيه حكمةً تخرجه عن الظلم والعبث، لا أن ذلك جائزٌ، لكن على نحو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] على قول. ونحو ما تقدم في الحديث الثاني والسبعين في أحاديث الأقدار: " لو أن الله عذب أهل السماوات والأرض عذبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم " (¬3). وقوله: {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17]. ¬
الوهم الثلاثون: فيه إثبات الحكمة لله تعالى بخصوص هاتين المسألتين:
وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. فمن قال: إن هذه الأمور جائزة على الله مع ما فيها من تجويز تعذيب ملائكة الله ورسله ونحو ذلك، فهو مبطل حقاً، وإنما وردت مَوْرِدَ التعظيم بذكر ما لا يقطع قطعاً أنه لو وقع كيف كان الحكم والأدب أن يقال: لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا، والله سبحانه أعلم. الوهم الثلاثون: وهم المعترض أنهم يخالفون في القدر الضروري من القول بجواز التعذيب بغير ذنبٍ أو الإيلام لغير حِكمةٍ، وليس كذلك، فإن الأكثرين والمحققين لا يجوِّزُون ذلك. وقد قدَّمْتُ غير مرةٍ أنه لا يلزم الطائفة العظيمة ما شذَّ به بعضُ غُلاتِهم، وإلاَّ دخلت الشناعة على كل فِرقةٍ، ولم تختصَّ بأهل السنة والأشعرية، ولنتكلم في هذه الجملة خصوصاً وعموماً. أمَّا الخصوص، ففي مسألتين: المسألة الأُولى: الكلام في الأطفال. واعلم أن المعتزلة والشيعة ينسِبُون إليهم القول بأن أطفال المشركين في النار بذنوب آبائهم، هكذا من غير استثناءٍ، وهذا تقصيرٌ كبيرٌ في معرفة مذاهبهم، ولهم في المسألة أقوال: قال ابنُ عبد البرِّ في " تمهيده " وقد روى حديث الصَّعب بن جَثَّامَة الذي خرَّجه أبو داود (¬1)، وفيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يُبَيَّتُون فيصابُ (¬2) من ذراريهم ونسائهم، فقال: " هم منهم ". ¬
قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: وقولهم: هم من آبائهم، فمعناه: حكمُ آبائهم لا دية فيهم ولا كفارة، ولا إثم لمن لم يقصد قتلهم، وأما أحكامهم في الآخرة، فليس من هذا الباب في شيءٍ، وقد تقدم القول فيهم. انتهى. وهذا إشارةٌ إلى أقوالهم فيها، ولهم فيها أقوالٌ: القول الأول: أنهم في الجَنَّةِ. قال النواوي في شرح " مسلم " (¬1): إن هذا قول المحقِّقين منهم. هكذا وصف القائلين منهم بهذا بالتحقيق، واختاره لنفسه واحتجَّ عليه، وكذلك إمام الشافعية في عصره العلامة علي بن عبد الكافي الشهير بالسبكي، اختار ذلك، واحتج عليه. فمما احتج به النواوي على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. واحتج أيضاً بما رواه البخاري في " صحيحه " (¬2) عن سَمُرَةَ في حديثٍ طويل، وفيه ذكر رؤيا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها ما لفظه: " والشيخ في أصل الشجرة، والصِّبيان حوله أولاد الناس ". قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: " وأولاد المشركين ". انتهى. والمرادُ بالشيخ: إبراهيم عليه السلام، والشجرة: شجرةٌ في الجنة، وسؤالهم هذا وجوابه عليهم كان في اليَقَظَة، ولو لم يكن في اليقظة، لكانت الرؤيا وحدها حُجَّةً صحيحةً، لما في سِياقها من الدِّلالة، لأنها رؤيا حقٍّ، ولأن رؤيا الأنبياء صلواتُ الله عليهم حقٌّ، وخصوصاً نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تنامُ عيناي ولا ينامُ قلبي " (¬3). ¬
قال السبكي في كتابه في الأطفال (¬1): ووردت أحاديث أُخَرُ مصرِّحةٌ بأنهم في الجنة، لكن في أسانيدها ضعفٌ. قال السبكي: وفي حديث " البخاري " كفايةٌ مع ظاهر القرآن، وفي حديثٍ آخر " أولاد المشركين خدمُ أهل الجنة ". انتهى. قلت: أما الأحاديث الضِّعاف، فإنها باجتماعها تقوى، لأنهم لا يُطلقون الضعيف إلاَّ على من في حفظه شيءٌ ليس بالفاحش، وليس بكذَّابٍ متعمِّدٍ، ولا فاسقٍ مصرِّحٍ، كما ذلك معروفٌ في علوم الحديث، ومن هو على هذه الصفة، فأكثرهم، بل كلهم مقبولون عند الأصوليين وكثير من الفقهاء وإن انفردوا، وحديثهم إذا تنوَّعت طرقه يقوى عند المحدثين، وربَّما صحَّ. وأما الحديث الذي أشار إليه السُّبكي، فقال ابن قيم الجوزية في الباب الثاني والخمسين في كتابه " حادي الأرواح " (¬2): رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازمٍ المدينيِّ، عن يزيد الرَّقاشيِّ، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سألتُ ربي اللاَّهين مِنْ ذُرِّيَّة البشر أن لا يُعَذِّبَهُم، فأعطانيهم، فهم خدمُ أهل الجنة " يعني: الأطفال. قلت: وتأويله على مذهب كثير من أهل السنة ومذهب المعتزلة أن لا يكلِّفَهم فيعصوا، أو أن لا يعذِّبَهم على أحد الوُجوه التي يصح منها تعذيبهم عند الجميع، كما سيأتي شرحه. ثم قال الدارقطني: ورواه عبد العزيز الماجِشُون، عن ابن المنكدر، عن ¬
يزيد الرَّقاشيِّ به (¬1). ورواه فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس (¬2). قلت: فمداره على يزيد الرقاشي الرجل الصالح، ولم يُقدَح فيه إلاَّ بسوءِ الحفظ، ولم يكن فاحشاً في ذلك، فقد قال الحافظ ابن عدي (¬3): أرجو أنه لا بأس به، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬4): قال فيه ابن معين: رجل صدوق، ووثَّقه ابن عدِيٍّ، وقد تابعه وشهد له عبد الرحمن بن إسحاق، وهو أيضاً وإن كان قد ضعَّفه بعضهم، فقد قال ابن خزيمة، والنسائي مع تشدُّده في الرجال: ليس به بأسٌ، وقال البخاري مع تشدده أيضاً: إنه ممن يُحْتَمَلُ في بعض (¬5). وروى أبو يعلى مثل ذلك عن أنسٍ مرفوعاً من طُرُقٍ، ورجال أحدها ثقات، قاله (¬6) الهيثمي (¬7) في " مجمعه " (¬8). ¬
وقال السيد أبو طالب في " أماليه ": أخبرنا أبو عبد الله بن عدي الحافظ، حدثنا علي بن إسماعيل بن حمادٍ البزَّار، حدثنا عمرو بن عدي، حدثنا عيسى بن شُعيبٍ، حدثنا عبَّادُ بن منصورٍ، عن أبي رجاءٍ، عن سَمُرَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن أطفال المشركين، فقال: " هم خدم أهل الجنة ". وروى حديث سمرة هذا الطبراني في المعجمين " الكبير " و" الأوسط "، كلهم من طريق عبَّاد بن منصورٍ، وثقه يحيى القطان، وفيه ضعفٌ، قال الهيثمي (¬1): وبقية رجال الطبراني والبزَّار ثقات (¬2). وعن أنس مرفوعاً مثله. رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في " المعجم الأوسط "، إلاَّ أنهما قالا: أطفال المشركين. وفي إسناد أبي يعلى: يزيد الرَّقاشي (¬3). وعن الأسود بن سريعٍ، قيل: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: " النبيُّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة "، رواه الطبراني (¬4)، وفيه جماعةٌ وثَّقهم ابن حِبّان، وضعَّفهم غيره، وبقيتهم رجال الصحيح. وعن ابن عباسٍ مرفوعاً مثله، وزاد: " والموؤودة في الجنة ". رواه البزار (¬5) ¬
ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن معاوية بن مالجٍ (¬1)، وهو ثقةٌ. وعن أنس مرفوعاً: " المولود في الجنة، والموؤودة "، رواه البزار (¬2) وفيه مختار بن مختارٍ، تكلَّم فيه الأزدي وفيه ابن (¬3) إسحاق أيضاً، وبقيتهم ثقات. ذكر ذلك الهيثمي (¬4)، ثم قال: وتقدمت أحاديث من هذا النحو في النكاح، وفي حق الزوج، وطاعة المرأة لزوجها. ثم روى حديث: " كل مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ " من طريق جابر بن عبد الله. رواه أحمد (¬5)، وفيه أبو جعفر الرازي، وبقيتهم ثقاتٌ. وعن سَمُرَة، رواه البزار (¬6)، وفيه عبَّاد بن منصور المقدم. وعن ابن عباس، رواه البزار أيضاً (¬7). قال الهيثمي (¬8): وفيه من لم أعرفه. والحديث متفق على صحته (¬9) من غير هذه الطرق، وإنما ذكرتها شواهد للصحيح، فهذه الأسانيد يشدُّ كلٌّ منها الآخر، وأظنها الأحاديث التي أشار إليها السبكي، وهي مع حديث البخاري عن سَمُرَةَ وظواهر القرآن، وما تواتر وشَهِدَتْ به فِطَرُ العقول من سعة رحمة الله تعالى، تزداد قوة، والله سبحانه أعلم. ¬
وأما الأحاديث الواردة بأنهم في النار بالتصريح، فقد أجابوا عنها بأنها كلها ضعيفةٌ، ممن قال بضعفها على الإطلاق، ولم يستثن شيئاً: الحافظ ابن الجوزي. ذكره في " جامع المسانيد " بعد رواية الحديث السادس والثمانين من مسند الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روى حديث خديجة رضي الله. عنها في السؤال عن ولديها من طريق محمد بن عثمان، ثم قال: محمد بن عثمان لا يُقبل حديثه، قال: ولا يصح في تعذيب الأطفال حديثٌ. قال ابن حِبَّان: لا يجوز الاحتجاج بمحمد بن عثمان بحالٍ. انتهى كلام ابن الجوزي. وكذلك الهيثمي أورد الحديث، ثم قال (¬1): رواه عبد الله بن أحمد، وفيه محمد بن عثمان، ثم رواه عن خديجة من طريق فيها انقطاع (¬2). ثم روى في معناه حديثاً مرفوعاً بنحوه عن عائشة رضي الله عنها رواه أحمد، وفيه أبو عقيلٍ يحيى بن المتوكِّل، ضعَّفه جمهور الأئمة ويحيى بن معين، وفي متنه: " لو شِئْتِ لأسْمَعْتُكِ تَضاغيهم في النار " (¬3). وأما السبكي، فقال: كلها ضعيفةٌ إلاَّ حديث سلمة بن يزيد الجُعفيِّ (¬4)، ¬
فإنه صحيح الإسناد، لكنه غيرُ عامٍّ، وإنما هو نصٌّ في موؤودة بعينها، فاحتمل التأويل، وذلك أن سياق الحديث أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أختٍ لهم موؤودةٍ في الجاهلية لم تبلغِ الحِنْثَ، فقال: " إنها في النار ". ¬
فإن كان لهذا الحديث علَّةٌ، لم يحتج إلى جوابٍ آخر، وقد قيل: لعله - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أن سِنَّ تلك الموؤودة بلغت التكليف، ولم يلتفت إلى قول السائل: لم تبلُغِ الحنثَ، لجهله بوقت البلوغ الشرعي، أو يكون التكليف في ذلك الوقت منوطاً بالتمييز، والسائل يجهله، وليس كون التكليف في ذلك الوقت منوطاً بالتمييز في ذلك الوقت من الأمور المحتاج إلى معرفتها حتَّى يبيِّنَه للسائل. وهذا الجواب مثل جواب المعتزلة في تأويلهم الأطفال بمن قد بلغ، لكنه أقوى، لاختصاصه بشخصٍ معيَّنٍ، وقد بالغت بالبحث عن صحة هذا الحديث حتى وجدت ما يمنع القطع بصحته، فسقط الاحتجاج به ولله الحمد. وذلك ما ذكره ابن الجوزي في مسند سلمة بن يزيد من " جامع المسانيد "، فإنه قال بعد رواية الحديث هذا: إن محمد بن سعد ذكر في " الطبقات " (¬1) أنَّ سلمة بن يزيد هذا الرَّاوي ارتدَّ عن إسلامه هو وأخوه لأُمِّه قيس بن سلمة بن شراحيل، وهما ابنا مُليكَةَ بنت الحلوى، قال ابن الجوزي: فظاهرُ هذا كفرهما، ثم قال: وظاهر ما روينا أنهما عادا إلى الدين، ورويا الحديث. قلت: الحديث ما رواه إلاَّ سلمة، وما علمت لأخيه روايةً أصلاً، وقوله: إنَّ الطاهر رجوعهما عن الرِّدَّة، واستدلاله على ذلك بمجرد رواية الحديث عن سلمة من غير نقلٍ صحيحٍ، بل ولا ضعيفٍ، لا يفيد شيئاً، ومثل هذا لا يثبت معه حديثٌ، مع أن في إسناده داود بن أبي هندٍ، وقد تجنَّب البخاري إخراج حديثه في " الصحيح " قال الذهبي (¬2): داود حجة، ما أدري لِمَ لم يخرج له البخاري! ¬
فثبت أنه ليس في تعذيب الأطفال حديثٌ صحيحٌ صريحٌ. وذكر السبكي أن سائر الأحاديث ضعيفةٌ، حتى حديث عائشة الذي خرجه مسلمٌ في " الصحيح " (¬1)، وفي متنه " عُصفُورٌ من عصافير الجنة "، وقد قدحوا على مسلمٍ لتخريجه، ممن قدح بذلك القرطبي في " تفسيره " وغيره. وبالجملة، فإن مسلماً وغيره ممن روى الحديث خرَّجوه من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيميِّ الكوفيِّ، وهو متكلَّمٌ عليه كثيراً، ولم يُتابِعْهُ على الحديث غيره (¬2). وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث، وقال يحيى القطان، والنسائي، وابن معين في رواية: ليس بالقوي (¬3)، وقد وثَّقه ابن معين، وغيره، ولكن لا يرتقي مع هذا الاختلاف إلى مرتبة رجال الصحيح، وغايته أن يكون مِمَّن يُقْبَلُ حديثه مع الشواهد والتوابع، فأمَّا مع الشُّذوذ، فلا. وقد ذكر الذهبي في " الميزان " (¬4) أنه تفرَّد بأول الحديث، وهو الذي يخصُّ الأطفال دون آخره. ولعلَّ مسلماً إنما أخرج الحديث، لثبوت الشواهد على آخر، لكن في أوله ¬
مذهب من يقول بأن أطفال المشركين يمتحنون يوم القيامة
زيادةٌ مستقلة بحُكْمٍ، فلم يكن لمثل طلحة بن يحيى أن يستقل بمثلها، ولا لنا أن نقبله في مثل ذلك. فهذا آخر الكلام على تقرير القول الأول (¬1). القول الثاني: أنه يجوز أن يعذِّبَ الله تعالى من له الحجة عليه، ولا يكونُ ذلك ظلماً، فإنه تعالى يعلم من وجوهِ الحكمة ما لا نعلم، وله الحجة البالغة، وقد نص في كتابه أن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً في سياق الوعيد وتعظيم ذلك اليوم، فمن المعلوم أنه ما جعلهم شِيباً إلاَّ ما لَحِقَهُم من شدة طوله، وهذا نوعٌ من العذاب. وفي " الصحيحين " (¬2) من حديث أبي سعيدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يا آدم، قم فابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ من ذُرِّيَّتِكَ " فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: " مِنْ كُلِّ ألفٍ تِسْعَ مئةٍ وتِسْعَةً وتسعين إلى النار وواحدٌ إلى الجنة (¬3)، فحينئذٍ يَشيِبُ الصغير " -إلى قوله:- " أبْشِرُوا، فإن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً " الحديث. وهذا الوجه الجُمليُّ يكفي، ولو لم يرد تعيين ذلك الوجه في السمع، كيف وقد ورد تعيين ذلك في وجوهٍ ثلاثةٍ ذكروها. الوجه الأول: ذكر السبكي (¬4) وغيره حكايةً عمن اختاره منهم، وذلك أنها وردت أحاديث بأن أطفال المشركين يُمتحنون يوم القيامة، تؤجَّجُ لهم نارٌ، ¬
فيقال: رِدُوها وادخُلُوها، فيردُها أو يدخُلُها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويُمْسِكُ عنها من كان في علم الله شقيَّاً لو أدرك العمل، فيقول الله عز وجل: " إيَّاي عَصَيْتُم، فكيف رُسُلي لو أتتكم؟ " (¬1). قال السبكي: رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الناس من يُوقِفُه عليه (¬2). وروي معناه أيضاً من حديث أنس، ومعاذ، والأسود بن سريع، وأبي هريرة، وثوبان ستَّتُهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وذكر عبد الحق في " العاقبة " (¬3) حديث الأسود بن سريعٍ في ذلك وصححه، ورواه أحمد في " مسنده " من حديث الأسود، وأبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال السيد الإمام أبو عبد الله العلوي الحسني في كتابه " الجامع الكافي " ¬
على مذهب الزيدية في المجلد السادس في هذه المسألة ما لفظه: وروى محمد بن فراتٍ، وروى محمد بن منصورٍ، عن محمدٍ، قال: قال أحمد بن عيسى عليه السلام: كان زيد بن علي عليه السلام يقول: أطفال المشركين، والأبكم، والشيخ الفاني يوم القيامة يقولون: يا ربِّ، بعثتَ رسولاً، وأنزلتَ كتاباً، وأنا طفلٌ لا أعقِلُ، ويقول الشيخ: وأنا فانٍ لا أعْقِلُ، ويقول الأبكم: وأنا لا أعْقِلُ، فيقول الله عز وجل: " صدقتم، أنا باعثٌ إليكم رسولاً، فمن أطاعه كان كمن أطاعني في الدنيا، ومن عصاه، كان كمن عصاني في الدنيا، فَيَخْدُدُ الله لهم أخدوداً في النار، ثم يقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها منكم، كانت عليه برداً وسلاماً، قال: وليس يدخُلُها أحدٌ منهم لِعلمِ الله فيهم ". وسألت أحمد بن عيسى عن الحديث في الأطفال أتثبته؟ قال: قد جاء ذلك عن زيد بن علي، وأنا مُرَوٍّ فيه، فلم يثبته. وقال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام فيما روى ابن صبَّاحٍ عنه، وهو قول محمد بن منصورٍ في المسائل: صحَّ لنا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أولاد المسلمين في الجنة "، وأما أولاد المشركين، فقد اختلفت الرواية فيهم عنه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر فيه إلى الله تعالى، لأنه يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وهذا مما لا يعلم أن العبد يسأل عنه في القيامة، ونحن نعلم أن الله لا يُعذِّبُ أحداً حتى يحتجَّ عليه، لأنه قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. قال محمد: سألت أحمد بن عيسى، فأجابني بنحو هذا الجواب. قلت: وروى عنه نحو هذا السيد أبو عبد الله الحسنيُّ في أول المسألة، وهذا أتمُّ من طريق عليٍّ، يعني: ابن محمدٍ الشَّيباني، عن ابن هارون، يعني: محمد بن محمد بن هارون، عن سعدان، عن أحمد بن عيسى عليه السلام. فبان بذلك أن زيد بن علي عليه السلام من هذه الطائفة القائلين بالامتحان
أهل الفترة ومن لم تبلغه الدعوة يمتحنون في عرصات يوم القيامة فمن أجاب الداعى دخل الجنة ومن أبى دخل النار
في القيامة، وأن سائر من ذكرنا من أولاده وأتباعه مُجَوِّزُون لذلك، غير قاطعين (¬1) بنفيه، ولا منكرين على من قال به، ولكن المعترض أُتِيَ من الجهل بمذهب أسلافه الكرام، مع الجهل بمذاهب علماء الإسلام. وقال ابن كثير في المجلد الأول من " البداية والنهاية " (¬2) في ذكر يأجوج ومأجوج ما لفظه: فإن قيل: [فكيف] دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداءٌ للمؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار، ولم يُبعثْ إليهم رسلٌ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]. فالجواب: أنهم لا يُعَذَّبُون إلاَّ بعد قيام الحجة عليهم والإعذار إليهم، فإن كان قد أتتهم رسل، فقد قامت الحجة عليهم (¬3) وإلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلُغْهُ الدعوة، وقد دلَّ الحديث المروي من طُرُقٍ عن جماعةٍ من الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان كذلك يُمْتَحَنُ في عرصات يوم القيامة، فمن أجاب الداعي، دخل الجنة، ومن أبى، دخل النار، وقد أوردنا الحديث بطرقه وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] (¬4)، وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعاًً عن أهل السنة والجماعة. انتهى. وفيه ما ترى من تنزيه الله من التعذيب من غير حُجَّةٍ ولا إعذار، وابنُ كثير والأشعري من أئمة أهل السنة والكلام منهم. وقال الهيثمي (¬5): باب من لم تبلُغْه الدعوة، ثم أورد حديث الأسود بن سريعٍ في الأربعة: الأصمِّ والأحمق، والهَرِمِ والميت في الفترة. رواه أحمد ¬
والبزار والطبراني بنحوه، وذكر بعده إسنادا إلى أبي هربرة بنحوه، ورجال أحمد، وطريق الأسود، وأبي هريرة رجال الصحيح، وكذلك رجال البزار فيهما (¬1). وعن أنسٍ مرفوعاً في المولود والمعتوه في الفترة والشيخ الفاني مثله. رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه ليث بن أبي سُلَيْمٍ (¬2). وعن أبي سعيدٍ مرفوعاً في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود نحو الأول. رواه البزار، وفيه عطية (¬3) وهو ضعيفٌ. وعن معاذٍ مرفوعاً في الممسوخ عقلاً، والهالك في الفترة، والهالك صغيراً بنحوه. رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، وفيه عمرو بن واقد (¬4) وهو متروكٌ عند البخاري وغيره، ورُمِيَ بالكذب، وقال محمد بن المبارك الصُّوري: كان يتبع السلطان، وكان صدوقاً، وبقية رجال " الكبير " رجال الصحيح (¬5). ¬
هذا جملة ما حضرني من صحيحٍ وضعيفٍ في حجة أهل هذا القول، وهي لا تناقض ما قدمنا من أنه لم يصح حديثاً في دخول أولاد المشركين النار، لأنا عنينا دخولهم على العموم، وهذه الأحاديث لا تقتضي ذلك، وإنما تقتضي دخول من عَلِمَ الله أنه لو أدرك العمل، لكان شقياً بعد إقامة الحجة عليه وعصيانه لله تعالى. قال السبكي (¬1) بعد قوله: أسانيدها صالحة: قال ابن عبد البر (¬2): ليست من أحاديث الأئمة الفقهاء، وهو أصلٌ عظيمٌ، والقطع فيه بمثل هده الأحاديث ضعيفٌ في النظر، مع أنه قد عارضها ما هو أقوى مجيئاً منها. وقال الحُليميُّ: إن هذا الحديث مخالِفٌ لأُصول المسلمين، لأن دار الآخرة ليست بدار امتحانٍ (2). قلت: فأجاب القائلون بها على ابن عبد البر أنه لا يُشتَرَطُ في الرواة أن يكونوا أئمة فقهاء. وأما قوله: إنها مُعارِضَةٌ لما هو أقوى مجيئاً منها، فإنما أشار إلى قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " الله أعلم بما كانوا عاملين ". وليست معارضة له، بل زيادةٌ عليه وبيانٌ له، وفرقٌ بين المعارضة والزيادة والبيان، إلاَّ حديث البخاري عن سمرة، فإنه يعارض ظاهره، لكنها أخص منه عند التحقيق، فإنه، وإن كان خاصاً بالنظر إلى أولاد المشركين، ففيه عمومٌ بالنظر إلى الشقي منهم والسعيد، وهذه خاصة بالأشقياء الذين علم الله أنهم لو أدركوا العمل لَعَصَوْهُ. وأما قوله: إنه أصلٌ عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيفٌ، ¬
فكذلك القطع بتكذيبهم عقلاً وسمعاً، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب أهلِ الكتاب (¬1)، لئلاَّ يكون ما رَوَوْهُ حقاً، وليس القطع مقصوداً ها هنا. وغاية المرام في مثل هذه المشكلة وضوح أدنى تجويزٍ لوجهٍ من وجوه الحكمة يُقَوِّي إيمان المؤمن بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) فيما لا طريق إلى تكذيب راويه. وأما ما قاله الحُليميُّ، فمسلَّمٌ بعد استقرار الخلق في الدارين، وأما في البرزخ ويوم القيامة، فغير مُسَلَّمٍ لهذه الأحاديث وأمثالها، ولما قدمنا من رواية الأشعري إجماع أهل السنة على ذلك في " الأسماء والصفات " (¬3) عن الخطابي أنه قال في تأويل حديث أبي هريرة في ذكر الصورة (¬4) ما لفظه: وليس بمنكر (¬5) أن يكون الامتحان إذ ذاك بعد قائماً، وحكمه على الخلق جارياً حتى يفرغ من الحساب (¬6)، ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقَّت الحقائق، واستقرَّت أمور العباد قرارها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، وجاء في الحديث أن المؤمنين يسجدون وتبقى ظهور المنافقين طَبَقاً واحداً (¬7). انتهى بحروفه. ويدل عليه مثل قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: ¬
28]، وقوله تعالى في الحكاية عن المشركين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى صلوات الله عليه في قبره قائماً يُصلي (¬1). وأحاديث الفتنة في القبر والضَّمَّة فيه تؤيِّد ذلك كما سيأتي في المسألة الثانية. وفي " الصحيح " من حديث ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفَعُه النار مرةً، فإذا ما جاوزها، التفت إليها، وقال: تبارك الذي نجَّاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاهُ أحداً من الأولين والآخرين، فتُرْفَعُ له شجرةٌ، فيقول: يا رب، أدنِني من هذه الشجرة، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، ثم تُرفَعُ شجرةٌ هي أحسن من الأُولى، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، وربُّه يعذِرُه، لأنه يرى ما لا صبر له عليه ". الحديث (¬2). وفي " الصحيح " عن أبي سعيد بنحوه (¬3) وهو مشهور، وهو يرد على الحليميِّ وابن عبد البر، والله أعلم. ومذهب البغدادية من المعتزلة أن معرفة الله في الآخرة استدلاليةٌ، وألزموا جواز التكليف في الآخرة فالتزمهم شيخهم أبو القاسم البلخي، فهذا هو الخطأ قطعاً، لا قول أهل السُّنَّة. وفي " البخاري " (¬4) من حديث أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجيء نوحٌ، فيقول الله: هل بلَّغْتَ؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقول لأمته: هل ¬
القول الثالث في تعذيب الأطفال: أن كل من علم الله أنه إن بلغه الكبر أمن دخول الجنة وعكس ذلك
بلَّغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا مِنْ شيءٍ". والحديث له في كتاب الله أعظم شاهدٍ، وهو ما حكى الله تعالى من قولِ الكفار لجوارحهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]، وقال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. فامتَنَّ عليهم بالتثبيت في الآخرة، ولولا حاجتهم إليه، لما صح ذلك، ولا حاجة إلاَّ مع الابتلاء، وليس المانع من ذلك عند المعتزلة إلاَّ أن الخلق مضطرون إلى الإيمان يوم القيامة، ولا يصح الابتلاء مع الاضطرار. والجواب عليهم أن الاضطرار فعل الله فيهم، لا فعلهم في أنفسهم عقلاً وسمعاً، وقد قال الله يعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]. وقد تقدمت بقية الحجج في هذا البحث عند ذكر هذه الآية الشريفة في مسألة الإرادة. الوجه الثاني: أن كل من عَلِمَ الله أنه إن (¬1) بلغه الكِبَر، آمن، أدخله الجنة، وكل من علم الله أنه إن (1) بلغه الكبر، كفر، أدخله النار. وهذا القول كالذي قبله، إلاَّ أن في الذي قبله زيادة الإعذار من الله، وإظهار إقامة الحجة، وهي زيادةٌ لا معارضة، ولعلها الذي توهم ابن عبد البر أنها معارضةٌ، وهي زيادةٌ حسنةٌ ملائمةٌ لسنة الله تعالى في إرسال الرُّسُل وإزاحة الإعذار، وفي " الصحيح " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ من الله، لذلك أرسل الرُّسُل " (¬2). ¬
وأهل هذا القول احتجوا بالحديث المتفق على صحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئِلَ عنهم: " الله أعلم ما كانوا عاملين " (¬1). وهؤلاء لا ينبغي أن يقال: إنهم يجيزون على الله التعذيب بغير ذنبٍ، بل يقال: إنهم يُجيزون على الله التعذيب بالذنب المعلوم وقوعه قبل أن يقع. وروى السيد أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع " في موضعين من المجلد السادس أحدهما في هذه المسألة عن السيد الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام ما يدل على مثل قولِ هذه الطائفة، فإنه روى عنه أنه قال: قد أدخل الله النار أولاد المشركين بالذي سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، قال الله سبحانه لنوح: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وقال نوحٌ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27]. وأهلك الولدان في زمن عادٍ وثمود بالصيحة، ولا ذنب لهم، وقتل الخَضِرُ الغلامَ ولم يبلغ الحُلُم، فبلغنا في الحديث أنه يوجد في كتفه مكتوبٌ: كافر خِلْقَةً (¬2). انتهى بحروفه. ولا شك أن العلم بقبح هذا غير ضروري من الدين فلا يُكَفَّرُ، ولا ضروري من العقل، فلا يُنْسَبُ قائله إلى تعمُّد الكذب ومحض العناد، فإن أهل الشريعة وأهل المعقول، لو علموا أنهم إن لم يقتلوا صغيراً كان في حياته هلاك ¬
المسلمين قطعاً، وثبت لهم ذلك بطريقٍ سمعيةٍ، لم يُكَفَّرْ من استحل قتله بذنبه المعلوم وقوعه في المستقبل، ولا نقطع بأنه فاسق تصريحٍ، وإن كان القاتل لا يخاف على نفسه متى خاف على المسلمين. بل قد وقع نحو هذا، فإن عمر رضي الله عنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل ابن صَيَّاد لمَّا ظن أنه الدجال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن هو، فلن تُسَلَّطَ عليه، وإن يكن غيره، فلا خير لك في قتله ". والحديث صحيح (¬1). وإن كان ابن صيادٍ صغيراً، فأفهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن غيره، فلا خير لك في قتله " أنه لا بأس بقتله لو تحقَّق أنه الدجال، لكنه لا يُسلَّط عليه (¬2). وفي قصة الخَضِر والغلام الذي قتله ما يدل على هذا، وقد قال ابنُ عباسٍ (¬3): إن ذلك الغلام طُبِعَ كافراً. وذكر ابن بَطَّالٍ في الباب الثاني من أبواب القدر في " شرح البخاري " مما يقوِّي ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]. فإن قيل: إنه يحتمل أن قتل الدجال من قبيل المصالح، لا من قبيلِ عقوبته بما سيفعله، كما هو مذهب مالكٍ في المصالح، بل كما هو مذهبُ الأكثر في قتل المسلم إذا تترَّس به الكفار وعلمنا أنه إن لم يقتل قتلوه وقتلوا المسلمين معه. ¬
قلنا: هذا الاحتمالُ صحيحٌ، ولسنا نستقوي هذه المسألة، ولكنا نرى الاحتمال الذي معهم، فوجب أن يُجْعَلُوا من أهل التأويل، فلا يُكَفَّرُوا، ولا نقطع بعنادهم. ومما يقوي مثل هذا -أعني عدم تكفيرهم والقطع بعنادهم (¬1) - وورود ما يشتبه في السمع من هذا القبيل، كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] فإنه ترك الإسماع لهم مؤاخذةً بما (¬2) عَلِمَ من عدم استماعهم لو أسمعهم. وكذا ما يظهر قبل التأمل من قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (¬3) [الإسراء: 16]، فإن الله تعالى أراد الهلاك قبل الأمر لما سبق في علمه من فسقهم بعد، فقدم الإرادة قبل استحقاقهم، والقوي (¬4) خلاف هذا عندي، وليس هذا موضع بسطه، وإنما قصدتُ إيراد هذه الأشياء لبيان أنهم من أهل التأويل، وليس هذا كمن يقول: إن الله يعذِّبُ بمجرد سبق علمه بالتعذيب من غير علمٍ بذنبٍ مستقبلٍ كما ذكرنا في مسألة الدواعي، فتأمل الفرق بينهما. وأهل هذا القول الثالث يريدون أن خلق الفعل وإبلاغ التكليف من قبيلِ الزيادة في الإعذار من الله تعالى، وإلا فعلمه (¬5) سبحانه الحق الذي يعلم الكل يوم القيامة أنه حقٌّ كافٍ في إقامة الحجة. بل قد تقدم أنه يجوز أن يكون الله عَلِمَ أن في عذاب أهل النار حكمةً غير الجزاء على الذنوب، كالحكمة في إيلام الأطفال والبهائم، بل مرَّ تقرير الدليل على رجحان مثل ذلك، لأن حُسْنَ التعذيب من قبيل الإباحة التي لا رُجحان فيها، والله يتنزَّه عن فعل ذلك، لأنه عبثٌ. ¬
القول الرابع وفيه الكلام على الحديث المشهور في إخراج ذرية آدم من صلبه على صورة الذر وخطابهم
وإنما أراد الله إزاحة إعذار المبطلين كما ورد به الحديث الصحيح " لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل "، وشهد بذلك القرآن كما تقدم، فأراد الله أن يدخلوا النار بسبب الذنوب، لما في ذلك من الحِكَم البالغة، والمصالح الراجحة، والغايات الحميدة، كما أخرج آدم من الجنة على وجه (¬1) العقوبة لأجل هذه الأشياء، مع أنه ما خُلِقَ إلاَّ خليفةً للأرض، كما نص عليه القرآن، وأحاديث الأطفال تشهد بذلك، وإقامة العدل والحجة (¬2) عليهم، والله سبحانه أعلم، وقال ابن عبد البر: إن هذا قول الأكثرين. وعندي -والله أعلم- أنه راجعٌ إلى القول الثاني، فإنه طرفٌ منه، لكن في القول الثاني زيادة الابتلاء وإقامة الحجة يوم القيامة. وأول أحاديثه أن من علم الله أنه يكون شقياً لو أدرك العمل، لكان من أهل النار، ولكن بزيادة الابتلاء وإقامة الحجة يوم القيامة، لكن لما كان في هذه الزيادة ما قدمنا. من الإشكالات، اقتصر أهل هذا القول على أول الحديث تورُّعاً من آخره، معتقدين أن الحجة البالغة والحكمة التامَّة لله تعالى على عباده كيف شاء. إن هذا الاحتمال أقوى من القطع بتعيُّن (¬3) وجه الحكمة في الابتلاء يوم القيامة، فأما إن كانوا نَفَوُا الابتلاء يوم القيامة والحكمة، فقولهم باطل، والقول الثاني أقوى منه. القول الرابع: إن الله تعالى قد خلقهم فيما مضى، وكلفهم وعصوا، فبذلك استحقوا العذاب، ويحتجون على ذلك بالحديث المشهور في إخراج ذرية آدم من صُلبه على صورة الذَّرِّ، وخطابهم بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] كما سيأتي تفصيله. روى هذا الترمذي وحسَّنه، ورواه أحمد ¬
والنسائي وابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ وابن حبان في " صحيحه " من طرق عن الإمام مالكٍ من طريق مسلم بن يسارٍ الجهني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يُدركه (¬1). قال أبو حاتم: وبينهما نُعَيْم بن ربيعة، وقد رواه أبو داود (¬2) كذلك، وقال الدارقطني (¬3): هو الصواب، وقد تقدَّم تفصيل ذلك في أحاديث الأقدار. وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، رواه أحمد في " المسند " (¬4)، وقال الهيثمي (¬5): رجاله رجال الصحيح، والحاكم في " المستدرك " (¬6). وروى الترمذي (¬7) مثله في التفسير عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: حديث حسن صحيح. قال: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن كثير في " البداية والنهاية " (¬8): وروي هذا عن ابن عمرو مرفوعاً، قال: وحديث ابن عباس جيد الإسناد على شرط مسلم، إلاَّ أن الأكثر وقفه عليه. ¬
قال أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير، يعني: ابن حازم، عن كلثوم بن جبر (¬1)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس يرفعه. ثم قال ابن كثير: رواه ابن جرير، والنسائي، والحاكم من حديث حسين ابن المروزي به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (¬2). وروى ابن كثير (¬3) مثل ذلك من حديث أبي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق أبي جعفر الرازي، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب. ثم قال: رواه عبد الله بن أحمد، وابنُ أبي حازمٍ، وابن مردويه، وابن جريرٍ في تفاسيرهم. قلت: ورواه الحاكم (¬4) مطولاً، وقال: صحيح الإسناد، وذكر أن الله أخذ من النبيين ميثاقاً آخر، وفُسِّر به قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الآية [الأحزاب: 7]، وفُسِّر بذلك قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30]، وقوله: {هذا نذيرٌ من النذر الأولى} [النجم: 56]، وقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهدٍ} [الأعراف: 102]، وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ¬
بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْل} [يونس: 74]، قال: كان في علمه يوم أقروا بما أقروا به من يصدق به ومن يكذب. قال ابن كثير (¬1): وروي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسُّدِّيِّ، وقتادة وغير واحد من علماء السلف بسياقاتٍ توافق هذه الأحاديث. ورواه ابن كثير من غير ذكر الإشهاد من طرق جمة، عن أبي هريره (¬2)، وأبي الدرداء (¬3) مرفوعاً، وعن الحسن (¬4) وابن عباس موقوفاً (¬5). وقال ابن كثير (¬6): إن ذكر الإشهاد في الحديث هو قول الجمهور، وقد استوفى ما ورد في هذا في تفسير هذه الآية (¬7). وقال الهيثمي (¬8) في حديث أُبي بن كعب المقدم: رواه عبد الله بن أحمد، عن شيخه محمد (¬9) بن يعقوب الرَّبالي (¬10)، وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح. وروى ما يقتضي صحته أحمد بن عيسى بن زيد بن علي رضي الله عنهم في كتاب " الأمالي " المعروف بعلوم آل محمد، فقال في الحج في زيارة البيت (¬11) ¬
في الجزء الخامس من تجزئته: عباد يعني: ابن يعقوب، عن يحيى، يعني: ابن سالم، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر أن الله حين أخذ ميثاق بني آدم من ظهورهم استودعه هذا الحجر فمسُّكم إياه بيعتكم (¬1) فيما عاهدتم عليه حين أخذ ميثاقكم أن الله ربكم. انتهى. ولم أجد هذا في فضائل الركن في الكتب الستة، ولا في " مجمع الزوائد "، وتقدمت عشرة أحادث في أحاديث القدر (¬2) في كل واحد منها ذكر إخراج أهل الجنة من كتف آدم اليمنى، وأهل النار من كتفه اليسرى، أولها الحديث الخامس والخمسون عن أبي الدرداء وأم هانىء، وآخرها الرابع والستون عن الحسن البصري. وفي الأحاديث الصحاح شواهد قوية بهذا المعنى، فمنها: ما رواه البخاري ومسلمٌ وأحمد عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن الله عزَّ وجلَّ يقول لأهون أهل النار عذاباً: لو أن ما في الأرض من شيءٍ كنت تفتدي به؟ قال: نعم، فقال: قد سألتك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا الشرك " (¬3). ومن ذلك ما ثبت في " الصحيحين " (¬4) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقهم، قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة ". وتقدم حديث عبد الله بن عمرو (¬5) سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله ¬
خلق خلقه في ظُلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه، ضل ". رواه البيهقي في " الأسماء والصفات "، وأحمد في " المسند "، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. فهذه الآثار وأمثالها تقوِّي القول بإخراج ذرية آدم من صلبه مرة أولة. ويدل عليه أيضاً ما ذكره ابن عبد البر وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] فإنهم فسروا إسلام الخلق كلهم بذلك، وقالوا: إن الله تعالى لما قال لهم: {ألست بربكم}؟ قالوا: كلهم: {بلى}، فأمَّا أهل السعادة، فقالوا عن معرفة له طوعاً، وأما أهل الشقاوة، فقالوه كرهاً. ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم} [آل عمران: 106] ففيه أن كل كافر قد كفر بعد إيمانه، وهذا لا يصح ظاهره في هذا التكليف المعلوم لنا، وكذلك ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، فظاهرها خلق جميع المخاطبين قبل الأمر بالسجود لآدم في عالم الذر، وهو قول مجاهدٍ، وقتادة، والربيع، والضحاك، ومجاهد من أصح المفسرين تفسيراً وقتادة -على حفظه- من قدماء المعتزلة في مسألة الأفعال. فأما قول ابن عباس: " خُلِقُوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء "، فلا يناقض هذا، وإن كان الحاكم صححه على شرط الشيخين (¬1)، فإن الجميع من الخلق والتصوير ممكن أنه كان في ذلك الخلق الأول، وذلك داخل، وهو ظاهر الترتيب في قوله: {ثم قلنا للملائكة} [الأعراف: 11]. ويترجح بما تقدم والله سبحانه أعلم على أنه موقوفٌ، لا يجب أو لا يجوز ترك الظاهر له، خصوصاً مع عدم شذوذ القائل به وكثرة شواهده. ¬
وكذلك قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة} [الأعراف: 29 - 30]. وكذلك قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُم} [البقرة: 28] فإن الموت في الحقيقة لا يكون إلاَّ بعد حياة، ولا يجوز حمل كتاب الله على المجاز في جميع هذه الآيات المتقدمة إلاَّ لضرورة تمنع من الظاهر، ولا ضرورة في حق من هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء بصير. فإن قلت: قوله تعالى: {أمتنا اثنتين} [غافر: 11] ينافي ذلك، لأنه يؤدي إلى الإماتة ثلاث مرات. قلنا: بل هو أحد الأدلة على ذلك، فإن موتهم بعد ذلك الخلق الأول في عالم الذر هو الموتة الأولى، وموتهم بعد هذا الخلق الثاني هو الموتة الثانية. هذا هو الأظهر ويؤكده أن المرتبتين (¬1) مما يختص بالإقرار به أهل الحق، بدليل قوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين} [الصافات: 58 - 59]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيل} [غافر: 11]. فأما تسمية النطفة ميتةً مجازاً، فلم يخالف فيه كافرٌ ولا مبتدع، ولا ورد الشرع بوجوب اعتقاده، ولا يسمى معتقده مؤمناً. وأما قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] فمفهومٌ لا ينتهض لمعارضة المنطوقات متى سُلِّم أنه مفهومٌ صحيحٌ، وليس بمسلَّمٍ، لأنه استثناء من الموت المذوق، وهو المؤلم، وأحد الموتتين يمكن أنها كانت غير مؤلمةٍ، كالنوم الذي سماه الله تعالى وفاةً في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]. ويدل على ذلك أنه لا يشترط في تسمية الموت أن يكون مذوقاً حقيقة أو مجازاً في اللغة، فجاز ¬
انقسامه إلى مَذُوقٍ وغير مذوق، والاستثناء (¬1) من أحد القسمين -وهو المذوق- دون الآخر، مع أن أهل الجنة لا يذوقونه في الجنة، فوجب أن يكون الاستثناء منقطعاً. وإنما سماها الموتة الأولى بالنظر إلى تقدمها لوقت الكلام، لا بالنظر إلى أول موتة على الإطلاق، كما يقول: الساعة الأولى، ولا يعني بها أول ساعة، بل ساعة قبلها، وكذلك الصلاة الأولى، يؤيده أنه لا يصح في العربية أن يقال: الأولى من كذا، فكانت بمنزلة: زيدٌ الأفضل، فإنه لا يتعين المفضل عليه إلا فيما ذكرت فيه " من ". ولو سلمنا أنه ظاهرٌ في أول موتة، فجائزٌ أن تكون الموتة الأولى في الجنة يوم خلق عالم الذر، لأن آدم في ذلك العصر كان في الجنة قبل أن يذنب ويخرج منها، ويكون الاستثناء على هذا متصلاً، ولا يَرِدُ عليه أن الجنة التي كان فيها آدم غير جنة الخلد، لأنه لا دليل على ذلك، ويدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم} [الأعراف: 11]. فهذا يقتضي أن خروجهم على صور الذَّرِّ كان في الجنة، لأن خروج آدم كان بعد لأمر بالسجود، وقد جعله الله بعد تصوير الجميع، والظاهر أن حياتهم لم تطل، فهذا محتملٌ أيضاً، ومنتهى ما فيه أن نقف في معنى هذا لاشتباهه، ونقول بمعنى تلك الآيات لظهوره. فأمَّا قولهم: إن الموتة الأولى (¬2) هي التي بعد الخلق، وهي المعلومةُ للجميع، والموتة الثانية التي تكون في القبر بعد الحياة فيه، فليس بقوي، لأن تلك الموتة التي في القبر مثل النوم، لأنها متكررة كل يوم، لقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] ولما ورد في الحديث من عرض مقاعدهم عليهم في الجنة أو النار كل يوم (¬3)، ولما ورد في عذاب ¬
القبر، وهو لا يكونُ إلاَّ مع الحياة. وقد تقدم أن الله تعالى سمى النوم وفاة، ويجور أن يكون في الخلق من مات مرتين فقط، وفيهم من مات أكثر، وفيهم من لم يمت إلاَّ مره واحدة كالملائكة. والذين ماتوا أكثر من ثِنْتَيْنِ، كالذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، والرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه الله تعالى كما ثبت في الحديث الصحيح (¬1). وفي الحديث: " أنا أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فما أدري أكان ممن استثناه الله تعالى، أم حوسب بصعقة الطُّور؟ " (¬2). ¬
سؤال عن كيفية جواز نسيان العقلاء الحياة الأولة في عالم الذر
ففيه إشارةٌ إلى تجويز أن يكون موسى عليه السلام ممن مات أكثر من مرتين، إذاً لم يُحاسب بالصعقة (¬1)، وكانت تسمى موتة. فإن قلت: كيف يجوز على العقلاء نسيان تلك الحياة الأولة؟ فالجواب: أنه لا مانع من ذلك، فإن الذكر والنسيان من أفعال الله تعالى بالإجماع، وإنما اشترط بعض أهل الكلام أن لا ينسى العاقل الأمور العظيمة القريبة العهد، لأن ذلك من علوم العقل التي ينبني عليها التكليف، فهو عند بعضهم يُخِلُّ بالحكمة، لا لأن الله تعالى غير قادر على أن يُنْسِيَها العبد، والنسيان لما كان في الخلق الأول لا يخل بشيء في الحكمة ولا في القدرة، وبخاصةٍ ومدة تلك الحياة قصيرةٌ إنما كانت قدر ما يتسع للسؤال والجواب على ما يفهم من سياق الأحاديث أو بعضها، فصارت كالرؤيا التي جرت العادة بنسيان كثير منها، وذكرها بعد نسيانها من شاء الله، وإنما الباطل ما ذكره كثير من الفلاسفة أن النفس كانت قديمة أزلية مجردة، ثم تعلقت بالبدن، وهي لا تذكر ذلك بعد طوله، والله سبحانه أعلم. فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وإذ أخذ ربُّك من بني آدم} ¬
[الأعراف: 172] ولم يقل: من آدم، فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه لا يلزم في هذه الأحاديث أن تكون تفسيراً للآية، ولا واردة في معنى الآية، لكنها لما كانت شبهة بمعنى الآية، ذكروها مع الآية، لتقاربهما في المعنى، لا لاتحادهما فيه، وهو اختيار ابن كثير، فثبت أن الأحاديت حجة في المقصود، وإن لم تكن تفسيراً للآية. الوجه الثاني: الجمع بين الآية والأحاديث بالتأويل، وقد ذكر في ذلك وجهان، ولا حاجة إلى التطويل بذكر ذلك، لكراهة التعرض لتأويل المتشابه، وفي الوجه الأول كفاية. ويحتمل وجهاً آخر ليس فيه مخالفةٌ للظاهر، وهو أن يكون أخرجهم في المرة الأولى متناسلين بعضهم من بعضٍ كما أخرجهم في المرة الآخرة، وهو قول الواحدي. وقيل: أخرج الذرية قرناً بعد قرنٍ، وعصراً بعد عصرٍ. فهذا جملة ما حضرني مما ذكره أهل السنة في كتب الحديث وشروحها من وجوه الحكمة في ذلك على تقدير وقوعها. والقصد بهذا كله أن لا يقطع على ثقات الرواة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنهم كذبوا أحاديث الأطفال، كما يجري على ألسنة كثير من المبتدعة فيما لم يعرفوا تأويله، وذلك أن رواة أحاديث الأطفال وغيرها مما ينكره أهل البدع هم رواة كثيرٍ من أحكام الشريعة، وفي تكذيبهم أو تُهمتِهم خللٌ عظيمٌ يرجع على جميع فرق الإسلام، وليس يعرفُ هذا إلاَّ من عرف من روى هذه الأحاديث كلها، وليس المراد من روى الأحاديث المصرحة بأنهم جميعهم في النار. وقد قدمنا أنه لم يصح منها حديثٌ واحد، ولكن الأحاديث المفهوم ذلك منها من غير تصريحٍ مثل الأحاديث التي فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عنهم
قال: " هم مع آبائهم، أو من آبائهم " فقيل له: بعملٍ أو بغير عملٍ؟ فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " (¬1). وأيضاً فالأحاديثُ التي لم تصح في الباب إنما لم تصح (¬2) على قواعد المحدثين، وأما على قواعد غيرهم، فإنها تصح على كلامهم مثل حديث خديجة، فإن المحدثين قدحوا فيه بالإرسال، فمن يقبلُ المرسل يقول بصحته، وكذلك من لا يرُدُّ الراوي بالضعف اليسير يقبل كثيراً من رواتها، وهو مذهب الأصوليين، وكذلك من لا يقدح بالعلل، وأمثال ذلك. وعلى الجملة، فلولا شهرة الآثار الواردة في هذا الباب، ما اختلف عاقلان أبداً، فإن العقول تقتضي أن الله تعالى لا يعذب العصاة على معاصيهم، لسعة رحمته وكرمه، وغناه التام عن تعذيبهم، وعدم تضرره بذنوبهم، ولولا ورود السمع بعذاب المذنبين ما قال به قائل. ولكن الشريعة المطهرة وردت بالابتلاء الشديد في الأعمال بالميثاق، والعقائد بالمتشابه، وأحسن المؤمنين إيماناً أثبتهم إيماناً بما يخالف عقله بشهادة قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} [آل عمران: 179]، وقد تقدم هذا المعنى عند ذكر الحكم في تقدير الشرور وإنزال المتشابه في مسألة الأقدار، فليراجع في موضعه، فإنه نافع إن شاء الله. والقصد ببسط الكلام في هذه المسألة وما تقدمها من المشكلات: المبالغة في حمل المسلمين على السلامة، لما ورد في الأخبار المتواترة من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلم أن يحب للمسلمين ما يحب لنفسه (¬3)، ومن ورود الثناء في ¬
المسألة الثانية: تعذيب المسلم الميت ببكاء الحي عليه
القرآن العظيم على الذين يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، وجاء في النهي عن التباغض ما لا يخفى (¬1)، وجاء في " الصحيح ": " بحسب امرىء من السوء أن يحقر أخاه المسلم " (¬2). المسأله الثانية مما يتوهم مخالفتهم فيه: تعذيب المسلم الميت ببكاء الحي عليه. والجواب عنهم من وجوه: الأول: أن منهم من تأول ذلك بالوصية ونحوها، منهم البخاري في " الصحيح، (¬3) والخطابي (¬4)، وحكاه عنه ابن الأثير في شرح غريب حرف الميم (¬5)، والنواوي في " رياض الصالحين " (¬6)، وفي " الروضة " (¬7) ذكره في كتاب الجنائز منها. وقال في " شرح مسلم " (¬8) في كتاب الجنائز منه: إنه قول الجمهور، وإنه الصحيح. قال: وقالوا: فأما من بكى عليه أهله من غير وصيةٍ منه فلا يعذب، لقوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [الإسراء: 15]، قالوا: ¬
وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طرفة بن العبد: إذا مِتُّ فانعيني (¬1) بما أنا أهلُه ... وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا ابنة مَعْبَدِ (¬2) فخرج الحديث مطلقاً حملاً على ما كان معتاداً لهم. وقالت طائفةٌ: هو محمولٌ على من أوصى بذلك، أو لم يوص بتركه، فإنه يعذب بتفريطه في إهماله الوصية بتركه، وحاصل هذا إيجاب الوصية بتركه ذلك. وقالت طائفة: معنى ذلك أنهم كانوا ينوحون بتعديد محاسن الميت في زعمهم، وهي قبائح في الشرع، نحو قولهم: يا مُرَمِّل النسوان، ومُوتّم الولدان، ومُخرِّب العمران، مما يرونه شجاعةً وفخراً، فيعذب بذلك القبيح (¬3). وقالت طائفة: إنه يعذب بسماعه لبكاء أهله، لأنه يرق لهم. وإلى هذا ذهب محمد بن جرير وغيره (¬4). ¬
وقال القاضي عياض: وهو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر امرأة عن البكاء على أبيها، وقال: " إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا إخوانكم " (¬1). وقال ابن الأثير في شرح قوله: " إن الميت لَيُعَذَّب ببكاء أهله عليه " في كتاب الموت من حرف الميم (¬2) في شرح غريبه ما لفظه: قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا من حيث إن العرب كانوا يوصون أهاليهم بالبكاء والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم كثيراً. قال: تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إليهم وقت حياته. انتهى بحروفه. الوجد الثاني: أنت من قرَّره على ظاهره منهم، قطع أن له وجه حكمةٍ لا يعلم تأويله إلاَّ الله، كما هو مذهبهم في جميع المتشابه. الوجه الثالث: ما قدمنا في المسألة الأولى من حكاية إجماعهم على أنه يجوز في البرزخ ما يجور في دار التكليف من الامتحان بالآلام، والأمور المشتبهة، وقد أجمعت الأمة على أن ذرية المشركين الذين لم يذنبوا يلحقهم الرِّق في الدنيا بسبب كفر آبائهم، ويتمشى تأويل هذا على كل مذهب، فإنه لم يخرج مخرج العقوبة لمن لا ذنب له بذنب غيره. وكذلك تعذيب الميت ببكاء أهله (¬3) ليس فيه تصريحٌ بأنه عقوبة له، ومنتهى ما فيه دخول الباء، فلا يدل على العقوبة، كاسترقاق الذرية بكفر (¬4) آبائهم. ¬
وقد ذكر الذهبي ما يدلُّ على هذا في " النبلاء " (¬1)، أظنه في ترجمة سعد بن معاذ، فإنه ذكر أن ضمة القبر من جملة الآلام التي تصيب المؤمن وغيره، كآلام الدنيا. وهذا ممشى على أصول المعتزلة، فإن منهم من يجيز الألم متى كان للألم عِوَضٌ، ولا مانع من هذا بعد الموت، ومنهم: من يَشْرُطُ مع العوض للاعتبار، ولا مانع منه أيضاً، فإنه يجوز أن يعتبر به المكلَّفون لعلمهم به، وتصديقهم له. وقال ابن عبد السلام في " قواعده " (¬2) في قاعدة عقدها في المستثنى من القواعد الشرعية: الثاني والعشرون: الصلاة واجبة على الأموات، لافتقارهم إلى رفع الدرجات، وتكفير السيئات، إلاَّ أن الأطفال لا يدعى لهم بتكفير (¬3) السيئات. وقد روى مالكٌ، عن سعيد بن المسبب أنه سمع أنساً (¬4) يدعو لصبيٍّ في الصلاة عليه أن يُعيذه الله من عذاب القبر. وهذا ليس ببعيدٍ، إذ يجوز أن يُبتلى في القبر كما يبتلى في الدنيا، وإن لم يكن له ذنبٌ، فيجوز أن يكون هذا رأياً من أنس، و [يجوز] أن يكون أخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. وهو مثل كلام الذهبي في تشبيه ذلك بآلام الدنيا، وعدم خُلُوه من الحكمة إن ثبت ذلك على الصحيح، والله أعلم. الوجه الرابع: أن يكون الميت يستحق العذاب، ويكون البكاء عليه سبباً لوقوع العذاب في ذلك الوقت، فقد جاء في " الصحيح ": " من نُوقِشَ الحساب، عُذِّبَ " (¬5) وله شواهد في الصحاح، ومن لم يُبْكَ عليه أُخِّر عذابه ¬
إثبات حكمة الله على جهة العموم عند أهل السنة
المستحق حتى يجازى به في الآخرة أو يُعفى عنه. وإلى نحو هذا ذهبت عائشة، فإنها ذهبت إلى أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه، لا ببكائهم. حكاه النواوي عنها في شرح " مسلم " (¬1) وهو نحوه، إلاَّ أن فيما لخصته زيادةً حسنةً تناسب كون البكاء سبباً للعذاب المستحق، لا موجباً له، والله أعلم. وتكون الحكمة في تعجيل العقوبة المستحقة بسبب البكاء الزَّجر عنه. ومع هذه الوجوه وما لا تحيط به العقول من حكمة الغنيِّ الحميد، الذي لا يُتَّهَمُ بظلم العبيد، كيف يسوغ تكذيب الثقات في رواية الأخبار النبوية، ونسبتهم إلى تجويز الظلم إلى بارىء البرية، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تكذيب اليهود فيما نقلوه من الإسرائيليات (¬2)، فالعجب ممن يتجرأ مع ذلك على تكذيب الثقات الأثبات. فهذا ما وعدنا به من ذكر مذاهب أهل السنة على جهة الخصوص في إثباتهم حكمة الله عزَّ وجلَّ في هاتين المسألتين من المتشابه الذي لا تدرك العقول منه إلاَّ ما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فصل: وأما ما وعدت به من ذكر مذاهبهم في ذلك على جهة العموم، فذلك كله إجماعٌ من أهل السنة، وقد ذكر ذلك الزنجاني في شرح قصيدته الرائية الشهيرة بالحث على السنة التي أولها: ¬
تَمَسَّك بحبلِ الله واتبع الخبر وقد نص على ذلك الإمام الشافعي في أوائل كتاب " الأم " ولم يحضرني لفظه، فلينظر فيه. وقال ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ": إنه إجماع الفقهاء كما سيأتي. ولما حكى الذهبي عن عكرمة قوله: إن الله أنزل المتشابه ليضل به، قال الذهبي: ما أسوأها عبارة وأخبثها، بل أنزله ليهدي به وليضل به الفاسقين. وهذا منه -رحمه الله- إشارةٌ إلى قول الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]. ذكره في ترجمة عكرمة من " الميزان " (¬1). وقال ابن كثير في الأول من " البداية والنهاية " (¬2) في قصة نوح عليه السلامُ في تفسير (¬3) قوله فيما حكى الله عنه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [هود: 34]: أي: من يرد الله فتنته، فلن يملك أحدٌ هدايته، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. انتهى بحروفه. وتقدم قول ابن الجوزي (¬4): بُتَّ الحكم، فلم يعارض بـ " لِمَ " فأقدام الطلب (¬5) واقفةٌ على جمر التسليم. وقال النواوي في " الأذكار " (¬6) في حديث " والشر ليس إليك " (¬7): أي: ليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمتك، فإنه لا يفعل العبث، وفي شرح " مسلم " (¬8) مثله. ¬
وقال أيضاً في كتابه " التبيان في آداب حملة القرآن " في الباب التاسع (¬1) منه: فصلٌ: وينبغي لمن أراد السؤال عن تقديم آيةٍ على آيةٍ في المُصحف أو مناسبة هذه الآية في هذا الموضع ونحو ذلك أن يقول: ما الحكمة في كذا. انتهى بحروفه. ولم يعترضه في ذلك أحدٌ، بل ما زال علماء الإسلام يذكرون الحكمة في ذلك خصوصاً أئمة التفسير، وعلماء الأمة مُجمعون على تقرير ذلك وتصويبه سلفهم وخلفهم. قال الشيخ العلامة محمد بن موسى الدميري الشافعي (¬2) في كتابه " حياة الحيوان " (¬3) في ذكر الذباب من حرف الذال: إن الله تعالى خلق الذبابة، وجعل لها الهداية إلى أن تُقَدِّم الجناح الذي فيه الداء، وتؤخِّر الذي فيه الدواء، لما فيه من الابتلاء الذي هو مَدْرَجَة (¬4) التعبد (¬5)، ومن (¬6) الامتحان الذي هو مِضمار التكليف، وله في كل شيء حكمةٌ وما يذَّكَّر إلاَّ أولو الألباب. بل حكى هذا الكلام عن الإمام الخطَّابي (¬7) وقرره، فاتفقا معاً عليه، وردّا معاً على من طعن في الحديث الوارد من طريق أبي هريرة وأبي سعيدٍ (¬8)، وتكلَّفا ¬
الوجوه الغامضة في الرد، ولو كان نفي الحكمة يسوغ عندهما، كان أقرب وأقطع. وقال شيخ الحنابلة ومتكلمهم ابن قيم الجوزية في كتابه " حادي الأرواح " (¬1): محالٌ على أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن المصالح والغايات المحمودة، والقرآن والسنة والعقول والفطر والآيات شاهدة على ذلك. وقال أيضاً في كتاب " الجواب الكافي " (¬2) له: إنه ما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله. وقال ابن العربى المالكي المتكلم في شرح " الترمذي " (¬3) ما لفظه: فإن الباري لا يجوز عليه الإهمال بحالٍ ولا بوجهٍ، وقد وهم (¬4) في ذلك المتكلمون من علمائنا في بعض الإطلاقات على الله، وذلك قبيح، فلا تلتفتوا إليه. انتهى بحروفه. وهو صريح في إثبات الحكمة. ذكره في أول كتاب الصيام. وقال الغزالي في أوائل " إحياء علوم الدين " (¬5) في كتاب العلم في ذكر علوم ¬
المكاشفة من كتاب العلم: إن من علم علوم المكاشفة: علم حكمة الله تعالى في خلق الدنيا والآخرة. انتهى بلفظه. وصرح غير واحد من أهل السنة بذم أهل هذا القول من غلاة المتكلمين، على أن غلاة المتكلمين من الأشعرية الذين صرحوا به، وبالغوا في نصرته قد استشنعُوا ذلك، وحاولوا الاعتذار عنه، فقال الرازي: إنهم لا يخالفون في إدراك العقول قبح صفات النقص، كالجهل والكذب، وحسن صفات الكمال، كالعلم والصدق، وأن الله متصف بصفات الكمال، ومنزه عن صفات النقص، وإنما خالفوا بأنا (¬1) لا نعرف بمجرد العقل استحقاق فاعلها ما ورد به الشرع من الجزاء في الدنيا والآخرة. وهذا حسنٌ جداً، لكنه يناقضه كما سيأتي، بل يلزمه ثبوت الحكمة في الأفعال كالأقوال سواء. وكذلك ذكر الرازي أن فائدة العمل والتكليف مع سبق الأقدار، وهي تعجيل البشرى للمؤمن والإنذار للكافر، ويدل على قوله هذا قوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلاَّ مبشرين ومنذرين} [الكهف: 56]. وكلامه هذا يدلُّ على ثبوت الحكمة، وكذلك صرح بثبوتها في كلامه المقدم في الجبر والقدر الذي ذكره في " مفاتح الغيب "، فإنه ذكر فيه أن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب تعظيم الله تعالى، نظراً إلى قدرته، وبحسب تعظيمه سبحانه نظراً إلى حكمته. إلى آخر كلامه في ذلك. واعلم أنه لا فرق بين معرفة العقول أن الكذب صفة نقص يجب تنزيه الله عنها، وبين معرفتها أن تعذيب الأنبياء والأولياء في يوم الجزاء بذنوب أعداء الله صفة نقص يجب تنزيه الله عنها، وأن مَدْرَكَ قبح الأفعال والأقوال في العقول واحد، ومن حاول الفرق بينهما، فقد غالط وأبطل، وإنما ألجأهم إلى الفرق ¬
بينهما مخافة صريح الكفر في تجويز الكذب على الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً. قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام " ما لفظه: ونحن لا ننكر أن أفعال الله تعالى توجهت إلى الصلاح ولم يخلق الخلق لأجل الفساد، ولكن الحامل له ما كان صلاحاً يرتقبه ولا خيراً يتوقعه، بل لا حامل له. قلت: تعبيره بالحامل والارتقاب والتوقع (¬1) قبيح، ولو لم يقبح إلاَّ لكونه يوهم أن المخالفين له يُجَوِّزُون هذه العبارات القبيحة على الله تعالى. فكيف يوهم ذلك، ويستغلط الناظر في كلامه، فلو عبَّر بالحكمة، أصاب الحق ولم يوهم الباطل، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} [الأعراف: 180]. وقد اعترفت الأشعرية أن الله تعالى لا يفعل إلاَّ بالإرادة، ولم يسموها حاملاً له تعالى على الفعل. فكذلك قال: إنه لا يفعل إلاَّ بحكمة لا يلزمه تسميتها حاملاً، على أن هذه العبارة مجازية، ولا مانع من حقيقتها، وليس تعتبر الأسماء بغير المعاني الصحيحة بالإجماع. قال: وفرقٌ بين لزوم الخير والصلاح لأوضاع الأفعال، وبين حمل الخير والصلاح على وضع الأفعال. قلت: مجموعهما أكمل وأفضل، وعلى ذلك الشرع المُنَزَّل والعقل الأول. قال: كما تفرق فرقاً ضرورياً بين الكمال الذي يلزم وجود الشيء، وبين الكمال الذي يستدعي وجود الشيء، فإن الأول فضيلة هي كالصفة اللازمة، والثاني فضيلة هي كالعلة الحاملة. قلت: فضيلتان أكمل من فضيلةٍ، وتعطيل الرب من إحدى الفضيلتين هفوةٌ جليلةٌ، فجدوى هذا التمثيل قليلةٌ. ¬
الاستدلال على إثبات الحكمة لله تعالى
ثم ذكر أن عموم الخلق عندهم في توفيق الله الشامل لهم، وذلك بنصب الأدلة والإقدار على الاستدلال بإرسال الرسل، وتسهيل الطرق، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165]. إلى آخر كلامه. قلت: واستشهاده بالآية يكفي في الرد عليه، وكذا قوله (¬1): إن عموم الخلق في توفيق الله إلى آخر كلامه، فإن ذلك دليل الحكمة، إذ لا يترجح أحد الممكنين بغير مرجِّح بالضرورة، ولهم في هذا المذهب مقصدان: أحدهما: أن المنافع والمضار، وإن تفاوتت بالنظر إلى الخلق، فهي غير متفاوتة بالنظر إلى الخالق، فإذاً الترجيح بالنظر إليه محالٌ، وذلك غاية الغنى وأتمه وأبلغه. وثانيهما: قطع مادة الاعتراض لأفعال الله التي لا يُدْرَك بالعقول وجه الحكمة فيها. وهذان مقصدان حسنان لولا ما أدَّيا إليه من القبائح، وصادماه من قواطع النصوص الصريحة (¬2) بل ما خالفاه من الضروره العقلية والضرورة الشرعية، وقد كان اللائق ترك الاحتجاج على ذلك لجلائه، ولكني رأيت الاغترار بكلامهم قد فشا في عوام أهل السنة، وكاد مقصدهم فيه بالعبارات المموَّهة يخفى على بعض الخاصة، فرأيت أن أقصد وجه الله تعالى، فأتلو من آيات كتاب الله تعالى أكثر من مئة آيةٍ مما تقشعر الجلود لمخالفته، وتخضع القلوب لجلالته من غير استقصاءٍ لذلك لكثرته، والنصوص القرآنية في ذلك أنواع كثيرة ولله الحمد. النوع الأول: ما جاء بأصرح صيغ التعليل مما يتعذر فيه التأويل مع مراعاة الحياء من التنزيل، مثل ما ورد في تعليل خلق السماوات والأرض، وفيه آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا ¬
خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون} [الدخان: 38 - 39]. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا (¬1) إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8]. وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: 16 - 17]. وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 27 - 28]. وقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف: 3]. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191]. وقوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} [الجاثية: 22]. وقوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} إلى قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [الطلاق: 12]. ¬
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون} [الرعد: 2]. ومن ذلك، وهو من أصرحه وأفصحه، قوله تعالى في الرد على اليهود: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18] حيث ادَّعوا أنهم أبناؤه وأحباؤه، فإنها (¬1) مناديةٌ نداءً صريحاً على أنهم لا يُعَذَّبون بمجرد القدرة والمشيئة من غير نظرٍ إلى غيرهما، لأنه لو كان كذلك، لما علَّل انتفاء التعذيب بحصول المحبة، وأفحم بذلك الخصم، وأمر نبيه عليه السلام أن يناظر بذلك، وأودعه كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن ذلك تعليل عذاب أهل النار بكونه جزاءً لهم على ذنوبهم (¬2)، وهذا معلومٌ بالضرورة من الدين ونصوص القرآن المبين. والعجب ممن يعرف القرآن الكريم كيف يقول بذلك؟! قال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُم} [النساء: 147]. وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ يُجَازى (¬3) إِلَّا الْكَفُور} [سبأ: 17]. وقال: {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} [سبأ: 25]. وقال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15]. ¬
وقال: {هل تجزون إلاَّ ما كنتم تعملون} [النمل: 90]. وقال: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} [سبأ: 45]. وقال: {كذلك نجزي كل كفور} [فاطر: 36]. وقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه ... فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 43 - 45]. وقال تعالى: {إنَّ ربَّهُم بهم يومئذٍ لخبير} (¬1) [العاديات: 11]. وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين} [يس: 60]. وقال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاَّ الله يستكبرون} [الصافات: 35]. وقال تعالى: {جزاءً بما كانوا يعملون} [الأحقاف: 14]. وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُون} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬2) [السجدة: 18 - 21]. وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} [الجاثية: 21]. وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار} [ص: 28]. وقال تعالى: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26]. ¬
الجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدا لم يدخل الجنة بعمله" الحديث، وبين الآيات القرآنية الدالة على أن دخولها بالعمل
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون} [الأنعام: 125]. وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون} [يونس: 100]. وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} إلى آخر الجاثية: [28 - 37]. وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3]. فهذا وأمثاله في تعليل عقوبة أهل النار. وكذلك ثواب أهل الجنة جاء في كتاب الله معللاً بمجازاتهم على أعمالهم، وليس ذلك بمانع من دخولهم الجنة برحمته سبحانه. فإن قيل: فكيف الجمع بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحداً لم يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ " وبين الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: {ادخُلُوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32]، وكيف يعارض القرآن بخبر الواحد؟ قلنا: ليس بخبر واحدٍ، بل هو متواتر عند أهل البحث التام عن طرق الحديث، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بضعة عشر طريقاً: عن أبي هريرة، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيدٍ الخدري، وأبي موسى، وشريك بن طارقٍ، وأسامة بن شريك (¬1)، وأسد بن كُرْزٍ، وأنسٍ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وواثلة بن الأسقع. فحديثُ أبي هريرة وحديث عائشة متفقٌ عليهما، وحديث جابر عند مسلم، وبقيتها في " مجمع الزوائد " من مسانيد الأئمة الحفاط، وثق الهيثمي رجال أربعة ¬
منها وبقيتهم رجال التواتر (¬1). وشهدت بها آيات القرآن -كما يأتي الآن- في أقوال السلف والخلف، وعلى تسليم أنها آحادٌ عند الخاصة، كما هو كذلك عند العامة، فليس ¬
بمعارضٍ للقرآن الكريم، بل ليس بمعارضٍ في الحالين معاً، وليس بمعارض القرآن والأخبار، ولا يجوز ذلك وإن جهل معناه الجاهلون، ومعنى الحديث صحيحٌ كلفظه، وفي القرآن معناه في غير آية. قال الله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد: 21]. وقال في سورة الدخان بعد ذكر الجنة: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [الدخان: 56 - 57]. وقال في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [آل عمران: 107]. وقال في سورة الأحزاب: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47]، فسمى الأجر فضلاً كما سمى الفضل جزاءً، وذلك غير متناقضٍ، وقد نطق به التنزيل مفرَّقاً في غير آيةٍ ومجموعاً في قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 171]. وليس في كتاب الله أن العمل يدخل الجنة، وإنما فيه أن الله هو يُدخل الجنة به في بعض الآيات، وفي بعضها بالعمل وبتكفير الله تعالى للسيئات، وهو زيادةٌ يجب اعتبارها، وبها يظهر فضل الله. قال في سورة التغابن: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التغابن: 9]. وقال في سورة الطلاق: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} [الطلاق: 11].
وفي آخر آل عمران نحوهما، [اقرأ الآية: 198]. وكذلك: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 35]، وهو كثيرٌ، ولا دليل على أن التكفير واجبٌ بالعمل، بل الأدلة ناهضةٌ بخلافه، منها: {ولو يُؤاخِدُ الله الناس} الآيتين [النحل: 61]، {فاطر: 45] وما في معناهما من الأحاديث، وقد تقدمت مبسوطة. منها: تسمية الجنة فضل الله. ومن ذلك: أن الله يعلم العلم، ويثيب عليه، قال: {وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7]، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]. ومن ذلك: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُون} [الدخان: 41]، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم} [الدخان: 42]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَه} [غافر: 9]، قال: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَان} [الحديد: 20]. وأما الجواب على السؤال، فمن وجوهٍ أربعة: الوجه الأول: أن الأعمال الصالحة إنما صلحت برحمة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاء} [النور: 21]. وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7]. وقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَان} [الحجرات: 17].
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]. وأوضح منهما قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94]. وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة} [الحجرات: 7 - 8]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [المائدة: 54]. وحكى الله عن ذي القرنين أنه قال: {هذا رحمةٌ من ربي} [الكهف: 98] يعني ما صنعه الله تعالى. وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]. ويوضحه من النظر أن المحسن بالسبب مُحْسِنٌ بالمسبِّب، خصوصاً مع قصد الإحسان بهما. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن الله عز وجل: " إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أُوَفِّيكم بها، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلاَّ نفسه ". أخرجه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه (¬1). ¬
ويشهد لذلك قوله تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. ويشهد لدخول الجنة برحمة الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66]. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين} [هود: 94]. ونحوه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]. ونحوه: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118] وهو في خطابه لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. وقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. وقول آدم وحواء: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} (¬1) [الأعراف: 23]. وقول يونس: {سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]. وقول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين} [الأنعام: 77]. وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} [الشعراء: 82]. ¬
فهؤلاء الأنبياء، فكيف غيرهم؟! الوجه الثاني: لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله بالمعاوضة، لأن العمل حقيرٌ ليس يُستحق بمثلِه مثلُ الجنة لو رجعنا إلى العوض المحقق، والباء في قوله: {بما كنتم تعملون} [النحل: 32]، باء السببية، فالأعمال سبب ذلك الفضل العظيم، والباء في السببية ظاهرةٌ شهيرةٌ، وقد تكون الأسباب عللاً في التفضل. وقد جمع الله الأمرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]. الوجه الثالث: ما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال. ويدل على هذا حديث أبي هريرة، وفيه " أن أهل الجنة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم ". رواه الترمذي (¬1). وقد دل على ذلك ما لا يُحصى من كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12]. ومثل قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [يونس: 4]. والتحقيق أن مقدار الأجر المستحق على تقدير وجوبه غير معروفٍ عقلاً، فجائز أن يكون حقيراً لو بيَّنه الله، وقد سمى الله الجنة فضلاً، فلا موجب لتأويله، لأنه عز وجل جعلها جزاء عملٍ حقيرٍ كرماً فضلاً، ولو لم يزد على القدر المستحق على تقدير صحته، لكان ما لا قدر له ولا نفع. ¬
ويدل على ذلك حديث الرجل الذي عبد الله خمس مئة سنة في جزيرة من البحر، وأراد أن يدخل الجنة بعمله، فحوسب، فما وفَّى عمله بنعمة البصر. خرَّجه الحاكم في " المستدرك " وصححه، وهو حديث مشهور (¬1). ويشهد لمعناه ظاهر قوله تعالى في خليله إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين} [العنكبوت: 27]. وفي " الكشاف " (¬2) في قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، وهذا يدلُّ على أن الجنة مستحقة بالعمل، لا بالتفضل كما يقوله المبطلة. فكتب بعض أهل العلم (¬3) في حاشيته ما لفظه: نعم يا شيخ المُحِقَّة. قلت: الجنة بالعمل، فالعمل بماذا؟ قلت: بالاختيار فالاختيار بماذا؟ رأى الأمر يُفضي إلى غايةٍ، فصيّر آخره أوَّلاً، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه} [الأعراف: 43]. انتهى. وألحقه بعضهم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَان} [الحجرات: 17]. وقد دل القرآن على أن العمل نعمة، والجزاء عليه نعمة. أما الأول، ففي قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة} [الحجرات: 7 - 8]، وقوله: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَر} [القمر: 35]. وقد ختم الزمخشري " كشافه " (¬4) بتضرع إلى الله طويل، قال في آخره: ¬
ويُحلَّني دار المقامة من فضله بواسع طوله، وسابغ نوله (¬1) إنه هو الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم. انتهى بحروفه. وهو شاهدٌ على أن مذهب أهل السنة هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأن الخصوم عند أن تَحِقَّ الحقائق يرجعون إليها، ولو رجع إلى تحقيق مذهبه، لكان مسألته للجنة عبثاً لا فائدة فيه، لأنه إن كان عاملاً بما كلَّفه، فهي له حقٌّ واجبٌ، لا يصح من الله الإخلال به، وإلا كانت المسألة لله أن يفعل قبيحاً ويُخلف وعده ويكذب فيه، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً. ومما يتعذر تأويله من صيغ التعليل مثل قوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} الآية [المائدة: 32]. ومن ذلك تأويل المتشابه، وعلى قولهم ليس له تأويل، وقصة الخَضِر وموسى مصادِمَةٌ لمذهبهم بالضرورة، ولا معنى لإنكار موسى، ثم لجواب الخَضِر إلاَّ اعتقادهما تغاير أحكام الأفعال بتغاير أسبابها عند الله تعالى، ألا تراهما لم يتنازعا في مشيئة الله تعالى وأمره، ولذا ما قال موسى: إن الله لم يشأ هذا ولا أمر به، ولا قال الخَضِر: إن هذا شاءه الله وأمر به، ولا كان الخضر أعلم من موسى بالنظر إلى مجرد أن ما شاء الله كان، وما شاء أن لا يكون لم يكن، فعامة المؤمنين يعرفون ذلك، إنما تفاضلا في معرفة حكمة الرب المتشابه (¬2) التي نفتها هذه الطائفة. الوجه الرابع: أن التوحيد عملٌ، بل هو أفضل العمل، كما ورد في الصحيح، وأجمعت عليه الأمة: من مات عقيب قوله: لا إله إلاَّ الله مخلصاً غير منافق (¬3)، بل ذلك معلومٌ ضرورةً من الدين، يوضحه أنا قد أجمعنا علي أن النار لا تُدْخَلُ إلاَّ بعمل، وأن من أشرك بالله، فقد استحق النار بأقبح العمل وهو الشرك. ¬
فإذا ثبت بالنصوص والإجماع أن الشرك عمل، فكيف لا يكون التوحيد عملاً؟! وكما أن من عذبه الله تعالى من المشركين، فقد عذبه بعمله، فكذلك من أثابه الله من الموحدين، فقد أثابه وأدخله الجنة بعمله. فبطل ظن من قال: إن الرجاء يؤدي إلى أن الإيمان قولٌ بلا عمل، أو إلى أن الجنة تُدخل بغير عمل، وقد عظَّم الله القول الثابت بقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]. واعلم أن أهل السنة لا ينكرون أن الجنة تُدخل بعملٍ كما ورد في القرآن، وإنما ينكرون ما ليس في القرآن من كونها تستحق على الله بالعمل استحقاق المبيعات بأثمانها، بحيث إنه لا فضل للبائع على المشتري. فمرجع النزاع في أن الباء التي في قوله تعالى: {بما كنتم تعملون} [النحل: 32] هل هي باء المعاوضة للشيء بمقدار ثمنه، مثل الثوب بالدرهم، أو هي باء السببية، كقولك: أكرمني الملك بسابق معرفةٍ، أو بكلمة طيبة سمعها مني، أو نحو ذلك؟ والقرآن إنما نص على العمل، لا على أن الباء فيه للثمن المساوي، ولو قال أهل السنة بعدم العمل، لجوزوا الجنة للمشركين، فاعرف هذه النكتة. وقد ظهر أن الخلاف إنما هو في كيفية الجمع بين الآيات والأخبار، وظهر عند كل منصفٍ وعارفٍ قصور العمل عن الوفاء بنعم الله وشكره، وما يحق له، كما قال: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91]. ويلحق بهذا النوع جميع ما احتج الله تعالى به من البراهين على التوحيد، وأنزله من الكتب، وأرسله من الرسل، فإنه معلومٌ أن الحكمة فيها والداعي إليها هو إقامة الحجة البالغة، كما ورد في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب " (¬1). ¬
والآيات في هذا كثيرة، ويأتي منه شيءٌ في النوع الثاني. النوع الثاني: ما جاء من أفعال الله تعالى معلَّلاً بلام " كي "، وهو أكثر من أن يُحصى. فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5]. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. وقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2]. وقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8]. وقوله تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41]. وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46]. وقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]. وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ
الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36 - 37] وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان: 31]. وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3]. وقوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8]. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43]. وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]. وقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2]. وقوله: {ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33]. وقوله: {ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29]. وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 30]. وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6]. وقوله: {لِتُنْذِرَ (¬1) مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70]. ¬
الكلام في أن اللام في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون} الآية، للتعليل، واختيار المصنف له
وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. ومنه ما يمكن تأويله بأن اللام فيه للعاقبة، ومنه ما لا يمكن ذلك فيه، كما لا يخفى على المتأمل النبيه. والعجب من الشهرستاني أنه اختار أفعال الله تعالى غير معلَّلةٍ بداعٍ ولا حكمة، ثم لم يُورد على قوله من السمع إشكالاً قط إلاَّ قوله تعالى: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]، وأجاب بأن اللام فيها للعاقبة، كقوله تعالى في شأن موسى عليه السلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وكقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67]. وتمسُّكُه بهذه الآية الثانية ممنوعٌ، فإنه ادعى ظهور أن اللام فيها للصَّيرورة والعاقبة بغير حجةٍ. وأما الآية الأولى، فقد أكثر المتكلمون المتأولون من الاستشهاد بها، ولا دليل لهم قاطعٌ على أن اللام فيها للعاقبة، لأنه يمكن أن اللام فيها على أصلها من التعليل، وذلك أن التقاطهم لموسى عليه السلام إنما كان من كرامات الله تعالى له، لأنهم كانوا مجتهدين في قتل الولدان لما (¬1) قضى به أهل علم النجوم من ظهور مولودٍ في ذلك العصر تكون له الدولة عليهم، فكان الرأي والنظر يقضي أن يكون الطفل الذي قذفه البحر في صندوقٍ هو الذي له الشأن العظيم، فيكون هو الذي يقتلونه دون غيره، أو هو أولى بذلك من غيره، فحين أعماهم الله تعالى من ذلك، لإنفاذ قَدَرِهِ ورغَّبَهم في التقاطه إكراماً لموسى، ورحمةً وحفظاً ولطفاً وإظهاراً لعظيم قدرته في أن يخدُمَه أعدى عَدُوٍّ له، مع الحرص الشديد على قتله وقتل جميع الولدان من أجله، كان هذا الالتقاط من ¬
أفعال الله تعالى التي ينفرد بها، وليس لهم فيها كسبٌ ولا اختيارٌ، لما فيه من منافاة أغراضهم، فكان بمنزلة رد موسى إلى أمه، لأن الله تعالى نسبه إلى فعله، حيث قال: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص: 13] مع أن ذلك الرد كان على يدي أخته. وكذلك رميُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدرٍ في وجوه المشركين لما وقع له ذلك الموقع العظيم، قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬1) [الأنفال: 17]. ونحو ذلك من أفعال العباد كثيرٌ يجري على أيديهم، وهو منسوبٌ إلى الله تعالى في المعنى، وهذا الالتقاط من ذلك القبيل، هو فعل الله تعالى على يد آل فرعون. والله تعالى بيَّن أن ذلك الالتقاط من ذلك القبيل (¬2) الذي قدره ويسر وأذن فيه ليكون لهم عدواً وحزناً. فهذا تعليل فعل الله في الالتقاط الذي فعله آل فرعون ومراده، لا تعليل فعلهم ومرادهم، فقد بين سبحانه عنهم أنهم أرادوا أن يكون موسى لهم قرة عينٍ، وأن ينفعهم أو يتخذه ولداً. فاعجب كيف غفلوا عن هذا الاحتمال، ومنتهى ما فيه تسليم أن اللام في هذه الآية للعاقبة، ولكن ذلك مجازٌ لا يجوز العدول إليه في سائر الآيات إلا لموجبٍ. على أن ذلك يتعذر في كثيرٍ من الآيات، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، فإنا لو قلنا: إن اللام هنا للعاقبة، لم تكن الآية دالة على الترتيب في تدبر كتاب الله تعالى، وهذا ¬
اعتقادٌ فاحشٌ، نسأل الله العافية. النوع الثالث: ما جاء معللاً بالباء السببية، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137]. وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136]. وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (¬1) [الأعراف: 146]. وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36]. وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} [لقمان: 31]. وقوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14]. وقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. وقال: {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} [يس: 64]. وقال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]. وقال: {كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ} [المدثر: 38]. ¬
وقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]. وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3] وما قبلها في سورة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. النوع الرابع: ما جاء معللاً بلام الجر، كقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42]. وقوله: {وذلَّلناها لهم} [يس: 72]. وقوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29]. وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وقوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126]. وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]. النوع الخامس: ما جاء معللاً " بأن " المفتوحة الخفيفة، كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57]. وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]. وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. النوع السادس: ما جاء من المفعول لأجله، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24]. وقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44]. وقوله تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7].
وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11]. وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]. وقوله تعالى: {نكالاً من الله} [المائدة: 38]. وقوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً} [الإسراء: 59]. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ (¬1) وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64]. وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. النوع السابع: ما جاء بـ "لو"، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]. وقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]. وهي من أصرح الآيات في ذلك. النوع الثامن: ما جاء بـ " لولا "، كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33]. وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 19]، [هود: 110]، [فصلت: 45]. ¬
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21]. النوع التاسع: ما جاء بـ " لمَّا "، كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59]. وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. وقوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55]. وقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13]. النوع العاشر: ما جاء بـ " إذا "، كقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]. النوع الحادي عشر: ما جاء بصيغة الحال، كقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الكهف: 56]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46]. وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]. النوع الثاني عشر: ما جاء بـ " من " الشرطية، كقوله سبحانه: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].
وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]. النوع الثالث عشر: ما جاء بـ " ما " الشرطية، كقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]. وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]. وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. النوع الرابع عشر: ما جاء بـ " الكاف "، كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]. النوع الخامس عشر: ما جاء بـ " كي "، كقوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40]. وقوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]. وقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7]. وقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]. النوع السادس عشر: قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]. وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149]. ومن أسمائه الحسنى: الحكيم، وهو منصوصٌ في كتاب الله تعالى متكرِّرٌ، وقد ردوه إلى معنى العليم، وجعلوه مُرادِفاً له، غير زائدٍ عليه، وأوَّلُوه بمعنى
المحكم لتصوير مخلوقاته في مقاديرها، ومنعوا أن يكون له حكمة في أحكامها. ونقل هذا عنهم بعض أهل السنة من غير علمٍ لهم يقابلهم في نفي الحكمة، وإنما نقلوا عنهم أن الحكيم هو المُحْكِم لأفعاله، وحَسِبُوا أنهم قالوا ذلك نقلاً عن أهل اللغة كما يفعله أهل تفسير الغريب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، " إن هذا الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " (¬1)، فهذا أوان غرابته. ألا ترى إلى هذه الطائفة -مع جلالتهم في الإسلام- يُبالغون في إنكار حكمة الله تعالى لما قَصَّرَتْ عن دركها أفهامهم، ويردونها إلى مجرد الإحكام الذي إذا تجرد عن الحكمة، كان من أقبح القبائح، فإن قصائد الكفار (¬2) في سبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسب أصحابه رضي الله عنهم أجمعين في غاية الإحكام بالنظر إلى أوضاع اللغة ولطائف المعاني والبيان. وكذلك كتب الزنادقة والفلاسفة في سب الباري سبحانه وتعطيله محكمة التصنيف والترصيف، فتكون حكمة الله تعالى في جميع مخلوقاته وكتبه ورسله وآياته راجعة إلى مثل ما رجع إليه أحكام السفهاء والجهلاء لقبائحهم وفواحشهم ومخازيهم. وقد ثبت أن الشيطان الرجيم من العلماء بالله تعالى وصفاته ورسله وشرائعهم، ولذلك تمكن من الدعاء إلى الباطل، والصَّدِّ عن الحق، لأن ذلك لا يتم إلاَّ بعد العلم بهما، وقد أحكم وسوسته وشيطنته ومكايده. أفيصح أن يُسمَّى (¬3) حكيماً لإحكامه لأفعاله القبيحة؟! أو يصح أن يرجع بحكمه من صح وصفه بأن له الحكمة البالغة والحجة الدامغة إلى مثل ذلك. قال أبو نصر الجوهري في " صحاحه " (¬4): الحُكْمُ -يعني: بضم الحاء-: الحكمة من العلم، والحكيم: العالم صاحب الحكمة، والحكيم: المتقِنُ ¬
للأمر، وقد حَكُمَ -بضمِّ الكاف-: أي صار حكيماً. قال النَّمِر بن تولب: وأبْغِضْ بَغِيضَك بُغْضَاً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تحكما (¬1) قال الأصمعي: إذا أنت حاولت أن تكون حكيماً. قال: وكذلك قول النابغة: واحكم كحُكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حَمَامٍ وشِراعٍ وارِدِ الثَّمَدِ (¬2) والمُحَكَّم -بفتح الكاف- الذي في شعر طرفة (¬3): الشيخ المجرَّب المنسوب إلى الحكمة. ¬
وقال محمد بن نشوان في " ضياء الحلوم " (¬1): الحكمة: فهم المعاني (¬2)، قيل: سُمِّيت حكمةً، لأنها مانعةٌ من الجهل، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. قلت: وقال الله تعالى في يوسف (¬3) عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22]. وقال أيضاً: والحكيم (¬4): صاحب الحكمة، قيل: هو المانعُ من الفساد، وقيل: هو المصيب للحق، والحكيم من صفاته تعالى، يجوز أن يكون بمعنى العالم، ويجوز أن يكون بمعنى (¬5) الفاعل الأفعال المحكمة، والقرآن الحكيم: أي المُحْكَم (¬6)، والمحكم من القرآن: ما هو قائمٌ بنفسه، لا يفتقر إلى الاستدلال، قال: والمحكم: المجرَّب (¬7): المنسوب إلى الحكمة. وقال ابن الأثير في " النهاية " (¬8) في تفسير اسمه " الحكيم " سبحانه، وقيل: الحكيم: ذو الحكمة، والحكمة: عبارةٌ عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل المعلوم. وفي الحديث: " إن من الشعر لحُكْماً " (¬9) أي: كلاماً نافعاً يمنع الجهل والسَّفَةَ، وينهى عنهما، وقيل: أراد بهما المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس، والحُكْم: العلم والفقة والقضاء بالعدل. ويُروى: "إن من الشعر ¬
لحكمةً" (¬1)، وهو بمعنى الحكم. ومنه: " الصمت حُكمٌ، وقليلٌ فاعله " (¬2). ومنه: " الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار " (¬3) لأن أكثر فقهاء الصحابة منهم: معاذٌ وأُبي بن كعبٍ، وزيد بن ثابت. قلت: وقد جاءت الحكمة مقرونةً بالكتاب في كلام الله تعالى، واتفقوا على تفسيرها بما يرجع إلى معرفة محاسن الأمور من قبائحها. والدليل على تغاير صِفَتَي العلم المجرد والحكمة ما جاء في كتاب الله تعالى من التفرقة الظاهرة بين الحكم والعلم، كآية يوسف عليه السلام المقدمة قريباً، وبين الحكيم والعليم، لورودهما متغايرين في النصوص، كقوله تعالى: {إنَّ الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30]، وقوله تعالى: {وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18] وذلك كثيرٌ جداً في كتاب الله تعالى. على أن دِلالة الفعل المحكم على العلم مستلزمةٌ لدلالة العلم على الحكمة، وذلك أن تخصيص الموجودات بوقوعها على بعض الوجوه دون بعضٍ من الإحكام وموافقة الأغراض أو منافرتها لا تكون إلاَّ بالحكمة المعبَّر عنها في علم الكلام بالدواعي المرجِّحة لبعض المُمكنات على بعض، وإلاَّ أدى إلى ترجيح بعض الممكنات من غير مرجِّحٍ، وهذا يؤدي إلى استغناء العالم عن الباري سبحانه وتعالى. وهذه هي حجة هؤلاء الغلاة من الأشعرية ¬
كلام فيما يلزم نفاة الحكمة لله تعالى
في أكثر مذاهبهم التي يُعَوِّلون عليها ويلجؤون إليها. وفي هذه المسألة خالفوا الأصول، وأضاعوا المعقول والمنقول. وعلى كلامهم: لا فرق بين اتصاف الله بالحكمة والرحمة والعفو والجود وأضدادها. وعلى كلامهم: لا فرق بين ما تمدَّح الله به من إقامة العدل يوم القيامة، ونصب موازين الحق، وإكرام أنبيائه وأوليائه، وإدخالهم الجنة، وتشفيعهم، وإخزاء أعدائه وتعذيبهم، وبين العكس من ذلك كله، وأن الله -تعالى عن ذلك- لو عكس جميع أحكامه العادلة يوم القيامة، وعذَّب الأنبياء والأولياء وأخزاهم ومقتهم ولعنهم وخلَّدهم في طبقات النِّيران، وأشمت بهم أعداءهم، وجعل كرامتهم وما أعدَّ لهم لأعدائهم وأعدائه الكفرة الفجرة الخِساس الأراذل، لكانا في محض حكمته وعقول العقلاء على سواءٍ. فإن اعترف منهم مُنْصِفٌ أن هذا العكس صفة نقصٍ يجب تنزيهه عنها، كالكذب سواء، فقد هُدِيَ إلى سواء السبيل، وإن رام بينهما فرقاً، فقد طَمِعَ في غير مطمعٍ. وتلزمهم أيضاً تسوية جميع أفعال الله تعالى في الدارين معاً بالاتِّفاقيَّات، وبآثار العلل الموجبة، وبأفعال المجانين والصِّبيان، بل والمفسدين، فإن أفعال هؤلاء صاروا مثلاً في النقص والخِسَّةِ، لخُلوِّها من الحكمة، وقد جعلوا أفعال الله تعالى أبعد منها عن الحِكَمِ لوجهين: أحدهما: أنهم جعلوها كلِّها كذلك، وجعلوا تجويز الحكمة فيها من المُحال، وليس تجويز الحكمة على ما ذكرنا من المحال. وثانيهما: أنهم جعلوا الحكمة في حق الله تعالى تؤدِّي إلى أن يكون فقيراً محتاجاً إليها، فجعلوها صفة ذمٍّ له، وهذا مخالفٌ للمعقول والمنقول والإجماع، وكان يلزمهم تنزيه الله تعالى من الإرادة والعلم والقدرة، وأن يكون
محتاجاً إلى مثل (¬1) ذلك. وهذا مذهب القرامطة، وهذه شبهتهم، والقول بأن وجوب أسماء الله الحسنى له توجب أو بعضها وصفه بالفقر إليها من الباطل الجليِّ، فنسأل الله العافية من البدع والشَّناعات. ولا معنى -على قولهم- لقول الله تعالى: {ساء ما يحكمون} [العنكبوت: 4]، ولا لقوله في الجواب على الملائكة: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، ولا لقوله سبحانه: {أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35 - 36]، وقوله: {أم تأمُرُهُم أحلامُهُم بهذا} [الطور: 32]، ولا لجواب الخضِرِ على موسى، ولا لتسليم موسى لجوابه دون فعله من غير جوابٍ ولا بيان، ولا لتمدح الرب جل جلاله بأنه أحكم الحاكمين، وخير الرازقين، وأرحم الراحمين، لأن ذلك كله عندهم مساوٍ لأضداده في حكمة الرب ومحض العقل، وهذا تعطيل لأسمائه الحسنى وصفاته العلى، نسأل الله الهدى، ونعوذ بالله من الرَّدى. على أن السنن الصِّحاح قد جاءت بصريح ذلك، مثل ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من قوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: " لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ". وقد تقدم أن ما قرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولم يُشعروا بتأويله، أنه يحرُمُ تأويله، لأنَّ العادة تقضي بأنه غير مؤوَّلٍ ضرورة. وقد اقتصرت على ذكر هذه الآيات، ولم أُورِدْ ما في معناها من الأحاديث، ولا أوردتُ وجه الاحتجاج بها، ونقل كلام أئمة أهل السنة في تفسيرها، لأن دلك يحتاج إلى تأليفٍ مستقلٍّ، والمسألة أجلى من أن نتكلم في ردها، وليس فيها شبهةٌ إلاَّ جلالة من قال بها في القلوب، وشهرتهم بالتدقيق في العلم، ¬
فنسأل الله السلامة من هذا التدقيق، ونسأله أن يَهَبَ لنا عِوَضَه الإيمان والتصديق، واللطف والتوفيق. على أن هذه الطائفة من الأشعرية يُناقضون نفي الحكمة والعِلَّة في أفعال الله تعالى في كتبهم في أُصول الفقه، خصوصاً في باب القياس، وقد صرحوا فيه بأن أكثر صِيَغ التعليل التي ذكرتها في الآيات الكريمة صيغٌ صريحةٌ، وأن أكثر الشريعة مُعَلَّلٌ، وذلك ظاهرٌ، قال ابن الحاجب في " مختصر المنتهى " (¬1) في مسالك العلة: إنها صريحٌ وتنبيهٌ وإيماءٌ، فالصريح مثل: لعلة كذا، أو لسبب، أو لأجل، أو كي، أو إذا، أو مثل: لكذا، أو إن كان كذا، أو بكذا، أو مثل " فإنهم يحشرون " (¬2). {فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، ومثل: " سها فسجد " (¬3). ثم ذكر الإيماء والتنبيه بعد ذلك، فأعرض عن هذا على ما قدمته لك في الأنواع المقدمة، والله الموفق. بل ادعى ابن الحاجب في دليل العمل بالسَّبر وتخريج المناط إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علةٍ وظهور التعليل وغَلَبَتِهِ، ثم احتج على ذلك بعد الإجماع بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، قال: والظاهر التعميم، وقرَّره الشُّرَّاح. لكن قال الشيخ عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الشافعي (¬4) في " شرحه ": إن ذلك إجماع الفقهاء وجوباً عند المعتزلة، وتفضُّلاً ¬
ذم علم الكلام
عند غيرهم، يعني: الإرسال لا التعليل. فتأمل كلام ابن الحاجب والشيخ عَضُدِ الدِّين في هذه المسألة، فإني لم أنقله كله، وهو أبسط وأفصح (¬1) مما (¬2) ذكرت، ولله الحمد والمنة. والعجبُ أن المعتزلة -مع شدة تقبيحهم لمذهب هؤلاء الغُلاة من الأشعرية في هذا- قد قالوا به بعينه وهم لا يشعرون، وذلك قولهم في عذاب الآخرة: إنه من الله تعالى بمنزلة المُباح منَّا. بل قال الفقيه حميدٌ (¬3) في كتابه " العمدة ": إنه بمنزلة المكروه منَّا، وهذا أقبح من قول الأشعرية، لأنهم منعوا أن يكون فعل الله مرجوحاً أو راجحاً، والفقيه حميدٌ -وهو من كبار أهل الاعتزال مع التشيُّع- جوَّز أن يكون في أفعاله مرجوحٌ، والمرجوح عند قدماء المعتزلة هو القبيح، إذ لا واسطة بين القبيح والحَسَن في العقليَّات عندهم. وقد تقدم أنه لا يُفيدهم اعتذارهم بتقدُّم الوعيد لوجوهٍ أربعةٍ، فانظرها هناك. فانظر إلى شُؤم الكلام على أهله كيف يوقعهم فيما ينكرون، ويلجئهم إلى ما يكرهون. على أن كلام غلاة الأشعرية هذا يلزم المعتزلة من طريق آخر، وذلك أنه ¬
لا أثر للداعي عندهم، فإنه يجوز أن يفعل القادر ما لم يَدْعُ إليه داعٍ، كما فعل الله سبحانه في عذاب (¬1) الآخرة عندهم، وهذا داخلٌ عندهم في قِسْمِ الحسن، ولا معنى للعبث إلاَّ هذا، فالعبث عندهم حسنٌ، وهو على هذا جائزٌ على الله، تعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً. فإن منعوا هذا، نقضوا أُصولهم في تجويز الفعل من غير داعٍ، كما نقضت الأشعرية أصولها في المنع من ذلك. وهكذا علم الكلام عامةً، أدلَّتُه تشتمل على التناقض، وعامة جهدهم في الاعتذار من ذلك، وغاية سؤلهم السلامة منه. فاعجب لعلم وُضِعَ لرفع المشكلات، فكان أحسن أحوال أهله إيهام الخلاص منها بعد لزومه، أو دعوى وضوحه بعد غموضه، فهم في ذلك كناتش (¬2) الشوكة بالشوكة، والمستجير من الرَّمضاء بالنار (¬3). وكذلك علوم الفلاسفة وسائر من عادى الكتب السماوية والسنن النبوية. ومن وازن بين ما جاؤوا به وما جاءت به الرسل زالت عنه الوساوس، وانجلت عنه الحنادِس (¬4)، ولا بد من وقوع العقول في المواقف والمحارات، وتسليم العقول لوقوع ما لم يُحكم بوقوعه في مذاهب الكفر والإسلام مثل وجود القديم سبحانه على كلام المسلمين، وقِدَم العالم على كلام الكافرين، أو حدوثه من غير محدث. ¬
فإذا كان لا بد من محارةٍ لا تهتدي العقول إلى طريقها، ولا تحظى بطائل في تحقيقها، فالتسليم لمن تميَّز بجنس المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، مع ما اشتملت عليه أحوال الأنبياء عليهم السلام من الصفات الحميدة، والقرائن الكثيرة المفيدة، مع تأملها للعلم الضروري، أنهم المخصوصون بالعصمة من الخطإِ والزلل في العلم والعمل، وأنهم منزهون من تخبُّط النُّظَّار ورجمهم بالظنون، وتخيلهم للأقيسة، ووقوعهم في هذا التعارض الشديد. ومن شكَّ ذلك ولم يصدق فليجرب، ومن جرب القليل، فلم يجد ما ذكرتُ، فليوغل حتى يحقق، ومن لم يعرف إلاَّ كلام طائفةٍ، ولم يدر بكلام سائر الفرق والفلاسفة، فهو يُعَدُّ من العوام، وما عنده علم ما الكلام. فإن قلت: فما حمل الأشعرية على هذا القول؟ قلت: قصدوا إفحام الفلاسفة في اعتراضهم الشرائع، وحسم المادة في توجيه الاعتراض على الصانع، ولكنهم في ذلك كمن يداوي من المرض بالموت، فإن الفلاسفة لم تكن تطمع في تسليم المسلمين لنفي حكمة ربهم عز وجل، وإنما قصدوا بكلامهم في الاعتراض على الشرائع التشكيك في حكمة الله التي اتفقت عليها الشرائع وأهلها، وكانوا قانعين بمجرد التشكيك، فأما القطع بنفي الحكمة والتصنيف في ذلك والدعاء إليه، والرد على من اعتقد غيره، ونسبته إلى الجهل بصفات الله تعالى، فأمرٌ لم يكن يطمع فيه المُلحدون، فيا عجباً (¬1) كيف أصبح يدعو إليه الموحِّدُون. ولهم بعد ذلك شُبَهٌ أربع: الأولى: ذكرها الرازي في " نهايته " قال: لو كان لله تعالى غرضٌ، لكان قديماً، ويلزم من ذلك أن يكون العالم قديماً. والجواب: أن تسمية الحكمة غرضاً عبارةٌ مُوهِمَةٌ، وكثيرٌ من مُتكلِّمي ¬
المسلمين -كالمعتزلة- يمنعونها، ثم إن الرازي يقول بقدم الإرادة، وقد ألزمته المعتزلة والفلاسفة قِدَمَ العالم بذلك، فانفصل عنه بأن الإرادة تتعلق بالمراد في وقتٍ مخصوصٍ، لا مطلقاً، فلم يلزم وجوده إلاَّ في ذلك الوقت المخصوص، وكذلك الجواب في الداعي. وقد تبلَّد الرازي مع شدة ذكائه في جواب كلام الفلاسفة في هذه في أوائل " نهاية العقول "، واضطر إلى التزام مذهب المعتزلة في أن الفاعل يُرجِّح أحد مقدوريه (¬1) من غير مُرَجِّحٍ، وادعى الضرورة في الفرق بين الداعي والعلة، ثم نقض ذلك كله في مسألة أفعال العباد، وفعل في ترجيح مذهب الفلاسفة ما لا يخفى على متأمل، ولولا خوف الإملال، لنقلت ألفاظه في ذلك. واعلم أن هذه المسألة من محارات العقول التي تحيَّر فيها جميع الفحول، ولا مرجِعَ فيها إلاَّ إلى التسليم والمنقول، ويأتي كلام ابن تيمية فيها في القول الثالث، وبها يُعرف أنها محارةٌ لا محالة، وأنه ليس فيها مع جميع النُّظَّار من العلم إلاَّ أَثاره، كيف إلاَّ دلالة (¬2). الثانية: قال الرازي: يلزم في الغرض أن يكون فيه جلب نفعٍ أو دفعُ ضُرٍّ لله تعالى أو للغير، فإذا كان للغير، فإن كان في حصوله وعدمه على السواء بالنسبة إليه، لزم أن لا يكون غرضاً له في حصوله، وإن لم يكونا بالسواء بالنسبة إليه، لزم أن (¬3) يكون مُحتاجا إلى ما له غرضٌ في حصوله. فالجواب: أن انحصار الحكم في جلب النفع ودفع الضرر ممنوعٌ، والاستناد فيه إلى مجرد قياس الخالق على المخلوقين، وهو باطل وتسمية داعي الحكمة الذي هو عبارةٌ عن مجرد العلم برجحان الممكن غرضاً للغني عن كل شيءٍ قياسٍ في اللغة، وفي أسماء الله تعالى وصفاته والقياس فيهما معاً ممنوعٌ. ¬
ولو سلمنا جميع ذلك، لم نسلِّم تسمية الرب القادر على كل شيء بغير مشقة محتاجاً إلى إيجاد مراده بغير مشقةٍ تلحقه في الإيجاد، فإنه لا معنى للغني في صحيح اللغة، وفِطَرِ العقلاء وعُرفِ أهل الشرائع، إلاَّ القدرة التامَّة على كل مرادٍ من غير مشقة، ولا استعانةٍ بأحد، ولو كان الغني هو الذي أراد الرازي من عدم الداعي، لزم أن يكون الجماد، بل المعدوم، أغنى من الله -تعالى عن ذلك عُلُوَّاً كبيراًً- لأن استحالة الداعي في الجماد والمعدوم على زعمهم. وبعد، فالمخالف في هذا من المسلمين لا يخلو: إما أن يثبت إرادة الله تعالى، أو لا. إن لم يثبتها، عطَّل السمع، وخالف إجماع من يعتدُّ به. وإن أثبتها، فإما أن يثبتها مثل إرادة المخلوقين، لزمه إن الله محتاجٌ، فإن المخلوق لا يريد إلاَّ ما له فيه منفعةٌ أو دفع مضرةٍ. وإن قال: إن إرادة الله تعالى غير مُشَبَّهَةٍ بإرادة المخلوقين، كذاته وجميع صفاته، فكذلك يقول في الداعي: إن له سبحانه داعي حكمةٍ في أفعاله، وإنه ليس لجلب نفعٍ له، ولا دفع ضررٍ عنه، ولا يلزمه تشبيهه بدواعي المخلوقين، وما الذي خصَّ الداعي بأنه يكون مشبهاً دون الذات وسائر الصفات، وقد قام الدليل على نفي التشبيه من كل شيءٍ يتعلق بالرب جل جلاله. الثالثة: قال الرازي: لو فعل الله لغرضٍ، لكان إمَّا أن يُمْكِنَه تحصيل ذلك الغرض بدون ذلك الفعل كان التَّوسُّل بتلك الوسيلة عبثاً، وإن لم يمكن، كان ذلك الغرض مشروطاً بتلك الوسيلة، وذلك باطلٌ، لأن أكثر المقاصد إنما تحصُلُ بعد انقضاء تلك الوسائل، وحصوله بعد عدمه يمنع كونه شرطاً فيه. والجواب: أنه قادرٌ بغير وسيلةٍ. قوله: تكون الوسيلة عبثاً، غير مسلَّمٍ للقطع بجواز أن يكون الشيء على سببٍ أوَّليٍّ في الحكمة، والله تعالى يعلم من وجوه الحكمة ما لا نعلمه، لا سيما
في المتشابه. وقد مرت الإشارة إلى ذلك. فإما أن يسلِّم ذلك حصل عرضاً، وإن ادعى أنه لا يجوز أن يعلم الله من الحِكَم ما لا نعلمه، احتاج إلى برهانٍ قاطعٍ على ذلك، ولا برهان إلاَّ مجرد الوهم لقياس الخالق على المخلوق، وهو باطل. وأين الرازي من قوله: العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جَهَلاتِه يَتَغَمْغَمُ ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلمُ (¬1) والعجب من الرازي -مع ذكائه- كيف يمنع الوسائل لكونها عبثاً في الاستدلال على أن جميع أفعاله سبحانه عبثٌ عنده، ومن قبل جعل العبث حقيقة الغنى، والحكمة حقيقة الحاجة. فيا هذا، إذا كانت أفعال الله تعالى عندك كلها عبثٌ، لا حكمة فيها، ولا يتمُّ غناه إلاَّ بذلك، فكيف يكون ما أدى إلى مذهبك الحق باطلاً، لاستلزامه الغنى الذي هو حقٌّ، ومستلزم الحق حقٌّ. وهلا قلت: لزم أن يكون غنيّاً بالمعجمة والنون، لا عبثاً بالمهملة والمُوَحَّدَةِ ثم المثلثة، وقد سميت الداعي حاجةً، والمتصف به محتاجاً، فغيرت اسم الحكمة وسميتها حاجةً، واسم الحكيم وسميته محتاجاً، تشنيعاً على خصمك، كما غيرت اسم العبث وسميته غنى، واسم العابث وسميته غنيّاً، حين احتجت إلى ذلك، فبان غلاطك وقلبك لأسماء الصفات، ووقوفك مع مجرد العبارات، وهذا كلامٌ نازلٌ، وتطاولٌ ليس تحته طائلٌ. فإن قلت: إنما عنيت أنه يلزم المخالف على أصله أنه عبث. قلنا: هو مشترك الإلزام بينك وبينه، فكما أنك تَسَتَّرت بتسميتِهِ عبثاً، ¬
عدم إجماع أهل السنة على بطلان التحسين والتقبيح عقلا
فَلِخَصْمِكَ أن يتستر بتسميته مباحاً (¬1) حسناً، لا حرج فيه، ولا ذمَّ ولا كراهة. فإن كان التستر بتبديل عبارةٍ مكان أخرى، والمعنى واحدٌ ينفعك مع خصمك، وإن كان لا ينفع خصمك، فكذلك (¬2) المماراة والتلبيس على الضعفاء. ويؤيد هذا أن الأشعرية نازعت المعتزلة في كون العبث: هو ما لا غرض فيه، كما ذكره البيضاوي في " المطالع " قال: ولا بُدَّ من تصويره أوّلاً وتقريره ثانياً. والجواب: أما تصويره في الذهن دون الخارج، فهو ما جَوَّزَتْه الأشعرية على الله من فعل ما لا غرض فيه ولا نفع. وأما في اللغة، فذلك قرآنيٌّ لُغوي، معلوم الوقوع بالضرورة، ومستنده إليها، فالمرجع فيه إلى أئمتها. الرابعة: قال الرازي: تعليل الفاعلية بالغرض متفرِّعٌ على الحسن والقبيح العقليَّيْن، وهما باطلان. والجواب من وجهين: أحدهما: منع ذلك، فإنا بيَّنَّا أن فاعلية الرب سبحانه تُوقف على نصوص القرآن المعلومة المعنى مع القرائن القطعية على عدم تأويلها، بل ذلك معلومٌ من ضرورة الدين وإجماع المسلمين. وتلك القرائن المفيدة للعلم استمرار تلاوتها من غير تنبيهٍ على قبح الظاهر، وهو دليلٌ قاطع لأهل التأويلات المبتدعة. الوجه الثاني: أن أهل السنة غير مجمعين على بطلان التحسين والتقبيح عقلاً، فهذا ابن تيمية وأصحابه يقولون بذلك وهم من رؤوس الحماة (¬3) عن السنة. ¬
ويأتي بيانُ قول الحنفية، واختيار الزنجاني (¬1) من الشافعية، وأبي الخطاب (¬2) من الحنابلة من التفصيل، وقول الزركشي من الشافعية: إنه المنصور ثبوته في الفِطرة وآيات القرآن، وسلامته من الوهن والتناقض (¬3). قلت: وهذا الرازي -على غُلُوِّه في إبطاله- رجع إلى الاعتراف به في المعنى، لكن سمَّى الحُسْنَ كالعلم، والصدق صفة كمالٍ، والقبيح كالجهل، والكَذِبَ صفة نقصٍ، وليس الخلاف عنده إلاَّ في استحقاق صفة النقص هذه للعقاب في الآخرة، والذَّمِّ في الدنيا بمجرد العقل، وبذلك استدل على منع الكذب على الله سبحانه. نعم، لو سلَّمنا ترك التحسين والتقبيح عقلاً بالمرَّة، جوَّزنا ما ذكره تجويزاً من غير قطعٍ، لكن يصعُبُ الاستدلال على أن الله سبحانه صادقٌ. وفيما قدمناه من السمع دلائلٌ واضحةٌ على ثبوت التحسين العقلي، كقوله تعالى: {سَاءَ ما يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4]، وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36]، وقوله في جواب الملائكة: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]. ومن أحسنها دليلاً على ذلك: قصة الخَضِر وموسى وقوله في جواب الملائكة: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون}، ولم يقل: إنه لا حكمة له (¬4) كما تظنُّون، ¬
ثم سؤال الملائكة دليلٌ على اعتقادهم لذلك. وهذه مسألةٌ كبيرةٌ، لا يصلح ذكرها في جنب غيرها، فهذه شُبَهُ غُلاة الأشعرية التي ذكرها الرازي في " نهايته ". فأما قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فإنها في الاحتجاج على بطلان المعبودين من دون الله، كما دل عليه سياق الآيات قبلها وبعدها في سورة الأنبياء، فإن قبلها: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} الآيات [الأنبياء: 21]. فهي في الاحتجاج على بطلان ربوبية من يُسأل عن أعماله سؤال الحساب، فهو مربوبٌ محاسبٌ، إما مُعَذَّبٌ أو مرحومٌ، مثل احتجاجه بأنهم لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون، وهو كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]، وليس هذا يناقض أن يكون لله تعالى حكمة يمتنُّ بتعريفها على من يشاء من عباده، كما منَّ بذلك على الخَضِر في المتشابه، وعلى الجميع في المُحكم. ولا يناقض ذلك أن يسأل من فضله تعليمنا ما ينفعنا من ذلك، كما أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وقل رب زدني علماً " (¬1) والله سبحانه أعلم. وإنما الآية في معنى نفي (¬2) أن يكون تعالى مربوباً مديناً مسؤولاً عن ¬
حكمته، وعن بيانها، خائفاً من المناقشة عليها -سبحانه عن ذلك وتعالى عُلُوّاً كبيراً -لا أنه نفي أن تكون له حكمةٌ، ولا أن يكون حكيماً، إنما سيقت الآية لتعظيم العزة، لا لنفي الحكمة، فإنه تمدح بالعزة والحكمة، بل جمع التمدح بالعزيز الحكيم في آية واحدةٍ (¬1) كثيراً في غير موضعٍ من كتابه، كما جمع بين الغفور الرحيم لعدم اجتماع ذلك على الكمال لغيره جل جلاله. ثم ذكر الرازي لجماهير المسلمين من الأشعرية والمحدثين وطوائف المسلمين حُجَّتين عقليَّتين، وأعرض عن صوادع نصوص القرآن، كأنه لا يعدُّها في شيءٍ من البرهان. أحدهما: أن كلام غلاة الأشعرية يؤدي إلى أن جميع أفعال الله عبثٌ، وأن إدخال الأنبياء الجنة ليس أولى من إدخالهم النار، وأحال بالجواب إلى نفي التحسين، وهذا منه قبيحٌ على كل مذهبٍ، حتى على مذهبه، فإنه يُوهِمُ أنه يجوز دخول الأنبياء نار جهنم، وليس كذلك، فإنه ممتنعٌ عند الجميع، لكن عند هؤلاء الغلاة أنه ممتنعٌ سمعاً، وعند سائر المسلمين عقلاً وسمعاً، لكن استدلالهم بالسمع مع اعتقادهم مشكلٌ. الحجة الثانية: أنه يؤدي إلى ترجيح أحد طرفي الممكن من غير مُرَجِّحٍ، وأحال بالجواب إلى ما ذكره في مسألة حدوث العالم والجواب على الفلاسفة. وإنما قال هناك: إنه لا جواب إلاَّ مذهب المعتزلة، وهو أن القادر يرجِّحُ أحد مقدوريه من غير مرجِّحٍ، وليس هذا المذهب إلاَّ لبعض المعتزلة، والذاهب إليه من المعتزلة يناقضه، ويقول ببطلانه في مسائل كما مضى في المرتبة الخامسة، وهو مذهبٌ ساقطٌ، ولذلك لم يستمر لمن ذهب إليه من المعتزلة القول به. وقد صرح الرازي في مسألة أفعال العباد ببُطلانه، واحتجَّ على ذلك ¬
بالحُجَحِ القاطعة، حيث يتميز الراجح من المرجوح، فأما حيث يترجح أحد الأمرين المستويين، فمحارةٌ غامضةٌ، والصواب فيها الوقف مع القطع بأن فاعل أحد الأمرين غير موصوفٍ بالعبث مع وجود الحكمة في أحدهما، لا بعينه، كالواجبات المحيرة. وسواءٌ قدَّرنا أن التخصيص بداعٍ خاصٍّ لم يُدْرَكْ، أو بالداعي الأول الجمليِّ. ويوضح ذلك إطباق العقلاء على ذم من ترك الواجب أو المرجّح (¬1) لعدم هذا الداعي الخاص، كترك المشي في أحد الطريقين مع الحاجة إلى ذلك، وعدم الصارف، والله أعلم. وهذه المسألة هي التي اضطرب فيها الرازي سامحه الله وإيَّانا، إنه عز وجل لا يضرُّه خطأُ الجاهلين، ولا ينفعُه عرفان العارفين، وإن وصية الرازي المشهورة تقضي له أنه مات من التائبين من جميع مذاهب المبطلين، والحمد لله رب العالمين. تم بعونه تعالى الجزء السابع من العواصم والقواصم ويليه الجزء الثامن وأوله: الوهم الحادي والثلاثون: قال: إنهم يقولون بإثابة الفراعنة ¬
الجزء الثامن
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء الثامن مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 8
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الوهم الحادي والثلاثون: قال: إنهم يقولون بإثابة الفراعنة
بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. الوهم الحادي والثلاثون: قال: إنهم يقولون بإثابة الفراعنة بطاعات الأنبياء وتوهم (¬2) أن هذا يمضي، فالله المستعان. وقد مر الجواب في مسألة المتأولين، فخذه من هناك. الوهم الثاني والثلاثون: قال: ومن العجب العُجاب قول فخر الدين الرازي في " محصوله " (¬3): إن شكر المنعم لا يجب عقلاً، وإن قُبْحَ القبيح لا يُعرف عقلاً ... إلى آخر كلامه. أقول: بل من العجب العجاب أن الرازي يقول في " محصوله " هذا الذي نقلت عنه: إن أهم ما في هذه المسألة معرفة موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة، ¬
ثم يصرح الرجل ببيانه بأوضح عبارةٍ، وأجلى نصٍّ، وأصرح بيان، ثم تغلط عليه في النقل من ذلك الكتاب (¬1) بعينه، وقد تقدم أن الرجل قد اعترف في " المحصول " هذا الذي نقلت عنه، فما حصَّلت نقلك، ولا حضرت عقلك: أنهم لا يخالفون في التحسين والتقبيح باعتبارات ثلاثة: الأول: بالنظر إلى صفة الكمال، كالعلم والصِّدق، يعني الذي ليس بضارٍّ، وإلى صفة النقص، كالجهل والكذب، يعني الذي لم يقع إليه ضرورة، ولهذا لم يجيزوا الكذب من الله تعالى ولا شيئاً من صفات النقص عقلاً وسمعاً. الثاني: بالنظر إلى النفع، كالصدقة، وإنقاذ الغرقى، ونصر المظلوم، ونحو ذلك، وبالنظر إلى المضرِّة كالظلم ونحوه. الثالث: بالنظر إلى العادة، كستر العورة وكشفها قبل الشرع، وعند البراهمة ونحوهم ممن لا يتحكَّمُ للشرع (¬2). فهذه الوجوه الثلاثة يُقِرُّون بالتحسين والتقبيح بها عقلاً، وسائر التقبيح والتحسين عندهم شرعي. ¬
الحسن والقبح يطلق بثلاثة اعتبارات
قال: وليس موضع الخلاف بيننا وبينهم في تقبيح هذه القبائح، وإنما موضع الخلاف في أن فاعل القبيح -الذي يسمُّونه صفة نقصٍ، كالكذب الذي ليس بضارٍّ- هل يستحق عليه العقوبة في الآخرة، والذم في الدنيا بمجرد العقل قبل ورود الشرع بذلك، أم لا؟ فهم (¬1) يقولون: لا نعرف استحقاق ذلك على هذا القدر قبل الشرع بمحض العقل المجرد عن النظر إلى الشرائع والعوائد، بل لا بد من تعريف الشرع بذلك، والمعتزلة تقول: بل يستقلُّ العقل بمعرفة ذلك قبل ورود الشرع به (¬2)، ولكن معرفة العقل لذلك عندهم معرفة (¬3) جملية، ولا يُهتدى إلى تفصيل (¬4) مقدار العقوبة إلاَّ بالشرع، وهذا عندهم هو الذي اختص الشرع ببيانه (¬5). وقال الزركشي في " شرح جمع الجوامع " للسبكي: الحُسْنُ والقبح يُطلق بثلاثة اعتبارات: أحدها: ما يلائم الطبع وينافره، كإنقاذ الغريق، واتهام البريء. والثاني: صفة الكمال والنقص، كقولنا: العلم حَسَنٌ، والجهل قبيحٌ، وهو بهذين الاعتبارين عقليٌّ بلا خلاف، إذ العقل يستقل بإدراك الحسن والقبح فيهما (¬6)، فلا حاجة في إدراكهما إلى شرعٍ. والثالث: ما يوجب المدح والذم الشرعي عاجلاً، والثوات والعِقاب آجلاً، فهو محلُّ النِّزاع. ¬
إلى قوله في التنبيهات: التنبيه الثاني: ما اقتصر عليه المصنِّف من حكاية قولين هو المشهور، وتوسَّط قومٌ، فقالوا: قبحها ثابتٌ بالعقل. قلت: يعني والذم عليها، وإلاَّ لكان هو الأول. قال: والعقاب متوقِّفٌ (¬1) على الشرع، وهو الذي ذكره سعد بن علي (¬2) الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة نصّاً (¬3)، وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة، وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض. انتهى (¬4). وهو نقلٌ مفيدٌ، واختيارٌ سديدٌ، وهو كثير النقل في الغرائب من " المسودة " (¬5) لابن تيمية (¬6). قوله: وآيات القرآن المجيد. ¬
يعني: الدالة على أن القبيح عقلي مثل قصة الخضر وموسى، ورجوعهما معاً إلى تأويل المستقبحات العقلية بوجوه عقليةٍ تُحَسِّنُها العقول (¬1)، ولو كان حسن الأشياء شرعياً محضاً (¬2)، لامتنع أن يكون ذلك متشابهاً محتاجاً إلى تأويلٍ عند أعرف العارفين، وكذلك قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 و36]. وأمثال ذلك. ولا شك أن هذا الموضع الذي وقع فيه الخلاف دقيقٌ لا يرتقي إلى مرتبة الضروريات الأوَّليَّات، ولا يُعلم من صاحبه تعمُّد العناد كما ادعاه الخصمُ عليهم، ومن ها هنا أجمع أهل البيت عليهم السلام: على أنهم من أهل التأويل كما تقدم ذكر نصوصهم على ذلك. واعلم أنك قد أغفلت أو تغافلت عن أمرين مهمَّين: الأول: أنك بالغت في ذكر مساوىء الخصوم، حتَّى قلت عنهم ما لم يكن لأجل عمومٍ وقد بيَّنوه، أو إلزامٍ لم يلتزموه، أو قول بعض شواذِّهم مما قد أنكروه وقبحوه، وتركت (¬3) بعض محاسنهم المعلومة بالضرورة عنهم من المحافظة على أركان الإسلام، وتعظيم شعائره، والذَّبِّ عن شرائعه، وظهور أمارات الإخلاص والإيمان من دوام العمل والخشوع والبكاء عند أسبابه، وترك المحرمات، وذكر تحريمها، والأدلة عليه في كتبهم، وذم مرتكبيها وتخويفهم (¬4) وتأليفهم في الترغيب والترهيب، وأمثال ذلك مما يضطر من عَلِمَه منهم بمشاهدةٍ أو تواترٍ إلى اعتقاد تأويلهم، وترجيح ذلك على اعتقاد القطع بتعمُّدهم للكفر، وعلمهم أنهم كفرةٌ فجرةٌ، ساعون بجهدهم في غضب الله، مصرُّون على ذلك في حال الصِّحة والمرض، وعند شدة الآلام، واقتراب ¬
الأجل، وظنهم للقاء الله عز وجل، وهذا الذي غفلت عنه هو الذي حمل علماء الإسلام من أهل البيت عليهم السلام وسائر العلماء الأعلام على إثبات حكم التأويل لهم ولأمثالهم من الفرق (¬1) الإسلامية، والله تعالى نصب الموازين يوم القيامة للحسنات والسيئات، مع علمه الغيب وشهادة ملائكته الكرام وشهادة الأعضاء من الأنام، وأنت تركت سنة الله، وسنة رسله الكرام، وسنة العدل المحمود بين (¬2) الأنام. الأمر الثاني: أن من سلك ما سلكت من رمي أهل المذاهب بمجرد ما يُشنَّع عليهم به من غير تأمُّلٍ (¬3) لمقاصدهم، أمكنه نسبة إنكار الضرورة إلى كل طائفة غالباً، فقد خالف كبراء شيوخ المعتزلة في أمورٍ تظهر لمن لم يبحث عن مقاصدهم فيها، أنهم أنكروا الضرورة، مثل قول البصريين من المعتزلة، المسمين بالمخترعة: إن الماء لا يُرْوي، والنار لا تَحْرِقُ، والطعام لا يُشبعُ. وقولهم: إن النار والماء مثلان لا ضدان ولا مختلفان، وبهم يُعرِّضُ أبو السعود من شعراء المطرِّفيَّة حيث قال في أرجوزته المشهورة: ما نحن قلنا النار مثل الماء ... والقارُ مثل الفِضَّة البيضاء ومن ذلك: قول المعتزلة: إن الله ليس برحمن ولا رحيمٍ على الحقيقة، وإنهما في ظاهرهما، وحقيقتهما من أسماء الذم القبيحة، ولهذا (¬4) تعارضهم القرامطة في تقبيح المعتزلة عليهم قولهم: إنه تعالى ليس بعالمٍ ولا قادرٍ حقيقةً. وكذا (¬5) تقول البغدادية منهم في " سميعٍ بصيرٍ "، وفي " مريد ": إنها في ¬
الوهم الثالث والثلاثون: ذكر السد عن الفقهاء أنهم يجيزون إمامة الجائر
ظاهرها قبيحةٌ، وإنما تأويلها أن الله عالم غير ساهٍ ولا غافلٍ، وأمثال هذا في مذاهبهم، والقصد والإشارة (¬1)، فكما أمكن الخصم بجعلهم -مع ذلك- من أهل التأويل، فكذلك مثل ذلك في الأشعرية، وإلا لكان كما قيل: وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلة ... ولكنَّ عين السُّخط تُبدي المساويا (¬2) والله سبحانه أعلم. الوهم الثالث والثلاثون: ذكر السيد عن الفقهاء أنهم يجيزون إمامة الجائر، وحكى عن ابن بطَّالٍ أنه قال ما لفظه: الفقهاء مُجمعون أن المُتغلِّب طاعته لازمةٌ ما أقام الجُمُعات، والأعياد، والجهاد، وأنصف المظلوم غالباً، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدَّهماء، وحقن الدماء، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حَبَشِيّاً " (¬3) ولا يمتنع من الصلاة خلفه، وكذلك المذموم ببدعةٍ أو فِسْقٍ. انتهى. إلى قول السيد: فإذا كان هذا مذهب القوم، عرفت أنهم كانوا مع أئمة الجور الذين قتلوا الأئمة الأطهار، وأنهم شيعة الححاج بن يوسف، بل شيعة يزيد قاتل الحسين عليه السلام، وشيعة هشامٍ قاتل زيد بن عليٍّ عليه السلام، ¬
وشيعة أبي الدوانيق (¬1) قاتل محمد بن عبد الله (¬2) وأخيه إبراهيم عليهما السلام، وشيعة هارون الرشيد قاتل يحيى بن عبد الله (¬3)، لأنهم يعتقدون بغي من خرج على المُتَغَلِّب الظالم، كما صرح به ابن بطَّال، ويصوّبون (¬4) قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاةٌ على قولهم. أقول: اشتمل كلام السيد هنا على أوهامٍ كثيرةٍ، وهي تبين بالكلام على فصولٍ: الفصل الأول: في بيان أن الفقهاء لا يقولون بأن الخارج على إمام الجَوْرِ باغٍ، ولا آثمٌ، وهذا واضحٌ من أقوالهم، ومعلومٌ عند أهل المعرفة بمذاهبهم، ويدلُّ عليه وجوهٌ: الوجه الأول: نصُّهُم على ذلك وهو بَيِّنٌ لا يُدفع، مكشوفٌ لا يتقنَّع، قال النووي في كتاب " الروضة " (¬5) ما لفظه: الباغي في اصطلاح العلماء: هو ¬
المخالف لإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجبٍ عليه أو غيره، انتهى كلام النووي. وقال الخليل بن إسحاق الجندي المالكي (¬1) شارح " مختصر ابن الحاجب الفرعي " المسمى بـ " التوضيح ": الباغية: فرقةٌ خالفت الإمام بمنع حقٍّ، أو لقلعه، فللعدل قتالهم وإن تأوَّلوا. ذكره في مختصر له، صنعه لبيان ما به الفتوى في مذهب مالكٍ رحمه الله تعالى. وذكر النووي في " الروضة " (¬2): أن القهر أحدُ طرق الإمامة، لكنه إن كان عادلاً لم يأثم، وإن كان جائراً أثِمَ، وعصى بالتَّغَلُّب، أو كما قال، وهو نصُّ في موضع الخلاف وقد حكى هذا النووي فيما تقدم الآن عن العلماء على الإطلاق، ولم يُبين أحداً وروى عنهم الإمام المنصور بالله عليه السلام نفيض ما ذكره السيد من متابعة أهل البيت عليهم السلام، وبالغ في براءتهم من ذلك، وتجهيل (¬3) من نسب إليهم ما ذكره السيد، ذكره في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان من المجموع المنصوري، وكذلك في جوابه على وَرْدسان، وكذلك نقل عنهم التصريح بنقيض كلام السيد الإمام العلامة أبو الحسن (¬4) علي بن ¬
محمد بن عليٍّ الطبري، الملقب عماد الدين، المعروف بالكيا الهَرَّاسي تلميذُ الجويني، ذكره ابن خَلِّكان في ترجمته من تاريخه المشهور (¬1)، وسيأتي لفظه في ذلك (¬2). فتطابق نقلهم عن أئمتهم ونقل أئمتنا عن أئمتهم على تكذيب هذه الدعوى عليهم، مع أنها دعوى مجرَّدةٌ عن البيِّنة، مصادمة لنصوصهم البينة، فكانت من قبيل الافتراء، ولَحِقَتْ بالفحش المذموم في هجو الشعراء، وخرجت من أساليب الحكماء وشهدت على أن راويها ليس من العلماء. الوجه الثاني: أن الكلام في الخروج على أئمة الجور عندهم من المسائل الظنية، فالذي يخرج على الجائر -مستحلاً لذلك- غير آثمٍ، لأنه عَمِلَ باجتهاده في مسألة ظنيةٍ فروعيَّةٍ، فلم يستحقُّ التأثيم، ولا يُوصف فعله ممن استحله بالتحريم. ذكر ما يقتضي ذلك غير واحدٍ منهم، ممن ذكر ما يقتضي ذلك الرازي في كتابه " الأربعين في أصول الدين "، وشيخي النفيس العلوي (¬3)، بل ذكر الإمام ¬
مذاهب العلماء في الإمام الذي طرأ فسقه
المقلد بالله ما يقتضي ذلك عند أهل البيت عليهم السلام، فإنه ذكر في آخر الزيادات في " مسائل الاجتهاد " اختلافهم في ذلك، كما يأتي بيانه في الفصل الثالث في الموضع الأول منه في (¬1) هذه المسألة إن شاء الله تعالى. وذكر صاحب " الكافي " (¬2) نحو ذلك عن أحمد بن حنبل في القسم الثالث من أقسام البغاة مع تجويز تسميته باغياً، وفيه شذوذٌ، وفي صحته نظر، والله أعلم. وذكر أنه (¬3) من لم يكن له تأويلٌ منهم، فحكمه حكم قُطَّاع الطريق. قلت: وهذا مثل يزيد وأمثاله كما سيأتي نصُّهم على ذلك. الوجه الثالث: أن ذلك جائزٌ في مذهبهم وعند كثيرٍ من علمائهم، فإن للشافعية في ذلك وجهين معروفين، ذكرهما في " الروضة " النووي وغيرها من كتبهم، وقد اختلفوا في الأصح منهما (¬4)، فمنهم من صحح منهما (4) لمذهبهم انعزال الإمام بالفسق. قال الإمام العلامة صلاح الدين العلائيُّ (¬5) في " المجموع المُذْهَب في قواعد المذهب " ما لفظه: الإمام الأعظم إذا طرأ فسقُه، فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه ينعزل، وصححه في " البيان ". ¬
الثاني: أنه لا ينعزل، وصححه كثيرون، لما في إبطال ولايته من اضطراب الأحوال. قلت: وسيأتي في الموضع الأول من الفصل الثالث من هذه المسألة أنه قول أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليهم السلام المعروف بأنه فقيه آل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. قال العلائي: الثالث: إن أمكن استتابته أو تقويم أَوَدِهِ، لم يُخلع، وإن لم يمكن (¬1) ذلك، خُلِعَ. وقال القاضي عياض: لو طرأ عليه كفر، أو تغييرٌ للشرع، أو بدعةٌ، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، ونصب إمامٍ عادلٍ إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاَّ لطائفةٍ، وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب على المبتدع القيام إلاَّ إذا ظنُّوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه. قال: وقال بعضهم: يجب خلعه إلاَّ أن يترتب عليه فتنةٌ وحربٌ. انتهى. نقل ذلك عنهما النفيس العلويُّ. ولما ذكر ذلك القرطبي في " تفسيره " (¬2) الجليل في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، وقال: في ذلك سبع مسائل. إلى قوله: الثالثة: قال ابن العربي المالكي: فيه أنه لا تجوز إمامة الفاسق، ويصلح أن تُعاد الصلاة خلفه نقله العلوي أيضاً، وكذلك كلام ابن بطال الذي نقله السيد أيضاً، فإنه يدلُّ بمفهومه على جواز الخروج وعدمه، لأنه ¬
قال: إن طاعة المتغلِّب (¬1) خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدهماء، وحقن الدماء، ولو كان الخروج حراماً قطعاً، والطاعة واجبةً قطعاً، لم يقل: إن الطاعة خيرٌ من الخروج، كما لا يقال: إن صوم رمضان خيرٌ من فِطْرِهِ، لأنهما لم يشتركا في الخير حتى يُفاضَلَ بينهما فيه، وإنما يقال ذلك مجازاً، والظاهر في الكلام عدم التجوز (¬2)، ولذلك لم يقل أحدٌ (¬3) ببقاء الحكم على مفهوم قوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم} [البقرة: 184]، بل قيل: منسوخٌ، وقيل: لأهل الأعذار، فالسيد ظن أن كلام ابن بطَّالٍ حجَّةٌ له، وهو حجةٌ عليه، فأُتِيَ مما هو مستند إليه. ومثل كلامه (¬4) هذا كلام أبي عمر بن عبد البر في " الاستيعاب "، فإنه قال (¬5) في الكلام على حديث مالكٍ، عن يحيى بن (¬6) سعيدٍ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدِّه، قال: " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليُسر والمَنْشطِ والمكره، وأن لا نُنازِع الأمر أهله " (¬7). قال ابن عبد البر: واختلف الناس في معنى قوله: " وأن لا ننارع الأمر أهله " فقال قومٌ: هم أهل العدل والفضل والدين، وهؤلاء لا ينازَعُون، لأنهم أهل الأمر على الحقيقة. وقال أهل الفقه: إنما يكون الاختيار في بدء الأمر، ولكن الجائر من الأئمة إذا أقام الجهاد والجُمُعة والأعياد، سكنت له الدَّهماء، وأنصف بعضها من ¬
بعضٍ في تظالمها، لم تجب منازعته، ولا الخروج عليه، لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء، وشنِّ الغارات، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جَوْرِه وفسقه، والنظر يشهد أن أعظم المكروهين أولاهما بالتَّرك، وأجمع العلماء على أن من أمر بمنكرٍ، فلا يُطاع. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا طاعةَ إلاَّ في المعروف " (¬1)، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. انتهى. وقال شيخُ الإسلام عموماً، وشيخ الشافعية خصوصاً تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في كتابه في " رفع اليدين في الصلاة ": قال الذهبي في " الميزان " (¬2) في ترجمة عبد الرحمن بن أبي الموال: إنه ثقةٌ مشهورٌ، خرج مع محمد بن عبد الله، من رجال البخاري في " الصحيح "، وحكى عن أحمد بن حنبل أنه لا بأس به، وعن (¬3) ابن عدي: أن حديثه مستقيمٌ. وقال ابن حجر في مقدمته في " شرح البخاري " (¬4) وثقه ابن معين، والنسائي وأبو زُرعة. إلى هنا انتهت الزيادة، وليست مناسبةً لما نحن فيه. وقال الذهبي في " الميزان " (¬5): عبد الملك بن مروان بن الحكم: أنَّى له العدالةُ، وقد سفكَ الدِّماءَ، وفعل الأفاعيل؟! فإذا عرفت هذا، تبين لك أنهم لا يعيبون على من خرج على الظلمة، لأن جوازه منصوصٌ عليه في كتب فقههم، ولو كان ذلك محرَّماً عندهم (¬6) قطعاً، لم ¬
يختلفوا فيه (¬1) ويجعلوه أحد الوجوه في مذهبهم الذي يحِلُّ للمفتي أن يُفتيَ به، وللمستفتي أن يعمل به، كما أنه ليس لهم (¬2) وجهٌ في جواز شيءٍ من الكبائر، ولا شك أن كل مسألةٍ لهم فيها قولان أو وجهان أنهم لا يُحَرِّمُون فعل أحدهما، ولا يجرحون من فعله (¬3) مستحلاً له، ولا يُفسِّقونه (¬4) بذلك، وهذا يعرفه المبتدىء في العلم، كيف المنتهي؟! فبان بذلك بطلان قول السيد؛ إنهم يقولون الخارج على أئمة الجَوْرِ باغٍ بذلك. الوجه الرابع: ما يوجد في كلام علمائهم الكبار في مواضع متفرِّقةٍ، لا يجمعها معنى، مما يدلُّ على ما ذكرته من تصويبهم لأهل البيت عليهم السلام وغيرهم في الخروج على الظَّلمة، بل تحريمهم لخروج الظلمة على أهل البيت أئمة العدل، وهي عكس ما ذكره السيد، وزيادةٌ على ما يجب من الرد عليه. ومن أحسن من ذكر ذلك، وجوّده الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن خرجٍ الأنصاري الخزرجي الأندلسي المالكي القرطبي في كتابه " التذكرة بأحوال الآخرة " في مواضع متفرِّقة من كتاب الفتن والملاحم وأشراط الساعة، وقد ذكر فيها مقتل الحسين بن علي عليه السلام بأبلغ كلامٍ (¬5)، وذكر حديث عمَّار: " تقتلك الفئة الباغية " (¬6)، وقول ابن عبد البر (¬7) إنه من أصح الأحاديث. قلت: بل هو متواترٌ، كما قال الذهبي في ترجمة عمار من " النبلاء " (¬8) إلى قول القرطبي (¬9): ¬
نقل عبد القاهر البغدادي إجماع فقهاء الحجاز والعراق أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين وأصحاب الجمل
وقال فقهاء الإسلام فيه ما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب " الإمامة " تأليفه: وأجمع فقهاء الحجاز (¬1) والعراقي من فريقي الحديث والرأي، منهم: مالكٌ والشافعي والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين: أن علياً مصيبٌ في قتاله لأهل صِفِّين، كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً بأن الذين قاتلوه بُغَاةٌ ظالمون له، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم. قال الإمام أبو منصور التميمي البغدادي في كتاب " الفرق " (¬2) تأليفه في بيان عقيدة أهل السنة: وأجمعوا أن علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل وصِفّين، وذكر قبل ذلك عن أبي الخطاب دعوى الإجماع على ذلك. ثم قال: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب " الإرشاد " (¬3) في فضل علي رضي الله عنه: كان إماماً حقّاً، ومُقاتلوه بغاةٌ إلى آخر ما ذكره، وهو آخر فصل ختم به كتابه. ثم تكلم القرطبي في الحجة على ذلك، وأجاد رحمه الله. ومن ذلك ما ذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه " علوم الحديث " (¬4) في النوع ¬
العشرين في آخر هذا النوع، في ذكر إمام الأئمة ابن خزيمة ومناقبه، وقد ذكر حديث أمِّ سلمة من طريقه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تقتلك يا عمار الفئة الباغية ". قال ابن خزيمة بعد روايته: فنشهد أن كلَّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خلافته فهو باغٍ، على هذا عهدت مشايخنا، وبه قال ابن إدريس رضي الله عنه، انتهى بحروفه. وهو يعني الإمام الشافعي، وهذا (¬1) نقل إمام الشافعية بلا مدافعةٍ، وقد جود (¬2) الحاكم الثناء عليه، ووصفه بالتَّبَحُّر في العلوم. ومن ذلك أن البيهقي ذكر في " السنن الكبير " في باب ما جاء في القصاص في القتل (¬3): إذا كان الورثة صغاراً ما معناه: أن من جوز ذلك، احتج بقتل الحسن بن عليٍّ لابن ملجم، ولعلي عليه السلام أولادٌ صغارٌ، ثم قال: وقد أجاب عن ذلك بعض أصحابنا بأنه قتله حداً على كفره، لا قصاصاً انتهى. فظهر من هذا أن فعل الحسن عليه السلام حجَّةٌ عندهم، ولما كان ذلك من حُجَجِ الحنفية، لم تدفعه الشافعية بأن فعل (¬4) الحسن ليس بحجةٍ، بل أجابوا بما يقتضي: أن المُكَفِّر لأمير المؤمنين علي عليه السلام كافرٌ عندهم. وفي صحيح البخاري في كتاب التفسير منه تفسير سورة براءة، في باب قوله: {ثَانِيَ اثنينِ إذ هما في الغار} [براءة: 40] من حديث يحيى بن معين، حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريجٍ قال لي ابن أبي (¬5) مُليكة: قلت لابن عباس: ¬
أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتُحل حرم الله (¬1)، فقال (¬2): معاذ الله، إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية مُحِلِّين، وإني والله لا أُحله أبداً (¬3). فصرح البخاري بتصحيح ذم بني أمية، وأدخله في كتابه " الصحيح " الذي اختاره للمسلمين، وخلفه يعمل به من بعده، إلى يوم الدين، ولم يتأول ذلك ولا يضعفه، ولا عاب ذلك عليه أحدٌ من أهل السنة، ولا تركوا ذلك تقيَّةً من أعداء أهل البيت مع قوتهم وكثرتهم. وذكر الحافظ شمس الدين عليُّ بن أبي بكر الهيثمي الشافعي في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة: 27] من كتاب التفسير من " مجمع الزوائد " (¬4) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: " أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود، وابن آدم الذي قتل أخاه " قال الهيثمي: وسقط من الأصل الثالث، والظاهر أنه قاتل علي رضي الله عنه، وفي إسناده محمد بن إسحاق صاحب " السيرة النبوية ". ¬
وذكر الترمذي في " جامعه " حديثاً فحسنه عن سفينة الصحابي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنه لما روى الحديث: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكٌ بعد ذلك " قال له سعيد بن جمهان: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: كذبوا بنو (¬1) الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك. هذه رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود: قال سعيد: قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفةٍ، فقال: كذبت (¬2) أستاه بني الزرقاء، يعني بني مروان (¬3). وروى الترمذي عن الحسن بن علي عليه السلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرِي بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر} يملكها بعدك بنو أمية يا محمد (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
قال القاسم بن الفضل: فعددناها، فإذا هي ألف شهرٍ، لا تزيد يوماً، ولا تنقص. قال الذهبي في " الميزان " (¬1) في ترجمة عبد الرحمن بن مُلجمٍ المرادي: ذاك المعَثَّر الخارجي، ليس بأهلٍ أن يروى عنه، وكان عابدا قانتاً، لكنه خُتِمَ له بِشَرٍّ، فقتل أمير المؤمنين. وقال فيه (¬2) في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي: مقدوحٌ في عدالته، ليس بأهلٍ أن يُروى عنه، وقال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروى عنه. وقال فيه (¬3) في ترجمة شِمُرِ بن ذي الجوشن: ليس بأهلٍ للرواية، فإنه أحد قتلة الحسين رضي الله عنه. وحكى عن أبي إسحاق، قال: كان شِمْرٌ يصلي معنا، ويستغفر، قلت: كيف يغفِرُ الله لك، وقد أعنت على قتل ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال: ويحك إن أمراءنا أمرونا، ولو خالفناهم كنا شراً (¬4) من الحُمر السُّقاة. قال الذهبي: إن هذا العذر قبيحٌ، وإنما الطاعة في المعروف. وقال فيه (¬5) في ترجمة عمر بن سعد بن أبي وقاص: هو في نفسه غيرُ ¬
متهمٍ، لكنه باشر قتال الحسين، وفعل الأفاعيل، وروى شعبة عن أبي إسحاق، عن العَيزار بن حُريثٍ (¬1)، عن عمر بن سعد، فقام إليه -يعني إلى العيزار- رجل، فقال: أما تخاف الله، تروي عن عمر بن سعدٍ؟! فبكى -يعني العيزار- وقال: لا أعود. وقال أحمد بن زهير: سألت ابن معينٍ: أعمر بن سعدٍ ثقةٌ؟ فقال: كيف يكون من قتل الحسين ثقةً؟! ثم ذكر توثيق العجلي له (¬2)، وهذا شيءٌ تفرَّد به العجلي، وليس فيه دليلٌ على أن العجلي لا يُفَسَّقُه، لأن العجلي كان يرى توثيق الفاسق الصدوق في لهجته، ولذلك وثق جماعةً من صحَّ عنه سبُّ أبي بكر وعمر، ومن سبهما، فهو عنده فاسقٌ، بل صح عنه توثيق من يرى كفرهما من غلاة الروافض الصادقين في الرواية، فساوى بين أهل الصدق في الحديث من الروافض والنواصب، ولذلك حكى الحاكم عن النسائي أنه قال: العجلي ثقة، مع أن الحاكم والنسائي من أئمة الشيعة، وأهل المعرفة التامة بالرجال. وذكر المزي (¬3) كلام العجلي، ثم عقبه بكلام ابن معين، كالرد عليه، ثم ذكر من أخباره وبُغْضِ أبيه له، ثم قال: وروي عن محمد بن سيرين، عن بعض أصحابه، قال: قال علي لعمر بن سعدٍ: كيف أنت إذا قمت مقاماً تُخَير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟ وممن وثقه العجلي: أبو معاوية الضرير، محمد بن خازم (¬4)، وقد قال الحاكم: احتج به الشيخان وهو ممن اشتهر عنه الغلو. قال الذهبي (¬5): أي الغلو ¬
مقصود العجلي بالثقة عنده: الصدوق في روايته، لا الصالح في دينه
في التشيع، وقد قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب من " الميزان " (¬1): إن الغلو في التشيع عبارة عن تكفير الشيخين: أبي بكر وعمر وسبهما. فتوثيق العجلي لبعض غلاة الشيعة يدل على أنه يوثق الصدوق، وإن كان عنده صاحب بدعةٍ ومعصيةٍ، وقد مرَّ لي ذلك (¬2) في مواضع. منها في ترجمة مندل بن علي العنبري الكوفي (¬3)، ضعَّفه أحمد بن حنبل، وقال العجلي (¬4): جائز الحديث يتشيع. ومنها ترجمة تليد بن سليمان في " التهذيب " (¬5): قال العجلي (¬6) وأحمد: لا بأس به، وقد صح عنه شتم أبي بكر وعمرو عثمان، والرفض، وضعَّفه الشيعة (¬7)، قال ابن معين: غير ثقةٍ، وقال: ليس بشيءٍ، وقال النسائي -على تشيعه-: ليس بالقوي. وقال العجلي فيه (¬8): تابعي ثقة. وهو دليل أن العجلي يعني بالثقة: الصدوق في روايته، لا الصالح في دينه عنده، فإن الغلاة في عرفهم من يكفر الخلفاء (¬9) الثلاثة، أو يسبهم أدنى الأحوال، وليس فيمن يفعل ذلك عند العجلي خيرٌ قطعاً، فلو دل توثيقه عمر بن سعدٍ على بُغض علي عليه السلام وأهله، لدل توثيقه حَبَّة العُرني (¬10) على ¬
بغض سائر الخلفاء وأتباعهم، ولزم اجتماع النصب والرفض فيه، وذلك غيرُ واقعٍ مع أهل القبلة مع أنه يمكن أنه غَلِطَ أو غُلِطَ عليه، وأنه عنى بذلك التوثيق غيره، ففي الرواة جماعةٌ مشتركون في هذا الاسم، منهم عمر بن سعدٍ الخَفَري، أبو داود الرجل الصالح (¬1)، ومنهم عمر بن سعدٍ القُرَظ، ومنهم عمر بن سعدٍ الخولاني. فالحمل على السلامة يوجب ذلك، وحاله يحتمل الحمل على السلامة لوجهين: أحدهما: أنه لم يذكر بتحاملٍ على علي عليه السلام قط، والرمي ببغض علي عليه السلام شديدٌ، فلا تحل نسبته إلى من ظاهره الإسلام إلاَّ بعد صحةٍ لا تحتمل التأويل كالتكفير والتفسيق، ولذلك كان القول بجميع ذلك لا يجوز إلا بدليل قاطع. وقد كان ابن أبي داود (¬2) يقول: كل أحدٍ في حلٍّ إلاَّ من نسب إليَّ بُغضَ عليٍّ عليه السلام. وحقوق المخلوقين ومطالبهم خطرة، وفي الحديث الصحيح: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " (¬3)، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في ¬
العقوبة (¬1)، وقد ثبت: " إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (¬2) كيف بالقطع في موضع الاحتمال، ومن أشد ما يخاف المخطىء في ذلك أن يكون عليه إثم الباغض لعليٍّ عليه السلام، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (¬3)، وكذلك غير لفظ الكافر ترجع على قائلها، وفي ¬
العالم الثقة إذا قال: حدثني الثقة، ولم يوضح من هو، لم يحكم بصحة الحديث
ذلك حديثٌ صحيح لم يحضرني لفظه (¬1)، وكذلك اللعن لغير المستحق، ولا يتعرض حازِمٌ لمثل هذه الأخطار. وثانيهما (¬2): أن توثيقه غير واحد من غلاة الشيعة، وتوثيق النسائي له يدل على ذلك، وليس فيه دليل على أن العجلي لا يفسِّقه، فإنهم قد يوثِّقون الفاسق والكافر والرافض والجهمي (¬3)، وهو مثل قول محمد بن إسحاق -مع أنه معتزلي-: حدثني الثقة، قيل له: من الثقة؟ قال: يعقوب اليهودي. رواها عنه الذهبي في ترجمته من " الميزان " (¬4). فقد يوثِّقون الصدوق في كلامه، وإن كان أبغض العصاة إلى الله، ولم يحتج العجلي على توثيقه إلاَّ بأن الناس رووا عنه، وهذا غير صحيحٍ، فلم يرو عنه إلاَّ الأقل، مما يدل على سوء حاله كما يأتي، ولو رووا عنه، فذلك ليس بدليل على توثيقهم له، كما ذكروه في علوم الحديث وفي الأصول. ولهذا وأمثاله حكم علماء الحديث أن (¬5) العالم الثقة إذا قال: حدثني الثقة، ولم يوضح من هو، لم يحكم بصحة الحديث، لجواز أن يخالفه في توثيقه لو بينه، إما بأن يعلم من حاله ما لا يعلم، أو بأن يختلف فيما يقتضيه حاله المعلوم للجميع. وسر المسألة أن التوثيق ظني اجتهادي، ولا يجوز للمجتهد أن يقلِّد فيما هذا حاله مع التمكن، ومن هنا لم يصحِّحوا المرسلات (¬6). ¬
وقال عبدان في جميل بن الحسن الأهوازي: كاذبٌ فاسقٌ. قال ابن عدي (¬1): أما في الرواية، فإنه صالحٌ فيها (¬2). وقال الذهبي في " الكاشف " (¬3): يعني عبدان: أنه كاذبٌ في كلامه، يعني في مذهبه (¬4)، لا في روايته، وهو في معنى كلام المنصور بالله في " الصفوة " وقد تقدم، وأعيد منه ها هنا ما تَمَسُّ إليه الحاجة. قال عليه السلام بعد أن اختار قبول رواة الخوارج، وادعى إجماع الصحابة على ذلك ما لفظه: وقول من قال: إن من عُرِفَ بالكذب في المعاملات لا يقبل خبره، فكيف يقبل خبر من عرف بالكذب على أفاضل الصحابة وسادات المسلمين لا يتسق، لأن المعلوم من حالهم أنهم لا يكذبون على الصحابة في الرواية عنهم، وإنما يكذبون عليهم في الاعتقاد فيهم، وذلك خارج من باب الأخبار، وكانوا لا ينتقصون إلاَّ من يعتقدون الصواب في انتقاصه ومحاربته. انتهى. فالخوارج قد شركوا عمر بن سعد في ذنبه (¬5)، وزادوا أنهم كانوا يُكَفِّرون أميرَ المؤمنين عليه السلام ومن والاه، وعمر بن سعد لم يُنقل عنه التكفير، فإذا أوجب المنصور بالله عليه السلام قبول قول (¬6) الخوارج، ولم يدل على بغضه علياً عليه السلام، لم يبعد أن يوثق (¬7) العجلي عمر بن سعد بهذا المعنى، ولا يبغض الحسين عليه السلام، وإنما هو في معنى قول الذهبي: إنه لم يكن يُتَّهم -يعني بالكذب-. ¬
وكذا قال قتادة في عمران بن حطان: لم يكن يُتَّهم (¬1) في الحديث، وقال أبو داود: ليس (¬2) في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج، ذكره المزي في ترجمة عمران بن حِطان (¬3). وكذلك كثيرٌ من المشركين، ولذلك، كان دليل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين هاجر مشركاً، فوثق (¬4) به في دلالة الطريق، وكذلك وثِقَ بعهد سراقة أنه لا يخبر به أحداً، ودعا له، وكتب له لظنه (¬5) أنه يصدق في عهده (¬6)، وذلك في معنى قول أهل البيت: إن حديث الخوارج مقبول، ودعوى المنصور بالله الإجماع عليه يستلزم روايته عن جميع أهل البيت القدماء مع تكفيرهم لعلي عليه السلام، وقد تقدم في مسألة المتأولين بيان مذاهب أهل البيت في ذلك. وقال المنصور بالله في " المجموع المنصوري " في رسالةٍ ذكرها عقيب " تحفة الإخوان ": وقد كان دليل رسول - صلى الله عليه وسلم - كافراً لما غلب في ظنه أنه ينصحه. انتهى. وقد يوثق الشيعي من يهلكه بهذا المعنى، كما نقل الذهبي عن النسائي في (¬7) أنه وثق نُعيم بن أبي هند، قال الذهبي في " الميزان " (¬8) نعيم لون غريب، كوفي ناصبي. وكذلك السني قد يوثق الشيعي، كما قالوا في الحاكم أبي عبد الله وغير واحد. ¬
ومما يدلُّ على ذلك أنه لم يرو عن عمر بن سعد أحد من أهل الكتب الستة المعتمدة إلاَّ النسائي، والنسائي (¬1) من المشاهير بالتشيع وتهليك أعداء عليٍّ عليه السلام، ولم يرو عنه إلاَّ حديث: " لا يحل دمُ امرىءٍ مسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث " (¬2)، وهو مشهور من غير طريقه، ولا يُتَّهم في مثله، فهو حجة عليه، ولعل النسائي ما أورده من طريقه إلاَّ ليعلم أنه فاسق تصريحٍ يروي مثل هذا النص في تحريم أمرٍ، ثم يخالفه في أفضل أهل دهره. وقد روى الذهبي عن مسلم في ترجمته في " النبلاء " (¬3) أنه قال في علي بن الجعد: إنه ثقة، لكنه كان جهمياً، والجهمي عندهم شرٌّ من الفاسق. وروى في ترجمة الحاكم في " التذكرة " (¬4) عن أبي (¬5) إسماعيل الأنصاري أنه سئل عن الحاكم، فقال: ثقةٌ في الحديث، رافضي خبيث. وفى " الميزان " (¬6) في ترجمة زكريا بن إسحاق المكي صاحب عمرو: أنه ثقة حجة مشهور، وقال ابن معين: قدري ثقة. ¬
ولهم من هذا (¬1) شيء كثير، وهو يدل على أنهم قد يطلقون التوثيق على من يعتقدون فيه الخبث والعصيان. وبالجملة، فهي قبيحةٌ من العجلي، نادرةٌ مقصورةٌ عليه، وليس الاحتجاج بها على أنهم خوارج، أولى من الاحتجاج بكلام ابن معين وشعبة على أنهم شيعةٌ، بل سائر كلامهم المقدم الصريح في جميع الباب، وإن صح أن العجلي قال ذلك، وقصد به تحسين قتل الحسين عليه السلام كان ذلك جرحاً فيه وفيمن لم يجرِّحه بعد معرفة ذلك، ولا يضر الحديث وأهله العجلي، وطرح حديثه لو كان له حديثٌ، كيف وليس له رواية؟ قال الذهبي في ترجمته في كتاب " التذكرة " (¬2): ما علمت وقع لنا من حديثه شيء، وما أظنه روى شيئاً إلاَّ حكايات، حدث عنه ولده صالح بمصنفه في الجرح والتعديل، مات سنة إحدى وستين ومئتين بطرابلس المغرب. وكما أنه لا يَطَّرِحُ على الزيدية والشيعة والآل قول (¬3) من كَفَّر الشيخين، وسبهما من الشيعة مع كثرتهم في الشيعة (¬4)، فلا يطرح على أهل السنة قول العجلي مع نُدُوره وشذوذه وتكليف أهل السنة أن لا يوجد فيهم مبطلٌ تكليف ما لا يطاق، وليس قصدي إلا الذب عن السنة النبوية، وأن لا يجعل المبتدع وجود مثل هذا سبباً للتنفير عنها، فكم وُجِدَ من غلاة المتكلمين من الباطل على الله وأسمائه وكتابه، فلم يجعلوا ذلك (¬5) مُنَفِّراً عن (¬6) علومهم، وأقرُّوا الخطأ على صاحبه. وقد صرح السيد في رسالته بأنهم شيعة يزيد، وأنهم يصوبون قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاةٌ على قولهم. ¬
فاسمع الآن نصوص هؤلاء الذين افتريت عليهم أنهم شيعة يزيد. قال الذهبي في " النبلاء " (¬1) في ترجمة يزيد بن معاوية، أو في ترجمة الحسين عليه السلام (¬2) كان يزيد ناصبياً، فظاً، غليظا، جِلفاً، يتناول المُسْكِرَ، ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنه، واختتمها بوقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غيرُ واحد بعد الحسين رضي الله عنه، كأهل المدينة [قاموا] لله. وذكر من خرج عليه، قال (¬3): وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن مكحولٍ، عن أبي عبيدة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. " لا يزال أمر أمتي قائماً حتى يثلمه رجلٌ من بني أمية يقال له: يزيد " أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (¬4). قلت: ورجاله متفق على الاحتجاج بهم في الصحيحين (¬5). ¬
قال الذهبي (¬1): ورُويَ عن صخر بن جويرية (¬2)، عن نافع، قال: مشى عبد الله بن مطيع إلى ابن الحنفية في خلع يزيد. وقال ابن (¬3) مطيع: إنه يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب. وعن عمر بن عبد العزيز، قال رجلٌ في حضرته أمير المؤمنين يزيدُ، فأمر به، فضُرِبَ عشرين سوطاً. انتهى. وقال ابن الأثير في " نهايته " (¬4) ما لفظه: إنه ذكر الخلفاء بعده، فقال: " أوَّه لِفِراخِ آل محمد من خليفةٍ يُسْتَخْلَفُ، عِتريفٍ مُتْرفٍ، يقتُل خَلَفي، وخَلَفَ الخَلَف " (¬5). قال ابن الأثير: العتريف: الغاشم، الظالم، وقيل: الداهي الخبيث، وقيل: هو قلب العفريت، الشيطان الخبيث. قال الخطابي: قوله: " خلفي "، يُتأوَّل على ما كان من يزيد بن معاوية إلى الحسين بن علي وأولاده الذين قتلوا معه، وخلف الخلف: ما كان منه يوم الحرة إلى أولاد المهاجرين والأنصار. انتهى بلفظه. ولما ذكر ابن حزم (¬6) خُرُوم الإسلام التي لم يَجْرِ أفحش منها، عدها أربعة، وعد منها: قتل الحسين عليه السلام علانية، ولم يَعُدَّ منها قتل عمر بن الخطاب، ولا يوم الجمل، ولا أيام (¬7) صفين، تعظيماً لقتل الحسين عليه ¬
كلام ابن حزم في يزيد بن معاوية
السلام وأنه بلغ (¬1) في النكارة إلى شأوٍ جاوز الحد في ارتكاب الكبائر، هذا مع أن ابن حزمٍ موصومٌ بالتَّعصب لبني أمية، وهذا لفظ ابن حزمٍ في آخر " السيرة النبوية " التي صنَّفها، وذكر في آخرها أسماء الخلفاء، ونبذاً من أخبارهم. فقال في يزيد بن معاوية ما لفظه: بويع يزيد بن معاوية (¬2) إذ مات أبوه، وامتنع من بيعته الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير بن العوام، فأمَّا الحسين رضي الله عنه، فنهض إلى الكوفة، فقُتِل قبل دخولها، وهي ثانية (¬3) مصائب الإسلام وخرومه، ولأن المسلمين استضيموا في قتله ظلماً علانية. وأما عبد الله بن الزبير بن العوَّام، فاستجار بمكة، فبقي هنالك (¬4) إلى أن أغزى يزيد الجيوش إلى المدينة، حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى مكة حرم الله عز وجل، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحرة، وهي ثالثة (¬5) مصائب الإسلام وخرومه، لأن أفاضل الصحابة (¬6)، وبقية الصحابة رضي الله عنهم (¬7)، وخيار التابعين (¬8) قُتِلَوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً، وجالت الخيل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الأيام (¬9)، ولا كان فيه أحدٌ حاشا سعيد بن المسيب، فإنه لم يفارق المسجد، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان، ¬
ومروان بن الحكم له عند مسلم (¬1) بن عقبة بأنه مجنونٌ لقتله، وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية، على أنهم عبيدٌ له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق، وذكر له بعضهم البيعة على حكم القرآن فأمر بقتله (¬2) فضُرِبَتْ عنقه صبراً رحمه الله. وهتك يزيد بن معاوية الإسلام (¬3) هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستُخِف بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومُدَّت الأيدي إليهم، وانتهبت (¬4) دورهم، وحُوصِرت مكة، ورُمِيَ البيت بحجارة المنجنيق (¬5)، وأخذ الله يزيد، فمات بعد الحرة بأقل من ثلاثة أشهر، وأزيد من شهرين، في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، وله نيَّفٌ وثلاثون سنةً. انتهى كلام ابن حزم. وخرج الطبراني نحواً من هذا، رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬6) في باب فيما كان من أمر ابن (¬7) الزبير، وفيه قصة في نبش قبر مسلم بن عقبة، وأنه وُجِدَ معه ثعبان، وأنه قد التوى على عنقه، قابضاً بأرنبة أنفه يمصها، لاوياً ذنبه برجليه (¬8)، رواه الهيثمي من طريق عبد الملك بن عبد الرحمن الذّماري ¬
كلام إلكيا الهراسي في يزيد بن معاوية
ومحمد بن سعيد بن رمانة، فأما [عبد الملك] بن عبد الرحمن، فوثقه ابن حبان وغيره، ومحمد بن سعيد بن رُمانة، لم يعرفه الهيثمي (¬1). وذكر الطبراني بعد ذلك مكاتبةً جرت بين ابن عباسٍ ويزيد، أغلظ ابن عباسٍ فيها ليزيد، وذكر من مساوئه ما لا مزيد عليه، اختصرته لطوله ومعرفة مكانه. وقال الهيثمي (¬2) بعد روايته: رواه الطبراني وفيه جماعةٌ لم أعرفهم. وقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن حزم في " التذكرة " (¬3) أنه نُقِمَ عليه التَّعصُّب لبني أمية، فإذا كان هذا كلامه، فكيف بغيره، ولكن ابن حزم كان هاجر (¬4) من مواضع التقية إلى باديةٍ في إشبيلة، وتكلم (¬5) بأخباره، ولو أمِنَ غيره كما أمن، لتكلم أعظم من كلامه، ولكنهم اكتفوا بالإشارات والتلويح، كما حكى ابن خلكان في تاريخه المسمى " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان " (¬6) في المجلد الثالث في ترجمة أبي الحسن عليٍّ بن محمد بن علي الطبري (¬7) الملقب عماد الدين. المعروف بالكياالهراسي الفقيه الشافعي، تلميذ إمام الحرمين الجويني ما لفظه: وسُئِلَ الكيا عن يزيد بن معاوية، فقال: إنه لم يكن من الصحابة، لأنه وُلِدَ في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما أقوال (¬8) السلف، ففيه لأحمد قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولمالكٍ قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولأبي حنيفة قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولنا قول واحد: تصريح دون تلويح، كيف لا يكون كذلك وهو ¬
اللاعِبُ بالنرد، المتصيِّد بالفُهود، ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلومٌ، ومنه قوله: أقول لِصَحْبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يَتَرَنَّمُ خذوا بِنَصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكل وإن طال المدى يَتَصَرَّم وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة وكتب: لو مُدِدت ببياضٍ، لمددت (¬1) العنان في مخازي هذا الرجل، وكتب فلان بن فلانٍ. انتهى كلام إلكيا. وفيه ما ترى من النقل الصريح عن أهل المذاهب الأربعة (¬2) فيه، فأما الشافعية، فقد بيَّن أن قولهم فيه واحدٌ، تصريحٌ غير تلويح. وأما سائر أهل (¬3) المذاهب الأربعة (¬4)، فلكلٍّ منهم قولان تصريحٌ وتلويح، وإنما لوحوا بذمه وتضليله في بعض الأحوال، ولم يُصرِّحوا في جميعها تَقيَّةً من الظلمة، ولهذا صرحوا كلهم بتضليله في بعض الأحوال، وفي هذا أكبر دليلٍ على فضلهم وورعهم، لأنهم حين خافوا، لوَّحوا (¬5) بتضليله، ولم يترخصوا بالخوف، فيصرِّحوا بالثناء عليه تقية، ولا تجاسروا على ذلك، حتى مع الخوف المبيح لكلمة الكفر تقية. وقد قال علي عليه السلام عند الإكراه: فأما السب، فسبوني، فإنه لكم نجاة ولي زكاة، وأما البراءة، فلا تبرؤوا مني، فإني ولدت على الفطرة. وقد ذكر الذهبي في ترجمة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس ¬
الهاشمي الأمير (¬1): أنه ليس بحجةٍ. قال: ولعل الحُفَّاظ إنما سكتوا عنه مداراة للدولة. انتهى. وفيه ما يدل على أنه قد يمنعهم الخوف من التصريح ببعض الأمور حتى يخفى مذهبهم فيها، وهذا نقل شيخ الشافعية الكيا المفضل عندهم على الغزالي. قال ابن خلكان في ترجمته (¬2): تفقه بالجويني مدة إلى أن بَرَعَ. قال الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي فيه: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدروس، وكان ثاني أبي حامدٍ الغزالي، بل هو آصل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، وارتفع شأنه، وتولى القضاء، وكان محدِّثاً، يستعمل الأحاديث في مناظرانه ومجالسه (¬3)، ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهابِّ الرياح. انتهى كلامهم في الثناء على ناقل مذاهبهم في يزيد بن معاوية، وأقلُّ من هذا يكفي المنصف، وأكثر منه لا يكفي المتعسِّف. وقد بالغ الإمام المنصور بالله في تنزيه أئمة الفقهاء الأربعة في مُجانبة أئمة العترة، وروى عن كل واحد منهم (¬4) ما يشهد له بالبراءة عن ذلك ذكره في " المجموع المنصوري " في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان وفي غيرها (¬5)، فاتفق نقلهم ونقل أئمة الزيدية عنهم (¬6). فليت شعري، من هؤلاء الذين أشار إليهم السيد، وأوهم أهل الحديث والسنة ورُواتها، صرح السيد بغير مراقبةٍ لله تعالى: بأنهم شيعة يزيد بن معاوية ¬
والحجاج بن يوسف، وأنهم يُصَوِّبُون فعلهما في قتل الحسين بن علي عليه السلام وأهل بيته وأصحابه من خيار المسلمين، وهل هذا إلاَّ قطعٌ من غير تقدير وهجومٌ على الرجم بالذنب الكبير، لأن هذه جهالةٌ مجاوزة للحد، مع اعتقاد غاية المعرفة التامة، فنسأل الله العافية من مثل هذه البلية. وما أحسن كلام شيخ الإسلام العلامة المحدث المتكلم أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي حيث قال في " فتاويه " (¬1): وكذلك عمر بن الخطاب لما وضع ديوان العطاء، قال للمسلمين: بمن أبدأ؟ قالوا: ابدأ بنفسك (¬2). قال: كلا، ولكن أبدأ بأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدَّمهم وجمعهم، بني هاشمٍ وبني المطلب، فقدم العباس، لأنه كان أقرب الخلق (¬3) نسباً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك استسقى به لقرابته (¬4)، وإن كان غيره أفضل منه، فإن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أفضل منه، فقدمه إكراماً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - محبة أهل بيته، وموالاتهم، كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني تارك فيكم الثَّقلين. أحدهما أعظم من الآخر؛ فذكر كتاب الله -وحرَّض عليه- ثم قال: وعِترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي ". فقيل لزيد بن أرقم وهو راوي الحديث من أهل بيته؟ قال: الذين حُرِمُوا الصدقة، آل علي، وآل عقيل، وآل العباس (¬5). ¬
وفي حديثٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله، ولقرابتي " (¬1). وكان أبو بكر يقول: ارقبوا محمداً في أهل بيته (¬2)، وكان السلف يقولون: حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق، فمن نصب العداوة لآل محمدٍ أو بغضهم أو ظلمهم أو أعان من ظلمهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬3). إلى قوله: ولكن الذي ابتدع الرفض، كان زنديقاً يهودياً أظهر الإسلام، وهو منافقٌ، فابتدع أكاذيب ألقى بها العداوة بين الأُمة حتى ظن الجُهَّال أن ¬
السابقين كانوا يظلمون بني هاشم. وقد صنف أبو الحسن الدارقطني (¬1) كتاباً كبيراً في ثناء الصحابة على القرابة، وثناء القرابة على الصحابة إلى آخر كلامه. وهذه ألفاظه بحروفها، فانظر إلى لعنه لأعداء البيت، ومن أعانهم. وكذلك عالم الأشعرية عبد الرحمن بن أبي القبائل بن منصور الهمداني قد أثنى على أهل البيت عليهم السلام في رسالته " الدامغة " و" الخارقة "، كلتيهما، وصرح في " الخارقة " بلعن من يبغضهم في غير موضعٍ، وسب من يسبهم، وذكر أبياتاً بليغة ضمنها ذلك، فقال فيها: فضلُ الأئمة أهل البيت مُشتهرٌ ... وحبهم عندنا دينٌ ومُفْتَخَرُ وبغضهم عندنا كفرٌ وزندقةٌ ... وقربهم ملجأٌ فينا ومُدَّخَرُ إلى قوله: وقال قومٌ هم في الفضل مثلُكُمُ ... ولا أرى اليوم تحقيق الذي ذكروا أنا وَطِينة عليين طينتكم ... وطينة الناس إلاَّ أنتم العَفَرُ تلك المكارم لا قَعْبَان من لبنٍ ... وذلك الدين ليس الجبرُ والقدرُ فانظر كيف نص في هذه الأبيات، التي قصد بتسييرها وتخليدها في رسالته على أن بغض العترة كفر وزندقة (¬2)، مع ما كان بينه وبين معاصره منهم من النزاع في المذاهب والعصبية المؤدية إلى العداوة. ¬
وقال الحافظ أبو الخطاب ابن دِحْيَة الكلبي (¬1) في " العلم المشهور " في ذكر يوم عاشوراء ما لفظه مختصراً: وفي هذا اليوم قُتِلَ السيد الأمير، ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سيد شباب أهل الجنة، أبو عبد الله الحسين بن فاطمة البتول، يومَ الجمعة، وقيل: يوم السبت، سنة إحدى وستين، بالطَّفِّ بكربلاء، وهو ابن ست وخمسين سنة، ولما أحاطوا بالحسين عليه السلام، قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي من الأمر ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، وانشمر (¬2) حتى لم يبق منها إلاَّ صُبابة كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله عز وجل، وإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ ندماً. رواه الطبراني عن محمد بن الحسن (¬3) بن زبالة. ¬
قصة مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه
وكان عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن زيادٍ أن جعجع بالحسينِ، أي: ضيق عليه، ثم أمده بعمر بن سعدٍ المتكفِّل المتكلِّف بقتال الحسين عليه السلام، حتَّى يُنْجِزَ له عبيد الله الدعي ما سلف من وعدٍ، وهو أن يُمَلِّكَه مدينة الري، فباع الفاسق الرشد بالغي، وهو القائل: أأترُكُ ملكَ الريِّ والريُّ مُنْيتي ... وأرجع يوماً ما بقتل حسين فضيق عليه اللعين أشد تضييقٍ، وسد بين يديه وضح (¬1) الطريق، إلى أن قتله في التاريخ المقدم سنة إحدى وستين، ويُسمى عام الحزن، وقُتِلَ معه اثنان وثمانون رجلاً من أصحابه مبارزةً، وجميع ولده إلاَّ علي بن الحسين زين العابدين، وقُتِل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه: لمحمدٍ سلّوا سيوفَ محمدٍ ... قطعوا بها هامات آل محمَّد وفي هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين على جده وعليه أفضل السلام، رؤي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع دم الحسين في قارورةٍ، وإن كانت رؤيا منام، فإنها صادقة، ليست بأضغاث أحلام، أسند ذلك إمام أهل السنة الصابر على المحنة، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قال (¬2): حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورةٌ فيها دم يلتقطه فيها، قلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: " دم الحُسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم "، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتِلَ ذلك اليوم. قال ابن دحية: هذا سند صحيح، عبد الرحمن: هو ابن مهدي، إمام أهل الحديث. وحماد: إمام فقيه ثقة، وعمار من ثقات التابعين، أخرج مسلمٌ ¬
أحاديثه في " صحيحه " ورواه الهيثمي في كتابه " مجمع الزوائد " (¬1) وعزاه إلى الطبراني، وأحمد بن حنبل. وقال: رجال أحمد رجال الصحيح. وتولى حمل الرأس بشر بن مالكٍ الكندي، ودخل به على ابن زياد وهو يقول: املأ ركابي فضةً وذهبا ... أنا قتلتُ الملكَ المُحجبا قتلت خير الناس أماً وأبا (¬2) وقد صدق هذا القائل الفاسق في المديح وتقريظ هذا السيد الذبيح، ولقي الله بفعل القبيح. وأمر عبيد الله بن زيادٍ من قوّر رأس الحسين حتى يُنْصَبَ في الرمح، فتحاماه أكثر الناس، فقام طارق بن المبارك، فأجابه إلى ذلك وفعله، ونادى في الناس، وجمعهم في المسجد الجامع، وصَعِدَ المنبر، وخطب خطبة لا يحل ذكرها، ثم دعا عبيد الله بن زياد زُحر بن قيس الجعفي، فسلم إليه رأس الحسين ورؤوس أهله وأصحابه، فحملها حتى قدموا دمشق، وخطب زُحَرُ خطبة فيها كذبٌ وزورٌ، ثم أحضر الرأس ووضعه بين يدي يزيد، فتكلم بكلامٍ قبيح وقد ذكره الحاكم والبيهقي وغير واحد من أشياخ أهل النقل بطرقٍ ضعيف وصحيح (¬3). ¬
وقد ذكر ذلك كله الحافظ أخطب الخطباء ضياء الدين، أبو المؤيد موفق ¬
الدين بن أحمد الخوارزمي (¬1) في تأليفه في مقتل الحسين عليه السلام وهو عندي في مجلدين. وذكر شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، قال: حدثنا الحافظُ أبو عبد الله محمد بن عبد الله، سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأديب يذكرُ بإسنادٍ له، أن رأس الحسين عليه السلام لما صُلِبَ بالشام، أخفى خالد بن غفران شخصه من أصحابه، وهو من أفاضل التابعين، فطلبوه شهراً حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول: جاؤوا برأسك يا ابن بنتِ محمدٍ ... متزمِّلاً بدمائه تزميلا وكأنما بك يا ابن بنت محمدٍ ... قتلوا جهاراً عامدين رسولا قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا ... في قتلك التنزيلَ والتأويلا ويُكبِّرون بأن قُتِلْتَ وإنَّما ... قتلوا بك التكبير والتهليلا (¬2) قال ابن دحية: واعجبوا -رحمكم الله- من الأمم الذين كانوا من قبلكم، وقد فضَّل الله أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، منهم المجوس يعظمون النار، لأنها صارت برداً وسلاماً على إبراهيم، والنصارى يعظمون الصليب، لادعائهم أنه من جنس العود الذي صُلِبَ عليه ابن مريم، وابن مرجانة (¬3)، وأصحابه العِدا قتلوا الحسين ابن نبيِّ الهدى، ولم يلتفتوا إلى قول أصدقِ القائلين: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. ¬
قال: ولما قدم برأس الحسين صاحت نساء بني هاشم، فقال مروان: عجَّتْ نساء بني زيادٍ عجةً ... كعجيج نِسوتنا غداة الأرنبِ (¬1) قلت: رويدك يا مروان حتَّى تعلم من يعجُّ غداً حين يشتد غضب الديان، ومن يدعو ثبوراً كثيراً في طبقات النيران. قال ابن دحية (¬2): وأنا أقول قولاً هو الإيمان: هنيئاً لك (¬3) الشماتة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا مروان. وفي صحيح البخاري (3)، عن ابن عمر أنه سأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال له: ممن أنت، قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا الذي يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هما ريحانتاي في (¬4) الدنيا ". أخرجه البخاري من طريقين في كتاب المناقب، وفي كتاب الأدب، والطبراني (¬5) من حديث أبي أيوب من طريق الحسن بن عنبسة، والبزار (¬6) من ¬
حديث سعد بن أبي وقاص برجال الصحيح. وقال إبراهيم النخعي الإمام، فيما حكاه أبو سعد السمان (¬1) الرازي بسنده إليه: لو كنت فيمن قاتل الحسين، ثم أُتِيتُ بالمغفرة من ربِّي، فأُدخِلْتُ الجنة، لاستحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن أمرَّ عليه فيراني. ورواه الطبراني (¬2) بإسنادٍ رجاله ثقات. قال ابن دحية: عباد الله، اعجبوا من هؤلاء الملاعين، إذ قتلوا الحسين بن فاطمة ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أكبوا في شمالهم على شُرب شمولهم، تعساً لشيوخهم، وكهولهم. في صلاتهم (¬3) يصلون على محمدٍ وآله، ثم يمنعونه شرب نطفةٍ من الفرات وزُلاله، ويجتمعون على قتله وقتاله، ويذبحونه، ولا يستحيون من نور شيبه وجماله، أما والله إن حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن يعظموا (¬4) تراب نعل قدمه، بل تراب نعل خادمٍ من خدمه. فليت شعري، ما اعتذار هؤلاء الأشرار في قتل هؤلاء الأخيار عند محمدٍ المختار: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} [غافر: 52] إلى قوله: وقد سلط الله عليهم المختار، فقتلهم حتى أوردهم النار. ¬
وخرَّج الترمذي في " جامعه الكبير " ما هذا نصه: حدثنا واصلُ بنُ عبد الأعلى، حدثنا أبو معاوية [عن] الأعمش، عن عُمارة بن عميرٍ، قال: لما جيء برأس عُبيد الله بن زيادٍ وأصحابه، نُضِّدَت (¬1) [في] المسجد، فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية قد جاءت (¬2) تَخَلَّل الرؤوس حتى دخلت في مِنْخَرَي عُبيد الله، فمكثت هُنيهةً، ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. هذا حديث حسن صحيح (¬3). انتهى المنقول من كتاب ابن دحية، وهو أحد أئمة أهل السنة في الاعتقاد وقد أورده الإمام العلامة القرطبي صاحب " التفسير الكبير " وأحد أقطاب مذهب أهل السنة نحو هذا الكلام، بل أظنه نقله بحروفه في آخر كتابه " التذكرة في أحوال الآخرة " (¬4). ونقل الحافظ الهيثمي الشافعي في كتابه " مجمع الزوائد " عن أئمة الحديثِ وثقاتهم، الكثير الطيب مما يدلُّ على حب أهل البيت، مما يرويه الشيعة في مقتل الحسين عليه السلام، من كراماته العظيمة، ومناقبه الكبيرة، وزاد على نقل الشيعة بيان من رواه من أئمة الحديث، وبيان ثقة رواته عند أهلِ العلمِ بهذا الشأن. فقال: وخرج الطبراني في " أوسط معاجمه " من طريق علي بن سعيد بن بشيرٍ الحافظ، عن رجاء بن ربيعة (¬5) في مناقب الحسن بفتح الحاء، والبزار، عن ¬
رجاء بن ربيعة أيضاً بإسنادٍ رجاله ثقات في مناقب الحسين بضم الحاء (¬1) أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال فيه: والله إنه لأحب أهل الأرض إلى أهل السماء (¬2). وعن عمارة بن يحيى بن خالد بن عُرْفُطَة، قال: كنا عند خالد بن عرفطة يوم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقال لنا خالد: هذا ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي " رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير عمارة، وعمارة وثقه ابن حبان (¬3). وعن شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين عليه السلام لعنت أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل، عزَّوه وذلُّوه، لعنهم الله. رواه الطبراني، ورجاله موثقون (¬4). وعن أسلم المِنْقَرِيِّ (¬5) قال: دخلت على الحجاج، [فدخل] سنانُ بنُ أنسٍ قاتل الحسين، فأوقف بحيال الحجاج، فنظر إليه، فقال: أنت قتلت الحسين؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: دعمته بالرمح، وهَبَرْتُه ¬
بالسيف هبراً، فقال الحجاج: أما إنكما لن تجتمعا في دار. رواه الطبراني، ورجاله ثقات. وعن أنس، قال: لما أُتي برأس الحسين إلى عُبيد الله بن زياد، جعل ينكُتُ بالقضيب ثناياه، فقلت: والله لأسُوءَنَّكَ (¬1)، إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلْثُمُ حيث يقع قضيبُك. قال: فانقبض. رواه البزار والطبراني بأسانيد، ورجاله وثقوا (¬2). وخرَّج له الطبراني شاهداً من حديث زيد بن أرقم من طريق حرام بن عثمان (¬3). وعن عمرو بن بعجة قال: أول ذلٍّ دخل على العرب: قتل الحسين، وادِّعاءُ زيادٍ. رواه الطبراني ورجاله ثقات (¬4). وعن أبي رجاءٍ العُطاردي، قال: لا تسبوا علياً، ولا أحداً من أهل بيته، فإن جاراً لنا قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق قتله الله -يعني الحسين بن علي- فرماه الله بكوكبين في عينيه، فطمس الله بصره. رواه الطبراني ورجاله ثقات (¬5). وعن حاجب عبيد الله بن زياد، قال: دخلتُ القصر خلف عبيد الله بن زياد حين قُتِلَ الحسين، فاضطرم القصر في وجهه ناراً، فقال هكذا بكُمِّه على ¬
وجهه. فقال: هل رأيت؟ قلتُ: نعم، وأمرني أن أكتم ذلك. رواه الطبراني ورجاله ثقاتٌ إلاَّ حاجب عبيد الله (¬1). وعن الزهري، قال لي عبد الملك بن مروان: أيُّ واحدٍ أنت إن أعلمتني أي علامةٍ كانت يوم قتل الحسين؟ قلت: لم تُرفع حصاةٌ من بيت المقدس إلا وُجِدَ تحتها دم عبيط، فقال: إني وإياك في هذا الحديث لفردان (¬2). رواه الطبراني. ورجاله ثقات (¬3) وعن الزهري، قال: ما رُفِعَ بالشام حجرٌ يوم قُتِلَ الحسين إلاَّ عن دمٍ. رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح (¬4). وعن أم حكيمٍ، قالت: قتل الحسين، فمكثت السماء أياماً مثل العَلَقَةِ. رواه الطبراني، ورجاله إلى أم حكيم، رجال الصحيح (¬5). وعن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكبُ نصف النهار، حتى ظننا أنها هي. رواه الطبراني بإسناد حسن (¬6). وله شواهد: عن عيسى بن الحارث الكندي. رواه الطبراني (¬7). ¬
وعن محمد بن سيرين. رواه الطبراني، من طريق يحيى الحِمَّاني، وهو من رجال مسلم في " الصحيح "، وفي حديثه أنه لم يكن في السماء حُمْرَةٌ حتى قتل الحسين (¬1). فإن قيل: كيف يمكن صحة هذا، وقد ثبت أن أول وقت العشاء زوال الشفق الأحمر عند أهل البيت، وأكثر الفقهاء؟ وذلك ثابتٌ منذ شُرِعَتِ الصلوات في وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق جمهور العلماء وأهل اللغة على أن الشفق هو الحمرة، حتى قال الزمخشري في " الكشَّاف " (¬2): إن أبا حنيفة رجع إلى ذلك، لأنه المخالف في ذلك. قلت: يمكن (¬3) أنه كان شيئاً يسيراً، وأنه كان في وقت قتل الحُسين عليه السلام حُمرةٌ عظيمةٌ متفاحشةٌ كما تقدم ذلك عن أم حكيم من رواية الطبراني ¬
بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ، وأنه بقي ذلك مدة كثيرة (¬1) إلى وقت كلام (¬2) محمد بن سيرين المتكلم بهذا، وهو من التابعين وعلمائهم وثقاتهم، ثم تناقص عن تلك الكثرة، كما تناقصُ الآيات المختصة بمقتله عليه السلام. وقد اشتهرت قصة الحمرة بعد قتله عليه أفضل السلام حتَّى ذكرها المعرِّيُّ في شعره على بُعده من الأفراد المشهورات من الشرائع، فقال: وعلى الدَّهرِ مِنْ دماء الشهيديـ ... ـنِ عليٍّ ونجله شاهدانِ فهما في أواخر الليلِ فجرانِ ... وفي أُولياتهِ شَفَقَانِ (¬3) فكيف وقد اعتقدت هذه الشهرةُ بإسناد على شرط مسلم من طريق المحدثين! قال الهيثمي: وعن سفيان، قال: حدثتني جدتي أُمُّ أبي، قالت: شهدَ رجلان من الجعفيين اللذين تولّيا (¬4) قتل الحسين، فأما أحدهما، فطال ذكره حتى كان يلُفُّه، وأما الآخرُ، فكان يستقبل الراوية بفيه، حتى يأتي على آخرها، قال سفيان: رأيت ولد أحدهما كأن به خبلاً، أو كأنه مجنون. رواه الطبراني ¬
ورجاله ثقات إلى جده سفيان (¬1). وبسنده (¬2) إليها، قالت: رأيت الوَرْسَ الذي أُخِذَ من عسكر الحُسين، صار مثل الرماد. وروى الطبراني عن حُميدٍ الطَّحَّان، كنت في خُزاعَة، فجاؤوا بشيءٍ من تركة الحسين، فقيل لهم: نَنْحَرُ أو نبيع فنقسم؟ قال: انحروا، فجلس على جفنةٍ، فلما وُضِعَتْ، فارت ناراً (¬3). وعن الأعمش قال: خَرِيَ رجلٌ على قبر الحسين، فأصاب أهل ذلك البيت خَبَلٌ وجنون وجذامٌ وبرصٌ وفقرٌ. رواه الطبراني (¬4) ورجاله رجال الصحيح. وعن الحسن البصري قال: قُتِلَ مع الحسين ستةَ عشر رجلاً من أهل بيته، والله ما على ظهر الأرض يومئذٍ أهل بيتٍ يشبهونهم. قال سفيان: ومن يشُكُّ في هذا؟! أخرجه الهيثمي، وسقط ذِكْرُ مُخَرِّجِه من أهل المسانيد (¬5). وروى الطبراني من حديث محمد بن الحَسَن بن زبالة المخزوميِّ أحدِ رجال أبي داود أنه لما أُدْخِلَ ثقل الحسين على يزيد لعنه الله أنشد عبد الرحمن ابن أمِّ حكيمٍ. لَهَامٌ بجنب الطفِّ أدنى قَرَابَةً ... من ابن زياد العَبْدِ ذي النسب الوَغْلِ ¬
سميَّة أمسى نَسْلُها عَدَدَ الحصى ... وبِنْتُ رسولِ اللهِ ليسَ لها نسلُ (¬1) وعن أبي قبيلٍ، قال: لما قُتِلَ الحسين، احتزوا رأسه، وقعدوا في أول مرحلةٍ يشربون النبيذ يتحيَّون بالرأس، فخرج إليهم قلمٌ من حديدٍ من حائط، فكتب بسطر دمٍ: أترجو أُمةٌ قتلت حُسيناً ... شفاعة جَدِّهِ يومَ الحسابِ فهربوا وتركوا الرأس. رواه الطبراني (¬2). وعن إمامٍ لبني سليم (¬3)، عن أشياخٍ له، قال: غزونا الروم، فنزلوا في كنيسةٍ من كنائسهم، فقرؤوا في حجرٍ مكتوب: أترجو أمةٌ قتلتْ حسيناً ... شفاعةَ جَدِّهِ يومَ الحسابِ فسألناهم: منذ كم بُنِيَتْ هذه الكنيسة؟ قالوا: قبل أن يُبعث نبيكم بثلاث مئة سنة. رواه الطبراني (¬4). وعن أم سلمة، قالت: سُمِعَتْ الجِنُّ تنوح على الحسين. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (¬5). ¬
وعن ميمونة مثله. ورواه الطبراني برجال الصحيح (¬1). وعن أمِّ سلمة مثله بزيادة ذكر نَوْحِهِم، وذكر منه: ألا يا عينُ فاحتفلي بجُهد ... ومن يبكي على الشهداء بعدي على رهطٍ تقُودُهُمُ المنايا ... إلى مُتَجَبِّرٍ في مُلكِ عَبْدِ رواه الطبراني من طريق عمرو بن ثابتٍ بن هرمز (¬2). وعن أبي جناب (¬3) قال: حدثني الجَصَّاصُون، قالوا: كنا (¬4) إذا خرجنا إلى الجبال (¬5) بالليل عند مقتل الحسين عليه السلام؛ سمعنا الجن ينوحون عليه، ويقولون: مَسَحَ الرسولُ جبينهُ ... فَلَهُ بريقٌ في الخدودِ أبواه من عُليا قريشٍ ... وجُدودُه (¬6) خيرُ الجدودِ رواه الطبراني (¬7). وعن أحمد بن محمد (¬8) بن حُمَيدٍ الجهمي -من ولد أبي جهم بن حذيفة- أنه كان يُنْشِدُ في قتل الحسين، وقال: هذا الشعر لزينب بنت عقيل بن أبي طالب: ¬
ماذا تقولون إن (¬1) قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ بعترتي (¬2) وبأنصاري وذريتي ... منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجُوا بدمِ ما كان هذا (¬3) جزائي إذ نصحتُ لكم ... أن تَخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ قال أبو الأسود الدُّؤلي: نقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الأعراف: 23]. رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما انقطاع، وفي الآخر وهو أجود من المنقطع. فقال أبو الأسود الدؤلي: أقول وزادني حَنَقَاً (¬4) وغَيْظَاً ... أزال اللهُ ملكَ بني زيادِ وأَبْعَدَهُم كما بَعِدُوا (¬5) وخَانُوا ... كما بَعِدَتْ ثمودُ وقومُ عادِ ولا رجعتْ رِكابُهُم إليهم ... إذا قَفَّتْ إلى يوم التَّنادِ (¬6) وعن سليمان بن الهيثم، قال: كان علي بن الحسين يطوف بالبيت، فإذا أراد أن يستلم الحجر، أوسع له الناس، والفرزدق بن غالبٍ ينظرُ إليه، فقال رجل: يا أبا فراس، من هذا؟ فقال الفرزدق: ¬
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ ... والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ الأبيات إلى قوله: أيُّ العشائر (¬1) ليست في رقابهمُ ... لأوَّلِيَّةِ هذا، أولَه نِعَمُ رواه الطبراني (¬2). انتهى ما أردت نقله من كتاب الإمام الهيثمي المحدِّث الشافعي، وهو المتكلم على الأسانيد، وكل ما لم أذكر فيه توثيقاً ولا تصحيحاً منها، فهو مما قال فيه المصنف: فيه من لم أعرفه، وذلك هو النادر، وهذا المنقول قليلٌ من كثيرٍ، لأنه اقتصر على نقل ما اتصل إسناده، وهو شرط أهل المسانيد، ولم يذكر ما لم يذكروه، وهم لا يتعرَّضون لذكر المراسيل والمقاطيع، وإنما ذكر الطبراني فيما تقدم مقطوعاً واحداً، لأن له سنداً آخر متصلاً، فهو شاهدٌ للمتصل. وفي كتاب ابن عبد البر " الاستيعاب " (¬3) و" النُّبلاء " (¬4) للذهبي وسائر من صنف المناقب من أهل السنة من مناقب الإمام الحسين بن عليٍّ عليهما أفضلُ السلام الكثير الطيب، وانظر كتاب " ذخائر العُقبى في مناقب ذوي القُربى " (¬5) من تواليف أئمة الحديث من الشافعية، وللذهبي كتابٌ مفردٌ، سمَّاه " فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب ". وابن جرير من أئمة الحديث هو الذي ¬
صنَّف " جزءاً " في طرق حديث: " من كُنْتُ مولاه، فعليٌّ مولاه " (¬1)، وصنف الذهبي جزءاً في طرقه وحكم بتواتره. وقد اشتمل " مسند " الإمام أحمد بن حنبل مِن مناقب العِتْرَة على ما لا يرويه ناصبيٌّ، ونقل الأئمة والشيعة منه، واحتجوا بنقله، وهو إمام المحدثين في الاعتقاد والانتقاد. والقصد الاستدلال على خطأ من يفتري على أهل الحديث بُغْضَ أهل البيت، وقد عُلِمَ منهم التَّبري من ذلك بالضرورة. وقد أكثرت من النقل في ذلك (¬2) على جهة الاستدلال، وهو يحتاج إلى اعتذار، لأنه استدلالٌ على أمرٍ ضروري: وليس يصح في الأذهان شيءٌ ... متى احتاج النَّهارُ إلى دليل (¬3) والعذر في ذلك جَحْدُ ذلك مِمَّن جَهِلَ أو تجاهل، فالله المستعان. بل تصريح الخصم بأنهم يقولون ببغي الحسين عليه السلام وتصويب قَتَلَتِه، هكذا قال، ولم يستحي من الله، وهذه تواليفهم المعلومة تكفي في تكذيب من يقول ذلك منهم (¬4) كما تقدم، ومن بَقِي له أدنى تقوى وَزَعَهُ من ذلك ما جاء في الحديث المتفق على صحته من رُجُوع ما رُمِيَ به البريء على من يرميه من كُفْرٍ وغيره (¬5)، وإنما يُجزىءُ من يَنْسِبُ هذا إليهم بغير بصيرةٍ أنه قد ¬
الخلاف في جواز الاستغفار لبعض العصاة والترحم والترضية
يقع خلافٌ بين بعض السنة وبعض الشيعة والمعتزلة في وجهين آخرين: الوجه الأول: جواز الاستغفار لبعض العصاة والتَّرَحُّم والترضية، وذلك مختلفٌ فيه، والمشهور في كتب أهل السنة جوازه لمن ليس بكافرٍ ولا مُنافقٍ، ولا يدلُّ دينه على شيءٍ من ذلك، ولا يستلزمه بناء على مذهبهم في الشفاعة والرجاء عموماً، وفي الصحابة خصوصاً. فقد روى الهيثمي في " الفتن " (¬1)، عن طارق بن أُشَيْمٍ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " بحسب أصحابي القتل ". رواه أحمد، والطبراني بأسانيد، والبزار (¬2)، ورجال أحمد رجال الصحيح (¬3). وعن سعيد بن زيدٍ مرفوعاً مثله، رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها (¬4) ثقات، ورواه البزار كذلك (¬5). وعن أُمِّ حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ ما تَلْقَى أمتي بعدي، وسفك بعضها [دماء بعض] (¬6)، وسبق ذلك من الله كما سبق في الأمم (¬7) قبلهم، فسألت الله ¬
أن يُوَلِّيِنيَ شفاعة (¬1) يوم القيامة فيهم، ففعل". رواه أحمد والطبراني في " الأوسط " ورجالهم رجالُ الصحيح إلاَّ أن رواية أحمد عن ابن أبي حسين أنبأ أنس، عن أم حبيبة، ورواية الطبراني عن الزهري عن أنس (¬2). وعن عبد الله بن يزيد (¬3) الخطميِّ، قال - صلى الله عليه وسلم -: " عذابُ أمتي في دنياها " رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " ورجاله ثقاتٌ (¬4). قلت: وشواهد كثيرة جداً متفرقة. ومنها في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: ¬
123] (¬1). قال ابن عبد البر: رُوي عن أبي بكرٍ من وجوهٍ شتى أنه في حق المسلمين مصائب الدنيا. ومنها في تفسير: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 8] (¬2). ومنها: في فضل المصائب والآلام أحاديثٌ كثيرةٌ شهيرةٌ متفقٌ على صحة كثير منها بهذا المعنى، لكنه يخرج منه (¬3) من أظهر الشهادتين لمصلحة دنياه (¬4)، وليس من الإسلام في شيء، لما ورد في الصحاح كلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرقٍ صحيحة متعددة متكاثرة أو متواترة أنه يُختلجُ دونه إلى النار يوم القيامة قومٌ من أصحابه يعرفهم، ويقول: "أصحابي! فيقال له: إنك لا ¬
تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي" (¬1) وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة شهيرة صحيحة بألفاظٍ متنوعة، وقد تقصَّاها أهل الصِّحاح، وابن عبد البر في أول " الاستيعاب " (¬2) وإيرادُهم لها دليل صدقهم في الحديث، وتحرِّيهم لنقل الصحيح، وهذا عارضٌ لبيان خصوص هذه البشرى بالمخلصين في الإيمان، المقرين بذنوبهم، الذين تسُرُّهُم حسناتهم، وتسوؤهم سيئاتهم، ويحبون الصالحين، وإن لم يكونوا منهم. ولنعد إلى تمام الشواهد على ذلك مع ما تقدم. قال الهيثمي بعد حديث عبد الله بن يزيد الخَطمي مرفوعاً: " عذاب أمتي في دنياها ": وعن أبي هريرة مرفوعاً نحو رواية الطبراني في " الأوسط " فيه سعيد بن مسلمة الأُموي (¬3). ¬
وعن معقل بن يسار مرفوعاً: " عقوبة هذه الأمة بالسيف، وموعدهم الساعة، والساعة أدهى وأمر " رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن عيسى الخزّاز (¬1). وعن أبي بُرْدَةَ عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه - صلى الله عليه وسلم -: " عقوبة هذه الأُمة بالسيف ". رواه الطبراني في " الكبير "، ورجاله رجال الصحيح (¬2). فمن استغفر له لعاصٍ منهم، فهو محمول إن شاء الله على نحو مقصد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وحيث استغفر لأبيه في حياته حتى تبين له أنه عدو لله، وجادل في قوم لوطٍ، ولم يكن ذلك رضا منه بكفر أبيه، ولا مُوالاة له (¬3) على شِركِه. وكذلك قول عيسى عليه السلام: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [المائدة: 118]. وكذلك رد السلام على اليهودي إذا ابتدأ به، بل هذا من قبيل استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأكبر أعداء الله، وأعدائه - صلى الله عليه وسلم - كبير المنافقين عبد الله بن أُبي بن (¬4) سلولٍ، وصلاته عليه ميتاً (¬5) قبل أن ينصَّ عليه تحريم ذلك، وليس في ذلك رضاً عنه، ولا رضاً بفعله، فمن أقر بقبح ذنب المذنب، وتبرأ من الرضا به، كان خلافه في جواز الاستغفار سهلاً، ولذلك (¬6) ذهب زيد بن علي عليهما السلام إلى الصلاة على الفاسق، رواه عنه القاضي شرف الدين حسن بن محمدٍ ¬
النحوي في " تذكرته " وهذا خلاصة مذهب القوم، وهو شبيهٌ بالشفاعة في الآخرة لأهل الذنوب مع كراهتها عند وقوعها ووجوب النهي والحرب على (¬1) بعضها. قال الذهبي (¬2): وروى الخطيب (¬3) عن ابن (¬4) المظفر الحافظ، عن محمد بن جرير، قال: سمعت عباداً يقول: من لم يبرأ في صلاته كل يوم (¬5) من أعداء آل محمد، حشر معهم. قال الذهبي: فقد عادى آل علي آل العباس (¬6)، والطائفتان آل محمدٍ قطعاً، فممن نبرأ؟! (¬7) بل نستغفر للطائفتين، ونبرأ من عدوان المعتدين، كما تبرَّأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مما (¬8) فعل خالد لما أسرع في قتل بني جُذَيْمَة (¬9)، ومع ذلك، ¬
فقال فيه: " خالدٌ سيفٌ سلَّه الله على المشركين " (¬1)، فالتَّبرُّؤ من ذنبٍ سيُغفر، لا يلزم منه البراءة من الشخص. انتهى كلامه. وإنما أوردته ليُعرف مذهبهم وإجماعهم على كراهة فعل المذنب والتَّبرُّؤ منه، وإن لم يتبرَّؤوا من فاعله، محتجِّين بقوله تعالى: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} [الممتحنة: 4]، وبقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] والعدو هنا: الكفار دون عصاة المؤمنين إجماعاً، وفي البُغاة: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] الآية، مع قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} [محمد: 19]. ففي الآيات (¬2) صح الجمع بين الذنوب والإيمان والأمر بالبراءة من (¬3) ذنب المؤمن، وبالاستغفار له، وشواهده كثيرة، ومن أوضحها قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10]. وفي الحديث بيانٌ كثيرٌ (¬4) لهذا، وكفى بأحاديث الشفاعة، وهي متواترة عند أهل العلم بالآثار، والحمد لله. ولا شك أن الرضا بفعل المذنب بمنزلة ارتكاب الذنب. قال الإمام المهدي محمد بن المُطَهّر: الموالاة المجمع على تحريمها: ¬
كراهة أهل السنة للعن والسب على الإطلاق، ولا سيما الموتى، لما ورد من النهي عن سبهم
موالاةُ العاصي لأجل معصيته، ويكون حكم صاحب هذه الموالاة حكم من والاه في الفسق والكفر، وفي مذهب المهدوية من الزيدية وهم أكثرهم (¬1) تشديداً: أنه تجوز محبَّة الفاسق لخَصْلَة خيرٍ فيه، وقد يكون في أهل السنة والشيعة من يحب بعض الفسقة لخصلة خيرٍ فيه، إما صحيحة أو في ظن من أحبه. وقال محمد بن منصورٍ الكوفي الشيعي في كتابه المعروف بكتاب أحمد -يعني أحمد بن عيسى بن زيد عليهما السلام-: إن أحمد بن عيسى عليه السلام قال: فإن جَهِلَ الولاية رجلٌ، فلم يتولَّ أمير المؤمنين عليه السلام، لم تنقطع بذلك عصمته، وإن تبرَّأ وقد عَلِمَ، انقطعت منا عصمته، وكان منّا (¬2) في حدِّ براءة مما دان به، وأنكر من فرض الولاية، لا نراه يخرج بها من حد المناكحة والموارثة وغير ذلك مما تجري به أحكام المسلمين بينهم بعضهم في بعض على مثل من وافقنا في الولاية وإيجابها في المناكحة والموارثة، غير أن هذا الموافق، موافقٌ معتصمٌ بما قد اعتصمنا به من الولاية، ونحن من الآخر في حدِّ براءةٍ من فعله. وقوله: على مثل هذه الجهة، لا على مثل البراءة منا من أهل الشرك (¬3) اليهود والنصارى والمجوس، وهذا وجه البراءة عندنا ممن خالفنا. انتهى بحروفه من آخر المجلد السادس من " الجامع الكافي على مذهب الزيدية ". الوجه الثاني: إن أهل السنة يكرهون اللَّعن والسب على الإطلاق، ولا سيّما للموتى، لما ورد في الحديث من النهي عن سبِّهم (¬4). ¬
وفي الباب عن زيد بن أرقم، رواه أحمد والطبراني بأسانيد، رجال أحدها ثقاتٌ (¬1). وعن صخرٍ مرفوعاً، وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي مريم (¬2)، وهو ضعيف. وعن عبد الله بن عمرو (¬3) يرفعه: " سباب الميت (¬4) كالمشرف على الهلكة " برجال الصحيح (¬5). وقد رأيت مصنفاً مستقلاً لبعضهم في النهي عن اللعن، أورد فيه حديثاً كثيراً في هذا المعنى، ويشهد لذلك قوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين} إلى قوله: {أن تَوَلَّوْهُمْ} الآية [الممتحنة: 9]، لأنه اعتبر المفسدة في الآية (¬6) عند المحاربة، وقد نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ رِعْلٍ وذكوان الذين قتلوا سبعين من خير أصحابه، وقال سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] (¬7) وما أردت بذكر هذا إلاَّ وجهين: ¬
الوجه الأول: بيان التفاوت العظيم بين المخالفين، فكم بين الرَّاضي بالفعل الذي لولاه ما أحبَّ الفاعل، وبين الكاره له الذي لو لم يكن له غيره، ما أحبَّ الفاعل، كما أنه فرقٌ عظيمٌ بين الزاني والمستغفر له، أو المجوِّز للشفاعة له، أو الصَّلاة عليه من أهل العلم والدين. الوجه الثاني: تحسين الظن بالمسلمين من الطائفتين ما استطعت، وإذا كان لأحدٍ من الطائفتين محملٌ قبيحٌ، ومحملٌ أقبح منه، حملته على أقلِّهما قبحاً، إن لم أجد محتملاً حسناً، والله عند لسان كل قائل، وقلبه ونيته. فأمَّا من علمنا منه بُغض علي عليه السلام، فإنَّا نُبْغِضُه لله، وكيف لا نبغضُه وقد صح بغير نزاعٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يبغضك إلاَّ منافق " (¬1). ولكنه ينبغي التنبيه على أمرٍ لطيفٍ وهو أن المحبة مما تزيد وتنقص، وتقِلُّ وتكثر، كالإيمان على الصحيح، فقد صح في أحاديث الشفاعة الصحاح أن يكون لمن في قلبه أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، وإذا كان قليل الإيمان ليس بكفرٍ، فكذلك قليل المحبة ليس ببغضٍ، ومن المعلوم أن حب فاطمة عليها السلام لعلي بن أبي طالب أكثر من حب عائشة رضي الله عنها له، وكذلك حب الحَسَنَيْنِ له عليهم السلام أكثر من حبِّ ابن عمر له، وكذلك حبُّ المؤمنين (¬2) لله ولرسوله في غاية التفاضل. وصحت النصوص في فضائل الإيمان إلى أن عُدَّ فيه ما هو أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، ولم يُحكم للقبيل بالكفر في شيءٍ من ذلك. ولم يعنِّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة حيث لم تُحِبَّ أمير المؤمنين كحبِّ أبيها، ولا كحب فاطمة له، ولا كَرهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك ولا طلقها، ولا يلزمُ من التفضيل عليه البغض له، فإنا نفضِّله على ولديه عليهما السلام، ولا نبغضهما، ¬
وأهل الحديث يُفَضِّلون أبا بكرٍ على عُمَرَ، ولا يُبغضون عمر، وأهل الإسلام يفضلون النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وأهله، ولا يبغضونهم، بل على الأنبياء عليهم السلام. ولكن نعرض من هذا صورة نسبة البغض، وهي شدة المراء في التفضيل والقدح في أدلة المفضلين في الجانبين، ألا ترى أن أحداً من الغلاة لو فضل علياً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجادلناه، وقدحنا فيما يحتج به على ذلك، لكان يظن بنا كراهة علي، وكذا لو فضَّل أحدٌ منا الحسين (¬1) بن علي على أبيه، أو عمر على أبي بكر، فَرُدَّ عليه، لتوهم المردود عليه فيمن رد عليه بأنه يكره المُفَضَّل، وإنما كَرِهَ التفضيل لا المُفَضَّل، فينبغي الاحتراز في ذلك حتى لا يُنْسَبَ إلى بُغض علي من يحبه، فيكون جنايةً عليه، وظلماً له، والله يحب الإنصاف. ¬
الفصل الثاني: من منع الخروج على الظلمة استثنى من ذلك من فحش ظلمه وعظمت المفسدة بولايته
الفصل الثاني في بيان أن من منع الخروج على الظلمة استثنى من ذلك من فَحُشَ ظُلمه، وعَظُمَتِ المفسدة بولايته، مثل يزيد بن معاوية، والحجَّاج بن يُوسُف، وأنه لم يقُل أحدٌ ممن يُعْتَدُّ به بإمامة من هذا حاله، وإن ظن ذلك من لم يبحث من ظواهر بعض إطلاقهم، فقد نصوا على بيان مُرادهم، وخصُّوا عُموم ألفاظهم، ويظهر ذلك بذكر ما أمكن من نصوصهم. فمن ذلك ما نقله لي شيخي النَّفيس العلوي -أدام الله عُلُوَّه- عن إمام مذهب الشافعية الجويني، فإنه قال في كتابه " الغياثي " (¬1)، وقد ذكر أن الإمام لا ينعزل بالفسق ما لفظه: وهذا في نادر الفِسق، فأما إذا تواصل منه العِصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السَّداد، وتعطَّلت الحقوق، وارتفعت الصِّيانة، وَوضُحَتِ الخيانة، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، فإن أمكن كفُّ يَدِهِ، وتولية غيره بالصفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك، لاستظهاره بالشوكة إلاَّ بإراقة الدماء، ومُصادَمَة الأهوال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مندفعون إليه، مُبْتَلُون به (¬2) بما يعرض وقوعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُتَوَقَّع، فيجب احتمال المتوقَّع، وإلا فلا يسُوغُ التشاغل بالدفع، بل يتعين الصبر والابتهال إلى الله تعالى. انتهى بحروفه. ¬
ومما يدلُّ على ذلك أنه لما ادعى أبو عبد الله (¬1) بن مُجاهد الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة، ردوا ذلك عليه وقبَّحوه، وكان ابن حزمٍ -على تعصُّبه لبني أُمَيَّة- ممَّن ردَّ عليه، فكيف بغيره؟ واحتج عليه ابن حزمٍ بخروج الحسين بن علي عليهما السلام على يزيد بن معاوية، وبخروج ابن (¬2) الأشعث ومن معه من كبار التابعين على الحجاج، ذكره في كتاب " الإجماع " (¬3) له، ورواه عنه الرِّيمَيُّ في آخر كتاب " الإجماع " له في الترتيب الذي ألحقه به، فقال ابن حزم ما لفظه: ورأيت لبعض من نَصَبَ (¬4) نفسه للإمامة والكلام في الدين، فُصولاً ذكر فيها الإجماع، فأتى فيها بكلامٍ لو سكت عنه (¬5)، لكان أسلم له في أُخراه (¬6)، بل لعل الخرس كان أسلم له، وهو ابن مجاهد البصري (¬7) المتكلِّم الطائي، لا المقريء، فإنه ذكر فيما ادعى فيه الإجماع: أنهم أجمعوا على أنه لا يُخْرَجُ على أئمة الجَوْرِ، فاستعظمتُ ذلك، ولعمري إنه لعظيمٌ أن يكون قد عَلِمَ أن مخالف الإجماع كافرٌ، فيُلقي هذا إلى الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية السلف يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأن الحسين بن علي ومن تابعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قتلتهم، وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم. أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله من كَفَّرهم، فهو أحق بالكفر منهم، ولعمري لو كان اختلافاً (¬8) ¬
-يخفى-، لعذرناه، ولكنه مشهورٌ يعرفه أكثر من في الأسواق، والمخدرات في خُدورِهِنَّ لاشتهاره، ولكن يحق على المرء أن يَخْطِمَ كلامه ويزُمَّه إلاَّ بعد تحقيق ومَيْزٍ، ويعلم أن الله تعالى بالمرصاد، وأن كلام المرء محسوبٌ مكتوبٌ مسؤولٌ عنه يوم القيامة مُقَلَّداً أجر من اتبعه عليه، أو وزره. انتهى بحروفه. وقرَّره الفقيه جمال الدين الرِّيَمي، ولم يعترضه. فإذا كان هذا كلام من نصوا على أنه يتعصب لبني أمية في يزيد بن معاوية، والخارجين عليه، فكيف بمن لم يُوصَمْ بعصبيةٍ البتة، وليس يمكن أن يزيد الشيعي المحتدُّ على مثل هذا. وممن أنكر على ابن مجاهدٍ دعوى الإجماع في هذه المسألة، القاضي العلامة عياض المالكي، قال: ورد عليه بعضهم هذا بقيام الحسين بن عليٍّ رضي الله عنه، وابن الزبير، وأهل المدينة على بني أمية، وقيام جماعةٍ عظيمةٍ من التابعين، والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث. وتأول هذا القائل قوله: " ألا ننازع الأمر أهله " (¬1) على أئمة العدل. قال عياضٌ: وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غيَّر من الشرع، وأظهر من الكفر. انتهى كلامه. وفيه بيان اتفاقهم على تحسين ما فعله الحُسين عليه السلام وأصحابه وابن الأشعث وأصحابه، وأن الجمهور قصروا جواز الخروج على من كان على مثل تلك الصفة، وأن منهم من جوَّز الخروج على كلِّ ظالمٍ، وتأول الحديث الذي فيه: " وألا ننازع الأمر أهله " على أئمة العدل. وفيه أنهم اتفقوا على الاحتجاج بفعل الحسين عليه السلام، ولكن منهم من احتج على جواز الخروج على الظلمة مطلقاً، ومنهم من قصره على من فَحُشَ ظلمه وغيَّر الشرع، ولم يقل مسلمٌ منهم ولا مِنْ غيرهم: إنَّ يزيد مصيبٌ، ¬
والحسين باغ إلاَّ ما ألقاه الشيطان على السيد، ولا طمَّع الشيطان بمثل هذه الجهالة أحداً قبل السيد. والعجب أن السيد ادعى على ابن بطال أنه نص على ما ادعاه، ثم أورد كلام ابن بطال وهو يشهد بتكذيب السيد، فإن ابن بطال روى عن الفقهاء أنهم اشترطوا (¬1) في طاعة المتغلِّب إقامة الجهاد والجُمُعات والأعياد، وإنصافَ المظلوم غالباً، ومع هذه الشروط، فما قال ابن بطال عن الفقهاء: إن طاعته واجبةٌ، ولا إن الخروج عليه حرامٌ، بل قال عنهم: إنه متى كان كذلك، فطاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما فيها من حقنِ الدماء وتسكين الدهماء. واعلم أني لا أعلم لأحد من المسلمين كلاماً في تحسين قتل الحسين عليه السلام، ومن ادعى ذلك على مسلمٍ، لم يُصَدَّق، ومن صح ذلك عنه، فليس من الإسلام في شيءٍ، وقد ذكر المنصور بالله نزاهة الفقهاء عن هذا في الدعوة العامة كما تقدم، ثم ذكر في بعض أجوبته على وَرْدسان، وقال فيه ما لفظه: وأما فقهاء الجُرُوبِ والمَزَاود، ولُقاطاتِ الموائد، فلا يُعتدُّ بهم، ثم روى أنه حدثه من يَثِقُ (¬2) به عن عبد الرحمن بن محمد الخصك الذي كان بصنعاء أنه قال بنحوٍ مما ذكره السيد، وهذا غير عبيد مما لا يُعرف بدين ولا علم، فقد كان مع يزيد جيوش كثيرة كلهم على رأيه، وكذلك جميع الشياطين على كثرتهم يُحسنون الفجور والكذب، وإنما الكلام في نسبة ذلك إلى فقهاء الإسلامِ وثقات الحُفَّاظ، ونُسِبَ إلى الغزالي كلامٌ مضمونه أنه لم يصح عن يزيد بن معاوية الرضا بقتل الحسين، وهذا يدل على استقباح قتل الحسين، بحيث لم يتجاسر الغزالي على القطع بنسبة الرضا به إلى يزيد. ذكر هذا ابن خلكان في " تاريخه " (¬3) في ترجمة علي بن محمد المعروف بإلكيا الهراسي، ثم ذكر عن الهراسي صاحب الترجمة ما يخالف ذلك، وأثنى عليه حتى نقل تفضيله على ¬
الغزالي، كما هو معروف في التاريخ المذكور. وقد رأيت أن أورد الكلام المنسوب إلى الغزالي، وأنقُضَه على الإنصاف وهل صح عنه أو لم يصح، على أني أنزه الغزالي عن صحة ذلك الكلام لما فيه من الشبه الركيكة، ولما يؤدي إليه من الإلزامات الشنيعة، ولما صح عنه مما يناقضه كما سيأتي، وأنا أُبين من ذلك ما يظهر مع ذلك صحة ما ذكرته. فأقول: قال صاحب الكلام -وقد سئل عن لعن يزيد- ما لفظه: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً، فهو الملعون، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلم ليس بلعَّان " (¬1)، وكيف يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن ذلك (¬2)، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين عليه السلام، ولا أمره ولا ¬
رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه، فلا يجوز أن نظن به ذلك، فإن إساءة الظن أيضاً بالمسلم حرام (¬1)، وقد قال الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله حرَّم من المسلم دمه وماله وعِرْضَه، وأن يُظَنَّ به ظن السوء " (¬2). ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين عليه السلام أو رضي به، فينبغي أن يعلم به غاية حمقه، فإن من قتل من الأكابر والوزراء (¬3) والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله أو من الذي رضي به، ومن الذي كرهه، لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه، وهو يُشاهده، فكيف لو كان في بلدٍ بعيد، وفي زمنٍ بعيد، وقد انقضى؟ فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريبٌ من أربع مئة سنة في مكان بعيد. وقد تطرَّق التعصب في الواقعة، فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب، فهذا أمرٌ لا تعرف حقيقته أصلاً، فإذا لم يعرف، وجب اجتناب (¬4) الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظنِّ به، ومع هذا، فلو ثبث على مسلم أنه قتل مسلماً، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافرٍ، والقتل ليس بكفر، بل هو معصيةٌ، وإذا مات القاتل فربما أنه مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره، لم يجز لعنه، فكيف من تاب عن قتلٍ، ولم يُعرف أن قاتل الحسين عليه السلام مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذاً لا يجوز لعن أحد (¬5) ممن مات (¬6) من ¬
المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه، فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس [طول عمره، لا يقال له يوم القيامة: لِمَ لم تلعن إبليس؟] (¬1) ويقال للاعن: لِمَ لعنت؟ ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون؟ والملعون: هو المبعدُ من الله عز وجل، وذلك غيبٌ لا يُعرف إلاَّ فيمن مات كافراً، فإن ذلك عُلِمَ بالشرع، وأما التَّرحم عليه، فهو جائزٌ، بل مستحبٌّ، بل هو داخل في قولنا في (¬2) كل صلاةٍ: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمناً، والله أعلم. انتهى كلامه. وقد يتعلق بهذا ثلاث طوائف: النواصب، والروافض، ومن يقول بتحريم لعن المعين، وإن كان كافراً محارباً مشركاً أو ذمياً يهودياً أو نصرانياً، إلاَّ من علمنا أنه مات كافراً، فليردّ على كل طائفةٍ: أما النواصب، فربما فرحوا به، أو توهَّموا أن قائله منهم، فتكثروا بالإمام أبي حامد الغزالي، وليس في كلام الرجل شيءٌ من النصب أبداً، وقد اشتهر عنه أن الله تعالى غَضِبَ على أهل الأرض لقتل الحسين عليه السلام، رواه عنه الثقات، كابن حجر في كتابه " التلخيص " وابن النحوي في كتابه " البدر المنير " بل أودعه الغزالي كتابه الشهير بـ " كشف علوم الآخرة " وسيأتي ذكر ذلك قريباً. على أن الغزالي قد صرح في خطبة " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى " (¬3) أنه كان غير متمكن من التصريح خوفاً وتقيَّةً، ومن كلامه في ذلك في هذا الكتاب المذكور: إن الإفصاح عن كُنه الحق يكاد يُخالف ما سبق إليه الجماهير، وفِطام الخلق عن العادات ومألوفات المذاهب عسيرٌ، وجانب (¬4) الحق يُجَلُّ عن أن يكون مُشرَعاً لكل واردٍ، وأن يطلع (¬5) عليه إلاَّ واحدٌ بعد ¬
واحدٍ، مهما عَظُمَ المطلوب، قلّ المساعد، ومن خالط الخلق جديرٌ أن يتحامى، ولكن من أبصر الحق عسيرٌ عليه أن يتعامى. انتهى. فلو صح عنه ذلك الكلام، لعرفنا بقرينة الحال، ووساطة هذا الكلام، أن حاله ما كان مساعداً له على الجهر بالحق، كيف وقد رجَّح ذلك تصريحه به في " كشف علوم الآخرة " وغيره، وقد قال في كتاب " إحياء علوم الدين " (¬1) في أوائله في أواخر العقيدة: إن ما جرى بين الصحابة محمولٌ على الاجتهاد، وكل مجتهدٍ من عليٍّ ومعاوية مصيبٌ أو مخطىءٌ، ولم يقل بأن علياً مخطىءٌ ذو تحصيلٍ. انتهى بحروفه. وفيه إشارةٌ إلى ما صرح به غيره من إجماع الأئمة الأربعة، وسائر أهل السنة على أن معاوية باغٍ على عليٍّ عليه السلام، لتواتر الحديث في ذلك، كما قد ذكرته مبسوطاً في غير هذا الموضع، ولكنه كان منافياً ألا تراه ذكر في " الإحياء " (¬2) في العقيدة أن الله يكلِّف ما لا يطاق، واتفق النقلة عنه أن مذهبه إنكار ذلك، نقله السبكي في " جمع الجوامع " وابن الحاجب وشرَّاح كتابه (¬3) مختصر " منتهى السول " وإنما تكلم الغزالي في تحريم لعن كل فاسقٍ وكافرٍ على التعيين، إلاَّ من عُلِمَ أنه مات على الكفر، كما روى عنه (¬4) النووي ذلك في " الأذكار " (¬5)، وهذا لا يستلزم النصب. وأما الروافض، فيقولون: هذا يدل على أن أهل الحديث والأشعرية يُصَوِّبُون يزيد بن معاوية في قتل الحسين عليه السلام، ويحكمون بصحة إمامته، وببغي الحسين وأصحابه عليه. والجواب على هؤلاء من وجهين: ¬
الوجه الأول: أن كلامه يدلُّ على نقيض هذا، فإنه صرَّح فيه بأن من ظن في يزيد أنه أمر بقتل الحُسين، أو رضي به، فقد فعل ما لا يحل من ظن السوء، ومن القطع في موضع الشك، وذكر بعد هذا أنه يجوز أن قاتل الحسين مات بعد التوبة، وكل هذا يقتضي تحريم قتل الحسين عنده، ولو كان -حاشاه- باغياً، ويزيد إماماً، لكان قتله -صانه الله- واجباً فدل هذا على أنه لا حجة في هذا الكلام لمن ينسب إلى أهل الحديث والأشعرية إمامة يزيد وتصويبه في قتل الحسين عليه السلام، فإن الرجل إنما تكلم في عدم صحة أمر يزيد ورضاه بذلك، وقد تكررت منه الترضية على الحسين عليه السلام في كلامه، ولم يترحم على يزيد مرة واحدة في جميع كلامه، وهذا يدل على تعظيم الحسين وتمييزه له من غيره. الوجه الثاني: أنا لو قدرنا صحة شيءٍ من ذلك على الغزالي، والعياذُ بالله، لم يلزم أهل الحديث والأشعرية. الوجه الثالث: أنه قد روي عن الغزالي مذهب الروافض، ذكر الغزالي ما يقتضي ذلك في كتابه " سر العالمين وكشف ما في الدارين "، وحكاه عنه الذهبي في ترجمته من " النبلاء " (¬1) قال: ذكره سبطُ ابن الجوزي، وقال: ما أدري ما عذره فيه. فكما لم يلزم صحة ذلك الكلام على الغزالي والقطع على أنه معتقده، ولم يلزم أيضاً نسبة ذلك إلى أهل الحديث والأشعرية، سواء صح أو لم يصح. الوجه الرابع: ما ذكره الغزالي في كتاب " كشف علوم الآخرة " من أن الله تعالى غضب على أهل الأرض لقتل الحسين عليه السلام، وقد مضى قريباً صحة ذلك عنه. وأما الطائفة الثالثة، وهم الذين يقولون بتحريم لعن (¬2) المعين وإن كفر، وارتكاب الكبائر، ولهم حجتان: ¬
الأولى: من النظر، وهي أنا إذا جوَّزنا التوبة من أحدٍ لم تحل لعنته (¬1)، وهذا ممنوع، بل تجوز لعنته كما تجوز عقوبته على الكفر بالقتل، وبالحد، وبالجرح في الشهادة والذم حتى تصح توبته، والتجويز لا يؤثر في منع الظواهر. الحجة الثانية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت بلعن رعلٍ وذكوان وعُصَيَّة قَتَلَةِ القُرَّاء في بئر معونة، فنهي عن ذلك، ونزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (¬2). والجواب: أن النهي (¬3) عن ذلك مختصٌّ بحال الصلاة، والنصوص تمنع من (¬4) القياس كما سيأتي بيانه. ثم نقول: لا يخلو: إما أن يعتقدوا تحريم ذلك ظناً واجتهاداً مع تصويب من خالفهم، أو رفع الإثم عنه، فمسلم ولا يضر تسليمه، وهذا هو الذي لا يذهب المحقِّقون من أهل الحديث والأشعرية إلى غيره إن ذهب أحدٌ منهم إلى ذلك والله أعلم. وإما أن يعتقدوا تحريم ذلك، ويفسقوا (¬5) من خالف فيه، فهذا قول لا ينبغي أن يذهب إليه عالمٌ، وهو الذي ذهب إليه صاحب هذا الكلام الذي أورده ابن خلكان، وسوف يظهر من ضعفه ما يقوِّي نزاهة أبي حامد الغزالي، ونزاهة ساحته منه إن شاء الله تعالى وأما قوله: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعنه فهو الملعون، فالجواب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن المتكلم بدأ في كلامه بلعن نفسه، ولعن خيار المسلمين. أما لعنه لنفسه، فلأنه لعن من لعن مسلماً، وحكم بأنه ملعون، وقد قرر ¬
اختلاف الناس في تفسير المسلم والمؤمن والاسلام والإيمان
في كلامه أن قتل المسلم ليس بكفرٍ فكيف لعنه؟ فثبت بهذا أن لاعن المسلم مسلمٌ، وأن صاحب الكلام قد لعنه، وقد حكم على نفسه أن من لعن مسلماً، فهو ملعون، فثبت بحكمه هذا أنه ملعونٌ، لأنه قد لعن مسلماً، وذلك المسلم الذي لعنه هو لاعن يزيد أو غيره من الظلمة. وأما لعنه لخيار المسلمين، فلأن خيار المسلمين هم أهل القرآن وحملة العلم، وهم يلعنون من لعنه الله في آية القتل ونحوها، ومن لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح كما سيأتي، والإمام أبو حامد الغزالي أجلُّ مِنْ أن يفتتح فتواه بنحو ذلك. الوجه الثاني: أنه بنى كلامه على مسألة باطلة عند أهل السنة، وهي أن من أقر بالإسلام بلسانه، ولم يقم بفرائضه، وتجنب (¬1) محارمه، فهو مسلم مؤمنٌ، على الأطلاق، وهذا قول المرجئة، وأما قول (¬2) أهل السنة، فالإسلامُ والإيمان عندهم معرفةٌ وقولٌ وعملٌ، ويدخلهما الزيادة والنقصان، وقد اختلف الناس قديماً وحديثاً في تفسير المسلم والمؤمن، والإسلام والإيمان، والكلام في اشتقاق ذلك، وقد تكلم غير واحد من أهل السنة في ذلك، منهم القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتاب " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي "، وذكر اضطراب الناس في ذلك، واختار أن المسلم من أسلم نفسه من عذاب الله، والمؤمن من أمن نفسه من ذلك، أو كما قال، وإنما اختلف العلماء في المسألة، لتعارض الآثار في ذلك، ففي بعضها اعتبار الشهادتين فقط، وفي بعضها اعتبارهما مع الصلاة والصوم والحج، وفي بعضها اعتبار ذلك مع أداءِ المقيم، وفي بعضها: " المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه " (¬3) وفي بعضها: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها ¬
وهو مؤمن" (¬1)، وفي بعضها: " والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم " (¬2) وكلها صحيحة. وكذلك الآيات القرآنية اختلف المفهوم منها في ذلك، ففي بعضها ما يدل على أن المسلم مؤمنٌ، مثل قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، وفي بعضها ما يدل على أن المؤمن غير المسلم (¬3)، مثل قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]، ومثل ما رواه الترمذي وضعَّف سنده من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص " (¬4). وقد جمع أهل السنة من الآيات والأحاديث بأن الإيمان والإسلام يزيدان وينقصان، وأن اختلاف الآيات ورد على حسب ذلك، فحيث قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} أراد الإسلام الكامل، حيث قال: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} أراد أقل الإسلام، وهو ما يحقن الدماء من إظهار الإسلام وإقامة أركانه التي يُقاتل على تركها، وكذلك سائر الأحاديث على ما هو مبسوطٌ في شروح الحديث. قال ابن بطال في شرح البخاري ما لفظه: وكذلك لو أقر بالله ورسوله، ولم يعمل الفرائض، لا يُسمى مؤمناً بالإطلاق، ¬
وإن كان في كلام العرب قد يجوز أن يُسمى مؤمناً بالتصديق، فغير مستحق لذلك (¬1) في حكم الله تعالى، لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. أخبر الله تعالى أن المؤمنين على الحقيقة من كانت هذه صفته دون من قال، ولم يعمل، وضيَّع ما أُمِرَ به وفرّط. انتهى. وفيه دلالة على ما ذكرته من أن أهل الكبائر لا يُسَمَّوْنَ عند أهل السنة مسلمين ومؤمنين علي الإطلاق، وإنما يقال: إنهم مسلمون أقل الإسلام، ومسلمون عصاةٌ فساقٌ ظلمةٌ، بل قد أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كثيرٍ منهم الكفر والمروق من الإسلام، كما جاء في حديث: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " (¬2) وحديث: " سِبابُ المسلم فُسوقٌ، وقتاله كفرٌ " (¬3) وأحاديث مروق الخوارج من الإسلام، وكلها في الصحيح (¬4)، وهذه ألفاظٌ قد (¬5) أطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينبغي أن نطلقها كما أطلقها، ونريد ما أراد على الإجمال من كفرٍ مخصوصٍ، أو مطلقٍ أو مجازٍ أو حقيقةٍ شرعيةٍ أو لغويةٍ، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بإطلاقها زجر أهل هذه المعاصي بإطلاق أقبح الصفات المذمومة عليهم، والحكمة في ذلك باقيةٌ، فكيف نخالف الحكمة (¬6) النبوية في زجر الناس عن المعاصي بإطلاق الأسماء المذمومة عليهم، ونصف أفجرهم -وهو يزيد الذي تأوَّه منه رسول الله ¬
كلام في جواز لعن مرتكب المعاصي
- صلى الله عليه وسلم - وسمَّاه عِتْرِيفاً (¬1) مُتْرَفَاً، وأخبر أنه يَثْلُمُ أمر الأمة- بأحسن الأوصاف ونُسمِّيه بأكرم الأسماء، وهو الإسلام والإيمان، ويترك ذمه بجميع ما يستحقه أو بعضه مِنَ الوصف بالعصيان والفسوق والكفران والمروق كما وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك من فعل بعض ما فعل من الخوارج، مع اختصاصهم دون يزيد بالعبادة والتلاوة والتأويل والصيانة؟! وهل هذا إلاَّ خلاف الحكمة النبوية، وخلاف الأدب مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإن كان الصحيح أن " الإيمان سريرةٌ، والإسلام علانيةٌ " كما رواه أحمد (¬2) مرفوعاً بهذا اللفظ ودل عليه كثيرٌ من الآيات والأخبار، كما ذكر في هذا الكتاب مبسوطاً في موضعه. الوجه الثالث: أنه قد ورد السمع قرآناً وسنةً بلعن مرتكبي معاصٍ كثيرةٍ لا يكفر مرتكبها (¬3)، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وفي الآية أحكامٌ كثيرةٌ، مثل تحريم قتل المؤمن، واستحقاق فاعل ذلك للعقاب والغضب واللعنة، واستحقاق الخلود، ولم يتأول أهل الحديث (¬4) شيئاً منها إلا الخلود لموجبات (¬5) ذلك، وقيل: منسوخ، وقيل: مخصوصٌ بالقاتل الكافر. ومن ذلك ما ورد في جميع دواوين الإسلام من لعن أهل المعاصي، فقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من آوى محدثاً، ومن غير منار الأرض، ومن ¬
لعن والديه، ومن ذبح لغير الله (¬1)، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون (¬2)، ولعن آكل الربا وموكله (¬3)، ولعن الواشمة والموشومة، والنامصة والمتنمصة (¬4)، وغير ذلك، وهذه أحاديث صحيحة، وأهل هذه المعاصي لا يكفرون إجماعاًً. الوجه الرابع: أن هذه الفتوى بأن لاعن الفاسق ملعون مخالفة لفتوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا لعن العبد شيئاً، صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، فتأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان كذلك، وإلا رجعت إلى قائلها " رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء من رواية رباح بن الوليد على الصحيح، وكذلك رواه الطبراني، وقيل: الوليد بن رباح عن عمه عمران بن عتبة عن أم الدرداء، عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬5) ¬
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بأنها لا ترجِعُ إلى قائلها حتى يكون الملعون بها غير أهلٍ لها (¬1)، وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لعن الواشمة والنامصة، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون، ونحوهم من هذه المعاصي المستصغرة بالنظر إلى ما قدمنا ذكر طرق منه من أفعال يزيد، فكيف يقطع أنه (¬2) لا يستحق اللعنة؟ فإن قيل: إنما أراد صاحب الكلام أنه لا يجوز لعن أحدٍ بعينه من العصاة، وإن جاز لعنه على الإطلاق من غير تعيين. قلت: هذا لا يصح لوجوهٍ: الوجه الأول: إن المسألة ظنية خلافية، لا يستحق المخالف فيها (¬3) التأثيم ولا الإنكار، فضلاً عن التفسيق واللعن، وقد ذكر الإمام النووي في " الأذكار " (¬4) أن الظاهر جواز ذلك، وقد صدر ذلك عن غير واحدٍ من السلف الصالح، ولو لم يصح فيه إلاَّ ما خرجه البخاري ومسلم (¬5) عن ابن عمر أنه مرَّ بفتيان مِنْ قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، فقال: لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً، فهذا الصاحب الجليل لعن جماعةًَ معيَّنين من فتيان قريشٍ، أيكون عبد الله بن عمر ملعوناً؟! حاشاه - رضي الله عنه - من ذلك. ومن ذلك ما رواه البيهقي في " سننه الكبرى " في جماع أبواب الكلام في الصلاة في أول بابٍ منه، من حديث عبد الرحمن بن معقل أنه قال: ¬
شهدت علياً يقنتُ بعد الركوع، ويدعو في قنوته على خمسةٍ، وسمَّاهم، ولم يسمهم البيهقي. وروى محمد بن جرير الطبري مثل ذلك في " تاريخه " وزاد تسميتهم (¬1)، ومن ذلك ما روى شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين لعَنَتْ أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل، عزُّوه وذلُّوه لعنهم الله. رواه الطبراني والهيثمي في " مجمع الزوائد " وقال: رجاله موثوقون (¬2). الوجة الثاني: ما اتفق البخاري ومسلمٌ على إخراجه من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اللهم إني بشرٌ آسف كما يأسف البشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته فاجعلها له (¬3) صلاة " (¬4) وهذا لا يصح أن يكون إلا على جهة التعيين، لأن سياق الحديث يقتضي ذلك، ولأن الجلد مذكور في الحديث، وتعليق الجلد بغير معين محالٌ. فإن قيل: إنما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعلم به الله أنه يموت كافراً (¬5). كما قال الغزالي. قلت: هذا لا يصح، لأنه لو كان كذلك، لما دعا لمن لعنه أن يجعل الله اللعنة له صلاةً وزكاةً وطهوراً، ومن علم أنه يموت كافراً، لا معنى للدعاء له بذلك، وأيضاً فذلك الذي قاله خلاف الظاهر، وتأويلٌ بغير دليلٍ، ولو جاز مثل ذلك، جاز تأويل كل ظاهرٍ، وتخصيص كل عامٍّ، وأدى ذلك إلى التَّلعُّب بالشريعة المطهرة، فالواجب (¬6) على العالم ترك مذهبه ليوافق الحديث، لا ¬
تأويل الحديث ليوافق مذهبه، وإنما يجوز التأويل عند الضرورة على ما هو مفصَّلٌ في مواضعه. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة رضي الله عنها: " فأيُّما أحدٍ دعوتُ عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ (¬1)، فليس ذلك يدلُّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلعن من ليس لذلك بأهلٍ، لأن ظاهر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - الإباحة، وحديث عائشة هذا ليس فيه ذكر اللعن، وإنما ورد على سببٍ مخصُوصٍ، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتيمة أُم سلمة: " لا كبِرَتْ سِنُّك " (¬2) وظاهر هذا الدعاء الإباحة وإن لم تكن اليتيمة أهلاً له، فليس ذلك دالاًّ على تحريمه، وليس يجوز القول بأن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرَّمٌ إلاَّ بدليلٍ واضحٍ (¬3)، و (¬4) على أن الصحيح أيضاً عند كثيرٍ من العلماء أنه لا يجوز تعمُّد الصغائر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الوجه الثالث: ما روى مسلمٌ في " صحيحه " (¬5) عن جابرٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى حماراً قد وُسِمَ في وجهه، فقال: " لعن الله الذي وسمه " وهذا نص في موضع النزاع وفيه ما يرُدُّ على قول الغزالي المقدم في الوجه قبله، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علق اللعن بوسم الوجه، فدل على أنه العلة في جواز اللعن، كما إذا قال: من أحدث فليتوضأ، فإنه يعلم أن الحدث هو علَّةُ الوضوء، وذلك معروفٌ في فن (¬6) الأصول. ¬
الوجه الرابع: أن اللِّعان بين الزوجين المسلمين جائزٌ بنص القرآن، وإجماع المسلمين، وهو معلومٌ من الدين ضرورة، بحيث يكفر جاحده، وهو مشتمل على لعن كل واحد منهما لنفسه إن كان من الكاذبين، فلو كان لعنُ المسلم الفاسق حراماً، لم يحل للمسلم الفاسق أن يلعن نفسه، لأن حق نفسه أعظم من حق أخيه المسلم عليه أو مثله (¬1). الوجه الخامس: حديث: " شر أئمتكم الذين يلعنونكم وتلعنونهم " خرجه مسلمٌ عن أبي هريرة (¬2) والترمذي عن عمر (¬3)، فأخبرهم أنهم يلعنون أئمتهم، فساقها لهم بذلك ولم يبيِّن تحريمه، فدلَّ على الجواز، بخلاف خبره - صلى الله عليه وسلم - في نحو قطع يد السارق في بيضةٍ، فإنه خبرٌ على القطع وهو غائب، فلا يدلُّ على الجواز. الوجه السادس: حديث عائشة الصحيح (¬4)، وفيه أنها قالت لليهود: عليكم السام واللعنة، وإنما نهاها عن الفحش لما بدأتهم بالمشافهة بذلك من غير إظهارهم لذلك دليله ما في الصحيح عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل: " بئس أخو العشيرة "، فلما دخل عليه ألان له القول، فقالت له عائشة في ذلك، فقال: " إن شر الناس من أكرمه (¬5) الناس اتِّقاء فُحْشِهِ " (¬6). فسمى المواجهة بذلك فحشاً. ¬
الوجه السابع: آية المباهلة، وقوله فيها: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] نص في أهل المباهلة وإن كان لفظه عاماً كما ذكره الأصوليون. الوجه الثامن: حديث واطىء المسبية الحبلى وفيه: " هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره " (¬1). الوجه التاسع: حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: " إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح ". رواه مسلمٌ (¬2) وهو لعنُ المعين. العاشر: حديث: " لعن الله الراكب والقائد والسائق ". رواه الهيثمي (¬3) مرفوعاً من حديث [سفينة]، وقال: رجاله ثقاتٌ، وهو لعنٌ لمعينٍ أيضاً. الحادي عشر: أن الأدلة العامة من الإيمان والأحاديث التي قدمناها وردت معلَّلَةً بتلك المعاصي المذكوره، والتعليل يقتضي جواز اللعنة حيث وجدت المعصية. مثاله قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] معلل بالظلم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله من لعن والديه " (¬4) معلل بلعن الوالدين، وكذا سائر ما ورد تعليق اللعن به من الأوصاف المذمومة. واللفظ، وإن كان عاماً، فهو يتناول الآحاد ظاهراً ولو لم يتناول شيئاً منها، لم يكن له معنى (¬5) وتعيين بعضها من غير دليلٍ تحكُّم، فثبت بمجموع هذه ¬
الأدلة أن لعن أهل الكبائر جائزٌ، بل قد وقع من أرحم الخلق وأشفقهم، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفيع الخلائق وسيد ولد آدم، وذلك لِمَا فيه من زجر الناس أن يرتكبوا ما ارتكب أولئك الذين استحقوا اللعنة، فكيف يقال: إنَّ من لعن مسلماً على الإطلاق، وإن كان فاسقاً، فهو الملعون. أفلا يخاف صاحب هذا الكلام أن يكون تناول (¬1) باللعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخيار الصحابة وخيار المؤمنين. فحاشا مقام الإمام الغزالي من مثل هذه الجهالة الشنيعة، والبدعة البديعة. وأما احتجاج صاحب تلك الفتوى على ذلك بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن ليس باللعان " (¬2)، فالجواب من وجهين: الوجه الأول: أنه لا يدل على تحريم لعن أحدٍ بعينه، بل هو مطلقٌ، وقد فسَّره صاحب الشريعة، فأجاز لعن الظالمين والكافرين ونحوهم، فدلَّ على أن التحريم منصرفٌ إلى المؤمنين القائمين بفرائض الإيمان، الحافظين لأنفسهم (¬3) عن انتهاك محارمه، وتعدِّي حدوده. الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى أن يكون المؤمن لعَّاناً، وليس اللعان من لعن بعض العُصاة غضباً لله تعالى، وزجراً لأهل المعاصي في بعض الأحوال، كما فعل ذلك (¬4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير واحد من فضلاء الصحابة (¬5)، وإنما ¬
اللعان: كثير اللعن عند كل غضب، في صغير الأمور وكبيرها، وكذلك السباب (¬1)، وقد صح عن أبي بكرٍ الصديق أنه غَضِبَ على ولده عبد الرحمن، فجدَّع وسبَّ (¬2)، فهذا صَدَرَ من الصِّدِّيق رضي الله عنه على سبب (¬3) يسير، كما ذلك معروفٌ في كتب الحديث، وليس يستحق الصِّدِّيق أن يُسمى بذلك سبّاباً، وكذلك قول الصِّدِّيق يوم الحديبية لسهيل بن عمرو: امصُص بظر اللاَّت (¬4)، ولم يكن بذلك الصِّدِّيق فاحشاً، وإن كانت كلمة فُحشٍ لما قالها غضباً لله تعالى. وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -أحلم الخلق وأشفقهم- غَضِبَ على من وسم حماراً في وجهه، فلعن من وَسَمَهُ، فكيف لا يغضب المسلم على من قتل الحسين الشهيد ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرة عينه، أما يكون العصيان بقتل ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبح من العصيان بوسم الحمار الذي غضب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قطع رأسه الكريم وتقويره وحمله على عودٍ أوجع للقلب وأقوى في إثارة الغضب والكرب من وسم وجه ذلك الحمار، على أن الذي وسم وجه الحمار لم يفعل ذلك عداوةً للحمار، ولا استهانةً به، وإنما فعله لمنفعةٍ ظنها في ذلك. فاعجب كيف غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوسم وجه ذلك الحمار، واعجب من قومٍ يدعون الإسلام الكامل، ولا يغضبون لولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذبح ¬
عطشاناً (¬1) مظلوماً، ومُثِّلَ به، وحُمِلَ رأسه الكريم على رأس عودٍ مغيّراً مشوَّهاً، ولو فعل ذلك بعض أئمة العدل ببعض أولاد هؤلاء لذنبٍ اقتضى ذلك، لسبَّه ولعنه غالباً، وأقل الأحوال أن يقف الغضب العظيم على كون ولده مظلوماً، وكون الفاعل من أهل الجور، فالحسين رضي الله عنه من أعظم المظلومين ومحاربوه أعظم الظالمين، ويزيد أعظمهم أجمعين، وهو، وإن لم يباشر القتل، فهو أعظم إثماً من المباشر (¬2)، لأن القاتل إنما قتل برضاه وشوكته وقوته. وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن على القاتل جزءاً من العقاب، وعلى الآمر تسعةٌ وستين (¬3) جزءاً ". رواه ابن كثير في " الإرشاد "، وقال: رواه أحمد بن حنبل (¬4)، فإذا كان الإنسان يغضب لولده لو فعل معه دون ما فعل مع الحسين عليه السلام، وإن كان ولده في فضله دون الحسين عليه السلام، وظالم ولده في جرأته دون يزيد، فكيف لا يكون غضبه لله ورسوله أعظم؟ وفي " الصحيحين " من حديث أنسٍ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " (¬5). وفي "صحيح ¬
البخاري" (¬1) مثل ذلك من حديث أبي هريرة. فمن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، فليكن ولدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من ولد صلبه، وجميع أهله، بل في " الصحيحين " (¬2) من حديث أنسٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه "، وفي رواية: " لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". فليتصوَّرِ المسلم أنه مكان الحسين رضي الله عنه، وأنه فعل به ما فُعِل بالحسين عليه السلام، وليتصور كيف يكون غضبه على من فعل به ذلك، بل يجب أن يكون أعظم من ذلك، فإنَّ المسلم يُستحبُّ له أن لا يغضب لنفسه، ويجب عليه أن يغضب لمعصية الله، ويُستحب له أن لا ينتصر (¬3) لنفسه، ويجب عليه أن يَنْصُرَ أخاه المسلم المظلوم. فإذا عرفت هذا، فاحذر أيها السني أن يخدعك الشيطان بتحسين الكلام في يزيد والمجادلة. فأمَّا لعنُ من لعنه، وتفسيق من سبه، فتهوُّرٌ في مهاوي الجهل والفسوق إلى مرمى سحيقٍ، ونزوع (¬4) عن الإيمان والإسلام، لا عن التدقيق والتحقيق. وأما تعلُّقه بأن المسلم أفضل من البهيمة، وحُرمتُه أعظم من حرمة الكعبة، فذلك المسلم الكامل الإسلام بالإجماع، فإن مرتكب الكبائر يجب حدُّه وإهانته، ويستحق الغضب من الله تعالى والعذاب، ولا يجوزُ شيء من ذلك في حق البهائم والكعبة المعظَّمة. ¬
بحث في رضا يزيد بقتل الحسين بن علي
وأما قوله: إنه صح إسلام يزيد، ولم يصح قتله الحسين، ولا أمره بذلك، ولا رضاه به، وقوله: إن من زعم أنه يعلم ذلك، فينبغي أن نعلم به (¬1) غاية حمقه إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى. فالجواب عليه من وجوه: الوجه الأول: أنه أما أن يزيد أنا لم نطلع على ما في قلبه من ذلك، فصحيح، لأن أمر السرائر إلى الله تعالى، ولكن إذا كان المرجعُ إلى السرائر، فلم يصح إسلام يزيد أيضاً، لأنا لم نطلع على ما في قلبه من ذلك، فما بالُ إسلامه صح، وإن لم نطلع على ما في قلبه، ورضاه بقتل الحسين لم يصح لسبب هذه العلة، وإن أراد أنه لم يظهر من يزيد الرضا بقتل الحسين عليه السلام في ظاهر أحواله، فذلك عنادٌ واضح أو جهلٌ فاضح، فيزيد ناصبيٌّ عدوٌّ لعلي وأولاده عليهم السلام، مُظهرٌ لعداوتهم، مظهر لسبِّهم (¬2) ولعنهم من على رؤوس المنابر، ناصبٌ للحرب بينه وبين من عاصره منهم، ومن جَهِلَ هذا، فهو معدودٌ من جملة العامة الذين لم يعرفوا أخبار الناس، ولا طالعوا تواريخ الإسلام، وما أحسن البيت: والشمس إن خَفِيتْ على ذي مُقْلَةٍ ... نصفَ النهار فذاك محصولُ العمى فكيف يقال: إنه لم يظهر منه الرضا بذلك، وقد جاؤوا إلى حضرته برأسِ الحسين عليه السلام على عودٍ مغبّراً مُشَوَّهاً مُقَوَّراً متقربين إليه بذلك، مظهرين للمَسرَّة به، فتكلم بأقبح الكلام في حق الحسين عليه السلام، كما نقل ذلك أشياخ أهل النقل كأبي عبد الله الحاكم والبيهقي وموفق الدين ابن أحمد الخوارزمي وغيرهم، كما تقدمت إليه الإشارة (¬3)، وكيف لا نعلم رضاه بذلك، وإن سكت، أتحسب أن قاتليه قد اختلَّت عقولهم حتَّى يفعلوا ذلك من غير أمره ¬
ولا رضاه، ثمَّ يأتوا به مظهرين للمسرَّةِ، طالبين منه لعظيم (¬1) المَثُوبة على أمرٍ لم يتقدَّم منه إليهم فيه شيءٌ، ولا عَرَفُوا فيه رضاه (¬2)، فكيف لا يُقال: بأنَّ الظَّاهر منه الرِّضا بذلك، ولم يخرج على أحدٍ منهم في ذلك، ولا أظهر البراءة من ذلك، ولا أمر بقبرِ رأسِ الحُسين عليه السلام، ولا نهى عن إظهارِ المسرَّةِ بقتلِ الحسين رضي الله عنه، فإنَّهم أظهروا المسرَّةَ بذلك في مملكته. والنُّكتةُ في هذا الوجه الأول من الجواب: أنَّ رضا يزيد بذلك (¬3) ظاهر بالضرورة (¬4) لا يمكن إنكاره، ولا يمكن (¬5) أبداً المستند (¬6) فيه مثل ما نعلم كراهة أهل الحسين رضي الله عنه لذلك في الظاهر، وهذا علمٌ ضروريٌّ متعلِّقُه ظواهرُ الأحوال لا سرائر (¬7) القلوب، ومن لم يحصل له هذا العلمُ لقلَّةِ معرفته بالتَّاريخ وأخبارِ النَّاس، فهو معذورٌ بجهله إذا لزم تكليفُ الجُهَّال، وهو عدم الاعتراضِ على أهل العلم، والله أعلم. الوجه الثاني: أن يقال لهذا الشأن في رضا يزيد بقتل الحُسين عليه السلام: إمَّا أن يقول: إنَّ جميع ما صدر من أُمراء المُلوك من الحروب والقُتول والغزوات وعظائم الأمور غير منسوبٍ إلى أمرِ المُلوك، ورضاهم، أو لا. إن قال: لا ينسب إلى الملوك شيء من ذلك في الظَّاهر، ولا في الباطن، وإن لم يظهروا البراءة منه ولا الشِّدَّة على مَن فعله، فهذا خروجٌ من (¬8) زُمرة العقلاء، لأنَّه يلزم منه أن الحجَّاج بن يوسُف ما صدر عنه إلاَّ مثل (¬9) ما صدر عن عُمرَ بن عبد العزيز من الأمر بالعدل والرِّفق، ولكنَّ أُمراءَه ¬
وجُنده فعلوا ما لم يرضَهُ، وسكت، وما نُقِلَ أنه باشره من ذلك، وأمر به لم يبلغ مبلغ التَّواتُر. وأمَّا إن أقرَّ إنَّ ظاهر أحوال الأمراء أنهم لا يفعلون (¬1) في المُهمَّاتِ إلاَّ ما أمرهم به الملوك، فقتلُ أمراءِ يزيد للحسين عليه السلام من ذلك، فإنَّ الطاهر من أمراء يزيد وغير يزيد أنَّهم لا يقدمُون على الأمور العظيمة إلا من (¬2) جهة الطَّاعة لمن فوقهم، والتَّقرُّب إليه، ولم يكن بين جندِ يزيد وبين الحُسين عداوةٌ تُوجب السَّب، كيف (¬3) القتل؟ وإنَّما قتلوه طاعةً ليزيد وتقرُّباً إليه. ولهذا روى أبو عبد الله الذهبي في كتاب " الميزان " (¬4) عن أبي إسحاق أنه قال: كان شمرٌ يصلِّي معنا ويستغفر، فقلت له: كيف يغفرُ الله لك وقد أعنت على قتل ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال: ويحكَ، كيف نصنع؟! إنَّ أمراءَنا أمرونا، ولو خالفناهم كنَّا شرّاً من الحمير السُّقاة. قال الذهبي: إنَّ هذا العذر قبيحٌ، فإنما الطَّاعة في المعروف. قلت: وإنَّما قال أبو إسحاق لشمرٍ: كيف يغفرُ الله لك، لأنَّه فهم من حاله أنَّه لم يتب من قتل الحسين، ويفعل ما يجب من تسليم نفسه قَوداً إلى أولياء الحسين عليه السلام، وإنما قال ذلك على عادةِ المستغفرين مِنَ المصرِّين، مع تهاوُنه بعظيم ذنبه. وجه آخر: وهو قول الله تعالى لمن عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 91 - 92] فنسب (¬5) فعل ¬
البعض إلى الجميع على سبيلِ الذَّم لرضا الجميع به أو تواليهم، ورضا الجميع معلومٌ لغير الله تعالى بالقرائن، ولذلك حسُنت مناظرتُهم به، وما كان من أمور السَّرائر الَّتي لا يعلمها إلاَّ الله، لما تقع المناظرةُ في دار التَّكليف عليها إلاَّ على طريق التَّنكيت دون الحُجَّةِ، ولذلك لم يكن للمشركين حجَّةٌ في القدر. الوجه الثالث: إما أن يشكَّ (¬1) هذا المتكلِّمُ في جميع ما نقله المؤرَّخُون من ثقاتِ المحدِّثين وأهل معرفة الرِّجال، لزمه ألاَّ ينسُب الرَّفض إلى الرَّافضة، والنَّصب إلى النَّواصب، والبدع إلى أحدٍ من أهل المذاهب، ولا يجرح أحداً (¬2) من الرُّواة، ولا يميز العدل من سواه وإن أقرَّ بقبول أقوالِ الثِّقات من أهل التاريخ والكلام على الرجال، لزمه قبولُهم في يزيد. الوجه الرابع: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أمر أمَّته لا يزال مستقيماً حتَّى يثلمهُ يزيد، وتأوَّه من قتله لسلفِه من الصَّحابة رضي الله عنهم وسلفِ سلفهم من التابعين (¬3) رحمهم الله تعالى، كما قدمنا ذكر ذلك، ورواية ثقاتِ أئمة الحديث له (¬4)، ومن أخبر عنه بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا ينبغي أن يُحسن به الظَّنُّ، بل الواجبُ تحسين الظَّنِّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل اعتقاد القطع بوقوع ما أخبر به. الوجه الخامس: إمَّا أن نقول: تواترُ الأخبارِ وكثرةُ القرائنِ يدلُّ على ما ذكرناه أولاً. إن قلنا بذلك، لزم صحَّةُ ما ذكرناه، وإن لم نقل بذلك، لزم ألاّ يُنسبَ إلى أحدٍ من الملوك عداوةُ عدُوٍّ ولا رضا بحربه حتى يُحضِرَ الشُّهود العدولَ، ويكتب على نفسه سِجلاًّ بأنَّه يُبغض عدوَّه، ويحب قتله ويرضى به. ¬
ومن المعلوم لكلِّ عاقلٍ أنه قد ثبت العلمُ بأعداءِ الملوك ومحبَّة الملوكِ لقتل أعدائهم من غير إقرارٍ صحيح بذلك وكتابة (¬1) شهادات العدول في السِّجلاَّت بذلك، ولا شكَّ أنَّ عداوة يزيد للحسين من أشهر العداوات، وأنَّ رضاه بقتله من أوضحِ الأمور الظَّاهرات، والله أعلم. الوجه السادس: أنَّه ثبت في الصَّحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقلَ ملك الرُّوم أنَّ عليه إثم الأَريسيِّين (¬2)، وهم أهلُ الجهل والخطأ (¬3) والجفاء مِن أهل دينه مثل الحراثين، ومِنَ المعلوم أنَّه لو لم يأمرهم ويرضى بدينهم ما كان عليه مِن إثمهم شيءٌ، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّما قال له بذلك لأن (¬4)، ظاهر حاله أنه راضٍ بذلك، لقدرته على التغيير، ولو كان كارهاً لغيَّر، فكذلك سائر الملوك الجبابرة الظاهر منهم الرضا بكلِّ قبيح ظهر في ممالكهم ولم ينكروه، وكذلك يزيد، فإن قتلة الحسين عليه السلام جاؤوا برأسه الكريم مبشرين له، وطالبين للثواب منه، ومظهرين له أنهم قد فعلوا له أحب الأمور إليه، فأقرهم على ذلك، ورضي عنهم، وقد يُحكم بالرضا بأقل من هذا، فقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - برضا البكر بالتزويج لسكوتها (¬5)، وليس القصد القياس، وإنما القصد التنبيه على أن الرضا قد يُعرف بغير نُطقٍ وإلا لزم فيمن تزوجت برجلٍ وهي بكرٌ بالغةٌ وأقامت معه، حتى وُلِدَ له منها أولادٌ (¬6) ¬
أن يقبل منها إذا أنكرت الرضا بعد ذلك، وأمثال ذلك، بل أوضح من هذا صحة عقُود الأخرس بالإشارة والعلم بكثير فما يرضى به ويحبه. الوجه السابع: أن صاحب هذه الشبهة علق الحكم بالعلم بما في باطن يزيد، وليس الحكم يتعلق بذلك شرعاً، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر عمه العباس يوم بدرٍ، ولما ادعى العباس ذلك اليوم أنه كان مكرهاً، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا ظاهرك، فكان علينا ". وأخذ منه الفداء (¬1). وروى البخاري في " الصحيح " في كتاب الشهادات (¬2) عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن أناساً كانوا يُؤخذون بالوحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيراً أمِنَّاه وقرَّبناه، وليس لنا من سريرته شيءٌ، ومن أظهر لنا سوءاً، لم نأمنهُ ولم نقرِّبه (¬3)، ولم نصدقه، وإن قال: سريرتُه حسنةٌ. انتهى كلامه رضي الله عنه. والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول. أن الحجة في هذا من السمع والأثر والحجة في الأول من (¬4) النظر والجدل. الوجه الثامن: أنا لو قدرنا ما لم يكن من عدم رضا يزيد بقتل الحسين عليه السلام، فإنه فاسقٌ متواتر الفسق والظلم، شرِّيب الخمر، كما قال أبو عبد الله الذهبي في حقه (¬5): كان ناصبياً جِلفاً فظّاً غليظاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، وهذا يبيح سبَّه ويُغضِبُ ربه، ولو لم يكن له إلاَّ بغضُ أمير المؤمنين ¬
علي بن أبي طالب عليه السلام، لكفاه فسوقاً ومقتاً عند الله وعند الصالحين من عباده. ففي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنه لا يبغض علياً إلاَّ منافق " (¬1) وأما قوله: إن إساءة الظن بالمسلم حرامٌ، فإنما ذلك في المسلم الكامل الإسلام الذي لم تظهر عليه قرائن الرِّيبة، ودليل الجواز في غير ذلك قول الله تعالى حاكياً عن نبيه يعقوب عليه السلام: {بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ} [يوسف: 18]، وفي الحديث المتفق على صحته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الملاعنة: " لعلها أن تجيء به أسود جعداً " (¬2)، وقال: " إن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلاَّ قد صدق عليها ". وأما قوله في الاستدلال على حماقة من زعم أن يزيد رضي بذلك. إن من قتل من الأكابر في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ورضي به، لم يقدرعلى ذلك، وإن كان قد قُتِلَ في جواره وزمانه وهو يشاهده، فإن أراد لم يقدر على معرفة الرضا، فكذلك لو أقرَّ بالرضا، لم يعلم أنه صادقٌ في إقراره، وإن أراد لم يقدر على معرفة الأمر أيضاً، كما هو ظاهر كلامه، فهذا قلة عقلٍ من قائله، لا قلة علم، فإن من المعلوم أنها لو قامت الشهادة بذلك إلى الإمام أو نحوه، لقُبِلت ووجب في ذلك من العقوبة ما يراه الإمام، ولو كان كما قال، لم تُقْبَلِ الشهادة بذلك (¬3) بل لوجب جرح الشهود، لأنهم شهدوا بما لا طريق إلى معرفته، وهذا خلاف العقل والشرع، وأيُّ مانعٍ يمنع من الشهادة على من (¬4) أمر بقتل رجل. هذا ما لا يقوى في عقل مميز أن الغزالي يتكلم به. ¬
وأما قوله: إن التعصب قد تطرَّق في الواقعة، وكثرت فيها الأحاديث. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: أن هذا إشارةٌ إلى خلافٍ وقع، ولم يقع خلافٌ، بل نقل الموافق والمخالف أن يزيد كان بغيضاً ناصبياً شِرِّيباً فاسقاً. الثاني: أن المختلفين في الواقعة طائفتان، طائفةٌ أثنوا على يزيد، وهم النواصب، وطائفة دمُّوهم، وهم سائر المسلمين. والتعصب لا يكون مع جميعِ الطائفتين، فوجب أن يكون مع من أثنى عليه، لأن الطائفة هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كالحسين وبعض أصحابه، فإنهم صحابةٌ إجماعاً، ولا يجوز نسبة التعصب إليهم، وكذلك من قدمنا ذكره فيمن تكلم على يزيد من أئمة الحديث كالخطابي وابن حزم والذهبي وغيرهم. الثالث: ليس كل قصةٍ (¬1) وقع فيها تعصُّبٌ، فقد جهلت، وعمي أمرها، فقد وقع التعصب في العقائد وكثير من الوقائع، بل يؤخذ بما تواتر وبما صح عن الثقات ويُترك كلام المتعصبين. وأما قوله: إن القاتل ربما مات على التوبة، فصحيحٌ، ولكن أين التوبة وشرائطها الصحيحة؟ وأما قوله: فإذاً لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، فقد تقدم الجواب عليه، وما فيه من الخطر العظيم، وأن ذلك خلاف كلام العلماء، وقد قيَّد النووي ما أطلقه هذا، فقال في " رياض الصالحين " (¬2): باب تحريم سب الأموات بغير حقٍّ ومصلحةٍ شرعيةٍ وهي التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه ونحو ذلك. انتهى. وقد تقدم أن الله تعالى لعن الظالمين، وذلك يعمُّ الأحياء منهم والميِّتين، ¬
فما ينفعهم ترك هذا المسكين للعنهم، والله يلعنهم في كتابه وجميع حملة القرآن عند قراءته. وأما قوله: لو (¬1) جاز لعنه، فسكت، لم يكن عاصياً بالإجماع، فليس له أن يحتج بهذا على تحريم لعنه، لأن جواز الترك لا يستلزم تحريم الفعل، ولو كان ذلك كذلك، لم يوجد مباحٌ أبداً، ولو كان ذلك كذلك، لَحَرُمَ عليه التَّرحُّمُ والاستغفار والترضية على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ممن كفَّرته النواصب والروافض احتياطاً، لأن الترضية عليهم (¬2) لا تجب، ومن تركها، لم يكن عاصياً بالإجماع، ومن العجائب أنه قال: إن الترحم عليه مستحبٌّ عقيب هذا. إن كان ما ذكرت (¬3) حجة، فهلاَّ دلَّ على تحريم الترحم عليه، فإن في جواز الترحم عليه خلافاً، ولو جاز وتركت، لم تأثم بالإجماع، فما بال هذه العلة العليلة (¬4) مقصورةٌ على ما وافق هواك، غير متعدية إلى من عداك؟! وأما قوله: إن الترحم عليه مستحبٌّ، داخلٌ في قولنا في كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولأن يزيد كان مؤمناً، فذلك غير صحيحٍ لوجوه: الوجه الأول: أن قوله إنه مؤمنٌ على الإطلاق مع ما ارتكب من العظائم واستهان به من المحارم، وأصرَّ عليه من فواحش (¬5) المآثم، خلاف كلامِ الفريقين من جماهير أهل السنة والشيعة والمعتزلة. أما أهل السنة، فقد تقدم كلامهم، وقد نقله شارح البخاري العلامة الشهير بابن بطَّالٍ في شرح كتاب الإيمان من البخاري، متابعاً في ذلك لما قرره البخاري من ذلك، وبوَّب عليه واحتجَّ له، فإنه أكثر من الاحتجاج لذلك بالآيات ¬
والأخبار في تراجم الأبواب ومتون الأحاديث المسندة المتفق على صحتها، مثل قول البخاري في أول كتاب الإيمان (¬1): قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بُنِي الإسلام على خمس "، وهو قولٌ وفعلٌ ويزيد وينقص، قال الله عز وجل: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4]، {وزدناهم هدى} [الكهف: 13]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]، وقوله: {فاخشوهم فزادهم إيماناً} [آل عمران: 173]، وقوله: {ما زادهم إلاَّ إيماناً وتسليماً} [الأحزاب: 22]، والحب في اللهِ والبغض الله من الإيمان (¬2)، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن عديٍّ: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً (¬3) ... إلى قوله: باب (¬4) دعاؤكم إيمانكم، أظنه أشار إلى قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] وأورد فيه حديث ابن عمر: " بُني الإسلام على خمس " (¬5) ثم قال (¬6): باب أمور الإيمان وذكر قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] الآيات، وأورد فيه حديث أبي هريرة: " الإيمان بِضْعٌ وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان " (¬7) أورده من حديث عبد الله بن دينار عن أبي صالحٍ عن أبي ¬
هريرة، ورواه معه (¬1) الجماعة (¬2)، وفي رواية: " ستون "، وقال بعده: باب المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، وذكر بعده باب إطعام الطعام من الإيمان (¬3)، وبعده: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وذكر فيه حديث أنسٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " (¬4)، ثم ذكر باب: حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، ثم باب حلاوة (¬5) الإيمان (¬6)، وكذلك سائر أئمة الحديث في كتبهم يوردون مثل ذلك قاصدين بذلك الرد على المرجئة. وقد جوَّد ابن بطال القول في ذلك في " شرح البخاري "، وطوَّل في نقل كلام أئمة أهل السنة في ذلك، وبيان أدلتهم فيه، وتقدم قول ابن بطَّال أن تسمية صاحب الكبائر مؤمناً وإن جاز لغةً، فهو ممنوع شرعاً (¬7)، واحتجاجه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم ... إلى قوله أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وقول القاضي أبي بكر بن العربي في كتابه " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ": إن المؤمن من أمَّن نفسه من عذاب الله، والمسلم من أسلم نفسه، ويزيد أخاف نفسه، وما أمنها، وأوبقها وما أسلمها. وقد تقدم بقية كلام أهل السنة، وهو موجودٌ في مواضعه، لا حاجة إلى التطويل بنقله، ولكن أُشير إلى مواضعه وهي دواوين الإسلام السنة وما في ¬
طرق معرفة المنافق غير الوحي
معناها وشروحها، فقد أورد كل حافظٍ منهم ما في ذلك، وزاده بياناً كلُّ شارحٍ ولله الحمد. وقد يوجد ما يخالف هذا في كلام علماء الكلام من الأشعرية في معارضة المعتزلة في إيجاب الخلود على سبيل القطع لكل مرتكب كبيرةٍ لم يَتُبْ منها، وإن ندرت وإن عظُمَت معها حسناته، وطالت في مكاسب الخيرات حياته، وتقع بينهم اللجاجات (¬1)، حتى يتوهم (¬2) بعض متكلمي الأشعرية أنها تستلزم أن يُسمّى الفاجر مؤمناً على الإطلاق، وليس ذلك بصحيحٍ على مقتضى الجمع بين الأحاديث وعدم الطرح لشيءٍ منها، وإنما يُسمى إذا لم يدلَّ دليلٌ سمعي (¬3) على بقائه مؤمناً أقل الإيمان، فهذان قيدان يقيِّدان إطلاق إيمانه على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما الفريق الثاني -وهم الشيعة والمعتزلة وكثيرٌ من السلف-، فقد يَرَوْنَ أن السمع ورد بأن في الذنوب ما يدلُّ على النفاق، وسوء الاعتقاد، أو على خُلوِّ القلب من اعتقاد الإسلام والكفر وغلبة الغفلة عليه كما هي غالبةٌ على البهائم لامتلائه باشتغالٍ بالفسوق والشهوات العادية (¬4)، فقد تدل بعض الظواهر على بعض البواطن دلالة الدخان على النار، واللازم على الملزوم، ولهم على ذلك دلائل كثيرةٌ نذكر ما حضر منها: الأول: قوله تعالى: {ولتعرفَنَّهُم في لحن القول} [محمد: 30] فهذه طريقٌ إلى معرفة المنافقين غير الوحي بما يجري على ألسنتهم مما ليس في مرتبة التصريح، لأن لحن القول في اللغة هو (¬5) مفهومه ومعناه كما ذكره أهلُ ¬
اللغة والتفسير، ويُقوِّيه من كتاب الله تعالى ما حكاه الله عنهم (¬1) في قصة يوسف عليه السلام، وقرَّرها في قوله. {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 27 - 28]، فدل على حسن الحكم بالقرينة الصحيحة الظاهرة على الأمور الباطنة الخفية. الثاني: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من أئمة الإسلام عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربعٌ من كُنَّ فيه، كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " وفي رواية: " وإذا وَعَدَ أخلف " عِوض: " ائتمن خان " (¬2). وروى البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " آية المنافق ثلاثٌ " زاد مسلم: " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلمٌ "، ثم اتفقوا: " إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر " وفي رواية لهم الجميع مثله لكن الثالثة: " إذا ائتمن خان " (¬3)، وروى النسائي (¬4) من حديث ابن مسعودٍ (¬5) مثل الرواية الأولى. ¬
وقال أحمد بن حنبل في " مسنده " (¬1): حدثنا يزيد -يعني ابن هارون- أخبرنا عبد الملك بن قدامة الجُمحي، عن إسحاق (¬2) بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. " إن للمنافقين علاماتٍ يُعرفون بها: تحيتهم لعنةٌ، وطعامهم نُهبة (¬3)، وغنيمتهم (¬4) غلولٌ، ولا يقربون المساجد إلاَّ هجراً، ولا يأتون الصلاة إلاَّ دبراً مستكبرين، ولا يألفون ولا يؤلفون، خُشُبٌ بالليل صُخُبٌ بالنهار ". ومن ذلك الحديث الوارد في صفة صلاة المنافق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تلك صلاة المنافقين يجلس [أحدهم] يرقب الشمس، حتَّى إذا كانت بين قرني الشيطان (¬5) قام، فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلاَّ قليلاً " رواه مسلم (¬6) من حديث أنس، ففي هذا مع قوله: " من أدرك ركعةً من العصر، فقد أدرك العصر " متفق عليه (¬7)، دلالة على أن المداومة على بعض الأفعال ونحو ذلك من الأمور ¬
الظاهرة قد يدلُّ على الأمور الباطنة، ولهذا قطع جماعةٌ من العلماء على تأثيمِ من داوم على ترك السُّنن الخفيفة السهلة. الثالث: ما صح وثبت عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي (¬1) الأُمِّيِّ أنه لا يُحِبّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافق. رواه مسلم في " الصحيح " (¬2) في كتاب الإيمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، وأبي معاوية، وعن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زِرٍّ بن (¬3) حُبيش عن علي عليه السلام. ورواه الترمذي في المناقب من كتابه " الجامع " (¬4) عن عيسى بن عثمان ابن أخي يحيى بن عيسى الرملي، عن يحيى بن عيسى الرملي (¬5)، عن الأعمش نحوه: عهد إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يحبك إلاَّ مؤمنٌ ولا يُبغضك إلاَّ منافق " وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه النسائي في " المناقب " (¬6) عن أبي كريب، عن أبي معاوية بالسند المتقدم، وفي كتاب الإيمان عن واصل بن عبد الأعلى، عن وكيع به، وعن يوسف بن عيسى بن الفضل بن موسى عن الأعمش به. ورواه ابن ماجه (¬7) في السنة عن علي بن محمد، عن وكيع وأبي معاوية وعبد الله بن نمير عن الأعمش به (¬8). ورواه إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل في " مسنده " (¬9) عن عبد ¬
الله بن نمير ثلاثتهم عن الأعمش، به (¬1)، وهو الحديثُ السادسُ والستون من مسند علي عليه السلام من " جامع " المسانيد لابن الجوزي، وهذا إسنادٌ صحيح على شرط أئمة الحديث وأئمة الإسلام كلهم خرَّجوا حديث رواته لو لم يرد (¬2) سواه، كيف وله شواهد، فقد روى الترمذي (¬3) وغيره عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحب علياً منافقٌ ولا يبغضه مؤمنٌ ". رواه جماعة من حُفَّاظ الحديث، وأئمة السنة منهم الزبيري (¬4) في " المناقب " عن واصل بن عبد الأعلى، ومنهم عبدُ الله بن أحمد بن حنبل في " زوائد المسند " (¬5)، ومنهم البغوي (¬6) في " كتابه "، ومنهم ابن عدي في كتاب " الكامل " (¬7)، ومنهم الذهبي في كتاب " الميزان " (¬8) ثلاثتهم عن أحمد بن عمران عن البغوي وابن عدي والذهبي ثلاثتهم عن محمد بن فُضيل -أعني أحمد بن عمران-، وعثمان بن أبي شيبة، وواصل بن عبد الأعلى، ورواه محمد بن فضيل، عن أبي نصر عبد الله بن عبد الرحمن بن نصر الأنصاري، عن مُساورٍ الحميري، عن أمه، عن أم سلمة رضي الله عنها. وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه. قلت: ورواته ثقات لم يذكر في كتب الجرح أحد منهم إلاَّ ابن فضيل وشيخه بما لا يقدح، أما ابن فضيل، فذكر فيه التشيع لا سوى، وقال الذهبي (¬9): هو صدوق صاحب حديث ومعرفة. ¬
قلت: وهو من شيوخ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهما، وهما شيخا أهل السنة. وقد تكلم الذهبي في قبول الشيعة في ترجمة أبان بن تغلب في أوائل " الميزان " بما لا مزيد عليه، وحسبك أن حديث ثقاتهم في " الصحيحين " المجمع عليهما عند أهل السنة، وحسبك أن يحيى بن معينٍ وأبا عبيد رويا التشيع عن الإمام الشافعي، ذكره الذهبي في ترجمة الشافعي من " النبلاء " (¬1). وقال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب في " الميزان " (¬2) ما لفظه: فلقائلٍ أن يقول: كيف ساغ [توثيق] مبتدعٍ وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؟ وجوابه: أن البدعة على ضربين (¬3) فبدعةٌ صغرى كغلوِّ التشيع، أو كالتشيع بلا غلوٍّ ولا تحرُّفٍ (¬4)، فهذا كثير في (¬5) التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو ذهب (¬6) حديث هؤلاء، لذهب جملةٌ من الآثار النبوية، وهذه مفسدةٌ بيِّنةٌ. ثم ذكر الغلاة وتفسيرهم (¬7). فهذا الكلام انسحب علي من الكلام على ¬
توثيق محمد بن فُضيلٍ وأما شيخه، فغلط عليه ابن عديٍّ، فقال (¬1): إنه سمع أنساً، وقال البخاري (¬2): فيه نظر، وقال الذهبي (¬3): بل الذي سمع أنساً هو آخر، تقدم (¬4)، وهذا وثقه أحمد، وقال: أبو حاتم (¬5) صالح، فصح هذا الحديث. ولهما شاهدٌ ثالث رواه الحاكم في " المستدرك " (¬6) في مناقب علي عليه السلام، فقال: حدثنا أبو جعفر بن عبيد (¬7) الحافظ بهمذان، حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا إسحاق بن بشرٍ الكاهلي، حدثنا شريكٌ، عن قيس بنِ مسلمٍ، عن أبي عبد الله الجدلي، عن أبي ذر، قال: ما كان يُعرف المنافقون إلا بتكذيبهم الله ورسوله، والتخلُّف عن الصلاة، والبُغض لعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام. وهذا حديث صحيح على شرط مسلم. ¬
وله شاهدٌ رابعٌ رواه الترمذي (¬1) في " المناقب "، عن قتيبة بن سعيد، عن جعفر (¬2) بن سليمان، عن عمارة بن جُويز، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: إن كنا معاشر الأنصار لنعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب (¬3) عليه السلام، وقال الترمذي: غريب. ومن الدليل على صدق المحدثين وإنصافهم وتحريهم للصواب أنهم كذَّّبُوا من روى هذه الفضيلة لأبي بكرٍ وعمر، كما أوضحه الذهبي في " الميزان " في ترجمة معلى بن هلال (¬4) وترجمة عبد الرحمن بن مالك بن مغول (¬5). وأجمعتِ الأمة المعصومة على تلقِّي هذه الأحاديث بالقبول، وبها يخطب خطباء أهلِ السنة في الحرمين الشريفين، وعلى رؤوس المنابر في الجُمَعِ والأعياد والمشاهد عند ذكر (¬6) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من غير مناكرة، ولا يوجد في تقريرات أهل الإسلام في إجماعاتهم أوضح من هذا، وبذلك دانت العترة الطاهرة. وليس في عدم تخريج البخاري له شبهةٌ في صحته، لأنه قد روى عن جميع رُواته، ولكنه قد يلتزم ما لا يلزم من الشروط العزيزة، فلا يتم له في بعض الأحاديث الشهيرة فيتركها، ولذلك لم يخرِّج حديثاً في كيفية الأذان أصلاً، ولا في كيفية صلاة العيد، فيقال: إنه شك في الأذان، أو في صلاة العيد، على أنها قد عرفت علته في هذا الحديث، وذلك أن عدي بن ثابتٍ شيخ الأعمش ¬
فيه من (¬1) مشاهير رجال الشيعة، مع الاتفاق على ثقته وأمانته عند أئمة أهلِ السنة، دع عنك غيرهم، والفضل ما شهدت به الأعداء. قال الحافظ ابن حجرٍ في مقدمة " شرح البخاري " (¬2): وثقه أحمد بن حنبل والعجلي والدارقطني والنسائي، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن حجر في " شرح نخبة الفكر " في علوم الحديث: قال الذهبي -وهو من أهل التَّتبُّع التَّام-: ما اتفق حافظان من أئمة هذا الشأن على توثيق أو تجريح إلاَّ كان كذلك أو كما قال، ثم قال ابن حجر في " مقدمة الشرح " المذكور: احتج به الجماعة، وما أخرج له البخاريُّ في " الصحيح " شيئاً مما يقوي مذهبه أو نحو هذا. قلت: قد خرَّج البخاري حديث جماعةٍ من كبار الشيعة في الأصول من غير متابعة. منهم مالك بن إسماعيل: أبو غسان النهدي، قال ابن حجر (¬3): كان من كبار شيوخ البخاري، مجمعٌ على ثقته، ذكره ابن عدي في " الكامل " من أجل قول (¬4) الجوزجاني: إنه كان حسنِيّاً، يعني شيعياً، وقد احتج به الأئمة. انتهى بحروفه. ومنهم: إسماعيلُ بن أبان الورَّاق الكوفي، من شيوخ البخاري (¬5)، وثَّقوه إلاَّ الجوزجاني، فقد كان مائلاً عن الحق، قال ابن عدي: يعني ما عليه الكوفيون من التشيع. قال ابن حجر: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي، فهو ضد الشيعي ¬
المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعاًً، وينبغي أن لا يسمع قول (¬1) مبتدعٍ في مبتدع، وأما كلام الدارقطني، فقد اختلف، ولعلَّه اشتبه عليه بشيخ لهم متروكٍ يُسَمَّى إسماعيل بن أبان الغنوي. وأسيد بن زيدٍ شديد التشيع، ضعيف، وقال النسائي: متروك، ولم يوثق قط، وهو من شيوخه لكن في حديثٍ واحدٍ متابعة، ذكره ابن حجر (¬2). وبهز بن أسد في رواية الذهبي (¬3)، وجرير بن عبد الحميد ابن قرط الضَّبِّي الرازي (¬4)، أجمعوا على ثقته، وخرَّج عنه الجماعة، ونسبه قتيبة (¬5) إلى شيءٍ من التَّشيُّع المفرط. قال ابن حجر (¬6): وخالد بن مخلد القَطَواني من كبار شيوخ البخاري، وثَّقوه وكان متشيعاً مفرطاً. قاله (¬7) ابن حجر، وقال: إذا كان الراوي ثبت الأخذ والأداء، لا يضرُّهُ التَّشيُّعُ. وسعيد بن عمرو (¬8) بن أشوع الكوفي، وسعيد بن فيروز أبو (¬9) البختري ¬
الطائي، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي المكي شيعي (¬1) مختلفٌ في صُحبته، وعبَّاد بن العوَّام الواسطي، وعباد بن يعقوب الرَّواجنيُّ رافضي داعية، كان يشتمُ عثمان، روى عنه البخاري حديثاً مع جماعةٍ تابعوه، وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الأنصاري، وعبد الرحمن بن أبي الموالي المدني، ولم يذكره ابن حجر بتشيعٍ، وهو مشهورٌ، ذكره الذهبي في " الميزان " (¬2). وخرج البخاري حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي (¬3)، شيعي قدري، وكذلك سائر الجماعة. وخرج البخاري من حديثه ما يدلُّ على مذهبه مما تفرد به، وزاده على جرير بن حازم عن شيخهما، وهو ذكر أولاد المشركين بالنصوصية في حديث سمرة في الرؤيا النبوية (¬4) فإنهما روياه عن أبي رجاء العُطاردي، عن سَمُرَةَ. وكذلك أخرج عنه حديث الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (¬5)، وهي زيادة على جرير في هذا الحديث، فبان بهذا (¬6) أن البخاري إنما توهَّم أن مدلول الحديث مما يختصُّ مذاهب (¬7) الشيعة دون أهل السنة، فتركه لذلك، وليس كما توهم، والدليل على أنه ليس كذلك أن البخاري قد خرَّج مثل هذه الفضيلة للأنصار من حديث البراء بن عازب الأنصاري، ومن حديث أنس بن مالكٍ الأنصاري (¬8) ولا شك في تفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام عند أهل ¬
السنة على جميع الأنصار، بل وعلى قريشٍ في أيام خلافته، وإنما وقع النزاع من البعض في إطلاق تفضيله على الجميع قبل (¬1) أيام خلافته من أجلِ تفضيل الإمام على المأموم على ما يعتقدونه في ذلك، ولا شكَّ في الإجماع على تفضيله على جميع قريش والأنصار كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الرزاق بن همام من " الميزان " (¬2)، فإذا صحت هذه الفضيلة للأنصار -وهم في الفضل دونه بالاتفاق- كان بها أولى، ولو اعتبرنا في الرواية ما يعتبر في دعاوي الأحوال الدنيوية من عدم قبول الثِّقات ولم ننقل المناقب عن الفريقين، لبطلت عامة المناقب. فليحرِص (¬3) على حفظ المناقب أهلها وأهل المحبة الكبيرة لأهلها، ولذلك لم يرو البخاري هذه المنقبة للأنصار إلاَّ من طريق البراء وأنس، وهما أنصاريان، وقد خرَّج البخاري (¬4) في مناقب أبي بكر عن أحمد بن أبي الطيب، عن إسماعيل بن مُجالدٍ، وفيهما ضعفٌ، وعن سلمة بن رجاءٍ في مناقب حُذيفة (¬5). وتعمُّدُ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفحش الكبائر. وإذا كان الكذب في الحديث مطلقاً مِنْ علامات النِّفاق، فكيف الكذب فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وتهمة الفريقين (¬6) المشهورين بالثِّقة والورع عند الجميع مما لا يُلتفتُ إليه، كما ¬
ذكره الذهبي وابن حجر في ترجمة زيد بن وهبٍ التابعي الجليل (¬1)، ولا مرتبة في العدالة أعظم ولا أرفع أن يكون الموثِّقون للرجل أئمة خصومه. على أن المعنى العقلي والتجارب المستمرة قاضيةٌ بصحة هذه الأحاديث، وذلك أن من آمن بالله عزَّ وجلَّ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وباشر الإيمان قلبه، أحبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الطبيعة والشريعة. أما الطبيعة، فلما جُبلت عليه القلوب من حبِّ من أحسن إليها، ولا إحسان من المخلوقين أعظم من إحسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعظم نفعه (¬2) وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإنقاذهم من الكفر ومن النار، وإكمال شفقته عليهم حتى صحَّ أنها وُهِبَتْ له دعوة مستجابة كما وهبت لكل نبي، فاختبأ دعوته لهم، وآثرهم على نفسه النفيسة ولو نتعرَّض لاستيفاء ما ورد في هذا، لخرجنا عن المقصود. وأما الشريعة، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: " أنه لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه ومن الناس أجمعين " (¬3). فإذا ثبت أن الإيمان يستلزم غاية (¬4) الحب للرسول قطعاً، عقلاً، وشرعاً، فكذلك حُبُّه يستلزم حُبَّ من يحبُّه الرسول وحبَّ ناصريه الذين عُلِمَ بالضرورة حبهم له وحبُّه لهم، وبذلهم أرواحهم على الدوام في مرضاته ووقايته، فكما أن الضرورة تقتضي أن الرسول يحبهم لذلك، وكذلك الضرورة تقتضي أن من يُحِبُّ الرسول يحبُّهم لذلك بقوَّة الداعية الطبيعية البشرية والدينية البشرية الفطرية، ولذلك قيل: أصدقاؤك ثلاثةٌ: صديقك، وصديق صديقك، وعدوُّ عدوِّك. وأعداؤك ثلاثة: عدوُّك، وعدوُّ صديقك وصديق عدوِّك، وأنشدوا في هذا المعنى: ¬
لعينٍ تُفَدَّى ألفُ عينٍ وتُتَّقى ... وتُكْرَمُ ألفٌ للحبيب المكرَّمِ ومن أحسن ما رُوي في هذا المعنى (¬1) بعضهم: رأى المجنون كلباً ذات يومٍ ... فمدَّ له من الإحسانِ ذيْلا فلامُوه عليه وعنَّفوهُ ... وقالوا: لِمْ أنلت الكلبَ نيلا فقال لهم: دعُوني إنَّ عيني ... رأتْهُ مرةً في باب ليلى {والذين آمنوا أشد حُبَّاً لله} [البقرة: 165] ولذلك شاركته الأنصار عليه السلام في هذه الفضيلة لما شاركته في علتها، وهو الدليلُ الرابع، وذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب وأنس: " أنه لا يحب الأنصار إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ " (¬2) وفي حديث أنس أن: " آية الإيمان حبُّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار " (¬3). وروى الترمذي من حديث ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُبغض الأنصار أحد يؤمن بالله واليوم الآخر " (¬4) وروي مثله من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً (¬5). ومن الدلائل على صحة هذه الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام، وللأنصار رضي الله عنهم أن من أبغضه أبغضهم، ومن أبغضهم أبغضه، لأنهم كانوا من أنصاره عليه السلام في أيام خلافته وأعوانه. ¬
الخامس: أنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس صلاة أثقل (¬1) على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممتُ أن آمر المؤذن يقيم، ثم آمر رجلاً يُؤمُّ الناس، ثم آخذ شُعلاً من نار فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة " رواه البخاري (¬2) في فضل صلاة العشاء في الجماعة من حديث عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة انفرد به البخاري من هذه الطريق، وقد رواه الجماعة من غير هذه الطريق كلهم (¬3). ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬4) وجعل مالكاً عوض ابن ماجه، ورواه البخاري في وجوب الجماعة وفي الأحكام، والنسائي في الصلاة من ثلاث طرق عن مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة وليس في أوله ذكر أثقل الصلاة على المنافقين (¬5). ووجه الحجة فيه أن ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - عزم على تنجيز العقوبة بما ظهر له من قرينة استمرارهم على ما هو أمارة النِّفاق، ولم يظهر أنه استند في ذلك إلى وحيٍ خاص، لأنه رتَّب العقوبة على ذلك، وهذا أقوى أدلة هذه الطائفة لما فيها من الهمِّ بإيقاع العقوبة على ذلك وتنفيذ الحكم. السادس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بالملاعنة (¬6) بالكذب لقرينة، فقال: "إن جاءت به أسود أعين ذا أليتين، فما أراه إلاَّ صدق عليها، وإن جاءت به أحمرَ ¬
قصيراً كأنه وَحَرَةٌ، فما أراها إلاَّ صدقت" فجاءت به على المكروه من ذلك. رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعدٍ الساعدي الأنصاري (¬1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (¬2) واحتج من العلماء من قال: إن الحاكم يحكم بعلمه، وعلمه هنا بالأمر الباطن لم يستند هنا إلاَّ بالقرائن (¬3). السابع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكى مثل ذلك عمن تقدم من الأنبياء عليهمُ السلام، مثل ما ورد من حديث المرأتين المتنازعتين في الصبي: " وإن داود عليه السلام قضى به (¬4) للكبرى، فتخاصمتا إلى النبي سليمان، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أقسِمُه بينهما نصفين، فرضيت الكبرى بذلك، فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله، هو لها "، فحكم به للصغرى لما ظهر من شفقتها عليه. رواه ... (¬5). الثامن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على رجل من الأنصار أنه مُضَارٌّ في قصة عِذْقِ النخلة الذي امتنع من بيعه من جاره بما يزيدُ عليه في المنفعة، ولا يرغبُ ¬
بعض الصحابة كان يحكم ويجزم بالقرينة الصحيحة الظاهرة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في مثله في العادة. رواه أبو داود (¬1) من حديث سمُرة. وحكم عمر بن الخطاب بنحو ذلك على محمد بن مسلمة مع صلاحه. رواه مالك في " الموطأ " (¬2) وللحكام (¬3) أمثالُ ذلك. التاسع: أن بعض الصحابة قد كان يحكم ويجزم بالقرينة الصحيحة الظاهرة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما كان جابر بن عبد الله يحلف على ابن صيادٍ أنه الدَّجَّال (¬4)، بل قال أُسيد بن حُضير، لسعد بن عبادة: إنك منافقٌ تُجادل عن المنافقين. رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك (¬5). وقال عمر لحاطبٍ مثل ذلك، ورد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكونه من أهل بدرٍ (¬6). وحكم الشيعي المحترق غضباً لله ورسوله حكم هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إن صح أنه أخطأ. وقد تركتُ ما يختص الشيعة بروايته مما لم أعرف له إسناداً، مثل ما يروى عن يزيد من قوله: ليت أشياخي ببدرٍ شَهِدُوا ... جزعَ الخزرجِ مِنْ وقع الأسل (¬7) ¬
العاشر: ما رواه البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحدٌ من القوم (¬1) إلاَّ سجد، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصىً أو تراب، فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد (¬2) قتل كافراً (¬3). وقد روى البخاري (¬4) رحمه الله عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: إن السجود غير واجب، وأقرته الصحابة، وإلى ذلك ذهب الجمهور، فدل ذلك على أن المكروهات والذنوب قد تقع على وجهٍ ينتهي إلى كفر، نعوذ بالله من ذلك. الحادي عشر: النظرُ العقليُّ، وذلك أن أهل المعقولات أجمعوا على (¬5) أن القرائن الضرورية قد يحصل بسببها (¬6) علمٌ ضروريٌّ لا يندفع عن النفس بالشك، ولعلَّ العمل به يتوقف على السمع، وقد يمنع السمع من العمل ببعض العلوم، كما يقول من قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، وذلك مثل ما يعلم صدق من يشكو بعض الآلام بما يظهر عليه من لوازم ذلك، بل قد يعلم صدق الجائع في شكوى الجوع بذلك. وكذلك يعلم صدق الصغير في كثير مما ¬
قول طائفة: يعلم النفاق بالقرائن الضرورية، وذلك مقتضى مذهب المالكية
يشكوه من الأمور (¬1) الباطنة، كما يعلم من البهائم والعجم الباطن في بعض الأحوال من غير شكوى. وعندي: أنَّا نعلم بهذه الطريقة صحة إيمان كثير من الصحابة والتابعين والصالحين، فإنا على يقين من نفي النفاق عنهم علماً ضرورياً، غير قبولِ الظَّاهر، والحمل على السَّلامة المصحوب بالشك عند التشكيك والإصغاء إليه، فإنا نجد قلوبنا جازمة بنفي النفاق عنهم من الإصغاء إلى جانب الشك غاية الإصغاء، وهذا هو الميزان الذي تعرف به العلوم اليقينية من الظنون الغالبة. قالت هذه الطائفة: فكذلك يعلم النِّفاق بالقرائن الضرورية، وذلك مقتضى مذهب المالكية من أهل السنة، فإنهم يستحلون القتل على ما يدلُّ على الاستهانة بالإسلام، ولو كانت دلالةً بعيدةً، كقتل من سبَّ (¬2) صحابياً، أو أحداً من أئمة الإسلام، أو أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال القاضي عياض في آخر كتابه " الشِّفا " (¬3) ما يقتضي ذلك، وحكى أن مشهور مذهب مالكٍ في ذلك الاجتهاد والأدب المُوجِعُ. قال مالك رحمه الله (¬4): من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قُتِلَ، ومن شتم أصحابه أُدِّبَ، وقال أيضاً: من شتم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قال: كانوا على ضلالٍ وكفرٍ، قُتِلََ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس، نُكِّل نكالاً شديداً. ونقل صاحب " العقائد " اختلاف السلف في كُفر الحجاج بن يوسف الثقفي لمثل ذلك، ولكن لم يحضرني. ¬
وفي " الترمذي " (¬1) عن هشام بن حسان أنه أُحصِيَ من قُتِلَ صبراً، فوجدوه مئة ألفٍ وعشرين (¬2) ألفاً، فمن تهاون بشعائر الإسلام، وحُرُماتِه الكبار، وأصرَّ على ذلك من غير ضرورةٍ دلَّ على ذلك، كما فعل يزيد في الاستهانة بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أدخله الدواب، وبالت فيه وراثت في روضته الشريفة، وانقطعت فيه الصلاة أياماً، كما رواه العلامة أبو محمد بن حزم الموصوم بالعصبية لبني أمية، وطلب البيعة على أنهم عبيدٌ له مماليكُ أرقَّاء، وذكر رجلٌ البيعة على كتاب الله، فأمر بضرب رقبته، فضربت رقبته بأمره، وأمر بقتل من لا ضروره إلى قتله ولا حاجة له فيه من بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار في يوم الحرَّة، حتى ما سلم منهم إلاَّ سعيد بن المسيب، وجدوه في المسجد لم يخرج منه، فَشَهِدَ له مروان وغيره أنه مجنونٌ، فَسَلِمَ بسبب شهادتهما، ذكر ذلك كله ابن حزم. قال ابن حزم (¬3): واستُخِفَّ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومُدَّت إليهم الأيدي -يعني قبل (¬4) ذلك-. وفي " صحيح البخاري " (¬5) عن سعيد بن المسيِّب، قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم يبق من أصحاب بدرٍ أحدٌ، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرَّة- فلم يبق من أصحاب الحديبية أحدٌ. وفيها أستؤصل بقية المهاجرين والأنصار الذين لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلاَّ منافق، وهذا هو الذي افتتح به دولته، ثم اختتمها بقتل ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسين بن علي عليه السلام وجميع أهله وأصحابه كما مضى ¬
ذكره، وما سَلِمَ منهم إلاَّ علي بن الحسين لِصِغَرِهِ ومرضه، بل لمَّا قدره الله مِنْ أجله وخُروج الذرية الطاهرة من نسله، وكان قبل ذلك وفي خلاله مدمن خمرٍ متهتكاً (¬1) مجاهراً بذلك، وبذلك أوصى أصحابه، حيث قال في شعره المشهور: أقول لصحبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنَّمُ خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصرَّمُ وقد كان مجاهراً بذلك متمتعاً به، وفي " صحيح البخاري ": " كلُّ أمتي معافى إلاَّ المجاهرين " (¬2). وروى أحمد بن حنبل في " مسنده " (¬3) من حديث ابن عباس: " مدمن الخمر إن مات، لقي الله كعابد وثنٍ ". ورواه العلامة ابن تيمية في " المنتقى "، لكن رواه ابن حبان (¬4) بزيادة، فقال: عن ابن عباسٍ مرفوعاً: " من لقي الله مدمن خمرٍ مستحلاًّ لشربه لقيه كعابد وثن ". فهذه الزيادة تدلُّ على تأويله إن صحت وسلمت من الإعلال، فينظر من زادها وعلى من زيدت ذكرها صاحب " أحكام أحاديث الإلمام " في كتاب الأشربة. وروى النسائي (¬5) عن عثمان بن عفان أنه قال: والله لا يجتمع الإيمان ¬
وإدمان الخمر إلاَّ ليوشك أن يُخرِجَ أحدهما صاحبه. وروى النسائي عن مسروق: من شربها، فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة. ذكر النسائي في تفسير حديث عبد الله بن عمرو عنه، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن من شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " (¬1)، وفي حديث: " لم تُقبل له توبةٌ أربعين يوماً ". (¬2) وقد صح أن ترك الصلاة كفرٌ، رواه مسلمٌ من طريقين من حديث جابرٍ، وأهل السنن كلهم إلاَّ النسائي (¬3). وعن بُريدة نحوه رواه الأربعة كلهم (¬4). وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب: وإن مات شارب الخمر في الأربعين، مات كافراً. رواه النسائي (¬5). وروى النسائي (¬6) إنه "لا تُقبل له توبة أربعين يوماً، فإن تاب، تاب الله عليه ¬
حتى يشربها الرابعة، فإن شَرِبَها بعد الرابعة، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال "، ولم يقل بعدها: فإن تاب تاب الله عليه. ومفهوم الحديث أنه إن تاب في الثلاث المرار الأولة بعد الأربعين، تاب الله عليه، وإن شربها الرابعة، لم يوفق لتوبةٍ، ولذلك (¬1) ورد الأمر بقتله في الرابعة، ذكره غير واحدٍ من الصحابة، ذكر ابن كثيرٍ الشافعي منهم في " إرشاده " سبعة صحابة، وهم: ابن عمر، وابن عمرو، وجابر، وقبيصة بن ذؤيب، ومعاوية، وشرحبيل بن أوس، وعمرو بن الشريد، وكلها عند أحمد إلاَّ حديث قبيصة وجابر، وخرَّج ذلك أحمد وأهل السنن إلاَّ النسائي (¬2). وإنما قيل: إنه نسخ، ومن حقق النظر لم يجد النسخ صحيحاً إلاَّ في وجوب قتلهم، لا في جوازه، لأنهم قالوا في الناسخ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بشاربٍ بعد ذلك قد شَرِبَ في الرابعة، فخلَّى سبيله، رواه أحمد (¬3)، عن الزهري مرسلاً (¬4)، ومرسلات الزهري ضعيفةٌ، لكن رواه أبو داود من حديث الزهري عن قبيصة بن ذويب، وقال: فجلدوه ورفع القتل، وكانت رخصة. رواه أبو داود، وذكره الترمذي بمعناه (¬5)، وقوله: وكانت رخصة: صريح فيما أوردته (¬6)، والحمد لله. ولا شك أن الإدمان ليس بكفر في ظاهر الشرع، ولكن قد يقع مع المدمن ¬
الإدمان على شرب الخمر ليس بكفر، لكن قد يقع منه استهانة وعدم نكارة تسلب الإيمان
استهانة وعدم نكارة تسلب الإيمان لعدم تمكن الاستقباح (¬1) في القلب كما أشار إليه عثمان، وقد ثبت في حديث أبي سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث النهي عن المنكر: " فمن رأى منكم مُنكراً، فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (¬2)، ورواه مسلمٌ (¬3) من حديث ابن مسعودٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك، ولفظه: " ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ ". وخرج الحاكم في " المستدرك " (¬4) على شرط البخاري ومسلمٍ عن أبي موسى مرفوعاً: " من عمل سيئةً فكرِهَها حين يعمل بها، فهو مؤمنٌ " وخرَّج أيضاً عن أبي أُمامة نحوه (¬5). وخرج البخاري ومسلم (¬6) عن عمر في خطبته في الجابية: " من سرَّته حسنَتُه وساءته سيئته، فهو مؤمن ". ولذلك فرَّقت السنة في الوعيد بين شارب الخمر ومُدمنها، وكذلك حبرُ الأمة ابن عباس، فإنه فسَّر اللَّمم بما يُنافي الإصرار، كما ذلك معروف عنه، وأين ¬
ذنوب يزيد إذا نظرت في مجموعها من ذنوب المؤمنين المقرونة بالخوف والرجاء المحفوفة بالاعتراف والكراهة والاستغفار، البريئة من ذلك العلوِّ والتَّكبُّر والجهار، ثم ضُمَّ إلى ذلك أمرين أوضح منه وأقبح، وهما استحلال تلك الدماء المصونة المحرَّمة بالضرورة عن الدين يوم الطَّفِّ ويوم الحرَّة، وما أدراك ما يوم الطَّفِّ ويوم الحرَّة، ثم ما أدراك ما هما، وأين من يعرف حقيقة ما وقع فيهما، وقد جاء في التَّغليظ في القتل ما لا يخفى، وحسبُك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمى سباب المسلم فسوقاً، وقتاله كفراً. متفق على صحته (¬1). فهذا قتاله، فكيف قتله، ولو لم يرِد في ذلك إلاَّ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أعان على قتل مسلمٍ بشطر كلمةٍ، جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله ". رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروى الترمذي من حديث أبي هريرة [وأبي سعيد الخدري]، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دمٍ، لأكبَّهم الله في النار " (¬3). وروى النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لزوال ¬
الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلمٍ" (¬1). وعن المقداد، قلت: يا رسول الله، لو أن رجلاً من الكُفَّار ضربني، ثم قال: أسلمت لله، أقْتُلُهُ؟ قال: " إن قتلته، فإنك بمنزلته قبل أن يقولها ". رواه البخاري ومسلمٌ (¬2). وثانيهما: المجاهرة بما علم أنه من لوازم النِّفاق من بغض أمير المؤمنين علي عليه السلام، ومن كان معه من خِيرَةِ الأصحاب من المهاجرين والأنصار وبُغض ذُرِّيَّته وأهل بيته الذين هم أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب أهل الأرض إليه، وشَجَنَهُ في الدنيا، وعلاقة همِّه، وريحانة نفسه، وخُلاصة من بعده، فكيف إذا وقع ذلك القتل المعظَّم قليله في عامة المسلمين وقوعاً فاحشاً على أقبح الوجوه في هؤلاء الذين هم أحب الخلق إلى الله، فظهرت به المسرة والاغتباط، ووقع الإصرار على ذلك وعدم الندم والاستغفار؟! وقد صح من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من عادى لي وليّاً فقد آذنته بحربٍ " رواه البخاري (¬3). فهذا في مجردِ بُغض وليٍّ منهم واحدٍ، كيف (¬4) ببغض طائفتين عظيمتين من خيار الأولياء، وإخافتهم في حَرَمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصيب الحرب لهم، وسفك دمائهم، والمسرَّة بذلك، والغبطة به، والإصرار عليه؟ وقد ملك كثيرٌ من الظَّلمة أكثر مما ملك (¬5) يزيد، وطالت لهم المدة، ومالوا إلى الدنيا، واستغرقتهم ¬
الشهوات، فلم يحتاجوا إلى انتهاك محارم الإسلام، واصطلاح أهل الفضل والعلم، واستئصال شأفتهم، والتَّشفِّي بقتلهم وإهانتهم، بل عادة فجرة أهل الإسلام تعظيم أهل العلم والصلاح، وحبُّهم لله، ورجاء بركتهم، وطلب الدعاء منهم، والتَّقرُّب إلى الله بتعظيمهم، كما أن عادتهم تعظيم المساجد وسائر الشعائر، ولا سيما الحرمين الشريفين ومن سكنهما أو عاذ بهما (¬1)، ومن ثَمَّ فرَّق علماء السنة بين الظلمة، فأجمعوا بعد ظهور فواحش يزيد والحجاج وأمثالهما على الخروج إن أمكن عليهما وعلى أمثالهما ممن لم يبق فيه خيرٌ، ولا يمكن أن تزيد المضرة في الخروج عليه على المضرة في بقائه كما قدمنا نقل ذلك عنهم، واختلف رأيهم فيمن سوى ذلك من غير تأثيمٍ للخارج عليهم، وما روي عن ابن عمر من الإقرار بالسمع والطاعة ليزيد فلا (¬2) سبيل إلى أنه قاله بعد إحداث يزيد مختاراً غير متَّقٍ، وكيف لا يتَّقي وقد طلب يزيدُ الناس البيعة على أنهم عبيدٌ، وأمر بضرب رقبة من ذكر البيعة على كتاب الله، ولذلك تكلم ابن عمر في ذلك بعدما زالت التَّقيَّةُ، فروى عنه البخاري أن رجلاً سأله عن دم البَعُوض، فسأله: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هما ريحانتاي في الدنيا " وفي رواية: " ريحانتي ". قال ابن دحية: تفرَّد بإخراجه البخاري من طريقين في كتابين: في كتاب المناقب وفي كتاب الأدب (¬3). وفي هذا (¬4) أعظمُ دلالة لابن عمر أنه معتقدٌ لاعتقاد كل مسلمٍ في تقبيح ما جرى إلى الحسين عليه السلام وأصحابه، وإن اتَّقى في بعض الأحوال كما اتَّقى عمارُ بن ياسر من (¬5) المشركين، فقال بكلمة الكفر وقلبه مطمئنٌّ ¬
بالإيمان (¬1)، بل لقد خرَّج البخاري عن ابن عمر أنه ترك الصدع بالحق تقيَّةً في أيام معاوية، دع عنك أيام يزيد، فروى البخاري (¬2) عنه أنه قال: دخلت على حفصة ونوساتها (¬3) تنطف قلت: كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل (¬4) [لي] من الأمر شيءٌ، فقالت: الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقةٌ، فلم تدعهُ حتى ذهب، فلما تفرَّق الناسُ، خطب معاوية، وقال: من كان (¬5) يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليُطْلِعْ لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلاّ أجبته؟ فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول بكلمة تفرق بين الجميع، وتسفك الدم، فذكرت ما أعد الله في الجنان. رواه ابن الأثير في " الجامع " (¬6) في الفتن في حرف الفاء في أمر الحكمين، وخرج عنه ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬7) من طريق سالمٍ أن رجلاً من أهل العراق سأله عن قتلِ محرمٍ بعوضاً، فقال: يا أهل العراق، ما أسألكم عن صغيرةٍ، وأجرأكم على كبيرةٍ، يقتل أحدكم من الناس ما لو كان كعددهم (¬8) سُبُحاتٍ، ¬
لرأيت أنه إسرافٌ، وإنا كنا نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلنا منزلاً، فنام رجلٌ من القوم ففزَّعه رجلٌ، فسمع [ذلك] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " لا يحلُّ لمسلمٍ تفزيعُ مسلمٍ ". ولعل البخاري ما خرَّج هذا (¬1) المعنى عن ابن عمر في مواضع في " صحيحه " إلاَّ لينفي التُّهمة عن ابن عمر بذلك، ومن كان يقدر على الكلام بذلك في ذلك العصر؟ وأحسن من هذا كله في الشهادة لابن عمر بالبراءة من موالاة أعداء أهل البيت عليهم السلام ما رواه إمام التشيع أبو عبد الله الحاكم في كتاب الفتن من " المستدرك " عن مالك بن مِغْوَلٍ، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال لرجل يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير؟ فقال له ابن عمر: مع أي الفريقين قاتلت، فقُتِلْتَ، ففي لظى. قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه (¬2). قلت: فانظر إلى أئمة الحديث من الفريقين، ما أوسع معرفتهم وأكثر إنصافهم! كما أوضحت ذلك في أول هذا الكتاب عند ذكر حديث المتأولين، وظهور قرائن صدقهم، وهذا كله نقيض ما ذكره المشنِّع (¬3) على أهل السنة، من قوله: إنهم يصوِّبون يزيد في قتل الحسين عليه السلام، فالله المستعان. وكذلك فرَّقت الأحاديث بين الظلمة، كما فرَّق بينهم أهل السنة، ففي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما وصف لهم أئمة الجور، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ". رواه مسلم والترمذي وأبو داود من حديث [أم ¬
سلمة] (¬1)، وفي حديث: " ما لم تَرَوْا كُفراً بَوَاحاً " رواه ... (¬2). ولكن القوم كانوا فريقين: أحدهما قَبِلُوا صدقة الله تعالى عليهم في جواز التقية، والأُخر كرهوا الحياة وجِوار الفجرة فتعرَّضوا للشهادة، وإن لم يرجوا غيرها من زوال أولئك الظلمة. وفي " نهاية " ابن الأثير (¬3): أنه عُرِضَ على الحجاج رجلٌ من بني تميمٍ ليقتله، فقال الحجاج: أرى رجلاً لا يُقرُّ اليوم بالكفر، فقال: عن دمي تخدعُني، إني أكفر من حمار -وحمارٌ رجل كان في الزمان الأول، كفر بعد الإيمان، وانتقل إلى عبادة الأوثان فصار مثلاً- فهذا مع أن الحجاج قال لقاتل الحسين: والله لا تجتمع أنت والحسين في دار. كما تقدم، فكيف يقال في أئمة أهل السنة وأهل العلم والعبادة: إنهم يُصوِّبُون من قتل الحسين عليه السلام ويعدُّونه باغياً؟ وهذا عارضٌ، والمقصود أن قتل الحسين وأصحابه وأهل الحرة واستحلال ذلك مما احتج به من كفَّر يزيد، لأن حُرمة هؤلاء في الإسلام كحرمة الزنى، وسائر الفواحش، بل أعظم، فكما أن (¬4) من أظهر استحلال تلك الفواحش يكفُر بلا خلافٍ، فكذلك هذا، وفي هذا أحاديث كثيرة شهيرةٌ منها: ما روى البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " سبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ " (¬5). وروى النسائي (¬6) عن سعد بن أبي وقاصٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه. ¬
وروى البخاري ومسلم والنسائي من حديث جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا ترجِعُوا بعدي كفَّاراً يضرِبُ بعضكم رقاب بعضٍ " قال في حجة الوداع. كذا في " الصحيحين " وغيرهما (¬1). وفي " جامع الأصول " (¬2) في الباب الثاني في أحكام الإيمان والإسلام من أول الكتاب مثل ذلك من حديث ابن عمر في حجة الوداع، رواه البخاري ومسلم (¬3)، وكذلك عن أبي بكرة خرّجاه أيضاً (¬4)، وكذلك عن ابن عباسٍ، خرجه البخاري (¬5)، كلُّهم بهذا اللفظ، وفي هذا التاريخ، وكرَّر عليهم في ذلك قوله: " ألا هل بلَّغت، ألا هل بلَّغت، ألا هل بلَّغت؟ " وأمر الشاهد منهم أن يبلِّغ الغائب، فقال ابن عباس في رواية البخاري فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أُمته. وروى الترمذي (¬6) عن ابن عباسٍ مرفوعاً نحو المسند من غير تاريخ أيضاً، ورواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب أيضاً (¬7)، ورواه النسائي (¬8) من حديث ابن مسعود كلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي " النهاية " (¬9) أن الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية، فثاب ¬
بعضهم إلى بعضٍ بالسيوف، فأنزل الله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه} [آل عمران: 101]. وفيها (¬1) عن ابن مسعودٍ: إذا قال الرجل للرجل: أنت لي عدوٌّ (¬2)، فقد كفر أحدُهما بالإسلام (¬3). وهذا شبيه بما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (¬4). وخرج الحاكم في " المستدرك " عن ابن مسعود، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن رجلين دخلا في الإسلام، فاهتجرا، كان أحدهما خارجاً عن الإسلام حتى يرجع الظالم " وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود (¬5). وهذه أشياء كثيرةٌ قد احتجَّت الظاهرية من أهل السنة بأمثالها مما له تأويلٌ عند غيرهم مع (¬6) اعتقادها بقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه} [الروم: 10] على أحد الاحتمالين وهو (¬7) أشد وعيدٍ على التَّجرِّي على الله، وهو الذي نخافه على المرجئة، فنسأل الله العافية. ¬
فمن عَمِلَ بهذه الظواهر، وإن كان عند أهل السنة أو بعضهم مخطئاً، فلا يصلح منهم (¬1) التحامل عليه، لأنه قد وقع في مثل ذلك كثيرٌ من الصحابة والتابعين، كما قدمنا في قول عمر لحاطبٍ، وأسيد بن حضير لعبادة بن الصامت (¬2)، ونقل ابن دقيق العيد في " شرح العمدة " (¬3) أن من العلماء من كفَّر من قال لأخيه: كافرٌ. ونُقِل عن الحسن البصري أنه قال: صاحب الكبيرة منافق، وإنه طرد ذلك استعظاماً منه أن يُصرَّ على كبيرةٍ، وظنّاً أن التصديق بالجزاء يمنع عن ذلك (¬4) كما يجد في نفسه رضي الله عنه. وإنما منع أهل السنة من القول بذلك أمورٌ كثيرةٌ منها مرجحات ترك التكفير عند احتماله واحتمال سواه، وقد استُوفيت في " إيثار الحق على الخلق " (¬5)، فليطالع فيه، ففيها فوائد مهمة، ولكنها لا تصلح إلاَّ عند الاحتمال، وهو موضع النزاع هنا. ومنها أحاديث النهي عن العُدول عن الظواهر إلى البواطن، كحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بعث عليٌّ وهو باليمن بذُهَيْبَةٍ إلى رسول الله، فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله، اتق الله، فقال: " ويلك، أولستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله "؟ ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضربُ عنقه؟ فقال: " لا، لعله أن يكون يصلي " فقال خالد: وكم مِنْ مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لم أُومر أن أُنقِّبَ على قلوب الناس، ولا أشُقَّ بطونهم " رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل (¬6). ¬
الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة
وعن عُبيد الله (¬1) بن الخيار، عن رجل من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلس يُسَارُّهُ يستأذنه (¬2) في قتل رجلٍ من المنافقين، فجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " أوليس يشهد أن لا إله إلاَّ الله "؟ قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، فقال: " أليس يشهد أن محمداً رسول الله "؟ فقال: بلى، ولا شهادة له، فقال: " أليس يصلي "؟ قال: بلى، ولا صلاة له، فقال: " أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ". رواه أحمد والشافعي في " مسنديهما " (¬3). ولهذا شواهد في " السنة " كثيرةٌ، لا حاجة إلى التطويل ببسطها، وهو قول الإمام أحمد بن عيسى بن زيدٍ عليهما السلام، نصَّ عليه كما سيأتي بيانه، وعَضَّدَ هذا من الأثر أن خوف الخطر من العقوبة، وأن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة (¬4)، وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تمكن من جماعة ممن حاربه في صِفِّين والجمل وغيرهما، فلم يَسِرْ فيهم سيرة الكفار بإجماع النقلة وإجماع العترة والأمة، فدل على أنه لم يعتقد نفاقهم، وأنه لو اعتقد ظاهر الحديث: " أنه لا يبغضه إلاَّ منافق " (¬5)، والنفاق الأكبر فمن حاربه أنه يبغضه. وأنه منافقٌ مُظهرٌ للنفاق الذي هو بغضه عليه السلام، ومظهر النِّفاق يجب أن يُسار فيه سيرة الكفار، لا سيرة البغاة، لقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة: 73]، وقد علم منه المنع من السَّبي وتعظيم عائشة عند القدرة، وكذلك عمار، وكذلك عمل الحسين بن علي في صلحه (¬6) وحديث الثناء عليه بذلك مع صحته وشهرته، إلاَّ أن يقال: البغض لا يعلم من المحارب، وهذا مردود، فإنه أكثر من البغض، وفي الصحيح: "سباب المسلم ¬
فسوقٌ، وقتاله كفرٌ" (¬1)، والسِّباب من أمارات البغض بالاتفاق، والحرب أعظم منه. أو يقال: إن محاربه منافقٌ مستور، لا يجب الحكم بنفاقه، فهذا -على تسليمه- يعود حجةً للخصم، ثم إن أهل البيت قبلوا رواية المتأولين ممن حاربه كالخوارج (¬2)، وادَّعَوُا الإجماع على ذلك، كما ذكره المنصور بالله، وقد تقدم أول الكتاب مبسوطاً، وليس هذا حكم المنافقين، فيمكن أن يكون هو في ذلك العصر، كمُبغضِ الأنصار من المنافقين، ويمكن أن يكون نفاقٌ دون نفاق، كما قد صحَّ كفرٌ دون كفر، وإيمانٌ دون إيمانٍ بالنصوص والاتفاق في بعضها مثل كفر النساء، أي: كفر العشير (¬3)، ويؤيده أنه قد ثبت أن من كان إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، فهو منافقٌ كامل النِّفاق (¬4)، ومع ذلك (¬5) لم يحكم له بالنِّفاق الأكبر، مع تأكيد نفاقه بالكمال، ويوضحه (¬6) أنه نفاقٌ يتجزّأ، والنِّفاق الأكبر لا يتجزّأ، ويوجب التأويل مع ذلك من العقل أنا نعلم من القرائن الضرورية أن الخوارج ما كانوا بأجمعهم يُضمرون تكذيبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيب المعاد وصحة الشِّرك ونحو ذلك، ويقوِّيه أنه قد ثبت تأويل صدر (¬7) الحديث الأول، وهو أنه لا يحبه إلاَّ مؤمن، فإن الذين عبدوه وأشركوا بالله في ذلك كانوا يحبونه بالضرورة، وقد كفَّرهم وحرَّقهم بالنار، وكذلك من يحبه من الكفرة كالباطنية. فإن قيل لعله يختم لهم بخير. قلنا: ليس الكافر يُسمى مؤمناً إذا كان يُختَمُ له بخير، والذين قتلهم عليٌّ عليه السلام وحرَّقهم على عبادته لم يُختم لهم بخيرٍ، وليس تأويل الحديث ¬
بأبعد (¬1) من ارتكاب القطع بأن ملاحدة الباطنية يُختم لجميعهم بالخير، أو ينكر المعلوم مِنْ تعظيمهم له وحبِّهم، والقرائن شاهدةٌ بذلك، والحكم للظاهر، فهذه أدلة أهل السنة أو بعضها من الأثر. قالوا: وما المانع من تأويل علي ما يوافق تعظيمه عليه السلام وسائر أفعاله، وقد وجب تأويل كثيرٍ من كتاب الله وسنة رسوله فإجماع العترة والأربعة مع الإنصاف، وتعظيمه عليه السلام، وعدم الميل والجَنَفِ، ومراقبة الله في ذلك كله. وبعد ذلك من النظر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤيد بالعصمة فيما حكم به على بعض من تقدم من النفاق ونحوه، وإن لم يُسند ذلك إلى الوحي، فلا شك أنه معصومٌ فيما فعله، وإن استند إلى الاجتهاد، وعند الفريق الأول أن امتناعه من إجراء أحكام المنافقين في حديث أبي سعيدٍ ونحوه إنما هو لمصالح ظاهرةٍ، كقوله في الملاعنة: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (¬2)، وقالوا: ليس ذلك بنافع لهم، كما أنه صلى - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي بن سلولٍ لمصلحةٍ، واستغفر له، وإن لم يكن ذلك نافعاً له (¬3). ومن أحسن ما احتج به أهلُ السنة في كراهة سبِّ الفجرة، مع اعتقاد فجورهم، أحاديث النهي عن سبِّ الموتى، فإنهم قد أفضوا إلى ما عملوا (¬4)، لأنها خاصة، لم تُعارَضْ إلاَّ بالعمومات، ولكن معناها في أهل الفجور، وإن سلّم أنها تعمُّ أنهم قد وقعوا في اللعنة والعذاب، فلا معنى لسؤال ذلك، لأنه بمنزلة تحصيل الحاصل، فكان كقول القائل: وهذا دعاء لو سكتُّ كُفيتُه ... لأنِّي سألتُ الله ما هو فاعلُ ¬
فعلى العالم بأحوالهم أن يعتقد أن سكوته عن لعنهم لهذه العلَّة، لا لأجل الحرمة، ولكن لما وقعوا في المطلوب باللعن لم نطلب الحاصل، الذي اللَّعن وسيلةٌ إليه، كما أنهم لا يقاتلون بعد موتهم، لأنَّ القتال دفعٌ لشرورهم، وقد بطلت، وبقي في اللعن لهم مفاسد في بعض الأزمان والأحوال خالية عن المصالح، وهي أذى الأحياء، كما أشارت إليه الأحاديث أو غير ذلك. والقصد بالتطويل في هذا الإصلاح بين الفريقين: الشيعة والسنة، الذين قد اتفقوا على قبح أفعال هؤلاء الفجرة، فإنها قد تقع بينهم عصبيةٌ قبيحةٌ من غير موجبٍ أو بين بعضهم. والمراد أن الشيعي يحمل من خالفه في الولع بالسَّبِّ الكثير لهؤلاء على ما يحمل عليه إبراهيم الخليل، حيث جادل عن قوم لوطٍ الذين لا أخبث منهم مع الكفر العظيبم، وتكذيب الرسل، فما منع ذلك الخليل من الجدال عنهم، حِلماً ورحمةً ورقةً (¬1) وسعة رجاءٍ في عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى، لا محبة (¬2) لما هم عليه من الخبائث، ولذلك مدحه الله على ذلك بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيب} [هود: 75]، وعلى ما يحمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على ابن أبي بن سلول واستغفاره له، ويحمل السُّنِّي الشِّيعي حين يرى ولعه بسبِّهم (¬3) على أنه غضب لله، وحمله على ذلك البغض في الله الذي هو من الإيمان، كما بوَّب عليه البخاري في كتاب الإيمان من " الصحيح " (¬4). وعلى ذلك دعا نوحٌ على قومه، فقال: {ولا تَزِدِ الظالمين إلاَّ ضَلالا} [نوح: 24]، وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، إلى قوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 26 - 28]، وعلى ما حملوا عليه عمر بن الخطاب في قوله لحاطبٍ ¬
وأسيد بن حضير في قوله لسعد بن عبادة، والحسن البصري في قوله بنفاق صاحب الكبيرة. ولاختلاف المسلمين والصالحين (¬1) في هذه الطبيعة أثرٌ عظيمٌ مرجِّحٌ لمن غلب عليه ما وافق طبع صاحبه من الأدلة وصاحبه لا يشعر بأنه المرجح لذلك، ومن هنا اختلف الحسن بن علي عليهما السلام وأصحابه أو أكثرهم في استحسان صُلْحِهِ لمعاوية، حتى دعوه -حاشاه- مسوِّدَ وجوه المسلمين، ومُذِلَّ رقاب المؤمنين، كما هو معروفٌ في كتب التاريخ، ومن هنا كره كثيرٌ من الصحابة صُلح الحديبية، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -على جلالته-: ما شككت في الإسلام إلاَّ يومئذ (¬2). ثبت ذلك عنه في " الصحيح ". فليحذر العارف مثل ذلك أعني أن يظن ما ثبث في قلبه من قوة الأمن ¬
المقارنة بين حرب علي لخصومه وصلح الحسن لهم
شريعة، وإنما هو طبيعة، ومِنْ أعجبِه وأوضحِه قضيَّة موسى والخضر، ولاختلاف الناس في ذلك قال علي عليه السلام: لا تحدثوا الناس بما لا تحتمله عقولهم، أتحبُّون أن يكذب الله ورسوله؟! رواه البخاري (¬1). ولا آمَنُ أن يكون في كتابي هذا شيء من هذا بالنسبة إلى بعض الناس، فالله المستعان. وفي حديث عبد الله بن مسعود وقد حكى اختلاف الصحابة في يوم بدرٍ فيما يصنع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لَيُلِينَ قلوب رجالٍ فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليُشَدِّدُ قلوب رجالٍ فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: {وَمَنْ عَصَانِي فإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 26]، وكمثل عيسى قال: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزير الحكيم} [المائدة: 118]، وإن مَثَلَكَ يا عمر كمثل نوحٍ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وكمثل موسى قال: {ربنا اطمس على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم} ... الآية إلى: {العذاب الأليم} [يونس: 88]، وهو من حديث ولده أبي عُبيدة رواه أحمد (¬2)، وهو الحديث العشرون من " جامع المسانيد ". وكذلك حربُ علي وصلح الحسن عليهما السلام وعلي أفضل من الحسن (¬3) بالإجماع، وقد صح الخبر بالثناء على فعل الحسن بالسِّيادة في فعله، وقد سُئِلْتُ عنه، فوقع لي -والله أعلم- أنه يحتمل أن فعل كل واحدٍ منهما ¬
كان هو الأولى بالنظر إلى زمانه، ومراد الله تعالى في عقوبة من عاقبه بذلك أو رحمه، على أنها لا تخلو العقوبة من الرحمة، كالحدود، كما تقدم في الحدود عن علي عليه السلام وعن عبادة، وكذلك قد اختلف طرائق السلف ومن بعدهم، خرَّج أبو داود في ذلك حديث عمرو بن أبي قرة، قال: كان حذيفة بالمدائن، وكان يذكر أشياء قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق أناس ممن سمع (¬1) ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان، فيذكرون له ذلك، فيقول: حذيفة أعلم بما يقول، وأتى حذيفة سلمان، فقال: ما يمنعك أن تصدقني؟ فقال سلمان: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى، فيقول في الرضا لناسٍ من أصحابه، ثم قال لحذيفة: أما تنتهي حتى توقع اختلافاً وفُرقةً، ولقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال: " أيُّما رجل من أُمتي سببته سبةً أو لعنته لعنةً في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة ". والله لتنتهينَّ أو لأكتُبَنَّ إلى عمر. رواه أبو داود وخرجه ابن الأثير في " الفتن " (¬2)، ورجاله ثقات، رواه في السنة (¬3)، عن أحمد بن يونس، عن زائدة بن قدامة الثقفي، عن عمر بن قيسٍ بن الماصر، عن عمرو بن أبي قرة، عن سلمان -واسم أبي قرة سلمة- (¬4). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّما رجلٍ من أمتي سببته ... " .. إلى آخر الحديث شواهد كثيرةٌ عن أبي هريرة وجابرٍ وأنسٍ وعائشة وقد تقدم الكلام عليها (¬5). وهذا كالتفسير لما رواه ضمرة بن حبيبٍ، عن زيد بن ثابتٍ، عن رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث طويل: " اللهم ما صليتُ من صلاة فعلى من صلَّيتُ، وما لعنت من لعنةٍ، فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفَّني مسلماً وألحقني بالصَّالحين ". رواه أحمد والحاكم في " المستدرك " (¬1). والمراد أن لا يتيع كل أحدٍ عورة أخيه ويحمله على شرِّ المحامل، فإن هذا هو الذي أفسد الدين والدنيا، فالله المستعان. وإنما يجب منهم الجميع التأثيم لمن حسَّن ما فعله يزيد (¬2) وأمثاله ورضي بذلك، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أنكر فعله بقلبه، فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع " (¬3). فأمَّا حين أجمعوا على فجور يزيد وفُسوقه وخروجه عن ولاية الله إلى عداوته، وإنما اختلف اختيارهم (¬4) في الاستكثار (¬5) من لعنه لغرضٍ صحيحٍ، فإنه صار مثل إجماعهم على أن الصلاة خير موضوعٍ وإنِ اختلفوا في الاستكثار (5) منها، فهذا شيءٌ لا يصلح أن يُفرِّق الكلمة، وقد نهى الله سبحانه عن التفرق في كتابه الكريم، فوجب بذل الجهد والتَّوسُّل إلى عدمه بكلِّ ¬
من كان مؤمنا على الاطلاق لا يجوز لعنه ولا قتله ولا إهانته ولا أذاه
ممكنٍ، ولذلك صنَّف محمد بن منصورٍ الكوفي في ذلك كتاب " الجملة والأُلفة "، ونقل فيه من أقاويل أهل (¬1) البيت عليهم السلام ما يكفي ويشفي، كما قررته في هذا الكتاب في مسألة القرآن من الكلام على مذهب أهل السنة في الصفات وسائر الاعتقاد (¬2). فتقرر بما ذكرنا عن الفريقين أن يزيد لا يُطلق عليه اسم الإيمان الشريف من غير تقييدٍ عند أحدٍ من الفريقين، ولا يدخل فيما يختصُّ به أهل الإيمان على سبيل التشريف لهم من التَّرحُّم والاستغفار الذي خُتِمَت به الصلاة، ويؤيد ذلك قولُه تعالى في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {ويؤمِنُ للمؤمنين} [التوبة: 61]. أي: يُصدِّقهم، ويقبل روايتهم، وهذا يفيدُ توثيقهم وعدالتهم، ويزيد مجروح العدالة إجماعاً أما عند (¬3) الشيعة والمعتزلة فظاهرٌ، وأما عند أهل الحديث، فنصَّ على ذلك أئمتهم، كالشافعي ومالكٍ وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة كما قدمنا إسناد ذلك عنهم إلى العلامة الفقيه المحدِّث علي بن محمد الملقب عماد الدين كما أورده ابن خلِّكان في " تاريخه " المشهور في ترجمته، وكذلك ذكر ما يقتضي ذلك المتأخِّرون منهم، كالخطابي وأبي محمد بن حزم وابن دِحية، ونص عليه الذهبي الشافعي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " الذي هو عمدتهم اليوم في نقد الرِّجال. ومما يدلُّ على ذلك أن من كان مؤمناً على الإطلاق، لم يَجُزْ لعنه ولا قتله ولا إهانته ولا أذاه، وأهل الفسوق والكبائر يجوز على بعضهم جميع ذلك، ويجوز على بعضهم بعض ذلك وقد تقدم دليل (¬4) جواز لعنهم وبقية هذه الأحكام تجوز عليهم في بعض المواضع بالإجماع، فلا حاجة إلى التطويل بذكر الحجة (¬5) على ذلك. ¬
الوجه الثاني: إن دخول يزيد في عموم قوله تعالى: {ألا لَعْنَةُ الله على الظالمين} [هود: 18] وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله من أحدث حدثاً ومن آوى محدثاً " (¬1). وفيما رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله المتسلِّطَ بالجبروت ليُعِزَّ من أذل الله ويذلَّ من أعز الله، لعن الله المستحل ما حرَّم الله من عترتي " (¬2) أقرب من دخوله في قول المصلين: اللهم اغفر للمؤمنين أو مساوٍ له، فكيف يجوز القطع بخروجه عن لعن الظالمين ودخوله في الاستغفار للمؤمنين؟ فما أبعدها لمن تأمل غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من عصى الله تعالى دون معاصي يزيد مثل غضبه على من وسم وجه الحمار حتَّى لعنه، ولعن الواشِمَة والنَّامِصَةَ، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون، ومن آوى محدثاً ونحوهم. الوجه الثالث: أن الدعاء المشروع في الصلوات يحتمل أنه دعاء تشريفٍ وتعظيم، وهو نظير الدُّعاء للخلفاء الراشدين على المنابر، والفاسق لا يستحق ذلك، فكما أنه لا يحسُن ذكر الجبابرة من سُفَّاك دماء المسلمين مع الخلفاء الراشدين بالترحم والاستغفار، فكذلك لا يحسُنُ ذكر الفُجَّار والفُسَّاق بذلك في الصلاة عقيب ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر آله وأزواجه وذرياته وإبراهيم خليله وآله صلوات الله عليهم أجمعين. وقد ذكر الفقهاء هذا في كراهة الصلاة والسلام على غير الأنبياء من المؤمنين كما ذكر النووي في " الأذكار " (¬3). وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر إلى وحشي قاتل عمه حمزة بعد إسلام وحشي، وقال له: " إن استطعتَ أن لا أراك " (¬4)، فهذا في حقِّ التائب من قتل عمِّه، كيف المصر على قتل ولده؟ فإن قلت: ويحتمل أنه دعاءُ رحمةٍ لعصاة المسلمين وشفاعةٍ وإغاثةٍ. ¬
قلت: مع احتمال الوجهين، يمتنع القطع بتعيُّنِ أحدهما دون الآخر فيمتنع القطع بإرادة يزيد وجميع النواصب والروافض وأمثالهم وقصدهم شرع ذلك، والله أعلم، بل في " الصحيح " ما يدل على أنه دعاء تشريفٍ، وذلك ما ثبت في حديث ابن مسعودٍ المتفق على صحته، وفيه: وذكر عند قوله وعلى عباد الله الصالحين: فإنكم إذا فعلتم ذلك، فقد سلَّمتم على كل عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض " (¬1)، فاختياره في التَّشهُّد لتعيين الصالحين بالذكر ونصه عليهم بوصفهم المميِّز لهم عمَّن هو أحوج منهم إلى ذلك من المذنبين من أهلِ الإسلام، دليلٌ إلى ذلك. ويشبهُه قول الملائكة عليهم السلام مما (¬2) حكى الله عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} الآية [غافر: 7]. فإن قلت: الاستغفار لأهل المعاصي من المسلمين جائزٌ عند أهل السنة، فَلِمَ منعت من دخول أهل المعاصي في قول المصلي؟ قلت: لما بينته من تجويز أنه موضع تشريفٍ وتعظيمٍ للمذكور فيه مقروناً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذريته، فلا يقطع أن يكون هذا المشرَّف المعظَّم هو المُحْدِثُ الذي لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " لعن الله من أحدث حدثاً " وأمثاله مما مضى ذكره، وأما الاستغفار للعُصاة على غير هذا الوجه، فيجوز عند أهل الحديث والفقهاء، ولا يجوز عند بعض الشيعة والمعتزلة. وذكر الحجج في المسألة مما لم تَعرِض إليه حاجةٌ هنا، ويوضِّح ذلك ما رواه مسلم وأبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه في قصة رجم ماعزٍ لما أقرَّ بالزِّنى فِراراً من غضب الله، وطلباً لمرضاته ببذل الرُّوح، وفي الحديث ¬
مع هذه التوبة العظيمة، فما استغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سبَّه. هذه رواية مسلم، وفي رواية لأبي داود: ذهبوا يسبُّونه، فنهاهم، قال: ذهبوا يستغفرون له فنهاهم، قال: " هو رجلٌ أصاب حسيبُه الله " (¬1). فانظر كيف نهى عن الاستغفار لهذا الرجل مع بذله روحه لصدق توبته، كل هذا لزجر الخلق عن المعاصي، ولذلك خرَّج مسلم في هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد رجمه، وقال في خطبته: " أو كُلَّما انطلقنا غُزاةً في سبيل الله تخلَّف رجلٌ في عيالنا له نبيبٌ كنبيب التَّيس؟ ألا لا أُوتى برجُلٍ فعل ذلك إلا نَكَّلْتُ به " فكيف يقال بعد هذا: إنه في صلاته مشغولٌ بالاستغفار للمُصِرِّين على الفواحش؟ وهذا إغراءٌ لأهل الفواحش وتأنيسٌ لهم، وهو يناقض ما وردت به الشرائع من قطع الذرائع إلى الفساد والله أعلم. وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترك الصلاة على من عليه دينٌ، ولم يترك له قضاء، وذلك (¬2) لما في الصلاة عليه من الاستغفار له والإيناس، هذا مع أنه أخذ مال الغير برضاه، فكيف بدماء المسلمين ونفوسهم عمداً وعبثاً وجُرأةً؟ وأحاديث الدَّيْنِ صحيحةٌ شهيرةٌ، منها: عن أبي هريرة وخرجاه والترمذي والنسائي (¬3). وعن سلمة بن الأكوع عند البخاري والنسائي (¬4)، وعن أبي قتادة عند الترمذي والنسائي (¬5). ¬
وكذلك حديث الثلاثة المخلَّفين، وهو متفق عليه (¬1) وهذا كلُّه لما في التخويف قبل الموت وخطوره من المصلحة، وأما ما خرَّجه البخاري من حديث أبي هريرة، والنسائي وأحمد من حديث عمران بن حذيفة عن ميمونة (¬2)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أخذ أموال الناس يريد قضاءها، أدَّى الله عنه " (¬3). وزادت ميمونة " في الدنيا والآخرة، ومات على ذلك ". وأما ما خرج مسلم وأبو داود من حديث بريدة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالصلاة على العامرية، وقال: " لقد تابت توبة لو تابها صاحِبُ مَكْسٍ، لغُفِرَ له " (¬4). وكذلك أخرج مسلم وأبو داود حديث بريدة أنه - صلى الله عليه وسلم - جلس بعد يومين أو ثلاثة، فقال: " استغفروا لماعزٍ، لقد تاب توبةً لو قسمت بين أُمتي لوسِعَتْهُم " (¬5). فهذا حجة لما ذكرت (¬6) أنه استغفارٌ شريفٌ، لأن التائب المخلص مغفورٌ له فصحَّ أنه لا يُستحبُّ الاستغفار لأهل الإصرار المغصوب عليهم، خصوصاً ظلمة المسلمين وقاتلي الصالحين. الوجه الرابع: أنهم لو كانوا داخلين في ذلك العموم، لَحَسُن ذكرُهم بالنَّصِّ على أسمائهم وأوصافهم، إمَّا في الصلاة، أو عقيب كل صلاةٍ، وكان يلزم أو يُستحبُّ للإنسان أن يترحَّم ويُرَضِّي في كل صلاةٍ أو عقيب كلِّ صلاة على قاتل عمر وقاتل عثمان وعلى من لعن أبا بكر وعمر من الروافض، وعلى جميع سَفَلَةِ ¬
لا يجوز لعن والدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
العُصاةِ من الفاعلين والمفعول بهم المتشبهين (¬1) بالنساء الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويَقْرُنَهُمْ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُسميهم بأوصافهم الخبيثة، ويذكرهم في الصلوات والخطب والمجامع الشريفة، فيقول القائل في الصلاة أو خطيب (¬2) الجمعة: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعلى من قال لا إله إلاَّ الله ممن أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً أو غيَّر منار الأرض، أو لعن والديه، أو تشبَّه بالنساء، وأُتي كما تُؤتى النِّساء، أو قتل وليّاً لك، أو انتهك محارمك، وتعدَّى حُدودَك، وضيَّع عُهودك، ويستمرُّ على ذلك وعلى التَّرحُّم على من سبَّ (¬3) الصديق والفاروق رضي الله عنهما، والمعلوم أن ذلك قبيحٌ، لأنهم ليسوا أهلاً لاستحقاق ذلك، ولِما يؤدِّي إليه من التُّهمة بالرفض، فكذلك الترحم على قاتلِ عليٍّ عليه السلام، وقاتل الحسين وسابِّهما قبيح لمثل ذلك. الوجه الخامس: أنه لا يجوز أن يلعن والدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد كلِّ صلاةٍ، ولا كل خُطبة، ولا في بعض الأحوال، لما في ذلك من سُوء الأدب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لا يجوز أن يُؤذي مؤمنٌ بمثل ذلك في والديه، وإن علم موتهما كافرين، لأن أذيَّة المؤمن حرامٌ، فكذلك لا يجوزُ أن يؤذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته ومحبُّوهم (¬4) من صالحي المؤمنين بالترحم على يزيد، وإن فرضنا أن الترحم على الفُسَّاق جائزٌ، ولو أن بعض الجبارين قتل ولدَ بعض المومنين عدواناً، وكان الترحم على القاتل يؤذي ذلك المؤمن لَحَرُمَ أذاه بذلك، فتأمل ذلك. وحاصله أن المُباح قد يقبح لما يقترن به من المفاسد، ولذلك قال الله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، ومعناهما واحد، وأمثالُ ذلك كثيرةٌ، فهذا في حقِّ من يستبيحُ ذلك، فكيف بذلك في حقِّ مَنْ لا يستبيحه؟ ¬
الوجه السادس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان حياً، لعظُم حزنُه على ولده (¬1) الحسين عليه السلام، كما عَظُمَ حزنه على عمه الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فكره النظر إلى وجه قاتله بعد إسلامه من بين سائر من أسلم من الكفار، وقال: " لكنَّ الحمزة لا بَواكِيَ له "، فبكته نساء الأنصار (¬2)، بل الشفقة على الولد أعظم، والقلب له أرق وأرحم، والمعلوم أنه لو حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكان العزاء في الحسين عليه السلام إليه، فانظر أيها المنصف: هل يحسن من المُعزِّي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتغل بالترحم والاستغفار لقاتل الحسين مواجهاً بذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن كان يستحسن هذا في الأدب أو الشرع أو العقل، فليس من المميزين، ومن كان يستقبح ذلك، فليتأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كما يتأدب معه في حياته، ويتصوَّر أنه في حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحضرة يزيد الخبيث، ورأس الحسين مقوَّرٌ مشوَّهٌ منصوبٌ على عُودٍ، ويزيد يضحك ويستبشر، فكيف يستطيع مسلم في هذه (¬3) الحال أن يواجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالترحم والترضية على يزيد، وهي حالة غضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجهين: أحدهما: لِمَا فيها من عظم عصيان الله بقتل سيد شباب أهل ولايته في جنته. وثانيهما: لما فيها من الاستهانة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتعدِّي على ولده وريحانته، فكيف يقول بعد هذا: إنه يُستحب أن يقرن في كلِّ صلاه بين ذكرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر ذريته الذين أوجب الله وُدَّهُم، وذكر أعدى عدو لله ورسوله، قاتل سلفه، وسلف سلفه، وثالم أمر أُمته بعد استقامته بنصِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ¬
ولقد توجَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يزيد قبل وجوده، وتأوَّه مِنْ قتلِه لِسلفِه كما ورد في الحديث (¬1). رحم الله مسلماً غَضِبَ لغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاركه في حزنه على ولده، ولَزِمَ الأدب بترك الترحم على عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الكلام انسحب على سبب ذكر مذاهب أهل الحديث في خلافة الجائر، وأنهم يقولون بجواز الخروج على مثل يزيد والحجاج، وإنما اختلفوا في الخروج على من تكون المفسدة في الخروج عليه أعظم من الفساد في ظلمه. والكلام في يزيد في هذه المسألة لا يحتمل التطويل في أكثر الأزمان والبلدان، ولكن احتجت إليه في زماني ومكاني، ولن يخلو من فائدة إن شاء الله تعالى (¬2)، وبهذا تم الكلام في الفصل الثاني. وقال الذهبي في " النبلاء " (¬3) في ترجمة زيد بن علي عليه السلام: خرج متأوِّلاً، وقتل شهيداً رحمه الله (¬4). ¬
وقال في كتابه " الكاشف " (¬1): إن زيداً استشهد. فنص على (¬2) أنه شهيد، ولو كان باغياً عنده، لم يكن شهيداً، ويدلُّ على هذا أن الذهبي لم يذكره في " الميزان "، وقد شرط أن يذكر فيه كل من تكلَّم فيه ممَّن له روايةٌ بحقٍّ أو باطلٍ، لئلاَّ يُستدرك على كتابه (¬3). قال (¬4): وما يضرُّ الثقات حكاية ما قيل فيهم، قال: وقد بني الكلام فيه على ترك المراهنة فلم يذكر فيه زيد بن علي مع أنه من رجال الترمذي وأبي داود وابن ماجه على أنه قلّ من يتكلم فيه بباطل حتى إنه ذكر أُويساً (¬5) القرني والثوري والصادق وأبا حنيفة (¬6) وابن معين وأمثالهم، وذكر ما قدح به فيهم، ولم يذكر زيداً ألبتة، وذكره بالتوثيق في كتاب " التذهيب " (¬7) في رجال الكتب الستة، وكذلك شيخه المزي (¬8) ذكر توثيقه، ولم يذكر فيه قدحاً. ¬
وقال الذهبي في " الميزان " (¬1) في ترجمة زياد بن أبيه قال ابن حبان في " الضعفاء " (¬2): ظاهر (¬3) أحواله المعصية، وقد أجمع أهل العلم على تركِ الاحتجاج بمن كان كذلك. وفي " الحدائق " (¬4) في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن: أن قوماً جاؤوا على شُعبة، فسألوه عنه، فقال شعبة: يسألون عن إبراهيم ومن القيام معه لهو عندي بدر الصغرى، وروينا عنه رحمه الله أنه لما بلغه قتله، قال: لقد بكى أهل السماء على إبراهيم بن عبد الله عليه السلام، إن كان مِنَ الدِّين لبمكان. انتهى بحروفه. وحُكِيَ عن أبي حنيفة أن غزوة معه بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة. وقال الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مروان من " الميزان " (¬5): أنَّى له العدالة وقد سفك الدماء، وفعل الأفاعيل. وذكر الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (¬6) في الطبقة الخامسة في مناقب ابن أبي ذئب، واسمه محمد بن عبد الرحمن أحد فقهاء المدينة، قال أحمد: هو أورعُ وأقومُ بالحق من مالك، دخل على المنصور فلم يمهله أن قال له الحق، وقال: الظلم ببابك فاشٍ، وأبو جعفر أبو جعفر! ¬
قال أبو نعيم: حججتُ عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي ذئب ومالك، فدعا ابن أبي ذئبٍ، فأقعده معه على دارِ النَّدوة، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد -يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب- فقال: إنه ليتحرَّى العدل، فقال: ما تقول فيَّ؟ وأعاد عليه، فقال: وربِّ هذه البينة إنك لجائر. قال: فأخذ الربيع بلحيته فقال [له أبو جعفر]: يا ابن اللّخناء، كفَّ، وأمر له بثلاث مئة دينار. ودخل المهدي مسجد المدينة وهو فيه، فلم يَقُمْ له، فقيل له، فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال المهدي: دعوه، فقد قامت كل شعرة في (¬1) رأسي. وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬2): باب فتنة الوليد، ورُوِيَ عن عمر بن الخطاب، قال: وُلِدَ لأخي أُمِّ سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامٌ، فسمَّوه الوليد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سمَّيتُموه بأسماء فراعنتهم، لَيَكُونَنَّ في هذه الأمة رجلٌ يقال له: الوليد، لهو أشرُّ على هذه الأُمة من فرعون لقومه " رواه أحمد بن حنبل في " مسنده "، وقال الهيثمي الشافعي: رجاله ثقات (¬3). ¬
الفصل الثالث: إن السيد جهل موضع الخلاف بيننا وبين الفقهاء في هذه المسألة (يعني مسألة الإمامة)
الفصل الثالث إن السيد جَهِلَ موضع الخلاف بيننا وبين الفقهاء في هذه المسألة، فإن الفقهاء لم يخالفوا الزيدية في شروط الإمامة كلها إلاَّ في النسب، فمذهبهم فيه كمذهب المعتزلة، وإنما خالفوا في مسألةٍ ثانيةٍ تَعَلَّقُ بالنظر في المصالح بعد التسليم لتحريم نصب الفاسق إماماً، والقول بأنَّه إذا تغلَّب وصار إماماً بالسيف، فإنه عاصٍ لله تعالى، وغير خافٍ على من له أدنى تمييزٍ أن من أحلَّ شيئاً للضرورة، دلَّ اشتراطه الضرورة في جوازه على أنه حرامٌ عنده، ألاَّ ترى أن الجميع يُجيزون أكل الميتة عند الضرورة، بل كلمة الكفر، وليس في ذلك ما يُسَوِّغُ نسبة جواز الكفر وأكل الحرام إلى جميع أهل الإسلام، وقد قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} [الأنعام: 119]-أي: فلم يحرِّمه- فالفقهاء جَرَوْا على القياس في القول بإمامة الجائر عند الضرورة، وفي ذلك أعظم دلالة على تحريم إمامة الجائر عندهم، وأنا أذكرُ نصوصهم في شروط الإمامة، ثم أذكر محل الخلاف. أمَّا نصوصهم على الشروط، فقال ابن عبد البر في " التمهيد " (¬1) ما لفظه: وقد أجمع العلماء على أن الإمام يجب أن يكون أفضل أهلِ وقته حالاً، وأكملهم خِصالاً، إلى آخر كلامه في ذلك، ذكره في الكلام على حديث مالك عن (¬2) عبد ربه بن سعيد، عن عمرو بن شعيب (¬3)، وذكره صاحب " التَّنضيد " في باب الغلول. ¬
وقال النواوي في " الروضة " (¬1) ما لفظه: شروط الإمامة أن يكون الإمامُ مكلَّفاً، مسلماً، عدلاً، حُرَّاً، ذكراً، عالماً، مجتهداً، شُجاعاً، ذا رأي وكفايةٍ، سميعاً بصيراً، ناطقاً قُرشيّاً، ومثله نصَّ عليه العمراني في " البيان " (¬2)، بل قال النواوي في " الروضة " (¬3) في كتاب الزكاة: يشترط في الساعي كونه مكلفاً، مسلماً، عدلاً، حراً، فقيهاً بأبواب الزكاة، إلى آخر كلامه في ذلك. وقال القاضي عياض: لا تنعقِدُ الإمامة لفاسقٍ ابتداءٌ، حكاه عن القاضي عياض النفيس العلوي (¬4). وهذا كما ترى في تحريم إمامة الفاسق، ولا أعلم أحداً من الفقهاء جوَّز الرضا بها، ولا رخَّص في الاختيار لها، وكل من طالع كتبهم الكبار بِحُسْنِ معرفةٍ وذكاءٍ وإنصافٍ، عرف ذلك، وقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي لدين الله إبراهيم بن تاج الدِّين أحمد بن بدر الدِّين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليهم السلام (¬5)، في دعوته إلى الملك المظفّر، وفيها ما لفظه: هذا والجهابذة مِنْ أتباع الحبر العلاّمة محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقولون: إنه لا بُدَّ في الأُمَّة مِنْ قائمٍ بأمر الإسلام من حقِّه بعد المنصب أن يكون جامعاً للفضائل، منزّهاً عن الرذائل. انتهى كلامه عليه السلام، وهو أعدلُ شاهدٍ لهم، وأصدق مخبرٍ عنهم، لا سيَّما وقد صدر به إليهم، واحتجَّ به ¬
عليهم، فليس يروي عنهم مذهباً لهم، ويرسلُ به إليهم، وليس بصحيحٍ عنهم لِمَا في ذلك من التعرض (¬1) للتكذيب، والبغض في العاجلة والآجلة (¬2) وهذا واضحٌ ولله الحمدُ. وأما بيان موضع الخلاف، فاعلم أن الفقهاء إنما تكلموا في موضعين: الموضع الأول: قال الفقهاء (¬3): إذا تغلَّب الظالم، وغلب على الظن أن الإنكار يُؤدِّي إلى منكر أكبر مِنَ الذي أُنكِرَ عليه، لم يحلَّ الإنكار عليه، فلهذا منعوا من الخُروج على كثيرٍ من الظلمة لأجل ذلك، وهذا مما لا ينبغي أن يكون خلافُ إجماع العترة عليهم السلام، بل هذا هو المنصوص في كتبنا، وقد أشار المؤيد بالله في " الزيادات " إلى اختلاف أهل البيت في الخروج على الظلمة، فقال في مسائل الاجتهاد: وكذلك خروج الأئمة مثل زيد بن علي عليه السلام، كان رأيه أن الخروج أولى، وكان جعفر بن محمدٍ عليه السلام رأيه بخلاف ذلك، حتَّى كتب إليه بترك الخروج، ورأي الحسن بن علي تركه (¬4)، ورأي الحسين بن علي خلافه (¬5). انتهى بحروفه. وهو يدلُّ على أنها اجتهاديةٌ عنده، ولذلك ذكرها في مسائل الاجتهاد، وعطفها عليها. وفي " الجامع الكافي " في مذاهب الزيدية، قال محمد بن منصور: قلت لأحمد بن عيسى عليه السلام: إذا فعل الإمام معصيةً كبيرةً، تزول عنه إمامته؟ قال: تزول عنه إمامة الهدى، ويبقى العقد الذي ثبت (¬6) من أحكامه ما وافق الحق إلى وقت ما يتنحى، لو أن رجلاً لم يبايع له، ولم يعقد له، أقام الحد فمات المحدود، كان ضامناً، والجائر الذي زالت عنه إمامة الهدى، إذا فعل ¬
مثل هذه الأشياء، لم يضمن، ولم يتبع بشيء وهو في معنى كلام الفقهاء، وقد قرره محمد بن منصور، ولم يورد عن أحدٍ من أهل البيت عليهم السلام خلافه مثل عادته إذا اختلفوا، وكذا السيد الإمام الحسني المصنِّف لم يذكر خلافاً في هذا المعنى بين ذلك الصدر الأول. أشار الأمير الحسين بن محمد في " شفاء الأوام " إلى أنه قول أحمد بن عيسى وغيره من أهلِ البيت، ذكره فيما يأخذه السُّلطان الجائر كُرهاً من الزكاة، وذكر أنه لا يجزىء عند الأكثر منهم عليهم السلام، لأن ذلك يرجِعُ إلى الولاية، ولا ولاية للجائر، قال: وذهب بعضُهم إلى أنه يُجزىء، وبه قال أحمد بن عيسى عليه السلام. رواه عنه في كتاب " العلوم ". انتهى بلفظه من كتاب " شفاء الأوام ". وأنا أذكر ما يدلُّ على هذا من كلام الفقهاء، فمن ذلك كلام الجويني (¬1) المقدم، فإنه نص فيه على أنه إذا أمكن كفُّ يدِ الظالم المصرِّ المتهتِّك وتوليةُ غيره بالصِّفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك -لاستظهاره بالشوكة- إلاَّ بإراقة الدماء، ومُصادمة الأهوال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مدفوعون إليه منقلبون بما يفرض وقوعه -إلى آخ كلامه-. وهذا ظاهرٌ في المعنى الذي أردته، فإنه أوجب عند التمكن نصب إمامٍ على الصفات المعتبرة بهذا اللفظ، فدلَّ على معرفتهم للإمامة ولصفاتها (¬2) المعتبرة، وأنهم إنَّما تكلَّموا في الضروره، ودفع (¬3) ما يتوقع من الفتن العظام بالصبر على ما هو أهون منها. ولهذا قال الجويني: إن المفسدة إذا كانت أكبر بالقيام عليه، تعيَّن الصبر والابتهال إلى الله تعالى، ولو (¬4) كان يعتقد أنه إمام حقٍّ، لم يذكر الابتهال إلى ¬
الله تعالى في كشف ما بالمسلمين من المضرة الحاصلة بولاية الجائر، وهذا هو الظاهر من فعل بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام، مثل الإمام محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، كان من دُعاتهم عليه السلام، لكنه كان في الطالَقَان، فليس له ذكر ولا لعلومه ومذاهبه وأخباره، ذكره ابن حزم في " جمهرة النسب " (¬1) فقال: كان فاضلاً في دينه، يميل إلى الاعتزال، قام بالطَّالَقان، فلما رأى الأمر لا يتم له إلا بسفك الدِّماء، هرب واستتر إلى أن مات. انتهى. ولولا (¬2) أنه يستحلُّ ذلك لم يحل له (¬3) ترك الإمامة، بل قد ذكر المؤيَّدُ بالله أن هذا هو رأي الحسن بن علي بن أبي طالب كما تقدم، وقد اشتهر عنه (¬4) وقلت فيه: أعاذلُ دعني أُرِي مُهْجَتِي ... أزوفَ الرحيل ولُبْسِ الكَفَنْ فإن كنتَ مقتدياً بالحسينِ ... فلي قدوةٌ بأخيه الحَسَنْ وعندي أنهما لم يختلفا عليهما السلام، بل كلٌّ منهما عمل بظنِّه فيما يؤدي إليه الاستمرار، بل قد رُوِيَ عن الحسين بن علي عليه السلام إنه عرض عليهم عند قتله الإعراض عنهم، فلم يقبلوا. وقال النواوي (¬5) ما لفظه: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر (¬6) منها في بقائه، وقد تقدم قول القاضي عياض: إنه يجب القيام عليه، ونصب إمامٍ عادلٍ إن أمكن ذلك، وقوله: فإن تيقَّنُوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلمُ عن أرضه، ويفرَّ بدينه. ¬
تجويز أهل السنة الخروج على من قطع الصلاة، وأبطل أمر الجهاد، ولم يلتفت على إنصاف المظلوم
ويدل على هذا تجويزهم للخروج على من قطع الصلاة، وأبطل أمر الجهاد، ولم يلتفت على إنصاف مظلوم البتة، كما ذكره ابن بطال والجويني لما كان الغالب أنَّ المضرَّة في القيام على من هذا حاله أقل من مضرة تركه، فهذه نصوصهم دالة على كراهتهم للجائر ولولايته، ومعرفتهم بوجوب النهي عن المنكر وغير ذلك، وأنهم إنما قصدوا حقن دماء المسلمين، وأن السيد أعظمَ الجناية عليهم حيث قال: إنهم يصوِّبُون أئمة الجور في قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإنما قصدوا نحواً مما قصده هارون عليه السلام حيث قال: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيل} [طه: 94] من رعاية الأصلح، ولأنهم ما قصدوا إلاَّ حقن دماء الذين يأمرون بالقسط من الناس، فعكس السيد نصوص مذهبهم لما لم يفهم حقيقة، مقصِدِهم، وفي المثل: أساء سمعاً فأساء إجابة. الموضع الثاني: وهو محل الخلاف على الحقيقة، وهو في صحَّة أخذ الولاية منهم عند الضرورة إلى ذلك، وفيه ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يجوز مطلقاً، وهو مذهب الجمهور من أهل البيت عليهم السلام، وكثير من الفقهاء، وهو الصحيح الذي لا يتَّجه غيره، كما سيأتي الدليل عليه. المذهب الثاني: جواز ذلك عند الضرورة مطلقاً، وهو مذهب أحمد بنِ عيسى عليه السلام وكثيرٍ من الفقهاء. المذهب الثالث: التفصيل، وهو صحة أخذ الولاية منهم في القضاء دون غيره، وإليه ذهب المؤيد بالله في آخر قوليه، نص عليه في " الزيادات "، وطوَّل في الاحتجاج عليه، وفي هذا الفصل فوائد: الفائدة الأولى: أن مذهب أحمد بن عيسى والفقهاء قريبٌ من مذهب المؤيد بالله عليه السلام، لأن الكل منهم قد صحَّح أخذ الولاية من الظلمة
للضرورة، ولكنه صحَّح ذلك في أمرٍ واحدٍ، وهم صحَّحوه في أكثر منه، وليس المنكر عليهم في هذه المسألة إلاَّ قولهم بصحة الولاية من الظالم، فقد شاركهم المؤيد بالله في هذا القدر، وإن كان قد خالفهم عليه السلام في سائر ما يتعلق بالإمامة من الولايات كإقامة الحقوق (¬1) ونحوها، وكلامهم أقيس، لأن الولاية لا تجزىء، على أنهم قد نصوا أنه لا ولاية للظلمة مطلقاً، ولكن تنفذ بهم المصالح. قال ابن عبد السلام في " قواعده " (¬2) في أوائلها: فصل في تنفيذ تصرف البغاة، وأئمة الجور لما وافق الحق للضرورة (¬3) العامة قد ينفذ التصرف العام من غير ولايةٍ، كما ذكرنا في تصرُّف الأئمة البغاة، فإنه ينفذ، مع القطع أنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت (¬4) تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع نُدرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرُّف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وأنه لا انفكاك للناس عنهم إلى آخر ذلك. وقال قبل هذا الفصل بأسطر يسيرة (¬5): وأما الولاية العظمى، ففي اشتراط العدالة فيها اختلافٌ لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها، لتعطَّلتِ التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولُّونه من القضاة والولاة والسعاة، وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وقبض ما يُعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولاياتهم، فلم يشترطوا العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق، لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه (¬6) المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان. انتهى بحروفه. ¬
فدل على أنهم اعتبروا دفع المفسدة الكبرى بالصغرى للضرورة، كما صرّح في مواضع من قواعده، وعظَّم ثمرة معرفته ذلك، ومفسدة جهله. الفائدة الثانية: أن الفقهاء قد أطلقوا القول بانعقاد إمامة المتغلِّب للضرورة، والذي لا يتأمَّل كلامهم يُنكره لظنِّه أن مرادهم أنه إمامٌ على الحقيقة، وإنما أرادوا ما ذكرنا مِنْ جواز أخذ الولاية منهم لتنفيذ الأحكام المتعلقة بالمصالح العامة، لاضطرار المسلمين إلى ذلك، كما سنبيِّنُه. والذي يدل على هذا وجوه: الوجه الأول: أنهم نصُّوا على اشتراط العدالة في الإمام، وهذا واضحٌ. الثاني: أنه لو كان الجائر عندهم إماماً حقيقياً (¬1)، لم يحرِّموا نصبه، والرضا به، والاختيار له. الثالث: أنه لو كان عندهم إماماً حقيقياً، لم يصوِّنُوا من خرج عليه، وينصُّوا على أنه ليس بباغٍ. الرابع: أن النواوي لما ذكر في " الروضة " (¬2) عن الشافعي القول بنفي الرد، ونفي توريث ذوي الأرحام، ذكر أن ذلك على الصحيح عندهم إنما يكون على استقامة بيت المال بولاية العادل، وأنه متى ولي بيت المال جائرٌ، رُدَّ بقيَّةُ المال على الورثة، وَوُرِّثَ ذوو الأرحام، ولم يُعط الإمام الجائر. قال: وبه أفتى أكثر المتأخرين. قال: وهو الصحيح أو الأصح عند محقِّقي أصحابنا ومتقدميهم. قال ابن سراقة (¬3): وهو قول عامة مشايخنا، وعليه الفتوى اليوم في ¬
الأمصار، ونقله صاحب " الحاوي " على مذهب الشافعي. قال: وغلط الشيخ أبو حامد في مخالفته. كل هذا لفظه في " الروضة "، وهو دال على أنهم لا يعتقدون أن الجائر مثلُ العادل. إذاً لأوجبوا تسليم بقية مال الميت إليه، لأنه ولي بيت المال كالعادل، وكذا في " الروضة " (¬1) عن الماوردي أنه إذا كان العامل جائراً في أخذ الصدقة، عادلاً في قسمتها جاز كتمها عنه، وجاز دفعها إليه، وإذا كان عادلاً في الأخذ، جائراً في القسمة، وجب كتمُها عنه. قلت (¬2): فلو كان عندهم كالعادل، لم يجب كتمها عنه، ولحرُم ذلك إجماعاً. الخامس: أنه لو كان عندهم إماماً، لم يقولوا: إن (¬3) قيامه بالأمر حرامٌ عليه، معصيةٌ منه، وقد نصَّ على ذلك النواوي في " الروضة "، فبان بهذا أنهم إنما قصدوا أخذ الولاية فيما يتعلَّق بالأئمة، مثل ما قصد المؤيَّد بالله في أخذ الولاية من الظلمة على القضاء، وإنهم سمَّوه إماماً لما كانت تنعقد به الأحكام المتعلقة بالأئمة، الموافقة للحق، ولما كان يستحق هذا الاسم في وضع اللغة، ولهذا نصوا على أنه لا تحل طاعته إلاَّ إذا وافق الشرع. نص على ذلك النواوي في " الروضة " (¬4)، فقال ما لفظه: تجب طاعة الإمام ما لم يُخالف حكم الشرع، سواء كان عادلاً أو جائراً. قال النفيس العلوي: ونص على ذلك القرطبي في " تفسيره "، فقال: إن كان الوالي فاسقاً، فينفُذ من أحكامه ما كان على الحق (¬5)، ويُرَدُّ ما خالفه. فإن قلت: فقد يَعِيبُون الخروج على بعض من خرج على بني أمية وبني العباس؟ ¬
أكثر الأقطار الإسلامية قد غلب عليها أئمة الجور عدة قرون
قلت: إنما يعيبون ذلك على معنى أنه خلاف الأولى في الرأي والتدبير، كما عاب أصحاب الحسن بن علي عليهما السلام صُلح معاوية عليه، وكما فعل ابن عباس عند خروج الحسين عليهم السلام بدليل ما قدمنا من تجويزهم له في أحد أقوالهم، وكونها عندهم مسألةً ظنية، كل مجتهدٍ فيها مصيبٌ. وقد صرح بهذا المعنى الذهبي في " النبلاء " (¬1)، فقال عند ذكره لزيد بن علي عليه السلام: إنه خرج متأوِّلاً، وقتل شهيداً رحمه الله، وليته لم يخرج فترحّم عليه، ونص على أنه عنده مظلومٌ شهيدٌ، وتمنى أنه لم يخرج، شفقةً عليه، وصيانةً له، وتألُّماً مما ناله، ولذلك لم يذكره في " الميزان " الذي ذكر فيه كل من فيه أدنى مقالٍ أو خلاف، ووثقه في كتاب " التذهيب " (¬2) الذي في الثقات والله أعلم. الفائدة الثالثة: في بيان الضرورة التي ذكرها الفقهاء، وادعوا أنها تُبيح أخذ الولاية منهم. وأنا أذكر ما حضرني، فأقول: لا شك أن (¬3) أكثر الأقطار الإسلامية قد غلب عليها أئمة الجور من بعد انقراض عصر الصحابة، فإن الشام ومصر والمغرب والهند والسند والحجاز والجزيرة والعراقين واليمن وأمثالها، ما استدامت فيها دولة حق في قرونٍ عديدةٍ، ودُهُورٍ طويلةٍ، ولا شك أن في هذه الأقاليم من عامة أهل الإسلام عوالم لا يُحصون، وخلائق لا ينحصرون، ولا شك أنهم في هذه القرون العديدة، وفي هذه الأقطار الكبيرة (¬4) لو تركوا هَمَلاً لا يقام فيهم حد، ولا يُقضى فيهم بحق، ولا يجاهد فيهم كافر، ولا يُؤدَّبُ فيهم عاصٍ، لفشا فيهم الفساد، وتظالم العباد، ومرج أمر المسلمين، وتعطلت أحكام رب العالمين، ¬
وقد علمنا على الجملة أن الله تعالى ما قصد بإقامة الحُدود وشرعها إلاَّ زجر أهل المعاصي، ولا قصد بالجهاد إلاَّ حفظ الحَوْزَةِ، وإرغام العدوِّ، فمتى توقفت على شرط، وتعذر تحصيله، لم يعتبر ذلك الشرط. وقد ذكر العلماء لهذا نظائر، فمنها نكاح المرأة بغير إذن الوليِّ متى غاب وليُّها وبَعُدَ مكانه، أو جُهِلت حياته، فقد ترك كثير من العلماء شرط العقد المشروع، وهو رضا الولي لأجل مصلحة امرأةٍ واحدةٍ، وخوف مضرة امرأة المفقود، فكيف بمصلحة عوالم من المسلمين وخوف مضرتهم. ومنها الانتفاع باللُّقَطَة بعد تعريف سنةٍ، لأن المال مخلوقٌ للمنفعة، فلما تعذر انتفاع صاحبه به (¬1) انتفع به غيره، لئلاَّ يبقى هملاً لا نفع فيه، ولهذا قال عليه السلام في ضالة الغنم: " إنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب " (¬2) فزال شرط حِلِّ المال، وهو رضا المالك لما تعذر، فهذه شخصية غير ضرورية، فكيف بالكلية الضرورية؟ ومنها ما ذكره المنصور بالله عليه السلام، فإنه ذكر في " المهذب ": أن العدالة في الشهادة إنما شُرِعَتْ لحفظ أموال الناس، فإذا خلت بعض البلاد من العدول، وجب ألا تعتبر العدالة، وقبلنا شهادة قُطَّاع الصلاة والطريق متى كانوا من أهل الصدق، لأنا لو اعتبرنا العدالة، لأضعنا أموال الناس التي لم تُشرع العدالة إلاَّ لحفظها، واحتج عليه السلام بأن الله تعالى قد أجاز قبول (¬3) شهادة الكفار من اليهود والنصارى في السفر، لأن المسافر من المسلمين إلى أرض الكفار يحتاج إلى شهادتهم، وعنى بذلك قوله تعالى: {أو آخرانِ من ¬
غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} الآية [المائدة: 106]، وقد تقدم ذكرها. قلت: ولذلك قَبِلَ بعض العلماء شهادة الصبيان فيما بينهم قبل التَّفرُّق، لأنه لا يمكن حضور العدول معهم في ملاعبهم، وسائر أحوالهم، والعادة جرت بانفرادهم، ولهذا قُبِلَتْ شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض. إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لو بقي عامة المسلمين في قدر ستمئة سنة في أقطار الإسلام وأمصاره لا يُنَصَّبُ فيهم قاضٍ، ولا يُحكم بين المتنازعين منهم، ولا يُقام فيهم حدٌّ، ولا يجاهد فيهم عدوٌّ، لَعَظُمَتْ بهم المضرة بغير شك، وقد علمنا أن هذه الأشياء ما شُرِعَت إلاَّ لمصالحهم، فوجب الحكم بتنفيذها عند عدم شرطها " (¬1) لأجل الضرورة لما تقدم نظائر ذلك، ومن لم يفرق بين حالي الاختيار والاضطرار، فقد جهل المعقول والمنقول. أمَّا المعقول، فلإجماع العُقلاء على دفع أعظم المفسدتين بأهونهما، ومن ثم قالوا: حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهون من بعض (¬2). ¬
الضرورات تبيح المحظورات
ومن أمثالهم: إن للشر خياراً (¬1). وأما المنقول، فمعلومٌ بالضرورة من الدين في مواضع، أعظمُها قوله تعالى في جواز النطق بكلمة الكفر: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وأعمُّها قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وروى الأمير الحسين في " الشفاء " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عند الضرورات تباح المحظورات " (¬2). وفي حد الضرورة اختلافٌ بين العلماء، وهو ظني معروفٌ، وقد جعلها المؤيد بالله ما خرج عن حدِّ الاختيار في كثير من المواضع، وقد رخَّص النبي - صلى الله عليه وسلم - في لباس الحرير المحرم لأجل الحِكة، متفق على صحته (¬3). ¬
فمن جوَّز أمراً للضرورة، ونسب إليه جوازه مطلقاً، كان الناسب إليه من الكاذبين، بل كالنَّاسب (¬1) إلى كتاب الله تعالى جواز الكفر والمحرمات مطلقاً. وقد ورد القرآن الكريم بقتل النفس لمصلحةٍ غير كلية في قصة يونس عليه، وأنه لما عرف أن أهل السفينة يغرقون جميعاً إن لم يُلْقِ أحدهم بنفسه إلى التهلكة ويرم بها في البحر، رأى أن رمي أحدهم بنفسه وحده (¬2) أهون من موتهم الجميع، فرمى - صلى الله عليه وسلم - بنفسه الشريفة، حين وقع السهم عليه، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141 (¬3)]. ولا شك أن قتل النفس في أصل الأمر حرامٌ، لكن جاز للضرورة، وهذا في فعل المحرم في الشرع لمصلحة، فأولى وأحرى أن يجوز ما ورد الشرع به من إقامة الحدود ونحوها للمصلحة، لأنه في نفسه مصلحة، لكن فقدَ بعضَ شُروطه، وعمل المصلحة المشروعة عند فقد بعضِ شُرُوطها للضرورة أولى من عمل المفسدة للضرورة مثاله: الصلاة بغير طهور ولا تيمُّم للضرورة (¬4)، أهونُ من أكل الميتة للضرورة، ولم يزل العقلاء يدفعون المضرة العظمى بما دونها، ويستحسنون قطع العضو خوفاً من السراية. وقد ذكر علماء الأصول الكلام في المصالح، وطوَّلوا القول فيه، ومما ذكروه: أن الكفار إذا تترَّسوا بمسلم، ولم يمكنا قتالهم حتى نقتله، وخِفنا إن لم نقتله (¬5) أن يقتلونا ويقتلوه معنا، أنه يجوز لنا قتله، وشرط الغزالي أن تكون ¬
المصلحة كليةً قطعيةً (¬1)، وعنى بالقطعية أن يعلم أن هذا هو المخوف علماً قطعياً، وبالكلية أنا نعلم أنَّا إن لم نقتله قتل، وقتل جميع المسلمين. ورد عليه بعضُ المالكية، وأبطل اشتراطه للكلية بقصة يونس عليه السلام، وأبطل اشتراطه للقطعية بأنه لا سبيل إلى القطع البتة، وما لا سبيل إليه، لا معنى لاشتراطه. فإن قيل: إن قصة يونس عليه السلام مِنْ شرعِ من قبلنا. قلنا: هو حجة إذا ذكر في كتابنا، كما ذكره المنصور بالله وغيره، وقد تقدم الدليل على ذلك في مسألة قبول المتأولين. ومن هذا القبيل الذي ذكره في المصالح، كلام الصحابة في حدِّ الخمر، فعن أنس بن مالكٍ، قال: جلد رسول الله في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما ولي عمر دعا الناس، فقال لهم: إن الناس قد دنوا من الريف، فما تَرَوْنَ في حدِّ الخمر؟ فقال عبد الرحمن: نرى أن نجعله كأخفِّ الحدود، فجلد فيه ثمانين. رواه مسلم وأبو داود، وروى البخاري وابن ماجه بعضه (¬2). وعن حضين بن المنذر قال: شهدتُ عثمان، وأُتي بالوليد، فشهد عليه حُمران ورجلٌ آخر، فشهِدَ أحدهما أنه رآه يشربها (¬3) - يعني -الخمر- وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها. فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتَّى شربها، فقال لعلي عليه السلام: أقم عليه الحد، فقال علي للحسن: أقم عليه الحد، فقال: ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها، فقال علي عليه السلام لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد، ¬
فأخذ السوط وجلده وعليٌّ يعُدُّ، فلما بلغ أربعين، قال: حسبُك، جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين. وأحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّةٌ، وهذا أحبُّ إليَّ. رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه (¬1). فجلد الثمانين في الخمر قد شاع في الصحابة، واستمر عليه (¬2) عمل الأمة إلى هذا العصر، مع أنه غير منصوصٍ في الكتاب، ولا في السنة المتفق على صحتها، وإنما عمل به للمصلحة (¬3)، فدل على إجماع الصحابة على العمل بالمصالح. وقد روى الحافظ ابن كثير وغيره عن علي عليه السلام أنه ضمن الصُنَّاع، وقال: لا يُصلِحُ الناس إلاَّ ذلك. والكلام في هذا المعنى يحتمل البسط الكثير (¬4)، وقد تكلم الرازي في " المحصول " (¬5) بكلامٍ حسنٍ في المصالح. وتكلم شارح " البرهان " فيها، ومن أحب الاستقصاء في المصالح، وما يتعلق بها، فليُطالع كتاب " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " للإمام الكبير عز الدين بن عبد السلام، الذي قال النواوي في " شرح المهذب ": إنهم اتفقوا على براعته في العلوم كلها، وعلى أمانته وديانته، أو كما قال، فإن كتابه هذا من أنفس الكُتُبِ في هذا الشأن. والله سبحانه أعلم. الفائدة الثالثة: في بيان المختار. واعلم أن كلام أحمد بن عيسى عليه السلام والفقهاء في أخذ الولاية على الإطلاق، وكلام المؤيد بالله في أخذ الولاية على القضاء يشتمل على أمرين: ¬
أحدهما: جواز القضاء، وإقامة الحدود ونحو ذلك في غير وقت الإمام، نظراً إلى ما يلحق المسلمين من المضرة بترك ذلك، وهذا قوي إن لم يصادم النصَّ الشرعي، وهو إجماع العترة في غير القضاء، وأما القضاء، فقد خالف فيه الإمام المؤيد بالله، والمختار جوازه. وأمَّا سائر الأمور، فإن لم يصح إجماع العترة على تحريمه، فلا معدِلَ عنه، وإن صح إجماعهم، أجبنا عن الفقهاء بما يوافقون عليه، وهو أن شرط المصالح ألا يصادم النصوص والإجماع من النصوص بلا خلاف، فنقول: الإجماع صادم النظر المصلحي، فوجب طرحه. الأمر الثاني الذي خالفوا فيه: أخذ الولاية من الظلمة لما ورد في الآثار من الأمر بتسليم الزكاة إليهم (¬1) والطاعة في المعروف لهم، فأما الأمر بطاعتهم في غير معصية الله، فهو شهير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيه تصريح بولايتهم في نفس الأمر، وإن كان الاستنباط من ذلك محل نظر. وأما الأمر بدفع الزكاة إليهم، فرُوِيَ عن سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ الخدري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي بكرٍ، وعائشة موقوفة وأسانيدها، أو أكثرها صالحةٌ (¬2)، ولكن لا حجة متفق عليها في الموقوف، خصوصاً إذا عُورِض بقول صحابيٍّ آخر. وأما حديثٌ مرفوعٌ، فلا أعرف إلاَّ ما رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ادفُعوا إليهم ما صَلَّوُا الخمس ". رواه عن الطبراني ابن حجر في " تلخيصه " (¬3)، ولم يذكره بصحةٍ ولا ضعفٍ، والغالب على "معجم الطبراني ¬
الأوسط" الغرائب والشواذ. وفي " سنن البيهقي الكبرى " (¬1) شيء من هذا لم يحضرني. وروى ابن أبي شيبة (¬2) عن ابن عمر موقوفاً نحو ذلك، وفي إسناده جابر الجعفي وعضده الفقهاء بظاهر الأمر بطاعة ذوي الأمر في القرآن، ولحديث البخاري ومسلمٍ والنسائي: " إنما الإمام جُنَّةٌ يُتَّقى به، فإن عدل، فإن له بذلك أجراً، وإن جار، فإن عليه بذلك وِزرَاً (¬3) "، وأمثاله كثيرة صحيحة (¬4). وأقول: إن الأصل براءة الذمة من وجوب أخذ الولاية عنهم حتى يقوم على ذلك دليلٌ مرضيٌّ. فهذا ما عرفت الآن من الحجة على أخذ الولاية من أئمة الجور للمؤمن وأحمد بن عيسى والفقهاء (¬5). فأما إن أرادوا أخذها منهم على جهة التقية منهم، وخوف الفتنة في الاستقلال بالولاية، فهذا مُسَلَّمٌ. وقال يوسف عليه السلام: {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55]. وأما إن أرادوا أن لهم ولايةً شرعيةً في نفس الأمر، فلا وجه لذلك متفق عليه، لأنه يمكن إقامة المصالح من غير أخذ ولاية، وذلك (¬6) لأن الغرض أن ¬
الشرع ورد (¬1) بأن الولاية للإمام العادل، فحين تعذَّر الشرط المشروع، لم يجب علينا أن نفعل ما يشبهه في الصورة، كما أنا إذا لم نجد وليَّ المرأة المشروط إذنه في نكاحها، لم يجب علينا أن نستأذن رجلاً أجنبياً لم يرد الشرع بولايته. وإنما اعتبرنا الرجوع إلى الإمام لما ورد الشرع بذلك (¬2)، فلهذا لو لم يوجدِ الولي ولا الإمام، لم يعتبر إذن رجلٍ غير معيَّنٍ، ويمكن الفرق بين أن يرضى به المسلمون أول الأمر، ويتابعون وهو صالحٌ قبل الأمر بالاعتزال في آخر الزمان، فيكون كما قال أحمد بن عيسى عليه السلام: تزول عنه إمامة الهدى، وتبقى له (¬3) الولاية بالاستصحاب، لعدم الدليل على انعزاله من النص والإجماع. وأما المتغلِّب من الابتداء، فيحتاج من يقول بولايته إلى دليلٍ على ذلك، ويعتضد هذا الأصل بحديث البخاري عن أنسٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " اسمعوا وأطيعوا وإن استُعْمِلَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ، ما أقام فيكم كتاب الله " (¬4). وفي " مسلم " عن أمِّ الحُصين نحوه، ورواه الترمذي والنسائي (¬5). وللفقهاء أن يُجيبوا عن هذا بوجهين: أحدهما: الجمع بالتأويل، فظاهر حديث أنسٍ وأمِّ الحصين في العامل، لا في الإمام الأعظم، لحديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمير الذي أمر أصحابه ¬
أن يَحرِقوا (¬1) أنفسهم. وهو في الصحيح (¬2). وحديث عقبة بن مالك لو رأيتَ ما لامَنَا رسول الله، قال: " أعَجَزْتُم إذا بعثتُ رجلاً منكم فلم يَمْضِ لأمري أن تجعلوا مكانه من يَمْضي لأمري "؟ رواه أحمد، وسنده قوي وأبو داود (¬3). وروى أحمد من حديث معاذٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم - في " الأمراء ": " أنه لا طاعة لمن لم يُطِعِ الله " وظاهر سنده الصحة، فيه يحيى بن أبي كثير مدلس، لكنه صرح فيه أن أنس بن مالك حدثه بذلك عن معاذ، والراوي عن يحيى حرب بن شداد، وفيه خلاف يسير والله أعلم (¬4). وثانيهما: بالترجيح من طريق الاحتياط، ومن طريق قوة (¬5) الأسانيد، ففي " الصحيحين " من حديث عبد الله، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إنها ستكونُ أَثَرَةٌ وأمورٌ تنكرونها "، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمرُ من أدرك ذلك منا؟ قال: " تُؤَدُّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيح (¬6). ¬
وعن وائل بن حجر نحوه، ولفظه: بعد أن سأله مراراً، وهو يعرض عنه، قال: " اسمعُوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا (¬1) وعليكم ما حُمِّلتُم ". رواه مسلم والترمذي، وقال حسن صحيح (¬2). وعن ابن عمر، عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " على المرء المُسْلِمِ السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلاَّ أن يُؤمَرَ بمعصيةٍ، فلا سمع ولا طاعة " رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي (¬3). قال ابن الأثير (¬4): رواه الجماعة إلا مالكاً. وعن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " عَلَيْكَ السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك ومَنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ وأَثَرَةٍ عليك " رواه مسلم والنسائي (¬5). وعن عوف بن مالك (¬6) أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " خِيارُ أئمتكم الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم "، قلنا: أفلا ننابذهم، قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من وَلِيَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزِعَنَّ يداً من طاعة " رواه مسلم. وعن ابن عبَّاس، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً، مات ميتةً جاهليةً ". وفي رواية: "فإنه من فارق الجماعة ¬
شبراً". رواه البخاري ومسلم (¬1). ويعضد هذه الأحاديث ظاهر القرآن في طاعة أُولي الأمر، لأن الجائر منهم لغة، والقرآن نزل عليها، ومن فسَّر بخلافها، فعليه الدليلُ. ويمكن التَّوسُّطُ، فنقول: لا شك في طاعة أولي (¬2) الأمر الذين اجتمعت عليهم جماعة المسلمين، وعملوا بكتاب الله، وفي نحو هذا نزلت الآية، ولسبب النزول أثرٌ في التفسير كما بين في موضعه، ويقاتلهم الذين يجوز قتالهم بلا شك، وهم الذين تركوا الصلاة، وأظهروا كفراً بواحاً، كما ورد في الأحاديث، وما بينهما محل نظر، وكل مجتهدٍ في ذلك مصيبٌ إن شاء الله. ومما يخصُّ عمومات القرآن وأحاديث الفقهاء حديث أم سلمة: " إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكرون، فمن كَرِهَ، فقد برىء، ومن أنكر، فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا ما صلُّوا " (¬3). أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه (¬4) كذا عند مسلم، فلم يوجب في هذا طاعتهم (¬5)، بل حرم قتالهم (¬6) فقط، وحكم بالنجاة لمن كره وأنكر. وروى مسلم وغيره من ستِّ طرقٍ عن عرفجة الأشجعي أنه سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه " (¬7). ¬
الفرق بين المداهنة والمداراة لأئمة الجور
فقوله: " وأمركم جميعٌ " يدل على أن المراد في الأحاديث التي ذُكر فيها السلطان، وأولوا الأمر معناها: السلطان العرفي والشرعي، وهو المجمع عليه، لا اللغوي، وهذا قوي، لأنه أخص وأبينُ، والله أعلم. ويحتمل الجمع بأن الصبر أفضل، والخروج جائزٌ حيث لا جماعة، ويتقوى بفعلِ الحسن عليه السلام. ويلحق بهذا فوائد ذكرها الفقهاء تدل على تمييزهم ومعرفتهم بالشريعة، وفرقهم بين أئمة الجور وأمراء العدل. الفائدة الأولى: قال النواوي في " الأذكار " (¬1): فإن اضطر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم، وخاف ترتُّب مفسدةٍ في دينه أو دُنياه أو غيرهما إن لم يسلِّم سلَّم عليهم. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: قال العلماء: يسلِّم وينوي: " السلام " اسم من أسماء الله تعالى، المعنى: الله عليكم رقيبٌ. الفائدة الثانية: فرق بين المداهنة والمداراة (¬2)، فيما يجوز من المخالطة عندهم وما لا يجوز. قال في " شرح مسلم " ما معناه: إن المداهنة لا تجوز، والمداراة تجوز، قال: والفرق بينهما أن ما كان من أمر الدين، مثل أن يفتي بغير الحق، أو يكذب، أو يفعلَ شيئاً من المحرمات، أو يترك شيئاً من الواجبات، فهذه مداهَنَةٌ محرَّمَةٌ، والمداراة بأمور الدنيا (¬3)، مثل أن تعطيه مالك، أو تُحْسِنَ إليه، فهذه ¬
مداراةٌ لا بأس بها. وسيأتي مزيد بيان لهذه الفائدة، إنما أحببتُ ذكر ما ذكروه ليُعرف تمييزُهم لهذا. الفائدة الثالثة: قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ": إنه يعرف العلماء ببيت المقدس في يوم الجمعة يستمعون الخطبة، حتى يبلغ الخطيب إلى ذكر أئمة الجور والثناء عليهم، فإذا بلغ ذلك، تركوا الاستماع، وقاموا يتنفلون، واشتغلوا (¬1) بالصلاة عن استماع مدح الظلمة. الفائدة الرابعة: قال الشيخ أبو بكر بن فورك (¬2) في كتابه " النِّظامي " في الإمام الجائر: إنه يجب وعظه وتخويفه وإرشاده وتنبيهه. وعلى هذا المعنى نص القاضي عياض أيضاً، وكذلك النواوي، فإنه قال في أئمة الجور: فإذا رأيتم ذلك، فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم. انتهى كلام النواوي. وروى المحدثون (¬3) في كتبهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائرٍ " (¬4). وبتمام الكلام في هذه الفوائد، تم ما أردت ذكره من التعريف بمذهب الفقهاء، وقصدهم في إمامة الجائر. والله سبحانه أعلم. الوهم الرابع والثلاثون: ¬
الوهم الرابع والثلاثون: الرد على السيد في قدحه برواية الزهري
أن السيد أيده الله ذكر الزهري قادحاً بروايته على أهل الحديث، وأطال الكلام في ذلك، وعوَّل في جرحِ الزهري على مُخالطته للسلاطين، وموالاته لهم، وإعانتِه لهم، وعلى كتابٍ كتبه إليه بعض إخوانه، فبعض ذلك كان من الزهري، ولا يدلُّ على الجرح في الرواية، وبعض ذلك دعوى على الزهري، لم يكن منه. والذي كان مِنَ الزهري هو مخالطة السلاطين، وذلك إن لم نحمله على السلامة، نقص في الدرجة (¬1)، لا جرحٌ في الرواية، والفرق بينهما واضحٌ، فقد تقدم كلام المنصور بالله عليه السلام في الرواية وأن مبناها على ظن الصدق، وتقدم كلام الأئمة في قبول الخوارج الذين يُكَفِّرُون أمير المؤمنين عليه السلام، وقول المنصور بالله عليه السلام: إنهم أولى بالقبول من أهل العقيدة الصحيحة، لتشدُّدهم في الكذب، واعتقادهم أنه كفرٌ. وقد أخلَّ السيد بقاعدةٍ كبيرةٍ هي أساس الكلام في الجرح والتعديل، وهي ذكر المحاسن والمساوىء، ليقع النظر في الترجيح بينهما، وقد ترك السيد هذا الأمر، فذكر مساوىء الزُّهري مجرَّدةً عن محاسنه التي أوجبت قَبُولَ بعضِ حديثه عند أئمة الحديث، وهو الصحيح المسند السالم من الإعلال والتدليس والإدراج ونحو ذلك، فإن كان هذا لما يعتقده السيد من سقوط مرتبة الزهري، وأنه ليس بأهلٍ لأن يُذكَرَ بخيرٍ، فالله تعالى -مع أنه العدل الذي لا يُتَّهَمُ- قد شرع الإنصاف لكل أحدٍ، ونصب الموازين ليوم القيامة، وأظهر كل ما لأعدائه من الحسنات، ولم يتركها لعداوتهم، ولا اكتفى بعلمه الحق فيهم، ولم يذم أحدٌ قط بالعدل على من يكره، بل هي سنة أهل العدل، وسجيَّة ذوي الفضل. والأمر في الزهري قريب، والإشكال فيه سهلٌ، لكن هذا القدح الذي قدح به السيد على الزهري يقتضي القدح في كثير من العلماء والفضلاء، ممن خالط الملوك، فإن التاركين لذلك من العلماء هم الأقلُّون عدداً، وإذا طالعت كتب ¬
التواريخ، لم تكد تجد أحداً من العلماء إلاَّ وله علقةٌ بالسلاطين، أو مخالطةٌ لهم، أو وِفادة عليهم، أو قبول لعطاياهم، فمنهم المقل، ومنهم (¬1) المكثر، ولو كانت المخالطة في مرتبة التحريم الذي يأثم فاعله ويُجرَحُ، لم يكن بين الإقلال منها (¬2) والإكثار فرقٌ واضحٌ، ولا كان بين الزهري وغيره من الذين خالطوا مخالطة (¬3) يسيرة فرقٌ واضح أيضاً، فإن من فعل المحرَّم ولو مرةً واحدة، فقد توجه عليه الجرح والقدح، وشُرْبُ جرعةٍ مِنَ الخمر في الجرح، كالإدمان على شربها، وإن كانت عقوبة المدمن لشُربها أكثر. فإذا عرفت هذا، فلا بد من الكلام على فوائد قصدت بها وجه الله تعالى في أمرين: أحدهما: في الذب عن جماعة من العلماء والفُضلاء قد خالطوا المُلوك، إما لغرضٍ دينيٍّ، أو لحاجةٍ دنيويةٍ، أو لتقيةٍ، أو لمصلحةٍ عامةٍ أو خاصةٍ، أو لمجموع هذه الأمور أو مجموع أمرين منها أو أكثر، ولم يرتكبوا في مخالطتهم محرَّماً، ولا كان منهم إلاَّ مجرد المخالطة، فيتوهَّم من لم يعرفِ الشريعة أنهم بمنزلة أهل المعاصي الصريحة، ويتساهل في استحلال غيبتهم وهتكِ حُرْمَتِهم. وثانيهما: الذب عن العلوم المأخوذة عن هؤلاء، فإن كثيراً من علوم الشريعة -على تباين طبقاتها- (¬4) مستندةٌ إلى من لم يسلم من شيءٍ من هذا القبيل. على أن السيد أيَّده الله ذكر في تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النُّكت اللِّطاف " ما يدلُّ على أنه رَخوُ الاعتقاد، سلسُ القياد في هذه المسألة، مع ما يدل على ذلك، مِنْ أحواله وأفعاله وأقواله، وذلك أنه ذكر اختلاف المفسرين ¬
تفسير قوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}
في قوله تعالى: {ولا تَرْكَنُوا إلى الذين ظلموا} [هود: 113]، ولم ينكر شيئاً منها، ولا رد على أحدٍ منهم، بل حكى تصحيح الرخصة في ذلك، وختم به، وهو أجلُّ من أن يشُوبَ القرآن بإدخال البواطل في تفسيره، فقد ورد أن حاكي الكذب أحد الكاذبين، وقد يحكي في تفسير الآية الكريمة عن قتادة، أن المراد: ولا تلحقوا بالمشركين (¬1)، وقتادة من أكابر علماء المعتزلة القدماء. وعن أبي العالية: لا تَرْضَوْا بأعمالهم (¬2). وقيل لا تُداهنوا عن السدي (¬3). وقيل: الركون المنهي عنه: الدخول معهم في ظلمهم أو إعانتهم، أو الرِّضا بفعلهم، أو موالاتهم، أما إذا دخل عليهم أو خالطهم لدفع شرِّهم، أو أحسن معاشرتهم، ورفَق بهم في القول، ليقبلُوا منه ما يأمرهم به من طاعة الله، فذلك غير منهيٍّ عنه. عن القاضي (¬4)، قال الحاكم: وهو الصحيح، لقوله تعالى: {فَقُولا له قولاً لَيِّناً} [طه: 44]. قال الواحدي (¬5): هو السكون إلى الشيء، والميل إليه بالمحبة. قال ابن عباس (¬6): لا تميلوا، يريد في المحبة ولين الكلام. وقال عكرمة (¬7): هو أن يضيِّفهم أو يودَّهم. وقال أبو العالية: لا ترضَوْا بأعمالهم. ¬
حكم مخالطة السلاطين
وقال الرازي (¬1): المنهي عنه عند المحققين الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسينه لهم، أو لغيرهم، فأمَّا مداخلتهم لدفع ضررٍ، أو اجتلابِ منفعةٍ عاجلةٍ، فغير داخلٍ في الركون. انتهى بحروفه. الفائدة الأولى: في حكم مخالطة السلاطين في نفسها (¬2). واعلم أن مخالطتهم أقسامٌ: القسم الأول: المخالطة لمجرد التناول مما في أيديهم من بيوت الأموال، وحقوق المسلمين، فهذا نقصٌ من مرتبة الزَّهادة، وشَيْن في أهلِ العلم والعبادة، ولكنه لا ينحَطُّ إلى مرتبة التحريم، فإن حُبَّ الدنيا، وإن كان مذموماً على الإطلاق، لكنه يختلف، فمنه حرامٌ، ومنه حلالٌ، فالحرام منه هو حب الحرام من الدنيا، والإضراب عن الدين، وأهل هذا، هُمُ الذين ذمَّهم الله تعالى قي القرآن، وحيث يَرِدُ الذم على حبِّ الدنيا مطلقاً أو عاماً، فالمراد به هذا الجنس، بدليل قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]، وقوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقول عيسى: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} ... إلى: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِين} [المائدة: 114]، فهذه الآيات خاصة تبين تلك (¬3) العمومات، وأن المذمومين في تلك العمومات هم الذين قالوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. وقد يرتقي حب الدنيا إلى مرتبة الندب والاستحباب مع حسن النية في قصد العفاف بالعفاف (¬4) عن الحرام، وكفاية الأهل وصلة الأرحام والإخوان، وإعانة الضعيف، وإطعام الطعام. ¬
والذي يدلُّ على أن المُباح قد يصير مندوباً بالنية، وبإعانته على ترك الحرام أحاديث: " إنما الأعمال بالنية " (¬1)، وما (¬2) في معناه، وما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي ذرٍّ مرفوعاً: " وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ ". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته، ويكون له أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجرٌ ". أخرجه مسلم في " الصحيح " (¬3)، والنواوي في " مباني الإسلام " (¬4). ومما يدل على ذلك أنه قد ثبت عن سليمان عليه السلام أنه سأل الله تعالى مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده. وثبت في " الصحيحين " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: " اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغِنَى " (¬5)، ولو كان الغنى نقصاً في الدِّين، وحبُّه رذيلةً لا يليقُ بالمؤمنين، لم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا امتنَّ الله عليه به في قوله: {وَوَجَدَك عائِلاً فأغنى} [الضحى: 8]. وكذا (¬6) ثبت في " الصحيح " عن أم أنس قالت: يا رسول الله ادع لخادمك أنس فدعا له بالغنى أو نحو ذلك (¬7)، ولو كان نقصاً في دينه على الإطلاق، لكان ¬
الدعاء عليه، لا له، وحديث أهلِ الدُّثور، وشكاية فقراء المهاجرين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زيادتهم في الفضل، وكثرة الثواب معروفٌ في " الصحيحين " وغيرهما، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " (¬1). وفي الصحيح: " أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيعُ " (¬2)، وقد اشتهر في الحديث الصحيح الاستعاذة من الفقر من غير وجه. قال الحافط ابن النحوي في كتابه " خلاصة البدر المنير " حديث إنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الفقر. رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة كذلك، وإسناده على شرط مسلم، كما قال الحاكم (¬3)، ومتفق عليه أيضاً من رواية (¬4) عائشة، لكن لفظه: " من فتنة الفقر " (¬5). انتهى. وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في دُعائه: اللهم صُنْ وجهي باليسار، ولا تبذُل جاهي بالإقتار. رواه في " نهج البلاغة " فهذا كلام إمام الزاهدين، وقدوة العارفين. وروى النسائي من حديث أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُبِّبَ إليَّ ¬
الطيب والنساء، وجُعِلَتْ قرةُ عيني في الصلاة". رواه النسائي في أول " عِشرة النساء " بسندين جيدين عن ثابت، عن أنس، وهو من أحاديث " المجتبى من سننه " (¬1)، وهو صحيحها، ورواه ابن تيمية بصيغة الجزم، وقال: رواه الإمام أحمد. وروى النسائي بعد ذلك شاهداً لمعناه من حديث سعيد عن قتادة، عن أنس: لم يكن شيءٌ أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النساء من الخيل (¬2). وذكره ابن الأثير في الطيب من الزينة في (¬3) حرف الزاي، وفي الباب التاسع من حرف الفاء في فضل الصلاة (¬4). ومتى كان طلب المحتاج إليه من الله تعالى، كان من العبادة مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة، ومنه قول عيسى عليه السلام: {وارزُقْنَا وأنت خيرُ الرازقين} [المائدة: 114] فيما حكى الله عنه. وفي الحديث الصحيح " أن أيوب النبي عليه السلام رأى جراداً من ذهبٍ تسقط عنده، فجعل يلتقِطُها، فقال الله تعالى: ألم أُغنك عن هذا؟! فقال: بلى ولكن لا غنى لي عن بركتك " (¬5). فهذا وأمثاله كثيرٌ، فأمَّا حب المال المُلهي عن ذكر الله، الشاغل لصاحبه عن طاعة الله والتكاثر والتفاخر، وأمثال ذلك من أفعال الدُّنيويِّين ومقاصدهم، فليس بمحبوبٍ في الشرع، وفي هذا مباحث لطيفةٌ، ليس هذا موضع ذكرها. ¬
غرابة حديث: "الفقر فخري"
وقد ذكر القرطبي في " تذكرته " (¬1) هذا المعنى مستوفى. وأكثر المحبين للدنيا لا يحبُّونها على الوجه المسنون، بل إنما يحبها الأكثرون بمجرد الطبيعة البشرية وداعية الهوى، وذلك يكون في مرتبة النقص، لا في مرتبة التحريم، مهما بقي صاحبه على حد الشريعة في ترك الحرام، وأداءِ الواجب، فأما ما ورد على صورةٍ تناقض ما قدمنا من قوله عليه السلام: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفافَ والغِنى " (¬2)، فلا أعلم شيئاً من ذلك المناقض لهذا يصح. وذلك نحو ما رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اللهم أحْيِني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشُرني في زُمْرَةِ المساكين ". وهو حديث ضعيف عند كثير من علماء الأثر، ضعفه ابن كثير (¬3)، وقال ابن النحوي في " خلاصته ": رواه الترمذي (¬4) عن أنس، وقال: غريب، وابن ماجة عن أبي سعيد بإسناد ضعيف، والحاكم به وصحَّحه (¬5)، والبيهقي (¬6) من رواية عبادة بن الصامت، ولا أعلم له علَّةً. وحديث: " الفقر فخري " غريب، وقال بعض الحُفَّاظ المتأخرين: كذبٌ، لا نعرفه في شيءٍ من كتب المسلمين المعروفة (¬7). انتهى كلام ابن النحوي. ¬
وأورد النواوي في كتاب " رياض الصالحين " (¬1) حديث: " اللهمَّ اجعل رزق آلِ محمَّدٍ قوتاً "، وفي رواية: " كفافاً ". ورواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة (¬2)، ولكنه أغرب في تفسيره، فقال: إنَّ القوتَ: سدُّ الرَّمَقِ، وليس كذلك، وإنما القوت كفاية الحاجة، كذا أو نحوه في " صحاح " الجوهري (¬3)، ويدلُّ عليه الرواية الأخرى: " اللهم اجعل رزق آلِ محمدٍ كفافاً "، ولا شك أن الكفاف، وكفاية الحاجة هو المقصود بالمعنى، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الزيادة في الغنى. وبالجملة، فما لم يعارض الأخبار المتَّفق على صحتها، فلا إشكال فيه، وما عارضها لم يَحِلَّ ترجيحُه عليها، وهي أقوى منه إجماعاً، فأما ما ورد في فضلِ الفقراء، فصحيحٌ، ولكن لا يُناقضُ هذا، فإنه من قبيل الأعواض على البلاوي، وليس يلزم المكلف البلوى ويسألها، لما فيها من العوض (¬4)، ولهذا لم يَرِدْ في الحديث سؤالُ المرض والجُذام والعمى ونحو ذلك، بل جاء في الحديث: " سؤال العافية في الدنيا والآخرة " (¬5) وإن كانتِ البلوى في الآخرة أكثر ¬
أجراً من العافية، فالسنة: الرغبة إلى الله تعالى في العافية، فالبَشَرُ ضعيفٌ، والصبر قليلٌ، وقد حكى الله تعالى عن أيوب عليه السلام أنه شكا إلى الله تعالى ما نزل به من الضُّرِّ، وقال: {أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، فهذا أيوب الذي قال الله تعالى فيه: {إنَّا وَجَدْنَاهُ صابراً نِعْمَ العبد إنه أوَّابٌ} [ص: 44] فكيف بغيره؟ فإن قلت: عادة أهلِ العلم التزهيد في الدنيا، وهذا الكلام كالمناقض (¬1) لذلك؟ قلت: ليس كذلك، فإن لكلِّ مقامٍ مقالاً، فالعلماءُ زهَّدوا في الدنيا خوفاً من معصيةِ الله تعالى في الوقوع في الحرام، وخوفاً من الاشتغال عن طاعةِ الله تعالى بمباحها. وأنا بيَّنْتُ المباح من الحرام خوفاً من معصية الله تعالى في تأثيم من تناول المباح، ورد حديثه والقدح في عِرضه، فالكل قاصدٌ لنصيحة المسلمين، وتحذيرهم من الوقوع في معصية ربِّ العالمين، وقد ذكر بعض العلماء وجوب كسب الحلال، وقال: إنما (¬2) تركنا حثَّ الناس عليه لأن في طبع البشر ما يكفي، وما زال أهل الزهد والرقائق يُقَبِّحُون حب الدنيا حتى غَلِطَ في ذلك من لا فقه له، وظن أن من تناول شيئاً من الدنيا من أهل العلم، فقد حل عرضه، وبطلت عدالته. وقد ذكر الغزالي في كتاب " الإحياء " (¬3) مفاسد المخالطة ومصالحها، فذكر ما يليق بحال كتابه في التَّرفُّق والوعظ. وأنا ذكرت هنا ما يليق بمقتضى الحال من تعريف محضِ الشَّرع، وصريح الحق، وذلك لا يتناقض عند أهل البصر والمعرفة، وقد ذكر ابنُ بطَّال ¬
في شرحه للبخاري عن العلامة ابن جرير الطبري، والعلامة ابن المنذر جوازَ الأخذ مما في أيدي الظلمة وغيرهم، إلاَّ ما تعيَّن أنه مظلِمَة بعينه لرجلٍ معروفٍ، وحكاه ابن جرير عن الأئمة من الصحابة والتابعين بهذا اللفظ، وحكاه عن جماعة كثيرةٍ، وعيَّن أسماءهم، منهم (¬1) تسعةٌ صحابة، وعشرةٌ تابعون أو أكثر. أما الصحابة: فعلي بن أبي طالب عليه السلام، وابنه الحسن عليه السلام، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعائشة، وابن عباسٍ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعثمان. وأما التابعون، فأبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام، وسعيد بن جبيرٍ، وعلقمة، والأسود، والنخعي، والشعبي، والحسن البصري، ومكحول، وعكرمة، والزُّهري، وابن أبي ذئب. واحتج ابن المنذر على ذلك باستقراض النبي - صلى الله عليه وسلم - من طعام اليهودي ورهنه درعه، وذلك في آخر أيامه (¬2)، وقد وصفهم الله تعالى بأكلهم (¬3) السُّحت (¬4). واحتج ابن جرير بأمرين: ¬
أحدهما: وجوب الحكم للفُجَّار بما في أيديهم، كوجوبه للأخيار على سواءٍ في حكم الشريعة. وثانيهما: إباحة أخذِ الجزية من أهل الكتاب وإحلالها للمسلمين، مع علمِ الله أن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وأنهم يتعاملون بالربا. ذكره ابن بطال في كتاب الزكاة، في باب: من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ في شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: " إذا جاءَك مِنْ هذا المال شيءٌ وأنت غير سائلٍ ولا مُشرفٍ فخُذْهُ " (¬1). وذكر أن عموم هذا القول حجةٌ على قبول عطايا الأمراء والظلمة، وفسَّر إشراف النفس بالتعرض، والشَّره، والطمع، مأخوذٌ من: أشرف (¬2) الرجل، إذا تطاول ومد بصره، ومنه الموضع المشرف: المرتفع. وحكى كراهة أموال الأمراء وقبول صلاتهم عن الثوري، ومحمد بن واسعٍ، وأحمد بن حنبل، ومسروق، وعبد الله بن المبارك، وابن سيرين، وأكثرهم للاحتياط لا للتحريم، ومنهم من حرمها. وحجة من حرمها حديث الشبهات (¬3)، وقد اختار الخطابي في شرحه الحديث في " معالم السنن " (¬4) الجواز، وكذلك ابن عبد البر، وحكى النواوي (¬5) في الشبهات ثلاثة أقوال: الحِلُّ، والتحريم، والكراهة، وهو المختار، لأنه ظاهر الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحلال بيناً والحرام كذلك، وجعلها قسماً ثالثاً، وشبَّهها بما حول الحمى لا بالحمى، وجعل العِلَّة في تحريمها خوف ¬
الوقوع في الحمى، ولأنه نهى (¬1) عن أجرة الحجام مرتين، وقال في الثالثة: " اعلفه ناضِحَك وأطعمه رقيقك " (¬2) فدلَّ على الكراهة، ولما ورد من النواهي الصحيحة عن السؤال عن المسكوت عنه، والأمر باستحلاله حتى ينهاهم (¬3) عنه، وبذلك احتج من أحلَّها، منهم ابن عبد البر، قال: هي عندنا من الحلال الطيب، ولي فيها تفصيل جيِّدٌ ذكرته في " قبول البشرى ". على أن الزَّهادة غيرُ الفقر، وكم من فقيرٍ مشغول القلب بالدنيا، وغني مشغول القلب بالآخرة، ومحلها القلب إجماعاً. وقد روى الترمذي (¬4) من حديث أبي ذرٍّ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك (¬5)، وأن تكون في ثواب المصيبة أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ". ورواه رزين، وزاد فيه: " لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم} [الحديد: 23]. وهذا الكلام انسحب من الكلام في مُخالطة الملوك لمحبة تناول شيءٍ مما يحِلُّ تناوله بما في أيديهم. والقصد ما ذكرته من الزَّجر عن الغيبة، واعتقاد جرح من فعله من أهل الديانة والعلم، فقد ذكر العلماء من أنواع الغيبة قول القائل: فلان مبتلى بمخالطة السلاطين، فالله يُسامِحُهُ، ونحو ذلك من غيبة القُرَّاء. ¬
الدليل على إباحة مخالطة السلاطين
فإن قلت: هذا مجرد دعوى لإباحة المخالطة إذا لم يكن فيها معصيةٌ، فما الدليل على ذلك؟ قلت: الدليل عليه وجوهٌ: الوجه الأول: الحديث الصحيح، والنص الصريحُ، وذلك أنه ثبت عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أئمة الجور ومن في معناهم، ثم قال: " فمن غَشِيَ أبوابهم، فصدقهم في كَذِبِهِم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بواردٍِ عليَّ الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض يوم القيامة ". رواه الترمذي في موضعين من " جامعه " (¬1) بإسنادين مختلفين، أحدهما: صحيح، وعليه الاعتماد، والثاني: معلول، وهو شاهد للصحيح غير قادح فيه ورواه أبو طالب في " الأمالي "، فقال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، حدثنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، أخبرنا محمد بن يحيى الذُّهلي، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خُثيم، عن عبد الرحمن بن سابَط، عن جابر بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة: الحديث ولفظه: " فمن صدَّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولستُ منهم، ومن لم يُصدقهم في كذبهم، ولم يُعِنْهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم، سيردون على حوضي " (¬2). ومن ذلك ما رواه أبو داود في " سننه " (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المسألة، إلاَّ أن يسأل الرجل ذا سلطانٍ، فهذا عامٌّ في سلاطينِ العدلِ ¬
والجَوْرِ، وليس يمكنه السؤال إلاَّ بضربٍ من المخالطة. الوجه الثاني: العموم القرآني، وهو قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الممتحنة: 8 - 9]. فهذه الآية الكريمة تُخَصِّصُ العمومات (¬1) الواردة في هذا الباب، وتبيِّنُها. وقد ذكر الزمخشري في " الكشاف " (¬2) أن المعنى: لا ينهاكم عن مبرَّة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولِّي هؤلاء. قال في " الكشاف ": وهذا رحمةٌ لهم لتشدُّدهم وحدهم في العداوة، حيث رخَّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم (¬3) بقتال المؤمنين، وإخراجهم من ديارهم. انتهى. فإذا كان هذا في صلة الكفار والبِرِّ بهم، فكيف في الوفادة عليهم، وأخذ أموالهم (¬4)؟ فإنه ليس في ذلك شيءٌ من البر والإعانة لهم، بل هو في الحقيقة أذيَّة لهم، وتقليلٌ من أموالهم التي ينفقونها في السرف والمعاصي، فكيف في الوِفادة على ملوك المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مع الإجماع على جواز محبة العاصي لخَصْلَةِ خيرٍ فيه، ولا أعظم في خصال الخير مِنْ قول: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، كما ثبت في الحديثِ الصحيح (¬5). الحجة الثالثة: فعل يوسف عليه السلام مع عزيز مصر، وليس فيها إلاَّ أنه ¬
من شرع من قبلنا، وقد تقدم أن المنصور بالله وغيره من العلماء قالوا: إنه حجة إذا ذُكِرَ في كتابنا، وقد ثبت الدليل على صحة ذلك فيما تقدم، وليس ينبغي أن نعترض هذه الحجة بأن يوسف عليه السلام نبيٌّ، فإنه لو لم يكن نبياً، لم يحتج بذلك، فتأمَّل ذلك. الحجة الرابعة: أن الأصل الإباحة، ولا دليل صحيح ينقُلنا عنه، ولنقتصر على هذا القدر في الاحتجاج على إباحة هذا الأمر، لا على استحبابه، فتركُه أفضلُ بلا ريب. الحجة الخامسة: ما حكاه السيد عن القاضي والحاكم -وهما شيخا الاعتزال- من الاحتجاج على جواز ذلك بقوله تعالى: {فقولا له قولاً ليِّناً لعله يَتَذَكَّرُ أو يخشى} [طه: 44]، وقولهما: إن الظالم أولى بذلك من الكافر، وقد تقدم ذلك مستوفى في مسألة المتأولين، وتقدم بعضه قريباً في أوَّل هذه المسألة. ويلحق بهذه الجملة تنبيهٌ عظيم النفع، وهو يشتمل على أمرين: أحدهما: أن الحاجة إلى معرفة هذه المسألة عامة، فالكل مُبتلى بها، إلا النادر، فالأئمة مُبْتَلَوْن بها لمخالطتهم للفَسقة من الجُند والأعوان، ومن ليس من أهل الأمر، ومن لا يخالطهم، فهو مبتلى بمخالطة قُطَّاع الصلاة من العامة، ولكثيرٍ من أهل المعاصي، أما الكبائر أو الملتبسة كالغيبة ونحوها، ولا يكاد الإنسان يسلم من مخالطة من هذه صفته من جيرانه وأهله وأعوانه على الدنيا، بل قد تكون الزوجة والولد كذلك، وأمثال هذا كثير. الأمر الثاني: أن مُنتهى ما في الباب أن يقوم عند بعض أهل المعرفة دليلٌ على تحريم المخالطة للملوك من غير فعل حرام، لكن هذا لا يقتضي جرح من فعل ذلك. لأن هذه مسألة ظنية، والدليل فيها من كلا الجانبين غير قاطعٍ، فالمعتقد لتحريم ذلك يلزمه (¬1) المخالطة للملوك من غير اجتنابه، ولا يحل له ¬
المخالطة للمصالح المتعلقة بالعامة
القدح على من فعل ذلك اجتهاداً أو تقليداً. وبهذا الكلام تم القسم الأول من أقسام المخالطة، وهو المخالطةُ لنيلِ شيءٍ من الدنيا على وجهٍ يحِلُّ. القسم الثاني: المخالطة للمصالح المتعلِّقة بالعامة من الشفاعة للفقراء، والتبليغ بالمظلومين (¬1) أو نحو ذلك، أو المصالح الخاصة بالملوك من وعظهم أو تذكيرهم وتعريفهم بما يجب للمسلمين وتعليمهم معالم الدين، وسواءٌ كان ذلك على جهة التصريح (¬2) أو التلويح مع حُسْنِ النية، وهذا القسم يكونُ مستحبّاً غير مكروهٍ، وسواء كان الغرض الحاصل من ذلك تركهم للباطل كله، أو تركهم لبعضه، وتخفيفَهم منه، إلاَّ أن يكون في الزمان إمامُ حقٍّ يدعو إلى حرب الظَّلَمَةِ، فإن المصير إليه هو الواجب، وإنما قلت: إن هذا يكون مستحبَّاً، لِمَا ورد في ذلك من الآثار الصحيحة، مثل قوله عليه السلام: " أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ " (¬3). وقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: " الدين النصيحة ". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ورسوله، ولعامة المسلمين وأئمتهم " (¬4)، فالسلاطين من جملة عامة المسلمين -أعني أهل الملة- ولأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يخالطون الكفار لمثل ذلك، ولأن الحسن عليه السلام كان يُخالط معاوية، ويدخُلُ عليه، ويُكاتبُه لمثل ذلك. ومن كلام الإمام الداعي يحيى بن المحسن في " الرِّسالة المخرسة لأهل المدرسة " قال عليه السلام: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه، لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عُرِفَ بمتابعة الظَّلَمةِ ¬
لوجهٍ يُوجبُ ذلك، فتولى الناصر الكبير عليه السلام منهم، وصلى لهم الجمعة جعفر الصادق، وصلَّى الحسن السِّبط على جنائزهم، وأقام علي بن موسى الرِّضا مع المأمون، وكثر جماعته، وتزوَّج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك. والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له، فتأويله ممكنٌ إلى كلامٍ حذفناه، قال في آخره: لا تكون المتابعة فيما يمكن التأويل فيه موالاة، لأن كثيراً من العِترة عُرِفَ بمتابعة الظلمة لوجه، كما ذكرناه. القسم الثالث: المخالطة للتقية، وهي جائزةٌ، لِنَصِّ القرآن، قال الله تعالى: {إلاَّ أن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، وسواءٌ أظهر المخالط أنه خالط لأجل التقية، أو لم يظهر ذلك، فإن الأكثرين لا يتمكنون من إظهاره، بل التقية تقتضي كتم ذلك. القسم الرابع: المخالطة لأجل الجهاد والغزو معهم للكفار، ممن يستجيزُ ذلك. وقد فعل ذلك غير واحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من خيار المسلمين، بل قد قام الجِلَّةُ والفضلاء مع المختار الكذاب الذي ادعى النبوة، وكَذَبَ على الله ورسوله لما قام بثأر الحسين عليه السلام، وهذا أيضاً لا يُعترض على فاعله، لأنه ظني لا قاطع على تحريمه. القسم الخامس: المخالطة لأجل القرابة والرحامة، وهذا أيضاً جائزٌ، وقد رخَّص الله تعالى للمسلمين في صِلَةِ المشركين على العموم إذا لم يجاهروهم بالحرب والإخراج من الديار، وفي " الكشاف " (¬1) أن قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، نزلت في قتيلة بنتِ عبد العزى أم أسماء بنت أبي بكرٍ، قَدِمت وهي مشركةٌ إلى بنتها، فلم تقبل هداياها، فنزلت الآية، وفي " صحيح البخاري " (¬2) معنى هذا ولفظه. ¬
وأصرح من هذا قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروفاً بين أرحامه من الكفار والمسلمين. الفائدة الثانية: في الإشارة إلى من فعل شيئاً من ذلك ومن لم يفعله، وهذه الفائدة تحتمل التوسيع الكثير، ولكن لا فائدة فيه، ولا طريق إليه، فالاستقصاء لذلك يحتاج إلى استحضار كثيرٍ من كتب التواريخ، والإشارة إلى الجُملة تكفي مع ذكر عيون ذلك إن شاء الله تعالى. فأمَّا من لم يقع منه شيءٌ من ذلك، فهم النادر من خواصِّ أهلِ الزهادة، وأفرادهم الذين فرُّوا بأنفسهم من الفِتَنِ، وصبروا على خشونة العيش، ومفارقة الوطن، وأكثر من اشتهر ذلك عنه، وصح تنزهه من ذلك من أئمة العترة عليهم السلام الإمامان الزاهدان: القاسم والهادي وكثيرٌ من أهل البيت عليهم السلام، ولذلك سبقا كثيراً مِمَّن قبلهما، وفاتا من بعدهما، ورجحا في ميزان التفضيل على جلة الأئمة، وتميَّزا بالجلالة العظيمة عند عُلماء الأمة. وفي الرواية المشهورة: أن المأمون بَذَلَ للقاسم عليه السلام وَقْرَ سبعة أبغُل ذهباً، ويبتديه بكتابٍ أو يجيبُه عن كتابٍ، فامتنع القاسم عليه السلام من ذلك، ولامته زوجته على ذلك، وله عليه السلام أشعارٌ في هذا المعنى، منها قوله عليه السلام: تقول التي أنا رِدْءٌ لها ... وقَاءَ الحوادث دُون الرَّدى ألسْتَ ترى المال منهله ... مخارِم أفواهها باللُّهى فقلتُ لها وهي لوَّامَةٌ ... وفي عيشها لو صَحَتْ ما كفى كفافُ امرىء قانعٍ قوتُه ... ومن يَرْضَ بالقُوتِ نَالَ الغِنَى ومنها قوله عليه السلام: أسَركِ أنْ أكونَ رتعـ ... ـتُ حيثُ المالُ والبَهَجُ
ذريني خَلْفَ قاصِيَةٍ ... تَضَايَقُ بي وتَنْفَرِجُ ولا تَرْمِنَّ بي غرضاً ... تطاير دونه المُهَجُ ومن أئمة الحديث والفقه أبو حنيفة، ومالكٌ، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم. وقد تقدم ذكر ما لأحمد بن حنبل في ذلك من المبالغة الكبيرة في ترجمته في الوهم الخامس عشر، وإنما استوفيت ذلك في حقه، لما وقع في حقه من الجهل الفاحش المزري بصاحبه. نسأل الله السلامة. وفي العلماء والصالحين عددٌ كثيرٌ قد انتهجوا منارهم، واقتفوا آثارهم. وأما من خالط الملوك، أو كاتبهم، أو قَبِلَ عطاياهم، فهم السواد الأعظم من المتقدمين والمتأخِّرين والصحابة والتابعين. وأنا أذكر منهم عيوناً حسب ما حضرني، وأقدِّمُ قبل ذلك مقدمتين: إحداهما: أنِّي، وإن سردتهم في الذكر، فهم متفاوتون عندي في المراتب، حسبما أسلفت من تقسيم المخالطة إلى تلك الأقسام، فمنها المخالطة المستحبَّةُ، ومنها المباحة، ومنها المكروهة، لكن هذه الأنواع كلها تدخل تحت جنس الإباحة لما تقدم من الدليل على ذلك. المقدمة الثانية: أن القصد بذكر أن يُعْذَرَ المفضول النازلة درجته بسبب ذكر ما فعل الأفضل، وإن كانا مختلفين، فالأفضل فعل ذلك على وجه يُستحبُّ بنيةٍ صحيحةٍ يحصل معها (¬1) الثواب على فعله، والمفضول يفعل (¬2) ذلك على وجه يُكره أو يُباح، لكن لو كان ذلك الفعل في رتبة التحريم مثل شرب الخمر، وقتل النفس لم يصدر من الفاضل البتة، ولتحاماه جميع الفضلاء كما تحاموا فعل المحرمات، وكما تحاماه القاسم عليه السلام، ولم يترخص في شيءٍ منه. ¬
فلتكن هاتان المقدمتان على بالٍ من الناظر في ذلك كي لا يحسب أني لم أُميِّر الفاضل من المفضول، ولم أعرف ما بينهما من الفرق العظيم، وهذا حين أبتدىء في الإشارة إلى ذكرهم على طبقاتهم. الطبقة الأولى: طبقة الأنبياء عليهم السلام، وقد أشرت إلى مخالطة يوسف عليه السلام لعزيز مصر فيما مضى، وقريبٌ منها مخالطة نوحٍ ولوط لزوجتيهما مع كفر زوجتيهما، وقول نوحٍ عليه السلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] يسأل (¬1) الله بذلك أن يكون معه في السفينة مخالطاً له وناجياً معه، وهذا إنما يكون حجة إن لم يصح أن ابنه كان منافقاً، وقد رُوِيَ ذلك، والله أعلم بصحته. فهذا وأمثاله وقع مِنَ الأنبياء عليهم السلام، ولم يجب أن يحملهم على كراهة المعاصي، وكراهة العُصاة على طلاق الزوجة العاصية، وعلى أن لا يرقُّوا لأحدٍ من أرحامهم العصاة (¬2)، ولا ذمَّهم الله تعالى بهذا لأجل هذا المعنى، بل أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم لما جادل عن قوم لوط، فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، ولم يزد في نهيه عن ذلك على أن قال: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: 76]. الطبقة الثانية: الأئمة والسادة من أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم، وقد كان الحسن بن عليٍّ عليه السلام يكاتب معاوية، ويدخل عليه، ويأخذ منه العطايا، وذلك على الجملة مشهورٌ في كتب أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، ورُوِيَ أن الحسن عليه السلام وعبد الله بن جعفرٍ الطيار عليه السلام سألا معاوية في خلافة عليٍّ عليه السلام، فأعطى كل واحدٍ منهما مئة ألفٍ، فبلغ ذلك عليّاً عليه السلام، فقال: ألا يستحيان من رجلٍ نَطْعُنُ في عينه بُكرة وعشيَّاً يسألانه المال؟! ¬
ورُوِيَ عن أبي هريرة أنه كان إذا أعطاه معاوية، سكت، وإن لم يعطه، تكلم (¬1). وكانت أرزاق الصحابة بعد صُلح الحسن عليه السلام من معاوية، فإنه تولى ما كان يتولاه الخلفاء من قبله من بُيوت الأموال وأرزاق المسلمين، وكانوا يُخالطونه ويحضُرُون مجلسه، ولهذا نُقِلَ عنهم في الأحاديث الصِّحاح أنهم كانوا ينكرون عليه ما فعله من المنكر بحضرتهم، ولو كانوا غائبين عن حضرته، ما اتفق منهم ذلك على ذلك الوجه، وذِكْرُ ذلك على التفصيل يطول. ومِنْ أشهرِ ما يُذكر في هذا المعنى مخالطة علي بن موسى الرضا عليه السلام للمأمون بن هارون، وسكونه في قصره، واستنكاحُه ابنته لولده، ورغبته في مُصاهرته، واستمراره على ذلك حتى مات عليه السلام. ومن ذلك ما رُوِيَ أن الإمام محمد بن إبراهيم صِنْوَ القاسم عليهما السلام، وفَد على بعض البرامكة، فرأى من كرمه وإكرامه أمراً عظيماً، فأقسم أن لا يوفد أحداً بعده، هذا وهو الذي كان القاسم عليه السلام من عُمَّاله، وكان يقال: أعْظِم بإمامٍ القاسم بن إبراهيم عليه السلام من عماله. ومن ذلك مصاهرة الإمام المنصور بالله عليه السلام للسلاطين بني حاتم، وفي ديوانه عليه السلام ما لا مزيد عليه من الثناء عليهم، والتأليف لهم بالتهاني والمراثي وأمثال ذلك من المُلاطفات، وذكر إقامته معهم في ذي مرمر، والشَّوق إلى عَوْدِ تلك الأيام، وذكر طيبها على عادة الشعراء في الرَّقائق الشَّوقيَّة. ¬
ومن ذلك مخالطة السيدين الإمامين المؤيد بالله وأبي طالب للصاحب الكافي (¬1)، وكان مشهور الحال من جملة وُلاة الظلمة المعروفين ببني بُوَيه، ولما مات لم يستحل المؤيد بالله وقاضي القضاة الصلاة عليه، حدثني بذلك حيٌّ الفقيه علي بن عبد الله رحمه الله -أعني تحريمهم من الصلاة عليه- وأما ظلمه وحاله، فهو معلوم، لكنه كان معتزلي العقيدة، وحسن التشيع، ذا حظ وافرٍ من الأدب والتمييز، بليغ التعظيم لأهل البيت وسائر العلماء وأهل الأدب، وقد كثُرَتْ لذلك مخالطتهم (¬2) له واتباعهم له، حتى حكى في " الحدائق " (¬3) أن المؤيد بالله مدحه بقصيدة بليغة ذكرها في " الحدائق " ومنها: وكم لك في أبناء أحمد من يدٍ ... لها مَعْلَمٌ يوم القيامة ماثلُ إليك عقيد المجدِ (¬4) سارَتْ رِكابُهم ... وليس لها إلاَّ عُلاك وسائِلُ فأعطيتهم حتى لقد سَئِمُوا اللُّهى (¬5) ... وعاذَ من العُذَّال من هو سائِلُ وأسعدتَهم والنَّحسُ لولاك ناجمٌ ... وأعززتهم والذُّلُّ لولاك شاملُ فكل زمانٍ لم تُزَيِّنْهُ عاطلٌ ... وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ وقد نَقَمَ على المؤيد هذا البيت مسلمٌ اللجي، وقال: هذا لا يليق إلاَّ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقصيدة طويلةٌ معروفةٌ مشهورةٌ، ومن جُملتها: ¬
ألا أيُّهذا الصاحب الماجد الذي ... أنامله العليا غُيوثٌ هواطِلُ أنامل لو كانت تشير إلى الصفا ... تَفَجَّر للعافين منها جداولُ لأغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعْدِمٌ ... وأعطيتَ حتَّى ليس في الناس آمِلُ ومن ذلك ما رواه السيد الإمام أبو عبد الإله محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي الحسني مصنف كتاب " الجامع الكافي " في مذهب الزيدية، فإنه قال فيه في المجلد السادس في باب محاربة أهل الحرب: قال محمد -يعني ابن منصور-: حدثني أبو الطاهر، حدثنا حسين بن زيدٍ، عن عبد الله بن حسنٍ وحسنُ بن حسنٍ، إنهما دخلا على عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عليهم السلام، وهو يتجهَّز يريد الغزو في زمن أبي جعفر، فقالا له: مع هذا وهو يفعل ويفعل؟! فقال: حدثتني أمي خديجة بنت علي بن الحسين، عن أبيها، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الجهاد حلوٌ خَضِرٌ، لا يزيده عدل عادلٍ ولا ينقصه جور جائرٍ إلى آخر عصابة تقاتلُ الدجال " (¬1). ¬
ومن كثُرَت مطالعته للسير والأخبار، عرف من هذا كثيراً، ولهذا قال المنصور عليه السلام -لما كان من أعرف الناس بالسير والأخبار- روى عليه السلام أنه لم يبق طالبيٌّ إلاَّ وفد على المأمون إلاَّ القاسم عليه السلام. وأما الطبقة الثالثة: وهي طبقة الفقهاء، فمن المشهور في مثل هذا: مخالطة الإمام الشافعي رضي الله عنه، والقاضي أبي يوسف (¬1)، ومحمد بن الحسن الشيباني المجمع على نقل مذاهبهم، والاعتداد بهم، فإنهم كانوا يخالطون هارون، وقد كان القاضي أبو يوسف يسافر معه، ويركب معه في المحمِلِ فيما روى أهل التاريخ، وكانت للشعبي التابعي الجليل مخالطةٌ كثيرةٌ، وله في ذلك قصةٌ غريبةٌ مذكورةٌ في ترجمته، على أنه كان من أهل التشيع لأهل البيت عليهم السلام، وقد كان قاضي القضاة وطبقة من علماء الطوائف يخالطون الصاحب الكافي، ويثنون عليه، ويحاضرونه، وكان له مجلسٌ معهم في كل يوم، فأخبارهم في ذلك مشهورة في كتب التواريخ، وقد كان العلامة ابن أبي الحديد وزيراً لابن العلقمي، ومن أجله صنف شرح " نهح البلاغة " كما ذكره في خطبته (¬2) وله في ابن العلقمي الثناء العظيم والمدح الكبير، مع الاختلاف في المذهب، فابن أبي الحديد معتزلي وابن العلقمي إماميٌّ. وقد كان القاضي شرف الدين حسن بن محمد النحوي والفقيه حاتم بن منصور معاصرين للأمراء من الأشراف في صنعاء، وكانت طرائقهما مختلفة في مخالطتهم وتحسين العبارة في محاورتهم، وكان القاضي (¬3) شرف الدين يزورهم، ويبتدئهم بالسلام والإكرام، ويفعلون له مثل ذلك مع ورعه وعلمه، ولم يقتض ذلك قدحاً في حي القاضي شرف الدين، لكونه كان ألين عريكةً ¬
من حي الفقيه حاتم وغيرهما. ممن (¬1) لم أحب ذكره لخوف التطويل. ويلحق بهذا تنبيهٌ، وذلك إنما عَظُمَ إستقباحنا لمخالطة الظلمة، لأنا لم نحوج إلى مخالطتهم، لإقامتنا في بلاد أئمة العدل من أهل البيت عليهم السلام، واعتيادنا لرفقهم بنا، وعدم مؤاخذتهم لنا، وعفوهم إن أخطأنا، وصبرهم إن جهلنا، ومسامحتهم في حقِّهم وبذلهم لحقنا، فنحن كالمعافى الذي لا يألم قط، لا يعرف قدر العافية، ولا يدري ما مع الأليم من الضرورة، ولو أنَّا ابتلينا بالدول الجائرة المتعدية، لعرفنا أعذار من خالط أولئك الظلمة، وعرفنا ما ألجأهم إلى ذلك حق المعرفة، فنسأل الله تعالى دوام النعمة علينا، فإنا في عافية مما الناس فيه، ببركات (¬2) أهل البيت عليهم السلام، فنحن لعدلهم آمَنُ من الحمام في البيتِ الحرام، بل قد نسينا نعمة الأمانِ بعدلهم، واشتغلنا بطلب رِفدهم وفضلهم، فلله الحمد والمنة، وله الشكر على هذه النعمة. واعلم أن مقاصد العلماء تختلف في هذا الباب، فقد يستحسن العالم من ذلك (¬3) ما يستقبحه غيره، وذلك معلومٌ من أحوال العلماء والفضلاء، وقد كان الأمير علي بن الحسين صاحب " اللُّمع " يواصل بعض أعوان أولاد المنصور عليه السلام في زمن الداعي، فاعترضه بذلك الإمام الداعي، والأمير إنما فعل ذلك لمصلحةٍ رآها، وإن كان الداعي لا يراها، وعلَّة التحريم المودة التي نَقَمَها الله على حاطب بن أبي بلتعة، فإذا لم يكن ثمَّ مودة، فالمسألة اجتهادية، والأعمال بالنيات، والمجمع عليه من تحريم المودة أن يكون لأجل المعصية، بخلاف ما إذا كانت لخصلة خيرٍ كما سيأتي. والفائدة الثالثة في الدليل على أن المخالطة ليست موالاةً، والدليل على ذلك أن الموالاة هي الموادة والمحبة، لا المخالطة. ¬
ثم إن الموالاة المحققة التي هي المحبة تنقسم إلى قسمين قطعي وظني: فالقطعي: محبة العاصي لأجل معصيةٍ، وهذا القدر هو (¬1) المجمع على تحريمه دون غيره، ذكر ذلك الإمام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام، وهو ينقسم أيضاً، فمنه ما يُجرَح به في الرواية في الحديث، وهو ما وقع على جهة الجرأة دون التأويل، ومنه ما لا يجرح به في الرواية، وإن كان جرحاً في الديانة، وهو ما وقع منه على سبيل التأويل كما قدمنا ذلك في مسألة المتأولين. القسم الثاني من الموالاة، وهو الظني، وفيه فائدتان: الفائدة الأولى: أن نصوص أهل المذهب تقتضي الترخيص الكبير في ذلك، فإنهم نصوا على جواز محبة العاصي لخصلة خير منه، ممن نص على هذا: القاضي شرف الدين رحمه الله، وهذا هو الذي جعله القاضي شرف الدين مذهب الهادي مع تشدده عليه السلام في الموالاة، وفيه ترخيصٌ كبير، لأنه قل من ليس فيه خصلة خيرٍ من أهل المعاصي والظلمة، وليس ثبوت فسق فاسق يدلُّ على أنه لم يبق فيه خصلة خير قط، ولو أنك طلبت دليلاً على أن بعض الفسقة أو الكفرة ليس فيه خصلة خير ألبتة، لتعذر ذلك عليك غالباً، بل قياس كلام أهل المذهب جواز محبة العاصي لمنفعةٍ دنيوية، وذلك لأنهم قد أجازوا نكاح الفاسقة بقطع الصلاة وسائر المعاصي، إلاَّ الفاسقة بالزنى. على أن الفقهاء الأربعة والجمهور أجازوا نكاح الزانية مع الكراهة، لحديث الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَرُدُّ يد لامس، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طلقها "، قال: إن نفسي تتبعُها، قال: " فاستمتع بها " (¬2). ولهم في الآية الكريمة تفسيران (¬3): أحدهما: أنها منسوخة، وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي. ¬
والثاني: أنها واردةٌ مورد الذم لمن لا يحب إلاَّ نكاح الزواني والمشركات بدليل أن في ظاهرها ما هو متروك وفاقاً، وهو انفساخ النكاح بزنى الرجل، وجواز نكاح المشركة للزاني، ولأن القراءة: {لا تَنْكِحُ} بالرفع على الخبر. وكذلك أحمد بن عيسى عليه السلام، وزيد بن علي قد أجازا نكاح الكتابية من اليهود والنصارى (¬1)، وأجازه (¬2) الإمام يحيى بن حمزة وكثير من الفقهاء، وقد تقدم ذكر ذلك، ودعوى الإجماع عليه من الصحابة مع أنه لا يكون بين أحدٍ من المحبة والأُنس ما بين الزوجين، فالذي بينهما في ذلك (¬3) واقعٌ في أرفع مراتب المحبة، فهذا في محبة الزوجة من غير ضرورة إلى نكاح الفاسقة والكتابية، ومن غير اعتبار خصلة خير، فكيف بما وقع من ذلك مع الضرورة، أو كان لخصلة خير؟ الفائدة الثانية -وهي العمدة-: أن الجاهل قد يرى بعض العلماء يفعل فعلاً وهو يحفظ أنه حرامٌ، فيقدح عليه بذلك، ولم يدر أنه إنما يحفظ ذلك تقليداً لأهل المذهب، وليس لأحدٍ أن يعترض غيره في مسألة اجتهاديةٍ، سواء كان مقلداً أو مجتهداً إذا كان ذلك الغير مستحلاً لما فعله، وسواء كان مقلداً أو مجتهداً، ومسائل الموالاة الظنية من هذا القبيل، فلو كان عالماً خالفنا في مسألةٍ ظنية من مسائل الموالاة، فذهب إلى جوازها، وذهبنا إلى تحريمها، لم يكن لنا أن نقدح عليه بفعله لما استحله، وهذا واضحٌ. واعلم أن أكثر المحرمات تشتمل على قطعي وظني، كالربويات، فإن الربا من الكبائر المنصوصة المجمع عليها، ولا يحل الجرح بمسائل الخلاف التي فيه، فإن المؤيد بالله عليه السلام وغيره من علماء الإسلام يجيزون منه صوراً يذهب غيرهم إلى أنها ربا، وقد قدمت جملة من ذلك. ¬
ومن لطيف ما يجري في هذا المعنى القدح على كثيرٍ من العلماء الأفاضل بما يجري منهم من الغيبة، أو يجري في حضرتهم ولا ينكرونه، والذي عندي: أن الأولى للمتحرِّي أن يترك الغيبة وينكرها، ولكن لا يقدح على من يفعلها، ولا ينكرها إلاَّ بعد العلم، فإن تلك الغيبة التي صدرت منه غيبةٌ مجمعٌ على تحريمها، مقطوعٌ بقبحها، فإذا وقعت الصورة الظنية المختلف فيها ممن له بصيرةٌ، لم يؤمن أن يكون له وجه تساهله فيها أنه يستحلها، فلا يجوز عقد القلب على سوء الظن به، والقطع بأنه يُقدِمُ على ما يعلم أنه حرام، والله أعلم. فإذا عرفت هذه الجملة، فاعلم أن الموالاة من جملة المحرمات التي يكون فيها المقطوع بتحريمه، المجمع على تأثيم فاعله، ويكون فيها الظنى الذي كل مجتهدٍ فيه مصيبٌ، فلا يجرح بهذا القدر منها. وقد كان عمرو بن عبيد على جلالة قدره، وفخامة أمره، يواصل المنصور العباسي، لا لتقريره على ما كان فيه من الفساد في الأرض، وقتله أهل البيت عليهم السلام، ولكن ليعظه، وله معه مواقف مشهورةٌ، ومواعظ مأثورة، فلم تحرم صورة المواصلة، ولا مجرد المخالطة (¬1). وقد اشتملت هذه الفائدة على جواب ما ذكره السيد من القدح على الزهري بموالاة الظلمة، وتبين بهذا أن ذلك لا يتم للسيد إلاَّ بعد أمورٍ أربعة (¬2): أحدها: أن يدل بدليلٍ قاطعٍ على أن المخالطة لأهل المعاصي محرمةٌ بمجردها، وإن لم يفعل المخالط لهم شيئاً من معاصيهم، ولا يستدل في ذلك بعمومٍ ولا خبرٍ آحادي، فإنهما ظنِّيَّان، ولا بما يجوز (¬3) أنه معارض أو منسوخٌ أو نحو ذلك. وثانيها: أن يدل بدليلٍ قاطعٍ على أنها تستلزم الموالاة المُجمع عليها، ¬
التي هي المحبة والموادة التي محلها القلبُ، وأنه يستحيل من المُخالط أن يُضْمِرَ الكراهة لِمَنْ خالطه استحالةً علميةً قطعيةً، وإن لم يكن كذلك، لم يعلم أن المخالط موالي موالاة مجمع على تحريمها. وثالثها: أن يدل بدليل صحيح قطعي أو ظني على (¬1) أن الزهري ما أحبهم لأمرٍ من الأمور، إلاَّ لكونهم ظلمةً عُصاة منتهكين لحُرَمِ الإسلام، لا لعَرَضٍ دنيوي يناله منهم، مثلما تجد الأشعريَّة يُحِبُّون الشيخ أبا الحسن الأشعري لكونه إمام مذاهبهم، والمعتزلة يحبُّون الجُبَّائيَّ لمثل ذلك، فهذه ونحوها (¬2) موالاةٌ قطعاً، وإنما لم تشرط أن يكون الدليل هنا قطعياً، لأنه لا سبيل إلى ذلك، ولأن الظنَّ يكفي في ثُبوت الجرح عن صاحبه، ولكن لا بُدَّ أن يكون ذلك الأمرُ المجروح به قبيحاً في نفسه قطعاً، هذا إن أراد السيد أن يستدل بذلك لنفسه، وإن أراد أن يُلزِمَ غيره جرح الزهري، ويحرم على غيره المخالفة لزم (¬3) أن يكون دليله على ذلك قطعياً. ورابعها: أن يستدل السيد بدليلٍ صحيحٍ على أن الزهري في ارتكاب تلك المعصية مجترىءٌ على الله، عالمٌ بما فعل، كشربه الخمور، غير متأوِّلٍ في فعله، كالبُغاة والخوارج، ويكفيه في هذا أن يكون دليله ظنياً إن أراد الاستدلال لنفسه، وإن أراد الإلزام لغيره، وتحريم المنازعة له، لزمه أن يكون دليله قطعياً، فإذا استدلَّ السيد على هذه الأُمور الأربعة على الصِّفة المذكورة، حَسُنَ منه أن يجول في ميدان علماء الجرح والتعديل، وإلا فالصَّمت له أسلم، والله سبحانه أعلم. الفائدة الرابعة: في الإعانة على المعاصي، وإعانة الظلمة، وهي أيضاً قسمان: قطعي وظني: ¬
فالقطعي منها: هو أن يُعين الظالم بالمال أو نحوه، قاصداً بذلك أن يتمكَّن الظالم بسبب إعانته له من الظلم وفعل الحرام، أو يكون مباشراً للمعصية بنفسه، كمن يقاتل معهم المسلمين، ويقبضُ لهم الأموال، من المعاقبين، أو يأمر بذلك. فأما من لم يفعل المعصية بنفسه، ولا أمر بها، ولا قصدَ الإعانةَ عليها، فإنه لا يُسَمَّى مُعيناً لهم، فإن قوي لبعض العلماء أنه معينٌ لهم، كان ذلك على سبيل الظن والاجتهاد الذي لا يُقْدَحُ به على مخالفه، ولهذا اختلف العلماء في مسائل الاجتهاد (¬1) مما يتعلق بهذا الباب، منها بيع السلاح والخيل من المحاربين للإمام والمفسدين في الأرض، والخلاف في ذلك معروفٌ. وممن أجاز ذلك: الأمير الحسين بن محمد صاحب " شفاء الأوام ". وقد أجمع العلماء على جواز صُوَرٍ من هذا القبيل، مثل: صلة الوالدين العاصيين، فقد أمر الله بمصاحبتهما في الدنيا معروفاً، وإن كانا مشركين، فلا خلاف أنه يجوز للولد أن يطعِمَهما ويكسوهما، وإن كان يظن أنه إذا تركهما، قتلهما بالجوع والبرد، وإن طعمه لهما في بقائهما الذي هو سببٌ في معاصيهما، وكذلك يجوز للإنسان أن يبيع طعامه من العاصي، وإن كان يعرف أن العاصي إذا أكل ذلك الطعام يقوى بأكله على فعل كثيرٍ من المعاصي. ومن ها هنا لم يكن الله تعالى مُعيناً على المعاصي لما كان غير مريدٍ للإعانة عليها، وإن كان قد خلق ما هو عونٌ عليها من الأرزاق الواسعة التي يسوقها إلى العُصاة، وقوة الأبدان وصحتها، وقد تختلف الظنون فيما ليس بقطعيٍّ من الإعانة، ويقع الاختلاف في صُورتين: إحداهما: في أن الشيء محرَّمٌ أم لا، مثاله: بيع السلاح من البغاة فقد يظن المجتهد أنه لا يحرُم من غير قصدٍ لإعانتهم، فيخالف في جواز ذلك، وإن ظن أن السلاح يعينهم. ¬
وثانيهما: دون هذه المرتبة، وهو أن يُسلِّمَ أن ذلك حرامٌ إذا كان يعينهم، ولكن يغلب على ظنه أنه لا يزيدهم، ولا يظهر له أثرٌ في إعانتهم، وأن البيع منهم والامتناع على سواءٍ، ومثل من يبيع العنب ممن لا يظن أنه لا يتَّخذه خمراً، مع اعتقاده أن بيعه ممن يتخذه خمراً حرامٌ، فإذا اختلفت الظنون في مثل هذه الأمور، كان كلٌّ مكلَّفاً بظنِّه. ثم الإعانة القطعية المجمع على تحريمها تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون جرحاً في الرواية، وهو ما صدر من فاعله مع اعتقاده لتحريمه، ومنها ما يكون جرحاً في الديانة دون الرواية، وهو ما فعله صاحبه مع اعتقاده لجوازه. وأما القسم الظني، فلا يجرح من استحله، لا في الديانة ولا في الرواية. وقد تختلف فيه الظنون، فقد يغلِبُ ظنُّ العالم أو غيره أنه لا يعين الظالم بمخالطته، بل قد يظن أن في مخالطته مصلحةً دينيةً، وإن كان غيره يظن أنه يعين الظالم، وأن في مخالطته مفسدة، فليس يجب عليه ترك ظنه والرجوع إلى ظنِّ غيره بالإجماع. وكذلك الإقامة في مدائنهم: قد يصح فيها قريبٌ مما يصح في المخالطة من أنها إعانةٌ لهم، وأن الناس لو تركوا بلادهم، فلم يجدوا فيها من يُصلِّي بالجماعة، ولا من يفتي العامة، ولا من يفصل بين الخصوم ويقضي بينهم، لكان ذلك مُوحشاً لهم، منفِّراً لكثير من الإقامة في أوطانهم، وفي ذلك تقليل عددهم، وإظهار فسقهم، بل لو هاجر الجميع من المكلَّفين من بلادهم، ما استقروا فيها، ولتعطَّلت مصالحهم من الخراج والجبايات، ففي إقامة المسلمين في بلادهم إعانةٌ وإيناسٌ، ولهذا أوجب الهادي والقاسم عليهما السلام المهاجرة من دار الفسق، لكن هذا لا يجب على القطع، ولهذا خالف المؤيد بالله وغيره من أهل البيت عليهم السلام وسائر الفقهاء، وقالوا: إن ذلك لا يجب، ولم يجرح أحدٌ ممن لم يهاجر من بلادهم، لا في دينه ولا في روايته، فإن الجِلَّة من الصحابة والتابعين ما هاجروا من بلاد الفسقة، كالحسنين عليهما
السلام وجميع الصحابة، فإنهم أقاموا في المدينة، والحكم فيها لمعاوية، وهذا حجةٌ على قول الشيعة والمعتزلة، وفي مذهب أهل الحديث فيه ما تقدم من نقل القرطبي، وكذلك علي بن الحسين وولده الباقر وزيد بن عليٍّ وحفيده جعفر الصادق وأمثالهم من الأعلام، وهذا حجة على قول الجميع، ولم يكن عذرهم في ذلك ما يتوهمه بعض الناس من العجز عن الهجرة، وعدم وجدان مهاجر، فهذا لا يكون أصلاً، وقد أخبر الله تعالى إن من يُهاجر يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسَعَةً، وردَّ الله على من اعتذر بهذا، حيث قال: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] وفي الأرض من شواهق الجبال وبُطون الأودية ما لا تصله الظلمة، والسكون فيها ممكن مقدورٌ، بل هو الذي عليه أهل الوَبَر، وفي الحديث الصحيح: " يُوشك أن يكون خير مال الرجل المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن " (¬1)، ولهذا، فإن القاسم ويحيى عليهما السلام لما اعتقدا وجوب ذلك أمكنهما. ونص في " الأحكام " على وجوب الهجرة إلى مناكب الأرض وحيث لا يرى ظالماً، وأنه إذا كان له أولادٌ، ولم يقدر على المهاجرة بهم، تكسَّب لهم ما يكفيهم مدة معلومةً شهراً أو نحوه، ثم يخرج بنفسه ويهاجر حتى يعرف أن قُوتَهم قد فرغ، ثم يعود، فيتكسَّب لهم، هكذا نص عليه في " الأحكام " أو كما قال عليه السلام. فلو ذهبنا نجرح من خالف المذهب، أو خالف الجمهور، لم يسلم من النفاق إلاَّ النادر، وذلك النادر أيضاً لا يروي عن من هو مثله، ألا ترى الهادي عليه السلام لا يمكنه أن لا يروي الحديث إلاَّ عن من هاجر من ديار الفاسقين، ولا يمكننا أن يكون بيننا وبينه عليه السلام مثله في الفضل والورع. فثبت أن الإعانة للظلمة إذا وقعت ممن يستحلُّها، لم يجرح بها، سواءٌ ¬
كانت بإقامةٍ في بلادهم، أو مخالطةٍ لهم، أو بيع السلاح منهم، أو نحو ذلك. فقد اشتمل الكلام في هذه الفائدة على جواب قول السيد (¬1) ما لفظه: وتيقنت حينئذ أن الزهري كان معيناً على قتل زيد بن علي عليه السلام، وتبيَّن أن السيد يحتاج في تصحيح هذا اليقين إلى أمور: أولها (¬2) دليلٌ قاطعٌ على أن الحاكم أبا سعيد -رحمه الله تعالى- كاذبٌ في أن الزهري خرج مع زيد بن علي عليه السلام. وثانيها: دليلٌ قاطعٌ على أن في إقامة الزهري مع هشام لتعليم أولاده، والحج معهم زيادةً في ملك هشام، يحصل بها إعانةٌ على المظالم. وثالثها: أنها حصلت من تلك الإعانة العامة على المظالم إعانةٌ خاصةٌ على قتل زيد بن علي عليه السلام، بدليل قاطع غير محتمل. ورابعها: أن الزهري كان يعرف تلك الإعانة الحاصلة بوقوفه العام منها، والخاص بزيدٍ عليه السلام. وخامسها: أنه ما وقف معهم لغرضٍ دنيوي، ولا أخروي، عاجل ولا آجل، إلا ليعينهم على المظالم على العموم، وعلى قتل زيد عليه السلام على الخصوص. فمتى حصلت له أدلةٌ قاطعةٌ علميةٌ على كل واحد من هذه الأمور الخمسة، حصل اليقين الذي ذكر، ومتى تطرق الشك والاحتمال إلى واحدٍ منها، لم يحصل اليقين بأن الزهري أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام، ولكن يحصل اليقين بأن السيد تكلم بما لا يعلم ونسي قول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. ¬
الفائدة الخامسة: أن أهل الزهد والدرجة العالية من الفُضَلاء يَعِظُون من كان دونهم في مرتبة الفضل والصلاح، ومن فعل ما لا يليق به من المباحات والمكروهات، ويوردون في وعظه من قوارع البلاغة ومجاز الكلام ما لو خرج مخرج الحقيقة، لدلَّ على إثم الموعوظ ومعصيته، مع (¬1) أنه لا يُستدلُّ بذلك على تأثيم الموعوظ لما خرج مخرج التذكير والإيقاظ والتقريع والتأنيب. وقد قدَّمت من هذا إشارةً يسيرةً في خطبة هذا الكتاب (¬2)، مثل قوله عليه السلام لأبي ذر: " إنك امرؤٌ فيك جاهلية " (¬3). وأنا أذكر ها هنا ما لم أذكره من هذا، فمن ذلك: قوله تعالى في خطاب أفضل البشر وسيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]. ومنه قوله تعالى: في حقه عليه السلام: {وَتَخْشَى الناسَ والله أحقُّ أن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، ومن ذلك قوله تعالى في جماعة من ثقات (¬4) الصحابة المجمع على فضلهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، ومنه قوله تعالى في جِلَّة المهاجرين والأنصار: {َوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [الأنفال: 68]. ومنه قول علي عليه السلام لأصحابه: أُفٍّ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً ... إلى آخره. وقوله عليه السلام لهم: بُليت بمن لا يطيع إذا أمرتُ، ولا يجيبُ إذا دعوتُ، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟! أما دينٌ يجمعكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً أناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً!. ومنه قوله عليه السلام في كلام له: وددتُ أني صارختُ معاوية صَرْفَ الدينار بالدرهم، أو كما قال عليه السلام، ¬
وفي كلاماته عليه السلام لأصحابه من هذا شيءٌ كثير. ومنه (¬1) قول الخطيب: نسينا كل واعظةٍ، وأمِنَّا كُلَّ جائحة، فهذا لو كان (¬2) على حقيقته، كان كذباً ينقُض الوضوء على المذهب. وقول الخطيب أيضاً: كأن الحق فيها على غيرنا وجب، ولو كان على حقيقته، كان جرحاً، لأن هذا الكلام لا يصدُق إلاَّ على من يضيع الواجب، ومن كان محافظاً عليه، لا يقال: إنه كمن لم يجب عليه واجب، وإنما ذكرت هذه الجملة، لأن السيد احتج على جرح الزهري بأشياء من جملتها موعظةٌ كتبها إليه بعضُ إخوانه في الله، وقد غفل السيد في الاحتجاج هذا على الجرح لوجوهٍ: أولها: أن ذلك لا يدل على الجرح حتَّى يظهر من الواعظ اعتقاد فسق الموعوظ أو تأثيمه، لكنا قد بيَّنا ما يقتضي خلافه، فإن الوُعَّاظ، وإن لم يعتقدوا قُبح (¬3) الشيء ولا إثم فاعله، فإنهم يُوردون من قوارع الوعظ وزواجر التذكير ما يُريك وقوع المكروهات من أهل العقول الراجحة في أرفع مراتب القبح تنفيراً عن سَفْسَاف الأمور وترغيباً في معاليها. وثانيها: إنا وإن سلمنا دلالة الموعظة على استقباح الواعظ للفعل (¬4) على الحقيقة، لكن لا نسلِّم أنه استقباحٌ قطعيٌّ، فقد يعتقد الواعظ تحريم الشيء، لأن عنده أنه حرامٌ بالنظر إلى اجتهاده، وهو لا يدري ما مذهبُ صاحبه فيه، فيزجره عنه زجر معتقدٍ للتحريم، ولو سُئِلَ عن تأثيم الموعوط، لتوقَّف فيه حتَّى يدري بعذره، فإذا أخبره (¬5) أنه يستحلُّه، وبين له الوجه، عَذَرَهُ. وثالثها: أنا وإن سلمنا اعتقاد الواعظ لقبح الشيء على سبيل القطع، لم يكن لنا أن نقلِّده في استقباحه، وإنما نقبله في أن ذلك القبيح وقع من ¬
الموعوظ، لا في أن ذلك الفعل نفسه قبيحٌ. ورابعها: أنا وإن علمنا إن ذلك الفعل قبيحٌ، فإنه لا يجب الجرح حتى يكون الذي فعله غير متأوِّلٍ في فعله على القوي المختار، كما تقدم بيانه. وخامسها: أنا وإن علمنا قبح الفعل وصدوره من (¬1) فاعله عمداً من غير تأويلٍ، فإنه لا يدل على الجرح مطلقاً، بل القوي المختار ما تقدم من أن الجرح لا يكون إلاَّ بكبيرة أو بغَلَبَةِ المساوىء، أو ما يدلُّ على (¬2) الخِسَّةِ، فأمَّا الجرح بكل ذنبٍ، فلا يوجد معه عدلٌ غالباً، أقصى ما فيه أن يخالف السيد في هذا، لكن هذه مسألةٌ ظنيةٌ خلافيةٌ، ليس له أن ينكر فيها على أحدٍ، وقد تقدم ذكرُ الدليل فيها وذِكْرُ من قال بذلك، فخُذْه من أول الكتاب. فإذا عرفت هذا، تبين لك أن شرط الجرح عزيزٌ، ولهذا لم يقبل المحققون الجرح المطلق، ولا قبِلُوا الجرح من ذي الإحنة، ولا جرحوا بما يجري بين الأقران عند الغضب والسِّباب ونحو ذلك. وبعد الفراغ من هذه الفائدة، أتكلم على ترجمة الزهري (¬3) بما علمت من كتب أصحابنا وكتب المحدثين، وأجعل الكلام مرتَّباً مراتب (¬4): المرتبة الأولى: في اسمه وبعض نسبه: والذي حملني على ذكره أن بعض أهل المعرفة من الأصحاب نازعني في ابن شهابٍ لما رأيناه في كتاب " أصول الأحكام " مروياً عنه، وهو كتاب الإمام أحمد بن سليمان، فقلت له: هو الزهري، فقال: ليس هو الزهري، منزِّهاً ¬
بحث في عقيدة ابن شهاب الزهري
للإمام أحمد بن سليمان عن الرواية عن الزهري، وأصر على ذلك، فالله المستعان. فأقول: الزهري: هو أبو بكر محمد بن مسلم [بن عبيد الله] بن عبد الله بن شهاب [بن عبد الله] بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري المدني، يقال له: ابن شهابٍ، نسبةً إلى جدِّ أبيه شهاب بن الحارث، والزهري نسبة (¬1) إلى جده زهرة. ولا أتحقَّقُ في اسمه اختلافاً، إلاَّ أنه وقع في نسخة من كتاب " الشجرة في الفقه " للشيخ أحمد بن محمد الرصاص: محمد بن سلمة بن شهاب الزهري، فالظاهر أنه غَلَطٌ من الكاتب، وكذا وقع في نُسخةٍ من " شرح العيون " للحاكم رحمه الله: محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري بالتقديم والتأخير في أبيه وجده، وهذا قريبٌ، فقد وقع للبخاري وغيره مثل هذا كما ذكره ابن الصلاح في كتابه " علوم الحديث "، وقد يحتمل الاختلاف، فقد اختلفوا في أسماء عدةٍ من الرواة والله أعلم. المرتبة الثانية: في عقيدته ومذهبه، أمَّا عقيدته، فذكر الحاكم رحمه الله في " شرح العيون " أنه كان من أهل العدل والتوحيد، قال الحاكم رحمه الله: وكان ممن خرج مع زيد بن عليٍّ عليه السلام، هكذا بصيغة الجزم، ولم يقل: ورُوي بصيغة التمريض، ذكره الحاكم في فصلٍ أفرده لذكر من ذهب من المحدثين إلى مذهب أهل العدل والتوحيد، فذكره فيمن ذهب إلى ذلك من علماء المدينة، وقول الحاكم: إنه ممن خرج مع زيد بن علي غريبٌ، لم يذكره الذهبي، والزيادة من الثقة مقبولةٌ في التحريم والتحليل المنقول عن صاحب الشريعة، كيف إلاَّ فيما يتعلق بالزهري. وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ترجمة علي عليه السلام من ¬
بحث في مذهب ابن شهاب الزهري
كتاب " الاستيعاب " (¬1) روي عن سلمان وأبي ذرٍّ والمقداد وخبَّابٍ وجابرٍ وأبي سعيدٍ وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالبٍ أول من أسلم، وفضَّله هؤلاء على غيره، قال: وهو قول ابن شهابٍ الزهري. انتهى. وفي هذا نسبته إلى التشيع، فإن تفضيله عليه السلام هو الخصيصة التي امتاز (¬2) بها الشِّيعة، على ما ذكره العلامة عبد الحميد بن أبي الحديد، والذهبي ليس له ولوعٌ بذكر ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، إما عصبية، وإما تقية!. وأما مذهب الزهري، فكان مجتهداً مفتياً لا مستفتياً، ذكره بذلك غير واحدٍ، منهم الشيخ أحمد بن محمد الرصاص في كتاب " الشجرة "، فإنه عدَّ فيه أهل الاجتهاد من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وممن نُقِلَتْ عنه الفتيا، فذكره فيهم، وكذلك ابن حزم ذكره في أهل الاجتهاد من علماء هذه الأمة، وكذلك علي بن المديني العلامة المعتزلي (¬3) المحدث، فإنه قال: أفتى أربعة: الحكم وحماد وقتادة والزهري، والزهري عندي أفقههم (¬4). المرتبة الثالثة: في ذكر بعض شيوخه، وبعض من أخذ العلم عنه، وأين رُوِيَ حديثه. ¬
شيوخ الزهري وتلامذته
أما شيوخه، فمنهم: زين العابدين علي بن الحسين، وولده سيد المجاهدين زيد بن علي عليهم السلام، وسيد التابعين سعيد بن المسيب، لازمه ثماني سنين، وقال مالك: عشر سنين وتفقَّه به، وأكثر عنه، ومنهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة، ومحمود بن الربيع، وسنين أبو جميلة، وأبو الطفيل عامر، وعبد الرحمن بن أزهر، وربيعة بن عبَّادٍ الدِّيلي، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعلقمة بن وقاص، وكثير بن العباس، وأبو أُمامة بن سهلٍ، وعروة بن الزبير، وأبو إدريس الخَولاني، وقبيصة بن ذُؤيبٍ، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن جبير بن مطعمٍ، ومحمد بن النعمان بن بشيرٍ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وعثمان بن إسحاق العامري، وأبو الأحوص مولى بني ثابتٍ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعامر بن سعد، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الله بن كعب بن مالك، وأبان بن عثمان، وعبادة بن الصامت. فهؤلاء من شيوخه. وممن روى عنه: الإمام جعفر بن محمد الصادق، وسادات أهل البيت عليهم السلام. ذكره المزي في ترجمة الصادق من كتابه " التهذيب " (¬1)، وعمرو (¬2) بن دينارٍ، ومنصور بن المعتمر الصالحان المشهوران، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة وعطاء المفسران (¬3) التابعيان المشهوران في كتب الفقه والتفسير والحديث، وزيد بن أسلم، وأيوب السختياني، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري، وأبو الزِّناد، وصالح بن كَيْسَان، وعُقيل بن خالدٍ، ومحمد بن الوليد الزُّبيدي، ومحمد بن أبي حفصة، وبكر بن وائلٍ، وعمرو بن الحارث، وابن جريج، وجعفر بن بَرقان، وزياد بن سعدٍ، وعبد العزيز الماجشون، وأبو أويس، ومعمر بن راشدٍ، والأوزاعي، وشعيب (¬4) بن أبي حمزة، ومالكٌ الفقيه، والليثُ ¬
صاحب الخلاف في الفقه، وإبراهيم بن سعدٍ، وسعيد بن عبد العزيز، وفُليح بن سليمان، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، وسفيان بن حسين، وصالح بن أبي الأخضر، وسليمان بن كثيرٍ، وهشام بن سعدٍ، وهُشيم بن بشيرٍ، وسفيان بن عيينة، وأمم سواهم. وأما سفيان الثوري، فرحل إليه ليأخذ عنه، فتثاقل عليه، ثم أخرج إليه كتاباً، فقال له: أروِ هذا عنّي، فكره الثوري ذلك منه، وترك الرواية عنه لذلك فقط. ذكره المزي في " التهذيب " في ترجمة الزهري والثوري (¬1). وروى الحازمي في " الناسخ والمنسوخ " (¬2) حديث علي عليه السلام في النهي عن المتعة في خيبر (¬3) عن الثوري عن شيخ الزهري الحسني بن محمد بن ¬
علمه وتوثيقه وعدالته
الحنفية، وأسقط الزهري تدليساً، لأن الحديث لا يُعرف عن الحسن إلاَّ مِنْ طريق الزهري، بل لم يصح عن عليٍّ عليه السلام من وجهٍ من الوجوه إلاَّ وهو يدور على الزهري. ويدل على تدليس الثوري للزهري فيه أن المؤيد بالله عليه السلام رواه في " التجريد " عن أبي زُبَيْد عَبْثَرِ بن القاسم، عن الثوري، عن مالكٍ، عن محمد بن مسلم -وهو الزهري- عن الحسن بن محمد بن الحنفية، فدلَّ على أن الثوري حين احتاج إلى حديثه، رواه مرة بتدليسٍ وعُلُوٍّ، ومرةً بتصريحٍ ونزولٍ على أن إسحاق بن راشدٍ روى عن الزهري أنه لم يسمع هذا الحديث من الحسن، وأنه قال: لو سمعته من الحسن، لم أشك، وقد كان الزهري يدلس أيضاً، ولم يأت عنه التصريح هنا بسماعه إلاَّ من طرف مُعَلَّة فيُحرَّر ذلك. وأما حديث الزهري، فهو مشهورٌ في كتب أهل البيت عليهم السلام. وفي سائر دواوين الإسلام، وفي كتب الفضائل، وكتب الحلال والحرام، وذكر الحاكم في " علوم الحديث " على تشيعه أنه ممن يجمع حديثه من ثقات أهل العلم كما يأتي قريباً. المرتبة الرابعة: فيما يدلُّ على علمه وتوثيقه وعدالته من كلام من صحبه وخَبَرَهُ من علماء التابعين المُجمع على عدالتهم، وكلام من بعدهم من أهلِ المعرفة والعدالة، وذلك شيءٌ أوسع، أذكر منه على قدر معرفتي. فمن ذلك أن عُمَرَ بن عبد العزيز كان يُثني عليه، ويأمرُ بأخذ العلم عنه، ¬
فروى معمرٌ التابعي الجليل عن عمر بن عبد العزيز: إيتوا ابن شهابٍ، فإنه لم يبق أعلم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه (¬1). وقال عمر بن عبد العزيز: ما أتاك به الزهري عن غيره، فشدَّ به يديك (¬2). وقال أيضاً: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تلقون أحداً أعلم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه (¬3). فهذا كلام عمر بن عبد العزيز مع أمانته وجلالته ونصيحته للمسلمين (¬4) مع أن الزهري كان قد صَحِبَ الملوك قبل عمر بن عبد العزيز كما ذكر ذلك الذهبي (¬5) ولم يمنع ذلك عمر بن عبد العزيز من الثقة به. وكذلك مالكٌ الفقيه، فإنه قد قَبِلَهُ، واحتج بحديثه، مع تشدده في الرجال، وقد لزمه مالك وأكثر عنه، فروى عنه في " الموطأ " مئة حديثٍ وثلاثين حديثاً (¬6)، وكان يُثني عليه. ومن كلام مالك فيه: بقي ابن شهاب وماله في الناس نَظِيرٌ. رواه ابن القاسم عن مالك (¬7). وذكره ابن عبد البر في رواة " الموطأ " (¬8) فأثنى عليه، وقال: ابن شهاب إمامٌ جليل من أئمة الدين، متقدم في الحفظ والإتقان والرواية والاتساع. وقد احتج الإمام المؤيد بالله عليه السلام بكلام الزهري في الحديث فيما يتعلق بالأحكام، وكذلك الأمير الحسين بن محمد رحمه الله. ذكره الأمير في ¬
كتابه " شفاء الأوام " في باب القضاء، وذلك يقتضي جواز الاستناد إليه عندهما وعند غيرهما من علماء الزيدية، فلم يُعلم أن أحداً أنكر ذلك عليهما رضي الله عنهما. وقد نقل ابن الأثير ذلك في مقدمات " جامع الأصول " (¬1) عن علامة الشيعة أبي عبد الله ابن البيع الشهير بالحاكم أنه قال: أصح الأسانيد فيما قيل: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وأبو الزِّناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، والزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، والزهري، عن سالم، عن أبيه، ومحمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي عليه السلام، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. انتهى. وفيه ما يدلُّ على أن علماء الشيعة لا ينكرون ثقة (¬2) الزهري في الحديث. وفي " علوم الحديث " لابن الصلاح نحو هذا. وقال المنكدر بن محمد: رأيتُ بين عيني الزهري أثر السجود (¬3). وقيل لمكحول: من أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب، قيل: ثم؟ قال: ابنُ شهاب، قيل: ثم؟ قال: ابن شهاب (¬4). وقال مكحول أيضاً: ما بقي على ظهرها أعلم بسنةٍ ماضيةٍ من الزهري (¬5). وقال عمرو (¬6) بن دينار: الدراهم عند الزهري بمنزلة البَعْرِ (¬7). وقال مالك: كان الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال (¬8)، ¬
قال له مولى له: قد رأيت ما مرَّ عليك من الضيق، فأمسك مالك، قال: ويحك، إني لم أر السَّخِيَّ تنفعُه التجارب (¬1). وقال إبراهيم بن سعد: قلت لأبي: بما فاتكم الزهري؟ قال: لم يكن يترك شابّاً إلاَّ ساءله، ولا كهلاً إلاَّ ساءله، وكان يأتي الدار من دُورِ الأنصار ولا يبقي فيها شابّاً ولا كهلاً ولا عجوزاً إلاَّ ساءلهم حتى حاول ربَّات الحِجال (¬2). وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشامٌ الزهري أن يُمْلِيَ على بعض ولده، فدعا بكاتب (¬3) فأملى عليه أربع مئة حديث، ثم خرج، فقال: أين أنتم يا أصحاب (¬4) الحديث، فحدَّثهم بتلك الأربع مئة حتى لقي هشاماً بعد شهرٍ أو نحوه، فقال للزهري: إن ذلك الكتاب قد ضاع، قال: لا عليك، فدعا بكاتب (¬5) فأملاها عليه، ثم قابل هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفاً (¬6). وقال معمر: ما رأيت مثل الزهري في الفن الذي هو فيه. وقال ابن أخي الزهري: جمع عمي القرآن في ثمانين ليلة (¬7). وعن الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهابٍ، يحدِّث في الترغيب، فنقول: لا يُحسن إلاَّ هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلاَّ هذا، وإن حدَّث عن القرآن والسنة، قلت: لا يحسن إلاَّ هذا (¬8). وقال ابن أبي الزناد عن أبيه: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهابٍ يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه، علمت أنه أعلم الناس، وبَصِرَتْ (¬9) عيني ¬
به ومعه ألواحٌ وكتبٌ يكتب فيها العلم والحديث (¬1). وقال ابن شهابٍ: ما استودعت قلبي شيئاً قط، فنسيته (¬2). وقال بعضهم (¬3): كنا نرى أن (¬4) قد أكثرنا عن الزهري، فإذا (¬5) الدفاتر قد حُملت (¬6) على الدواب من خزائنه. يقول من علم الزهري. وكان أول من دوَّن العلم وكتبه ابن شهاب (¬7). وقال عمر بن عبد العزيز: ما ساق الحديث أحد مثل الزهري (¬8). وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أنصَّ للحديث من الزهري (¬9). وقال أحمد بن حنبل: الزهري أحسن الناس حديثاً، وأجود الناس إسناداً (¬10). وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزهري. وقال شعيب بن أبي حمزة عن الزهري: اختلفت من الحجاز إلى الشام خمساً وأربعين سنة، فما استطرفتُ حديثاً واحداً، ولا وجدت من يُطرفني حديثاً. وقال الزهري: إن عندي لثلاثين حديثاً ما سألتموني عن شيءٍ منها (¬11). ¬
وقال أبو صالح (¬1): سمعتُ الزهري يبكي على العلم، ويقول: يذهب العلم، وكثيرٌ ممن كان يعمل به، فقلت له: لو وضعت من علمك عند من ترجو أن يكون خلفاً. قال: والله ما نشر العلم أحدٌ نشري، ولا صبر عليه صبري، ولقد كنا نجلس إلى ابن المسيِّب، فما يستطيع أحدٌ منا أن يسأله عن شيء (¬2) إلا أن يبتدىء الحديث أو يأتي رجلٌ يسأله عن شيءٍ قد نزل به. وروى ابن سعد (¬3) عن أبيه قال: ما رؤي أحدٌ يجمع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَمْعَ ابن شهابٍ. وقال الليث: ما بقي عند أحدٍ من العلم ما بقي عند ابن شهاب (¬4). وقال قتادة: ما بقي أعلم بسنةٍ ماضية من ابن شهاب وآخر، كأنه عنى نفسه (¬5). وقال مكحولٌ: ما بقي أعلم بسنةٍ ماضيةٍ من ابن شهاب، آلوتُ ما رأيت أحداً أعلم من الزهري (¬6). وقال سفيان: ابن عيينة: كانوا يَرَوْنَ يوم مات الزهري أنه ليس أحدٌ أعلم منه (6). وعن الزهري قال: حدثت عليَّ بن الحسين حديثاً، فلما فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك. هكذا حدثناه. قال الزهري: أراني حدَّثتك بحديثٍ أنت أعلم به منِّي، قال: لا تقل ذاك، فليس من العلم ما لا يُعرف، إنما العلم ما عُرِفَ، وتواطأت عليه الألسنُ (¬7). ¬
وقال معمر: كان الزهري إذا رأى علي بن الحسين، قال: لم أر في بيته أفضل منه (¬1). وقال الحاكم في النوع التاسع والأربعين من كتابه " علوم الحديث " (¬2) ما لفظه، هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات (¬3) المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتَّبرُّك بهم، وبذكرهم من الشرق إلى الغرب. فمنهم من أهل المدينة: محمد بن مسلمٍ الزهري، وساق أسماءهم من أهل كل مصرٍ من أمصار الإسلام، فبدأ بالزهري أولهم لإتقانه وكثرة حديثه. وكذلك قدَّمه في ذكر فقهاء الأمة، فقال في النوع الموفي عشرين نوعاً من علوم الحديث ما لفظه (¬4): هذا النوع من هذا العلم بعد معرفة ما قدَّمنا ذكره من صحة الحديث إتقاناً ومعرفة، لا تقليداً وظناً، معرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة. وأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصرٍ وفي كل بلد، ونحن ذاكرون في هذا الموضع فقة الحديث عن أهله، ليُستدلَّ بذلك على أن أهل هذه (¬5) الصنعة من تبحَّر فيها لا يجهل فقه (¬6) الحديث، إذ هو نوعٌ من أنواع هذا العلم. فممن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهري، ثم ساق الثناء عليه بذلك بأسانيده عن مكحول، ثم ذكر من استنباط الزهري وكلامه في فقه الحديث شيئاً، ثم ساق بقية فقهاء (¬7) المحدثين بعد الزهري. ¬
فانظر إلى إنصاف الحاكم -على تشيُّعه- في معرفة أحوال خصومه في مذهبه، وتنزيل (¬1) كل أحدٍ منزلته، فكذلك فليكن الإنصاف. وقال علي بن المديني: دَارَ عِلم الثقات على ستة: الزهري، وعمرو بن دينارٍ بالحجاز، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة، وأبو إسحاق والأعمش بالكوفة (¬2). وقال الشافعي: قال ابن عيينة: حدَّث الزهري يوماً بحديث، فقال: هاته بلا إسناد، فقال: إنه في السطح بلا سلم (¬3). فقد اشتمل هذا الكلام على الشهادة له بالثقة والعدالة والحفظ والإتقان، أمَّا الحفظ والإتقان، فهي كلمة إجماعٍ، وأما الثقة والعدالة، فعن عُمرَ بن عبد العزيز، ومالكٍ، وأحمدَ بن حنبل، وأبي حاتم، ولا خلاف بين جمهور (¬4) أهل (¬5) علم الأثر ورجال الحديث أنه ثقةٌ مأمونٌ إذا صرَّح بالسماع، ولم يقع في ¬
حديثه إعلالٌ ولا إدراجٌ ولا إرسالٌ كما يأتي بيانه، فما تكلَّم فيه أحد منهم على كثرتهم وكثرة تعرُّضهم للكلام على كلِّ من فيه مطعَنٌ، سواءٌ كان منهم أو منَّا، وسواءٌ كان صغيراً أو كبيراً، فقد تكلموا في حفظ الإمام أبي حنيفة على جلالته، وعلى أن كثيراً من الملوك حنفيَّةٌ، وتكلَّموا في كثيرٍ من رجال الصحيحين، فما بالُهم لم يختلفوا في صحة حديث الزهري، مع إجماعهم على الجرح بتعمُّد المعاصي وإجماعهم على أنه لا يُقبل المجهول، وقد تواترت عدالتهم إلاَّ في ذنوب التأويل. وقد بيَّنَّا كلام الأئمة في وجوب العمل بأخبار المتأولين، ومن جملة ذلك أخبارهم بالجرح والتعديل. ولا بدَّ من ذكر ما يدلُّ على أنه لم يكن مداهناً للملوك في مخالطته، فنقول: فإن (¬1) قيل: هذا ما يدلُّ على عدالته، فأورِدُوا ما قدح به (¬2) عليه. قلنا: هذا لازمٌ من بيان ذلك، ولا بُدَّ من بيان ذلك، والجواب عليه فنقول: جملة ما قُدِحَ على الزهري به أمورٌ أربعة: أولها: المخالطة للسلاطين، وقد تقدم الجواب عنها، وهي المشهورة عنه، وهي جُلُّ ما يقدح به فيه. وثانيها: التدليس، قال الذهبي في " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (¬3) كان الزهري يُدَلِّس في النادر. وقال صلاحُ الدين العلائي، وأحمد بن زين الدين العراقي في كتابيهما في المدلسين: إنه مشهور بالتدليس (¬4). ¬
كلام في التدليس
وقال أحمد بن زين الدين العراقي: إن الطبري ذكر في كتاب " تهذيب الآثار " عن قوم: أن الزهري مِنَ المدلسين، قال: وكلامه يقتضي خلافاً في ذلك. قلت: وإن اقتضى ذلك، فالمثبت أولى من النافي، والحق أحق أن يُتبع. والجواب عن هذا واضح، فإن مذهب أهل البيت عليهم السلام: أن التدليس جائزٌ وأنه لا يُجرح الراوي به، وكذلك جماهير علماء المعتزلة ممن يقبل المرسل، وكذلك مذهب جمهور أهل الحديث: أن المدلِّس لا يجرح كالمرسل، فقد دلَّس كثيرٌ مِنْ كبار الثِّقاتِ، وصحَّ عنهم ذلك مع الإجماع على عدالتهم، مثل الحسن البصري، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وخلق كثير، وإنما الذي يمنع منه المحدثون قبول ما احتمل التدليس من رواياتهم دون ¬
ما صرَّحوا فيه بالسماع، أو ظهرت لهم قرينةٌ تدل عليه، كطول المخالطة ونحو ذلك، ولكنَّ اسم (¬1) التدليس منكرٌ عند من لا يعرف اصطلاح علماء الأصول والحديث. والتدليس في عرفهم: أن يروي المحدِّث الحديث عن رجلٍ ولم يسمعه منه، وإنما سمعه عن رجل عنه، موهماً أنه سمعه منه من غير أن يكذب، فيقول: حدثني فلان، وذلك شائعٌ في الثقات، وقل من يسلمُ منه (¬2). وقد رُوِيَ أن ابن عباس ما سَمِعَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أحاديث يسيرة. قال بعضهم: أربعة أحاديث، وبقية روايته عن الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يكاد يذكر من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، حتى يتوهَّم السامع أنه سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا شبيه (¬3) بالتدليس، لكنه لم يتحقق قصد الصحابي لذلك، وكذلك لم يوصف أحدٌ منهم بالتدليس، وهذا مما احتج به أصحابنا على قبول المرسل. وقد يجرح أهل الحديث بالتدليس إذا صدر ممن ليس له بصرٌ بالإسناد وعلم الرجال، وكان يُدلس أحاديث الضعفاء ويخلِطُ الغَثَّ بالسمين، وأما أهل البصر بهذا الشأن، المجرَّبُ صدقهم وتحرِّيهم، فالكلام فيهم كما قدمته. والقدح على الزهري بالتدليس غريبٌ جداً، فلم يذكر هذا أحدٌ، لولا أن الذهبي شرط في كتاب " الميزان " أن لا يترك شيئاً قدح به من حقٍّ أو باطلٍ. وثالثها: أن الزهري كان يلبس زى الأجناد. قال الذهبي (¬4): كان الزهري بزيِّ الأجناد، وكان في رتبة أميرٍ. والجواب عن هذا ظاهر، فإن زي الأجناد غير محرَّم، لا في الكتاب، ولا ¬
في السُّنة، وقد فسَّر الذهبي هذا الزي الذي كان يلبسه، فقال: كان له قُبَّةٌ معصفرة، وملحفة معصفرة (¬1). فهذا هو الذي كان عليه، ولباس الثوب المعصفر مختلفٌ فيه بين أهل العلم، ومذهب الشافعي المنصوص أنه مباحٌ، وليس فيه تحريم على مذهبنا أيضاً، وقد كان هذا مستنكراً في ذلك العصر، لما كان عليه أهل العلم من الخشونة في ملابسهم والاقتداء بالسلف في كثير من أحوالهم، وقد لبس العلماء في الأعصار الأخيرة لباس المترفين، ولا قدح في ذلك، بل الأفضل تركه، وفعله جائزٌ. والزهري لما خالط الأجناد، وكثُرَت ملازمته لهم، تزيَّا بزيِّهم، ولا جرح في هذا، ولكن نقص في المرتبة، فقد كان الأولى له لزوم المساجد والبعد عن مخالطة أهل الدنيا، ولكن من الذي ما فعل إلاَّ ما هو الأولى والأفضل؟ ولكنَّ الطبيعة البشرية تقتضي من الإنسان أن يرى القذى في عين أخيه، ولا يرى الجِذْعَ في عينه، فالزهري وإن فعل ذلك فهو ثقةٌ مأمون، ولو أنه يغير في دينه، لرَفَضَه علماء التابعين، وجرَّحوه، وحذَّروا طلبة العلم من ملازمته والاعتماد على روايته. ورابعها: قول محمد بن إشكاب: كان الزهري جندياً، وهذه عبارةٌ بَشِعَةٌ جافيةٌ، لا يليق طرحها على الزهري، لما أُبَيِّن من ترفُّعه عن هذا المحل. والجواب عن هذا من وجوهٍ: الوجه الأول: أن محمد بن إشكاب غير معروف، سألت عنه النفيس العلويَّ أدام الله علوَّه، فقال: هو مجهولٌ (¬2)، وأما أحمد بن إشكاب، فثقةٌ من ¬
رجال الصحيح، وغير خافٍ على أهل التمييز أنه لا بد من معرفة الجارح بالعدالة. الوجه الثاني: أن محمد بن إشكاب لم يدرك الزهري، فبين وفاته ووفاة الزهري مئة سنة واثنتان وأربعون سنة (¬1)، ذكره في " درة التاريخ "، وقد ذكرنا ما يدل على عدالة الزهري من كلام أئمة التابعين المشاهير الذين صحِبُوه وخَبَرُوه، وهذا رجل لم يدركه، ولم يعرفه رمى بكلمةٍ لا ندري عمن تلقَّفَها وهل تجوَّز فيها. وفي كتاب " الميزان " (¬2) للذهبي نحو هذا في ترجمة خارجة بن مصعب من طريق أحمد بن عبدويه المروزي، عن خارجة بن مصعب، ثم ذكر الذهبي عن كثيرٍ من الأئمة تضعيف خارجة، بل قال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيعٌ (¬3)، والترك في عبارتهم بمعنى التُّهمة بتعمُّد الكذب، ووكيعٌ شيعي لا يتهمه الشيعة، وعن ابن معين أنه كذاب وهذا أشد الجرح، مع أن في الرواية هذه بعينها عن خارجة أنه ترك الزهري لما رآه صاحب شرط بني أمية في يده حربةٌ. قال: ثم ندم، فقدم على يونس صاحب الزهري، فسمع منه عن الزهري. وهذا يدل على صدق المحدِّثين في عدم الثقة بخارجة إن صحَّت الرواية، ولم يُوثِّقهُ أحدٌ، وإنما قال ابن عدي: لا بأس به (¬4)، وهي عبارة تليين، والجرح ¬
الصريح مقدمٌ على مثل هذا وفاقاً. فبطل هذا الإسناد، وإنما استند محمد بن إشكاب إلى مثل هذا. الوجه الثالث: إن هذا القدر لا يجرح به في الرواية، لأن المحققين لا يقبلون الجرح المطلق غير المفسر، فكيف بما لم يثبت أنه جرحٌ، وذلك لأن خِدْمَةَ الملوك نوعان: محرّمٌ قطعاً، وهو خدمتهم في الحرام، ومباحٌ، وهو خدمتهم فيما ليس بحرامٍ، فإن ذهب عالم إلى تحريم ذلك، فبدليلٍ ظني لا يمنع الخلاف كما قدمنا في المعاونة سواء، ولكن هذه مرتبة نقص شرف تَبَيَّن أن الزهري كان أرفع منها، وإنما ذكرتها للتنقل في مراتب الجواب من الرتبة الدنيا إلى ما يليها. الوجه الرابع: سلمنا أنه محرَّمٌ قطعاً، لكن لا يجرح به عندنا إلاَّ إذا وقع من غير تأويل، ولم يذكر في " الميزان " أنه قُدِحَ فيه بشيءٍ من هذه الأشياء إلا التدليس، وذلك لما ذكرته من هذه الأشياء مسائل ظنية لا يقدح بها، ولكن بعض أهل العلم قد يتجنب من خالط الملوك نُفرةً من الدنيا ومن قاربها، لا جرحاً محققاً. وإنما ذكرت هذه الوجوه لما كثر التَّعنُّت، ولما تعرض السيد لذكرها في جوابه. الوجه الخامس: أنَّا نبيِّنُ ما يدل على أن الزهري، وإن خالط الملوك، فما كان في هذه المنزلة، بل كان عالماً، موحِّداً، عدلياً، ثبتاً، قوَّالاً بالحق، غير مداهنٍ للملوك في أمر الدين، والذي يدل على ذلك وجوه: الوجه الأول: ما ذكره السيد الإمام الناطق بالحق (¬1) أبو طالب عليه السلام فإنه ذكر في كتابه " الأمالي " في ترجمة زيد بن علي عليه السلام أن الزُّهريَّ دخل على هشامٍ، بعد قتل زيد بن عليٍّ عليه السلام، فقال له هشام: إني ما أُراني ¬
"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"
إلا أوبقتُ نفسي، فقال الزهري: وكيف ذاك (¬1)؟ فقال: أتاني آتٍ (¬2) فقال: إنه ما أصاب أحدٌ من دماء آل محمدٍ شيئاً إلاَّ أوبَقَ نفسه من رحمة الله. قال: فخرج الزهري وهو يقول: أما والله لقد أوبقت نفسك، وأنت الآن أوبقُ. فهذا الكلام مما يدلُّ على جلالة قدر الرجل، فإنه لا يصدع بقول الحق عند هشام إلاَّ من هو من أهل الديانة والجلالة، وأين مرتبة الأجناد من هذا الكلام، ولا يعرف بقدر هذه الكلمة وأمثالها إلاَّ من يعرِفُ بخبر هشامٍ ويكبره. ولأمرٍ ما عظَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النُّطق بالحق عند أئمة الجَوْرِ، فقال عليه السلام: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " (¬3). قال العلماء في شرح الحديث: وإنما كانت أفضل الجهاد، لأن المجاهد يتمكن من الدفع عن نفسه، والذي عند أهل الجور لا يتمكن من ذلك. الوجه الثاني: ما ذكره يعقوب بن شيبة (¬4) الثقة المشهور، قال: حدثني محمد بن إدريس الشافعي، قال: حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسارٍ على هشامٍ، فقال: من الذي تولَّى كِبْرَهُ؟ قال: عبد الله بن أُبي بن سلول. قال: كذبت، هو علي، من هو يا ابن شهاب؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت هو علي، قال: أنا أكذب، لا أبالك؟! فوالله لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة، وعبد الله، وعلقمة بن وقاص، عن عائشة أن الذي تولّى كِبْرَه عبد الله بن أبي بن سلول. قال: فلم يزل القوم يُغرون به حتى قال له هشام: ارحل، فوالله ما ينبغي ¬
لنا أن نرحل (¬1) عن مثلك، قال: ولِمَ، أنا اغتصبتُك على نفسي؟ أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، قال: لا، ولكنك استدنت ألفي ألفٍ. قال: قد علمت وأبوك [قبلك] أني ما استدنتها عليك، ولا على أبيك. فقال هشام: لا تَهِيجُوا الشيخ. فلما خرج، أمر له هشام بألفي ألفٍ (¬2)، فأُخبر بذلك، فقال: الحمد لله الذي هذا من عنده. روى ذلك إمام علم الرجال، أبو الحجاج المزي في " تهذيبه "، والذهبي في " تذهيبه " وغيره (¬3) وإسنادها صحيحٌ متصلٌ، وكلُّ رجال الإسناد أشهر من أن يعرف بحالهم إلاَّ عمَّ الشافعي، وهو محمد بن العباس بن شافع، وثَّقه أبو عبد الله الحاكم ابن البيع المحدث الشيعي، ذكره في " مناقب الشافعي " رحمه الله، وهي دالةٌ على ترفُّع الزهري من مراتب الأجناد إلى ربوة بعيدة، والدلالة فيها من وجوه: أولها: ما قدمناه من الصدع بمُرِّ الحق بين يدي هشام بعد العلم بكراهته، لذلك فإن هشاماً قد كان (¬4) كذَّبَ سليمان بن يسارٍ، والزهري يسمع، وادَّعى أن الذي تولَّى كِبْرَهُ علي عليه السلام، ثم التفت إليه مُنتصراً به على سليمان بن يسارٍ، طالباً منه أن يساعده، على ما ذكر (¬5)، فصدع بالحق، ولم يُبالِ به، ولو كان ليِّن العريكة في المُداهنة شيئاً قليلاً، لكان يسَعُه أن يقول: الله أعلم، ولا يصرِّحُ بما يقتضي تجهيل هشامٍ وتكذيبه في حضرته، فأين هذا المقام من مقام الأجناد؟ هذا والله مما ينتظم في سلك مقامات الصالحين مع الملوك. وثانيها: أن هشاماً لما كذَّب سليمان بن يسارٍ، سكت هيبةً لهشامٍ، ولم ¬
يَحِرْ جواباً ولا أحلى ولا أمر في الرَّدِّ على هشام مع جلالته، وفضله وعلمه. وأما الزهري، فإن هشاماً لما كذبه، لم يتبلَّد في الجواب، ولا داهن في الحق، ولا سكت عن الصواب، بل قال لهشامٍ: أنا أكذب لا أبالك، والله لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحلَّ الكذب ما كذبت، ثم سرد من حديثه بذلك من ثقات التابعين حتى أبطل دعوى هشامٍ وأسكته. فإن قلت: لولا أن الزهري يُبْغِضُ أهل البيت لما (¬1) أقام مع من يبغضهم. قلت: هذا لا يلزم، فإن ابن أبي الحديد كان وزيراً لابن العلقمي الرافضي، وابن أبي الحديد معتزلي معظمٌ للشَّيخين، قائلٌ بتقديمهما في الإمامة على أمير المؤمنين، وابن العلقمي مستحل لسبِّهما، معتقد لرفضهما، ولكن حاجة الناس إلى المال والجاه وقضاء الدين وصلة الأرحام تجرُّهم إلى مثل هذا، وقد توفد عقيل بن أبي طالب على معاوية في خلافة علي عليه السلام لأجل الحاجة إلى المال، وأقام جعفرٌ الطيار بين عُبَّاد الصُّلبان من النصارى سبع سنين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بين المهاجرين والأنصار في عِزٍّ ومَنَعَةٍ وعسكر (¬2) بغير ذمة ولا جوارٍ، والإنسان يجد من نفسه أنه لا يفعل هذا، ولكن ليس كل ما وجد الإنسان من نفسه أنه لا يفعله قَدَحَ به على الناس، وإن كان مباحاً لهم، واستدلَّ به على ما لا يدلُّ عليه من حيث تواطؤهم، فتأمل ذلك (¬3). وثالثها: أن هشاماً لما عاب عليه أنه استدان ألفي ألفٍ، قال له: علمت وأبوك أني ما استدنتها عليك ولا على أبيك، وفي هذا الكلام خشونةٌ ظاهرةٌ ترفعه عن مقام الأجناد، وخَساسة الخُدَّام، فإن ذكر الآباء مُهيِّجٌ للغضب، مثيرٌ للحمية من الكِبْرِ والعُتُوِّ (¬4)، وإنما يذكر المخاصم أبا خصمه ليُغصِبَه بذلك، وإلا فلا ملجىء إلى ذكر الآباء، وهذا معلومٌ في العادة. ¬
ورابعها: أن القوم لما أغرَوْا به، حتى قال له هشام: ارتحل (¬1) عنَّا، ألقمه الحجر في الرَّدِّ عليه، ولم يخضع له خُضوع عبيد الدينار والدرهم، بل قال له: ولم؟ أنا اغتصبتُك على نفسي، أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، يعني (¬2) أنا ما أكرهتك على صحبتي، بل أنت أكرهتني على صحبتك، فاتركني أرتحل عنك، فأنت الطالب لإقامتي، فهذا إفصاحٌ في الزهد في صحبة هشامٍ، وأنها عندهم مكروهةٌ غير جديرةٍ بأن يحرص عليها، ولا خليقة بأن يُلتفت إليها، وهذا كلام من له شهامةٌ كبيرةٌ وأَنَفَةٌ عظيمةٌ، ولأمرٍ ما لانت له عريكة هشامٍ بعد هذا الكلام، فقال هشام (¬3): لا تهيجوا الشيخ، أي: لا تُغْضِبُوه، فلو كان في مرتبة الأجناد، لم يتصلَّب في الحق حتى تلين شدة هشام قبل أن يلين الزهري، ولعل المعترض على الزهري بمداهنة الملوك لو قام في مقامه هذا، لارتعدت فرائصه، ورجف فؤاده، ولم يأتِ بعُشر ما أتى به الزهري من الذَّبِّ عن أمير المؤمنين عليه السلام في مقام هذا الجبَّار المتمرِّد، وما أحسن قول أبي الطيب: وإذا ما خلا الجَبَانُ بأرضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وحده والنِّزالا (¬4) الوجه الثالث: من الأصل ما رواه الذهبي (¬5) عن الزهري، قال: قال لي هشام: اكتب لبنيَّ بعض أحاديثك، فقلت (¬6): لو سألتني عن حديثين ما تابعتُ بينهما، ولكن إن كنت تريد، فادع كاتباً، فإذا اجتمع الناس وسألوني، كتبت لهم. ¬
وروى الذهبي (¬1) أنه خرج (¬2) من عند عبد الملك، فجلس، ثم قال: يا أيها الناس، إنا قد كنا منعناكم شيئاً قد بذلناه لهؤلاء، فتعالوا حتى أحدثكم. قال الراوي: فسمعهم (¬3) يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الزهري: يا أهل الشام، ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزِمَّةٌ ولا خُطمٌ؟ قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذٍ، قال: وكان يمنعهم أن يكتبوا عنه، فلما ألزمه هشامٌ أن يكتب لبنيه، أذِنَ للناس أن يكتُبوا معهم. ففي هذا ما يدل على جلالته أنه امتنع أن يُملي على أولاد هشام إلاَّ بحضرة الناس، ولما ألزمه هشامٌ ذلك، كان يُملي عليهم مع الناس، وهو متضجِّرٌ من ذلك، مُظهرٌ لكراهته من غير إثمٍ فيه (¬4) ولا تحريمٍ، ولكن لما فيه من اختصاص أهل الدنيا والترفه (¬5) ببذل العلم، ألا ترى كيف خرج على الناس، فقال: يا أيها الناس، إنا كنا قد منعناكم شيئاً قد بذلناه لهؤلاء هكذا (¬6) بهذه العبارة المؤذنة بالتضجُّر منهم، وعدم التعظيم لهم، فإن قوله: قد بذلناه لهؤلاء، في معنى أنهم غير أحقَّاء بأن يُخَصُّوا بالعلم، ولا شك أن الملوك يأنفون من أقل من هذا الكلام، وإن نِداء الناس بهذا على أبوابهم، والإعلان به لا يَصْدُرُ ممن هو (¬7) في منزلة الجند في المهانة والمداهنة. الوجه الرابع: روى في الجزء السابع من كتاب " العقد " (¬8) في حديثٍ فيه طول (¬9) إن الزهري جاء وعبد الملك في إيوانٍ وعن يمينه ويساره سِماطان من ¬
الناس، لا يمشي أحدٌ بينهما، فقال عبد الملك للذي عن يمينه: هل بلغكم أي شيءٍ أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين؟ قال: فسأل كل إنسانٍ صاحبه، حتى بلغت المسألة الباب، فلم يرد أحدٌ فيها شيئاً. قال الزهري: قلت: عندي في هذا علمٌ، قال: فرجعت المسألة رجلاً عن رجلٍ حتى انتهت إلى عبد الملك، فدُعيت، فمشيت بين السِّماطين، فلما انتهيت إليه، سلَّمتُ عليه، فسألني من أنا، فانتسبت له، فعرفني بنسبي، وكان طلاَّبةً للحديث، فسألني، فقلت: نعم، حدثني فلان -لم يسمِّه لنا- لم يُرفَعْ تلك الليلة حجرٌ ببيت المقدس إلاَّ وُجِدَ تحت دمٌ عبيطٌ. قال: صدقت، حدثني الذي حدثك، وإنَّا وإيَّاك في هذا الحديث لقرينان. وروى الحافظ الطبراني عن الزهري نحوه، ولفظه: قال لي عبد الملك بن مروان: أي واحدٍ أنت إن أعلمتني أي علامة كانت يوم قتل الحسين؟ قلت: لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلاَّ وُجِدَ تحتها دمٌ عبيط. قال: إني وأنت في هذا الحديث قرينان. قال الهيثمي: رجاله ثقات، وخرج الطبراني عن الزهري نحوه من غير ذكر قصة عبد الملك، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (¬1). قلت: ورواية " العقد " أبسط، والحديث واحدٌ، ففي هذا أنه لم يُدَاهِنْه، ويتصنَّع إليه بإنكار فضائل أهل البيت عليهم السلام، وفيه أيضاً أنه إنما وصل إليه لأجل الجهاد والمرابطة كما فعل ذلك كثيرٌ من الفضلاء مع أئمة الجور. الوجه الخامس: أنه لم يُنقل عنه أنه أثنى عليهم، ولا تصنَّع إليهم بشيءٍ من سبِّ علي عليه السلام ولا بُغضِه، ولا سبِّ أحدٍ من أهل البيت عليهم السلام، ومن المعلوم أن خُدَّام الملوك وأجنادهم أتبع لهم من الظِّلِّ، وأطوع لهم من النَّعل، يَسُبُّون من سبُّوا، ويُبْغِضُون من أبْغَضُوا، بل نُقِلَ عنه عكس ¬
هذا، فإنه ذبَّ على عليٍّ عليه السلام في القصة المتقدِّمة، وقد نقل الحاكم رحمه الله أنه كان ممن خرج مع زيد بن علي عليه السلام. الوجه السادس: أنه لم يُنقل قطُّ أن الزهري طلب الولاية ولا الإمارة، ولا شكا أحدٌ من أهل الدِّين أن الزُّهري آذاه ولا نافسه في أمرٍ، ولا نُقِلَ أنه ظلم أحداً من الرَّعيَّة، ولا أعان في مظلِمةٍ مع عِظَمِ المنزلة عند الملوك، وطول الصحبة لهم، وهذا دليلٌ على الديانة، فقلَّ من يمتنع من هذه الأمور إلاَّ للعجز وعدم التمكن، فمن تمكن، ولم يُنقل عنه شيءٌ من ذلك مع طول المدة، فهو دليل ديانته ونزاهته. فبهذه الوجوه السِّتَّة وأمثالها يتضح ما ذكرته من ارتفاعه من مرتبة الأجناد، والله أعلم. فإن قلت: هذه الأشياء لا تُوجِبُ العلم بنزاهته، وأنت ألزمتنا العلم (¬1) بأنه أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام. قلت: العلم بالنزاهة لا تجب إلاَّ لو ادَّعينا عصمته، ورفعناه من مرتبة العدول إلى مراتب الأنبياء، وإنما ألزمت السيد اليقين هناك حيث ادعى اليقين، فأخبرته أن الدليل على دعوى اليقين لا يكون (¬2) إلاَّ قاطعاً (¬3)، ولوِ ادَّعى الظن كما ادعيت، لم أُلزمه ذلك. واعلم أنه (¬4) لا سبيل إلى زوال وساوس النُّفوس بسوء الظنون التي لا مُوجب لها إلاَّ العادة والإلف، ومن اشتهر بالثقة، وأطبق الجِلَّة من التابعين ومن بعدهم على الاحتجاج بحديثه لم يُؤخذ بروايةٍ شاذةٍ أو محتملة، ولو كان مثل هذا يؤثِّر في الثقات المشاهير، لم يكد أحدٌ منهم يسلم إلاَّ من لا يكتفي به في العدالة، فإن الحاجة إلى العدول ماسةٌ في الشهادات والحديث والفتاوى ¬
والقضاء والأذان والإمامة (¬1) الكبرى والصُّغرى وغير ذلك فمن أين كنا في كل مكانٍ وزمان من لم يُتكلَّم فيه بشيءٍ، ولو كان الرجل كالقِدْحِ المُقَوَّمِ، لقال الناس فيه لو ولولا. هذا ابن عباس حبر الأمة، وبحر التأويل، وإمام التفسير، قد اشتهر في كتب التاريخ أنه أخذ مال البصرة من غير إذن علي عليه السلام، وهذا محرَّمٌ، لا أعلم أحداً يجيزه. وروي أن علياً عليه السلام كتب إليه في ذلك كتاباً شديداً، قال فيه (¬2): أمَّا بعد فإني كنت أشركتك (¬3) في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي أوثق منك في نفسي، لمواساتي ومؤازرتي، وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلِبَ (¬4)، والعدوِّ قد حَرِبَ، وأمانة الناس قد خزِيت (¬5)، وهذه الأُمة قد فُتِنَتْ (¬6)، قلبت لابن عمِّك ظهر المِجَنِّ، ففارقته ¬
مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخُنْتَه مع الخائنين، فلا ابن عمك آسَيْتَ، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينةٍ من ربك، وكأنك إنما كنتَ تَكِيدُ هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غِرَّتهم عن فيْئِهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة، أسرَعْتَ الكرَّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قَدَرْتَ عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزَلِّ (¬1) دامية المِعْزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رَحْبَ الصدر بجملة، غير متأثِّمٍ من أخذه، كأنك -لا أبا لغيرك- حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأُمِّك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب، كيف تُسيغ طعاماً وشراباً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً، وتشرب حراماً، وتبتاع الإماء، وتَنْكِحُ النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد. فاتق الله واردُد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأُعْذِرَنَّ إلى الله فيك، أو لأضربنَّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار. والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادةٌ، ولا ظفِرا مني بإرادةٍ حتى آخذ الحق منهما، وأُزيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أتركه ميراثاً لمن بعدي، فَضَحِّ رويداً (¬2) وكأنك قد بلغت المدى [ودُفِنت ¬
تحت الثرى] وعُرِضَتْ عليك أعمالُك بالمحلِّ الذي يُنادي الظالمُ فيه (¬1) بالحسرة، ويتمنى المضيِّع الرَّجعة، ولات حين مناصٍ، والسلام. فهذا الكتاب فيه من التصريح كما ترى بأن ابن عباسٍ رضي الله عنه كان يعلم أن ذلك المال الذي أخذه حرامٌ، وهذا جرحٌ محقَّقٌ لو كان كل ما رُوِيَ صُدِّقَ، وكل ما قيل قُبِلَ، ولكن الذي ظهر من أمانة ابن عباسٍ وعدالته وتقواه يقتضي أن هذا غير صحيحٍ، فالمعلوم المشهور لا يعارض بالمظنون الشاذ، كيف وليس هذا في مرتبة الظن؟ وقد أطبق الصحابة والتابعون على جلالة ابن عباسٍ وأمانته، والأخذ عنه، فلم يُلتفت إلى ما شذَّ في هذه الرواية (¬2). وكذلك سائر الثقات المشاهير الذين دارت رواية العلم عليهم من أول الإسلام إلى آخره لا يُسمعُ فيهم من الأقوال الشاذة والروايات الساقطة ما لا يصح، ولا يساوي سماعه. وإذا قد نجز الغرض من الكلام على هذه الفوائد التي جرَّ إليها الكلام في الزهري، فلنختمها بتنبيهاتٍ: التنبيه الأول: أن حديث الزهري معروفٌ متميِّزٌ، لم يلتبس بأحاديث سائر (¬3) الرواة، وجملة حديثه ألفا حديثٍ ومئتا حديثٍ، وفيه بضعةٌ غير مسند لم يُجَرِّحْ أهل الصِّحاح منه شيئاً، وهذا المسند قد صنَّفوه وثبَّتُوه، وتكلموا على رُواته، وكلُّه معروفٌ من غير طريق الزهري إلاَّ النادر اليسير، وإنما روَوْهُ من طريقه لما اختصَّ به من جَوْدَة الحفظ، وقوة الإتقان، وإنما عرفوا حفظه بموافقته للثقاتِ ¬
كثرة الرواية للغرائب من دواعي الجرح
من الرواة، ألا ترى كيف قال له علي بن الحسين عليه السلام: إنما العلم ما عرِفَ وتواطأت عليه (1) الألسن. وهذا هو مذهب المحدِّثين. قال مالك: من حدَّث بالغرائب كذب، ومن أصول المحدثين الجرح بكثرة الرواية للغرائب عن الثقات المشاهير، وقد كانوا يجدون من يروون عنه حديث الزهري من أهل الزهادة، لكنهم رأوه أحفظ من أولئك الزهار وأعرف، وكم من زاهدٍ تقيٍّ وهو ضعيفٌ عند المحدثين، لا تحِلُّ الرواية عنه لما جرَّبُوا عليه من الوهم الكبير والتخليط، فمن أنِسَ بعلم الحديث، عرف أن الذي ينفرد به الزهري ويُغْرِبُه لا يكون إلاَّ قدراً يسيراً، ولعل الذي يتعلَّقُ بالتحليل والتحريم لا يكون إلاَّ دون الرُّبُع من ذلك، فلو قدَّرنا بطلان الاحتجاج ما كان ذلك (¬1) يضرُّ، فكم تكون أحاديثه في جنب أُلوفٍ من الحديث، فجملة ما تفرَّد قدر تسعين حرفاً بأسانيد جيدةٍ، كذا قاله مسلم بن الحجاج فيما نقله عنه ابن الصلاح، ذكره ابن العراقي في " التبصرة " (¬2) في الكلام على الشاذ، وهذا مقدار ثلث العشر، يزيد يسيراً، فإن ثلث عشر حديثه ثمانون حديثاً، ولا شك أن من روى ثلاثين حديثاً فواق الثقات في تسعةٍ وعشرين، وانفرد بحديثٍ واحدٍ، حافظٌ ثقةٌ، بل قال الفقهاء والأصوليون إذا كان صوابه أكثر، ولو بحديثٍ، وجب قبوله. فهذه الأحاديث التي شذ بها الزهري لا يكون في الصحيح منها إلاَّ اليسير، ولا يكون في التحليل والتحريم من ذلك إلاَّ اليسير، مع أن كلام مسلمٍ لا يدلُّ على نفي الشواهد، وإنما يدلُّ على نفي المتابعات، وبينهما فرقٌ موضعه علوم الحديث ومع أن جماعةً من الكبار قد حكموا بالغرابة والشذوذ على بعض الأحاديث، ثم انكشف لمن أمعن الطلب وجود متابعات كثيرة لتلك الأحاديث فاعرف ذلك. ¬
وقد نص العلامة ابن حجر في " مختصره في علوم الحديث " (¬1) أن الغريب إن لم يأت من طريقٍ أخرى، فهو الفرد المطلق، ويعِزُّ وجوده، وإن جاء من وجهٍ آخر، فهو الفرد النسبيُّ. انتهى. وهو نص على ما ذكرته من عزة الفرد (¬2) المطلق، ولا أستحضر الآن أنه ألزم الوهم من أحاديث الأحكام إلاَّ في أربعة أحاديث. الأول: قوله: إن ذا اليدين هو ذو الشِّمالين الذي قُتِلَ ببدرٍ قبل تحريم الكلام في الصلاة، قال ابن عبد البر (¬3): وهم فيه الزهري، وكل أحدٍ يؤخذ من قوله ويُتْرَكُ (¬4). الثاني: تاريخ النهي عن المتعة بخيبر (¬5)، تأوَّله سفيان بن عيينة، وعلى ذلك شواهد جمَّةٌ، ولذلك خالف فيه أبو داود ولم يخرِّجه، ويمكن أن يكون الوهم فيه من غيره، فإنه (¬6) عنعنه، وقد كان يدلِّس، وقد بسطت الكلام في هذا، في الكلام على أحاديث علي عليه السلام. على أنه لو بطل حديثه كله -مع فرض كثرته- لم يكن علينا في ذلك مضرَّةٌ البتة، بل يحصل السهولة، ويسقط التكليف بالعمل بتلك الأحاديث والتكليف بالبحث عنها. الثالث: حديث حد الأمة المحصنة (¬7)، فإنه تفرد به على ما ذكره ابن عبد ¬
البرِّ في " التمهيد " (¬1)، وقد حمل بعضهم الوهم على مالك، فتوبع مالك (¬2) وتخلص من ذلك، واستقرَّ الوهم فيه على الزهري ودل على وهمه فيه اضطرابُه. وقد تتبَّعتُ كثيراً مما تفرد به، فوجدته مما يقتضي الاحتياط في الدين، كحديث تحريم المتعة عن علي عليه السلام، وحديث حدِّ الأمة المحصنة، وتأويله حديث ذي اليدين، مما تقدم كتأويل الأصحاب، وغير ذلك مما تفرَّد به، والذي حملهم على روايته مع شذوذه فيه وإعلاله هو محبة الاحتياط. وللزهري مذهبٌ رديءٌ في الرواية ينبغي الاحتراز منه، والتَّيقُّظ له، وهو إدراج رأيه في آخر الحديث، ذكره ابن عبد البر في موضعين من " التمهيد "، وروايته بفعل ذلك في الاحتياط والتشديد، وهو أقبح ما قُدِحَ فيه به، والله يحب الإنصاف. الرابع: قوله بعد روايته لكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة- صدقة الإبل والغنم والوَرِقِ ما لفظه: وليس في الذهب صدقةٌ حتى يبلغ صرفها مئتي درهم، ففيها خمسة دراهم، ثم في كل شيءٍ يبلغ صرفه أربعين درهماً درهمٌ حتى يبلغ أربعين ديناراً، ففيها دينارٌ، إلى آخر كلامه في السواني من الإبل والبقر. قال ابن عبد البر: ليس ذلك في شيءٍ من الأحاديث المرفوعة إلاَّ في حديثه هذا، وهو من رأيه أدرجه في آخر الحديث، وكثيراً ما كان يفعل ذلك. التنبيه الثاني: أنه ليس بيني وبين هذا الرجل قرابةٌ ولا صحابةٌ، ولا له علي إحسانٌ، ولا أنا أدعي صحة جميع ما في كتب الحديث، فبطلت أسباب العصبية، وأعوذ بالله من العصبية، وإن وُجِدَتْ أسبابها، كيف ولم توجد؟ وإنما أردت بكلامي في هذا الموضع والتطويل بل فيه بيان عُذري في قبول الزهري، وأنه (¬3) غلب على ظني صدقه وعدالته في بعض الرواية، وذلك حيث يصرِّحُ ¬
احتجاج أهل البيت بحديث الزهري
بالسماع، ولا تحتمل روايته التدليس، ولا الإدراج، ولا تَعَلُّ، ولا يعارضها أرجح منها، فلو لم أعمل بحديثه، لارتكبت ما يغلب على (¬1) ظني تحريمه، وهذا خلاف الاحتياط في الدِّين، وخلاف العمل بالعقل الرَّصين، وفي العمل بما يظنُّ تحريمه مضرَّةٌ مظنونة، ودفع المضرة المظنونة عن النفس واجبٌ. التنبيه الثالث: أني لا أريد بكلامي إلزام غيري أن يقبل الزُّهري، بل يثبت مذهبي وحُجتي، ولا لوم على من لا يقبله، والسِّر في هذا التنبيه أن الاختلاف في جرح بعض الرواة وتعديلهم من جملة الاختلاف في المسائل الظنية التي لا يأثَمُ فيها أحدٌ من المخالفين، وقد اختلف المتأخِّرون من أهل البيت عليهم السلام في رواية كافر التأويل وفاسقه، واختلفوا في تكفير الجبرية في أمثال ذلك، ولم يقطع ذلك الولاية، ولا يقدح في العدالة، وقد قال السيد أبو طالب: إنه لا يُعَوَّل على تخاريج ابن بلالٍ وخالفه في ذلك غير واحدٍ من الأصحاب، والأمر في هذه الأمور قريبٌ، ومبناها الظنِّ والتحري. التنبيه الرابع: إن كان السيد يعتقد أن ذم الزهري وتحريم العمل بحديثه من جملة عقائد أهل البيت عليهم السلام التي أجمعوا (¬2) عليها، ولم يُرَخِّصُوا فيها، فأين نصوصهم في ذلك؟ وما باله اختصَّ بمعرفة إجماعهم على ذلك؟ وإن لم يكن كذلك فما باله يدخل هذا في ضمن (¬3) الذبِّ عن مذاهبهم لزعمه لذلك؟ فليبيِّنِ السيد لنا من سبقه من أهل البيت إلى القطع بأن الزهري أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام يقيناً، لا شك فيه. التنبيه الخامس: أن كلام السيد يُوهمُ أن أهل البيت لا يحتجُّون بحديث الزهري، وليس كذلك، ومن شك في الصادق منَّا فليطالع " علوم آل محمد " تأليف محمد بن منصور، وهو المعروف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد، فإنه ¬
الوهم الخامس والثلاثون: وهم السيد أن قصة يحيى بن عبد الله مع أبي البختري وشهادة الجم الغفير عليه بالزور يقتضي القدح في الصحابة
فيه أكثر من الاحتجاج بحديث الزهري في أحاديث الأحكام، وكذلك السيد أبو طالب في أماليه مع نسبتهم للتشدد في ذلك إليه، فإنه روى عنه غير حديثٍ، ولم يرو عنه إلاَّ حديث علي عليه السلام في تحريم المتعة في يوم خيبر، فإنه رواه من طريقه كسائر الحُفَّاظ، وهو أصح حديثٍ في هذا الباب، إلاَّ عند أبي داود لما لا (¬1) يتسع له هذا الموضع. الوهم الخامس والثلاثون: وهِمَ السيد أيده الله تعالى أن قصة يحيى بن عبد الله عليه السلام مع أبي البختري وشهادة الجمِّ الغفير عليه بالزور يقتضي القدح في الصحابة، وهذا غلوٌّ وإسرافٌ في التهويل والإرجاف، فإنه لا ملازمة بين رواة الحديث وبين جماعة شهدوا (¬2) زوراً في واقعةٍ معينةٍ، وهذا لا يستحق الجواب، ولكن ننتقل بذكر وجهين: الأول: أنه يجب على السيد أن يبيِّنَ من حضر تلك الشهادة الباطلة من رُواة الصِّحاح، ونطق بشهادة الزور برواية عدولٍ معدلين وإسنادٍ صحيح كما ألزمنا، ولعلَّ هذا لا يتيسرُ للسيد من رواية كذابين، كيف إلاَّ من رواية عدولٍ. الوجه الثاني: أن المنصور بالله عليه السلام قد روى عن المطرَّفيَّة أنهم يستحلُّون الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصرة مذهبهم وما يعتقدونه حقاً، وحكى عليه السلام أنهم صرَّحوا له بذلك في المناظرة، وكذلك قد ثبت بالتواتر أن الحسينية كانت تشهد أن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مع كونه زُوراً، فإنه كفرٌ، وهاتان فرقتان من فرق الزيدية أقاموا دهراً طويلاً يُصنِّفُون ويدرُسُون، فكما لم يلزم الزيدية مذهبهم، لمجاورة البلاد، والاشتراك في اسم الزيدية، فكذلك لا يلزم الثِّقات المحدثين استحلال شهادة الزور (¬3)، لأن ألفاً وثلاث مئةٍ من الفُسَّاق المصرِّحين استحلُّوا ذلك، ولو أن عدلاً واحداً كان في مصرٍ عظيمٍ يشتمل على مئة ألفٍ من الفُسَّاق ما سرى الفسوق منهم إليه، ولا ¬
علِقَتِ العدالة بهم منه، ولولا معرفة المحدثين بكثرة الخَبَثِ، ما اشتغلوا بتمييز الخبيث من الطَّيِّب، ولا اقتصر البخاري على قدر أربعة آلاف حديثٍ من ستَ مئة ألف حديث، كما ثبت ذلك عنه، وقد روي: " الناس كإبل مئة - لا تجد فيها راحلةً " (¬1). وعلمت النصوص في ذم الكثرة ومدح القلة، فلم يلزم من فساد الأكثرين فساد الأقلِّين من الصِّالحين، والمعترض ظن أنه اقتدى بالإمام المنصور في إيراد هذه الحكاية، وليس كذلك، فإنه قد صرَّح بصحة كتب الحديث المشهورة (¬2)، وصرَّح بقبول المتأولين من الصدر الأول من الصحابة ومن بعدهم، فنقل وعقلٌ، أمَّا النقل، فعن جماعةٍ مجهولين أنهم شهدوا زوراً في واقعةٍ معينةٍ، وأما العقل، فلم يُسَوِّ بسبب ذلك بين الخالص والزَّيف، ويخلط الخبيث بالطيب. الوجه الثالث: أن المعترض (¬3) إما أن يشترط في عدالة رواة الحديث أن لا يكون في أهل مذهبهم وسكان بلادهم (¬4) من يشهد الزور أو لا. إن اشترط ذلك خالف ضرورة العقل وضروري الإجماع من النقل، وإن لم يشترطه (¬5)، فما هذا الترجيف بذكر شهود الزور إيهاماً أنهم رواة الحديث المأثور. ولو أن المعترض أورد قصة القاضي أبي يوسف أو محمد بن الحسن حين أراد منه (¬6) هارون الرشيد أن يُفتيه بانتقاضِ أمان يحيى بن عبد الله عليه السلام فامتنع، وقال: هذا أمانٌ مؤكَّدٌ، فشجَّه هارون بالدواة، وقيل: إنه مات مِنْ تلك الشَّجَّة، لكان هذا ألْيَقَ بمقتضى الحال، لأن القاضي أبا يوسف ومحمد بن الحسن أحد أئمة الحديث ورجال القوم، لكن هذا مما يدلُّ على أمانة علماء ¬
الوهم السادس والثلاثون: وهم أن أبا البختري الكذاب من ثقاة رواة الحديث
الحديث، فتركه وعَدَلَ إلى حكايةٍ عن (¬1) شهود زورٍ مجهولين للقدح بها (¬2) في ثقات المسلمين المعروفين فالله المستعان. على أن في القصة ما يقتضي أن أولئك الذين شهدوا هذه الشهادة الزور الباطلة كانوا مكرهين على ذلك، خائفين على أوراحهم وأموالهم إن لم يفعلوا. وفي بعض الروايات أن يحيى بن عبد الله عليه السلام ذكر ذلك في عرض الاحتجاج على أنه لا يجوز العمل بهذه الشهادة، كما ذلك مبسوطٌ في مواضعه من كتب الأخبار، وكثرتهم تقوي هذا، لأن العادات (¬3) تُحيل اجتماع الخلق الكثير، والجمِّ الغفير (¬4) على الباطل المعلوم، مع بقاء الاختيار، ولولا ذلك، بطل حصول العلم بالتواتر، ومن هنا لم تشترط العدالة في المخبرين بالمتواترات (¬5)، لأن سبب العلم بخبرهم استحالة تواطئهم، لكثرتهم لا عدالتهم، فاعرف ذلك، والله سبحانه أعلم. الوهم السادس والثلاثون: وهم أن أبا البختري وهب بن وهب الكذاب من ثقاة رُواة الحديث، وليس كذلك، فإنه عند القوم مفترٍ كذَّابٌ، مِمَّن نصَّ على ذلك الحافظ ابن كثيرٍ البصروي في " إرشاد الفقيه إلى أدلة التنبيه "، وقال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (¬6) ما لفظه (¬7): وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، القاضي أبو البختري القرشي المدني. روى عن هشام بن عروة، وجعفرٍ الصادق، وعنه: المسيِّب بن واضحٍ، والربيع بن ثعلبٍ، وجماعة. سكن بغداد، وولي قضاء العسكر للمهدي، ثم قضاء المدينة، وكان متَّهماً في الحديث. ¬
قال ابن معين: كان يكذب عدو الله. وقال عثمان بن أبي شيبة: إنه يُبعث يوم القيامة دجَّالاً. وقال أحمد بن حنبل: كان يضع الحديث فيما نرى. وقال البخاري: سكتوا عنه. وهي عبارةٌ للبخاري في الجرح. توفي سنة مئتين. فأما أبو البختري الذي روى عنه الجماعة، فذلك يخالف هذا الكذَّاب نسباً واسماً ووصفاً وزماناً، وهو سعيد بن فيروز الطَّائي مولاهم (¬1). روى عن علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، وعبد الله بن مسعود مرسلاً، وعن أبي برزة، وعَبيدَة. روى عنه عمرو بن مرَّة، ومسلمٌ البَطين. وقال فيه حبيب بن أبي ثابتٍ: كان أعلمنا، وأفقهنا. وهو تابعيٌّ قديمٌ، بينه وبين ذلك الكذاب مئة سنةٍ وسبع وعشرون سنة، فإنه توفي سنة ثلاث وسبعين. وكذلك البَختري بن أبي البَختري، عن أبي بردة، وجماعة. وعنه: شعبة، ووكيع. صدوق، حديثه في " صحيح مسلم " و" سنن النسائي ". وقد نص المعترض على أن حديث وهب بن وهبٍ في " الترمذي "، وليس كذلك، فليس له في شيءٍ من كتب الحديث هذه السِّتَّة رواية البتة، فليعلم ذلك ويترك ما لا يعرفه، فإن لكل علم رجالاً، ولكل مقامٍ مقالاً، ومن نام عن علمٍ ثم تعرض لما لا يدري به من الاعتراض على أهله، كان كالأعمى يعترِضُ على ذوي الأبصار، وهو لا يعرف الظلمات من النُّور، ولا الليل من النهار. ¬
الوهم السابع والثلاثون: توهم أن العلماء إنما قدحوا في الخطابية لمجرد الكذب
وابن اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صولَةَ البُزلِ القناعيسِ (¬1) الوهم السابع والثلاثون: استدل المعترض على بُطلان حديث المجبِّرة والمُرجئة بالقياس على الخَطابية، وجعل العلة الجامعة بينهم في ذلك هو الكذب، فتوهم أن العلماء إنما قدحوا في الخطابية لمجرد الكذب، وهذه غفلة عظيمة، فإن العلماء إنما اتفقوا على القدح فيهم مع اختلافهم في غيرهم بعلة استحلالهم لتعمُّدِ الكذب، بل اعتقادهم لوجُوبه حيث يكون نُصرة لما يظنُّونه حقاً، فكيف يُقاس من يعتقد تحريم الكذب الذي (¬2) اعتقدوا حُسْنَه ووجوبه، ويغلب على الظن أنه يفعله. ولو كان مجرد الكذب مع التأويل يستلزمُ مساواة الخطابية، لزم المعترض أن يكون المعتزلة عنده بمنزلة الخطابية، لأنهم عنده كذلك في باب الإمامة، لمقالتهم بخلافة الصحابة، وهم عنده في ذلك من الكاذبين الآثمين، وليسوا بتأويلهم فيه مِنَ المعذورين. ثمَّ إنه (¬3) شفع ذلك بما لا يغني شيئاً في هذا المقام من ذكره أحاديثَ ساقطةٍ لا أصل لها في لعن المُرجئةِ والقدرية، ولو صحت الرواية عنهم، فإنه إذا لم يقدحِ الفسق في ذلك أو الكفر الثابت بالأدلة القاطعة، فكيف ما هو فرعٌ من جواز السَّبِّ لهم، ووردت الأحاديث بذمِّهم، فقد وردت الأحاديث الصِّحاح، وتواترت بذمِّ الخوارج الذين كفّروا علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، ومع ذلك قالت أئمة الزيدية بقبولهم في الحديث، ممن نصَّ على ذلك: الإمام المنصور في كتابه " صفوة الاختيار " والمؤيد بالله، والإمام يحيى بن حمزة، وصاحب ¬
أحاديث الآحاد المظنونة غير معمول بها إذا ما خالفت الأدلة القاطعة المعلومة من العقل أو السمع
" شفاء الأوام "، والقاضي زيدٌ، وعبد الله بن زيد. ورووا (¬1) إجماع الأُمَّة والعترة على ذلك من عشر طرقٍ وغيرهم، وقد تقدم ذكر طرق ذلك مستوفاةً في مسألة المتأولين. قال الوجه الرابع: مما يدلُّ على أن في أخبار كتبهم التي يسمونها الصحاح ما هو مردودٌ أن في أخبار هذه الكتب مما يثبت التَّجسيم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء، ومثل ذلك يضرب به وجه راويه (¬2)، وأقل أحواله أن يكذب فيه إلى آخر كلامه في هذ الوجه. أقول: هذا مقامٌ وَعِرٌ قد تعرَّض السيد له، وأبدى صفحته، وأراد أن يكذب الرواة في كل ما لم يفهم تأويله، وهذا بحرٌ عميقٌ، لا يصلُحُ ركوبه إلاَّ في سفين البراهين القاطعة، وليلٌ بهيمٌ لا يَحْسُنُ مسراه إلاَّ بعد طلوع أهلة الأدلة الساطعة، وسوف أُجيب عليه في ما ذكره، وأذكر من حُججه ما سطَّره، وقبل الخوض في هذه الغَمْرة أُقدِّمُ مقدِّماتٍ: المقدمة الأولى: الاعتراف بأن كل ما خالف الأدلة القاطعة المعلومة من العقل أو السمع، وكان من أحاديث الآحاد المظنونة (¬3)، فإنه غير معمولٍ به. فإن ثبت (¬4) دليلٌ على أنه لا يمكن تأويله، وجب ردُّه على راويه، على ما يأتي بيانه في مراتب الرَّدِّ، وإن لم يقم دليلٌ على امتناع ناويله، ترك غير معمولٍ به ولا مقطوعٍ بكذبه. وإنما ذكرتُ هذه المقدِّمة، وصدَّرتُها قبل الكلام على هذه الجملة، لئلاَّ يتوهم أحدٌ أنِّي أقول بغيرها، فقد كثُر الغلط عليَّ في مواضع، ثم إن السيد أيده الله قد روى في " تفسيره " الأوسط بعض هذه الأحاديث التي أنكرها، ونص على صحتها، وعلى تأويلها، وهي من أشدِّ ما ورد في المتشابه، وذلك أنه قال في ¬
التأويل المتعسف مردود متى علم باليقين أنه تأويل متعسف
تفسير سورة الزمر في تفسير قوله تعالى منها: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ما لفظه: وجاء في الحديث الصحيح ما يُوافق الآية، من ذلك ما خرَّجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " (¬1). وأخرجاه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخُذُهُنَّ بيده اليمنى " (¬2) وهذا مثل الآية على التمثيل والتخييل. انتهى بحروفه. فإذا جاز عنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المبيِّن للقرآن، يأتي بمثل هذا المتشابه عند نزول المتشابه، فيزيده إشتباهاً، ويُسمعُه عامة أُمَّته، ولا يشمُّهم رائحة التأويل، فأيُّ شيءٍ أنكر روايته بعد تصحيح مثل هذا على المحدثين؟! فالله المستعان. المقدمة الثانية: أن التأويل المتعسَّف مردودٌ متى عُلِمَ باليقين أنه تأويل متعسَّفٌ، ولم يكن مما يُحتمل، وفي هذه المقدمة نكتةٌ لطيفةٌ، وذلك أنه قد يأتي بعض البُلداء، فيطلُبُ التأويل، فيقع ذهنه على تأويلٍ ضعيفٍ متعسف، فيحسب أنه لا تأويل للحديث إلاَّ ذلك، ويستدل على بطلان الحديث بأن ذلك التأويل متعسَّفٌ، وما كان تأويله متعسفاً، فهو مردودٌ، ولم يشعر المسكين أن حكمه بأن ذلك التأويل متعسَّفٌ صحيحٌ، ولكن لا يلزم منه أنه لا تأويل للحديث سواه، فإنه يمكن أن للحديث تأويلاً صحيحاً، وأنه (¬3) لم يعرفه، فإن منتهى الأمر أنه طلب، فلم يجد، لكن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود. وكذلك إذا وجد بعض شرَّاح الحديث من الأشاعرة وغيرهم، قد يؤوِّل ¬
الحديث بتأويلٍ فيه تعسُّفٌ، لم يقطع بردِّ الحديث لأنه يجوز أن القول بأن ذلك تأويله قولٌ باطلٌ، وأن ذلك المتأوِّلَ إنما صار إليه لقصوره في العلم، وإنما يحكم بردِّ الحديث متى علمنا أنه لا تأويل له صحيحٌ، وأنه لا يدخل في مقدور أحدٍ من الراسخين أن يهتدي (¬1) إلى معنى لطيف في تأويله، ولكن العلم بهذا صعب عزيز، والدليل على صعوبته أن الناظر في الحديث لا يخلو إما أن يكون من الراسخين في العلم الذين قيل (¬2): إنهم يعلمون التأويل أم لا. إن لم يكن منهم، فليس له أن يحكم بقصورهم وعجزهم عن تأويله، لأنه لم يرتق إلى معرفة التأويل الصحيح، ومن لم يعرف الشيء وكيف يحكم بنفيه أو ثبوته، وما أمَّنه أنه موجودٌ، لكن لعدم معرفته له جَهِلَهُ، وأما إن كان الناظر في الحديث من الراسخين، فإنه أيضاً يجوز عليه أن يجهل التأويل. أما على قول أهل السنة -وهو الصحيح- فإن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، كما هو مقرَّرٌ في كتابي " ترجيح أساليب القرآن " (¬3)، فإن هذه المسألة مجوّدةٌ فيه، والحمد لله. وأما على القول الآخر، فإنه يجوز أن الواحد منهم يجهل شيئاً ويعلمه غيره، فإن الله تعالى إنما أثبت العلم بالتأويل لجميع الرسخين، فأمَّا بعضهم، فقد يجوز ألا يعلم التأويل متى عَلِمَه غيره منهم، لأنه إذا علمه واحدٌ منهم، لم يصدق أن الراسخين لا يعلمون، فلا يجوز أنهم الجميع يجهلون التأويل، لأنه حينئذ يكون مخالفاً لما أخبر الله به من علم الراسخين على أحد القولين، فإن الآية على هذا القول تُثبت العلم بالتأويل لجميع الراسخين وجوباً، ولأحدهم جوازاً، لأن كل حكم يَثْبُتُ للجميع لا يجبُ للآحاد إلاَّ بدليلٍ، ولهذا لما أمر الله باتباع سبيل المؤمنين لم يجب اتباع سبيل المؤمن الواحد، أقصى ما فيه أنه يدلُّ على مشاركة الواحد للجميع، لكن دلالة ظنية، وهي غير نافعةٍ في هذا ¬
من هو الراسخ في العلم
المقام، لأنا في الكلام على ما يُفيد القطع والثبات بتكذيب الراوي. وأما الراسخون، فمتى ثبت عندهم أن أحداً منهم ما اهتدى إلى التأويل، لأنه لو كان ثم تأويلٌ، لم يجُزْ على جميعهم جهله، وإن لم يثبت أنهم جهلوا تأويله، وإنما جهله بعضهم. لم يُردَّ الحديث لجواز أن يكون فيهم من يعلم تأويله وفوق كل ذي علم عليم. فإن قلت: وبأي شيءٍ يعلم أنهم جهلوا تأويله كلهم (¬1) ولم يبق منهم أحدٌ؟ قلت: بأسهل مما يُعلَمُ به إجماع الأمة والعترة على بعض الأقوال، وأنه ما بقي منهم أحدٌ، لأن الراسخين في العلم أقل من العلماء، فإذا جاز أن يُعلَّقَ (¬2) الحكم العملي المحتاج إلى تنجيزه بمعرفة ما قال جميع العلماء مع كثرتهم، جاز أن يُعلّقَ الحكم الاعتقادي التفصيلي بمعرفة قول أهل الرسوخ في العلم منهم مع قلتهم، ومع الاستغناء بالاعتقاد الجملي. مثال العلم بإجماع الراسخين في التأويل: أنهم أجمعوا على بطلان تأويلاتهم الباطنية للجنة والنار والحساب والبعث، وشاع ذلك في كل عصرٍ، وعُلِمَ منهم إنكاره بالضرورة، فهذا وأمثاله مذاهب الخوارج وسائر طوائف الضلال الذين لا يُعتَدُّ بهم في الإجماع. قد علمنا إجماع الراسخين فيه على بطلان تأويلاتهم للحجح الحق، فيستدل به على بُطلان كثيرٍ من التأويلات، وإن كنا قاصرين عن مثل معرفة الراسخين بوجه بطلان بعض التأويلات على سبيل القطع، وكذلك كل حديثٍ ظهر من الأئمة عليهم السلام النص على أنه لا تأويل له البتة، وشاع ذلك بين الأئمة وذاع، ولم يُنكر، وتكرر حتى علمنا إجماعهم على بُطلان تأويله، فإنه يجب ردُّه. فإن قلت: ومن الراسخون في العلم؟ ¬
اختلاف رجلين من أهل العدل والتوحيد في حديث يخالف عقيدتهما
قلت: هذا بحثٌ ظاهرٌ لغوي، والراسخ في العلم: الثابت فيه، الماهر في معانيه، العارف للأدلة القطعية على ما يعتقد، فهو أرسخ قدماً من شوامخ الجبال، ولهذا ورد في صفة العالم: أنها تزول الرواسي ولا يزول، وليس كل مجتهدٍ، فهو غوَّاص الفِطْنَةِ، سيَّال الذِّهن، وقاد القريحة، لمَّاحاً لخفيَّات المعاني، درّاكاً لمغاصات الدقائق. وفي كلام العلامة رحمه الله: ليس العارف كالبارع في المعرفة، ولا ليلة المزدلفة كيوم عرفة. انتهى. ألا ترى أن أبا بكر وعمر وعثمان وكثيراً من الصحابة كانوا مجتهدين، ولما يكونوا في الرسوخ في العلم كأمير المؤمنين، وقد قدمت في أول هذا الكتاب نكتةً حسنةً في تفاضل الناس إلى غير حدٍّ، فخذه من هنالك. ويحتمل أن كل مجتهدٍ راسخٌ إذا كان ثابت العقائد والقواعد، لا شك فيما قطع به، وقدر احتمال نقيضه، لأن الراسخ: الثابت في اللغة. المقدمة الثالثة: إذا اختلف رجلان من أهل العدل والتوحيد في حديثٍ يُخالف عقيدتهما، فقال أحدهما: تأويله مما لا دليل على عجز الراسخين في العلم عن تأويله، ولا دليل في العقل، ولا في السمع على أن علياً عليه السلام وسائر الأئمة، والفطناء، وأهل الدِّريَة بالغَوْصِ على الدقائق لو اجتمعوا واجتهدوا في البحث عن وجوه التأويل، لعَجَزُوا عن تأويله، ولم تهتد إليه فكرهم الغَوَّاصة على الدقائق، الماحية لخفيات المدارك البتة، بل يعلم أنه لا يستحيل تأويله في علم الله على الصحيح. وقال الآخر: أنا أعتقد أنهم لو اجتمعوا كلهم أولهم وآخرهم، ما قدَرُوا على تأويله البتة. فإنه لا يستحق أحدٌ منهما تكفيراً ولا تفسيقاً ولا تأثيماً، لأن عقيدتهما واحدةٌ، وإنما اختلفا في بعض ما خالف عقيدتهما: هل يمكن أحدٌ من
تجني السيد على المؤلف رحمه الله ونسبته إلى نفي التأويل
الراسخين تأويله أم لا؟ مع اتفاقهما على أن ظاهرهما متروكٌ، وعلى أنه إذا لم يكن عند أحدٍ من الراسخين له تأويلٌ، فإنه مردودٌ. وهذه الصورة هي صورة ما بيني وبين السيد من الخلاف في بعض الأحاديث، فينبغي منه ومن غيره التنبيه على أنه ليس بيننا وبينه من الخلاف ما يَجِلُّ خطرُه، ويعظم أثره، إذا وافق على هذا الحد، فإن كثيراً من البُلداء إذا سمع بالمراسلات والمنازعات توهَّم أن ذلك لا يمكن إلاَّ مع تفسيقٍ أو تكفيرٍ، وذلك غير صحيح، ولو شاء أهل العلم وسَّعُوا القول في أدنى المسالك، وقد صنَّف كثيرٌ من العلماء مصنَّفاتٍ كباراً في مسائل فروعيةٍ ولطائف أدبيةٍ. المقدمة الرابعة: أن السيد أيده الله تعالى جنى عليَّ جنايةً عظيمةً، فنسبني إلى القول بنفي التأويل، وأنا ما قلتُ بذلك في الكتاب الذي اعترضه السيد، والذي قلت به فيه: إن التأويل لا يحِلُّ لي، لأنِّي من الجاهلين به، ولست من الراسخين فيه، مع الإقرار فيه بالتأويل للراسخين، فإن كان السيد يوجب العلم بالتأويل على جميع المكلَّفين من الإماء والنِّساء والحرَّاثين، وأهل الحِرَفِ من الصُّنَّاع، وسائر طبقات المسلمين، فهذا مذهبٌ له وحده لم (¬1) أعلم أحداً يُوافِقُهُ عليه، ولا يلزمني أن أوافقه فيه. وما زالت العلماء من المسلمين يجهلون التأويلات الدقيقة، ولا يدرُون بشيءٍ من تلك المغاصات العميقة، ولم ينكر ذلك عليهم أحدٌ من الأئمة عليهم السلام ولا أئمة الإسلام، وإيجاب ذلك عليهم يقتضي إيجاب المعرفة التامة بعلوم الأدب على كل مكلَّفٍ، وهذا خلاف الإجماع، وقد ذكر الزمخشري: أن التفسير يحتاج إلى التبريز في علمي المعاني والبيان (¬2)، ولا شك أن ذلك غير واجبٍ على العامة، بل كثيرٌ من أهل الإسلام عجمٌ، لا يجب عليهم تعلُّم الجليِّ من كلام العرب. ¬
وإن كان السيد يعرف أن العلم بالتأويل من خصائص الراسخين في العلم، كما قال الله على أحد القولين، فأنا ما أنكرتُ هذا في ذلك، فكيف ينسِبُني السيد إلى نفي التأويل على الإطلاق، ولم يزل سامحه الله يبني الردود في رسالته على مجرَّد التَّوهمات الواهية، ولولا محبة الرِّفق، لتكلَّمت في هذا الموضع بما يليق بمقتض الحال، فقد قال الله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم} [النساء: 148]، ولكني أرجو أن آخذ نصيباً من العمل بقوله: {وأن تَعفُوا أقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237]. ولو لم أنصَّ على خلاف ما حكى عني في كتابي الأول الذي رسالته جوابٌ له، لعذرته بعض المعذرة، ولكني صرَّحتُ في كتابي الأول بخلاف ما رماني به تصريحاً لا يخفى مثله، ولا يمكن تأويله، وأقل أحوال المجيب أن يدري (¬1) بما في المبتدأ (¬2) ولا يتسرَّع إلى القول بما لا يعلم. وأنا أُوردُ كلامي في المبتدأ بلفظه حتَّى يعرف السيد أنه قد أكثر من الجنايات علي في جوابه بمجرد تخيُّلاته وأوهامه. قلت: في كلامي المبتدأ ما هذا لفظه: وإن كانوا أنكروا القراءة في كتب الحديث، لِمَا فيها من المتشابه، فالقرآن مشحونٌ بالمتشابه، فهلاَّ نَهَوْا عن محبة قراءة القرآن، وزجروا المتقدمين في حفظ الفُرقان، وإن كانت نفرتهم منه لعدم تمكنهم من معرفة معانيه، وقلة معرفتهم لشرائطه ومبانيه، وتعثُّرهم في ميادين تأويله، وتحيُّرِهم في مسالك تعليله، فلا ذنب للحديث ولا لحَمَلَته في غباوتهم، ولا عَيْبَ عليه ولا على طلبته في بلادتهم (¬3)، وتأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى في أحد القولين، والراسخون في العلم على القول الآخر، فمن لم يكن من الراسخين في العلم، لم يتضجَّر من عدم معرفته للدقائق، ويقيِّد ¬
فهمه عن السَّير في المزالق. وابن اللَّبُون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صولَةَ البُزْلِ القناعيس ومن ها هنا نسبني كثيرٌ من الجهلة إلى القول بالظاهر، لأني لما استصغرت قدري وأمسكت عن الكلام حيث لا أدري، علماً منِّي أني لستُ من الراسخين، وأني بعد لم أرتفع عن مرتبة المتعلِّمين، مع اعتقادي أن الظاهر الذي يخالف مذهب العترة عليهم السلام غير مرادٍ ولا مقصودٍ، ولكني أقف على تأويله، وأكيع (¬1) عن تعليله، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يصح إجماع العترة عليهم السلام على تأويلٍ معينٍ في ذلك، فلا أشك حينئذٍ في التَّمسُّك بإجماع العترة الهُداة، والرجوع إلى سُفُنِ النجاة، وإن لم يصح عنهم في ذلك إجماعٌ، لم يكن إلاَّ الوقوف في التأويل والإقرار بالتنزيل، لأن التَّقليد إنما شُرِعَ لنا في المسائل العملية الفروعية، لا في المسائل العلمية. انتهى كلامي في المبتدأ، فكيف ينسُب السيد إلى القول بنفي التأويل، ويحتجُّ علي: بأن الله تعالى لا يخاطِبُ بما لا يعلمون؟ فإذا تقرِّر هذا، فاعلم -أيدك الله- أنك الذي أنكرت وجود العلماء المجتهدين، فضلاً عن وجود الراسخين! وقلت: إنه (¬2) لا طريق إلى معرفة تفسير القرآن، هكذا على الإطلاق، فنفيتَ الطريق إلى معرفة تفسير المحكم والمتشابه، وقلت: لا طريق إلى معرفة اللغة العربية عن رواتها، وعلى طريق صحتها، فقبولها منهم تقليدٌ لهم، والتفسير بالتقليد لا يجوز، وقد تقدم كلامك بلفظه، وتقدم الجواب عليه، فبالله أيها الناظر: مَنِ الذي سدَّ على الناس معرفة كلام الله، وصنف في قطع التفسير ¬
المجاز الذي في القرآن غير المتشابه
لكتاب الله، ومن الذي ردَّ عليه ما قال، وبيَّن أن قوله (¬1) يؤدي إلى الضلال، والذي يرى كلام السيد مع جلالته يعتقد أنه لم يُجازف فيما لطخني به، وأنه أرفع منزلةً من أن ينسُب إلى أحدٍ ما لم يعلمه، فيظن بي ما ليس عندي، فليكن هذا حدّ السيد في نسبة الأباطيل إليَّ، وطرح الأكاذيب عليَّ. المقدمة الخامسة: أن المجاز الذي في القرآن غير المتشابه، وذلك أن الله أخبر أنه لا يعلم المتشابه إلاَّ الله والراسخون في العلم على قول الجمهور من المتكلمين، والمجاز معروفٌ جليٌّ سابقٌ إلى الأفهام مع القرينة، فإن العربيَّ الجِلْفَ، المكبَّ -لغباوته- على عبادة الأصنام إذا سَمِعَ قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] لا يعتقد أن للذُّل (¬2) جُناحاً حقيقياً أبداً، وكذا إذا سَمِعَ قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَه} [الكهف: 77]، فإنه لا يعتقد أن الجدار يعزِمُ على الانقضاض، ويريد ذلك. فإذا ثبت أن الكل من عامة أهل اللِّسان العربي يعرفون معنى ذلك، لم يَجُزْ أن يكون ذلك هو (¬3) المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الراسخون، وكثير من المجاز المتعلق بصفات الله تعالى من هذا القبيل الذي لا يستحق أن يسمى متشابهاً. فإن قلت: فما الميزان المعتَبَرُ في الفرق بينهما؟ قلت: كل مجازٍ قرينة التجوز فيه ضروريةٌ أو جليةٌ غير خفيةٍ، فليس من المتشابه، وكل (¬4) مجازٍ قرينته تنبني على قواعد نظريةٍ دقيقةٍ لا يعرفها إلاَّ الخاصة من العلماء، فهو متشابهٌ، فتأمل ذلك، فإنه نفيس الفوائد وغزير المعارف. المقدمة السادسة: سوف يأتي إن شاء الله أن القرائن الدالة على المجاز ثلاثٌ: عقليةٌ وعرفيةٌ ولفظيةٌ. ¬
ومثال العقلية: {واسألِ القرية التي كُنَّا فيها والعير} فإن العقل يعلم أن سؤال القرية والعير لا يصح، فيفهَمُ المخاطب أن المراد: سؤال أهلها. إذا عرفت هذا، فاعلم أن القرينة العقلية إنما يصح الاستدلال بها على التجوز في الكلام متى كان العقل يقطع على أن المتكلِّم ممن لا يصح الظاهر في حقه، فلهذه النُّكتة يختلف الاستدلال بها، فيصح في مواضع فيما بين الناس، ولا يصح مثله في كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام. مثال ذلك: أنا نفهم التجوُّز في قول الشاعر: شكا إليَّ جملي طول السُّرى ... يا جملي لَيْسَ إليَّ المُشتَكى وذلك لأن العادة جرت بأن العجماوات لا تُكَلِّمُ إلاَّ الأنبياء (¬1) عليهم السلام، فتعلم أنَّها لا تكلم سواهم على قولٍ، ونظنُّ ذلك على القول الآخر. فأمَّا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا الجمل شكا أنَّك تُجيعُه وتُدْئِبُه " (¬2)، فلا نفهم التَّجوز، لأنا لا نعلم امتناع الظاهر في حقه، ولا نظن ذلك. ومن ها هنا اختلف كثيرٌ من المحدثين والمتكلمين في تأويل كثير من الأحاديث والآيات، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} [الإسراء: 44]، فالمتكلمون حملوه على التجوز، لاعتقادهم أن الظاهر لا يصحُّ، وأهل الحديث لم يتأوَّلوه، لاعتقادهم أنه لا مانع من صحة الظاهر بالنظر إلى علم الكلام وقدرته، لأنه خبر من يعلم ما لا نعلم، ويقدِرُ على: إنطاق كل شيءٍ بالإجماع، فقد ورد في القرآن: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطيرِ} [النمل: 16]، وكلام سليمان عليه السلام مع الهدهد والنملة، ومن ذلك تسبيح الجبال مع داود عليه السلام، وهذا من خواصِّه ومعجزاته، وأما ¬
التسبيح المجازي، فالجبال يسبِّحنَ مع غيره عليه السلام. وأما السنة، فقد صح عنه عليه السلام أنها كلمته الذِّراعُ المسمومة (¬1)، وحنَّ إليه الجِذْعُ (¬2)، وسبَّح الحصا في يده (¬3)، وكان يُسْمَعُ تسبيح الطعام في حضرته (¬4)، وهذا كثيرٌ في السنة. وقد ذكر هذا الإمام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون} [البقرة: 159]، فإنه عليه السلام ذكر في تفسيرها كلاماً كثيراً يتعلق بلعن ما ليس بناطقٍ، وذكر الكلام عن الحيوانات من العجماوات، فذكر كلام (¬5) الثعلب وشعره (¬6)، وكلام البعير (¬7)، وكلام العَضْباء (¬8)، وكلام الضَّبِّ (¬9)، وحديث الذئب (¬10)، وحديث الحمار الذي ¬
أُخذ من خيبر وسأله النبي عن اسمه (¬1)، وحديث الناقة التي نطقت بالشهادة أنها ملكٌ لصاحبها (¬2)، وحديث الشجرة التي شهدت بالنبوة، وذكرها علي عليه ¬
السلام في " النهج " (¬1). وطوَّل في هذا في قدر كُرَّاسٍ من أشعارٍ وأخبارٍ، وروى ذلك كله بإسناده بالقراءة (¬2) والسماع بذكر ذلك في كل حديثٍ. وقد عقد عياضٌ المالكي في ذلك ثلاثة فصول في كتابه " الشفاء " (¬3): فصلاً في كلام الحيوانات من العجماوات، وفصلاً في كلام الشجر، وفصلاً في كلام سائر الجمادات، واستوعب في ذلك. وقد صحَّح المتكلِّمُون هذا المعنى، ولم ينكروه بالنظر إلى القدرة، وذكروا ما يقتضي صحته عندهم الجميع في كيفيَّةِ كلام الله تعالى، وفي فضل المعجزات ونحو ذلك. ومن أعجب ما ورد في ذلك: ما رواه السيد الإمام أبو طالب في كتابه " الأمالي " بإسناده، قال عليه السلام: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني (¬4) املاءاً، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن أوس الأنصاري الكوفي، قال: حدثنا نصر بن وكيعٍ، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه أعرابي على ناقة له، فنزل ودخل، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامه، ثم قال: ¬
" حدِّثِ الناس من أمرِ ثعلبِكَ ". قال: يا رسول الله، أنا رجلٌ من أهل نجران، جئت أحتطب من وادٍ يقال له: السَّيَّال، فبينا أنا في الوادي أحتطب الحطب على راحلتي هذه إذ أنا (¬1) بهاتفٍ يهتف بي (¬2) من جانب الوادي: يا حامل الجُرْزَةِ مِنْ سَيَّالِ ... هل لك في أجرٍ وفي نَوَالِ وحُسْنِ شكر آخر الليالي ... أنقذك الله من الأغلالِ ومِنْ سعير النار والأنكال ... فامنُنْ فَدَتْكَ النفسُ بالإفضالِ وحِّلني من وَهَقِ الحِبالِ فالتفتُّ، فإذا ثعلب إلى شجرةٍ، فقال الثعلب: يا حامل الجُرزة للأيتام ... عجبتَ مِنْ شأني ومن كلامي اعجب من الساجد للأصنام ... مستقسماً للكفر بالأزلامِ (¬3) هذا الذي بالبلد الحرام ... نبيُّ صدقٍ جاءَ بالإسلامِ وبالهدى والدين والأحكام ... بالصلوات الخمس والصيامِ والبرِّ والصِّلات للأرحام ... مهاجرٌ في فتيةٍ كرامِ غير معايب ولا لئام فذهبت لأحُلَّه، فإذا هاتفٌ آخر يقول: يا حاملَ الجُرْزَةِ مِنْ جُرْزِ الحَطَبْ ... أما ترى (¬4) وأنتَ شيخ منجذِبْ وفيك عِلْمٌ ووقارٌ وأدبْ ... إنَّ الذي يُنبيك زورٌ وكَذِبْ محمدٌ أَفْسَدَ ديوانَ العرب فأنشأ الثعلب يقول: ¬
إنَّ الذي تسمعُه (¬1) لَعِيني ... ملعونُ جنٍّ أيّما ملعونِ يدينُ في الله بغيرِ دينِ ... يُغويكَ بي عَهْداً (¬2) لكي تُرديني فامنُن فدتكَ النَّفس بالتَّهوين ... على أخٍ مُضطهدٍ مسكينِ إن لم تُغِثْني غَلِقَتْ رُهوني قال: فأتيتُه فحللته (¬3). انتهى ما رواه السيد الإمام أبو طالب عليه السلام. وهذا الباب واسعٌ، لا سبيل إلى استقصائه، ولا حاجة إلى ذلك، وإنما أتيت بهذه القصَّةِ تبرُّكاً بإيراد ما رواه أهل البيت عليهم السلام، وإلا فالإشارةُ في هذا كافيةٌ. فإذا تقرَّر هذا، فاعلم أن عامَّةَ أهل الأثر لمَّا رأوا هذا داخلاً في قدرة الله تعالى لم يتأولوا كثيراً مِمَّا ورد في هذا المعنى، مثل قوله تعالى في السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائِعين} [فصلت: 11]، وليس يلزمهُم من هذا أن يسبِّحَ (¬4) كلُّ جزءٍ مِنَ الأجسام اللطيفة مثل ورقة التِّين والقلم والسِّواك، بل إذا سبحتِ الأرضُ، فقد صدق أنه يسبِّحُ كلُّ شيءٍ، مثلما أنه إذا سبَّح الإنسان، فقد سبَّح منه كلُّ شيءٍ، وإن لم تُسَبِّحْ منه كلُّ شعرةٍ على انفرادها، بل يصدُقُ أنَّ الإنسان سبَّح من غير تجوُّزٍ في ذلك، فكذلك إذا سبَّحت الأرض والسماوات والحيوانات، فقد صدق أنه يسبِّح لله كلُّ شيءٍ من غير تجوز (¬5)، وإن لم تسبِّحِ الأجسام اللطيفة. ¬
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أن المتكلمين والمحدثين إنَّما يختلفون هُنا، لاختلافهم في أن القرينة العقليَّة، هل تدلُّ هنا على التَّجوُّز أم لا؟ والأمر في هذا قريبٌ، والذي قالوه في هذا ممكنٌ عند المتكلِّمين عقلاً. ويتفرع على هذا تنبيهٌ مفيدٌ، وذلك أن كثيراً من المحدِّثين -لعدم ارتياضهم في العلوم العقلية- يتوقفون في إحالة أشياء عقليةٍ، وإحالتها في العقل ظاهرةٌ جليةٌ مثل حديث (¬1) أنه " يؤتى بالموت على صُورة كبشٍ أملح " (¬2) يوم القيامة، فمن لم يكُن له أُنْسٌ بعلم العقل، لم يقطع باستحالة هذا، فربما ظنه على ظاهره، وربما توقف في معناه، وذلك مما لا يصح عند أحدٍ من جمهور أهل الكلام، لأن الموت إمَّا عَرَضٌ على قولٍ، أو عدمُ عَرَضٍ على قول، وكلاهما يستحيلُ أن يصير حيواناً عند جمهورهم، على أن ابن تيمية -وكان من أئمة الكلام- خالفهم في ذلك، وقال: إنه لا يستحيل أن يُنشىء الله تعالى من الأعراض أجساماً تكون تلك الأعراض مادة لها، وإنما المحال ذبح العرض نفسه، وهو ما هو عليه، وطوَّل في الاحتجاج على ذلك، ذكره تلميذه ابن قيّم الجوزية في أواخر " حادي الأرواح " (¬3). ¬
وتلخيصُ كلامه: أن منعهم لذلك مجرَّد استبعاد، ولا مانع من كون الشيء مادة لمخالفه لا ضده، وإنما يمتنع لو كان يستلزم المُحال، ويؤدِّي إلى الجمع بين النَّقيضين، وأمَّا مجرَّدُ الاستبعاد، فليس هو أبلغ من استبعاد الفلاسفة لإنشاءِ الموجود مِنَ العدم المحض، كما هو قول أكثر أهل الإسلام، ومنتهى ما فيه أنَّ العقل يقِفُ هنا، ولا يقطع بشيءٍ، لكن السمع دلَّ عليه دلالات مختلفة متنوِّعة، فمنه حديث: " تجيء البقرة وآل عمران كأنَّهما غمامتان " (¬1)، وحديث: " إن ما يذكرون مِنْ جلال الله من تسبيحه وتمجيده وتهليله يتعاطفن حول العرش لهن دويٌّ يُذَكِّرن بصاحبهن " (¬2)، وحديث الصورة التي تقول للميِّت في قبره: " أنا عملُك الصَّالح أو السَّيِّىء " (¬3). فهذا أمرٌ معقولٌ، لو لم يرد به النص، فورود النَّصِّ به من قبيل تطابُق السَّمع والعقل، ثم ساق ما ورد مِنَ الآثار. انتهى بالمعنى. والسرُّ في هذ التنبيه أن يعرف المتكلِّمُ أنه لا حَرَجَ على من توقف في تأويل هذا الجنس من أهل الأثر، ولا تحلُّ غيبة المتوقِّف في هذا ولا انتقاصه، لأنه مسلمٌ محقونُ العِرْضِ، مستحقٌّ لحقوق جميع المسلمين، والبحث عن هذا -وإن كان من جليَّاتِ علم المعقول- فلا يجب عليه، والوقف في التأويل مع الجهل بالموجب له هو الواجب عليه، وليس كلُّ أمرٍ جليٍّ في العقل يجب على المسلمين النظر فيه، فإن من الجليَّات عند المنطقيين صدق قولنا إذا صدق أنَّ ¬
هل القطع بتعمد كذب رواة بعض الأحاديث التي ذكرها السيد أم الوقف في ذلك؟
كل ألفٍ باءٌ، فبالضرورة يجب أن بعض الباء ألفٌ، وهذا وإن كان صحيحاً، بل ضرورياً، فإنه لا يجب على المسلمين أن يعرفوه. المقدمة السابعة: اعلم أنَّا نظرنا في هذه الأحاديث التي ذكرها السيد، وقطع أن رواتها تعمَّدُوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل الأولى القطع بتعمُّدِهم الكذب، أم الوقفُ في ذلك؟ فوجدنا الوقف أولى، لوجوهٍ مرجِّحة لذلك (¬1). المرجِّح الأول: أن القطع بأنهم تعمَّدُوا الكذب فيها يؤدي إلى بطلان أمر مجمعٍ عليه، وما أدَّى إلى ذلك، فهو باطلٌ، والمقدمة الثانية: أنها مسلمة وفاقية، وبيان المقدمة الأولى أن الأمة قد أجمعت على الرجوع إلى كتب المحدثين هذه المسمَّاة بالصِّحاح، والاجتماع بما فيها، أما الفقهاء، فظاهرٌ، وأما الزيدية، فلوجوهٍ: أحدها: أن من أول كتابٍ صُنِّفَ في تجريد أدلة الأحكام من الحديث للزيدية، فهو كتاب " علوم آل محمد " تأليف محمد بن منصور المرادي، وهو المعروف بأمالي أحمد بن عيسى، وهو يروي فيه عن محمد بن إسماعيل البخاري، وعن رجال الصِّحاح، وعمَّن دونهم، بل صرَّح فيه بما يقتضي قبول المجاهيل، وبعده كتاب " أصول الأحكام " للإمام المتوكل أحمد بن سليمان عليه السلام، وقد قال في خطبته: إنه نقل من " البخاري " وغيره من كتب الفقهاء، مثل كتاب الطحاوي الحنفي، وكتاب المُزني صاحب الشافعي، وكتاب محمد بن الحسن الشيباني، وكتاب الإمام هذا قد خلط الذي رُوِيَ عنهم بالذي رُوِيَ عن أهل البيت عليهم السلام من غير تمييزٍ لأحدهما عن الآخر بصريح لفظ ولا رمزٍ في خطٍّ ولا قاعدةٍ ذكرها في خطبة الكتاب، والزيدية مجمعون على الرجوع إليه، والمجتهدون منهم معتمدون في معرفة أدلة الأحكام عليه في قدر أربعمئة سنةٍ، ما أنكر ذلك منكرٌ. ¬
وثانيها: شهرة النقل عنها قديماً وحديثاً في كتب الزيدية من غير نكيرٍ، هذا إمام الأئمة المنصور بالله عليه السلام يقول في كتاب " الرسالة النافعة " بالأدلة القطعية بعد ذكر (¬1) الصحاح ما لفظه: إذ هذه الكتب التي توجد في أيدي الأمة سبيلٌ (¬2) إلى ربها. ويقول في " العقد الثمين " ما لفظه: فالذي رويناه من طريق العامة هو ما صحَّت لنا روايته عن الفقيه العالم أبي الحُسين يحيى بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد البطريق الأسدي الحلبي يرفعه إلى رجاله مما رواه من كتب العامة بالأسانيد الصحيحة. هذا لفظه عليه السلام، وفيه التصريح بصحة أسانيدها، ولم يقل -كما قال السيد- المسماة بالصحاح احترازاً من الكذب، بل قطع المنصور بالله عليه السلام القول بصحتها، وكان إليه المنتهى في التَّقوِّي والتحري. وقال عليه السلام في هذه الرسالة وقد ذكر ما في كتب الصحاح من فضل أهل البيت عليهم السلام، وعيَّن منها مواضعها حتى قال ما لفظه: " من " صحيح البخاري "، ومن " صحيح مسلم "، وقال: من " الجمع بين الصحيحين " للحُميدي، ولم يقل المسمى " بصحيح البخاري "، والمسمى " بصحيح مسلم "، والمسمى " بالجمع بين الصحيحين "، وقال من " صحيح أبي داود السجستاني "، وهو كتاب " السنن "، ولم يقل المسمى " بالسنن "، وذكر الرواية من " صحيح البخاري " ومن " صحيح مسلم "، وأطلق على الكُلِّ منها لفظ الصِّحة من دون احترازٍ، وقال: من " الجمع بين الصحاح الستة " لرزين بن معاوية العبدي (¬3)، وأطلق على الكل فيها لفظ الصحاح، قال، وقد ذكر جملة ¬
الصِّحاح و" تفسير الثعلبي " و" مسند " ابن حنبل ما لفظه: وهذه الكتب التي تُوجَدُ في أيدي الأمة سببٌ (¬1) إلى ربِّها، فحكم بأن كتب الحديث المعروفة هي محلُّ النجاة. وكذلك العلامة الزمخشري ذكر في " كشافه " سماعه في " صحيح مسلم "، وسماه صحيحاً، ولم يقل كتاب مسلم الذي سماه صحيحاً، كما فعل السيد، فكانت للزمخشري بصيرةٌ يُميِّزُ بها بين الصحيح والسقيم. وذكر الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام أنه وجد كتب الحديث في خِزانة الإمام الناصر بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وهذا يدل على قِدَمِ وجودها في خزائن الأئمة من غير نكيرٍ على من يعتمد عليها. وذكر الأمير الحسين رحمه الله في " شفاء الأوام " حديثاًً، وقال: ليس له فيه سماعٌ، ولكنه من كتاب " الفائق "، وهو مشهور عند الشفعوية مقويّاً للحديث بشهرة الكتاب عندهم، وصرح الأمير الحسين في " الشفاء " بالنقل منها. وقال القاضي العلامة عبد الله بن حسن رحمه الله في " تعليق الخلاصة " فيما يشترط في علم الإمام ما لفظه: والعلم بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، يكفي في ذلك كتابٌ مما يشمل الأحاديث المتعلقة بالأحكام " كأصول الأحكام " أو أحد الكتب المصحِّحة المشهورة. وكذلك الفقيه علي بن يحيى الوشلي رحمه الله ذكر في " تعليق اللمع " أنه يكفي المجتهد مِنَ السنة معرفة (¬2) كتاب " السنن " لأبي داود. وكذلك الفقيه العلامة علي بن عبد الله رحمه الله نص على ذلك في " تعليق الجوهرة "، وكان الإمام يحيى بن حمزه عليه السلام ينقلُ منها ويعتمد عليها. وكذلك الإمام محمد بن المطهِّر عليه السلام، وكذلك حيٌّ الإمام الناصر عليه السلام. ¬
وقد تقدم شيء من هذا، ولكن مقتضى الحال مع لجاج أهل الزمان يقتضي التكرار والبيان الكثير، وإن سئم منه قليل النَّشاط، فالسآمة من طول الاحتجاج على الحق خيرٌ من العماية من طول السكوت عنه (¬1) والعارف لا يكون كسلان، ومن أحبَّ العلم، لم يسأم التطويل والتكرار. إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لو كان ما في هذه الكتب الصحيحة كُفراً صريحاً، لا يمكن تأويله، بل يجري مجرى سبِّ الأنبياء عليهم السلام، والأمر بعبادة الأصنام، ونحو ذلك من تجويز وأدِ البنات، ونكاح الأمهات، واستحلال الفواحش المحرمات، لم يحل الرُّجوع إليها، ولا النَّقل منها ولا نساختها لخزائن الأئمة الطاهرين من وقت الإمام الناصر أحمد بن يحيى الهادي عليه السَّلام إلى زماننا هذا من غير تحذيرٍ منها، ولا إعلانٍ لتقبيح ما فيها. ومن العجب أنَّه ما ظهر القول بأن فيها الكفر الصَّريح الذي لا يحتمل التأويل البتة إلاَّ في شهر ذي الحجة من سنة ثمانٍ وثمانمئة سنة من السيد أيده الله، وقد تقدَّمه من هو أعلم منه وأفضل، مثل المنصور بالله، وأحمد بن سليمان المتوكِّل على الله، والإمام يحيى بن حمزة، والإمام الناصر محمد بن علي عليه السلام، وقد كان الفقيه أحمد بن سليمان الأوزري يقرىء فيها في صعدة وقت الإمام الناصر عليه السلام، وقرأ عليه الإمام الناصر والسيد أيضاً من جملة مَنْ سمعها عليه، وكانت العامة (¬2) تحضُرُ في مجالس السماع على أنها كتبُ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما أحدٌ أنكر ذلك ولا بيَّن للعامَّة ولا للخاصة. فلو أن الفقيه الأوزري جاء من تهامة بكتبٍ منسوبةٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد فيها سبَّ الأنبياء وإضافة النقص إليهم بما لا يحتمل التأويل، مثل القول بأن عيسى كان ساحراً، ولم يكن يحيي الموتى على الحقيقة، ومريم العذراء البتول عليها السلام كانت (¬3) ارتكبت الفاحشة، وولدها كان ولد زنى، وإنما ستر الله ¬
عليها بذكر ما ليس بصحيحٍ من كلام عيسى في المهد، ونحو ذلك، لم يشكَّ عاقلٌ في أن العُلماء والأئمة ما يقرُّونها على الأوزري، ويطلبُون الإجازة فيها، وينسخُونها، ويشحنُون خزائنهم بها، بل كانوا يَؤدِّبُون مَنْ جاء بها ومن قرأ فيها إن كان جاهلاً، ويقتلون من يعتقد صحَّتها. فإذا كان عند السيد أن في كتب الحديث من نسبة النقص إلى الله تعالى ما لا يحتمل التأويل، فذلك أعظم من سبِّ الأنبياء ونقصهم بما لا يحتمل التأويل (¬1). فإذا عرفت هذا فتنبَّه على تعريفٍ مفيد (¬2)، وهو أنا لو أتينا والناس مجتنبون لها، متواصون بالتحذير من قراءتها، ثم ابتدعنا القراءة فيها، والتصحيح لها، لكنا نستحق الإنكار وأما حين جئنا والإقراء فيها مشهورٌ في المساجد منذ أعصارٍ قديمة، والمذكور في تعليق " اللمع "، و" الخُلاصة "، و" الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ الزيدية في فُنون الفقه والكلام والأصول أنَّ الذي يكفي المجتهد معرفة كتابٍ فيها، وكتبُ الزيدية المتداولة في الحديث مفصحةٌ بالنقل منها، لم يشك أن القراءة فيها غير مُنكَرةٍ، والعمل بما فيها غير محرَّم. وأما (¬3) إن قلتم: نعلم ولا نعمل بهذا الأمر بما لا يجوز، ومثل الذين يتعلَّمون ولا يعملون، كمثل الحمار يحمل أسفاراً. وقد طال الكلام في هذا الوجه، وهو موضعٌ لطول الكلام، وقد تبين من هذا أن رواة هذه الأحاديث لو كانوا معتمدين للكذب -كما ذكر السيد- لم يجُزِ الرجوع إلى كتبهم، ولا إلى ما يجوز أن فيه شيئاً منها من كتب الزيدية والفقهاء، ولا التقليد لمن يستجيز الاحتجاج بها، ونحن لا نعلم في تصانيف المتأخرين ما هو كذلك، ولا نعلمُ منهم من لا يستجيز ذلك، وقد انعقد الإجماع على جواز ¬
القراءة في كتب المتأخِّرين، وعلى جواز التَّقليد لهم متى كانوا مجتهدين، فما أدى إلى بطلان هذا الإجماع، فهو أولى بالبطلان. الوجه الثالث: أن المنصور بالله قد حكى أنَّ المحققين رووا عن المخالفين لنا في الاعتقادات من غير مناكَرَةٍ، والمؤيد بالله عليه السلام قد نص على أن الظاهر من مذهب أصحابنا قبول كُفَّارِ التأويل، هكذا رواه عن أصحابنا على الإطلاق، والقاضي زيدٌ قدِ ادعى الإجماع على قبولهم، وهذا يقتضي أن مذهب الهادي والقاسم عليهما السلام قبولهم، بل قد رواه عنهما نصاً القاضي أبو مُضر خرَّجه عنهما المؤيد بالله عليه السلام، وهو أحدُ تخريجي أبي طالبٍ، وقد تقدَّم تقرير ذلك. فإن كان هذا في حق الهادي والقاسم عليهما السلام، فكيف بغيرهما من الأئمة والرواة، فثبت بهذا أنا نُجَوِّزُ في جِلَّةِ الأئمة والعلماء المتأخرين والقُدماء أنهم يقبلون رواة هذه الكتب من أهل التأويل. فإذا ثبت ذلك، فالكذب في هذه الكتب إنما دخل (¬1) فيها مِنْ أنَّ الحشوية كذَبُوا فيها، لكنا بيَّنَّا أن قَبُول هؤلاء الذين سمَّاهم السيد بالحشوية مذهب كثيرٍ من الأئمة الطاهرين نصاً صريحاً، ومذهب أكثرهم قولاً ظاهراً، أو مذهب جميعهم تجويزاً محتملاً، فلا يجوز الرُّجوع إلى أحدٍ منهم حتى نظن أنه لا يروي عن كافر تأويلٍ ولا فاسقه، ولا يستجيز الرِّواية المرسلة عمَّن يقبلهما (¬2)، وهذا بعيدٌ عزيزٌ، فإن أقصى ما في الباب أنا نجدٌ من لا يروي عن المتأوِّلين بأنفسهم، لكنا نجد من لا يروي عن العدل المتنزِّه عن البدع إذا كان ذلك العدل يقبل المتأولين. ألا ترى أن المؤيد بالله والمنصور بالله يقبلان المتأوِّلين بنصِّهما الصريح، ولا يوجد من الزيدية من لا يقبل حديث المؤيد بالله والمنصور بالله عليهما السلام ويرد مراسيلهما. ¬
فإذا ثبت أنه لا يمكن الاحتراز عن (¬1) حديثهم وروايتهم، ثبت أن القول بأنهم كذبةٌ متعمِّدون يؤدي إلى تحريم القراءة في جميع كتب الحديث مصنَّفات الزيدية والفقهاء، وهذا قولٌ مُخالفٌ للإجماع، وهذا الوجه غير الذي قبله، فلا يقع في ذلك (¬2) وهم. الوجه الرابع: أنا قد بيَّنَّا فيما تقدم رواية إجماع الصحابة على قبول المتأوِّلين، وأقل الأحوال أن تكون تلك الطريق (¬3) توجب أنهم يقولون بذلك، فمع القطع بأن المتأولين هم الذين كذبوا هذه الأحاديث، لا ندري (¬4) هل الفساق منهم هم الذين كذبوها أم الكفار، فالكل ممن لا يُنَزَّهُ عن تعمُّد الكذب، عند السيد، ومع هذا، فلا ندري فلعل الفُسَّاق المتأولين من الصدر الأول وقت الصحابة هم الذين كذبوهم، وعدول الصحابة، وإن لم يكونوا متَّهمين في أنفسهم لكنه يجوز أن يستحلُّوا الرِّواية عن فُسَّاق التأويل المتَّهمين، فيلزم أن لا يُقبل ثقات الصحابة إلاَّ إذا صرَّحُوا بالسماع، فالعنعنة محتملة، وتجويز توسُّط المتأوِّل (¬5) بين أهل العدل محتملٌ لجواز أن يذهب العدلي إلى ذلك، وهذا سد لباب الرواية، ومحوٌ لآثار العلم، وتعفيةٌ لسُبل الشريعة، ومخالفةٌ لإجماع الأمة، فلهذا اخترنا القول بتأويل ما في الصحاح محبَّةً للبقاء على ما كان عليه سلفنا الصالح من أهل البيت عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام، وكراهة الابتداع والغلوِّ في الدِّين، لا محبِّةً لتلاوة المتشابهات، ولا شَغَفَاً بظواهر أحاديثِ الصفات. فهذا هو المرجِّحُ الأول الذي بينته. على أن تكذيب رواية الصحاح يُؤدِّي إلى خلاف ما انعقد عليه الإجماع، وقد تبين ذلك بهذه الوجوه الأربعة، ولله الحمد. المرجح الثاني: قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ} [الإسراء: ¬
36]، فإن القول بأنَّ رواة الصِّحاح قد تعمَّدُوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأحاديث مما ليس لي به علمٌ، فلو علم ذلك أحدٌ، فلا لوم عليه في تكذيبهم، لكن من لا يعلمُ ذلك ما سبب إلزامِه أن يقطع بغير تقريرٍ ولا هُدى، ولا كتاب منيرٍ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب اليهود فيما رووه (¬1) خوفاً أن يصدقوا، فيكون المكذِّب لهم قد كذَّت الحق (¬2)، فهذا في اليهود القوم البُهْتِ، فكيف بأهل الإسلام؟ المرجِّح الثالث: أنا نخاف أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تلك الأحاديث، ونخاف أن يكون ما قالها، فنظرنا أيُّ الجَنَبتين أهون، فوجدنا الخطأ في القبول أهون من الخطأ في الرَّدِّ، لأنا متى أخطأنا في القبول، كان تصديقاً له (¬3) موقوفاً على شرط أنه قال (¬4): ومتى أخطأنا في الرَّدِّ كان تكذيباً (¬5) موقوفاً على أنه ما قال، والتصديق الموقوف خيرٌ من التكذيب بالضرورة، أقصى ما في الباب أن يكون الخطأ في القبول كذباً عليه، والخطأ في الرد تكذيباً له، صانه الله تعالى من ذكر ذلك، لكن تعمُّد الكذب عليه فسقٌ، وتعمُّد التكذيب له كفرٌ، فالخطأ فيما عمده فسقٌ أهون من الخطأ فيما عمده كفر، وهذا من نفائس المرجِّحات وخفيَّات المُدركاتِ النظرية. ¬
المرجِّح الرابع: أن الخطأ في العفو أولى مِنَ الخطأ في العقوبة، والقطع على حال الرُّواة بتعمُّد الكذب عقوبةٌ، والوقف (¬1) في ذلك عفو، والحمل على السلامة ظنٌّ جميلٌ، ولعلَّهم قد بلَّغُوا منه ما سمعوا منه، امتثالاً للأمر النبوي، حيث قال: " ليبلِّغِ الشاهد الغائب " (¬2)، ولعلَّهم قد شملتهم الدعوة المباركة النبوية، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " نضَّر الله امرءاً سمع (¬3) مقالتي، فوعاها، ثم أداها كما سمعها إلى من لم يسمعها " (¬4). وأنت يا هذا لضيق فهمِكَ، وقِلِّةِ علمك، تكذِّب من امتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغِ كلامه الحق الذي لم يقُلْهُ عبثاً، ولا نطق به سدىً: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. وكم من عائِبٍ قولاً صحيحاً ... وآفتهُ من الفهم السَّقيمِ (¬5) المرجِّح الخامس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلَّف فينا ثقلين، ووعدنا بالأمان من الضلال أبداً ما تمسكنا بهما (¬6)، فرجعنا إليهما فلم نجد في واحدٍ منهما الأمر بأنا نقطع بعجز جميع الراسخين في العلم -عليٍّ عليه السلام فمن بعده- عن تأويل تلك الأحاديث، فوقفنا في ذلك ووسعنا في الصمت عن تكذيب الرواة ما وَسِعَ أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في مقدار خمس مئة سنة، فإن هذه الكتب قد سارت في أقطار الإسلام هذا القدر، وتداولتها علماء الأئمة، ونُصحاء الأمة، ونُقَّادُ النظر والأثر، ما نعلم أحداً ممن يُعتدُّ به من جميع الفرق الإسلامية القائلين ¬
للآحاد صرَّح بمثل ما صرَّح به السيد بالتكذيب من غير تردُّدٍ البتة. المرجِّح السادس: أنا قد وجدنا في كتاب الله تعالى شواهد لِمَا ورد فيها من المتشابهات، وقول السيد: إن المتشابه الذي في القرآن جليٌّ قريبٌ، مثل قوله تعالى: {بَلْ يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] لا يصلح أن يُقال لمن يعرف القرآن ويدري ما فيه، وهذه الآية ليست مِنَ المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله والرَّاسخون في العلم، بل هي من المجاز الجليِّ الذي يعلمه من سمعه من أجلاف عُبَّاد الأصنام، وذلك لأن بسط اليدين -كما قال السيد- معروفٌ عند العرب أنه كنايةٌ عن الكرم، وهو كنايةٌ عندهم مشهورةٌ، كطول النِّجاد، وكثرة الرَّماد، وما كان مشهوراً عندهم، لم يكن من المتشابه المختصِّ بالراسخين، وإنما ظهر الأمر في ذلك عندهم لوضوح القرينة، وذلك أن الكلام واردٌ مورد المدح والثناء، وغير خافٍ على كل عاقلٍ أن مجرد بسط اليدين ممَّا لا مدح فيه ولا ثناء (¬1)، فبسط اليدين الحقيقي هو صفة الميت، وصفة الأخطل وكثيرٍ من أهل العاهات. فلا يشكُّ من سمِعَ تمدُّح ربِّ الأرباب بذلك، لم يُرِدْ هذا الوصف الحقيقي مجرّداً عن الكناية عن جُوده الواسع، ومعروفه الدائم، وأنه إنما أراد ما تعارفته العربُ في لسانها وتداولتها (¬2) البلغاء في خطابها من الكناية عن الكرم والجُود الفائض. والسيد قد اختار هذه الآية، وزعم أنها من متشابه القرآن، وأومأ إلى أن بقية المتشابه في القرآن من هذا القبيل، ثم اختار أدقَّ ما في كتب الحديث من المتشابه، وأشار إلى أن بقية ما ورد فيها مِنْ ذلك القبيل، وليس كما أوهم (¬3) في الجانبين، ففي القرآن ما هو أدقُّ من تلك الآية، وفي السنة ما هو أوضح من تلك الأحاديث. ¬
وقد رأيتُ أن أُورِدَ مِنْ آيات القرآن الكريم ما يُشابه (¬1) تلك الأحاديث، وأنا أُوردُ الآيات هنا مسرودة، ثم أُبيِّنُ الشواهد منها على كلِّ لفظٍ من ألفاظ تلك (¬2) الأحاديث، إلاَّ لفظ الضَّحِكِ وحده، فليس له في القرآن شاهدٌ، لكنه مجازٌ قريبٌ، نبيِّن الشواهد عليه من اللغة العربية إن شاء الله تعالى. وهذه الآيات الكريمة منها: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} [الأنعام: 158]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ} [الفجر: 22]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} [المطففين: 15]، وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه} [النمل: 65]، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير} [الملك: 16 - 17]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [النمل: 8 - 9]، وقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22 - 23]، وقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} [الأعراف: 143]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وقوله: {ثُمَّ استوى إلى السماء} [البقرة: 29]، وقوله في غير موضع: {ثم استوى على العرش}، وقوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} [الأعراف: 206]، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ (¬3) الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، ¬
وقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، وقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِم} [الأنعام: 127]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54 - 55]، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] و [الشورى: 22]، وقوله: {إنَّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم} [القلم: 34]، وقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِم} [الأنعام: 127]، وقوله: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19]، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] و [الشورى: 22]، وقوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات: 33 - 34]، وقوله: {وعنده أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]، وقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف: 4]، وقوله: {وعندنا كتابٌ حفيظُ} [ق: 4]، وقوله: {ولدينا كتابٌ ينطق بالحق} [المؤمنون: 62]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِم} [السجدة: 12]، وقوله: {لا تختصموا لدي} [ق: 28]، وقوله: {ولو تَرَى إذْ وُقِفُوا على ربِّهِمُ} [الأنعام: 30]، وقوله: {أولئك يُعْرَضُونَ على ربهم} [هود: 18]، وقوله: {يَخَافُون ربَّهم من فوقهم} [النحل: 50]، وقوله: {إذ قال الله يا عيسى إني مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إليَّ ومُطَهِّرُكَ من الذين كفروا} [آل عمران: 55]، وقوله: {وما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفََعَه الله إليه} [النساء: 157 - 158]، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون} [السجدة: 5]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، وقوله: {إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطيب} [فاطر: 10]، وقوله: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله: {ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي} [ص: 75]، وقوله: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويَّاتٌ بيمينه} [الزمر: 67]، وقوله: {واصنع الفلك بأعيننا} [هود: 37]، وقوله: {واصبر لحكم ربك
توقف كثير من العلماء في تكفير كثير ممن خالف الحق من المسلمين
فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13 - 14]، وقوله: {ولتصنع على عيني} [طه: 39]، وقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساقٍ} [القلم: 42]، وقوله: {سبِّح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، وقوله: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]، وقوله: {الكبير المتعال} [الرعد: 9] وقوله: {ذي المعارج} [المعارج: 3]، وقوله: {رفيع الدرجات ذو العرش} [غافر: 15]، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 75 - 78]. فهذه الآيات في هذا الجنس الذي ذكره السيد، وأما جميع أجناس المتشابهات في القرآن الكريم فذلك بابٌ واسعٌ. المقدمة الثامنة: في بيان مراتب التصديق والتأويل والرد. واعلم أن كل ما أخبر الله تعالى أو رسوله عليه السلام بوجوده، فإنه يجب التصديق بوجوده، ولكن للوجود مراتبٌ متفاوتةٌ، وفيها تردد المصدِّقون، ومن بقي في التصديق متمسكاً بواحدة (¬1) منها، لم يُنسب إلى صريح التكذيب ما لم يصادم تأويله المعلوم من ضروره الدين للجميع لا للبعض، وحينئذٍ لا يُعذر بتأويله، كتأويلات الباطنية للأسماء الحسنى، وصفات الكمال، وتأويلات غلاة أهل البدع المخرجات من الإسلام، نعوذ بالله من ذلك. ولهذا توقَّف كثيرٌ من العلماء في تكفير كثيرٍ ممن خالف الحق من المسلمين، لتمسُّكهم بعروة التصديق، فمن لم يتمسك بشيء منها، وخرج إلى ¬
جنس تأويل الباطنية المعلوم بطلانه من الدين ضرورة، مثل تأويل الله جل جلاله بالإمام، وقولهم: إن الله ليس بقادر، وأن معنى القادر في حقه تعالى أنه يخلُقُ من هو قادرٌ، فليس هذا بتأويل، إنما هو تكذيبٌ سمَّته الملاحدة تأويلاً، وصادموا في ذلك ضرورة الدين، وتوصَّلوا بذلك إلى إنكار الجنة والنار، وتأويل المَعَاد الأُخروي برمته، وحاولوا ما لم يتم لهم من الكفر الصريح، والتمويه على العامة بدعوى الإسلام. وهذه مراتب التصديق بوجود ما أخبر الله تعالى به على الحقيقة، والظاهر، ثم على المجاز والتأويل المستعمل بين علماء الإسلام، ثم نذكر مرتبة الرد. المرتبة الأولى: الوجود الذاتي، وهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحِسِّ والعقل، ولكن يأخد الحسُّ، والعقل عنه صورته، فيسمى ما يتعلق بالحس منه إدراكاً، ويسمى ما يتعلق بالعقل منه علماً وتصوُّراً ومعرفةً على أحد الاصطلاحين، وهذا كوجود الجنة والنار، والبعث والملائكة، وسائر الأمور، فإن وجودها ذاتي حقيقي، كوجود السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات وهذا الوجود هو الذي ليس بمتأول، وما دونه من مراتب الوجود، فإنما يُصار إليه بالتأويل. وأجمعت الأمة إجماعاًً قطعياً أنه لا يجوز النزول منه إلى ما دونه من مراتب التأويل إلاَّ للضرورة وتعذُّر التصديق به، ولا يُخالف أحدٌ من الظاهرية وغيرهم أن الدليل القاطع العقلي والسمعي يوجب التأويل، ولهذا قال أبو محمد بن حزمٍ، وهو من أئمة الظاهرية: ألم تر أنِّي ظاهريٌّ وأنني ... على ما بدا حتَّى يقومَ دليلُ وقد صرح الإمام أحمد بن حنبل بالتأويل في غير موضعٍ (¬1)، فهذا يدلُّ على ¬
أنه لم يُخالف في وجوب التأويل أحدٌ ممن يُعْتَدُّ به من جميع الفِرَقِ، وإنما يُنكره في بعض المواضع من يُخالفنا مدَّعياً أن الدليل الذي ألجأ إليه غير صحيحٍ، فالمنازعة في الحقيقة إنما هي في الأدلة الموجبة له، والله أعلم. المرتبة الثانية: من مراتب الوجود، وهي أُولى مراتب التأويل: الوجود الحِسِّي، وهو ما تمثل (¬1) في القوة المُبصرة من العين مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجوداً في الحسِّ، ويختص به الحاسُّ، ولا يشاركه فيه غيره إلا من تمثَّل له في قوة بصره مثله، وكذلك كل ما يشاهده النائم، وكل ما يشاهده المريض من ذلك، وكل ما يتمثَّلُه أهل الكشف مما لا وجود له في الخارج، إذ قد (¬2) تتمثَّل لهم صورٌ لا وجود لها خارج حسهم (¬3) حتَّى إنهم يُشاهدونه كما نشاهد سائر الموجودات، وذكر بعض أهل العلم أنه قد يتمثل للأنبياء عليهم السلام صورٌ في حال الصحة واليقظة على هذه الصفة من غير وجودٍ حقيقي، وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها، فيتلقَّوْنَ منها في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم، وأهل الكشف من الصُّوفية يذكرون مثل ذلك في حال اليقظة والصحة. وبالجملة، فهذا متفقٌ عليه في المنام وحال تغير العقل، مثل حال المرض (¬4)، وأما في حال الصحة واليقظة، ففيه خلافٌ، ومن جوَّزه، احتج بأمورٍ: أولها: قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهِمْ أنَّها ¬
تَسعَى} [طه: 66]، وهذا -مع نصِّ القرآن عليه- معلومٌ من أحوال السَّحَرةِ وخواص السحر، وفيه ما يدلُّ على جواز وجود الشيء في قوة البصر على سبيلِ التخيل، وإن لم يكن له وجودٌ حقيقيٌّ في حال الصحة واليقظة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى}، فإن فيه أنه من (¬1) رآها يُخَيَّل إليه أنها تسعى، وفيه أنها غير ساعيةٍ في الحقيقة، ولهذا سمَّاه تخييلاً، ومنه قوله تعالى: {فَتَمَثَّل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]، ومنه تصوُّر الملائكة لقوم لوطٍ على صور شبابٍ حسانٍ، وتمثُّل جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - على صورة دِحية الكلبي مرة (¬2)، وعلى صورة أعرابيٍّ مرةً (¬3)، وإلى ذلك أشار ابن الفارض في قوله (¬4): يرى ملكاً يُوحَى إليه، وغيرهُ ... يرى رجُلاً يوحى إليه بصحبَةِ وفي الذكر ذكر اللَّبس ليس بمُنكرٍ ... ولم أعْدُ عن حُكمي كتابٍ وسنةِ والصحيح: أن صورة جبريل العظيمة لم تُحوَّل عما هي عليه. الحجة الثانية: قوله عليه السلام: " تنام عيناي ولا ينام قلبي " (¬5). فإذا ثبت أن قلبه لا ينام، فإنه يتخيل له في النوم ما لا حقيقة له، كما يُخيل له عليه السلام أن في سيفه ثُلْمَةً في وقعة أُحدٍ، وتمثَّلت له بقرٌ مُذَبَّحةٌ (¬6)، ونحو ذلك مما لا ¬
حقيقة له في الخارج، فكذلك غيره في اليقظة مثله في النوم، لأنه على هذا (¬1) يكون في حال نومه كمن غمض عينيه، وسدَّ أُذنيه، لا يغيب عنه إلاَّ إدراك الحواسِّ، وقلبه محفوظٌ، ولهذا قال ذلك تعليلاً، لكون نومه لا ينقض وضوءه، وفي هذه الحجة مباحث تركتها اختصاراً. الحجة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]، وهي محتملةٌ لا يظهر فيها مرادهم والله أعلم. الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: " عُرِضَتْ علي الجنة والنار في عُرض هذا الحائط " (¬2)، فإنه عليه السلام قال ذلك في حال اليقظة، في حال صلاة الكُسوف كما ذلك معروف في كتب الحديث (¬3)، ويستحيل أن تكون الجنة والنار ¬
مع سعتِهما انتقلتا إلى ذلك الحائط في الحقيقة، وإنما رآهما فيه كما ترى السماء في الماء. أو في المرآة تخيُّلاً لها هناك من غير حقيقةٍ، وإن كانت الرؤية بالمرآة حقيقة عند المخلصين من النُّظَّار، وإنما قصدتُ التمثيل، لانتقاش الصورة الكبيرة في الجسم الصغير، وفي احتجاجهم بهذا الحديث نظر، فإن ألفاظه الصحيحة تدل على أنها رؤيةٌ حقيقة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم أن يأخذ من الجنة عُنقُوداً وقال: " لو أخذتُه لأكلتُم منه عُمْرَ الدنيا " أو نحو ذلك، وليس في الحديث أنه رآهما في الحائط فيما علمت، إنما فيه أنه رآهما مطلقاً وقَرُبا منه، والله أعلم. الحجة السابعة (¬1): قوله عليه السلام: " يُؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبشٍ أمْلَحَ " (¬2) الحديث إلى آخره، وقد ثبت عند جمهور علماء الكلام أنه يستحيل أن يكون الموت جسماً على الحقيقة. الحجة الثامنة: قوله عليه السلام: " من رآني، فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثَّلُ بي " (¬3)، وهذه الرؤية حِسِّيَّة لا حقيقية، إذ لا تكون رؤيته عليه الصلاة والسلام بمعنى انتقال شخصه الشريف من روضة المدينة، بل على سبيل وجود ¬
صورته الشريفة في حِسِّ النائمِ. الحجة التاسعة: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل الثابث في الصحيح في وصف القيامة، قال فيه: " فيتمثَّل لكل فرقةٍ معبودها، فتتبعه حتى يقدم بها النار، ويتمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام صورة عيسى، فيتبعها حتَّى تقذفه (¬1) في النار " أو كما جاء في بعض الألفاظ: " شيطان عيسى على صورة عيسى " (¬2) ولا يكون على هذه الرواية حجة صريحة والله أعلم. وفي بعض الأحاديث: " ويبقى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وأمته، فيتمثل الرب تبارك وتعالى لهم، فيأتيهم " الحديث خرَّجه الطبراني من طُرق من حديث عبد الله بن مسعودٍ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد ": ورجال أحد طرق الطبراني رجال الصحيح، غير أبي خالدٍ الدَّالاني، وهو ثقة، ذكره في باب جامع في البعث، ورواه قبل ذلك في أول كتاب البعث موقوفاً على ابن مسعودٍ، وخرجه الحاكم في الفتن من " المستدرك "، فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، حدثنا الحسين بن حفصٍ، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهيلٍ، عن أبي الزَّعراء، عن ابن مسعودٍ، به، وقال: صحيح على شرط الشيخين (¬3). وفي أول كتاب الزكاة من " جامع الأصول " (¬4) عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الذي لا يُؤدي زكاة مالِه يُخيَّل إليه مالُه يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان " الحديث. رواه النسائي وأحمد (¬5) من طريقين عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وهذا إسناد على شرط الشيخين، بل على شرط الجماعة، إلاَّ أن له علةً غير قادحةٍ ذكرها ¬
النسائي وهي: أنَّ عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار رواه عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال النسائي وهو أشبه بالصواب، وعبد العزيز عندنا أثبت من عبد الرحمن. انتهى من " أطراف " المزي (¬1). وحديث أبي هريرة رواه البخاري والنسائي ولفظه " مُثِّل " بدلاً من " خُيِّل " كما يأتي قريباً (¬2). وهذه الرواية للمثال كالمنام الصَّادقِ، إلاَّ أنها في اليقظة، وتحتاج إلى التأويل والتعبير كالمنام، ذكر لي ذلك شيخُنا إمام هذه المعارف عمر (¬3) بن محمد العَرابي نفع الله به. ويشهد لهذا أشياء كثيرةٌ معلومةٌ، لا يتسهَّلُ تأويلها لمن مذهبه التأويل إلا بذلك، كقوله تعالى: {أن بُورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8]، وقوله: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [القصص: 30]، وهو يسمى عالم المثال (¬4) وهو قرآنيٌّ شهيرٌ. قال الله تعالى: {فَتَمَثَّل لها بَشَراً سويَّا} [مريم: 17]، ومنه رؤيانا له - صلى الله عليه وسلم - في المنام، ومنه مجيء جبريل عليه في صورة دحية وأعرابي، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوطٍ في غير صورهم، وذلك كله بقدرة الله تعالى لا بقدرة الملائكة، ولا نتكلم في ذات الله بشيء من ذلك إلاَّ أن يصح فيه الحديث، ¬
ولكن شواهده كثيرةٌ، ويتخرَّج بإثبات عالم المثال مشكلاتٌ صعبةٌ كما ذكره بعض العلماء وذكره ابن قُتيبة في فقء موسى عين ملك الموت والله أعلم (¬1). وليس في هذا تشبيهٌ، لأنه كالمنام، ولا ردٌّ لتكليم الله موسى، لأن الكلام صدر من الله حقيقةً، ولكن إسماعه موسى عليه السلام كان بواسطة ذلك المثال، كما أن جبريل عليه السلام كلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقةً، وكلم مريم أيضاً حقيقةً، وإن كان السماع منه بواسطة المثال، وليس ذلك بأعجب من سماع كلام المتكلم من صدى الجبال حين يُجيبه، ولا من رؤية صورة الأشياء العظيمة في المرآة. ومن أوضح الأدلة على نفي الحلول: ما اتفق أهل النقل على صحته من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والنار في عُرض الحائط وهو في الصلاة، حتى استأخر وتقدَّم ليأخذَ قِطْفَاً من الجنَّة ونحو ذلك. الحجة العاشرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُوحى إليه وهو بين الناس، فيسمع صوت المَلَكِ، ويرى صورته، ويقرؤه، ويتحفَّظ منه، وليس من الحاضرين من يرى مَلَكاً، ولا يسمع قراءةٌ، وذلك في حال (¬2) يقظته عليه السلام، وفي غير مرضٍ، وهو حجة على من ثبت عنده من علماء الكلام من المعتزلة أن ذلك لا يصح على الحقيقة، وأنه لو كان ثم أصواتٌ مسموعةٌ، لوجب أن يسمعها الحاضرون. الحجة الحادية عشرة: حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي لا يُؤَدِّي زكاة ماله يمثِّلُ الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه ¬
بطوقه، يقول: أنا كَنْزُك، أنا كَنْزُكَ". رواه البخاري والنسائي (¬1)، وله شواهد، والحجة: " يمثل ". الحجة الثانية عشرة: أن ذلك من العلوم الضرورية التجريبية الحاصلة لمن ارتاضَ على مُلازمة الخلوة والذكر على شروط أهل التصوُّف، وقد ذكر الرازي في " مفاتح الغيب " أن أهل الخلوة يسمعون أصواتاً لا يشكُّ فيها، وأن هذا مما أقرَّت به الفلاسفة، لأنهم من أهل الخلوة والرِّياضة، ولم يقع النِّزاع في هذا، وإنما رُوِيَ النِّزاع في ماهيته، فروي عن (¬2) الفلاسفة أنه تخيُّلٌ كالمنام، ولا حقيقة له، واختار الرازي أنه حقيقةٌ، قال: ولا مُوجب للقول بأنه تخيل. وهذا يقتضي أن هذا (¬3) أمرٌ مشهورٌ متواترٌ عن أهل الرياضيات، لكنه لا حجة فيه، وإن سلمنا صحته، إذ لا دليل على وجود تلك الأصوات وجوداً ذاتياً، وإنما تصير إلى الوجود الحسي في بعض المواضع، لتعذُّر الوجود الذاتي، ولكن يقوي قولهم إن صحت لهم التجربة الضرورية غير المسموع من الأصوات، وقد ادَّعوا ذلك في صورتين: الصورة الأولى: ادعى أهل الرياضات من الصوفية أنهما يشاهدون ما خلف الحجاب الكثيف في حال اليقظة، وتواتر هذا عنهم، وهم جمعٌ عظيمٌ، لا يجوز عليهم التَّواطُؤُ على محض البَهت والكذب، فوجب حملُه على الوجود الحسِّي، إذ يستحيل عند جماعة المحققين من أهل الكلام أن يرى ما خلف الحجاب الكثيف، وأما الصوفية، فيسمونه عالم المثال، وقد جمع بعضهم به بين أحاديث ظاهرها التعارض، مثل قوله: "رأيت موسى قائماً في قبره يصلي ¬
عند الكثيب الأحمر" (¬1)، مع أنه رآه في السماء في ليلة المعراج وهذا مقام وَعْرٌ. الصورة الثانية: اشتهر عند أهل العلم أن من خواصِّ بعض المرآة أن يرى منها الدنيا كلها، وهي المرآة المسمى بمرآة المنجِّم، وفيها يقول المعرِّي (¬2): لقد عَجِبُوا لأهل البيت لما ... أتاهم عِلُمهم في مَسْكِ جَفْرِ ومرآة المنجِّم وهي صُغرى ... أرتْهُ كلَّ عامرةٍ وقَفْرِ وقد اشتهرت الرواية، بل تواترت، عن حيٍّ القاضي شرف الدين حسن بن محمد النَّحوي رحمه الله أنه رأى هذه المرآة مع بعض السَّيَّاحين، وأراه فيها أقاليم الدنيا، ومدائن الإسلام، وأراه فيها ما يعرفه القاضي من بعض مزارع صنعاء وحوائطها، ليعرف صِدقَه فيما يجهله من سائر ما رآه في الأقاليم، وحدثني (¬3) بذلك عن القاضي رحمه الله غير واحد من الثقات. الحجة الثالثة عشرة: أنه قد ثبت بالضرورة أن العاقل المستيقظ الصحيح قد يتخيَّل الشيء الواحد اثنين، والقائم مُعوَجَّاً، كما يتخيل العمود في الماء، فدل على جواز هذا، لأن كل واحدٍ منهما نظر (¬4) كاذبٌ في اليقظة والصحة، وإنما كذب لخللٍ وقع، وعذرٍ اتفق في بعض هذه الحجج ما يقرب، وفيها ما هو ضعيفٌ، والله أعلم. فإذا عرفت هذه الجملة، فلا بد من تفرقة بين الرؤية الحقيقية والحسية، وإلا لزم مذهب بعض منكري العلوم، والفرق في ذلك واضحٌ وهو أن الرؤية الحقيقية تفيد العلم الضروري بالوجود الحقيقي الذي لا يقبل التشكيك مع ¬
الإصغاء إلى جانب الشك، وقال ابن عربي الصُّوفي في " الفتوح المكية "، في مقام المعرفة، في النوع السادس من علوم المعرفة، وهو علم الخيال وعالمه المنفصل والمتصل. وهو ركنٌ عظيمٌ من أركان المعرفة، وهذا هو علم البرزخ، وعلم عالم الأجساد التي تظهر فيها الروحانيات، وهو علم سوق الجنة والتجلي الإلهي في القيامة في صورة التبديل، وهو علم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسدة مثل الموت في صورة كبش، وعلم ما يراه النائم، وعلم المواطن التي يكون فيها الخلق بعد الموت وقبل البعث، وفيه تظهر الصور المرئية في الأجسام الضيائية، يعني المرايا، وهو واسطة العقد، إليه تعرج الحواسُّ، وإليه تنزل المعاني، وهو لا يبرَحُ عن موطنه تعضده الشرائع، وتثبته الطبائع، فهو المشهود له بالتصرف التامِّ، وله التحام المعاني بالأجسام محير الأدلة والعقول. انتهى ذلك، ويعني بالمتصل: السريع انكشاف بطلانه، وبالمنفصل: البطيء، والله أعلم. فإذا تقرر هذا، فاعلم أن جماعة من العلماء قد صاروا إلى تأويل أمورٍ كثيرةٍ بهذا الوجود الحسي، فمن ذلك حديث الترمذي في النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني ربي هذه الليلة، فقال لي: أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ " (¬1). فهذا الإتيان لا يجوز أن يكون موجوداً في الحقيقة، فوجب صرفه إلى الوجود الحسي، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث في " الترمذي " مفسراً (¬2) بأنها رؤية منامٍ نصَّاً لا تأويلاً. ومن ذلك حديث حمَّاد بن سلمة مفتي أهل البصرة، فإنه روى عن ابنِ عباس في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه جل جلاله حديثاًً شديد النكارة، تقشعر لذكره الجلود، ذكره الذهبي في ترجمة حمادٍ (¬3)، وساق طُرُقَه، ثم قال: فهذه الرؤية. إن صحت رؤية منامٍ. ¬
بحث في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل
وقد تكلم الحفاظ في حماد بن سلمة وقدحوا فيه على جلالته وأمانته لغير سببٍ إلاَّ لروايته لهذا الحديث، فاجتنبه البخاري، وترك روايته، وأما مسلمٌ، فروى عنه مقروناً بآخر، وأورد حديثه في الشواهد والمتابعات، إلاَّ حديثه عن ثابت، وأنكره عليه حميد الطويل التابعي الجليل، وقال: " القول هكذا، فقال حماد: يقوله أنس، ويقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكتمه أنا؟! " ويحتمل أن يكون من هذا القبيل حديث المواصلة في الصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: " أني لست كأحدكم، إني أبيتُ يطعمني ربي ويسقيني " (¬1)، وحديث عيسى عليه السلام الذي فيه: " آمنتُ بالله وكذبت بصري " (¬2)، ومن هذا القبيل حديث المعراج بطوله، وما كان فيه من رؤية الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك على أحد قولي العلماء من المفسرين والمحدثين وغيرهم، وهو صريح رواية (¬3) البخاري في " صحيحه " (¬4). والصحيح في الجمع بين الأحاديث ما ذكره بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك في المنام قبل النبوة، ثم رآه في اليقظة بعدها، كما رأى دخول مكة في المنام، ثم في اليقظة، قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُون} [الفتح: 27]، وهذا تأويلٌ حسنٌ، لأن في الأحاديث الصحاح ما يدلُّ على أن معجزة الإسراء كانت في اليقظة، ومما صرح في متن الحديث الصحيح ¬
أنه كان في المنام قول أنس مرفوعاً في حديث المعراج: " ثم دنا الجبار تعالى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى " (¬1). ومنه أحد الأحاديث المتعارضة في وصف الدَّجال، وهو حديث ابنِ عمر المتفق على صحته (¬2). وعلى كلا القولين، فهي رؤيا نبوةٍ ورؤيا حقٍّ، كان فيها إثبات التكليف بالصلوات، ورفع منار المناقب النبويات. وإنما سقتُ الكلام في هذا الوجود الحسِّيِّ، وبسطت فيه، لأن بعض الأشاعرة والصوفية قد ضاقت عليه المسالك في تأويل تلك الأحاديث التي رواها السيد، فَتَمَحَّلَ في تأويلها وأبعد، فجعلها من هذا القبيل، وزعم أنه يحصل يوم القيامة من روعة الأهوال ما يُدهش العقول ويذهلها، كما قال تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، وإن أدنى الآلام تُغَيِّر العقول، فكيف بأهوال الآخرة؟ قال: ففي خلال تلك الأهوال تَذْهَلُ العقول، ويرى الناس ذلك الذي جاء في الحديث كما قال عليه السلام مثلما يرى النائم والمريض الشيء من غيرِ حقيقةٍ. قال: والسببُ في رؤيتهم لذلك أن أهوال القيامة لما غَمَرَتْ عقولهم في ¬
بعض الأحوال، وكان التفكر في خطاب الله تعالى، وما يقول لهم، وما يكون منهم ملء قلوبهم، رأوا ذلك في خلال غمرات الألم، لاهتمامهم بذلك في حال استقامة العقل: قال: ولا يلزم على هذا التأويل أن يجوز في سائر أحوال القيامة أن يكون من هذا القبيل لوجوه: أحدها: لأنه معلومٌ من الدين ضرورة أن وجود تلك الأحوال (¬1) كلها ذاتي حقيقيٌّ. الثاني: إجماع المسلمين على ذلك. الثالث: أنا بيَّنَّا أنه لا يجوز المصير إلى التأويل إلاَّ لضرورةٍ، ولا ضرورة هناك، والضرورة هنا ألجأت إلى التأويل، مثل ما أولنا كثيراً من تلك الأحاديث التي مر ذكرها، ولم نُؤول سائر أحواله عليه السلام بالمنام. وأقول كما قال العلامة رحمه الله تعالى: هذا من ضيق العَطَن، والمسافرة عن علم البيان مسافة أعوامٍ، وكأنه توهم في هذه الأحاديث ما توهم السيد من تعذُّر بيانها من أساليب العرب في المجاز، فرَكِبَ الصعب والذُّلول في تأويله، وتقحَّم المسالك المتوعِّرة في تعليله، وسوف يأتي أن الأمر أقرب من ذلك، ولله الحمد. المرتبة الثالثة: الوجود الخيالي، وهو صورة هذه (¬2) المحسوسات، إذا غابت في حسِّك، فإنك تقدِرُ على أن تخترع في خيالك صورة فيلٍ أو فرسٍ أو بعيرٍ، وإن كنت مُطبِقاً عينيك، حتى كأنك تشاهده وهو موجودٌ بكمال صورته في دماغك، لا في الخارج، وقد يمكنك أن تخترع صورةً في خيالك ليست في الوجود، ولكنها مجموعةٌ من أشياء موجودةٍ، مثل قصرٍ عظيم من جوهرةٍ شفافةٍ، وقد وردت اللُّغة بالتشبيه بهذا. قيل: ومنه قوله تعالى: {طَلْعُهَا كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65]، فرؤوس الشياطين غير معروفةٍ في الوجود، ولكن ¬
في الخيال أن صورتها قبيحةٌ المنظر فصح (¬1) ورود التشبيه بها في القرآن العظيم بناءً على وجود صورتها في الخيال، ومن ذلك قول الشاعر: بحرٌ من المسك موجُهُ الذهب وقول الآخر: أيقتُلْنَني والمشرَفِيُّ مُضَاجعي ... ومسنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أغوالِ (¬2) وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ إن شاء الله تعالى: قال الغزالي: ومثال ذلك من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام عليه عباءتان قطوانيَّتان يُلبِّي، وتُجيبه الجبال والله تعالى يقول: لبيك يا يونس " (¬3) فالظاهر أن هذا إخبار عن مثل هذه الصورة في خياله عليه السلام، إذ كان وجود هذه الحالة سابقاً على وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. المرتبة الرابعة: أن يكون للشيء حقيقةٌ، ويكون له معنى، فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يُثبت صورته في الخارج، ولا في الحس ولا في الخيال، كاليد مثلاً والنفس والعين، فإن لهن صوراً محسوسةً ومتخيَّلةً، ولهنَّ معنى يتلَّقاه ¬
بيان قرائن المجاز الثلاث: العقلية والعرفية واللفظية
العقل منهن، فيسمى بأسمائهن، وهو البطش والقدرة لليد فتُسمى القدرةُ يداً، والإدراك للعين، فكل ما أدرك، سُمِّيَ عيناً، وإن لم يكن عيناً، ومحبة الشهوات للنفس، فكل من أحببت له الشهوات ونيل الأماني من ولدٍ أو محبوب سميته نفساً وروحاً. وأمثال ذلك. وهذا هو المسمى بالمجاز في عُرف الأصوليين وأهل المعاني والبيان وأكثر التأويل يدور عليه، وفيه الجليُّ والدقيق، والقريب والعميق. والمجاز: مرسلٌ واستعارةٌ، فالمرسل: الذي العلاقة فيه غير المشابهة، كاليد في القدرة والنِّعمة، وله أقسامٌ كثيرةٌ، والاستعارة: حيث تكون العلاقة هي (¬1) المشابهة، وهي مطلقةٌ ومجردةٌ ومرشحة. فالمطلقة: التي لا تُتبع بصفات المشبَّه، ولا بصفات المشبه به. والمجردة: التي لا تُتبع بصفات المشبه، مثل: أسد شاكي السلاح (¬2). والمرشحة: التي تتبع بصفات المشبه به، مثل قوله: له لبِدٌ أظفاره لم تُقَلَّمِ (¬3) وقرائن التجوز ثلاث: الأولى: العقلية، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، لأنه يستحيل في العقل أن القرية تُخبر وتُجيب السائل. ¬
الثانية: العُرفية، مثل: بني الخليفةُ المدينة أو القصر، وهزم الأميرُ الجيش، وسد الثغر، ومنه: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، وإنما لم تكن القرينة هنا عقلية، لأن الخليفة (¬1) ممن يجوز في العقل أن يباشر هذه الأمور بنفسه، ولكن ذلك بعيدٌ في العرف، فلهذا (¬2) سُمِّيت عرفية. الثالثة: اللفظية، وهي أن يكون في اللفظ ما يدل على التجوز، مثل: لدى أسدٍ شاكي السلاح، ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35]، فقوله {مَثَلُ نُورِهِ} يدل على أنه لم يرد أن الله هو النور، وإنما أراد أنه منوِّرُهما، ولو كان هو نفس النور، لقال: مثله، ولم يقل: مثل نوره، ومنها قوله تعالى في هذه الآية: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فهذه قرينةٌ لفظيةٌ تدل على أنه أراد بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} نور الهدى والعلم، وهذا هو النور المجازي، وأما النور الحقيقي، فقد ساوى الله فيه بين الناس، وهذه قرينةٌ لفظية، ليس معها غيرها، وأما التي قبلها، فهي مصاحبة للقرينة العقلية الدَّالَّةِ على أن الله تعالى ليس كمثله شيء. وإذا تقرر هذا، فاعرف أمرين: أحدهما من أنواع المجاز إسناد الفعل إلى ما يُلابس الفاعل الحقيقي أدنى ملابسةٍ على جهة التأويل في إسناد الفعل إلى غير الفاعل الحقيقي، ونعني بالتأويل أن يُقْصِدَ التجوز، ولا يقصد الإسناد الحقيقي، فإنه إذا قصده، كان الكلام حقيقةً، لا مجازاً، وكان المتكلم كاذباً، وذلك مثل قول المؤمن: أنبت الربيعُ البقل، وإذا لم يكن يتأوَّل، لم يكن مجازاً كقول الجاهل: أنبت الربيع البقل، ولهذا لم نحكم بالتجوز في قوله: أشابَ الصغيرُ وأفنى الكبيـ ... ـر كَرُّ الغَدَاةِ ومرُّ العَشِي (¬3) ¬
لما لا يعلم ولا يظن أن قائله لم يُرِدْ ظاهره، وإنما حكموا أن التجوز في قول أبي النجم (¬1): مَيَّزَ عنه قُنْزُعاً عن قُنْزُعِ ... جذْبُ الليالي أبطئي أو أسْرِعي لقوله: أفناه قيلُ الله للشمس: اطلُعي وله أقسام كثيرة. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن القرينة على التجوز متى كانت معروفةً عند ¬
المتخاطبين، أو عليها دليلٌ قاطع يوجب اليقين حَسُنَتِ المبالغة في التجوز، وكان تناسي التشبيه أفصح وأبلغ، فإذا وصفت زيداً بأنه أسدٌ، جاز أن تنسُبَ إليه جميع صفات الأسد، كما في قوله: لدي أسد شاكي السلاح مُقَذِّفٍ ... له لَبِدٌ أظفازه لم تُقَلَّمِ (¬1) فوصف الرجل بصفات الأسد من اللَّبِد وطُول الأظفار، وكذلك لو أنك سقت الفن (¬2) صفةً من صفات الأسد إن أمكنك ذلك، فذكرت صفات الأسدِ ومحلّه وأشباله، ما ازداد المجاز إلاَّ حُسناً، ولم يكن ذلك مما صَعُبَ تأويله في لغة العرب أبداً. قال علماء المعاني: ولأجل البناء على تناسي التشبيه صح التعجب (¬3) في قوله: قامت تُظلِّلُني مِنَ الشَّمسِ ... نَفْسٌ أعزُّ علي من نفسي قامت تُظلِّلُني ومن عَجَبٍ ... شمسٌ تُظَلِّلُني من الشمس (¬4) فإنه إنما صح تعجُّبه تناسياً للتجوز، كأنها شمس حقيقية، فأما الشمس المجازية التي هي (¬5) المرأة الحسناء، فليس بعجبٍ أن تظلِّلَ من الشمس. قالوا: ولهذا صح النَّهْيُ عن التعجب في قوله: ¬
لا تعجبِو مِنْ بلى غِلالته (¬1) ... قد زُرَّ أزراره (¬2) على القمر (¬3) قالوا: ولهذا يُبنى على علو القدر ما يبنى على علو (¬4) المكان، مثل قوله: ويَصْعَدُ حتى يظن الجهول ... بأن له حاجةً في السماءِ (¬5) كل هذا ذكره علماء المعاني والبيان، وقد رأيتُ أن أزيد على ما ذكروه من الأمثلة في هذا النوع مطابقةً لمقتضى الحال، فإن الحال يقتضي في كشف غطاء البيان لمسيس الحاجة إلى ذلك. فمن ذلك كلامُ إمام البُلغاء في هذا المعنى العلامة الزمخشري رحمه الله في " كشافه " في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، فإنه (¬6) قد تكلم في هذا بما يشهد لما ذكرته (¬7)، فقال رحمه الله تعالى ما لفظه (¬8): فإن قلت: هب أن شِراء الضلالة بالهُدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة، كأن ثم مبايعة على الحقيقة؟ ¬
قلت: هذا من الصَّنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهي أن تُساق كلمة مساق المجاز، ثم تُقفَّى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن، لم يُر كلاماً أحسن ديباجةً، وأكثر ماء ورونقاً منه، وهو المجاز المرشح، وذلك نحو قول العرب في البليد: كان أذني قلبه خطلاوان، جعلوه كالحمار، ثمَّ رشَّحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة، فادَّعَوْا لقلبه أُذنين، وادعوا لهما الخَطَلَ، ليُمثِّلُوا البلادة تمثيلاً تلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة، ونحو ذلك: ولمَّا رأيتُ النَّسْرَ عزَّ ابنَ دَأْيَةٍ ... وعشَّشَ في وكرَيْه، جاش له صدري (¬1) لما شبَّه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فُتّاكهم في أمه: فما أم الردين وإنْ أدلَّت ... بعالمةٍ بأخلاق الكرامِ إذا الشيطان قصَّع في قفاها ... تنفَّقناهُ بالحبْلِ التُّؤامِ (¬2) أي: إذا دخل الشيطان في قفاها، استخرجناه من نافقائه بالحبل المُثَنَّى المحكم. ¬
يريد: إذا حرِدَت وأساءتِ الخلق، اجتهدنا في إزالة غضبها، وإزالة (¬1) ما يسوء من خلقها استعار التقصيع أولاً، ثم ضم إليه التَّنفُّق، ثما الحبل التوأم. وأنشد العلامة رحمه الله في غير هذا الموضع من " كشافه " (¬2): ينازعُني ردائي عبدُ (¬3) عمروٍ ... رُويْدَكَ يا أخا عمروِ بن بَكْرِ لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلَكَتْ يميني ... ودُونَك فاعتَجِرْ منه بشطرِ قال رحمه الله: أراد بردائه: سيفه، ثم قال: فاعتجر منه بشطرٍ، فنظر إلى المستعار في لفط الاعتجار. انتهى كلامه. ومن ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِم} [الصف: 8] فذِكْرُ الأفواه هنا من هذا القبيل. ¬
ومن بديع المعنى قوله رحمه الله يرثي شيخَه أبا مضر (¬1): وقائلةٍ ما هذه الدُّرَرُ التي ... تَساقَطُ من عينيك سِمْطَيْنِ سِمْطَيْنِ فقلتُ لها: بالدُّرُّ التي قد حشا بها ... أبو مُضَرٍ أُذْني تساقطُ من عيني ومن مطرباته قول أبي العلاء المعري (¬2)، وقد أبدع فيه وأغرب: وسألت: كم بين العقيق وبارقٍ (¬3) ... فعجبتُ (¬4) من بُعْدِ المدى المتطاولِ وعذَرْتُ طيفَكِ في الزِّيارة إنه ... يَسري فَيُصْبِحُ دوننا بمراحِِلِ فإنه لما جعل الطَّيف ممن يزورُ، تناسى التَّجوُّز حتى عيَّب عليه التأخر عن الزيارة، فكأنه سأل عن محل صديقه، فأخبره ببعده المفرط، فعذر بذلك الطيف، وعلم أنه لا يقدر على قطع تلك المسافة المتطاولة في ليلةٍ واحدة، وأنه لا يصح في الطيف أن يأتي في النهار، لأنه وقت اليقظة، وهذا المعنى بهر البُلغاء طرباً. ومما جاوز الحد في الغرابة من هذا النوع: قول الزمخشري رحمه الله في الكناية عن الجماع: ¬
وقد خطبتُ على أعواد منبره ... سبعاً رِقاقَ المعاني جزلةَ الكلمِ وقد اعترض رحمه الله في استعارة هذه الأمور الشريفة لما لا حظ له في مراتبِ الشرفِ. وللشيخ ابن الفارض في المعنى دقائق لطيفةٌ، فمنها قوله في قصيدةٍ طويلةٍ (¬1): كان لي قلبٌ بجرْعاء الحِمى ... ضاع منِّي (¬2) هل له رد عَلَيْ فاعهدوا بطحاء وادي سَلَمٍ ... فهو ما بين كَداءٍ وكُديْ فإنه لما تجوز في ضياع قلبه، بنى عليه ما يُبنى على الضياع الحقيقي، فأمرهم بطلب قلبه، وعيَّن لهم الموضع الذي فيه بكداء وكدي، وهما موضعان بمكة المشرفة. ومن ذلك قوله (¬3)، وهو لطيفٌ: وقالوا جَرَتْ حُمْراً دُمُوعُك قُلْتُ عن ... أُمورٍ جَرَتْ في كثرة الشوق قَلَّتِ نحرتُ لِضيف (¬4) السُّهد في جَفْنِيَ (¬5) الكرى ... قِرىً، فجرى دمعي دماً فوق وجنتي ¬
لما استعار لدمعه لون الدم، تناسى التَّجوُّز، فأخذ يخبرُ عن سبب تلك الحُمْرَةِ التي في دمه كأنها حمرةٌ حقيقة، ولما استعار للسُّهد اسم الضيف، ذكر ما يتعلق بالضيف من النَّحر، ولما جعل الكرى منحوراً، ذكر سيلان دمه على وجنته. شربنا على ذكر الحبيب مُدَامَة ... سَكِرْنا بها من قبل أن تُخلَقَ الكَرْمُ (¬1) لها البدر كأسٌ، وهي شمشٌ يُدِيرُها ... هِلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نجمُ ولولا شذاها ما اهتدينا لحانِها ... ولولا سَنَاهَا ما تصوَّرها الوَهْمُ فإن ذُكِرَتْ في الحي أصبح أهلُه ... نَشَاوَى، ولا عارٌ عليهم ولا إثمُ ومن بين أحشاء الدِّنان تصاعَدَتْ ... ولم يبق منها (¬2) -في الحقيقة- إلاَّ اسمُ ولو (¬3) خطرت يوماً على خاطر امرىءٍ ... أقامت به الأفراح، وارتحل الهمُّ ولو نظر النُّدمان خَتْمَ إنائها ... لأسكرهُم من دُونها ذلك الختمُ ولو نَضَحُوا منها ثرى قبرِ مَيِّتٍ ... لعادت إليه الرُّوح وانتعش الجسمُ ولو طَرَحُوا في فيء حائط كرمها ... عليلاً وقد أشفى، لفارقه السُّقمُ ولو نال قَدْمُ القوم لَثْمَ قِدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللثْمُ هنيئاً لأهل الدير كم سكِرُوا بها ... وما شرِبُوا منها ولكنهم هَمُّوا ودُونكها في الحان واستَجْلِهَا بها ... على نغم الألحان، فهي بها غُنْمُ فما سكَنَتْ والهَمُّ يوماً بموضعٍ ... كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَمِ الغَمُّ يقولون لي صِفْها، فأنت بوصفِها ... بصيرٌ (¬4) أجَلْ عندي بأوصافها عِلْمُ صفاءٌ ولا ماءٌ، ولطفٌ ولا هوى ... ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسْمُ فإن الشيخ ابن الفارض لما ادعى أنه تولَّه في حب الله جل جلاله، شبه الحب في تلعُّبه بالعقول بالخمر المسكر، فاستعار اسم الخمر للحب، ثم أخذ يفتَنُّ في ترشيح الاستعارة بذكر أوصافِ الخمر، وتناسي التشبيه، فذكر ¬
الشُّرب، والساقي، والشذا، والحان، والنشوة، والدِّنان، وختم الإناء، والنضيج منها، والكرم الذي عنها منه (¬1) والحائط الذي كانت عروش العنب نيه، والسكر منها، والتهنئة لأهل الدير الذين سكِرُوا بها، وذكر مزجها، وشربها (¬2) صرفاً على الألحان التي تُصاحِبُها في العادة، وزوال الهم معها، ونحو ذلك. فمن قال: هذا شعرٌ ركيك، غير بليغٍ، ولا فصيحٍ، فهو بهيمي الطبع، جامد القريحة، ومن أقر أنه عربيٌّ بليغٌ، في أعلى طبقات الصنعة البديعة عند أهل هذا الشأن، لزمه أن يقول فيما هو أقل منه ترشيحاً بدرجاتٍ كثيرةٍ من الكتاب والسنة أنه يستحيل أن يكون له تأويلٌ ووجهٌ في اللغة العربية عند جميعِ من أظلت السماء من أول الدهر إلى آخره من جميع الفُطناء والعلماء والبلغاء، وأرِنَا أيَّ تجوز في السنة بلغ إلى هذا المبلغ الذي ذكرته لك في البعد على الحقيقة، أو بلغ في الخفاء مبلغ بيت الزمخشري المقدم: وقد خطبتُ على أعواد منبره ... سبعاً رقاق المعاني جَزْلَةَ الكَلِمِ ومن يفهم من هذا البيت الكناية عن التَّمتُّع بالنساء، وأين في الكتاب والسُّنَّة نظير هذا؟. فإن قلت: إن هذه المبالغات لا تجوز إلاَّ في الأشعار، لأنها كذبٌ محضٌ، والقرآن والسنة لا يجوز فيهما الكذب. قلت: هذا جهلٌ بالبلاغة في اللغة، بل جهلٌ بالكتاب والسنة، لو لم يرد في جواز هذا والشهادة له بالبراءة من الكذب إلاَّ قول الله تعالى: {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} [الإنسان: 19]، فإنا نقطع أن من رأى الوِلدان الحِسَانَ لا يحسبهم لؤلؤاً منثوراً على الحقيقة، وإنما معنى الآية الشريفة: أنهم حسانٌ لا سوى، وكذا قول الكاتب: كلام لو مُزِجَ به ماء (¬3) البحر لَعَذُبَ، ليس بكَذِبٍ، ¬
لأن معناه إنه كلامٌ بليغٌ لا سوى، وكذا سائر ما يتجوز فيه لا يفهم السامع منه إلا المدح بالمعنى الصحيح، دون ما يبدو من ظاهر لفظه، وإنما قبح الكذبُ لما كان الكاذب يقصد ما ليس بصدقٍ ولا فهم ذلك منه السامع، فوجب أن لا يصح من المجاز شيءٌ إلاَّ ما لم يدل على التجوز منه قرينة. وقد أكثرت من الشواهد على المبالغة في التجوز لما ادعى السيد أن حديث جرير بن عبد الله البجلي (¬1) وغيره مما لا يمكن تأويله إلاَّ بتعسُّفٍ، فبالله قِسْ (¬2) ما مرَّ من التجوزات بحديث جريرٍ عند متأوِّليه، وسيأتي بيان ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. المرتبة الرابعة: الوجود الشبهي، وهي أن لا يكون نفس الشيء موجوداً، لا بصورته، ولا بمعناه، لا في خارج ولا في حسِّ، ولا في خيالٍ، ولا في عقل، ولكن يكون (¬3) الموجود شيئاً يناسبه في خاصةٍ من خواصه، وصفةٍ من صفاته. قال الغزالي: مثاله الغضب والصبر ونحو ذلك ما ورد في حقه تعالى، فإن الغضب ألمٌ يعرِضُ في القلب، وانزعاجٌ يسكن بالتَّشفِّي، فهو عرضٌ مؤذٍ يحُلُّ بالقلب عند شعوره ببعض الأمور، وهذا لا ينفك عن نقصانٍ، فمن قام عنده البرهان من أهل الكلام على استحالة ثبوت حقيقة الغضب في حق الله تعالى ثبوتاً ذاتياً وحسياً وعقلياً وخيالياً، نزَّله منزلةً أخرى، وتأويله بثُبوت صفةٍ لله تعالى غير الغضب يصدر منها ما يصدر عند الغضب، وهي إرادة الانتقام وعدم العفو، ولا شك أن وجود إرادة الانتقام (¬4) لا يصدق عليها في الحقيقة أنها الغضبُ، لكن يصدق ذلك عليها مجازاً. وهذه المرتبة الرابعة مندرجةٌ في ضمن المجاز المتقدم، ولكني أفردتها بالذكر على عُرْفِ المنطقيِّين في الفرق بين المجاز العقلي والمجاز الشبهي. ¬
أنواع الوهم في الرواية
المرتبة الخامسة: دون هذه المراتب كلها، وهي الحكم بالوهم لدليلٍ يوجب ذلك. والوهم أنواعٌ: فمنه الوهم في اللفظ، وهو صحيحٌ مأثورٌ، ومنه حديثُ عائشة في الصحيح في حق ابن عمر لما روى " أن الميت ليُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه ". قالت عائشة: ما كذب، ولكنه وَهَلَ (¬1). ومنه الوهم في المعنى، ومنه حديث قيام الساعة لمقدار مئة سنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: " إنها لا تأتي مئة سنة حتى قد أتتكم ساعتكم " (¬2). هكذا ورد في بعض ألفاظ الصحيح، وساعتهم هي الموت، وهو معنى صحيحٌ، وقد غَلِطَ بعض الرواة في هذا الحديث، فرواه بلفظٍ يوهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد القيامة، فجاء بلفظ القيامة، أو البعث أو النشور، أو نحو ذلك من الألفاظ، فمثل هذا إذا وقع فيه الخطأ، لم يوجب رد الصحاح كلها، لأن الخطأ لا يسلم منه بشر، ولهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من كذب عليَّ مُتعمِّداً، فليتبوأ مقعده من النار " (¬3)، فقيَّد الوعيد بالتَّعمُّدِ. وأجمع العلماء على أنه لا يُجرح الثقة بالخطأ في الرواية (¬4) إلاَّ إذا كثر ذلك منه، واختلفوا في حد الكثرة ومبلغها على ما هو مقرر في كتب الأصول، وكتب أنواع علوم الحديث، ومن ذلك حَكَمَ جماعةٌ من النحاة واللغويين بلحن الرواة ¬
وتصحيفهم، وقد تكلَّف ابن مالكٍ (¬1) الرد عليهم وتطلب الشواذ للاحتجاج عليهم، ورد عليه أبو حيان (¬2). ولا شك أن الحكم بالوهم عزيزٌ، ويحتاج إلى تثُّبتٍ كثيرٍ، والتَّكلُّفُ في تطلب (¬3) الشواذ بعيدٌ أيضاً، وخيرُ الأمور أوسطها. ومن أنواع الوهم: رفع الموقوف، وفيه خللٌ كثيرٌ، فإن الصحابي من جملة البشر، ويجوز عليه الخطأ في عقيدته وسائر أحواله، وقد يحسب الذي سمع الحديث مسنداً إلى الصحابي أنه حديثٌ نبويٌّ بشُبهتين: إحداهما: الإسناد كما تُسنَدُ الأحاديثُ. وثانيهما: كون المحدِّث قبل ذلك وبعده إنما يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن أنواع الوهم: الإدراج (3) وهو في الخلل مثل الذي قبله، ومثاله: أن يتكلَّم الصحابي بكلامٍ من نفسه بعد الفراغ من رواية الحديث، والسامع يحسب أن ذلك الكلام من جملة الحديث النبوي، وقد يكون الإدراج من كلام الصحابي والتابعي ومن دونهما. ومن أنواعه: الوهم في الأسماء، مثل أن يسمع الحديث من ابن الزبير، فيظنه عبد الله، وليس به، وإنما هو اليمني، أو العكس. وقد يقع بذلك خللٌ كثيرٌ، فإن الثقة وغير الثقة قد يشتركان في الاسم، وفي اسم الأب أيضاً، ويشتركان في الكُنية، فيكون الحديث مرويّاً عن الضعيف، والسامع لا يعرف ذلك الاسم إلاَّ للثقة، فيرويه عن الثقة مصرحاً من اسمه وكنيته ¬
ونسبه بما لم يشاركه الضعيف فيه (¬1)، ومن ها هنا يحصل خللٌ كثير، وقد بالغ الحُفَّاظ في الاحتراز من هذا الخلل، وصنَّفوا في ذلك كتب العلل. فهذا آخر وجوه الحامل، ومع إمكانه لا يجوز أن يحكم على الثِّقات بتعمُّدِ الكذب، وهو ممكنٌ غالباً، فإن التدليس قد اشتهر عن كثيرٍ من الثقات، كالحسن البصري، وسفيان الثوري وأمثالهما من الأعلام، فيحتملُ -إن كان لا بد من تكذيبٍ- أن يكونَ الكاذب من دلَّسُوه، وكتموا اسمه، ورَوَوْا عنه مع الجهالة بحاله، إما لأنهم يستحِلُّون الرواية عن المجهول كما هو مذهب جماعةٍ من العلماء كما تقدم بيانه، وإما لأنهم اعتقدوا أن ظاهره العدالة من غير كبير خبرةٍ وطول صُحبةٍ، ولم يكن كذلك في الباطن. فإن قلت: فما وجه التدليس من الثقة؟ قلت: له (¬2) أسبابٌ كثيرةٌ. منها: أن يكون حديثه عند المدلس صحيحاً، ويخاف إن صرَّح باسمه لا يُقبل، فيدلِّسه لئلاَّ يرد سنة صحيحة عنده. ومنها: أن يكون في الحضرة من يكره الراوي، ويتناوله بالسب والأذى والغيبة والانتقاص من غير إستحقاقٍ لذلك، فيدلس الراوي اسمه، لئلاَّ يقع في فتنةٍ بذكره، وأمثال ذلك، والله أعلم. المرتبة السادسة: الحكم بتكذيب الراوي، ولذلك شرطان: أحدهما: أن يكون راوياً عن غيره (¬3) أمراً معلوماً أنه لا يحتمل التأويل. وثانيهما: أن يكون معلوماً أنه لا يحتمل الخطأ والوهم، فإن لم يكن ¬
للحديث إلاَّ راوٍ واحد، حكم بتكذيبه، وإن كان راوياً عن غيره كرجال السند، فإما أن يكون السند بلفظ سمعتُ ونحوه، حكم بأن فيهم كاذباً غير معيَّنٍ، وإن كان بلفظ العنعنة ونحوها، واحتمل التدليس من بعضهم، وكان ظاهرهم العدالة حكم برد الحديث، وبعدالة الرواة، لأن الحكم بتعمد الكذب على الثقاتِ المعروفين بعيدٌ، فإن غلب على الظن أن الراوي تعمد الكذب، فإن كان ممن ظاهره العدالة والستر، لم يحل القول بأنه كذاب، وجاز التعريف بتلك القرائن الموجبة لتهمته بالكذب، وإن كان مجروحاً، وكثُرتِ القرائن الدالة على تعمده للكذب، فقد اختلفت طرائق أهل الأثر في هذا فمنه من يتجاسَرُ على وصفه بالكذب عملاً بالظن القوي المستند إلى الأمارات الصحيحة، مع القطع على أن الرجل مجروحٌ، وأهل التَّحرِّي منهم يقولون: متهمٌ بالكذب، وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى. وأحسن المحامل الوهميَّات، الحكم بالوهم في نسبة الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يحتمل أن يكون الراوي واهماً في نفس الكلام، وذلك مثل ما رُويَ أن أبا هريرة وكعب الأحبار كانا يجتمعان، فيحدِّث أبو هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحدِّثُ كعب الأحبار عن أهل الكتاب، والناس فجتمعون، فإذا راحوا حدثوا بما سمعوا، فربما وهِمَ بعض من ليس من أهل الحفظ، لا سيما مع عدم الملاحظة والدرس والتيقظ، لما في ذلك من الخلل العظيم فيحسب أن الذي سمع عن كعبٍ، عن أهلِ الكتاب (¬1) مما سمعه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرويه كذلك (¬2). ¬
ومثل هذا إذا وقع حُكِمَ على صاحبه بالوهم حيث وهم، ولم يُجرح بالمرة، ويُطرح كل ما روى، إلاَّ أن يكثر منه الوهم، ويعرف بالبلة كما تقدم، ومثل هذا إذا اتفق، لم يبطل به علم الأثر، فإنه لو بطل علم الأثر بمثل هذا، لبطل أيضاً علم النظر بمثله، فإن الخطأ قد يقع كثيراً من حُذَّاق النُّظَّار وأهلِ التحقيق في الكلام، وتجد الأقوال الركيكة صادرةً عن أئمة علم المعقول، فكما أن علم النظر لم (¬1) يبطل بذلك، فكذلك علم الأثر لا يبطُلُ باتفاق الخطأ النادر، ولو كان ذلك يقدح، لحَرُمَ على الإنسان الرجوع إلى نفسه في كثير من المسائل والأحوال، لأنه قد يعلم من نفسه أنه قد وهِمَ وغلِطَ، والفطين يعلم أن ذلك جائزٌ عليه، وإن لم يكن قد اتفق له، مع أنه لا يوجد من لم يتفق له الوهم والخطأ، ولأنه كان يلزم مثله في أحوال الدنيا، فلا يعمل بخبر ثقةٍ أبداً، لأنه قد ينكشف عليه الوهم في نادر الأحوال، وذلك باطلٌ بالضرورة، وخلاف إجماع العقلاء. فإن قلت: فرقٌ بين علم النظر والأثر، فعلم النظر يجب الوصول فيه إلى العلم، وبعد ذلك يحصلُ الأمان من الخطأ. قلت: هذا صحيح، وعلم الأثر أيضاً قد حصل لنا العلم أن التكليف فيه بالظاهر المظنون دون القطع على الصحة في الباطن، فمتى سلم لنا الظاهر، فقد حصل العلم لنا أن قَبُولَه تكليفنا، ولا يضرُّنا ما وقع من الثِّقات من الخطأ، فمتى كثر وزال معه الظَّنُّ للصواب، بطل التكليف بخبر من هذه حاله. إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لا يحل القطع بأن المحدثين تعمدوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ذكره السيد، وإن وجدنا في الحديث ما يُعلم قطعاً أنه لا (¬2) يصدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لاحتمال الوهم فيه أو التدليس عمن يقوى في الظن ¬
نسبة الوهم أو غيره إليه. والحكم بالوهم عليهم فيما كان كذلك أولى، لوجهين: أحدهما: أنه (¬1) يحصل به الغرض من تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بقاء ما أجمعت الأمة عليه من الرجوع إلى كتب السنن وأحاديث الثقات. وثانيهما: أن الحكم بتعمد الكذب مما لا دليل عليه، فكان القطع به محرماً لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 39]، ونحو هذه الآية الكريمة ولسائر (¬2) ما قدمته من المرجِّحات للتأويل على التكذيب، فخذه من هنالك. تنبيه: إياك أن تسمع هذا الكلام، فيصرفك عن كتب السنة، واهماً أن حديثها قد اختلط فيه الصحيح بالضعيف، والخطأ بالصواب، فإن مصنفيها أئمة علم الأثر، ونُقَّاد هذا الشأن، وإليهم المنتهى في معرفة فنِّهم. فإذا كان الخطأ في كتبهم، فما ظنك بغيرها، بل هذا يحث الإنسان على الاعتماد عليها، والرجوع إليها، ألا ترى أنك لو وجدت خطأ في " كتاب " سيبويه في العربية، لم تطرح جميع ما رواه في " كتابه " لأجل ذلك، فإنه إذا جاز أن يُخطىء -مع عنايته بالفن- فكيف بمن هو دونه في العناية بفنِّه؟ وهذه إشارةٌ قد حققتُ المقصود منها في آخر مسألة المتأولين عند ذكر الإنصاف والخصيصتين، فخذه هنالك، ولا تقنع فهذا (¬3) الكلام في هذا المعنى نافعٌ جداً. وهذا القدر كافٍ في التمهيد للجواب بإيراد المقدمات. ولنشرع الآن في الجواب ونتكلم فيه على فصلين: فصل في الجواب الجُمليِّ، وفصل في المعارضات. فأما الجواب على جهة التفصيل والتحقيق، فهو متعذِّرٌ لوجهين: ¬
أحاديث الصفات ومذهب السلف فيها
أحدهما: ما قدمته من قُصوري عن بلوغ مرتبة التأويل، فإن التأويل لا يصح (¬1) إلاَّ من الراسخين في العلم على قول الخصم، فلو ذهبتُ إلى التأويل عن أساليب العلماء، لكنت قد ناقضتُ في كلامي. وثانيهما: أن التفصيل والتحقيق يحتاج إلى بسط ٍكثيرٍ، فلعلي لو كنت من أهل ذلك، وتعرضت له، ما فرغ الكلام على هذه الأحاديث التي أشار السيد إليها إلاَّ في مجلدات، والذي أختار لنفسي ما يليق بمقتضى حالي في قصور باعي (¬2) في العلم، وعدم رسوخي فيه، وهو المروي عن الأكثرين من السلف. قال النووي في " شرح مسلم " (¬3): اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات قولين: أحدهما: -وهو مذهب معظم السلف أو كلهم، وهو مذهب جماعةٍ من المتكلمين، واختاره جماعةٌ من محققيهم، وهو أسلمُ-: أنه لا يُتكلَّمُ في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنىً يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيءٌ، وأنه منزَّهٌ عَنِ التجسيم إلى آخر كلامه، وهو محكي بلفظه، لكن فيه تقديم لبعض ما أخره. قلت: وإنما ذهبوا إلى هذا واختاروه لوجهين: عقلي وسمعي. أمَّا العقلي: فلأن المتأول إما أن يقطع أن تأويله هو مراد الله، وأنه لا تأويل سواه، فهذا خطأٌ، لأنه (¬4) لا دليل على أنه لا تأويل سواه يمكن أنه مراد الله، وأقصى ما في الباب أنه طلب، فلم يجد، لكن عدم وجود المطلوب لا يدل على عدم المطلوب في نفسه، وكم من عالمٍ يأتي بتأويلٍ، ثم يأتي غيره بأحسن منه، بل قد يأتي هو بأحسن منه فيما بعد، وإن لم يقطع على أن تأويله مراد الله، ¬
فمجرَّد الاحتمال (¬1) ليس بتفسيرٍ ولا معنى للظن إلاَّ في العمليات. ومن هنا تظهر لك قوة عدم علم الراسخين بتأويل المتشابه، لأن غايته أن يكون ظناً، فلا يجوز عطفه على علم الله عزَّ وجلَّ الذي لا يدخله (¬2) الظن. فإن قيل: قد يُسمى الظن علماً. قلنا: قد يكون كثيرٌ من التأويل لمجرد الاحتمال، ولا يُسمَّى علماً إجماعاً، وإن كان بالظنِّ، فلا يجوز هنا خاصةً تسميته علماً، لأنه مجازٌ، أو مشترك، وهو في حقِّ الله للعلم اليقين، فلو عطف عليه غيره، كنا قد استعملنا اللفظ في كلا معنييه، والصحيح أنه لا يجوز لغةً، وادعى أبو هاشم أنه محالٌ عقلاً. وأما السمعي، فقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، وما رُوِيَ عن ابن عباسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال في القرآن بغير علم، فليتبوَّأ مقعده من النار. وفي رواية: " من قال في القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار ". أخرجه الترمذي، وحسنه (¬3). وعن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ ". أخرجه أبو داود والترمذي وغرّبه (¬4). وأما إجماع الصحابة على التفسير بالرأي، وقول أبي بكر في الكلالة: " أقول فيها برأيي " (¬5)، فإنما أرادوا بالرأي: التفسير للحادثة الخاصة بالعُموم اللغوي لكي لا يُوهموا أنهم سَمِعُوا ما حكموا به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنصوصية. ألا ترى أن الكلالة في اللغة مطابقةٌ لتفسير أبي بكرٍ؟ فلم يكن تفسيره رأياً محضاً، ¬
ولو سلم، فذلك (¬1) في العمليات، ولا نزاع فيها لضرورة العمل، وإمكان الوقف في غير العمليات، ولو سلم إجماع في مسألتنا، فظنِّي، ولا ينفع هنا، الحديثان المقدَّمان يعارضانه، وهذا الذي حكاه النَّووي عنهم هو اختياري لنفسي، ولمن هو لمثل صفتي، لكني اقول: إنما يجب علينا أن نؤمن بالمعلوم من ذلك، فأما المظنون، فنؤمن به على شرط أنه صدر عن الله، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال النووي (¬2): والقول الثاني -وهو قول معظم المتكلمين- أنها تُتَأوَّل على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفاً بلسان العرب، وقواعد الأصول والفروع، ذا رياضةٍ في العلم. قلت: وهذا الذي ذكره هو معنى الرسوخ في العلم، وأنا لا أُنكره على الراسخين في العلم إن تكلموا في ذلك بما يعلمونه، وإنما المنكر خبطُ الجُهَّال بغير علمٍ ولا هدى (¬3) ولا كتابٍ منير. أمَّا الفصل الأول: فالجواب: أن السيد أيده الله ذكر أحاديث معينةً، وذكر أنه لا يصحُّ لها تأويلٌ. فنقول له: هل مرادك لا يصحُّ لها تأويلٌ عندك؟ فمسلم، ولا يضرُّك تسليمه، أو مرادُك: لا يصحُّ لها تأويلٌ في علم الله تعالى، ولا عند أحدٍ من الراسخين، فممنوعٌ، ودليل المنع وجهان: الوجه الأول: أن موسى عليه السلام لما تعلَّم (¬4) تأويل فعل الخضر عليه السلام، لم يجب ألا يعلمه (¬5) الخضر عليه السلام، فإذا جاز على موسى الكليم أن يجهل ما عَلِمَهُ غيره، جاز عليك أكثر من ذلك. ¬
الوجه الثاني: أن الملائكة عليهم السلام ما عرفوا حكمة الله في جعل آدمَ خليفةً في الأرض، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}، فلم يجب عليه إلاَّ بالجواب الجُمليِّ، فقال الله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقره: 30] فإذا كفى الملائكة العلم الجمليُّ، كفى كثيراً من المسلمين. فإن قلت: فرقٌ بين الأفعال والأقوال، لأن الإيمان بحُسْنِ الأفعال على الجُملة تكفي، وأمَّا الأقوال، فلا بد من فهم معناها، وإلا لكان الخطاب عبثاً، والعبث لا يجوز على الله تعالى. قلت: ما مرادك بقولك: يجب فهم معناها؟ هل تريد على جميع المسلمين أو على علماء المسلمين؟ فإن قلت: على جميع المسلمين، كنت قد جمعت بين المُناقضة والمباهتة. أمَّا المناقضة، فحيث منعت المعرفةَ بتفسير كتاب الله في أوَّل جوابك، ثم أوجبت العلم بمعانيه في آخره. وأما المباهتة: فلأنَّ الأمة مجمعةٌ إجماعاً ضرورياً على أن العلم بجميع معاني كلام الله تعالى جَليِّها وخفيِّها ومُحكمها ومتشابهها لا يجب على النساء والإماء والفلاحين وسائر عامَّة المسلمين. فإن قلت: إنه لا يجب أن يكون كلام الله معلوم المعنى إلاَّ لعلماء المسلمين، فلم ننازِعْكَ في هذا، ولكنك ادعيت في كتابك أنك لست من العلماء، ولا ممن يعرف معاني كلام الله، لأنك شككت في إمكان الاجتهاد، ولا يصح هذا الشك وأنت مجتهدٌ. وأما التفسير، فمنعت أنت معرفته بالمرة، فلا يجب إذا لم تعلم تأويل أغمضِ المتشابهات أن تقطع على عجز العُلماء الراسخين، مستدلاً على عجزهم بأنك عجَزت عَنِ المعرفة، لأنه لا مُلازمة في العقل ولا في الشَّرع بين
جهل من هو معرفٌ أنه ليس من المجتهدين وجهل الراسخين في العلم حتى يستدل بأحدِهما على الآخر (¬1)، ولو كان يصح الاستدلال على جهل العلماء بجهل غيرهم، لوجب أن يكون العلماء لا يعرفون إلاَّ ما يعرف، وفي هذا غاية الفساد، وهذا الموضع يحتمل التطويل بإيراد أسئلةٍ ومعارضاتٍ ومُطالباتٍ لمدعي المعرفة بتأويل القرآن أن يفسِّرَ لنا آيات من القرآن العظيم، مثل قوله: {كهيعص} [مريم: 1]، وطلب الدليل على التفسير الذي يقوله: هل هو مجرد تجويزٍ؟ فليس بتفسيرٍ، أو هو قولٌ عن دليلٍ؟ فما ذلك الدليل؟ هل هو نص نبوي، أو نص لغوي، أو برهان عقلي، ويتفرع في هذا المقام أسئلة عويصة ومباحث صعبة تركتها اختصاراً وقد أوردتها في كتاب " ترجيح أساليب القرآن " (¬2). الفصل الثاني: في المعارضات وقبل الخوض فيها، أذكر مقدمة، وهي (¬3) أنه لا يلزمُني أن أقول بقوَّة الأسئلة التي أوردها، ولا أعتقدها، ولا يظن هذا إلاَّ من لا يعرف معنى المعارضة عند أهل النظر، وذلك لأنها تقتضي أن نُورد على الخصم مثل ما احتج به، وإن كان ضعيفاً عند المُورِدِ له، بل وإن كان باطلاً، وإنما يُورد لوجهين: أحدهما: ليدفع المورد له عن نفسه ما يرِدُ عليه من ذلك القبيل، فيدفع الباطلَ بالباطلِ، ويكتفي بالشر من غير خُروجٍ من حقِّ، ولا دُخُولٍ في باطلٍ، ومثال ذلك قول أصحابنا والحنفية في الاحتجاج بالقيافة (¬4) على المنافقين، ¬
بحث في تفسير قوله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} الآية
وليست حجةً صحيحةً، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استبشر بها لغَلَبِ الخصم الذي يقول بصحتها، لا بها في نفسها، فهي باطلةٌ. الوجه الثاني: تعريف الخصم بضعف قوله الذي استلزم تلك الأشياء الضعيفة، فإن القوي لا يستلزم الضعيف، قال المنطقيون في الجدل -وهي من أنواعه-: إن الغرض به: إقناع القاصر عن دَرْكِ البرهان وإلزام الخصم. إذا تقرر هذا، فاعلم أن المعارضات نوعان: النوع الأول: أنها قد وردت عن سلفنا (¬1) رحمهم الله تعالى من أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة تفاسير كثيرةٌ يستبعدها كثيرٌ من الناس، وتأويلها في البعد مثل تأويل هذه الأحاديث التي أنكر السيد تأويلها، فمن ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] الآية، فإن ظاهرها يقتضي ما لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من التشبيه، وقد تأولها الزمخشري (¬2) وغيره بأنه عليه السلام إنما أراد أن يحتج على غيره ويبيِّن له الدليل على حدوث الأجسام وبطلان ربوبيتها بدليل الأعراض. هذا معنى كلامهم. فأقول: لا يخلو: إما أن يكون الاستبعاد يمنع من صحة التأويل، أو لا. ¬
إن كان لا يمنعُ، جاز تأويل تلك (¬1) الأحاديث، ولم يمنع لمجرد الاستبعاد، وإن كان يمنع، فهذا التأويل المذكور في هذه الآية بعيدٌ لوجوه: الوجه الأول: أنه لو أراد دليلَ الأعراض، لكفاه الاستدلالُ بدليلِ الأعراض على النجم، ولم يحتج إلى إعادة الدليل في حق القمر، ثم في حق الشمس، لأن دليل الأعراض دليلٌ كليٌّ، يدخل تحته، كل جسمٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، ولو كان المستدل به كلما رأى جسماً، لم يكفه ما مضى من الاستدلال حتَّى يعيد الدليل، لم يزل مستدلاً وهذا شيء لم يقل به أحدٌ. الوجه الثاني: لو أراد ذلك، لم يكن لتخصيصها بالاستدلال معنى، فإن الحركة والسكون، جائزان على كلِّ جسمٍ من الحجارة والشجر والتراب والحيوان والسماء والأرض، فما خصَّ النجم ثم القمر ثم الشمس؟! الوجه الثالث: أنه لم يحصل فيها دليل الأكوان مثل غيرها، لأنه عليه السلام ما رآها إلاَّ متحركةً فقط، ولا استدل إلاَّ بالأفول الذي يستلزم الحركة، وهو غير دليل الأكوان، فإنه لا يصح إلاَّ بالنظر إلى الحركة والسُّكون معاً. الوجه الرابع: أن إبراهيم عليه السلام قد علم أن الشمس والقمر كانا آفِلَيْن قبل شروقهما، فلو استدل على طريقة المتكلمين في الأكوان، لم يكن الأفول الثاني بأدل على حدوثها من الأفول الأول. الوجه الخامس: أن مسير هذه الأشياء إلى وسط السماء أو أقل من ذلك مثلُ أُفولها بالنظر إلى دليل الأكوان، لأن القليل والكثير من ذلك دالٌّ على الحركة والنقلة التي تدل على الحدوث. الوجه السادس: أنه حين قال في القمر: هذا ربي، تأخر عن الجواب إلى أن غرب القمر في آخر الليل، ثم فعل ذلك في الشمس، فتأخر عنِ الجواب من طلوعها إلى غروبها، وذلك يبعُدُ من المحتج على غيره لوجهين: ¬
أحدهما: أن الخصم لا ينتظره في المجلس الواحد يتطلب الجواب يوماً وليلةً. وثانيهما: أن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلِّمَ للغير ما يدعي إلاَّ ويبين للغير في تلك الحال، أن تسليمه تسليم جدلٍ، ثم تعقَّبه بإبطال كلامه من غير تراخٍ، لأنه لو جاز أن ينطِقَ بالكفر، ويسلمه للخصم يوماً كاملاً مع حضور الدليل، لجاز ذلك شهراً أو سنة والعمر كله. الوجه السابع: أنه عليه السلام قال عقيب أُفول القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين}. وهذا لا يقوله المناظر (¬1) في مثل هذه الحالة المجادل فيها عن الحق المُبين للغير، وإنما يقوله الناظر المتحيِّر في الاستدلال. الوجه الثامن: أنه قال في الشمس: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر}. وهذا لا يشبه كلام المجادلين للغير، المحتجين بدليل الأعراض، لأن ما كثر نوره مثل ما قل نوره بالنظر إلى دليل الأعراض، بل الجسم المنير والمظلم بالنظر إلى ذلك على سواءٍ. الوجه التاسع: أنه قال: هذا ربي، ولم يقل للخصم: هذا ربك، ولا قال: هذا ربنا، ولا قال: هذا رب، وقلَّما يتفق مثل هذا من مُخاصمٍ لغيره وإن كان ذلك جائزاً، لكنه بعيدٌ. الوجه العاشر: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} فهذا يشعر بأن علة رؤيته للكوكب جنونُ الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي رؤيةُ الكوكب، كما تقول: فلما دخلتُ دار الإمارة، رأيتُ رجلاً وسيماً، قلت: هذا الأمير، ولو كان كما قالوا مخاصماً لغيره، لكان القياسُ: فلما قيل له: هذا ربُّك، قال: هذا ربي. ¬
الوجه الحادي عشر: قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّه} [الأنعام: 80]، فعطف على هذه القصة قصةً أخرى، معناها أن إبراهيم تحاجَّ هو وقومه، فلو كانت القصة الأُولى محاجة مع قومه، لما حَسُنَ بعد الفراغ منها أن يُقال: وحاجَّه قومه كما لا يقال: اختصم زيدٌ وقومه في قِدَمِ العالم، فقال: إن ما فيه من الصنعة تدل على حدوثه، واختصم قوم زيد وزيد في حدوث العالم. الوجه الثاني عشر: أن سياق الآية من أولها يدل على بعد التأويل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] الآية، فظاهر هذا السياق يدلُّ على أن الله تعالى أراه الملكوت ليؤمن بالله تعالى ويستدل عليه، لا ليناظر ويجادل، وفي هذا السياق ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام ما كان قد رأى السماوات والأرض، وأنه كان محجوباً، كما قد رُوِيَ ذلك (¬1). فإذا تأملت هذه الوجوه حق التأمل، وتركت العصبية، علمت أن قول الزمخشري وغيره بعيد في تأويل هذه الآية، وأين هذه الآية من دليل الأكوان الذي ينبني على أربع دعاوي، وهي أن (¬2) الأجسام لا تخلو من الأعراض، ولا تتقدمها، وأن الأعراض أمورٌ ثبوتيةٌ، وأن هذه الأعراض محدَثَة، وأن ما لم يخل من المحدث، ولم يتقدمه، فهو محدث مثله. وإذا كان هذا التأويل قد صدر من علامة المعاني والبيان، وإمام البلغاء بغير منازعةٍ، وكان الجِلَّةُ من العلماء مستمرين على قراءته من غير اعتراضٍ عليه، ولا تشكيكٍ فيه، فإني سأبيِّنُ أن تأويل تلك الأحاديث التي أنكر السيد تأويلها قريبٌ من هذا على قانون أهل التأويل، وهذا على بعد الزمخشري من التأويلات البعيدة. ¬
ومن ذلك تأويل الزمخشري رحمه الله لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، فإنه أولها بما معناه (¬1): وإن من شيء إلاَّ يدل على أن الله يستحق التسبيح، ولكن إذا رأيتم هذه الأشياء لم تفقهوا ما فيها من الدِّلالة على استحقاقه للتسبيح، هذا معنى كلامه، وقد قدمت ما فيه من النظر، لأنه لا ملجىء إليه مع ما فيه من البعد. فأمَّا غير الزمخشري رحمه الله من المفسرين على أساليب أهل الكلام، فلهم تأويلاتٌ بعيدةٌ، وفي " تهذيب " (¬2) الحاكم رحمه الله كثيرٌ من هذه الأشياء، منها في تفسير: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 27 - 28]، فإن الحاكم رحمه الله أنكر صحة عودهم إلى ما نهوا عنه بعد مشاهدة القيامة وأهوالها، وتأول الآية على أن المراد: إذا رُدُّوا إلى الدنيا كما يُرَدُّ من النوم إلى اليقظة، قال: فأما بعد المعاينة والعلم الضروري، فلا يجوز الرد إلى حال التكليف، للإلجاء الحاصل. هذا لفظه. والعجب كيف يستغرب أن تحمل الآية على أنهم لو رُدُّوا كالرد من النوم إلى اليقظة، لعادوا لما نهوا عنه، والله قد نص على أنهم إنما تمنوا الرد لما وُقِفُوا على النار، وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل: وكذَّبهم الله في قوله في تلك الحال: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ}، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه}، وأكَّد ذلك بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}. وإذا كان هذا التأويل قريباً، فنحن لا نتأول تلك الأحاديث بأبعد من هذا، وان كان بعيداً، ولا ننكر على صاحبه فما بال تلك الأحاديث اختصت بالإنكار. ¬
وبالجملة، فهذا بابٌ واسعٌ، فقد أنكرت معتزلة بغدادٍ الظواهر المفهومة من القرآن الدالة على أن الله سميعٌ بصيرٌ، وتأولوا ذلك على معنى أنه عالمٌ فقط، وفي تأويلهم لذلك بعدٌ. وقد ذهب جماعةٌ من أهل العدل والتوحيد كالشيخ أبي الحسين وأصحابه إلى أن إرادة الله تعالى هي علمه لا سوى، وهذا أيضاً بعيدٌ، وقدِ اختاره الفقيه عبد الله بن زيدٍ، وفي السمع ما يصعب تأويله على هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 85]، فإنه يبعد أن يكون معناه: يعلم الله بكم اليسر، وهذا القبيل كثيرٌ، حتى إن طائفةً من المعتزلة أنكروا وجُود الشيطان على الحقيقة، وادعوا أن جميع ما في القرآن من ذكره مجازٌ، والمراد به الشهوة أو نحو ذلك وفي السمع ما يصعب تأويله على هذا، مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، ومثل قصته مع آدم عليه السلام، وخطابه له، ومقاسمته، وسؤاله للإنظار من الله تعالى، ونحو ذلك. وفي سلفنا رحمهم الله من كان يؤثر عنه تأويل العرش والكرسي بالمُلك (¬1)، وفي القرآن ما يصعب تأويله على هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، ونحو ذلك. وقد فسر الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام آية النور في كتابه " الحكمة الدُّرِّية " (¬2) بتفسيرٍ بعيدٍ، فأول الزيت بالعقل، والنار ¬
بالشرع، والزجاجة والمصباح والمِشكاة والشجرة والكوكب الدُّرِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وهذا تأويلٌ بعيدٌ، ومع بُعده، فلا ملجىء إليه، لأن ظاهر الآية مما يجوزُ إرادته. وللإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أغرب من ذلك، وهي تأويل الآية الكريمة في قصة هاروت وماروت وما أُنزل عليهما، فإنه ذكر أن ذلك كله مَثَلٌ ضربه الله تعالى على سبيل التجوز، ولا حقيقة لشيء من ذلك. حكاه لي الإمام المنصور بالله علي بن محمد بن علي. ولمجاهدٍ التابعي الجليل مثل ذلك في اليهود والمخسوف بهم قردةً، قال: هو مثلٌ ضربه الله، حكاه عنه ابن كثير في " البداية والنهاية " في المجلد الأول (¬1). وللحاكم (¬2) رحمه الله تعالى قريبٌ من هذا في فضائل علي عليه السلام وأبي بكرٍ وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ذكره في كتابه " السفينة ". فإذا نظر الإنسان إلى كثيرٍ من تأويلات العلماء قديماً وحديثاًً، وجد فيها البعيد والقريب، فلا ينبغي أن نُنكر على من قال بصحَّة بعضِ الأحاديث، وجواز أن لها تأويلاً عند العلماء، أو تأولها بمثل هذه التأويلات، فإنه لم يؤثر عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى النكير على من تأول تأويلاً ضعيفاً مستبعداً متى كان صحيح العقدة، والاختلاف في أن هذا التأويل قويٌّ أو ضعيفٌ أو متعسَّفٌ، لا يحتمل الإنكار والتشنيع، فتأمل ذلك. ¬
الكلام في تأويل بعض الأحاديث مثل: "فيأتيهم الله"
النوع الثاني من المُعارضات: فهو أنا نُورِدُ في تأويل تلك الأحاديث نظير ما ورد في تأويل القرآن العظيم من غير أن نكون قائلين بأن ذلك التأويل هو معنى الحديث قطعاً، لأني أختار لنفسي مذهب السلف المقدم وكما سبق موضحاً في الوهم الخامس عشر، ولجواز أن يكون له معنى هو أصحُّ من ذلك، وإنا لقصورنا لم نهتد إليه، وقد بيَّنتُ قصوري عن مرتبة التأويل، وإنما مرادي أُورد مثل كلامهم على وجهٍ يعرف المنصف أن مثله مما لا طريق إلى العلم القطعي بأن أهل تلك التأويلات لو سمعوه، لأجمعوا على أنه باطل. فأقول: قد انتخب السيد أحاديث من أدقِّ ما وجد، وأنا أتكلَّم على كلِّ حديثٍ منها مستعيناً بالله تعالى: فالحديث الأول: فقد ثبت أن عُلماء المعاني والبيان والزمخشري ومن لا يُحصى كثرةً قالوا في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} [الأنعام: 158]، كل هذا قالوا فيه: إن إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجازٌ، وهو من قبيل الإيجاز: أحد علوم المعاني والبيان، وهو حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه، والقرينة الدالة هنا هي القرينة العقلية، وهي أقوى القرائن دلالة، وكان هذا مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} [يوسف: 82]، أي: أهل القرية، قالوا: المعنى: وجاء أمر ربك أو عذابه، أو نحو ذلك من المقدورات. فنقول: وكذلك الحديث الذي رواه السيد، وفيه: " فيأتيهمُ اللهُ "، وفي رواية " أتاهم ربُّ العالمينَ " (¬1)، فيه حذفٌ وتقدير، فيقال: المرادُ أتاهم مَلَكٌ من ربِّ العالمين، أو أتاهم رسول رب العالمين. وقوله: إني ربكم: أي رسلُ ¬
ربكم، وكذلك قولهم: أنت ربنا: أي رسول ربنا، وإذا جاز تأويل لفظٍ على معنى، جاز تأويله على ذلك المعنى، وإن تكرر منه مرة فالعمدة أن الدليل العقلي صارف عن الظاهر، وإلا فالذي في القرآن من المتشابه في هذا المعنى يوهم أنه على ظاهره لو لم يكن ثمَّ دليل عقليٌّ يوجب التأويل من غير خلافٍ في هذا، وقد ذكرنا في المقدِّمات أن الترشيح لغويٌّ صحيحٌ متى ثبت معرفة المخاطب بالتجوز، وتقدمت أمثلة ذلك، فلا ينكر ما ورد من ذلك ولو كثر وإنما تجد النكارة لعدم وضوح الدليل في نفس السامع تارة، وفي نفس الأمر أخرى إلا من سمع جناح الذل لا يجد شكاً في معرفة المعنى وأنه مجاز وإن لم يكن من العارفين بخلاف من سَمِعَ قوله تعالى في آدم عليه السلام: " خَلَقْته بيدي " وقد ذكر النووي في " شرح مسلم " (¬1) تأويل هذا الحديث فقال ما لفظه: وقيل: المراد يأتيهم الله، أي: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث. قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات (¬2) الحديث الظاهرة على الملك والمخلوق. قال: أو يكون معناه: يأتيهم الله في صورةٍ أي بصورةٍ ويُظهر لهم صورة ملائكته ومخلوقاته التي لا تُشبه صفات الإله ليختبرهم (¬3). وهذا آخر امتحان المؤمنين، فإذا قال لهم: هذا الملك، أو هذه الصورة: أنا ربكم، رأوا عليه من سمات المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم، ويستعيذون بالله منه. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬4): " فيأتيهم الله في صُورته التي يعرفون بها "، فالمراد بالصورة هنا: الصفة، ومعناه: فيتجلَّى (¬5) لهم على الصفة التي يعلمونها وإنما عبَّر في الصفة بالصورة، لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام، فإنه تقدم ذكر الصورة. ¬
وأما قولهم (¬1): " نعوذ بالله منك "، فقال الخطابي: يحتمل أن تكون الاستعاذة من المنافقين خاصةً، وأنكر القاضي عياض هذا. قال النووي: وما قاله القاضي عياض هو الصواب، والحديث مصرِّحٌ به، أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه لما قدَّمناه من كونهم رأوا سِمَات المخلوق. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيتبعُونه "، فمعناه: فيتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة. انتهى. وفيه ما يُوافق ما ذكرته ولله الحمد، إلاَّ أن قوله: " يتجلَّى على صفة " يحتاج إلى تأويلٍ كتأويل قوله تعالى: {فلما تَجَلَّى رَبُّهُ للجبل} [الأعراف: 143]، فأقول: يحتمل على أساليب المتأولين أن المراد بـ (تَجَلَّى) ما يدلُّ على عِظَم (¬2) قُدرته، وإحاطة علمه من عجائب أفعاله المُعجزة التي نعلم بها أنه المتكلم المخاطب. ومن هذا القبيل -ولم يذكره السيد- حديثُ نزول الرب جل جلاله كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا (¬3)، أوَّلوه بنزول ملكٍ، وليس في الحديث الذي رواه السيد أكثر من هذا الذي ذكرته إلاَّ ثلاثة أشياء: أحدها: ذكر أنهم سجدوا له (¬4)، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه يجوز أن يكون قَصَدُوا بالسجود: التَّعبُّدَ لله تعالى عند رؤيتهم ¬
لذلك الملك تعظيماً لله حين رأوا من مخلوقاته العظيمة ما يُوجب الزيادة في التعظيم، ولا نص في الحديث يُبطِلُ هذا. وثانيهما: أنه يجوز السجود للملك على سبيل التعظيم والتكرمة دون العبادة، وإنما حرَّم هذا علينا بالشرع، وقد سجدت الملائكة لآدم عليه السلام، فأولى أن يسجد بنو آدم لملكٍ من الملائكة الكرام، وقد سجد ليوسف إخوته عليه السلام. الأمر الثاني مما ورد في الحديث: ذكر الصورة، وأنه جاءهم على صورتين، فقد ذكر أن الذي جاءهم على قول كثيرٍ من أئمة التأويل مَلَكٌ من ملائكة الله تعالى، وذلك جائزٌ في حقه. فإن قلت: لا يجوز أن يكون للملك صورتان، وإنما المعروف أن له صورة واحدة؟ أجبنا بوجهين: أحدهما: أنه لا مانع من ذلك، فذلك في قدرة الله تعالى. ثانيهما: أنه قد جاء حديثٌ صحيح في تفسير تينكَ (¬1) الصورتين، وأنه جاءهم في الليلة الأولى محتجباً عنهم، وفي المرة (¬2) الثانية متجلِّياً لهم. رواه الحافظ العلوي في كتاب " الأربعين "، وقد تقدم ما ذكره القاضي عياض والنووي في تأويل الصورة بالصِّفة، وفيه كفايةٌ، وقد تقدم في المرتبة الثانية ذكر حديث ابن مسعودٍ الذي خرَّجه الطبراني والحاكم في الفتن، وصححه على شرطهما في تمثل الرَّبِّ تعالى وتبارك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمَّته، ومن أحب التَّقصِّي بجميع الوجوه المُحتمِلَةِ للتأويل، وهذا الحديث بعينه، وفي أمثاله، فليطالع كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي رحمه الله، وقد حكى الله تعالى عن خليله عليه السلام ما حكى حين رأى النَّجم، ثم القمر، ثم الشمس. قيل: إن ذلك في ¬
حديث: "فيكشف عن ساق"
أوَّلِ أحوال النظر، وربما كان في حقه عليه السلام قبل بُلوغ التكليف على ما رُوِيَ في بعض الآثار، وليس يلزم من هذه الأشياء ما توهَّمته الاتحادية من أن الرب جل جلاله، الموصوف بالأسماء الحسنى، مجرد خيالٍ كالأحلام، وأنه لا حقيقة له إلاَّ الوجود المطلق الذي لا وجود له عند سائر العقلاء من علماء الإسلام وجماهير الفلاسفة. ألا ترى أن تمثل (¬1) جبريل عليه السلام على صورة دِحية لم يدلُّ على أنه لا ذات له البتة إلاَّ خيالية، وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع. ثم ذكر السيد الحديث الثاني، وهو مثل هذا سواء، إلاَّ أنه قال فيه: " فيكشف عن ساقٍ " (¬2)، وهذا اللفظ معروفٌ في لغة العرب كنايةً عن شدة الأمر، وأما هنا، فلسنا محتاجين إلى الكناية، بل نرُدُّ ذلك كله إلى الملك، وقد شنَّع السيد على البخاري لقوله في روايته: " فيكشف عن ساقه " (¬3)، وذلك بناءً منه ¬
على رجوع الضمير إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث الثاني ما ليس في الأول، " فيضع الرب قدمَه "، وتأويله على ما ذكرناه فيضع رسول الرب قدمه، وكذا قوله: " فيضع الجبار "، أي: رسول الجبار. وقال العلامة ابن حجر في " مقدمته لشرح البخاري " في تأويل هذا الحديث: قدمه: الذين قدَّمهم لها من شِرَارِ خلقه. أي: للنار، فهم قدم الله للنار، وقيل في تفسيره: يأتيهما أمر الله فيكفهما عن طلب المزيد ويُسكن فورتها، كما يقال لكل أمرٍ أبْطلته: وضعتُه تحت قدمي، ومنه الحديث: " كل دمٍ ومأثَرَةٍ تحت قدمي هاتين " (¬1) أراد إعدامها وإبطالها وإذلال أمر الجاهلية. انتهى. ¬
نسبة الضحك إلى الله عز وجل
ويكشف ربُّنا عن ساقه، أي: رسول ربنا (¬1)، وهذا النوع المسمى بالإيجاز عربي فصيحٌ، ومنه قول جبريل عليه السلام: {لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيَّاً} [مريم: 19]، في أحد القراءتين (¬2)، ومنه قول عيسى عليه السلام: {وأُحيي الموتى بإذن الله} [آل عمران: 49]، أراد: ويحيي الله الموتى عنه إن أريد ذلك. وانظر الفرق بين تأويلنا لهذا الحديث، وتأويل: {وجاء ربك}، أو: {يأتي ربك}، أن يأتيهم الله، فما ثمَّ فرقٌ أبداً إلاَّ أن هذه الألفاظ المؤوَّلة تكرَّرت في الحديث أكثر مما تكررت في الآيات. ومن المعلوم عند كل مُنصفٍ أن التأويل متى كان ممكناً في نفسه، حسناً بالنظر إلى اللغة، جاز تكريرُه، وحَسُنَ ترديده، لأن الشيء الحَسَنَ في نفسه لا يقبُحُ بتكريره، وإلا لزم ألا يجوز للإنسان أن يكرِّرَ تلاوة: {وجاء ربُّك} قدر مراتٍ كثيرةٍ، وما علمنا شيئاً يحسُنُ النطق به مرةً واحدةً ويقبُحُ تكريره. وأما نسبةُ الضحك إلى الله تعالى في بعض تلك الأحاديث، فهو أسهل من هذا كله. وإن شئنا نسبناه إلى المَلَكِ الذي قدَّرنا أنه المراد، ويكون الضحك على ظاهره، والتجوز في إسناده، وإن شئنا كان الإسناد إلى الله تعالى على ظاهره، وجعلنا التجوز في الضحك لا في الإسناد، فقد صح نسبة الغضب إلى الله تعالى، وكذلك الرضا والعجب والضحك مثل هذه الأمور، وقد اشتهر الضحك المجازي في لُغة العرب، وشحن البلغاء أشعارهم بذكر ضحك البُروق ¬
والأزهار والأنوار، وقد فسَّروا ضحك الرب برضاه، وقد ذكر ابن متوية ضحك الأرض في المجاز، وأنشد في ذلك: تضحك الأرضُ من بكاء السماء. وقد أذكرني في (¬1) هذا بليلةٍ عجيبةٍ كانت اتَّفقت لي، فقلت فيها: وليلةٍ ضَحِكَتْ أنوارُها طَرَباً ... بروقُها وزهور الرَّوض والقمرُ فَكِدْتُ أضحكُ لولا حَنَّ رَاعِدُها ... حنينَ شاكٍ ولولا أن بكى المطرُ فذكَّرَ الرَّعدُ قلبي في تَحَنُّنه ... حنين خِلِّيَ لما أن دنا السفرُ فنُحتُ حتى تباكَتْ كلُّ ضاحكةٍ ... من الثلاث وحتى رقَّ لي الشجرُ وهذا المعنى مطروقٌ مشهورٌ في أشعار المتقدمين والمتأخرين، وقد اتسعُوا في ذلك، حتَّى نسبوا الضحك إلى القبور، دع عنك نسبته إلى الأنوار والزهور. قال شيخ المعرة (¬2): رُبَّ قبرٍ قد صار قبراً مراراً ... ضاحكٍ (¬3) من تزاحم الأضدادِ فإذا عرفت هذا، فاعلم: أن السيد قد انتقى هذين الحديثين من أدق ما وجد في كتب الحديث، مما توهم أنه لا يحتمل التأويل البتة، فقد رأيت من هو غير معدودٍ في العلماء، لا عند الناس ولا عند نفسه كيف تبين أن تأويل ذلك مثل تأويل آيات القرآن الكريم سواء، فكيف لو تعرَّض للفحص عن وجوه (¬4) في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وحبر الأمة ابن عباس المفقَّه (¬5) في الدين، ¬
المعلم التأويل وأمثالهما من العترة الطاهرة، وتفجرت عليك بحار علومهم، وتموَّرت أمواج معارفهم، وافتنُّوا في مغاصات التأويل العميقة، وخاضوا في غَمَرَات المجاز والحقيقة، إذاًَ لعرفت حينئذ من الرجال حق الرجال، واستيقنت أنا وأنت أمثال ربَّات الحِجال، ولقُلت لمن تعرض منا للدقائق، وادعى معرفة الحقائق، ورسوخ القدم في تلك المضايق: أطرِقْ كَرا أطرق كَرا ... إن النَّعام بالقرى (¬1) فإن قلت: إن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأحاديث توهم الناس التشبيه، وذلك لا يجوز. قلت: الجواب من وجهين: ¬
أحدهما: على أصول السلف وأهل السنة، كما مرَّ في الوهم الخامس عشر في القاعدة الثالثة من كلام ابن تيمية. وثانيهما: على أُصول المتكلمين، فهو أن الناس على ضربين: منهم من يعرف العقيدة الصحيحة بالأدلة القاطعة، ومنهم من لا يعرف ذلك، فأمَّا الذي لا يعرفُ العقيدة الصحيحة، فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية توهمه ذلك كلها، ولا فرق في الإيهام، وأما من يعرف العقيدة الصحيحة، فإنه لا يتوهم من ذلك شيئاً، ولهذا فإن علماء العدل والتوحيد ما زالوا يقرؤون كتب الحديث، ولا يتوهمون التشبيه، ولا يعبِّرون بالظواهر، ولكن السامع لهذه الأحاديث يجد فرقاً بين سماع الحديث والآيات، وذلك الفرق ليس هو لأمرٍ يرجع إلى إمكان التأويل وتعذره، وإنما هو لوجهين: أحدهما: أنه قد تمرَّن على سماع الآيات وتلاوتها وإلفها واعتيادها (¬1)، وللإلف والعادة تأثيرٌ في عدم الاستنكار، ألا ترى أن الإنسان يستنكر من الخطيب في بلاد المعتزلة لو سمعه يخطب بخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أولها: " من يهده الله، فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ، فلا هادى له " (¬2). ولو أنه تلا آية من كتاب الله في هذا المعنى، لم يكن في الاستنكار بمنزلة الحديث، بل لو يسمع ¬
المسلم رجلاً يقول: لا إله إلاَّ الله، موسى رسول الله؛ لاستنكر ذلك لعدم العادة، وإن كان حقاً، وإن كان السامع من غير أهل العلم، ربما حكم على المسموع أنه يهودي، ولم يدر أن اليهودي لم يكن يهودياً بقوله: موسى رسول الله، وإنما كان يهودياً بجحد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. الأمر الثاني: وهو يختص من يعرف التأويل ويُصِحُّه، وهو أن الواحد منا قد سمع تأويل الآيات، ورسخ في ذهنه، فحين يسمعها (¬1) يتبادر تأويلها الذي يعرفه إلى الذهن، فلا تقع النكارة والحديث الذي لم يألف سماعه، ولم يعرف تأويله حين يطرق الأسماع غير معروف اللفظ، ولا محفوظ التأويل، بل يقشعر منه القلب، وينبو منه السمع، وليس ذلك لأمر يرجع إلى تعذُّر تأويله، لما ذكرته لك من عدم الاعتياد لسماعه، وعدم المعرفة لتأويله، ولو أن الإنسان لم يكن يعرف القرآن، ولا قد سمِعَه، وكان يعرف إعتقادات المتكلمين ويأْلَفُها، ثم سمع المتشابه من القرآن عندهم، وهو لا يدري أنه كلام الله تعالى، لوجد النكارة لِمَا سمعه، والوحشة مما تدل تلك الآيات عليه، والله سبحانه أعلم. وبعد، فقد روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قال الله عز وجل إذا تقرَّب عبدي مني شبراً، تقربت منه ذراعاً، فإذا تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، فإذا أتاني يمشي، أتيته هرولَةً "، وفي رواية: " وإذا أقبل إليَّ يمشي، أقبلت إليه أُهَرْوِلُ " (¬2). وروى مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله عزَّ وجلَّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْنِي، قال: يا رب، كيف أعودُك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مَرِضَ، فلم تعده؟ لو أنك عدته، ¬
كلام في الرؤية وحديث: "سترون ربكم"
لوجدتني عنده". إلى آخر الحديث، وما ورد فيه من ذكر الاستطعام (¬1). فهذا وأمثاله مما كان يعرف السامعون من المجازات النبوية. فإن قلت: كيف وردت السنة في ذلك بأكثر مما ورد به القرآن؟ قلت: مثل هذا السؤال لا يصدر عن عارفٍ، فإن القرآن مبنيٌّ على الإيجاز العظيم، وكل ما ورد فيه من الشرائع وغيرها، فهو في السنة أبسطُ غالباً، مثل الصلاة، وتفصيل شرائطها، ومفسداتها، وعدد ركعاتها، ومثل الزكاة وأنصبتها، وما يُعفى عنه فيها، وكذلك الصوم ولوازمه، والحج ومناسكه، وعذاب القبر، وأحوال البعث، وصفة الحساب، والصراط، والجنة، والنار، وغير ذلك. وهذا واضحٌ. ثم إن السيد أيده الله تعالى نظم حديث جريرٍ بن عبد الله البجلي، وهو الحديث الثالث في هذا النمط، ما كأن السيد قد قرأ كتاباً في علم المعاني والبيان، وقوله عليه السلام في حديث جرير: " سَتَرَوْنَ ربكم " (¬2) متواترٌ عند أهل الحديث، رَوَوْا فيه قدر ثمانين حديثاًً عن نيِّفٍ وثلاثين صحابياً. ممن ذكر ذلك النفيس العلوي في كتابه في الرؤية، وذكر أكثره ابن تيمية وابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح " (¬3). ومعناه عند المعتزلة صحيحٌ من غير تأويلٍ ولا تجوزٍ، فقد ذكر كثيرٌ من أئمة الاعتزال والشيعة ما يدلُّ على أنه محمولٌ على الحقيقة اللغوية، لم يخرج قط إلى المجازات المعنوية، وذلك لقولهم فيه: إن الرؤية بمعنى العلم، وذلك حقيقةٌ لغويةٌ فصيحةٌ قرآنيةٌ، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1]، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] في آيات كثيرة وهذا ما لا نزاع فيه، وذكر ذلك صاحب " ضياء الحلوم " (¬4)، وذكرهُ النُّحاة ¬
في أفعال القلوب المتعدية إلى مفعولين، وذكر ذلك (¬1) صاحب " الضياء "، وذكر الحديث وتفسيره وإنما يدخل التجوز (¬2) في تشبيه (¬3) العلم برؤية القمر، وذلك أجلى ما يكون من التجوز لإثبات حرف التشبيه، وهو مثل قولنا: زيدٌ شجاع كالأسد، وكرمه معروفٌ كالنهار، وأهل الحديث لا يجهلون هذا، ولا يخالفون في أن الرؤية لفظةٌ مشتركةٌ، وإنما احتجوا به على جواز الرؤية بالأبصار، لأن سِيَاق الحديث في السؤال عن رؤية الأبصار عندهم، والجواب لا يصح أن يكون أجنبياً عما وقع عنه السؤال، وهم يدعون الضرورة في هذا الموضع من جهة التواتر في النقل، ومن جهة القرائن في المعنى، والمعتزلة ينازعونهم في الموضعين معاً، فذلك محلُّ النزاع، لا صحة التأويل وإمكانه على ما مضى تقريره في الوهم السادس عشر. وأما لو تجردت ألفاظ الحديث عن تلك القرائن التي احتفت به، لم يمنع مميزٌ من إمكان تأويل الرؤية بالعلم في الوضع اللغوي، فاعرف (¬4) ذلك، فهو مثل كلام الشيعة في لفظة المولى في غدِيرِ خُمّ سواء. وأما توهم السيد أنه دالٌّ على التشبيه، ومانعٌ عن التأويل لما في من صفة القمر بالتمام والصَّحو مِنَ الغيم، فذلك جائز على القمر، وإنما الإشكال لورود ذلك في وصف الله تعالى، مثل أن يقول: سَتَرَوْنَ ربكم يوم القيامة متجلِّياًَ من غير حجابٍ، فلو ورد هكذا لأمكن أهل التأويل تأويله، مثل ما أمكنهم تأويل القرآن، حيث قال الله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّاً} [الأعراف: 43]، وحيث قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]. ¬
بحث في علم البلاغة
فإن قلت: إن تشبيه رؤية الله برؤية القمر يقتضي تشبيه الله تعالى بالقمر قطعاً. قلت: هذا ما لم يَقُلْ به مُوحِّدٌ ولا مشبِّهٌ ولا ظاهري ومُؤوِّلٌ، فإنه لو شبه الله تعالى بالقمر ما اقتضى ذلك، ولم يشبِّهه تعالى بالقمر البتة وإنَّما شبه رؤيته، التي هي العلم الضروري عند المعتزلة، برؤية القمر، وقد أجمع العقلاء -دع عنك العلماء- على أن الإنسان لو قال: كرم حاتمٍ معروفٌ كالنهار إذا تجلى، وعلم علي كالقمر إذا بدا، أنه لا يجب المماثلة المحققة (¬1) في جميع الصفاتِ بين كرم حاتم والنهار، وبين علم علي والقمر. يوضح ما ذكرته: أنه يجوز عند أهل العلم بلغة العرب أن يقول القائل: سترون كرم ربِّكم يوم القيامة كالقمر في الليلة الصحو، ليس دونه سحابٌ، وإن هذا الكلام لا يقتضي أن يكون كرم الله جسماً منيراً مستديراً على صورة القمر (¬2) كما فهم السيد من حديث جريرٍ أنه يقتضي ذلك في حق الله تعالى. والوجه فيما ذكرته أن المشهور عند علماء المعاني، وأهل اللغة أن تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون مثله في كل وصفٍ من صفاتها، وإنما يكون في بعضها، فقد يكون تشبيهاً بذلك الغير في إمكانه، مثل قوله: فإن تفُقِ الأنام وأنت منهم ... فإن المِسْكَ بعضُ دمِ الغزالِ (¬3) وقد يكون للاستطراف، كتشبيه فحمٍ فيه جمرٌ يتوقَّدُ ببحرٍ من المسك موجه الذهب. ومنه: ولا زَوَرْدِيَّةٍ تزهو بِزُرْقَتِها ... فوقَ الرِّياض على حُمْرِ اليَواقيت ¬
كأنها فوقَ قاماتٍ ضَعُفْنَ بها ... أوائل النار في أطراف كبريتِ (¬1) وقالوا: فلان كالأسد، وفلانٌ أسدٌ، لم يُريدوا في بشاعة وجهه، وكريه صورته، وفلانٌ كالبحر، لم يُريدوا في مُلوحَةِ مائِهِ، وكراهية رائحته. وقد يكون التشبيه للهيئة (¬2) مثل قوله: كأن مُثارَ النقع فوق رُؤوسنا ... وأسيافُنا ليلٌ تهاوى كواكبهْ (¬3) ومما يجري مجرى النصِّ في هذا الموضع بيت علماء المعاني المشهور (¬4): ¬
وكأنَّ النُّجوم بَيْنَ دُجاها ... سُننٌ لاح بينهن ابتداعُ فإنه شبَّه فيه السنن بالنُّجوم مع أن السنن ليست بأجسامٍ، والنجوم أجسامٌ، فدل على أن تشبيه ما ليس بجسمٍ بما (¬1) هو جسم حسنٌ في اللغة، فصيح في البلاغة. فلو أن الحديث ورد بتشبيه الله -تعالى عن الشبه- بالقمر على سبيل المجاز (¬2) عند أهل التأويل مما لا يتعذَّر تأويله، ثم لو نزل عن هذه المرتبة، فهو رد بتشبيه العلم بالله تعالى بالقمر، لكان عربياً فصيحاً، فكيف وقد نزل إلى مرتبة ثالثة، فورد عند الخصوم بتشبيه العلم بالله تعالى برؤية القمر، لا بالقمر، فهذا شيءٌ لا يستنكره عاقلٌ، فضلاً عن عالمٍ. وقد شاع التشبيه للاشتراك في بعض الأوصاف، ومِنْ طريفٍ ما رُوِيَ في هذا قولُ بعضهم، وقد وفد على رجُلٍ يُقال له قرواش، فاتهمه بأنه مُنتحلٌ لشعره، نقال: إن صدقت في أنك صاحب هذا الشعر، وناسجُ بُردَتِه، فامدحني واهجُ أصحابي هؤلاء، وكان له مغن يُقال له: البرقعيدي، ووزيرٌ يقال له: سُليمان بن فهدٍ، وحاجبٌ يقال له: أبو (¬3) جابر، فقال (¬4): ¬
وليلٍ كَوَجْهِ البرقعيدي مظلمٌ ... وبرد أغانيه وطول قرونِهِ سريتُ ونَومي فيه نوم مُشَرَّدٍ ... كعقلِ سُليمان بن فهدٍ ودينِهِ على أوْلَقٍ فيه اختباطٌ كأنه ... أبو جابرٍ في خَبْطِه وجُنُونِه إلى أن بدا ضوءُ (¬1) الصباح كأنه ... سنا وجهِ قرواشٍ وضوء جبينه ¬
ومن هذا القبيل بيتُ " المقامات " (¬1): تفترُّ عن لؤلؤٍ رطب وعن بَرَدٍ ... وَعَنْ أقاحٍ وعَنْ طلعٍ وعن حَبَبِ ومنه بيتُ الوأواء الدِّمشقي (¬2) الذي رواه الحريري (¬3)، وهو قوله: فأمطرت لُؤلؤاً من نرجسٍ فسقت ... وَرْداً وعَضَّت على العُنَّاب بالبَرَدِ ودع عنك الأشعار (¬4)، فقد ورد هذا في القرآن العظيم وروداً كثيراً، فمن ¬
ذلك قوله تعالى: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَاتٌ (¬1) صُفْرٌ} [المرسلات: 32 - 33]، فإنه لحم، يشبه الشرار بالجمالات في كِبَر أجسامها؛ لأنه قد شبَّهها بالقصر، وهو أكبر منها، وليس (¬2) يحسُن التشبيه بالشيء، ثم بما هو دونه عند علماء هذا الشأن، وإنما أراد أنها كالقصر في كِبَرٍ، وكالجمالات في التقاطر والتتابع في الرمي شررةً بعد شررةٍ من غير تخلُّلٍ بينهما، نعوذ بالله من عذابه. ومن أحسن ما اتفق لي في هذا المعنى أنه سألني بعض الإخوان عن قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاح ... } [النور: 35]. قال: كيف شبَّه الله نوره العظيم بنور المصباح مع قلته، ولم يُشبه بما هو أعظمُ منه من نور الشمس ونحوها مع أن نور الله أعظم من نور الشمس؟؛ لأن نور الشمس (¬3) لا ينتفع به إلاَّ أهل الأبصار، ونور الله الذي هو الهدى ينتفع به (¬4) أهل البصائر من أهل الأبصار وغيرهم؟ فطلبتُ وجه ذلك في " الكشاف "، فلم أجده، ولعله تركه لجلائه، فنظرتُ فيه فوقع لي -والله أعلم- أنه لم يرد التشبيه بنور المصباح في كثرته، إنما أراد التشبيه بذلك المصباح المختص بتلك الصفات في كثرة مواد إنارته، وترادُفِ مُوجباتِ إضاءته، فإنه بنفسه منيرٌ، ومكانه -وهو المشكاة- مما يقوِّي النور؛ لأن المشكاة تجمع النور في مكانٍ ضيِّقٍ فيكثُرُ، والزجاجة البيضاء النَّيِّرة كذلك، والزيت المخصوص الذي يكاد يضيء ولو لم تمسسه نارٌ، كل هذه مُقوِّيَّاتٌ ¬
لذلك النور، فكذلك نور الهُدى والعلم مستمد من موادٍ كثيرةٍ لكثرة أدلَّة الحق وتعاضُدها، وترادفها كترادُفِ موادِّ (¬1) الإنارة في ذلك المصباح، وقد نبَّه الله تعالى على هذا المعنى بقوله: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}. ثم وقفتُ بعد ذلك على تفسير ابن عباس للآية بأن المراد بها: مثل نور من آمن بالله، رواه الحاكم (¬2)، وقال صحيح الإسناد، فازداد الأمر وضوحاً، ولله الحمد، وهو تفسيرٌ صحيحٌ. وتلخيصه: أن الله شبَّه القدر الموهوب من هدايته للفرد من المؤمنين، ونور الهداية يُنْسَبُ إلى الله، لأنه واهبُه وخالقه، وإلى العبد، لأنه محلُّه والمنتفع به. ويوضِّحه أنه لا بُد من محذوف مُضْمَرٍ، لأن النور لا يُشَبه بالمشكاة، وأما (¬3) أن يكون محل النور وهو قلب المؤمن، وهو أولى بالنظر قبل الأثر، كيف بعد ما عضَّدَهُ الأثر؟ لأنه هو التشبيه -حقيقةً- بالمشكاة، ويُرادف مواد إنارتها، وقد يشبه الشيء بما هو دونه في أكثر الصفات، مثل تشبيه الوجه الحسن بالقمر، وكم بينهما في الحسن من درجاتٍ، ولو يكون الوجه الجميل مثلَ القمر في تدويره وطمس تصويره، ما كان له من الحسن نصيبٌ. ¬
وقد أصاب مِحَزَّ الإصابة في هذا المعنى أبو تمام، فإنه لمَّا مدح الواثق بقصيدته المعروفة التي قال فيها (¬1): في جُودِ حاتم في شجاعة عنترٍ ... في حِلْمِ أحنف في ذكاء إياسِ اعترضه بعض جُلساء الواثق، وقال: شبَّهت أمير المؤمنين بأجلاف العرب، فقال على البديهة: لا تُنْكِرُوا ضربي لَهُ من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس (¬2) فالله قد ضرب الأقلَّ لنُوره ... مثلاً من المِشكاة والمِقباس ومن أحسن ما يذكر في هذا النوع: تشبيه القمر عند تناهي نُقصانه بالعُرجون في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وكم بينهما في الفروق (¬3)، وأين (¬4) جوهر القمر العُلويِّ من عُود سَعَفٍ من (¬5) النَّخل مطروحٍ قد انحنى ويبَس واسودَّ من تقادُم الزمان، فحَسُنَ التشبيه به لما اشتركا في هيئة الانحناء والتَّقوُّس لا سوى. وقد يتوسَّعُ أهل الصَّنعة البديعة في هذا، ويُجاوزون هذا الحد إلى أمدٍ بعيدٍ. ¬
ومن كلام العلامة رحمه الله تعالى: واستحي من الله وقلبُك قلبُه، ولبُّك لبُّه، وكلُّك، فهو فاطره وربه أن تشتغل بمقة من شغل بمقته قلبه قلبك، وأن تعكف على مُوادَّةِ من عَكَفَ على محادثة لُبِّه لبّك. ونحو كلام الزمخشري هذا حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري وغيره: " من عادى لي وليّاً فقد آذنته بحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بأحبَّ ممَّا افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إلي بالنوافل حتَّى أُحبَّه، فإذا أحببتُه، كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويده التي يبطِشُ بها " الحديث (¬1) وهو أساس علم الصوفية. ومن ذلك قوله تعالى: {فأرسلنا إليها رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ} [مريم: 17]. قال الزمخشري (¬2): هو مثل قولك لحبيبك: يا روحى أو كما قال. وقد شبه البلغاءُ بما يتخيل مما لا وجود له البتة، قيل: ومن ذلك قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]، وقد تقدم. ومن مُستطرفِ هذا النَّوع قوله: وكأنَّ مُحْمَر الشَّقيـ ... ـقِ إذا تُصَوَّبَ أو تَصَعَّدْ أعلام ياقوتٍ نُشْرْ ... نَ على رِمَاحٍ من زَبَرْجَدْ (¬3) فإن أعلام الياقوت ورماح الزبرجد غير موجودةٍ، فإذا حَسُنَ تشبيه الموجود بما لا وجود له البتة، فكيف يلزم من التشبيه الاستواء بين المشبه والمشبه به؟ ومن مُستملحِ هذا النوع قول أبي نواس: ¬
كأن صُغرى وكُبرى من فَواقِعها ... حصباء دُرٍّ على أرضٍ من الذهبِ (¬1) ومن لطائف هذا النوع: قول أبي نواس أيضاً في وصف هرٍّ أبيض في أطرافه حُمرةٌ: عيونٌ من لُجَيْنٍ شاخصاتٍ (¬2) ... على أطرافها الذهبُ السبيكُ على قُضْبِ الزبرجد شاهِداتٍ ... بأن الله ليس له شريكُ وقد أذكر في الخوض في هذا قصةً طريفةً ذكرها ابن خلكان في " تاريخه " (¬3)، وذلك أن بعض الطلبة قرأ على أبي البقاء ابن يعيش (¬4): أيا ظبية الوَعْسَاءِ بين جُلاجلٍ ... وبين النَّقا آأنتِ أمْ أمُّ سالمِ (¬5) فقال الطالب: وكيف اشتبه ذلك عليه، والظبية لا تُشْبِهُ المرأة، فبيّن له أبو البقاء أن المراد: التشبيه في العُنُقِ والعينين، فلم يفهم، وأعاد السؤال عن وجه المشابهة بين المرأة والظبية، وقال: ما الذي المرأة فيه مثل الظبية، فقال أبو البقاء: في (¬6) قرونها وأظلافها. ¬
فانظر هذه الأشياء متأمّلاً لها بتدبُّرٍ وإنصافٍ، وضُمَّ (¬1) ذلك إلى النظر في ترشيح الاستعارة الذي قدمته، وما ورد فيه من المبالغة العظيمة، ثم اعرِضْ نفسك قول السيد أن تأويل حديث جريرٍ يقتضي التشبيه الصريح القبيح هو ومن تابعه على لفظه ومعناه، وهم نيِّفٌ وثلاثون صحابياً، ذكرهمُ النفيس العلوي في كتابه في " الرؤية "، وذكر أكثرهم ابن قيم الجوزية في أواخر كتابه " حادي الأرواح " (¬2)، ذكر منهم ستة وعشرين والرواة (¬3) عن كل واحدٍ منهم متفاوتون في الكثرة، وإنما بلغ المعتزلة حديث جرير مع إضرابهم عن علم الحديث؛ لأن رُواته كثروا أخيراً (¬4) حتَّى بلغوا سبع مئة نفسٍ، فظن كثيرٌ منهم أنه شذَّ بذلك من دون الصحابة، فاعجب مِن قوله: إن تأويل حديث جريرٍ متعذِّرٌ متعسف، وتصريحه بأن رواية المحدثين له (¬5) واحتجاجهم به يدل على ذهابهم إلى التشبيه، لما في الحديث من ذكر القمر وتدويره، أو كما قال السيد وإذا تقرر أن التشبيه لا يلزم أن يكون إلاَّ في بعض الوجوه؛ نظرنا في تشبيه العلم، أو الرؤية بالله تعالى برؤية القمر التام المتجلي: هل هو في الذات، أو في غيرها، فوجدنا العلم ذاتاً حقيقة، والرؤية ليست بذاتٍ على القول المنصور في علم الكلام، فلم يكن بينهما شَبَهٌ ذاتي البتة، فكذلك على القول بأن الإدراك معنى ثبوتي، لا يكون بينه وبين العلم مماثلةٌ أيضاً؛ لأن المعاني مختلفة في ذواتها، فكما أن العلم لا يُشبه السواد، ولا الحركة شبهاً ذاتياً يقتضي المماثلة، فكذلك لا يشبه الإدراك بالحواس الخمس شبهاً ذاتياً، وإذا سلمنا أنهما يشتبهان، فأين جلال الله تقدس وتعالى عن هذا؟ فإنما ورد الحديث بتشبيه علمنا به تعالى أو رؤيتنا برؤية القمر، فأين لزوم الشبيه والتجسيم للرؤيتين بعضها ببعض؟ لا يستلزم التشبيه للمرئيين قطعاً. ¬
حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام وكلام ابن تيمية فيه
الحديثُ الرابع: حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام (¬1). وقد ذكره السيد فيما يدلُّ على الجبر مما في الصحاح، وليس فيه من الجبر شيءٌ، كما سوف أُنبِّه عليه إن شاء الله، ولا ورد في " الصحاح " شيءٌ مما يقتضي الجبر وخَلْقَ أفعال العباد البتة، لا مما يمكن تأويله، ولا مما لا يمكن، فاعرف هذه الفائدة، وإنما ورد في " الصحاح " ذكر القَدَر والإيمان به لا سوى، وليس في ذلك شيءٌ من الجبر ولا من خلق الأفعال، لا على مذهب العدلية، ولا على من يُعتدُّ به من أهل الحديث وسائر الفرق. والجواب ما ذكره شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحنبلي في كتاب " الفرق بين الأحوال الربانية والأحوال الشيطانية " (¬2)، فإنه لما ذكر هذا الحديث، قال: وهذا الحديث ضلَّت فيه طائفتان: طائفة كذَّبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذَّمِّ والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر. وطائفة شرٌّ من هؤلاء، جعلوه حُجَّةً، وقد يقولون: القدَرُ حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، أو الذين لا يرون أن لهم فعلاً، ومن الناس من قال: إنما حجَّهُ لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعةٍ، واللوم في شريعةٍ أخرى، أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة. وكل هذا باطلٌ، ولكن وجه الحديث أن موسى عليه السلام، لم يلُم أباهُ إلا لأجل المُصيبة التي لَحِقَتْ أولاد آدم من أجل أكلِه الشجرة، فقال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلم يلُمْه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه، فإن موسى عليه السلام يعلم أن التائب من الذنب لا يُلام، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القَدَر، لم يقل: {ربَّنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23]. والمؤمن مأمورٌ بالصبر عند المصائب، والاستغفار من المعايب، قال اللهُ تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]. ¬
فالمؤمنون إذا أصابتهم مصيبةٌ مثل المرض والفقر والذُّلِّ، صبروا لحُكْمِ الله، وإن كان ذلك ذنب غيرهم، كمن أنفق أبوه ماله في المعاصي، فافتقر أولاده لذلك، فعليهم أن يصبِرُوا، وإذا لاموا الأب لحُظوظهم (¬1)، ذكر لهم القدر. والصبر واجبٌ (¬2) باتفاق العلماء، وأعلى من ذلك الرضا بحكم الله تعالى، وأعلى من ذلك أن يشكُرَ على المصيبة لِمَا يرى من إنعام الله عليه، حيث جعلها سبباً لتكفير خطاياه، ورفع درجاته، وإنابته إلى الله، وتضرُّعِه إليه، وإخلاصه في التوكل عليه، ورجاءه دون المخلوقين. وأما أهلُ البغي والضلال، فتجدهم يحتجُّون بالقدر إذا أذنبوا واتبعوا أهواءهم، ويُضِيفُون الحسنات إلى أنفسهم، كما قال بعضهم: أنت عند الطاعة قدريٌّ، وعند المعصية جبريٌّ، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به. وأهل الهدى والرشاد إذا فعلوا حسنةً، شهدوا إنعام الله عليهم، وأنه هو الذي جعلهم مسلمين، وجعلهم يقيمون الصلاة، وألهمهم التقوى، وأنه لا حول ولا قُوَّة إلاَّ به، فزال عنهم شهود القدر بالعُجْبِ والمَنِّ (¬3)، وإذا فعلوا سيئةً، استغفروا الله، وتابوا إليه منها. ففي " صحيح البخاري " عن شداد بن أوسٍ، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيِّد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلاَّ أنت " الحديث (¬4). وفي الحديث الصحيح عن أبي ذرٍّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربِّه: " يا عبادي، إني حرَّمْتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرماً " الحديث بطوله (¬5). ¬
وذكر العلامة الحافظ الكبير إسماعيل بن كثيرٍ الشافعي في كتابه " البداية والنهاية " (¬1) في الجزء الأول في ذكر آدم هذا الحديث، وأنه متواتر عن أبي هريرة، ورواه عن عمر من طريقين (¬2)، وعن أبي سعيد (¬3)، وعن جُندب بن عبد الله البجليِّ رواه أحمد (¬4)، وحديث عمر خرّجه أبو داود. وذكر في تأويله وجوهاً كثيرة، ثم قال (¬5): والتحقيق أن هذا الحديث رُوِيَ بألفاظٍ كثيرةٍ، بعضها مروي بالمعنى، وفيه نظرٌ، ومدارُ معظمها في " الصحيحين " وغيرهما. على أنه لامَهُ على إخراجه نفسه وذرِّيته من الجنة، لا على المعصية نفسها، فقال آدم: أنا لم أُخرجكم، وإنما أخرجكُمُ الذي رتَّب الإخراج على أكلي من الشجرة (¬6)، والذي رتَّب ذلك وقدَّره وكتبه قبل أن أُخلقَ هو الله عز وجل، فأنت تلومني على ذلك، وليس من فعلي، وأنا لم أخرجكم من الجنة ولا نفسي، وإنما كان هذا من قدرة الله تعالى وصنعته، وله الحكمة في ذلك (¬7)، فلهذا حج آدم موسى. ¬
ثم تمسُّك الجبرية بالحديث، فأجاب (¬1) عليهم بوجوهٍ ثلاثةٍ، قال في آخر الوجه الثالث: ولو كان القدر حجة، لاحتج به كل أحدٍ على الأمر الذي ارتكبه في الأمور الكبار والصغار، وهذا يُفضي إلى لوازم قطعية، فلهذا قال من قال من العلماء: بأن جواب آدم إنما كان احتجاجاً بالقدر على المصيبة، لا على المعصية، والله أعلم. انتهى. وفيه بيان ردهم على الجبرية وبراءتهم من ذلك. فإن قلت: هذا مسلَّمٌ في حق من تصِح بينهم المنازعة، وأن يلوم (¬2) بعضهم بعضاً، لكن من أين (¬3) أن ذلك يجوز على الأنبياء عليهم السلام؟. قلت: الجواب عن (¬4) هذا واضحٌ، فقد ورد القرآن بذلك، بل بأكثر منه، فقد أخبر الله تعالى عن موسى أنه أخذ برأس أخيه يجرُّه إليه، وذلك قبل أن يعلم بصدور ذنبٍ من أخيه عليه السلام، وقد حكى الله تعالى عن موسى والخَضِر عليهما السلام ما يرفع الإشكال، وكذلك حكى الله عن داود وسليمان عليهما السلام الاختلاف، حيث قال: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، بل حكى الله تعالى عن الملائكة الخصومة، وهي احتلافٌ وزيادةٌ، فقال: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (¬5) [ص: 69]، وجاء ذكر خصومتهم في الذي قتل مئة نفسٍ، ثم تاب، وهاجر من أرضٍ إلى أرضٍ، فأدركته الوفاة في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، حتَّى أرسل الله ملَكاً يحكم بينهم متفقٌ على صحته (¬6)، وكذلك حديث اختصامهم في الكفارات والدرجات. رواه الترمذي من حديث ابن عباسٍ (¬7). ¬
تنبيهات أوردها المؤلف حول حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام
وهذا لا يحتاج إليه مع نصِّ كتاب الله تعالى، بل قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، فأوجب الاختلاف لو قدر حالاً يصح من تعدُّد الآلهة كما دلَّت عليه الآيات الواردة في ذلك، فدل على لزوم الاختلاف في بعض الأمور لجميع المتعدِّدين بالأشخاص، فكيف يقطع بكذِب هذا الحديث مع ذلك كله؟ ويلحق بهذا تنبيهات: التنبيه الأول: أنه لم يقع من آدم وموسى عليه السلام ما ظاهره قبيحٌ على المذهب، فيجب تأويله، والذي ذكرته من الجواب بيانٌ لا تأويل (¬1) والفرقُ بينهما ظاهرٌ، وقد ورد في القرآن ما هو أعظم من هذا مما لا بد من تأويله، وذلك قوله تعالى في مُحَاجَّة نوحٍ وقومه، قال الله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 32 - 34]. وفي هذه الآية الكريمة أعظم مما في محاجة آدم وموسى التي في كتب الحديث، وذلك من وجوهٍ: أحدها: أن تلك المحاجة لم تكن في دار التَّكليف. وثانيها: أنه ليس فيها تصريحٌ بما يجب تأويله، وأما هذه، ففيها ما يجبُ تأويله، وذلك في موضعين: أحدهما في قوله: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَح} إلى آخره، فإن هذا يصلح حجة للكفار على الأنبياء عليهم السلام، لأن فيه تسليةً لهم بأنه لا يكون إلا ما شاء الله. ¬
معنى قوله تعالى: {إن كان يريد أن يغويكم}
وقد احتجوا بهذا في غير موضعٍ من القرآن، حيث قالوا: لو شاء اللهُ ما أشركنا، وقد رد الله تعالى هذه الشُّبهة عليهم بما لا مزيد عليه، فكيف احتج بها نوحٌ عليه السلام؟، وهي شبهتهم التي يعتمدون؟ الموضع الثاني: قوله عليه السلام في الآية: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فجوَّز ذلك على الله تعالى. وثالثها: أن كلام آدم عليه السلام مع من هو مثله ممن يعرف تأويل ما ظاهره لا يصح، وليس هو موضع تعليمٍ له، ونوحٌ عليه السلام في موضع التعليم لهم، وكلامه مع جَهَلَةِ (¬1) الكَفَرَةِ الذين ربما اعتقدوا ظاهر ما يقول. فإذا عرفت هذا، فاعرِضه على تعصُّبِ السيد على الحديث، حيثُ زعم أن قصة آدم عليه السلام وموسى مما تدل على الجبر، ومما لا يمكن تأويله، وزعم أنه ليس من القرآن ما يُقارب ما في الصحاح ولا ما يُدانيه، وأنه ليس في القرآن إلاَّ ما تأويله قريبٌ على مذهب المعتزلة. وبعد أن ذكرت (¬2) ما يقتضي خلاف كلام السيد، فلا يحسُنُ أن أورد الشبهة وأتركها بغير جوابٍ، فأقول: أما على مذهب (¬3) المعتزلة، فقال الزمخشري رحمه الله في تفسير الآية (¬4). فإن قلت: ما معنى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}؟ قلت: إذا عرف الله من الكافر الإصرار؛ فخلاَّه وشأنه، ولم يُلْجِئْهُ سُمي ذلك إغواء وإضلالاً، كما أنه إذا عرف منه أنه يتوب ويرعوي؛ فلطف به، سُمي إرشاداً وهدايةً، وقيل: أن يُغْوِيَكُمْ: [أن يهلككم]، من غَوِيَ الفصيل غَوَى: إذا ¬
لا يحل للعاصي أن يحتج بالقدر على معصيته
بشم، فهلك، ومعناه: أنكم من التصميم على الكفر بالمنزلة التي لا ينفعكم نصح الله ومواعظه، وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ انتهى كلامه رحمه الله. وقوله فيه: ولم يُلجئْهُ. إشارةٌ إلى مذهبه في أنه ليس في معلوم الله تعالى ولا في مقدوره لطفٌ لهم، وقد مرَّ بيان الصواب في ذلك، ومنه يعرفُ الجوابُ على مذهب أهل السنة في ذلك، ولله الحمد والمنة، وكلُّ أحدٍ يؤخذ من كلامه ويُتركُ إلاَّ أهل العصمة. نسأل الله التوفيق. ولكن ينبغي التنبيه على لطيفةٍ، وهي أن للداعي للهدى حالين: حال (¬1) تلطُّفٍ ودعاءٍ، فلا يحسُن فيها مثلُ هذا الكلام، وحال (1) غضبٍ وتهديدٍ ووعيدٍ، وفيها يحسُن هذا وأمثاله، وهذا مما كنتُ قدمت من اعتبار الجهتين، ألا تراهم حين استعجلوا (¬2) العذاب وطالبوه معجزين له، مظهرين أنه لو كان صادقاً، لأتى به، كيف يرتكِزُ في الذهن أن يتطلب من الكلام ما يُلقِمُهمُ الحجر، ويؤلم قلوبهم من الوعيد والتهديد، وهذا مثل قوله تعالى: {وما تُغني الآيات والنُّذُرُ عن قومٍ لا يؤمنون} [يونس: 101]، وقوله تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخَشِيَ الرحمن بالغيب} [يس: 11]، وباعتبار الجهتين. قال الله تعالى: {فلا تذهب نفسُك عليهم حسرات} [فاطر: 8]، ودعا عليه السلام على قريش بسنين كسِنيِّ يوسف (¬3)، ولو كانت الحال في الغض عليهم واحدة، ما خُوطِب بهذا الخطاب، والله سبحانه أعلم. التنبيه الثاني: أن حديث محاجة آدم وموسى مما تأوله أهل الحديث والأشعرية، ولم يقولوا بظاهره، فالأمة مجمعةٌ على إنه لا يحِلُّ للعاصي أن يحتج بالقدر، ومُجمعةٌ أيضاً على أن الحجة لله تعالى على عباده، والسيد لم يفهم ¬
هذا، بل أورد الحديث في معرض التُّهمة لهم أنهم كذَّبوه لموافقة مذهبهم، وليس كذلك، فليطالع تأويلهم في شروح الحديث، وفي كلام إمام أهل السنة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحنبلي ما لفظه: ومن ظن أن القدر حجة لأهل الذنوب، فهو من جنس المشركين الذين قال الله عنهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 118]، قال الله عنهم (¬1): {كذلك كَذَّبَ الذين من قبلهم}، إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 149] ولو كان القدر حجةً، لم يُعذِّب الله المكذبين للرسل. إلى آخر كلامه. ذكره في كتاب " الفرق بين الأحوال " (¬2). التنبيه الثالث: ذكر السيد في الحديث رواية منكرة، وهي قوله: وخلقه في قبل أن يخلُقَنى بألفي عامٍ، والصحاح بريئة (¬3) من هذه الرواية، وليس في الصحاح حديث في خلق الأفعال البتة. وقد أوهم السيد أنها في الصحاح، فليرجِعْ عن ذلك، ولعلَّه -أيده الله تعالي- التقطها من بعض الكتب المشتملة على الغثِّ والسمين، والصِّحاحُ مصُونةٌ عن مثل هذه الرواية. فإن كان السيدُ ما فرَّق بين هذه الرواية وبين ألفاظ الصحاح، ونَظَمَها في سِلْكٍ واحد، فهذا عجيبٌ من مثله، وكم بين الألفاظ من التفاوت، وهل مثلُ هذا - يخفى على من له أدنى تمييزٍ؟ وكيف يتصوَّرُ في عقل عاقلٍ أن الله خلق المعصية في آدم قبل أن يخلقه بألفي عام، وكيف تُوجَدُ المعصية فيه (¬4) وهو في العدم؟، وأين هذا من رواية أهل الصحاح التي قدمت الكلام فيها، فبين الروايتين بونٌ، ومثل هذه الرواية الأخيرة مما يُقطع على أن الرسول عليه السلام ¬
الكلام على حديث لطم موسى لملك الموت عليهما السلام
ما قالها، لأنها صريح المُحال المعلوم إحالته بضرورة العقل، بحيثُ لا يجوزُ أن يذهب إلى ذلك أحدٌ من غُلاة الجبرية، والذي كذبها إما قليل العقل، وإما قليل الحياء، فليتيقَّن السيد الفرق بينها وبين دواوين الإسلام. نعم، في " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: " أن الله قدَّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة " (¬1). هذا لفظ الحديث، وليس فيه أن الله خلق المعاصي في العُصاة قبل أن يخلق العصاة، ومن لم يميِّزْ بين العبارتين؛ فليس من العقلاء البتة. الحديث الخامس: حديثُ موسى عليه السلام مع مَلَكِ الموت عليه السلام (¬2) وقد جعله السيدُ من الأحاديث التي لا يمكن تأويلها، لِمَا ورد فيه من لطمِ موسى لملك الموت عليهما السلام حين جاء يقبض روحه الشريفة. وعن هذا الحديث جوابان: معارَضَةٌ، وتحقيقٌ. أما المعارضة: فإنه قد ورد في القرآن العظيم أن موسى أخذ برأسِ أخيه يجرُّه إليه، وذلك من غير ذنبٍ عَلِمَهُ من أخيه عليه السلام، ولا دفع مضرَّةٍ خافها على نفسه، وأخوه هارون نبي كريم بنصِّ القرآن وإجماع أهل (¬3) الإسلام، ولا شك أن حرمة الأنبياء مثل حرمة الملائكة، لأن من استخفَّ بنبيٍّ كفر. وقد بطش موسى عليه السلام بأخيه بطشاً شديداً، ولهذا قال هارونُ عليه السلام يتلطَّف لموسى ويستعطفه: ابن أُمِّ لا تأخُذْ بلحيتي، ولا برأسي، ولا تُشْمِتْ بيَ الأعداء. فإن قلت: إنما فعل ذلك، لأنه ظن أنه هارون رضيَ بما فعل قومه من عبادة العجل. ¬
قلت: هذا العذر أقبح من المعتذر عنه، فالجرُّ برأسه عليه السلام أهون من الظن فيه أنه رضي بالعجل شريكاً في الرُّبوبية لرب العز: جل جلاله. الجواب الثاني: وهو التحقيق، وهو يشتمل على وجهين أيضاً: الوجه الأول -وهو المعتمد-: أنه يجوز أن يكون الملك أتاه في صورة رجل من البشر، ولم يعرف أنه مَلَكٌ، مثل ما أتى جبريل عليه السلام إلى مريم، فتمثَّلَ لها بشراً سوياً، ولهذا قالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} [مريم: 18]، ولو علِمَتْ أنه جبريل عليه السلام، لما استعاذت بالله منه، وقد صحَّ تصور الملائكة على صُورة (¬1) البشر، وتواتر ذلك في الكتاب والسنة، فلما أتى ملَكُ الموت إلى موسى على هذه الصفة، وأراد أن يقتله، دفع موسى عن نفسه، وهذا الجوابُ وقع في خاطري، ثم وقفت عليه في الأول من " البداية والنهاية " (¬2) لابن كثير منسوباً إلى الحافظ ابن حبَّان، وذكر أنه ورد عليه كما جاء جبريل عليه السلام في صورة الأعرابي، وكما وردت الملائكة على إبراهيم ولوط ولم يعرِفُاهم، قال: وكونه فقأ عينه موافقٌ لشريعتنا في جواز فَقْء عينِ مَنْ نظر إليك في دارك بغير إذنٍ، ثم قال ابن كثيرٍ: إنه لم يتحقق أنه مَلَكٌ؛ لأنه كان يرجو أموراً كثيرةً كان يحبُّ وقوعها في حياته من خروجهم من التِّيه، ودخولهم الأرض المقدسة. وقال في ذكر نبوَّة يُوشع (¬3): وقد ذكروا في السفر الثالث من التوراة أن الله تعالى أمر موسى وهارون أن يعدَّا بني إسرائيل على أسباطهم، وأن يجعلا على كل سبطٍ أميراً، ليتأهَّبُوا للقتال، قتال الجبارين عند الخروج من التِّيه، وكان هذا عدَ اقتراب انقضاء أربعين سنة، ولهذا قال بعضهم: إنما فقأ موسى عين الملك، لأنه لم يعرِفْهُ، ولأنه قد كان أُمرَ بأمرٍ كان يُرجى وقوعه في زمانه. ¬
قلت: وذكر خلافاً في موته عليه السلام في التِّيه أو بعده، وصحح أنه كان في التِّيه، وعزاه إلى (¬1) جمهور المسلمين وإلى أهل الكتاب. فإن قلت: أليس في الحديث أن ملك الموت لما رجع إلى الله، قال: يا رب أرسلتني إلى عبدٍ لا يريد الموت، وهذا يدل على أنه قد أخبره أنه ملكُ الموت، وأنه قد جاء لقبضه، وأن موسى عليه السلام قد عرفه. والجواب: أن هذا لا يدل على معرفة موسى لملك الموت، ويدل على ذلك أنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى " لا يقبض نبياً حتَّى يخيره "، وفي حديث: " حتى يريه مقعده من الجنة ويخيره " (¬2)، فلما جاء ملك الموت لقبض روحه عليه السلام من غير تخييرٍ، وعنده لا يُقبض حتى يُخَيَّرَ، لم يعلم أنه ملك الموت، وشك في ذلك، وظن أن هذا رجلٌ يدعي عليه أنه ملك الموت بغير دليلٍ، فقد ذكر العلماء: أن الأنبياء لا يجوز لهم تصديق الملك في دعواه أنه مَلَكٌ إلاَّ بدليل من مُعجزٍ يظهره، أو علمٍ ضروري يضطره إلى ذلك. والذي يدلُّ على هذا أنه جاء في الحديث بعينه أنه ملك الموت لما رجع إليه عليه السلام، وخيَّره بين الحياة والموت، اختار الموت واستسلم، وهذا وجهٌ حَسَنٌ في الجواب لا سبيل إلى القطع ببطلانه. ومع احتماله يرتفع الإشكال في القطع بتكذيب الرواة والمجازفة بجرح الثقات. الوجة الثاني: أن نقول: سلَّمنا أنه جاءه على صفةٍ يعرف معها أنه ملكُ الموت، ولكن المانع أن يكون موسى فعل ذلك وقد تغيَّر عقله، فإن تلك الحال مَظِنَّةٌ لتغيُّر العقول، فقد خرَّ موسى صعقاً من اندكاك الطور، فكيف بهولِ ¬
المطلع؟ فإنه عند العلماء بجلال الله أعظم من اندكاك جبلٍ، وهذا الاحتمال أيضاً يمكن فيه حالان: أحدهما: أن يكون الملك أتاه وقد تغير عقله من غمرات الألم، وسكرات النزاع (¬1). وثانيهما: أن يكون إنما تغيَّر عقله حين فاجأه على غفلةٍ وصرَّح له بالنُّقلة من دار العمل والخروج إلى دار الجزاء. وأما ما ورد من أنه فقأ عين الملك عليه السلام، فقال ابن قتيبة (¬2): أذهب موسى العين التي هي تخييلٌ وتمثيلٌ، وليست على حقيقة خِلْقَتِه، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان (¬3) لم يُنقص (¬4) منه شيء. وذكر ابن كثير في الأول من " البداية والنهاية " (¬5) في ذكر وفاة موسى عن أحمد بن حنبل أنه قال (¬6): [حدثنا الحسن]، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا أبو يونس يعني سليم بن جُبير، عن أبي هريرة. قال أحمد: لم يرفعه، وساق الحديث أن الله ردَّ عين المَلَكِ ثم رواه أحمد من طريق أخرى، فقال (¬7): حدثنا يونس، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا رفعه يونس بنحو ذلك، ورواه مع يونس أمية بن خالدٍ، فلم يرفعه، ولا (¬8) ذكر أن الله رد عينه، وإسنادهما إلى أبي هريرة واحدٌ. قال أحمد: رواه عنهما معاً عن حماد بالسند، وقد وافق يونس على رفعه أبو كريب، عن مصعب بن المقدام. رواه ابن جرير (¬9). ¬
حديث خروج أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم
وذكره الهيثمي في " أخبار الأنبياء " (¬1)، وقال في المرفوع: رجاله رجال الصحيح. قال ابن كثير: تفرَّد به أحمد، ثم قال: وقد رواه ابن حبان في " صحيحه " (¬2) من طريق معمر عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. قلت: وقول ابن كثير تفرد به أحمد يعني بذلك السند والسياق لا بجملة الحديث. و" ردُّ الله عين الملك " في " جامع الأصول " (¬3) منسوب إلى البخاري ومسلم، والوجه في الحديث عندي هو الأول، وإنما ذكرت هذا الوجه الثاني لمجرد الاحتمال. الحديث السادس: حديثُ خروجُ أهل التوحيد من النار والشفاعة لهم، وقد نظمه السيدُ في سلك هذه الأحاديث، وهو أهون منها حُكماً، وأسهلُ تأويلاً، وأنا أذكر ثلاث فوائد: فائدة في مُناقضته، وفائدةً في حكمه، وفائدة في تأويله. أمَّا الفائدة الأولى: فاعلم أن السيد ذكر في تفسيره ما يدلُّ على أن هذه المسألة حسنةٌ غير قبيحةٍ، معروفةٌ غير منكرةٍ، وذلك في غير موضعٍ، منها في تفسير قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86 - 87]، فإنه فسَّر العهد بتفسيرين لم يضعِّفْ واحداً منهما: الأول (¬4): الإيمان والعمل الصالح، والثاني: قول لا إله إلا الله، وإنما يكون قولاً ثانياً من غير العمل الصالح، وقوى هذا التأويل بروايته لحديث العهد الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيه عملٌ، ولم يتأوله، ولا ¬
ضعَّفه (¬1) مع قوته في سياق الآية، لأنها في المجرمين المسُوقين إلى النار، والتي قبلها في المتقين الأخيار، ولذلك ذكر في قوله {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} أنه ردٌّ لقول عُبَّاد الملائكة من المشركين الذين يزعمون أنها تشفع لهم. وكذلك صنع في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]. قال في أحد التفسيرين: التقدير: ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة لأحدٍ إلاَّ لمن (¬2) شَهِدَ بالحق، وهو التوحيد، وهو قول لا إله إلاَّ الله. انتهى بحروفه. وكذلك روى الخلاف بغير إنكارٍ في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِه} [فاطر: 32] الآية، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مقتَصِدُنا ناجٍ، وظالِمُنا مغفورٌ له " (¬3). والعجب منه أنه حكى قول من يُجيز الشفاعة لأهل الكبائر مفسِّرَاً بذلك لكلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في هذه الآيات الثلاث، وقرَّره (¬4) ولم يحكِ في هذه الآية ما حكى (¬5) عن بعض أهل البيت عليهم السلام من أنها خاصةٌ بهم، مع إظهاره التشيُّع. وكذلك قال بعد إجازته هذا التفسير للشيخ إسماعيل بن أحمد في نُسخته ¬
ما لفظه: كتبه الفقير إلى رحمة ربه، أسيرُ ذنبه، الراجي رحمته لا حُسْنَ كسبه، وهو باق إلى الآن بخطِّ يده في نسخة الشيخ، وهو شاهدٌ بذلك. وكذلك ختم الزمخشري " كشافه " (¬1) بنحو هذا الدعاء، وذلك دليلٌ على أن الرجاء هو الفطرة، إذا غَفَلُوا من العصبية، نطقوا بها. وأما الفائدة الثانية: فاعلم أن المخالف في هذه المسألة، وإن كان مخالفاً لمذهب (¬2) كثيرٍ من العترة عليهم السلام، فإنه عندهم دون المخالف فيما تقدم من الأحاديث، فقد صح اختلاف الملائكة في الذي قتل مئةً، ثم تاب، فدل على نجاة الفريقين، وأن أهل الرجاء على الحق، وحكم المخالف عند الوعيدية في هذه المسألة مثل حكم المعتزلة عند الزيدية سواءٌ؛ لأنه لا يكفر بذلك، ولا يفسُق، وقد ذكرت فيما تقدم نصَّ القاضي شرف الدين على ذلك في " تذكرته "، وكذلك الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى ". وذكر الفقيه العلامة حُمَيْدُ بن أحمد المحلِّي في كتابه " عمدة المسترشدين في أصول الدين " أن القائلين بالشفاعة لأهل الكبائر والخروج من النار صنفان: عدليَّةٌ وغير عدليَّةٍ. قال: ويقال: إن أول من أحدث ذلك (¬3) الحسن بن محمد بن الحنفية، وذكر للعدلية القائلين بذلك مذاهب أربعة، ذكر هذا في فصلٍ عقدَهُ في ذكر المُرجئة، وذكر في كتابه " محاسن الأزهار " شيئاً من أحاديث الرجاء، ولم يتأوَّلْهُ، من ذلك ما ذكره في شرح قول المنصور بالله عليه السلام من نجلِ السبطين: بيّن لنا، وقال في آخر كلامه في " عمدة المسترشدين ": وكل الفِرَقِ أو أكثرها تميل إلى الإرجاء إلاَّ الزيدية. قلت: سوف يأتي أيضاً أن في الزيدية من يقول بخروج أهل التوحيد من النار (¬4). ¬
كلام في الإرجاء والاعتزال
أما لفظُ الإرجاء، ففي إطلاقه على أهل هذه المقالة وهمٌ فاحشٌ، وقد مرَّ تحقيقه في الوهم الثامن والعشرين. وقال الفقيه حُميدٌ عند ذكر المعتزلة، وقد كان يذهب بعض متقدِّميهم إلى المنع من خُلُود الفُسَّاق في النار، وذكر الحاكم في " شرح العيون " مثل كلامِ حُميدٍ إلاَّ اليسير منه، ولعلَّه نقل عنه، ذكره في فصلٍ عقده في ذكر المرجئة، ونسب الإرجاء إلى جِلَّةٍ وافرةٍ من أكابر المعتزلة، ذكره في طبقاتهم عند الكلام على تراجمهم، حتى نسب إلى زيد بن علي مخالفة المعتزلة في المنزلة بين المنزلتين، ذكره في ترجمةٍ لزيدٍ مختصرةٍ بعد ترجمته البسيطة، رواه عن صاحب " المصابيح "، وكذلك لم ينقِم أحدٌ من أهل السنة على زيد بن علي المخالفة في شيءٍ من الاعتقاد، ويعضُدُه ما رواه القاضي شرف الدين حسن بن محمدٍ النحوي في " تذكرته " عن زيد بن علي عليه السلام أنه يقول بالصلاة على أهلِ الكبائر من أهل الملة، وهو عنه أوثق راوٍ، وأعرف حاكٍ، بل روى الإمام (¬1) المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام، عن زيد بن عليٍّ عليه السلام (¬2) أنه يذهبُ إلى الرجاء لأهل التوحيد كقول أهل السنة. رواه لي حفيده السيد صلاح الدين عبد الله بن الهادي ابن أمير المؤمنين. وقال الحاكم في فصلِ عقده فيما أجمع عليه أهل التوحيد والعدل: إن اسم الاعتزال صار في العرف لمن ينفي التشبيه والجَبْر، سواءٌ (¬3) وافق في الوعيد أو خالف، وافق في مسألة الإمامة أو خالف، وكذا في فروع الكلام (¬4)، ولذا تجدُ الخلاف بين الشيخين والبصرية والبغدادية تزيد على الخلاف بينهم وبين سائر المخالفين، ولذا تراهم يعدُّون من نفى الرؤية، وقال بحدوث القرآن ومسائل العدل (¬5) معتزلياً، وإن خالف في الوعيد، ككثيرٍ من مشايخنا، منهم ¬
الصالحي، ومنهم (¬1) الخالدي (¬2) وغيرهما. ولذلك ترى من خالف في هذه الأصول لا يُعَدُّ منهم، وإن قال بالوعيد كالنَّجاريَّة والخوارج وغيرهم، وللقاضي العلامة عبد الله بن حسن -رحمه الله- كلامٌ مستوفى في هذا، قال في " تعليق الخلاصة ": الإرجاء شائعٌ في جميع فِرَقِ الإسلام، حتى قال في المرجئة: وهم صنفان: عدليةٌ، وجبريَّةٌ، فمن أهل العدل: أبو القاسم البُستي (¬3) وغيره من المعتزلة، منهم: محمد بن شبيب، وغيلان الدمشقي رأس المعتزلة، ومُوَيْسُ بن عمران، وأبو شمر (¬4)، وصالح قبَّة، والرقاشي، واسمه الفضل بن عيسى، والصالحي، واسمه صالح بن عمر، والخالدي، وغيرهم زاد الشهرستاني (¬5) مع هؤلاء بشر (¬6) بن غياث المريسي، والعتابي. انتهى. قال القاضي في تعليقه: ومن الفقهاء القائلين بالعدل سعيد بن جبيرٍ التابعي، وحماد بن [أبي] سليمان، وأبو حنيفة وأصحابه، وهؤلاء مُجمِعُون على أن الفُسَّاق من أهل القِبْلَةِ لا يُقطَعُ بخلودهم في النار،، منهم من قال: آيُ الوعيد متعارضةٌ فنقف، وهذا مرويٌّ عن جماعةٍ، منهم أبو حنيفة، ومنهم من تردَّد في دُخولهم النار، وقطع على خروجهم إن دخلوا، ومنهم من قطع بدخولهم، وتردد في خروجهم، ومنهم من جوَّز الدخول وعدمه، والخروج وعدمه (¬7) وهذا هو مذهب أبي القاسم البستي، وكان من أصحاب المؤيد بالله عليه السلام من الزيدية. انتهى كلامه في " التعليق ". وكان يقول: نحن في الحقيقة مرجئةٌ؛ لأنَّا نطمع أن يدخلنا الله في رحمته، ¬
بعض من نسب إلى الإرجاء من رجال " الصحيحين " وغيرهما
وكان حي السيد العلامة داود بن يحيى يميل إلى هذا القول وينصُره، ويحتج له. وأخبرني من أثِقُ به أنه سمعه يقول: تتبعتُ آيات القرآن، أو قال: آيات الوعيد، فوجدتها محتملةٌ أو متعارضة، وذهب إلى هذا من أئمة الزيدية الدعاة يحيى بن المحسن المعروف بالإمام الداعي، ذهب إلى هذا، واعترض عليه به، ورواه عنه حي السيد صلاح الدين بن الجلال رحمه الله. وكان حي الفقية العلامة علي بن عبد الله -رحمه الله- يذهبُ إلى هذا، سمعته منه، وأملى عليَّ الدليل فيه، وعلَّقتُه عنه. وحدثني من أثق به عن الفقيه محمد بن الحسن السودي نفع الله به أنه يرى هذا، وسمعتُ بمثله عن حي الفقيه العالم يحيى التِّهامي رحمه الله. وحدثني الفقيه علي بن عبد الله بمثل هذا عن بعض (¬1) علماء الزيدية الأكابر ممن كان قبله، ولكني لم أحفظِ اسمه (¬2)، فهو كما قال القاضي -رحمه الله- مذهب شائع في جميع فِرَقِ الإسلام. وفي رجال " الصحيحين " وغيرهما جماعةٌ وافرةٌ ممن احتج بهم أهلُ الصحيح من المرجئة الخُلَّص. فأما الرجاء فلم يختلف فيه أئمة الحديث (¬3). فمِمَّن نُسِبَ من أهل الحديث إليه الإرجاء من ثقاة الرواة: ذرُّ بنُ عبد الله الهَمْدَاني التابعي أبو عمر الكوفي، حديثه في كتب الجماعة كلهم. قال أحمد: هو أول من تكلم في الإرجاء. وأيوب بن عائِذٍ الطائي، حديثه عند البخاري ومسلم والترمذي. ¬
وسالم بن عجلان الأفطس، في " البخاري "، و" أبي داود "، و" النسائي "، و" ابن ماجه "، وكان داعيةً إليه. وشبابة بن سَوَّار أبو عمرو المدائني، وكان داعيةً إليه، وقيل: إنه رجع. وعبد الحميد بن عبد الرحمن أبو يحيى الحماني الكوفي، حديثه عند البخاري ومسلم، وابن ماجه، وكان داعيةً إليه. وعثمانُ بن غِيَاث الرَّاسبي البصري في " البخاري "، و" مسلم "، و" أبي داود "، و" النسائي ". وعمر بن ذرٍّ الهمداني الكوفي من كبار الزُّهاد والحُفَّاظ. كان رأساً في الإرجاء حديثه في " البخاري " و" مسلم ". وعمرو بن مرة الجُمَلِيُّ، أحد الأثبات، من صغار التابعين. حديثه عند الجماعة. وإبراهيم بن طهمان الخراساني، أحد الأئمة، حديثه عندهم، وقيل: رجع. ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير، أثبت أصحاب الأعمش، حديثه عندهم. وورقاء بن (¬1) عمر الكوفي، اليشكُري (¬2). وكذلك يحيى بن صالحٍ الوُحاظيُّ الحمصي. وعبد العزيز بن أبي روّاد الحمصي استشهد به البخاري، وروى عنه الأربعة. ¬
فهؤلاء ثلاثة عشر من رجال البخاري، ذكرهم ابنُ حجر في " مقدمة شرح البخاري "، والذهبي في " الميزان "، فكيف إذا تتبعَ سائر الرواة من الكتب الستة وغيرهم، فلقد ذكر الذهبي في ترجمة هشام بن حسان من " الميزان " (¬1) عن هُدبةَ بن خالدٍ أحد رجال البخاري ومسلمٍ أنه يقول عن شعبة الإمام: إنه يرى الإرجاء، بل (¬2) ذكر في ترجمة الفضل بن دُكين (¬3) عن ابن معين أن الفضل إذا قال في رجلٍ: كان مرجئاً، فاعلم أنه صاحب سُنَّةٍ لا بأس به، وإذا (¬4) أثنى على رجلٍ أنه جيد (¬5) فهو شيعيُّ. قال الذهبي: هذا القول من يحيى يدل على أنه كان مائلاً إلى الإرجاء، وهو خيرٌ من القدر بكثيرٍ. قلت: ويحتمل أن يحيى يعني أن الفضل يُسمي الرجاء إرجاءاً، تحامُلاً على أهل السنة، أو اعتقاداً منه، وعدم معرفة للفرق بينهما، بل هذا الاحتمال أقوى، وإلا لَزِمَ أن يكون ابن معين يعتقد أن الإرجاء مذهب أهل السنة كلهم، وهذا باطل. وأما أول من تكلم في الإرجاء، فقيل: ذرُّ بن عبد الله كما تقدم عن أحمد، وقيل: الحسن بن محمد بن الحنفية كما في " الملل والنِّحل " (¬6)، و" تهذيب " المِزِّيِّ (¬7)، وغيرهما. وفي " البخاري "، و" مسلم "، عن ابنِ مسعودٍ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمةً، وقلتُ كلمةً، أو: وقلتُ الثانية. قال: " من مات يُشرِكُ بالله، دخل النار "، وقلت: من مات لا يشرك بالله دخل الجنة (¬8). وهو الحديث السابع عشر بعد المثة من مسنده من " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وهذا يقتضي بظاهره مذهب المرجئة، لأنه قَطَعَ به، ولم يقفه على المشيئة، والله أعلم. ¬
وفي " الملل والنحل " (¬1) للشهرستاني في ذكر تسمية المرجئة على ما نقل. الحسنُ بنُ محمد بن عليٍّ بن أبي طالبٍ، وسعيدُ بن جُبير، وطَلْقُ بن حبيبٍ، وعمرو (¬2) بن مرة، ومُحاربُ بن دِثَارٍ، ومُقَاتلُ بنُ سليمان، وذرٌّ، وعمر بن ذر، وحمادُ بنُ [أبي] سليمان، وأبو حنيفة، وأبو يُوسف، ومحمدُ بنُ الحسن، وقديد بن جعفر. وأصحاب مذاهب (¬3) فِرَق المرجئة يونس النميري، وعُبيد المكتب، وغسَّان الكوفي، وأبو أيوب، وأبو معاذ التُّومَني، وصالح بن عُمر (¬4) الصالحي، يُنسب إليهم فرقُ المرجئة اليونُسيَّة والعُبيدية، والغسانية، والثوبانية، والثُّومنية والصالحية. وفي " الجامع الكافي في مذهب الزيدية " عن محمد بن منصور في القول (¬5) من مات على كبيرةٍ أنه قال: والمؤمن المُذنب لله سبحانه فيه المشيئة: إن غفر له فبِفَضْلِ، وإن عَذَّب فبِعَدْلٍ. قلت: وهذا يمنعُ في تفسير المؤمن بمن لا يستحق العقوبة. وقال في مسألةٍ بعد هذا في خُروج أهل التوحيد من النار، وقد سُئِلَ في ذلك: هذا مما تنازع العلماء فيه، وفي الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو مما يسعنا أن نردَّ علمَه إلى الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. وحكى عن الحسن بن يحيى عليه السلام قريباً من هذا، وهذا منهما توقُّفٌ يستلزم التجويز. ¬
وفي كتاب " علوم آل محمد "، ويعرف أيضاً " بأمالي أحمد بن عيسى " تأليف محمد بن منصور من حديث عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قرأ في دُبُرِ كل صلاةٍ مكتوبة مئة مرةٍ قل هو الله أحد، جاز على الصِّراط يوم القيامة وهو مُطَّلِعٌ في النار، من رأى فيها، دخلها بذنبٍ غير شِرْكٍ، أخرجه فأدخله الجنَّة " رواه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عُمر بن علي عليه السلام، عن علي به (¬1) رواه في باب ما يُقال بعد الصلاة (¬2). فهذا كتاب الزيدية المعتَمَد قديماً وحديثاًً، وتقريرهم هذه الرواية، عن عليٍّ عليه السلام وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُنافي ما عليه جماعة المتكلمين من تنزيه أهل البيت عليهم السلام عن هذا على سبيل القطع، وتضليلِ من قال به، أو رواه عن أحدٍ منهم، لا سيَّما وسندُه عن أهل البيت عن آبائهم ما فيه (¬3) إلا محمد بن منصور، ومحمد بن راشد من ثقاتِ الشيعة كلاهما. ومما يُوضِّحُ مخالفة أهل البيت للمعتزلة في مسألة الوعيد أن النَّقَلَةَ لمذهبهم في الفروع اتفقوا على أن الإسلام عند أهل البيت وكثيرٍ منهم شرط في وجوب الواجبات الشرعية، كالصلاة والزكاة والحج والصوم، ونقلوا عنهم صحة الصلاة من الفاسق صاحب الكبيرة إذا كان من أهل الشهادتين المصدقين بالله ورسُله، وهذا يستلزم الحكم بأنه مسلمٌ، والمعتزلة تمنع من إطلاق اسم المؤمن (¬4) على صاحب الكبيرة. يُوَضِّحُ ذلك أنهم عليهم السلام لم يوجبوا على من فعل كبيرةً إعادة الحجِّ، وأوجبوا إعادته على من ارتدَّ من الإسلام، والحجة ¬
على وُجوب الإعادة على المرتدِّ القطع بأنه قد حَبِطَ عمله، إذ لا نصٌّ شرعي فيه، فتأمَّل ذلك. فإن قلت: أليس من خالف إجماع العترة فَسَقَ؟ قلت: ليس لك في هذا حجةٌ لوجوه: الأول: عدم تسليم الإجماع ومستند المنع ما ذكره المنصور بالله من امتناع الحُكم بذلك، ويُوضِّحُه ما ذكره ابن حزم في " جمهرة النسب " من ذكر عُلمائهم وأئمتهم الذين (¬1) لم يسمع بهم قط، وما ذكره أهل التواريخ والطبقات من ذلك، وما تقدم من نقل الخلاف عن مشاهير أئمتهم وكتبهم. الوجه الثاني: أن الإجماع الذي يحتج به هنا لا يكون إلاَّ القطعي دون الظني، ولم يحصُل الظني، كيف القطعي؟ ولكن أين من يعرف شروط القطعِ ويعتبرها بإنصاف؟ الثالث: أن الخصوم من المتكلمين (¬2) من الزيدية لا يلتزمون هذا قطعاً، فقد أجمع أهل البيت عليهم السلام أو أهل عصر منهم (¬3) على أن المعتزلة غيرُ فُسَّاقٍ، مع أنهم قد خالفوا إجماع أهل البيت عليهمُ السلام في بعض مسائلِ الإمامة، وفي التقديم (¬4)، وفي جواز الخلافة في قُريش، وفي أن من سبق بالعقد من سائر بطون قريشٍ انعقدت إمامته، فلو دعا بعده (¬5) أحدٌ من أهل البيت، وحاربه، كان القائم عندهم باغياً فاسقاً، يجب (¬6) حربُه، ويجوز قتله، وإن كان أكبر أئمة الزيدية. هذا مذهبُ المعتزلة بغير شكٍّ، فمع هذا لم يفسِّقْهُم أهلُ البيت عليهم السلام، وقد ذكر غير واحدٍ منهم (¬7) من عُلماء الزيدية في الفروق ¬
بين إجماع الأمَّة وإجماع (¬1) العترة أن مُخالِفَ إجماع الأمة يُفَسَّقٌ، ومخالف إجماع العترة لا يفسق، والوجه في ذلك أنه لم يَرِدْ في مخالفة العترة وعيدٌ في القرآن كما ورد ذلك في حق الأمة. وأما الوعيد الوارد في الأحاديث، فأُحاديُّ، لا يجب التفسيق به، مع (¬2) أن التفسيق بمجرد (¬3) الوعيد مختَلَفٌ فيه، وقد توعّد الله على كل صغيرٍ وكبيرٍ (¬4) في قوله تعالى: {ومن يعمل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهْ} [الزلزلة: 8]. وقد أوضحتُ في كتاب " إيثار الحق على الخلق " (¬5) فائدتين لم أذكرهما هنا. إحداهما: بيان أنه لا يمكن أن يكون مذهب (¬6) الوعيدية هنا أحوط، لأن محل الاحتياط العمل (¬7). وأما الاعتقاد، فلا يمكن إلاَّ اعتقاد الحق في القطعيات، وترجيح الراجح في المظنونات (¬8) إلى سائر ما ذكرت في ذلك من الوجوه المفيدة العديدة. وثانيتهما: أن المختلفين في هذه المسألة على خيرٍ إن شاء الله تعالى ولا كُفِّرَ في أحد القولين إلاَّ من رد ما تواتر من الرجاء والشفاعة بعد تواتره على جهة العِنَادِ، أو جوَّزَ الخُلْفَ على الله تعالى به (¬9) في الوعد بالخير، أو بلغ حد القنوط المحرم بالإجماع، أو دخل في قوله تعالى: " أنا حيث ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء " (¬10). وبهذا يُجاب (¬11) على من تمثَّل بقول القائل من الوعيد: ¬
إن صحَّ قولُكما، فليس بضائِري ... أو صحَّ قولي، فالوَبَالُ عَلَيكُما (¬1) والله سبحانه وتعالى أعلم وفي المسألة مباحث كثيرة تركتها اختصاراً. وأما الفائدة الثالثة: وهي أن الخبر ليس بما يستحيلُ تأويلُه، فالأمر في إمكان التأويل واضحٌ، ولله الحمد. والعجبُ من السيد كيف ألحق هذه الأحاديث بذلك الفنِّ الأول، فليس بينهما مقارنةٌ. وبيان ذلك أن تلك الأحاديث المتقدِّمة تعلق بالكلام في ذاتِ الله تعالى وصفاته التي لا يجوز فيها التَّغيُّر والنسخ، وهذه الأحاديث تعلق بأفعاله، والتغيُّر والنسخ جائزٌ فيها. وقد ادعى السيد أن هذه الأحاديث تُناقِضُ قوله تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار: 16] فلنتكلم في فصلين: أحدهما: في بيان أنها لا تناقض ذلك ولا غيره من عمومات القرآن. وثانيهما في ذكر وجهٍ من وجوهِ التأويل التي يمكن حملها عليه. أما الفصل الأول: فاعلم أن قول السيد إنها تناقض قوله تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} غير صحيح، ولعله -أيده الله تعالى- لا يخفى عليه أن العموم والخصوص لا يتناقضان على القطع في نفس الأمر، بحيث يُقطع بكذبِ أحدهما، وأما الظاهر منهما، فإن وردا فيما لا يصحُّ فيه النسخ، لم يتعارضا، وبنى العموم على الخصوص باطناً وظاهراً، وإن وردا فيما يصح النسخ فيه، لم يتعارضا باطناً، وأما ظاهراً، فإن عَلِمَ المتأخِّر، فلا معارضة بينهما في الباطن ولا في الظاهر، وإن لم يعلم التاريخ، فلا معارضة في الباطن قطعاً، بل يعلم أن ¬
أحدهما إما خاص، وإما ناسخ، ولا سبيل إلى تكذيب الراوي، ولا وجهَ لتعذُّر التأويل، وإنما اختلف العلماء في الظاهر من أجل العمل فقط، لا من أجل تعذُّرِ التأويل ولا التناقض في نفس الأمر، فقال الجمهور: إن الظاهر أيضاً لا يتعارض بل يبني العام على الخاص. قال الشيخ أبو الحسين: وهو الذي عليه علماء الأمصار، ولهذا عملوا بذلك في قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ} [الطلاق: 4]، مع قوله تعالى في المطلقات على العموم: إن عدَّتَهُنَّ ثلاثة قُرُوء، وأمثالُ ذلك كثير، فأين التناقض من هذا المُوجب للقطع بتكذيب الراوي وجرحه؟ هذا لم يقل به أحدٌ من الأولين ولا من الآخرين، وما كان السيد يعرف القرآن العظيم. أين هو من قوله تعالى في {يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، مع قوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، مع أنه قد كان نفى الخُلَّةَ في يوم القيامة، فكان يلزم السيد أن هذا متناقضٌ متكاذب، وكذلك قد كان نفى الشفاعة في تلك الآية، ثم أثبتها في آياتٍ كثيرةٍ من القرآن، مثل قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، أي: الشفاعة له كما يأتي بيانه، وذلك مثل قوله تعالى: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقوله في المجرمين المَسُوقين إلى النار: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87]. وقد أجمعت الأمة والعترة على ثبوت الشفاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن اختلفوا لمن هي، فلم يكن ذلك متناقضاً مُتكاذِباً. والقرآن مشحونٌ من العموم والخصوص، حتى قال بعض العلماء: جميع ما في القرآن من العموم مخصوصٌ إلاَّ قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، فلو كان التخصيص تكذيباً للعموم ونقضاً له، لكان القرآن أو أكثرُه منقُوضاً مُتكاذِباً، تعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً. وإذ قد بلغ السيدُ إلى هذه الغاية في إنكار الجليَّات، فلنذكرِ الدَّليل على
أن ذلك ليس يتناقض، وإلا فقد كنتُ أتوهم أن أحداً من المميِّزين لا يحوج إلى ذكر ذلك. فأقول: الدليلُ على أن الخصوص لا يُناقِضُ العموم وجهان: أحدهما: معارضة وهي (¬1) أن وجود العُموم والخصوص في كتاب الله تعالي معلومٌ بالإجماع، بل بالضرورة، وهو مصُونٌ عن التناقض، والخصم معارضٌ بعمومات الوعد بالمغفرة على بعض الأعمال كما سيأتي. وجوابنا في الوعيد مثل جوابه في الوعد سواءٌ (¬2) ألا ترى إلى قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ} [النساء: 124]، و [طه: 112]، [والأنبياء: 94]، في ثلاث آيات والقول في الصدقة وحدها: {إن تُقْرِضُوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم} [التغابن: 17]، وبقوله: {ومن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]، و [التغابن: 16]، وأمثال ذلك كثيرٌ كما سيأتي. وثانيهما: على طريق التحقيق، وذلك أن العموم في اللغة العربية قد يطلق ويُرادُ به بعض ما يتناوله، وقد كثُرَ في لغة العريب كثرة عظيمة، حتَّى قال بعض العلماء: إن العموم مشترك، وإنه يُطْلَقُ على البعض حقيقةً من غير تجوُّزٍ، وإلى ذلك ذهب السيد المرتضى وغيره. وقد خرَّج أهلُ الصحيح حديث هلال بن أمية الذي قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " البينة أو حدٌّ في ظهرك " غير مرةٍ، وهو يقول: والذي بعثك بالحق نبياً، إني لصادقٌ، وليُنْزِلَنَّ الله في أمري ما يُبَرِّىءُ ظهري، فنزلت آيةُ اللِّعان. رواه البخاري والترمذي من حديث ابن عباس (¬3)، ورواه ¬
النسائي (¬1) من حديث أنس، وفيه أنَّ هلالاً قطع بتخصيصِ العموم لمجرَّد حُسْنِ الظن بالله، ولم ينُكِر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سائر الأحاديث في سبب نزول آية الِّلعان أنهم جَوَّزُوا تخصيص عُموم الحدِّ، وسألوا عن التخصيص قبل نزوله كما في حديث ابن مسعودٍ عند مسلمٍ، وأبي داود (¬2) وحديث لابن عباس آخر عند البخاري ومسلم والنسائي (¬3)، وهم أهل اللغة، ما أنكر ذلك منكرٌ، وأقرَّهم عليه - صلى الله عليه وسلم -، فكيف ينكر التخصيص بعد وقوعه من الله ورسوله، وقد منع بعضهم ذلك في الأخبار دُون الأمر والنهي، ويأتي الجواب عليه قريباً. ونزيد هنا بيان وقوع ما منعه في القرآن العزيز، ولا شك أن الوقوع فرعُ الصحة، ومثال ذلك في القرآن قوله تعالى في الريح التي أصابت قوم عادٍ في " الذاريات ": {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم} [الذاريات: 41 - 42]، وقال في " الحاقة ": {فهل ترى لهم من باقيةٍ} [الحاقة: 8]، بل قال في " الأحقاف ": {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25]، وكلُّهنَّ مَكِّيَّاتٌ، مع أنها ما دمَّرت إلاَّ قوم عادٍ، ولم تدمِّر السماوات والأرضين والجنة والنار والعرش والكرسي والملائكة والجن والإنس والطير والبحَارَ، وما فيها (¬4) من المخلوقات وما لا نعلمه من خلق الله تعالى، بل قد دلَّ كتاب الله على أنها ما دمَّرت مساكن قوم عادٍ، لقوله في " الأحقاف ": {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]، وهي من أحسن الأدلة على جواز تخصيص العموم، حتى الأدلة المنفصلة عنه، لأنها منفصلة عن العُموم الذي في ذلك في سورة الذاريات، كما تقدم. ¬
واذا نظرتَ، لم نَجِدْ لقوم عادٍ حكماً يستحقُّ (¬1) الذكر إلى ما ذكرته لولا التَّوسُّع العظيم في المجاز، وإطلاق أهل اللسان العموم العظيم على أقلِّ أجزائه، فإن لفظ الشيء أعمُّ ما يكون، حتى إنه يدخل فيه المعدوم عند البهاشمة من المعتزلة، وقد أطلَقهُ على قوم عادٍ، وأدخل عليه لفظ " كل " المؤكِّد للعموم والشُّمول والاستغراق، وهو حجةٌ وتخصيص العموم المؤكد، كقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِين} [الحجر: 59 - 60]، وهو في سورة القمر غير مخصوص قال فيها: {إلاَّ آل لوطٍ نجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر: 34]، ولم يخص امرأته في هذه الآية، ولا في هذه السورة، وهي مكيةٌ، واستثنى في " الحجر "، و" النحل "، وهما مكيتان أيضاً، ولما تقدم الآن في قَسَمِ هلال بن أمية: ليُنزلن الله ما يبرِّىءُ ظهري (¬2) من الحد مع تأكيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعموم إيجاب الحدِّ عليه، وقوله له (¬3) غير مرَّة: " البينة أو حدٌّ في ظهرك "، فما منع ذلك التخصيص ولا تجويزه ولا ظنه قبل وقوعه (¬4). وقد نزل قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] في نُعيم بن مسعودٍ الأشجعي، جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خرج بعد أُحدٍ إلى حمراء الأسد، فقال: إن الناس قد جَمَعُوا لكم. أراد أبا سفيان وأصحابه (¬5). فأطلق الله الناس على العموم، والمراد به واحدٌ. وكذا قوله تعالى: {وأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شيءٍ} [النمل: 23]، فإذا نظرت في جميع ما ذكرتُه آنفاً مما يدخل تحت كل شيءٍ، ونظرت كم أُوتيت بِلقيس من ذلك لم تُجد له بالنسبة بالنظر إلى ما لم يؤت منه سائر السماوات والملائكة والجنة، وما لا يُحصى كثرةً، وهذا المعنى باقٍ في اللُّغة إلى يومنا هذا بقولِ ¬
القائل: أحسنَ الأميرُ إلى الناس، وعدل الخليفة في الخلق، وأمَّنَ الإمامُ السُّبُلَ، وكل ذلك للعُموم، ولا يُطْلَقُ على الثلاثة مع التعريف بالألف واللاَّم إلاَّ مجازاً. وقال الشيخ أحمد بن محمدٍ الرصاص في كتابه " الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ الزيدية في الموضع الثاني من الفصل الثالث في أقسام الخصوص ما لفظه: وقد منع بعضهم من جواز تخصيص الأخبار، وهذا لا وجه له، لأن الحكيمَ سبحانه قادرٌ على الخِطَاب الذي يقيِّد بظاهره العموم، ولا يريد به العموم، والحكمةُ واللغةُ لا تمنع من ذلك مع القرينة فجاز كالأمر والنهي، وقد قال الله تعالى: {وأُوتِيَتْ من كُلِّ شَيْءٍ}، وهو عمومٌ مخصوصٌ، وقال: {ومن يعص الله ورسوله} [النساء: 14]، وقد خصَّ من عمومه التائب وصاحب الصغيرة. انتهى بحروفه. وأما قوله في الموضع الرابع في وقت بيان الخطاب من الفصل الثاني في الكلام من المجمل والمُبَيَّنَ أن ذلك يُؤدِّي إلى الإغراء بالقبيح، ويدفعُ المكلَّفَ إلى الجهل، وقدِ اعترض عليه بأن الجزمَ في موضع الظنِّ خطأٌ وقع من المكلَّف باختياره القبيح، ولا ملجىء له إليه، فإنه يكفيه اعتقادات ظاهر ذلك (¬1) العموم حقيقة، لا مجازاً، ما لم يرد مخصِّصٌ مع اعتقاده أيضاً، لاحتمالِ التخصيص كما هو مقتضى اللغة التي نزل عليها القرآن، ذكر معنى ذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدواري في تعليقه على " الجوهرة "، وليس هذا لفظه. وقولهم: لا يجوز التعبد بالظن في الاعتقاد مجرَّد دعوى وسيأتي بطلانها ومضى قريباً شيء (¬2) منه، وأطراف العُموم تعرِّفُ العُموم (¬3) والخصوص، وأنهما غير متناقضين، فلو قال الإمام لبعض جُنده: خذِ العُشْرَ من الرعية، وأمره أن ¬
ذكر شيء من وجوه التأويل التي يمكن حمل أحاديث الوعد والوعيد وآياتهما عند ظهور الاختلاف
يُعْفِيَ جماعة مخصوصين منهم، ولا يأخذ منهم شيئاً، ما اعتقد أن كلامه (¬1) متناقضٌ ولا جَهِلَ أنه أراد بالرعية من عدا أولئك المخصوصين، وهذا معلومٌ للمميِّز من الصبيان الذين لم يبلُغُوا الحُلُمَ، فلا نطوِّل بذكره، فلولا كثرة التعنُّتِ والتَّسرُّع إلى تكذيب رُواة الآثار النبوية، لما ذكر هذا، ولا خَفِيَ مثله، والله أعلم. وقد يخصُّ (¬2) بالعموم بالقرينة، وهو كثيرٌ، خصوصاً في كلام أهل التفسير، ولذلك قال موسى عليه السلام في سورة القصص: {ربِّ إني قتلتُ منهم نفساً فأخاف أن يقتلون} [القصص: 33]، بعد أن قال الله سبحانه له: {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} [القصص: 31]، وذلك أنه عليه السلام فَهِمَ من قرينة الحال، وسبب الآية أنه من الآمنين مما خاف منه بخصوصه، حيث رأى العصا تهتز كأنها جانٌّ، ولو فهِمَ العموم في الدنيا والآخرة من كل شيءٍ (¬3) ما خاف القتل من قوم (¬4) فرعون. الفصل الثاني: في ذكر شيءٍ من وجوه التأويل التي يمكِنُ حمل أحاديث الوعد والوعيد وآياتهما عند ظهور الاختلاف، فمن ذلك أنه لا مانع من القول بأن بعض تلك الأحاديث ناسخٌ وبعضها منسوخٌ، وكذلك الآيات الكريمة، وهذا التأويل مشهور الصحة في كُتُبِ الأصول الفقهيَّة، وفي كتب الأحاديث الصحيحة القويَّة، وفي شُرُوح الأحاديثِ النبوية. أما كتبُ الأصول الفقهية، فممَّن نص عليه واختاره واحتج عليه على ما يأتي فيه (¬5) من التفصيل: الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان عليه السلام في كتابه " صفوة الاختيار "، وحكاه عن الشيخ أبي عبد الله والقاضي وجماعةٍ من الفقهاء، واختار عليه السلام جواز ذلك إلاَّ فيما لا يجوز أن يتغير ¬
فيه (¬1) المخبَرُ عنه كما يجب ثبوته لله تعالى وما يجب نفيه عنه، وحكى هذا التفصيل عن شيخه، وعن أبي الحسين البصري، وطوَّل في ذكر الحجة عليه، وخُلاصتُها أنه ليس فيه شيءٌ مما توهَّمه من منع ذلك من الكَذِبِ الذي لا يجوزُ على الله تعالى، وإنما مرجِعُه إلى الخبر عن الشيء بما هو عليه قبل تغيره وبعد. وذكر هذا السيد الإمام الناطق بالحق أبو طالب في كتابه " المجزىء في أصول الفقه "، واختاره، واحتج عليه بمثل حجة الإمام المنصور، ورواه عن شيخه أبي عبد الله البصري، وكذلك اختار ما اختاراه من هذا التفصيل الإمامُ المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام، ذكره (¬2) في كتابه " المعيار ". وأما شهرة ذلك في كتب الحديث وشروحه، فإنه يظهر لك بما نذكره الآن (¬3) إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أن ابن شهابٍ الزهري ذكر في " الصحيحين " وغيرهما بعد رواية حديث عُتبان بن مالك الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله حرَّم النار على من قال: لا إله إلاَّ الله، يبتغي بذلك وجْهَ الله ". قال الزهري: ثم نزلت بعد ذلك فرائض وأمورٌ نُرَى أن الأمر انتهى إليها، فمن استطاع أن لا يغتَرَّ فلا يغترَّ (¬4). وقد تُعُقِّبَ على الزهري هذا التأويل بأن الحديث مدنيٌّ غير مُؤَرَّخٍ، ومع ذلك يمتنع الحكم عليه بما ذكر. وسيأتي بطرقه إن شاء الله تعالى. ¬
وإنما القصد هنا شهرة ذكر (¬1) النسخ فيما يُعارِضُ في ظاهره من هذا القبيل قديماً وحديثاًً، حتى في " البخاري " و" مسلم " مع شهرتهما، واشتغال المعترض بقراءتهما، فكيف ينسُب ما فيهما مع مروره على مثل هذه إلى المعارضة المُوجِبَة للعلم بتعمُّد الرواة للكذب؟ ومن ذلك ما رواه ابن بطَّال في " شرح البخاري " عن العلامة محمد بن جرير الطبري من اختيار مثل قول ابن شهاب الزهري، لكن الذي ذكراه هو تجويزٌ عقليٌّ على جهة الزَّجر عن المعاصي، وليس فيه دِلالةٌ صحيحةٌ، فأما الزجر عن المعاصي، فيكفي فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُون} [المعارج: 27 - 28]. وما أجمع العُقلاء عليه من جهل السوابق والخواتم، وذلك الأمرُ هو الذي قطع ظهور العارفين (¬2) وأسهر عيون العابدين، وقَلْقَلَ قلوب الصالحين، وأمرَّ حُلْوَ الشهوات على المتقين. وأما الصَّدعُ بالحق في رجاء الراحمين، والطمع في رحمة خير الغافرين، فيقتضي أن المنسوخ هو الشديد والتعسير والتقنيط والتنفير، لا ما ورد الأمر به من التبشير (¬3)، وما صحَّ، بل تواتر، من التبشير (¬4) الذي يقتضي الجمع بين (¬5) الخوف والرجاء ولا يقتضي الأمان والإرجاء. وقد قال النووي في " شرح صحيح مسلم " (¬6) في باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة. إلى أن قال (¬7): وأما ما حكاه -يعني القاضي عياضاً- عن ابن المسيِّب وغيره، فضعيفٌ، بل باطلٌ، وذلك لأن راوي أحد ¬
هذه الأحاديث أبو هريرة، وهو متأخِّرُ الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبعٍ بالاتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرَّةً، وكانت الصلاة والزكاة وغيرها من الأحكام، وقد تقرَّر فرضها، وكذلك الحجُّ على قول من قال: فُرِضَ سنة خمسٍ أو ستٍّ، وهما (¬1) أرجح من قول من قال: سنة تسعٍ، والله أعلم. انتهى كلام النووي. وعندي على هذا حجةٌ قاطعةٌ: وهي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم أتقى لله وأعلم وأعقل من أن يرووا هذه الأحاديث بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين وقد عَلِمُوا نسخها، ثم لا يُنَبِّهُون على ذلك، ولا يُمكن حملهم على الجهل بالنسخ، وكذلك يجب أن ينقل الناسخ وينص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِقُبْحِ تأخير البيان عن وقت الحاجة ويفهم بيان ذلك (¬2) كما بيَّن ما هو أسهل منه من نسخ نهيه عن زيارة القبور (¬3)، ونحو ذلك. ونحن نشير إلى نبذةٍ من ذلك نُنَبِّهُ المتأمِّل على أمثالها، والله يحبُّ الإنصاف. فمن ذلك ما ثبت في " الصحيحين " من حديث قتادة عن أنسٍ أنه لما نزل أوَّل سورة الفتح قال رجل: هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بيَّن الله لنا ما يفعل بك، فما يفعل بنا؟ فأنزل الله عز وجل: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5]، رواه مسلم من غير طريق في " المغازي "، ورواه ¬
البخاري في المغازي أيضاً، والترمذي في " التفسير "، وقال: حسن صحيح (¬1). كذا قال المزي في " الأطراف " (¬2). قلت: هو اللفظ للبخاري، ورواه ابن عبد البر من طريق معمر عن قتادة بزياداتٍ، وقد روى الواحديُّ (¬3) في سورة الفتح عن عطاء، عن ابن عباس أن اليهود لما نزلت: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُم} [الأحقاف: 9]، سبُّوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قالوا: كيف نتبع رجلاً لا يدري ما يُفْعَلُ به؟ واشتد ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} [الفتح: 1 - 2]، فهذا من آخر ما نزل فإن هذا كان في الحُديبية، وهي سنة ستٍّ من الهجرة في ذي القعدة، وعزاه ابن الأثير في " الجامع " (¬4) إلى البخاري ومسلم في تفسير سورة الفتح. ومن ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى الحنفيُّ في " مسنده " (¬5) عن ابن عُمَرَ بن الخطاب أنه قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتَّى سمعنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48 و116]، قال: -يعني- النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنِّي ادَّخَرْتُ دعوتي شفاعةً (¬6) لأهل الكبائر من أمتي ". فأمسكنا عن كثيرٍ مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا. قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬7) في التفسير: رواه أبو يعلى برجال الصحيح. ¬
قلت: وفي المجلد الثامن في أبواب التوبة والاستغفار من هذا الكتاب أن ابن عمر روى من طُرُقٍ أحدها: رواه البزار وإسناده جيَّدٌ (¬1). وفي باب المذنبين من الموحِّدين (¬2)، رواه الطبراني من طريق أبي عصمة (¬3). ورواه أيضاً في معجميه " الكبير " و" الأوسط " من طريق عمر بن المغيرة (¬4). وبقيتهم رجال الصحيح (¬5). وسند آخر من طريق عمر بن يزيد السَّيَّاري، عن مسلم بن خالدٍ الزَّنجيِّ، وبقيتهم رجال الصحيح (¬6)، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬7): إنه لم يعرف عمر بن يزيد السياري (¬8)، وهو معروفٌ، ذكره الذهبي في كتابه " ميزان الإعتدال في نقد الرجال " (¬9) للتمييز بينه وبين عمر بن يزيد الرَّفَّاء راوي حديثٍ موضوعٍ، وقال في السياري هذا: إنه بصري أدرك عبَّاد بن العوَّام، وعبد الوارث، روى عنه أبو داود وبقيُّ بن مَخلد وعبدان، ووثَّقه صاعقةُ. ومسلم بن خالد (¬10) الزنجي المكِّيُّ الفقيه من رجال أبي داود وابن ماجة، ¬
مختلفٌ فيه، وممن وثَّقه ابن معين، وكان شيخ الشافعي، وكان فقيهاً عابداً، يصوم الدهر. فهذه خمسة أسانيد. وله شاهدٌ عن ابن مسعودٍ من طريق أبي رجاءٍ الكلبيِّ، لم يعرفه الهيثمي (¬1). هذا مع العلم الضروري أن هذه الآية الشريفة: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] متأخرة، فإنها في النساء بالضرورة، و" النساء " مدنيةٌ وفاقاً. وهذه الآية كافيةٌ في المقصود كما سيأتي في الكلام على معناها والرد على من أوَّلها، وإنما القصد هنا ذكر الحجة بالنظر إلى التاريخ المتأخِّر، لا سوى، ولكن هذه الأحاديث زادت ذلك بياناً، ولا شكَّ أن السنة النبوية مشتملةٌ على بيان كتاب الله، لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ للنَّاس ما نُزِّلَ إليهم} [النحل: 44]، وليس في كتاب الله من الصلاة إلاَّ الأمرُ بإقامتها، وجاءت السنة النبوية بأعدادها وفرائضها وشرائطها وأوقاتها، وتحريمها على الحائض حتى ينقطِعَ دمها وتطهر، وتحريمها على الجُنُب والمُحْدِثِ حتى يتطهَّرَ الطُّهْرَ المشروع، وكذلك فسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة والصوم والحج ونِصَابَ السرقة، وقيَّد إطلاق الله في المواريث، فاستثنى الكافر والعبد وقاتل العمد ونحو ذلك (¬2)، والأمَّةُ مقرَّةٌ لتفسيره، حتى جاءت المبتدعة إلى الوعد والوعيد، فعزلوا الرسول عن تفسيره وتفصيله، وخالفوا في ذلك المعقول والمنقول كما يتضح لك إن شاء الله تعالى. ¬
ومن ذلك ما جاء في حديث رجم ماعزٍ في حدِّ الزِّنى، وهي متأخرةٌ بعد نزول الحدود، وفيها أنه نهى عن الاستغفار له في الابتداء، ثم استغفر له، وأمر بالاستغفار له، وهي أحاديث صحيحةٌ شهيرةٌ (¬1). فإن قيل: إنما استغفر له على ظاهر التوبة. قلنا: لو كان كذلك، لم يَنْهَ عن ذلك في الابتداء، بل أراد التشديد، ثم أمر بخلافه، والله أعلم. وكذلك قد ورد القرآن بالأمر بالأذى للزاني، ثم نهى عن ذلك بعد نزولِ الحدود، فقال في الأمر بحدِّ الأمة: " لا يعيِّرُوها، ولا يُثَرِّب عليها " متفق عليه (¬2). وكذلك نهى عن سبِّ شارب الخمر بعد نزول الحدود، وقال: " لا تُعينوا الشيطان على أخيكم، أما إنه يحبُّ الله ورسوله ". رواه البخاري (¬3). ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]. وعن أبي الدرداء، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس وجلسنا حوله، فأراد أن يقوم، ترك نعليه، أو بعض ما يكونُ عليه، وأنه قام وترك نعليه، فأخذتُ رَكْوَةً من ماءٍ فاتَّبعتُه، فرجع ولم يقض حاجته، فقلت: يارسول الله، ألم تكن لك حاجةٌ؟ قال: " بلى (¬4)، ولكن أتاني آتٍ من ربِّي، فقال: {مَنْ يَعْمَلْ سوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ¬
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رَحِيماً}، وقد كانت شقَّت عليَّ الآية التي قبلها: {مَنْ يعمل سوءاً يُجْزَ به} [النساء: 123]، فأردت أن أُبَشِّرَ أصحابي. قلت: يا رسول الله: وإن زنى وإن سرق، ثم يستغفرُ الله غفرَ لَهُ؟ قال: " نعم "، ثمَّ ثلَّثتُ، قال: " على رغمِ أنفِ أبي الدرداء ". قال الراوي: رأيتُ أبا الدرداء يضرب أنفه بأصبعه. رواه الطبراني (¬1)، قال الهيثمي (¬2): وفيه مبشِّرُ بن إسماعيل، وثّقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري، وهذا وهمٌ من الهيثمي، فإن البخاري ما ضعَّفه، بل روى عنه، بل هو من رجال الجماعة كلِّهم. قال الحافظ ابن حجر في مقدمة " شرح البخاري " (¬3): هو من طبقة وكيع. قال ابن سعدٍ: كان ثقةً مأموناً، وقال النسائي: لا بأس به. قال الحافظ ابن حجر مع سعة اطِّلاعه وتقدُّمه في هذا الفنِّ على الهيثمي ما لفظه: وذكره صاحب " الميزان " (¬4) فقال: تُكُلِّمَ فيه بلا حجة، قال: ولم يذكر من تكلَّم فيه، ولم أر فيه كلاماً لأحدٍ من أئمة الجرح والتعديل، لكن قال ابن ¬
قانعٍ في " الوفيات ": إنه ضعيفٌ، وابن قانع ليس بمعتمدٍ، وليس له في البخاري سوى حديثٍ واحدٍ عن الأوزاعي في كتاب التهجُّد بمتابعة عبد الله بن المُبارك، وروى له الباقون. انتهى. ولعل رواية البخاري عنه مقروناً هو سبب وهم الهيثمي، وليس فيه حجةٌ على تضعيفه، إذ يمكن أنه لو لم يُتابَعْ، لخرَّج عنه وحده كسائرِ الجماعة (¬1). ولأبي الدرداء نحو هذا في تفسير قوله في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان} [الرحمن: 46]، ورجاله رجال الصحيح (¬2). لكن سورة الرحمن مكية، فلم نحتج به، وإنما احتجاجنا هنا لكونه ورد بعد قوله تعالى: {من يعمل سوءاً يَجْزَ به}، وهي مدنيةٌ من سورة النساء، وقد كانت شقّت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبشَّر أصحابه بنزول هذه بعدها، وذلك واضحٌ في أنه آخر الأمرين على القول بالنسخ دون التأويل والله سبحانه أعلم. وفي الحديث دليلٌ على أن الاستغفار سؤال المغفرة على ما سيأتي (¬3) تقريره بالأدلة الواضحة، فأمَّا التوبة، فلم تزل مقبولةً من أول النبوة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث (¬4) يدعو الكفار إلى التوبة والرجوع إلى الله. ومن ذلك قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102]، و" عسى " من الله بمعنى القطع، لأن التَّرجِّي لا يجوز عليه، وقد روى البخاري في " صحيحه " (¬5) من ¬
حديث سمُرَةَ في الرؤيا النبوية الطويلة أنه رأى قوماً نصف خلقهم كأقبح ما رأى، ونصفها كأحسن ما رأى، فغُمِسُوا في نهرٍ، فخرجوا منه، وصارُوا كلهم كأحسن ما رأى، فقيل له: إنهم خَلَطُوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، تاب الله عليهم. وهذا أصح من تفسيرهم بالتائبين سنداً ونظراً. أمَّا السَّندُ، فظاهر، خُصوصاً على رأي الخصوم، فإنَّ البخاري رواه من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي. وثَّقه أحمد، وابن معين والنسائي، وبالغ، ومحمد بن عبد الله الأنصارى وبالغ أيضاً، ولم يقدح فيه إلاَّ بالتَّشيُّع والاعتزال. وأما النظر، فإن الله ذكر هؤلاء بعد ذكر السابقين من المهاجرين والأنصار، فلو أراد بالخالطين: التائبين، لكانوا من الخالطين، لأنهم خلطوا الكفر المقدَّم بالإسلام المتأخِّرِ، وتابو من أكبر الكبائر، وهو الشرك بالله، إلاَّ عليّاً عليه السلام، وهذه الآية مدنيةٌ وفاقاً. ومن ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ به فهو كَفَّارةٌ له} [المائدة: 45]، و" المائدة " من آخر ما أنزل، منسوخ منها. وروى أحمد في " المسند " (¬1) من حديث مُجالدٍ، عن عامر، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن رجُلٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أُصيبَ بشيءٍ في جسده، فتركه لله، كان كفَّارةً له " وهذا في معنى الآية. هكذا وجدته في " جامع المسانيد " لابن الجوزي. وأظنُّه من أغلاط النُّسَّاخ، وصوابه -إن شاء الله- المحرز بن هارون (¬2) القرشي التَّيميُّ المدني، يروي عن الأعرج، عن أبي ¬
هريرة، حسَّنَ الترمذي حديثه، وقال البخاري: هو محرَّر برائين مهملتين، وخالفه ابن أبي حاتم، فقال (¬1): بزاي. ذكر ذلك الذهبي في " الميزان " (¬2). فهذه الآيات وأمثالُها مما يأتي عند سَرْدِ الأدلة المكية والمدنية معاً، تدل على ذلك. ومن ذلك مِنَ الأحاديث الصحيحة الشهيرة كثيرٌ، كحديث الأعمش عن أبي سعيدٍ وأبي هريرة مؤرَّخاً بغزوة تبوك. خرَّجه مسلمٌ في أوائل كتابه، فقال في كتاب الإيمان (¬3): حدثنا سهلُ بن عثمان، وأبو كُريبٍ محمد بن العلاء جميعاً (¬4)، عن أبي معاوية، قال أبو كريب: حدثنا أبو معاوية، عَنِ الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة أو أبي (¬5) سعيد -شكَّ الأعمش- قال: لما كان غزوة (¬6) تبوك أصاب الناس مجاعةٌ. قالوا: يا رسول الله: لو أذِنْتَ لنا فنحرنا نواضِحَنَا. إلى قوله: فدعا بنِطْعٍ فبسطه (¬7)، ثم دعا بفضل أزوادهم حتى اجتمع من ذلك شيءٌ يسيرٌ، ثم دعا بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم "، فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلاَّ ملؤوه، فأكلوا حتى شَبِعُوا، ففَضَلَتْ فضلَةٌ، فقال: " أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاكٍّ، فيُحجَبَ عن الجنة " إسناده صحيح. وله طرق عن الأعمش بعضها في " النسائي " (¬8)، لكن بغير تسمية الغَزَاة تبوك، وكانت تبوك (¬9) سنة تسعٍ من الهجرة في ذي القعدة. ¬
وفيها أيضاً حديث الذي أوجب النار (¬1)، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يعتقوا عنه رقبةً يعتق الله بكل عضوٍ منها عضواً منه من النار، رواه أبو داود، والنسائي من طريق إبراهيم، عن الغريف بن عيَّاشٍ، عن واثلة، ورواه الإمام أحمد (¬2) والذي وَرَّخه بتبوك ابن عبد البر، وهو متأخِّرٌ عن الوعيد لقوله: " أوجب النار ". وحديث ابن مسعود: لمَّا أُسرِيَ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدْرَةِ المنتهى، وهي في السماء السادسة، وإليها ينتهي ما يُعْرَجُ به من الأرض، فيُقبَضُ منها، وإليها ينتهي ما يُهبط به (¬3) من فوقها، فيُقبض منها، فأعطي ثلاثاً: الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفِرَ لمن لا يُشرِكُ بالله من أمته شيئاً المُقْحِمَاتُ. رواه مسلم والنسائي والترمذي، وفي لفظِ الترمذي: " فأعطاه الله ثلاثاً لم يعطِهِنَّ نبيَّاً قبله، وقال في الثالثة: وغَفَرَ لأُمَّته المُقْحِمَاتِ ما لم يشركوا بالله شيئاً " (¬4). قال ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬5): هي الذنوب التي تُقْحِمْ صاحبها في النار، أي: تُلقيه فيها، وهذا يردُّ على من زعم أن أحاديث الرجاء قبل أن تُفرض الفرائض، كما تقدم عن الزُّهري والطبري. ومن ذلك قوله تعالى في " آل عمران "، وهي مدنيةٌ: {وكنتم على شَفَا حُفرةٍ من النار فأنقذكم منها} [آل عمران: 103]، وهذا خبرٌ جازمٌ بأنه قد أنقذهم من النار، وهو خطابٌ عامٌّ لأهل الإسلام، كما لو أمرهم ونهاهم توجَّه إليهم ¬
الجميع، وقد ذكر السبكي في " جمع الجوامع " أن العموم يثبُتُ في مثل ذلك عُرفاً، والله سبحانه أعلم. وُيشبه هذه الآية الكريمة في خطاب أهل الإسلام بالمُبَشِّرات قوله تعالى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُم} [محمد: 35] من أعظم آيات الرجاء المبشرات لمن يعقِلُ هذه المعيَّة، فإنها هنا معية النصر (¬1) والعون والرحمة، ونحو ذلك، لا معية العلم، فإنها عامة للكافرين والمسلمين، وترد للوعيد وللبشرى. ومثل حديث فضل يوم عرفة، وما يقع فيه من المغفرة، وتحمُّلِ المظالم، وتاريخه بحجة الوداع، بل فيه أن ذلك لكل من حج البيت من أمته - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، وهذا مما لا يصح نسخه مع تأخره أيضاً، وله طرق أربع مذكورةٌ في كتب الحديث والمناسك، منهم من ذكر بعضها، ومنهم من جمعها. فممَّن (¬2) ذكر بعضها ابن عبد البر، وأبو داود (¬3)، وابن ماجة (¬4)، والبيهقي (¬5)، والشريف القاضي تقيُّ الدين محمد بن أحمد المكي، ومحبُّ الدين الطبري في كتابه " القرى " (¬6)، وعبد الله بن المبارك، وممن ذكرها كلَّها (¬7) الحافظ المنذري في كتابه " الترغيب والترهيب " (¬8). وأصح طرقه طريق عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عديٍّ، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذه الطريق رواه الحافظ العلامة ابن عبد البر في كتابه " التمهيد "، ولم يضعِّفه ولا أعلَّه واحدٌ منهما، ولفظه: " إن الله غفر لأهل عرفات والمَشْعَرِ وتحمَّلَ عنهم التبعات "، وفي هذه الرواية هذا ¬
الإسناد المتفق على الاحتجاج برجاله؛ فقال عمرُ: يا رسول الله، هذا لنا خاصة؟ فقال رسول الله: " هذا لكم ولمن أتى من (¬1) بعدكم إلى يوم القيامة "، فقال (¬2) عمر: كَثُرَ خيرُ الله وطَابَ!. ثم ذكر حديث عباس بن مرداسٍ الذي رواه أبو داود مختصراً، ورواه أبو الوليد (¬3) الطيالسي أيضاً. ذكره الذهبي في ترجمته من كتاب " الميزان " ورواه ابن ماجة والبيهقي (¬4) مطولاً، وذكر أنه من رواية عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداسٍ، عن أبيه. وهو وأبوه من رجال أبي داود وابن ماجة، ولم يُذكرا بجرحٍ ولا توثيق في " الميزان "، ولكن ذكر في ترجمة كل واحد منهما مذهبه عن البخاري أنه لم يَصِحَّ حديثه (¬5)، وهذا صحيحٌ بالنظر إلى هذه الطريق، وإلى شرط بعضهم، كالبخاري، ومن يذهب مذهبه، فإن شرطه عزيزٌ، فليس يلزم من انتفاء الصحة عنده (¬6) انتفاؤها عند غيره، وقد سكت عليه أبو داود، ولم يُضَعِّفْهُ، وهو لا يسكت على (¬7) ضعيفٍ، وكذلك المنذري رواه بالعنعنة، وشرط أن لا يروي بها حديثاًً باطلاً ولا ضعيفاً، وإنما يروي بها الصحيح والحسن وما يقاربهما، وقال البيهقي فيه: هذا الحديث له شواهدُ كثيرةٌ، وقد ذكرناها (¬8) في كتاب " البعث "، فإن صح بشواهده، ففيه الحجة، وإن لم يصح، فقد قال الله تعالى: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك. ¬
قلت: قد صح أنه لا يغفِرُ على معنى إبطال حقِّ المظلوم، ولكن على معنى إرضاء المظلوم عن خصمه، ولفظ الحديث دالٌّ على ذلك. وروى المنذري (¬1) حديث أنسٍ الآخر، وقال: رواه أبو يعلى في " مسنده " (¬2) وسكت عليه المنذري. ثم رواه من طريقٍ رابعةٍ بلفظ (¬3): " عن " الذي تقدم شرطه فيه من طريق عبادة بن الصامت، وقال: رواته مُحتج بهم في الصحيح إلاَّ أن فيهم رجلاً غير مسمَّى (¬4). وروى في الباب (¬5) من حديث جابرٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن الله تعالى أنه يقول لملائكته: " انظروا إلى عبادي، أتوني شُعْثَاً غُبْرَاً ضاحِين، أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غفرتُ لهم، فتقول الملائكة: إن فيهم فلاناً مُرَهَّقَاً وفلاناً، فيقول الله: غفرت لهم ". قال المنذري: المُرَهق: الذي يغشى المحارم، ويرتكب المفاسد. رواه البيهقي وابن خزيمة في " صحيحه " بنحوه، واللفظ للبيهقي (¬6). ¬
وقال فضالة بن عبيدٍ: سمعتُ عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الشُّهداء أربعةٌ: مؤمنٌ جيِّدُ الإيمان، لَقِيَ العَدُوَّ، فصَدَقَ الله حتى قُتِلَ، فذلك الذي (¬1) يرفع الناس إليه أعينهم يوم القيامة " إلى قوله: " وَرَجُلٌ خَلَطَ عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً، لَقِيَ العدُوَّ، فصدق الله حتى قُتِلَ، فذاك في الدرجة الثالثة، ورجلٌ مُؤمنٌ أسرف على نفسه، لَقِيَ العدو، فصدق الله حتى قُتِلَ، فذاك في الدرجة الرابعة ". رواه الترمذي في " الجهاد " (¬2)، وسنده قويٌّ جيِّدٌ، تفرَّد به عطاء بن دينارٍ، وقد وثَّقه أحمد وأبو داود، وقال أبو حاتم والبخاري: صالحٌ، ولم يضعَّفْهُ أحدٌ، وإنما ذُكرَ في " الميزان " (¬3) من أجل أنه نَسَخَ كتاب التفسير من غير سماعٍ، وأما رواية الترمذي للحديث من طريق ابن لهيعة عنه، فلم ينفرد به، فقد تابعه سعيد بن أبي أيُّوب عن عطاءٍ كما ذكره الترمذي عن البخاري، لكن ابن لهيعة رواه عن عطاء، عن أبي يزيد الخَوْلاني، عن فَضالة، وسعيد بن أبي أيوب، عن عطاء، عن أشياخٍ من خَوْلان، عن فضالة، وهذا لا يضرُّ، لأن أبا يزيد من خولان، فكأن عطاء صرَّح لابن لهيعة بأحدهم، وكونهم جماعة أقوى للحديث، خصوصاً وهم من التابعين، وقد ورد مثل هذا في " صحيح البخاري " (¬4). ¬
وإنما أوردت الحديث هنا، لأنه يدل على تأخره بعد تحريم المحرَّمات، وبعد نزول قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]، وهي مدنيَّةٌ متأخِّرةٌ (¬1)، وهو يُقَوِّي حديث البخاري عن سَمُرَةَ في تفسير الخالطين (¬2)، ولله الحمد. ومما يَرِدُ على الزهري والطبري من النظر: وجهان: أحدهما: أن الزنى والسرقة ما زالا محرَّمَيْنِ من أول الإسلام، ولعلَّ بعضَ العلماء من أهل الأُصول يذكرون أن الزنى محرَّمٌ في جميع الشرائع، ويدل على تقدُّم تحريمه على هذه الأحاديث قول أبي ذرٍّ حين سَمِعَ البُشرى بالجنة للمُوحِّدين: وإن زنى وإن سرق. قال في الرابعة: " على رُغْمِ أنفِ أبي ذرٍّ " رواه البخاري ومسلم، وفي " البخاري ": " دخل الجنة، ولم يدخل النار " (¬3). وكذلك قول أبي الدرداء في الحديث المتقدم، فلولا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ذلك بعد تحريم الزنى والسرقة، ما قالوا له ذلك، ولا قال لهم: " على رغم أنف أبي ذرٍّ وأبي الدرداء "، ولأخبرهما (¬4) بتأويل ذلك. وكذلك حديثُ معاذٍ المتفق عليه، وفيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له وهو رديفه: " إن حق الله على عباده أن يعبُدُوه ولا يُشركُوا به شيئاً، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يُعَذِّبَهُم "، فقلت: أفلا أُبَشِّرُ الناس؟ قال: " لا تبشِّرْهُم فيتَّكِلُوا ". ¬
وفي روايةٍ عن أنسٍ أن نبي الله ومعاذ بن جبلٍ رديفه على الرَّحْل، قال: " يا معاذ "، قلت: لبيك وسعديك ثلاثاً، قال: " ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله إلاَّ حرَّمه الله على النار ". قال: يا رسول الله: أفلا أخبرُ الناس فيستبشرون؟ قال: " إذاً يتَّكِلُوا " فأخبر بها معاذٌ عند موته تأثُّماً. أخرجه البخاري ومسلم (¬1). وهذه الرواية الأخيرة جعلها الحميدي من مسند أنس، فيكون حديثاًً ثانياً. فإنه لما قال له: أفلا أُبَشِّرُ الناس؟ قال: " إذاً يتَّكلوا "، ولم يقل له: إنه ليس على ظاهره، ولا بشارة فيه على الحقيقة، وإنما هو بشرط التوبة، أو بشرط الاستقامة، ولو فهم معاذ أنه منسوخٌ لم يُخبر به عند موته تأثُّماً أيضاً. وكذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره من لقيه يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه أن يُبَشِّرَهُ بالجنة، فقال عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل، فإني أخشى أن يتَّكِلَ الناس عليها، فخلِّهِمْ يعملون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فخلِّهم " رواه مسلم (¬2). وفي حديث عُبادة بن الصامت المتفق على صحته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بايعهم ليلة العقبة " على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، وقرأ الآية الذي نزلت على النساء: {إذا جاءك المؤمنات} [الممتحنة: 11]، فمن وفّى منكم (¬3)، فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً، فعوقب به، فهو كفَّارَةٌ له، ومن أصاب من ذلك شيئاً (¬4)، فستره الله تبارك وتعالى عليه فهو إلى الله تبارك وتعالى: إن شاء غفر له، وإن شاء عذَّبه ". رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل في " المسند " وغيرهم (¬5)، وهو أول حديثٍ ¬
في (¬1) مسند عُبادة من " جامع المسانيد " وذكره بعده أن هذه البيعة كانت ليلة العقبة. وفيه ما يدل على أن هذه المحرمات أو معظمها لم تزل محرَّمةً من حينئذٍ، ولا أتحقق الآن متأخِّراً من المعلومات الكبائر إلاَّ الخمر، ويدل على أن الحدود كانت مشروعةً فيها من (¬2) يومئذٍ، وسياق الأحاديث وقرائن الأحوال شاهدةٌ بذلك. وقوله: قرأ الآية -يعني عُبادة- فإن نزول الآية متأخِّرٌ عن ليلة العقبة بمُدَّةٍ طويلة، والله أعلم. وعن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث عُبادة هذا من طريق وهب بن عبد الله أبي جُحيفَةَ الصحابي، إلا أنه عليه السلام قال في حديثه: " ومن عفا الله تعالى عنه في الدنيا، فالله تعالى أحلمُ من أن يعود بعد عفوه " رواه الترمذي، وابن ماجه والحاكم (¬3)، وقال: صحيح، وقال: خرَّجه إسحاق بن راهويه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} [الشورى: 30]. وأخرجه في تفسيرها أحمد بن حنبل وأبو يعلى من طريق أخرى تشهد لطريق الترمذي وابن ماجة والحاكم. ومن ذلك آيات الرحمة المطلقة، وأحاديثها وذكر سَعتِها (¬4)، فإنه لم يقل أحدٌ بنسخها، وكيف وفيها تسمِّيه، وتمدُّحه تبارك وتعالى بأنه الرحمن الرحيم، ¬
خير الراحمين، أرحم الراحمين، وفي بعضها أنه ادَّخر ليوم القيامة تسعةً وتسعين جُزءاً، وقسم جزءاً واحداً (¬1) بين الخلائق فبه يتراحمون (¬2). وفي " الصحيحين " من حديث عمر بن الخطاب أنه قُدِمَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبي، وإذا امرأةٌ من السبي تسعى، إذ وجدت صَبِيَّاً في السَّبْيِ، أخذته، فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أَتَرَوْنَ هذه طارِحة ولدها في النار؟ " قلنا: لا، وهي قادرة (¬3) أن لا تطرحه، قال: " للهُ أرحم بعبادِهِ من هذه بولدها " خرَّجاه في " الأدب "، ومسلم في " التوبة " عن سعيد بن أبي مريم، عن أبي غسَّان محمدٍ بن مطرِّفٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم (¬4)، مولى عمر، عن عمر بن الخطاب (¬5)، وليس في أحدٍ من رُواتِهِ خلافٌ في توثيقٍ ولا غيره إلا ما لا يلتفت إليه في زيد بن أسلم من أجلِ (¬6) أنه كان يفسِّرُ برأيه، وهذا ليس بشىءٍ، فقد كانوا يسمُّون التفسير باللغة تفسيراً بالرأي. وخرَّج أبو داود (¬7) نحوه من حديث عامر الرَّامي. وقد ذكره ابن الأثير في رحمة الحيوانات من " جامعه " (¬8) في حرف الراء. ¬
وعن أنسٍ نحوه. رواه أحمد والبزَّار وأبو يعلى، ورجالهم رجال الصحيح (¬1)، وفي " مجمع الزوائد " (¬2) بابٌ في هذا. خرَّجاه عن أبي هريرة (¬3) ومسلم عن سلمان (¬4)، والحاكم عن جُنْدُب؟ (¬5). زاد مسلم والحاكم (¬6) ": كلُّ رحمةٍ طِبَاقُ السماوات والأرض " أي مطبقةٌ مغطِّيةٌ لها، مالئة لها. وعن بعض العارفين أنه قال: من وهب لي الإسلام من رحمةٍ واحدةٍ، كيف لا أرجو أن يهب لي المغفرة من مئة رحمة كل منها. وروى أحمد وابن ماجة حديث المئة رحمةٍ من حديث أبي سعيدٍ بسندٍ صحيح (¬7). ذكره ابن ماجه في الزُّهد، وابن الجوزي في الحديث الحادي والعشرين والمئتين. ورواه الطبراني عن ابن عبَّاسٍ بسندٍ حسنٍ (¬8)، وعن عُبادة بن الصامت (¬9) ¬
والحسن البصري (¬1)، وخِلاسٍ، وابن سيرين، ومعاوية بن حَيدَة (¬2). وعن أبي ذرٍ، سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أُقسمُ على أربعٍ قسماً مبروراً، والخامسةُ لو أقسمتُ عليها لَبَرَرْتُ، لا يعملُ عبدٌ خطيئةً تبلُغُ ما بلغت يتُوب إلى الله إلا تاب الله عليه، ولا يُحِبُّ أحدٌ لقاء الله إلاَّ أحبَّ اللهُ لقاءه، ولا يتولَّى الله عبداً في الدنيا، فيوليه غيره يوم القيامة، والخامسة: لو أقسمتُ عليها لبَرَرْتُ: لا يسترُ الله عورةَ عبدٍ في الدنيا إلاَّ سَتَرَها يوم القيامة " (¬3). قال ابن عبد البر: رواه أبو الزاهرية، عن كثير بن مُرَّة عنه. قال: وخرَّج قاسم بن أصبغ حديث عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما ستر الله على عبدٍ في الدنيا، إلا ستر عليه في الآخرة " (¬4). وعن أبي قِلابَة، عن أبي إدريسٍ أنه قال: لا يهتِكُ الله سِتْرَ عبدٍ عَبَدَهُ مثقال ذرَّةٍ من خيرٍ. فهذه أخبارٌ عن الواقع يوم القيامة لم يظهر فيها النسخ، ولله الحمد والمنة. وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام وخيارُ الصحابة يروُون مثل هذه الأحاديث بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير بيان نسخٍ لها، ولا تأويلٍ لظواهرها، وهو أعلم الناس بنسخها وتأويلها لو كان شيءٌ من ذلك ثابتاً صحيحاً، فكيف ¬
يُظَنُّ به وبأمثاله التَّخليطُ على أهل الإسلام بروايات الأحاديث (¬1) المنسوخات وتبشيرهم بها من غير تصريحٍ بالنسخ، ولا تأويلٍ ولا تلويحٍ؟ ولو كان شيءٌ من ذلك، لنقله الثقات عنهم الذين نقلوا هذه البشارات، بل لبَيَّنهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوضح البيان، خصوصاً وقد ظهر منه المنسوخ ظهوراً متواتراً، فكان يجبُ أن يُظهِرَ الناسخ كذلك كما هي صفته وصفة الرسل. وقال الله تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بِلِسانِ قومه ليُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 40]، فتأمَّل ذلك، والله الهادي. وما زال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مترقِّياً في مراتب القريب والإجابة والجاه والتَّبشير، فخُفِّفَتْ بجاهه الصلوات من خمسين إلى خمسٍ، ونُسِخَ وجوب قيام الليل، وكانت في المال حقوقٌ كثيرةٌ نُسِخَتْ بالزكاة، وكان الصوم من بعد العشاء الآخرة، ومن نام قبلها حرُم عليه الأكلُ والنكاحُ قبلها أيضاً، فنُسِخَ ذلك، ورُخِّصَ في الفِطْرِ للمسافر والمريض والحُبلى والمُرضِعِ على ما هو مفصَّلٌ في مواضعه، ونُسِخَ غسلُ البول من سبعٍ إلى ثلاثٍ، وعند الشافعي إلى واحدٍ، ونُسِخَ قتل الشارب في الرابعة، وحَبْسُ الزَّانيين حتَّى يموتا وأذاهما، وقتال الواحد العشرة، وتحريم القتال للعدوِّ في الأشهر الحُرُم، والوضوء مما مسَّتِ النار، ونسخ تحريم ادِّخارِ الأضاحي فوق ثلاثٍ، وفساد صوم المُصبح جُنُباً، وتحريم الحجامة على الصائم، والانتباذُ في الآنية المنهيِّ عنها، ووجوبُ الهجرة على مَنْ لم يُفتن، وغير ذلك. وقال الواحدي في " أسباب النزول " (¬2) في قوله تعالى: {وإذا بَدَّلْنَا آيةً مكانَ آيةٍ} [النحل: 101]، نزلت حين قال المشركون: إن محمداً يسخرُ بأصحابه، يأمرُ اليوم بأمرٍ، وينهاهم عنه غداً، ويأتيهم بما هو أهون عليهم، فأنزل الله هذه الآية والتي بعدها. انتهى. ¬
لا يجوز العدول إلى النسخ إلا عند الضرورة
وهو يدلُّ على ما ذكرته، فلا معنى للقولِ بأن التشديد هو المتأخر، وهذا كله على تقدير التسليم الجدليِّ لتعارض الآيات والأحاديث في الوعد (¬1) والوعيد والبيان لسعة المحامل، وأن ذلك لو صح، لم يدل على كذب الرواة قطعاً، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب اليهود فيما رَوَوْهُ، وهم القوم البُهْتُ الكفرة الفَجَرَةُ، خوفاً من تكذيب حقٍّ لم يحطْ بعلمه، فكيف تكذيب أئمة الإسلام من خيرة الصحابة والتابعين الأعلام؟ وأما المختار عندي، فإنه عدم القول بالنسخ، لأنه لا يجوز العدول إليه إلا عند الضرورة، وتعذُّر الجمعِ بالتأويل الصحيح المأخوذ من كتاب الله وسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ممكنٌ واضحٌ. أمَّا آياتُ الخُلود المعلومة، ففي معلومةٌ بالاتفاق، والجمع بينها وبين هذه الأحاديث واضحٌ في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، كما يأتي في (¬2) الكلام على هذه الآية الشريفة. ولا أصح من تأويلٍ نصَّ عليه التنزيل، وسوف يأتي هذا وما يتعلق به المخالف من التشويش فيه والجواب إن شاء الله تعالى. وإنما نذكر هنا ما أشكل على أهل الإنصاف والعلم التام بالحديث، والعناية التامة بالجمع بين ما اختلف من الكتاب والسنة، وذلك أنها صحت أحاديث الشفاعة في إخراج أهل الكبائر من النار تخصيصاً لكتاب الله تعالى، كما خصَّ صاحب الصغيرة عند الجميع في (¬3) قوله تعالى: {ومن يعصِ الله ورسوله} [النساء: 14]، أو كما خصَّ صاحب الدين عند المعتزلة بالحديث من قوله: {إنَّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} [التوبة: 111] الآية، ومِنْ قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيم} [الصف: 10]، ¬
وهي أصرحُ من الأُولى، لأن الإيمان مقيَّدٌ فيها (¬1) بالله ورسوله معدىً (¬2) إليه، فلم يحتمل تفسيره بأكمل الإيمان. وأصرح منهما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُم} [محمد: 4 - 6]، وإنما الإشكال في الجمع بين أحاديث الشفاعة، وأحاديث العفو المُطْلَقِ التي فيها: " أن من مات يشهدُ أن لا اله إلاَّ الله، خالصاً من قلبه، حرَّمه الله على النار، أو لم تَمَسَّهُ النار " (¬3)، وهي كثيرةٌ، وبعضُها في فضائل الأعمال كحديث ابن مسعودٍ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " حُرِّمَ على النار كلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قريبٍ من الناس " رواه أحمد بإسنادٍ صالحٍ (¬4) وهو الخامس والسبعون بعد المئة من مسنده. من " جامع ابن الجوزي "، وذلك أن أحاديث الشفاعة تقتضي خروجهم من النار بعد أن صاروا حُمماً وفحماً، وهذه تقتضي خلاف ذلك. والجواب عن ذلك من وجوهٍ، وإن كان في بعضها بُعْدٌ، فالسمعُ دلَّ عليه كما دل على تأويل الضرب بالضِّغثِ، والذبح بالفداء، والخمسين الصلاة بخمسٍ، وأغربُ من الجميع اشتراطُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعلَ الله لعنَهُ لبعض من آمن به رحمةً وزكاةً (¬5) وقد علم من حديث مُعاذٍ وغيره إخفاءُ كثير من الرَّحمة للمصلحة، بخلاف التأويل البعيد بالرأي. الوجه الأول: ما ذكره أهل السُّنَّةِ، ممن نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية - أن الله تعالى قد علَّق الأمر في ذلك على مشيئته في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48]. ¬
والواجبُ: الجمع بين أطراف كلام الله تعالى ورسوله، وتقييد المطلق بالشرط الذي لم يتَّصل به، بل لا بد من ذلك عند الجميع في مواضع كثيرةٍ. ألا ترى أن الله تعالى لما استثنى الصغائر في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} [النساء: 31]، خصَّصنا بها عموماتٍ كثيرةً لم تتصل بها، مثل قوله تعالى: {ومن يَعْصِ الله}، وأمثالها، بل خصَّصنا بها مما يظُنُّ من (¬1) لم يتأمل أنه يُعارِضها مثل قوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرّاً يَرَهْ} [الزلزلة: 8]، وهذا وعيدٌ صريحٌ على الصغائر. ولكن الجمع بين الآيات يدل على صرفه عن مُجتنبي الكبائر، لو (¬2) أنه مُوَجَّهٌ إلى من يجتنبُها، أو أنه للمؤمنين في الدنيا كما ورد مرفوعاً كما يأتى إن شاء الله تعالى، أو أن الرواية (¬3) هنا على ظاهرها كقوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284]، وهو الغرض كما يأتي إن شاء الله تعالى في ذكر الحساب. ومع أن التأويل ينفي الخوف والرجاء، ولا بُدَّ من بقائهما على كل تقديرٍ وعلى كل مذهبٍ، حتى على مذهب المرجئة على بطلانه كما مر إيضاح ذلك عند ذِكر قَبُول ثقاتهم في الرواية في أول الكتاب، وهذا أحسنُ الأجوبة وأنسبها عند علماء الأصول الفقهية. الوجه الثاني: أن أحاديث الشفاعة وردت في قومٍ ليس في قلوبهم من (¬4) الإيمان إلاَّ شيءٌ يسيرٌ، قدَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثقال الحبة من خردلٍ، أو نحو ذلك إلاَّ في حديثٍ لم يصح، خرّجه الحاكم في آخر كتاب الأهوال (¬5) عن أبي سعيدٍ، وفي سنده ابن إسحاق وليث بن أبي سليم مع إعلاله لمخالفة الحُفَّاظ، والذين بشَّرهم بالنجاة بلا إله إلاَّ الله هم مختصُّون في مُتون الأحاديث بشروطٍ تدل على كمال يقينهم وصدقهم في تصديقهم، فإنه شَرَطَ العلم بذلك في ¬
حديث عثمان، وسيأتي، والإخلاص في حديث معاذٍ، وابتغاء وجه الله في حديث عُتبان وقد مرَّ، وهذا يتلو الأول في القوة، وشهد لذلك حديث ابن عباسٍ في الذي حلف كاذباً، فغُفِرَ له بإخلاصه في لا إله إلاَّ الله (¬1). على أن من كان كذلك، فلا يخلو من عملٍ صالحٍ مع ذلك، بل (¬2) هذا الوجه الثاني أصح وأبعد من التشغيب (¬3)، فإن المرجئة في الأول ادعت أن الشرط قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. إنما ورد ليُخْرِجَ غير الشرك من كبائر المشركين، فإنه لو لم يشرُط ذلك الشرط، لوجب أن يغفر للمشركين ما دون الشرك من الكبائر. قالوا: وأما أهلُ الإيمان الصحيح، فقد دلَّت أدلةٌ منفصلةٌ على أنهم من أهل الجنة، كقوله تعالى: {أُعِدَّتْ للذين آمنوا بالله ورُسُلِهِ} [الحديد: 21]، وعلى أن النار لا تمسُّهم، وأنها محرَّمةٌ عليهم، كما دلت عليه الأخبار. ونِزاعُهم في هذا على طريق القطع صعبٌ جداً، فإنه لا حجة لنا عليهم إلا آيات الشفاعة، وليس فيها تصريحٌ قطُّ بأن الذين خرجوا من النار دخلوها بمجرد بعض الكبائر، بل فيها وصفهم بنقصان الإيمان، وفي غير أحاديث الشفاعة ذكر دخولهم بذنوبهم، كحديث أبي سعيدٍ في إماتة النار لهم، وحديث سمرة في الرؤيا النبوية، وتعديدُ الذنوب وأنواع العذاب عليها، وحديث أبي هريرة في تعذيب تارك الزكاة بماله يوم القيامة، وليس في هذا ذكر دخول النار، لكن في حديث الخُدريِّ، فيجوز أن يكون نقصان الإيمان أقوى أثراً في دخولهم، ويجوز أن يكون المؤثِّر كبائرهم مع ذلك النقصان، وأنه في الوجهين معاً، لو لم يكن ذلك النقصان في إيمانهم، لما دخلوا النار، ولكان إيمانهم ¬
القوي القاطع يُكَفَّرُ به عنهم، كما أشارت إليه تلك الأحاديث المبشِّرَة، ويتعذَّرُ وجود نصٍّ قاطع المعنى، متواتر المتن يمنع من هذين الاحتمالين، فيكون الوجه الثاني جيداً في الجمع بين الأحاديث إن شاء الله تعالى. وربما كان نقصان الإيمان هو السبب في مُلابسة بعض الكبائر، وكمالُ الإيمان هو السَّببَ في اجتنابها، وكذلك (¬1) كان كمالُ الإيمان عندَ الجمهور لا يبقى عند (¬2) ملابسة الكبيرة، وبذلك فسَّرُوا حديث: " لا يزني الزاني وهو مؤمنٌ " (¬3)، أي كامل الإيمان، كما يأتي تحقيقُ أقوال الأئمة فيه. الوجه الثالث: وما بعده للمرجئة، وذلك أنه قد ورد في الحديث متَّفق على صحته عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنه من مات له ثلاثةٌ من الأولاد لم يبلغوا الحِنْثِ، أو اثنان، لم تمسَّه النار إلاَّ تَحِلَّةَ القَسَمِ "، وفي رواية: " لم يَلجِ النار إلا تَحِلَّةَ القَسَمِ " (¬4). وقد فُسِّرَ بأقل ما ينطلق عليه الاسم حين صح في كتاب الله تعالى أن من حلف على ضرب غيره، ونوى الضرب المعتاد أجزأه (¬5) أن يضرب بضِغْثٍ من نبات الأرض، لقوله تعالى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَث} [ص: 44]، وهذا الحديث يدل على أن القدر الواجب (¬6) من وعيد ¬
المسلمين بالعذاب (¬1) ليس هو الخلود، وإنما هو الورود كما في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]. ومن قال بعمومه، تمسَّكَ بحديث جابر مرفوعاً على أنها " تكون على البَرِّ برداً وسلاماً "، وهو الحديث (245) من مسنده في " جامع ابن الجوزي " (¬2). قال هؤلاء المقدَّم ذكرهم: قد يمكن في (¬3) هذا القدر أن يكون على وجهٍ لا يكون فيه عذابٌ، وذلك بأن يكون المعنى أن الله تعالى حرَّم عذاب النار على هؤلاء ومسَّها على وجه العذاب والغضب، ولكنه قد صح بل تواتر أن: " الحُمَّى من فيح جَهَنَّمَ ". ولقد روى البخاري هذا المعنى عن سبعةٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في موضعٍ واحدٍ على عزَّة شرطه، وذلك في باب صفة النار، وأنها مخلوقةٌ، فإنه رواه هناك عن زيد بن وهب عن أبي ذرٍّ (¬4)، وعن أبي هريرة (¬5) لكن ببعضه وفي الصلاة (¬6) بتمامه عن ابن المديني، عن [سفيان، عن] الزهري، [عن ¬
سعيد بن المسيب]، عن أبي هريرة، وعن همام، عن أبي جمرة الضُّبَعِيِّ، عن ابن عباسٍ (¬1)، وعن زهيرٍ، عن هشامٍ، عن عروة، عن عائشة (¬2)، وعن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر (¬3)، ورواه النسائي من حديث أبي موسى (¬4)، ورواه مالك من حديث عطاء (¬5) بن يسار في " الموطأ " (¬6)، وحديث أبي هريرة قال ابن الأثير في " جامعه " (¬7): رواه الجماعة ولم يخرج منه البخاري في صفة النار إلا بعضه، ورواه بتمامه في كتاب الصلاة كالنسائي، وحديث أبي ذر رواه مسلم أيضاً وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. فإذا ثبت أن الحُمَّى من النار، أمكن بالتأويل النَّظري أن تكون حظ كلِّ مؤمنٍ من النار، كيف وقد جاء من حديث أبي هريرة وفي حديث أبي أمامة، كلاهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أن الحمى حظ كل مؤمن من النار ". أما حديث أبي هريرة فرواه أحمد، وابن ماجه في كتاب الطب من " سننه "، ورجالها ثقاتٌ، فإنه من حديث أبي أسامة قال: أخبرني عبد الرحمن بن يزيد بن جابرٍ، عن إسماعيل بن عبد الله، عن أبي صالحٍ الأشعري، عن أبي هريرة (¬8). ¬
وأما حديث أبي أمامة، فقال المزي في " أطرافه " (¬1) رواه أبو غسان محمد بن مطرِّفٍ المدنيُّ، عن أبي الحصين (¬2) الفلسطيني، عن أبي صالحٍ الأشعري، عن أبي أُمامَة الباهلي بمعناه. ذكره عقيب حديث أبي هريرة. وقال أحمد في " المسند " (¬3): حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن مطرِّفٍ، عن أبي الحُصين، عن أبي صالحٍ، عن أبي أُمامة بالحديث، ولم يُذكَرْ أحدٌ منهم بضعفٍ، إلاَّ أن الذهبي ذكر في " الميزان " (¬4) أن محمد بن مطرِّفٍ تفرَّد عن أبي الحصين، ومحمد بن مطرِّفٍ إمامٌ كبيرٌ، روى عنه الجماعة، واحتجَّ به الأئمة، لا ينكر له التَّفرُّدُ براوٍ، ولا بروايةٍ، وأبو صالح الراوي عن أبي أمامة الأشعري، ويقال: الأنصاري، والراوي عن أبي هريرة: الأشعري الشاميُّ الأزدي، ذكرهما المِزِّيُّ في " تهذيبه "، فصحَّ الحديث. وأحاديث الثواب (¬5) في الآلام تشهدُ بذلك، وإلى هذا الحديث ذهب مجاهد بن جبرٍ التابعي الجليل المفسِّر، رواه عنه ابن عبد البَرِّ في " التمهيد " في تأويل الوُرود وقول مجاهد بذلك في عصر التابعين الأول يُقَوِّي صحة الحديث، وهو أقوى (¬6) في تأويل تَحِلَّةِ القسم المستثنى من المسِّ، لأنه لا يسمَّى مسَّاً ولو مجازاً وإن تقدَّم. ¬
كلام في تأويل حديث الشفاعة في احتراق أبدانهم
وأما الواردُ في حديث الشفاعة في احتراق أبدانهم فيحتمل (¬1) أن يتخرَّج تأويله على ما صح من حديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا أهلُ النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها، ولا يَحْيَوْنَ، ولكن أُناسٌ تُصيبهمُ النار بذنوبهم، فتميتهم إماتةً، حتى إذا صاروا فَحْمَاً أذن بالشفاعة (¬2) جيء بهم ضبائر ضَبائرَ -أي جماعاتٍ- فَبُثُّوا على أنهار الجنة، فينبُتون نبات الحِبَّةِ تكونُ في حَمِيلِ " السيل "، والحِبة -بكسر الحاء- بزُور البقل. رواه مسلم في باب الشفاعة في كتاب الإيمان وهو في بعض نسخ " البخاري "، وهو الحديثُ الرابع عشر من مسند أبي سعيد من " جامع المسانيد "، ورواه أحمد بن حنبل في " مسنده " (¬3) ومعناه متفقٌ عليه عند أهل كُتبِ الحديث، فإنهم اتفقوا على أن أهل النار من الموحِّدين يحترِقُون إلاَّ مواضع السُّجود من المُصلِّين، ثم يُلْقَوْنَ على أنهار الجنة وقد صاروا فحماً، وهذا يدل على موتِهم في النار، فإن أهل الخلود في النار كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها، ليذوقوا العذاب كما قال الله تعالى. وروى الهيثمي (¬4) ما يدلُّ على ذلك من غير طريق أبي سعيد، فقال: عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أدنى (¬5) أهل الجَنَّة حظّاً أو نصيباً قومٌ يُخرجُهُمُ اللهُ من النار، فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى أنهم كانوا لا يُشرِكون بالله شيئاً، فيُنْبَذُونَ بالعراء، فيَنْبُتُونَ كما ينبُتُ البقل، حتى إذا دخلت الأرواحُ في أجسادهم، قالوا: ربنا كالذي أخرجتنا من النار، ورَجَعْتَ الأرواح إلى أجسادنا، فاصرِفْ وجوهنا عن النار. قال: فيصرف وجوههم عن النار ". رواه البزار (¬6) ورجاله ثقات. ¬
ذكره في أبواب الجنة في باب أدنى أهل الجنة منزلة. ويعضُدُ هذا مفهوم قوله تعالى بعد تحريم الربا: {واتقوا النارَ التي أُعِدَّتْ للكافرين} [آل عمران: 131]، فلا بد من فرقٍ بينهم. فإذا تقرَّر هذا بالنصوص (¬1) الصِّحاح لم يزل أئمة الإسلام يتداولونها من غير نكيرٍ، لم يتعذر الجمع بين الأحاديث بهذا: إما على جهة الخصوص بتلك البشارات بأن المراد (¬2) سلامتهم من عذابها الهائل المتصور (¬3) مع بقاء الحياة، لا الموت، عند أول مُلاقاتها التي جرت عاداتُ الصابرين في الدنيا بتحمل مثل (¬4) مشقَّته، كضمَّة اللَّحد في قدرة الله تعالى من تهوينه على من يشاء ما لا يعلمُهُ سواه، ويعتضد بحديث: " لم تمسه النار إلاَّ تَحِلَّةَ القسم " متفق على صحته من حديث أبي هريرة (¬5)، ويشهدُ له حديث الواقديِّ محمد بن عمر -العلامة البحر- على ضعفه بسنده عن (¬6) أبي بكرٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنما حرُّ جهنم على أمتي كحرِّ الحَمَّام " ذكره الذهبي في ترجمته في " الميزان " (¬7)، ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬8) من طريق الواقدي وعزاه إلى الطبراني في " الأوسط ". ومع تضعيف الأكثرين للواقدي حتى قال الذهبي: إنه استقر الإجماع على وهنه، فقد حكى الذهبي توثيقه عن جماعة: ابن إسحاق، ومصعبٌ، ومعن القزاز، ويزيد بن هارون، وأبو عبيد، وإبراهيم الحربي. ¬
وروى أحمدُ عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر الشفاعة: " أن الخلق يُلجَمُونَ بالعرق في يوم القيامة، فأما المؤمن، فهو عليه كالزُّكمَةِ، وأما الكافر، فيغشاه الموت " الحديث، قال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. ذكره في الشفاعة من " مجمعه " (¬1). فهذا يشهد لمعناه في الفرق بين المؤمن والكافر في التخفيف جملةً، كما يشهد لذلك في الجملة الأحاديث الواردة في تخفيف يوم القيامة على المُؤمن. خرَّجها الهيثمي (¬2) عن أبي سعيد وعبد الله بن عمرو بسندين ضعيفين، وعن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو أيضاً بسندين جيِّدين (¬3). ويشهد لهما من القرآن الكريم قوله تعالى: {وكان يوماً على الكافرين عسيراً} [الفرقان: 26]، وقوله تعالى: {على الكافرين غير يسيرٍ} [المدثر: 10]، وقوله تعالى: {وَيَقول الكافِرون هذا يومٌ عسيرٌ} [القمر: 8]. وسيأتي بيانُ من يستحق اسم المؤمن، والأدلة عليه، ومن ذلك أحاديثُ امتحان الميِّت في قبره بسؤال الملكين، فإنها صريحةٌ في الاقتصار على الشهادتين، فمن جاء بهما، بُشِّرَ بالجنة، وأُرِيَ (¬4) منزله فيها، مع صحتها وكثرتها ¬
كما ذُكِرَ في موضعه من هذا الكتاب، ومنه " أحاديث " الحُمَّى حظُّ كلِّ مؤمن من النار كما قدمته الآن وأمثاله. ويشهد للجميع " لا تمسُّه النار إلاَّ تَحِلَّة القسم " كما تقدم الآن. وأما على أن الموت يحصُل بسبب رؤيتها (¬1) ومُقاربتها فجأة، كما تقع الغشية من أقل من ذلك، ثم يكون مسُّها والوقوع فيها والاحتراق من غير شعورٍ بألمها، ويدلُّ عليه حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يجتمعان في النار اجتماعاً يضُرُّ أحدهما الآخر، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: مؤمنٌ قتل كافراً ثم سَدَّدَ ". رواه مسلم وأبو داود والنسائي واللفظ لمسلم (¬2). فقوله: " اجتماعاً يضرُّ " واضحٌ في هذا المعنى، والله أعلم. ذكره ابن الأثير في النوع الخامس من فضائل الجهاد والمجاهدين (¬3) رواه مسلم في الجهاد من حديث أبي إسحاق الفَزَارِيِّ، عن سُهيلِ بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهو في " جامع المسانيد " الحديث الرابع والثلاثون بعد الستمئة. ويعتضدُ بحديث: " الحُمَّى حظُّ كلِّ مؤمنٍ من النار "، كما احتجَّ به مجاهدٌ على ما تقدَّم من تشبيهه بقوله تعالى: {إلا المَوْتَةَ الأولى} [الدخان: 56] من بعض الوجوه، وذلك في الحقيقة إجارَةٌ مِنْ عذابها ومسِّها، فإنَّما الإنسانُ بروحه، ويكون المعنى (¬4): حُرِّمَتْ عليهم وهم أحياءٌ يتألَّمون بها، وحرم عليهم مسُّها كذلك. ¬
الجزء التاسع
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه شعيب الأرنؤوط الجزء التاسع مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 9
جميع الحقوق محفوظَة لمؤسسَة الرسَالة ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد. سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً. الطبعة الثالثة 1415 هـ - 1994 م مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حديث: "إن الله تعالى يعطي كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول: هذا فداؤك من النار"
الوجه الرابعُ: أنَّه ورد في " صحيح مسلم " من حديثِ أبي موسى عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنَّ اللهَ تعالى يُعْطِي كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقولُ (¬1): هذا فداؤك مِنَ النَّار " (¬2). وهذا ينظرُ في التأويل إلى قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظيمٍ} [الصافات: 107] إلى أمثالٍ لذلك (¬3) كثيرةٍ، فلنتكلَّمْ على إسناده، ثم على معناه. أمَّا إسناده، فإنه على شرط الجماعة كلهم، وقد أخرجه أبو عبد الله أحدُ شيعة أهل البيت -عليهم السلام- الكبار في كتابه " المستدرك " كما يأتي. خرَّجه مسلم (¬4) من طرق عن قتادة، وهو من أئمة الاعتزال وفرسان الحديث: قال قتادة: إن عوناً -يعني ابن أبي جُحيفة- وسعيد بن أبي بُردة كلاهما حدَّثناه أنهما شَهِدا أبا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكل رجاله مجمعٌ عليهم في كتب الجماعة، وقتادة صرَّح بالسماع، فلا يُخَافُ من تدليسه على أن أحمد بن حنبل، رواه في " المسند " (¬5) من غير هذه الطريق، فقال: أخبرنا أبو المغيرة النضرُ بنُ إسماعيل القاصُّ، حدثنا بُرَيْدُ بن عبد الله بن أبي بُردة، عن جده أبي بُردة، ورواه أيضاً من طريق مسلم في المقدمة لكن عن المسعودي، عن سعيد بن أبي بردة. وخرجه الحاكم (¬6) في " المستدرك " في كتاب الإيمان بلفظٍ حسنٍ مفسر ¬
بأحسنَ من لفظ مسلم في بعض، وبإسناد آخر يُقوي إسناد مسلم، فقال: أخبرني أبو الحسن أحمد بن عثمان الآدمي، حدثنا أبو قِلابة، حدثنا حجاج بن نُصير (¬1)، حدثنا شدَّاد بن سعيد (ح)، وأخبرني أبو بكر الفقيه -هو ابن إسحاق- حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدَّثنا عُبَيْدُ الله (¬2) بن عمر القواريري، أخبرنا حَرَمِيُّ بن عُمارة، حدثنا شداد بن سعيدٍ أبو طلحة الراسبي، عن غيلان بنِ جرير، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تُحْشَرُ هذه الأمة على ثلاثة أصنافٍ: صِنْفٌ يدخلون الجنة بغير حسابٍ، وصِنْفٌ يُحاسَبُونَ حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصِنف يجيئون (¬3) على ظهورهم أمثال (¬4) الجبال الراسيات ذنوباً، فيقول الله تعالى: اجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم الجنة برحمتي ". قال الحاكم: صحيح على شرطهما (¬5)، وحرمي على شرطهما، فأمَّا (¬6) حجاج، فإنِّي قرنُته إلى حَرَمي، لأني علوتُ فيه. قلت: وشواهده في تقسيم أهل الجنة إلى ثلاثة أقسام، كثيرةٌ مشهورةٌ في كتاب الله تعالى، وفي التفسير، والحديث كما يأتي إن شاء الله تعالى في تفسير قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]، مع قوله تعالى: {وَسَلامٌ على عبادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59]، وقد عدَّ ممن (¬7) اصطفى من هذه الأمة الظالم لنفسه، فهذا هو الكلام على أسانيده. وأما الكلام على معناه، فمن وجهين: ¬
الوجة الأول: أنه ليس في ذلك ظلم اليهود (¬1) والنصارى على جميع المذاهب، أما الأشعرية، فظاهر، وأما أهل السنة والمعتزلة فلأن اليهود والنصارى عادوا المسلمين في الدنيا، وظلموهم بالعداوة والسَّبِّ، وكثيرٌ منهم بالخوف والقتل والحرب، وما استطاعوا من أنواع المضار قتالاً وقتلاً وغِيلةً، وغشّاً، ونيةً وبُغضاً. وقد ثبت وجوب القصاص بين المسلمين بعضهم من بعض، بل بين الشاة الجماء والقرناء، فكيف لا يُنْتَصَفُ (¬2) للمسلمين من أكفر الكافرين؟ والله تعالى يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد} [غافر: 51]، وقد صح أن القِصاص إنما هو بالحسنات والسيئات إن كان للظالم حسناتٌ، أخذ منها (¬3) المظلوم بقدر مَظْلِمَتِهِ، وإن لم تكن له حسنات، حَمَلَ الظالم من ذنوب المظلوم بقدر مظلمته، وسيأتي أن هذا من العدل الذي لا يُناقِضُ قوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى} [الإسراء: 15]، لأن المقصد أنها لا تُظْلَمُ بتحميلها وزر الأخرى أما إذا كان على وجه الانتصاف من الظالم للمظلوم، فإنه يكون من العدل، ومنه قوله تعالى: {وأثقالاً مع أثقالهم} [العنكبوت: 13]، وقوله تعالى حكايةً عن ابن آدم الصالح. {إني أُرِيدُ أن تَبُوأَ بإثمي وإثمك} [المائدة: 29] وكذلك ورد في الأحاديث الصحاح (¬4) أن من سنَّ سُنَّةً سيئةً كان عليه إثمُها وإثم من عَمِلَ بها من غير أن يَنْقُصُ من آثامهم (¬5)، وأن على ابن آدم القاتل لأخيه إثم من قَتَلَ إلى يوم القيامة (¬6)، وإلى ذلك أشار ¬
القرآن الكريم في قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]. فالخاصُّ هنا عاضِدٌ لمعنى العام، لا ناقِضٌ له، لأنهما كِلَيْهما وَرَدا لتقرير قواعد العدل والتناصف، وكذا قوله تعالى: {وأنْ لَيْسَ للإنسان إلاَّ ما سعى} [النجم: 39] عمومٌ مخصوص بالأجر على الآلام المتفق عليه (¬1)، والمعنى: ليس له ما تمنَّى وتحكَّم وتأتَّى، وإنما له ما استحق بعمله، وأما ما يتفضَّل به (¬2) عليه من مغفرة، أو موهبةٍ، فليس يقال: إنه له، ولا يدخل في هذا، لأن اللام تقتضي الملك، وذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء، لا مانع لما أعطى، ولا مُعْطِيَ لما منع، سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: أن الغرض بالفداء صدقُ الوعيد مع العفو، وعدم الخُلْفِ كما أشار إليه قوله تعالى: {وفديناه بذبحٍ عظيم} [الصافات: 107]، فإنه لا معنى له إلاَّ أن ذبحه يقوم مقام ذبح الذبيح عليه السلام، ومنه فداء عبد الله بن عبد المطلب بمئةٍ من الإبل، كما هو معروف في السيرة النبوية، ولا يُوصَفُ بالخلف من وَعَدَ بدراهم، فأدّى ما يَعْدِلُهَا دنانير ونحو ذلك. وقد فُسِّرَ العدل بذلك في قوله تعالى فيمن لا يستحق الشفاعة: {ولا يُقْبَلُ ¬
منها شفاعةٌ ولا يُؤْخَذُ منها عَدْلٌ} [البقره: 48]. قال الزمخشري (¬1): أي: لا يُؤخَذُ منها فِديةٌ، لأنها معادلة للمَفْدِي، ومنه الحديث: " لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ " (¬2) أي: توبة ولا فدية. انتهى كلام الزمخشري. والمقصود من إيراد (¬3) الحجة على أن الفدية في لغة العرب تقوم مقام المَفْدِيِّ، والكتاب والسنة عربيان، وأهل الفِطَرِ السليمة على هذا قبلَ نبوغِ البراهمة والمبتدعة، وقد خصَّ الله المنافقين والكفار بعدم قبول الفدية، فقال في سورة الحديد في خطاب المنافقين: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِير} [الحديد: 15]، وفي تخصيصهم (¬4) بنفي قَبُول الفدية منهم إشارةٌ إلى قَبُولِها من المسلمين من قبيل مفهوم الصفة، والمسلمون أيضاً باقون على الأصل في حسن ذلك، إذا لم يُنْفَ ذلك عنهم، وذكر ابن عبد السلام في " قواعده " (¬5) في الرد على البراهمة أن العقول تستحسِنُ انتفاع الحيوان النفيس بالحيوان الخسيس ويشهد لما ذكره أن أهل الفِطَرِ السليمة حكموا بأن أنصف بيت قالته العرب قول حسان: ¬
أتَهْجُوهُ ولست له بِكُفءٍ ... فَشَرُّكما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ (¬1) ويلزم البراهمة قبحُ التداوي لإخراج دود البطن لما فيه من دفع (¬2) ضررٍ خفيفٍ بقتل ألوفٍ من الحيوانات التي لا ذنب لها، بل يلزَمُهم أن يقبُح سقيُ الزرع، ويقبح الحرث، وغَرْفُ ماء الموارد ونحو ذلك إذا أدىّ إلى موت دودةٍ، أو ذرَّة أو نحوهما بسبب الماء أو الحرث (¬3)، كما مضى بيانُ ذلك في مرتبة الدواعي من الوهم الثامن والعشرين في المجلد الثالث. خاتمة: وهذه الوجوه مما يتمشى على قول أهل السنة في غير من أدخلَ النار، وخرج بالشفاعة، أو فيمن أدخل النار وفُدِيَ من الخلود، أمَّا على قول المرجئة: إنه لا يُعذَّبُ أحدٌ من أهل لا إله إلاَّ الله بعد الموت بشيءٍ، فهذا باطلٌ إن قال به قائلٌ، بل قد صح حديث أبي هريرة مرفوعاً في تعذيب مانع الزكاة بماله في يوم القيامة حتى يُرى سبيله، إما إلى جنةٍ أو إلى نارٍ. رواه أحمد ومسلم (¬4). وصح أن الشمس تدنو يوم القيامة من الخَلْق، فَيَعْظُمُ الغَمُّ والتعبُ والعَرَقُ، حتى يُلْجَمَ بعضُهم على قدر أعمالهم، ويتطاول ذلك حتى يَشْفَعَ لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العُظمى، المسماة بالمقام المحمود (¬5). ¬
ذكر بعض من بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة
وخرَّج البخاري (¬1) في الرقاق من حديث الأعمش عن أبي وائل، عن ابن مسعودٍ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراكِ نعله، والنَّارُ مِثلُ ذلك " وهذا يوجب الجمع بين الخوف والرجاء، وأن لا ينظر العبد إلاَّ إلى رحمة الله، ولذلك خرَّج بعده حديث أبي هريرة (¬2) عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أصدقُ بيتٍ قاله الشاعر: ألا كُلُّ شيءٍ ما خَلا الله باطِلُ ". والبشارات لا تقتضي وقوع الفساد، ولو كانت خاصة ببعض الأشخاص كيف مع العموم؟ وقد بشَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعةً معينين بالجنة ممن لم يقل أحد بعصمتهم مثل أزواجه صلى الله عليه وسلم (¬3) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والعشرة رَضِي الله تعالى عنهم (¬1)، وثابت بن قيس (¬2)، وعُكاشة (¬3)، ¬
وحاطب (¬1)، وغيرهم، فازدادوا صلاحاً وتقوى، وكلُّ من تجرأ بعد سماع البشرى، فهو ممن عَلِمَ الله أنه جريء ولو لم يسمعها، وذلك مثل من تجرأ بعد سماع قبول التوبة، ومثل الشياطين الذين قال الله فيهم وفيمن أضلوه: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163]، فنص على أنه ليس في خلقه لهم مفسدة، وكذلك جميع ما جاءت به رسله إلاَّ على الأشقياء الذين وصفهم الله بأن القرآن عليهم عمىً وهو أعظم الشقاء، وتأويل أهل السنة بالوجهين الأولين أصحُّ وأبعد من كل ما يَرِدُ على تأويلات المرجئة. والإرجاء عند أهل السنة: بدعةٌ مذمومة لما فيه من مخالفة السنن الصحيحة، وإن كانت الأحاديت الواردة في ذم المرجئة غير صحيحة عند أئمة الأثر، كما أوضحتُه في الكلام على مسألة القدر، وقد اشتد خوفُ الصحابة من الله مع صحة إيمانهم وسماعهم للمبشرات بغير واسطةٍ، وقرب عهدهم، وأخبارهم في ذلك معلومةٌ في تراجمهم، والله أعلم. ولا بد من ذكر ما أوجب ترجيح أكثر علماء الإسلام لقبول آيات الرجاء، وأخباره المتواترة بذكر ما حضرني منها مع بُعدي من لقاء علماء هذه الطائفة، ¬
كلام في الوعد والوعيد
وقلةِ تواليفهم الحافلة عندي فبالوقوف على ما أذكره مع ذلك يعلم تواتر ذلك. وقد مر منها إلى الآن واحد وثلاثون حديثاً عن تسعة عشر صحابياً، وستأتي زيادة كثيرة على هذا مُفَرَّقةٌ في غضون الكلام، وأختم الكلام بالتنبيه على ما لم يتقدم، وعلى عِدَّةِ ما تقدم، ثم بالتخويف من الله تعالى، وبيان أن الرجاء هو حسن ظنٍ، وأن من جعل القطع موضع الظن خرج إلى التألِّي على الله تعالى، وكان اعتقاده من جنس قول اليهود {سَيُغْفَرُ لنا} [الأعراف: 169]، وقد نَقَمَ اللهُ تعالى ذلك عليهم، ومن أين الأمانُ واللهُ تعالى يقول: {إنَّ عذاب ربِّهِمْ غير مأمونٍ} [المعارج: 28]، وهو في الصالحة المُثْنَى عليهم في كتاب الله، وفي آية: {إنَّ عذاب ربك كان محذوراً} [الإسراء: 57]، وقد أجمعت الأمةُ المرجئة والوعيدية أن الخواتم مجهولة، وإن قدرنا صلاح الحال مع بُعد ذلك، والله المستعان. ولكني رأيتُ قبل ذلك أن أُورد شُبَه المخالفين وجوابها على الإنصاف بحسب علمي واجتهادي. فأقول: إن قيل لا شكَّ في ورود القرآن والسنة بذلك ولكنه معارضٌ بثلاثة أمور: أحدها: عمومات الوعيد. وثانيها: الوعيد الخاص ببعض الكبائر كآية القتل وأحاديثه. وثالثها: البيان الخاص في قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فإن الخصوم يزعمون أن هذه أبينُ آيةٍ وأخصُّها، ورجَّحوا تأويل الوعد بترجيح الخوف، أو مصلحة الزجر خوف المفسدة في الرجاء. والجواب من وجهين: جملي وتفصيلي: أما الجُملي: فهو أنه وقع تعارضٌ في الوعد والوعيد في بعض المواضع
إلا أن يُجْمَعَ بينهما بنوعٍ من التأويل، وتأويل الوعيد أولى لوجوه: الوجه الأول: أنها من المتشابه، والوعد بالخير من المحكم، والواجب تأويل المتشابه، وهذا جَلِيٌّ (¬1) إلاَّ كونها من المتشابه، والدليل عليه أن العفو أحب إلى الله في جميع شرائعه، والنصوص فيه أكثر من أن تُحصى، والخير هو المحكَمُ المقصود لذاته عقلاً وشرعاً، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]، وقال: {سيجعل الله بعد عسرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]، ولم يرد ذلك وقال: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 15]، وقال: {والله يريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27]، وإرادته نافذةٌ على ما تقرَّر في موضعه من هذا الكتاب. الثاني: أن الأحاديث صحَّت في أن الخير والعفو مكتوم منه خوف أن يَتَّكِلَ الناسُ كما يأتي في حَدِيثَيْ علي ومعاذ. الثالث: أن الخُلف في الوعد أقبح منه في الوعيد، ومن قَصَدَ المحافظة على صدق الوعيد تنزيهاً لله تعالى من الخُلْفِ فيه، فقد غَفِلَ غفلةً عظيمةً، وسيأتي تنزيهُ الله من الجميع. الرابع: أنه أكثر ثناءً على الله، وأنسبُ بأكثر أسمائه الحسنى. الخامس: أنه أقوى دلالةً، لأنه مبنيٌّ على قبول النصوص الخاصة وتقديمها على العمومات، وسيأتي تحقيق ذلك وما فيه من القوة المعلومة. السادس: أنه قول السلف في الأسانيد الصحاح. السابع: أنه قول جماهير علماء الإسلام وقد مر أنه لا مفسدة فيه. الثامن: أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يُبَشِّرَ المؤمنين والمتقين، وكرَّر ذلك، وهذا مُبَيِّنٌ لِما أجمله من تسميته بشيراً ونذيراً، أي: بشيراً ¬
للمؤمنين ونذيراً للكافرين، من ذلك قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} الآية [الأحزاب: 47 - 48] فجعل المؤمنين قسماً واحداً مُستَخَصِّين للبشارة، وجعل قسمهم المقابل لهم الكافرين والمنافقين، وكذلك قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]، وستأتي الأدلة على تفسير المؤمنين والمتقين. وكذلك وردت السنن الصحاح، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: " يسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبشِّرا ولا تُنَفِّرا " رواه خ م د ت من حديث أبي موسى (¬1). وروى خ م عن أنس عنه - صلى الله عليه وسلم - مثله بلفظ الجمع: " يَسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبَشِّروا ولا تُنفِّروا " (¬2). وفعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما أمر به، بل مثل ما أمره الله تعالى به، كما تواتر في السنن الصحاح المأثورة، ومعلومٌ أن (¬3) الله تعالى لا يأمُرُ رسوله بما فيه مفسدةٌ، ولا يأمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يفعله، كما أنه أخبر بمعنى الإنذار ولم يكن فيه مفسدة، ولما قالوا: أفلا نَتَّكِلُ (¬4) على كتابنا قال: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له " (¬5). وأما قوله في حديث معاذ: " دعهم يعملوا " (¬6) فإنه على الجواز لا على التحريم ولا الكراهة، بدليل أنه أعلمهم به في أكثر الأحاديث، ولأنه أخبر معاذاً بذلك، وهو منهم، ولأن معاذاً أخبر بذلك عند موته خوف الإثم في كتمه، وهو راوي الحديث والعارف بما صَحِبَه مِن القرائن، ولأن الإجماعَ استقر بعدُ على ¬
رواية ذلك، والقرآن نص على الأمر به، لا على الأمر بنقيضه، وقد بشَّر يوسفُ إخوته بالمغفرة، وبشرهم أبوهم عليه السلام، وهذا كله مع بقاء الخوف بجهل الخواتم إجماعاً، ولشرط المشيئة في القرآن عند أهل السنة مع ذلك يُبْطِلُ ما يُظَنُّ من المفسدة، وتكون الفائدة منع القنوط لا سوى، تتبين بذكر كل واحدٍ من هذه الأمور الثلاثة على انفراده. فأمَّا الأمر الأول: وهو المعارضة بعمومات الوعيد، فلا يَصِحُّ، لأن المعارضة تقتضي الوقف، والوقف يقتضي الرجاء، ولأنَّ الخاصَّ موجودٌ مشهور، والخاص مقدَّمٌ على العام، وأدلة الرجاء أخص وأبين كما يظهر لك الآن إن شاء الله تعالى. والوعيدية على هذا في غير هذه المسألة، بل هم عليه فيها عند حاجتهم إليه، بل لا بد لهم من ذلك في هذه المسألة بعينها، فإنهم إنما قطعوا بغفران الصغائر وإخراجها من عموم: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 23] لأن آية الصغائر أخصُّ مع معارضة قوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرَّةٍ شرّاً يَرَهْ} [الزلزلة: 8]، لقوله (¬1): {إنْ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} [النساء: 31] من بعض الوجوه، ولذلك احتاجوا إلى تأويلها، بل تراهم يُخَصِّصُون القرآن بالحديث الآحادي متى كان عموم القرآن في الوعد بالثواب، كما يَخُصُّون قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] في نحو عشر آيات في هذا المعنى، كقوله تعالى في الصادقين والمصدقين في سورة " الزمر ": {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 35]، وقوله تعالى في " الأحقاف ": {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} [الأحقاف: 16]، وقوله تعالى في المؤمنين في [العنكبوت: 7]: {لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ¬
أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} وغيرها مما يأتي بيانه، وأنه مُخَصَّصٌ للمجازاة على كل شيءٍ إن شاء الله تعالى بالكافرين (¬1)، وكذا نحو قوله تعالى: {ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [التغابن: 16]، يخصونه بكون الزكاة شُرعت مُسقطةً لبقية الحقوق ومطيبةً للأموال، فلو ذهب جميع ما يَمْلِكُ من غير نيةِ الزكاة ولا مصرفها، ولم يُزَكِّ ماله، لم ينفعه ذلك، ولو شحَّ ببقية ماله بعد إخراج الواجب (¬2) لم يَضُرَّه ذلك، وسمعتُ بعضهم يقول: إنما يُخَصُّ القرآن بهذه الأخبار الآحادية، لأنها عمليةٌ ظنية، والاعتقاد لا يدخله الظنُّ. قلت له: فمحالٌ أن تُجوِّزوا صدقها عند العمل بها، واعتقادكم جازمٌ أن العموم لم يُخصَّ بها، أو أن تعملوا بها، واعتقادكم جازم على أنها مكذوبةٌ باطلةٌ، أو أن تعتقدوا أنها تُفيدُ العلم دون سائر أخبار الثقات، وهذا مُبْطِلٌ لقولهم: لا يصح التَّعبُّدُ بالظن فيما سبيله الاعتقاد، وهذا وقولهم: إن الاعتقاد لا يُخَصَّصُ يَبْطُلُ بمعارضتهم مثله في آيات الوعد، فما صنعوا فيها صنع أهل السنة في آيات الوعيد مثله (¬3) مع أنه مخالفٌ للظاهر من إجماع العترة حيث خصَّصُوا آية النجوى بما رُوي من تفرُّد علي عليه السلام بالعمل بها (¬4)، مع أن ظاهر القرآن أنه لم يعمل بها أحدٌ، لقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13]، فخص أهل البيت علياً عليه السلام بحديثٍ آحادي، ولم يكن ذلك تكذيباً لكتاب الله تعالى عند أحدٍ ممن يعقلُ التخصيص، ويدري بالتفسير والحمد لله. بل صرَّحوا بشفاعة قارىء: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لمن عرفه في النار كما مر من رواية محمد بن منصور عنهم، عن علي عليه السلامُ في " علوم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - "، وأوضحُ من هذا تخصيصهم للآل بآية التطهير دون نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ظهورها فيهن، والاتفاق على أن سياقها، وما قبلها (¬5)، وما بعدها ¬
فيهن فاعتبِرْ هذا وزِنْ أقوالهم، فإنه لا فرق بين تأويلهم لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69] وبين تأويل الجميع لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23]، وذلك لأن الطاعة والمعصية تَصْدُقُ على المرة الواحدة، فمن أطاع مرة واحدة، وعصى مرة؛ فقد تناوله الوعد والوعيد ووَجَبَ الوقف في حاله، حتى يتبين مراد الله فيه من غير هاتين الآيتين. وكذلك قوله تعالى في الحِرْزِ: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُون} مخصوصٌ بالإجماع على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - شفيعٌ مُشفَّعٌ، وأن ذلك تفسير المقام المحمود الذي وعده في كتابه، وإن اختلفوا لمن تكون شفاعته، وكذلك نفيُ الشفيع مخصوصٌ مع الإجماع، كقوله (¬1) تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86 - 87]، وبما تواتر في السنة النبوية، فما الفرق بين تخصيص وتخصيص؟ وكيف يكون التخصيص تكذيباً مع مثل هذا؟ وعند أهل السنة أن ذلك التعارض المتوهَّم قد تَبَيَّنَ بقوله تعالى: {إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السيئاتِ} [هود: 114]، وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} [التوبة: 102]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 116]، مع ما عَضَدَ هذه الآيات وأمثالها من البيان النبوي المعتاد مثله في كل عمومات القرآن، وأنواع الشرائع والتكاليف، وعندَ الوعيدية أن ذلك قد تبين بقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وسيأتي الكلام عليها، وإيضاح أنها في بيان حكم المجتنبين للكبائر، وآيات أهلِ السنة وأحاديثهم في بيان حكم المرتكبين للكبائر، وتقسيمهم إلى مشركٍ وغيره، فهو أبين كما يَتَّضِحُ إن شاء الله تعالى. وأمَّا الأمر الثاني: وهو المعارضة بالوعيد الخاصِّ ببعض الكبائرِ بخصوصه، فلا نُسَلِّمُ صحة شيء من ذلك بخصوصه وَرَدَ في المؤمنين ¬
بخصوصهم على سبيل النصوصية القطعية بحيث يَتَعَذَّرُ تخصيص المؤمنين من عمومه أصلاً، وأشهر ما تمسكوا به أمور: الأول -وهو أعظم ما يشتبه من ذلك- قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وهي آيةٌ عظيمة اشتملت على وعيدٍ هائلٍ لمن اجترأ على هذه المعصيةِ الكبيرة التي صح تسميتها كفراً في أحاديث كثيرة، ونص كتاب الله تعالى على أن فاعلها بغير حقٍّ كمن قَتَلَ الناس جميعاً. ونص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنها أعظم عند الله من زوال الدنيا (¬1) وحَمَلَتْ (¬2) حَبْرَ الأمة وبحرَها عبد الله بن العباس رضي الله عنهما على القول بأن التوبة لا تُقْبَلُ منه (¬3) حِرصاً على بقاء وعيدها وعدم الترخيص لأحدٍ بتخصيصه، ولكنها مع ذلك كُلِّه لا يمنع من النظر في سائر كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأمرٍ ما حفَّها الله تعالى بآيتين كريمتين، تقدَّمتها إحداهما وتعقبتها الأُخرى في سورةٍ واحدةٍ، وهما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 116]، حتى روى أبو داود في " سُننه " عن أبي مجلز لاحقِ بنِ حميد التابعي الجليل أحد أصحاب ابن عباس أنه قال: هي جزاؤُه فإن شاء الله أن يتجاوز عن جزائه فَعَلَ (¬4). بل رَوَى العلاء بن المسيَّب، عن عاصم بن أبي ¬
بحث في توبة القاتل ومناقشة رأي ابن عباس فيها
النَّجود أحد القراء السبعة، عن ابن عباس أنه قال: هي جزاؤه إن شاء عذَّبه وإن شاء غَفَرَ له (¬1)، ورُوي نحو ذلك عن عون بن عبد الله (¬2)، وعن أبي صالح (¬3)، ومحمد بن سيرين (¬4)، ذكرها الظاهري في " تفسيره "، وتلا محمد بن سيرين {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ولا بد من ذكر الأقوال على التقصِّي في ذلك على حسب ما عرفت. القول الأول: قول ابن عباس: إنها محكمةٌ، وإنها نزلَتْ بعد آية الفُرقان التي ذُكِرَتْ فيها التوبة، وأنه لا توبة للقاتل (¬5) يعني بحيث يقطع على وجود الطريق إلى النجاة. أمَّا على جهة الرجاء مع بقاء الخوف الذي هو الوازعُ الشرعي، فقد روى ¬
عنه عاصم القارىء ما يقتضي جوازه كما قدَّمنا. قال إمامُ أهلِ السنة ابن قيم الجوزية في كتابه الجليل المُسَمَّى بـ " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " (¬1): وقد جعل الله جزاء قتل النفس المؤمنة عمداً الخلود في النار، وغَضَبَ الجبار، ولعنتَه (¬2)، وإعداد العذاب العظيم له، هذا موجب قتل المؤمن عمداً ما لم يمنَعْ منه مانعٌ، ولا خلاف أن الإسلام الواقع طوعاً بعد القتل مانعٌ من نفوذ ذلك الجزاء، وهل تَمْنَعُ توبة المسلم منه بعد وقوعه؟ فيه قولان للسلف والخلف، وهما روايتان عن أحمد، والذين قالوا: لا تمنع التوبة منه رأوا أنه حقُّ الآدمي لم يَسْتوفِه في دار الدنيا وخَرَجَ منها بظُلامته، فلا بد أن يُستوفى له في دار العدل إلى آخر كلامه في ذلك وهو كلامٌ طويلٌ مفيدٌ. والجواب على ابن عباس رضي الله عنهما ومن قال بقوله من وجوهٍ: الأول: أن آية الفرقان، وإن تقدمتها، فإنها أخصُّ منها، والعام لا ينسخ الخاص على الصحيح، ألا ترى أن آية القتل هذه مخصوصة عند ابن عباس وعند الجميع بما ثبت قبلها من كون الإسلام يجب ما قبله، وقد نزل في المائدة: {اليوم أُحِلَّ لكم الطيبات} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب} [المائدة: 5] وهي بعد النساء، ولم تنسخ هذه العمومات شيئاً مما حرَّمه الله في سورة النساء من النساء المحرمات بالقرابةِ والمصاهرة، ولا من غيرهن، وإن كان العموم يقتضي ذلك، وأمثال ذلك ما لا يُحصى، وهذا مُستقصىً في أصول الفقه. الوجه الثاني: أن التوبة قد وردت في " المائدة " وهي بعد النساء وذلك في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا ¬
عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [المائدة: 33 - 34]، وكان نزولها في الذين قَتَلُوا رَاعِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاتفاق كما في دواوين الإسلاها كلها (¬1) مثل ما أن آية الفرقان نزلت في مشركي قريش كما في الكتب الصحيحة من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (¬2) فإن قيل: إنها نزلت في الرعاء وكانوا مرتدين، وابن عباس لم يُخالِفْ في توبة الكافر والمرتد من القتل والكفر. قلنا: وآية القتل نزلت في مرتدٍّ عن الإسلام كما سيأتي، فإما أن يُعتبر العموم في جميع المواضيع، أو تُعتبرَ الأسباب، وأيضاً فإن جوابنا على تقدير اعتبار العموم المتأخر. وكذلك قوله تعالى: {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِين} [يوسف: 9] فيه ما يدل على صحة التوبة من القتل في شرع من قبلنا، وشرعنا أكثر ترخيصاً وتيسيراً بالإجماع. ¬
الوجه الثالث: أنه لا يَحْصُلُ الأمان المقتضي للمفسدة من القول بقبولِ التوبة، فإن الخوف مع التوبة باقٍ، والخواتم والسوابق مجهولةٌ ولذلك قيل: يَخَافُ على نفسه من يَتُوبُ ... فَكَيْفَ يُرَى حَالُ من لا يتوبُ وهذا إجماعٌ على قواعد المرجئة، بل القنوط أدعى إلى ارتكاب الكبائر، كما صح في حديث الذي قتل تسعة وتسعين (¬1) كما يأتي في بقية الحُجج على ابن عباس رضي الله عنه. الوجه الرابع: أن الله تعالى وإن نصَّ على أن جهنم جزاء القاتل، فإنَّ رحمته سابقةٌ غالبةٌ لغضبه، واسعةٌ لجميع المذنبين من خلقه، كما نصَّ على ذلك القرآن والسنة، ومن رحمته قبولُ توبة التائبين، وقد قال تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] وقال تعالى حاكياً عن الملائكة إنهم قالوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَك} [غافر: 7] ففرّق سبحانه في الآيتين بين سعة رحمته وكتابتها، فجعل سعتها عامةً لِكُلِّ شيءٍ على حدِّ عمومه لكل شيء، وجعل كتابتها التي هي وجوبها خاصةً (¬2) بالمؤمنين والتائبين الذين كلامنا فيهم، فلو خَرَجَ القاتل التائب من خصوص من كُتِبَتْ له الرحمة ما خرج من عموم من وَسِعَتْهُ، والدليل على أن سعتها غير كتابتها وجوه: الأول: أنه الظاهر لغة. الثاني: أنه جعل السَّعَة لكل شيء في الآيتين (¬3) معاً، وجعلها مثل سعة العلم الذي لا أوسع منه، فلا يخرج منه شيءٌ قطعاً، وجعل الكتابة خاصَّةً بالمؤمنين، والدعاء خاصّاً بهم. الثالث: أنه لو لم تَسَعْ ذنبَ الكفر والقتل، لم يَهْدِ كافراً، ولا قاتلاً إلى ¬
التوبة، ثم يقبلها منه، وقد قال في اليهود الذين هم المغضوب عليهم في التفسير المرفوع، وفي نصوص القرآن، على لعنهم والغضب عليهم، فقال في حقِّهم: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} [البقرة: 51 - 52]، يعني سبحانه: وفَّقَهُمْ للتوبة ثم قَبِلَها منهم. الرابع: أنه تعالى إذا أفردَ الخطاب مع المؤمنين، ذكر كتابة الرحمة التي تمنع الوجوب، وإذا خاطب الكافرين مفردين، ذكر سَعة الرحمة التي تمنعُ القنوط ويكون رجاؤها سبباً للرجوع إلى الله تعالى، فقال في خطاب المؤمنين: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام: 54]، وقال في الكفار: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} [الأنعام: 147]. الوجه الخامس: أنها قد قُبِلَتْ توبة القاتل إذا كان مُشركاً، فأسلم بموافقة ابن عباس، فأولى أن تُقبل توبةُ المسلم، لأن الإسلام يزيد أهله قُرباً إلى الله تعالى، وإلى قبولِ ما يتقربون إليه به من توبةٍ وغيرها، بل هو شرطٌ في قبول عباداتهم، فيقبلُ منهم ما لا يُقبل من الكافرين إجماعاًً. الوجه السادس: أن طاعات القاتل صحيحةٌ، ولذلك خُوطِبَ بالفرائض ووجبت عليه، وصحَّت منه، وكما صَحَّت صلاته وزكاته وحجه وصومه تصحُّ توبته ورجوعه إلى الله تعالى، وأي توبة أعظم من توبه القاتل الذي يَبْذُلُ نفسَه للقَوَدِ، بل قد جَعَلَها مختارٌ في كتابه " المُجتبى " حُجَّة على من قال من شيوخ المعتزلة: إن التائب لا يعلم قبول توبته، لأنه يجد الخوفَ مع التوبة، ولأنه لا يأمن أن يكون مُفرطاً في بعض شروطها، فأجاب الشيخ مختار: بأن أحوال التائبين تختلِفُ، وقد يمكن أن يعلَمَ ذلك بعضهم كمن تاب من القتل، وبذل جميع ما يعلم أنه يجب حتى بَذَلَ نفسه، وسلَّمها للقتل. الوجه السابع: أنها قد وردت منصوصةً في الأحاديث المتفق على
صحتها كحديث الذي قتل تسعةً وتسعين، ثم سألَ عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على رجلٍ عابدٍ، فقال له: " لا توبة لك فقتله، ثم دُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فأمره بالتوبة، وبمفارقة أرضه، فسار مهاجراً إلى أرضٍ غير أرضه، فمات في الطريق، فتخاصمت فيه ملائكةُ الرحمة وملائكة العذاب، فأمرَ اللهُ تعالى مَلَكاً أن يحكُمَ بينهم، أن يقيسوا ما بينه وبين الأرض التي عصى فيها، والأرض التي هاجر إليها، فقاسوا، فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبرٍ، فقبضته ملائكة الرحمة ". رواه أهل الصحاح من وجوه كثيرة (¬1). وروى البخاريُّ عن عبد الله بن يوسف، عن مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: " يضحك الله عزَّ وجلَّ إلى رجلين يقتل أحدهما الآخرَ يدخلان الجنة، يُقاتِلُ هذا في سبيل الله فيُقتلُ، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد " رواه البخاري في " الجهاد "، وترجم له: باب الكافر يقتلُ المسلم [ثم يُسلم] فيسدِّدُ بعدُ ويُقتل. ورواه النسائي في " الجهاد "، وفي " النعوت " عن محمد بن سلمة، والحارث بن مسكين كلاهما عن ابن (¬2) القاسم، عن مالكٍ بسنده، وقال في متنه: " يَعْجَبُ الله من رجلين " وساق الحديث (¬3). ¬
الوجه الثامن: ما يذكره أهل علم الكلام أو بعضُهم من النظر العقلي، لأنه يلزَمُ من ذلك بُطلان التكليف، لأن التكليف مبنيٌّ على الابتلاء، لقوله تعالى في غير آية: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، و [الملك: 2]، والابتلاء لا يصحُّ إلاَّ مع بقاء الدواعي، والصوارف، والخوف، والرجاء، والقنوط يبطل ذلك، وربما قالوا: إن ذلك يؤدي إلى تكليف ما لا يطاق، وهو ممنوعٌ كما ذلك مُقرَّرٌ في مواضعه، وإنما كان يُؤدي إلى ذلك، لأنه مخاطبٌ بطاعة الله ما دام في دار التكليف، فوجب أن يكون له إليها طريق، ولا طريق له إليها إلاَّ بالتوبة، وبذل ما يجبُ، وهذا واضحٌ والحمد لله وحده. القول الثاني: إن القاتل المتعمد كافرٌ، لأنه عصى الله تعالى عمداً، وكل من عصى الله متعمداً (¬1) فهو كافر، وهذا هو قول الخوارج، وهو مخالفٌ لما عُلِمَ من ضرورة الدين وإجماع المسلمين قبلهم وبعدهم، وقد انقرضوا ولله الحمد. القول الثالث: أن صاحب الكبيرة منافق، لأنه لو كان مؤمناً لمنعه (¬2) الإيمانُ بالله وجلاله ووعيده من ارتكابها، وهذا مرويٌّ عن الحسن البصري، وقد انقطع وانقرض خلافه أيضاً، وقد عُلِمَ من الدين خلافه، وقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحدود على المسلمين، ولا حدَّ على كافرٍ، ولا منافق، وقد صح أنها كفارات لأهلها (¬3)، ولا كفارة لكافر ولا منافق، وسيأتي في الرد على من قال بكُفرِ القاتل ¬
خصوصاً، ما يدل على بطلان قول الخوارج، وقول الحسن البصري: القول الرابع: أن قاتل المؤمن عمداً كافرٌ دون سائر الكبائر، لما ورد في ذلك من النصوص الصِّحاح المتفق على صحتها وشُهرتها وتلقِّيها بالقبول، مع ما يشهد لها من غيرها، فمن أصحِّها (¬1) وأصرحها: الحديث الأول: عن المقداد بن الأسود أنه قال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يديَّ بالسيف فقطعها، ثم لاذَ مِنِّي بشجرةٍ، فقال: أسلمتُ لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقتله "، فأعاد السؤال، فأعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجواب، ثم قال: " فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تَقْتُلَهُ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كَلِمَتَه التي قالها ". وفي رواية: فلَمَّا أهويتُ لأقتُلَه قال: لا إله إلاَّ الله، وذكره. أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن المقداد (¬2). الحديث الثاني: حديث (¬3) ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سِبَابُ المؤمن فُسُوقٌ وقتاله كفرٌ " متفق على صحته (¬4). الحديث الثالث: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " متفق عليه من حديث أبي بكرة وغيره (¬5). ¬
الحديث الرابعُ: حديث مروق الخوارج، وفيه أحاديث صحيحة شهيرة (¬1) والعلة في مروقهم هو ذلك. وأما شواهد ذلك، فقوله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، فيكون كمن قتل جميع الأنبياء والمرسلين، وذلك كافرٌ إجماعاً، فمن أشبهه (¬2)، فهو كافر مثله. ومنها حديث: " كلُّ ذنبٍ عسى أن يغفره الله (¬3) إلاَّ من مات كافراً أو مؤمنٌ قتل مؤمناً متعمداً " رواه أبو داود (¬4) وحده من حديث خالد بن دهقان، عن عبد الله بن أبي زكريا، عن أمِّ الدرداء، عن أبي الدرداء، وإسناده صالح ليس فيه من تُكلم فيه، إلاَّ مؤمَّل بن الفضل الراوي (¬5) له أبو داود عنه، عن محمد بن شعيب بن شابُور، عن خالدٍ به. قال العقيليُّ: في حديث مؤمَّلٍ وهم لا يُتابع عليه. وقال أبو حاتم: ثقةٌ رضاً. ومع هذا، فقد شَهِدَ له ما رواه النسائي (¬6) من حديث معاوية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ولفظه: " كل ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلاَّ الرجل يقتل مؤمناً متعمداً أو الرجل يموت كافراً "، وهذا مثل الأول في النصوصية، لأن القاتل لو كان كافراً لم يعطف عليه من مات كافراً. ¬
وروى أحمد في " المسند " (¬1) قال: حدثنا زكريا بن عدي، أخبرنا بقية، عن بُحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المتوكل أو أبي المتوكل، عن أبي هريرة: " خمسٌ ليس لهُنَّ كفارةٌ: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبَهْتُ (¬2) مؤمنٍ، والفِرار يوم الزَّحفِ، ويمينٌ صابرةٌ يقتطعُ بها مالاً بغيرِ حقٍّ " ذكره ابن الجوزي في الحديث الثاني والسبعين بعد السبعمئة من مسند أبي هريرة. وروى ابن ماجه (¬3) في الديات، عن عمرو بن رافع، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من أعان على قتل مؤمنٍ ولو بشطر كلمةٍ، لَقِيَ الله مكتوبٌ بين عينيه: آيِسٌ من رحمة الله ". وروى النسائي والترمذي (¬4) من حديث ابن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلمٍ ". قال الترمذي: وقد رُوي موقوفاً عليه، وهو أصح. وروى الترمذي (¬5) من حديث أبي الحكم البَجَليِّ قال: سمعت أبا هريرة وأبا سعيدٍ الخدري يذكران عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لو أن أهل السماء وأهل (¬6) الأرض اشتركوا في دمٍ، لأكَبَّهُمُ الله في النار ". ¬
وخرَّج الحاكم في " المستدرك " (¬1) من حديث نصر بن عاصم، عن عقبة بن مالك في قصة من أسلم تعوّذاً وخوفاً (¬2) من القتل في ظن القاتل، فَغَضِبَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله وهو يُعْرِضُ عنه، فقال له في الثالثة: " إن الله أبى على من قَتَلَ مؤمناً. إن الله أبى على من قتل مؤمناً. إن الله أبى على من قتل مؤمناً " قالها ثلاثاً مؤكداً لذلك. وقال الحاكم: هذا حديثٌ مخرَّجٌ مثله في " صحيح مسلم ". وهو نصٌّ في سببه. ورواه أحمد في " المسند " (¬3)، وقال: بشر بن عاصم مكان نصر بن عاصم. وخرَّجه ابن ماجه (¬4) عقبة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من لَقِِيَ الله لا يُشرك به شيئاً لم يَتَنَدَّ (¬5) بِدَمٍ حرامٍ دخل الجنة "، وسنده قوي ليس فيه إلاَّ عبد الرحمن بن عائذ، عن عقبة، قيل: إنه صحابي ووثقه النسائي، وإنما ضعَّفه الأزدي، وليس بمعتمدٍ، بل هو مضعف مختلف فيه. وقال أحمد في " المسند " (¬6): حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن ¬
أحاديث في أن قاتل نفسه من أهل النار
زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عنده .. إلى قوله: وسألوه عن أشياء: [هل] علينا حرجٌ في كذا وكذا، قال: " عِبَادَ الله وَضَعَ الله الحَرَجَ إلاَّ امرءاً اقترض (¬1) امرءاً مسلماً ظلماً، فذلك حَرِجَ وهلك " قالوا: ما خير ما أُعطِيَ الناسُ قال: " خُلُقٌ حَسَنٌ ". وخرَّجه الحاكم (¬2) في الطب عن زياد، كلهم أئمة وبالغ في تصحيحه، لكن لفظه: " إلاَّ من اقترف من عرض امرىء مسلم "، وطرقُه في العِرْض كلها، لا في القتل. وفي " الكشاف " نحو هذه الأحاديث السديدة بغير إسناد، وهذه تشهد لها، والله أعلم. وفي " الصحيحين " أحاديث نصوص في أن قاتل نفسه من أهلِ النار. أحدها: عن سهل بن سعد (¬3)، وثانيها: عن جندب (¬4)، وثالثها عن أبي هريرة (3) وهي في الرجل الذي قاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مُدَّعٍ للإسلام. وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل النار، فارتاب بعض الناس، وقالوا: " أيُّنا من أهل الجنة إن كان من أهل النار، فقال رجلٌ من القوم: أنا صاحبه أبداً، فجاء فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل أصابه جِراحٌ شديدةٌ، فَجَزِعَ وقتل نفسه. ورابعها: عن أبي هريرة أيضاً وتفرد فيه بذكر الخلود، ولم يرد على سبب له، وأوله: " من تَرَدَّى من جبلٍ فَقَتَلَ نفسه، فهو في النار يتردَّى خالداً فيها مُخَلَّداً " (¬5) الحديث. ذكرها ابن الأثير كلها في كتاب القتل من حرف القاف من " جامع الأصول " (¬6). ¬
وفي حديث جندب: " بدرني عبدي بنفسه حَرَّمْتُ عليه الجنة " وفيه: " أنه ممن كان قبلكم " وحديث علي عليه السلام وجابر، في هذه الأمة والله أعلم. وفي الترمذي من حديث ابن عباس: " يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ورأسه وناصيته بيده، وأوداجه تشخُبُ دماً، يقول: يا رب سَلْ هذا فِيمَ قتلني " وقال: حديثٌ حسن (¬1). وفيه أيضاً عن نافع قال: نظر عبدُ الله يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حُرمتك، والمؤمن أعظم حرمةً عند الله منك " وقال: حديثٌ حسن (¬2). وفي " صحيح البخاري " (¬3) عن جندبٍ: " ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة كفٌّ من دمٍ أهراقه، فليفعل ". وفي " صحيحه " (¬4) أيضاً عن ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال المؤمن (¬5) في فُسحَةٍ من دينه ما لم يُصِبْ دماً حراماً ". وذكر البخاري (¬6) أيضاً عن ابن عمر قال: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكُ الدم الحرام بغير حِلِّهِ ". وفي " صحيح البخاري " (¬7): " من قَتَلَ معاهداً لم يَرَحْ رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً " فهذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن الذي صح أن الله يُعادي من يؤذيه ويُؤْذِنُه ¬
ذكر الحجج لمن لا يكفر القاتل المتعمد
بالحرب، وقد عُذِّبَتِ امرأةٌ في هِرَّةٍ حبستها حتى ماتت جوعاً وعطشاً كما ثبث في " الصحيح " (¬1). فهذه شواهد تحمل كفر القاتل المتعمد على ظاهره، فلا يَرِدُ وعيدُ القاتل نقضاً على أهل السنة في رجائهم لسائر أهل الكبائر التي لم يرد في شيء منها أنه كفر. والجواب أن القتل أكبر الكبائر بعد الشرك بالله بغير ريب، والمصير إلى السنن الصحاح الخاصة واجبٌ على مقتضى قواعد أهل العلم، ولكن قد صح ورود الكفر في الحديث، والمراد به كفرٌ دون كفرٍ، كما في حديث وصف النساء بالكفر، قالوا: يا رسول الله: يكفرن بالله؟ قال: " لا، يكفرن العشير " يعني الزوج. متفق على صحته (¬2). وله نظائرُ كثيرةٌ، هذا (¬3) منها لما نذكره من الأدلة الواضحة إلاَّ من استحل قتل المؤمن، فإنه كافر، وخصوصاً أفاضل المؤمنين المعلوم إيمانهم بل فضلهم وتفضيلهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي. ولمن لا يكفره حُججٌ: الحجة الأولى: حديث ابن مسعود المتفق على صحته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يَحِلُّ دمُ امرىءٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ: الثَّيِّبُ الزاني، والنفسُ بالنفس، والتاركُ لدينه المفارق للجماعة " (¬4). وعن عائشة نحوه رواه أبو داود والنسائي (¬5). ¬
وعن أبي أُمامة بن سهل، عن حنيف، عن عثمان أنه قال يوم الدار مثل ذلك. رواه الترمذي والنسائي (¬1). قلت: وفيه تقرير الحاضرين مع كثرتهم لعثمان على ذلك، وفي جميع هذه الأحيان جعل القاتل مسلماً، ويعضُدُهُ من النظر أنه أوجب القصاص عليه، وأجمع المسلمون على ذلك، مع الإجماع على (¬2) أنه (¬3) لا قِصاص بين المسلمين والكفار، فلو تاب الكافر بعد قتل المسلم لم يُقْتَصَّ منه إجماعاً، ولو تاب القاتل بعد القتل وجب القصاص بعد التوبة إجماعاً. الحجة الثانية: إسقاط العفو من أولياء المقتول للقصاص ولو كان القتل كُفراً، وَجَبَ قتل القاتل بالكفر وإن سقط القصاص. الحجة الثالثة: الإجماع على وجوب الصلاة والزكاة عليه، وصحة فرائض الإسلام منه، وإقامة حدِّ الزنى عليه، وحد السرقة والخمر وغير ذلك مما يختصُّ بأهل الإسلام، ولا يشرع في حق أهل الكفر، ولا تصح الفرائض من كافر إجماعاً، بل لا تجب عليه عند الزيدية والحنفية. الحجة الرابعة: أنه لا ينفسِخُ نكاح زوجته بالقتل ويجوز (¬4) تزويجه ابنته المسلمة (¬5)، بل لا تسقط ولايته لقريبته المسلمة في النكاح عند كثيرٍ من العلماء، إلاَّ عند الناصر والشافعي. وبهذه الأشياء يلزم المعتزلة ومن وافقهم من الوعيدية تسميته مسلماً، والمسلم عندهم مؤمنٌ لا فرق بينهما، والمؤمن المسلم محل لما وَرَدَ في آيات الوعيد بالمغفرة والتجاوز لمن شاء الله أن يغفر له ممن ذنبه دون الشرك، ولكن ¬
قد صَحَّتِ الأحاديث بإخراجه من ترجِّي المغفرة المحضة عند الجمهور، إنما بقي الخلاف في أنه من أهل الخلود والكفارات أو لا كما سيأتي. الحجة الخامسة: ما تقدم هو ما رواه أبو داود والنسائي من حديث واثلة بن الأسقع أن ناساً من عبد القيس سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صاحبٍ لهم أوجب النار بالقتل، فقال: " أعتِقُوا عنه يعْتِقِ الله بكل عضوٍ منها عضواً منه في النار ". وإسناده قوي، خرَّجه الحاكم في العتق من " المستدرك " وقال: على شرطهما (¬1)، وتشهد له أحاديث فضل العتق كما يأتي، وهذا من قبيل، التكفير، لا من قبيل المغفرة المَحْضَة قوله تعالى: {إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114]، في عشر آياتٍ أو أكثر في معناه كما يأتي خصوصاً على قول الخصوم: إن العموم في الأخبار يفيد الاعتقاد القاطع، ولا يجوز تخصيص الاعتقاد كعمومات الوعيد سواء. الحجة السادسة: أنه لا يَجِبُ قتله بولده، ولو كان كُفراً قُتِلَ بالكفر، وسواءٌ كفر بقتل ولده أو غيره، وكذلك لا يُقْتَلُ بعبده على الخلاف في ذلك، وكذلك (¬2) اختلفوا في قتلِ الرجل بالمرأة وإن كان فيه شذوذ، بل اختلفوا في القتل إذا كان بالحجر ونحوه، ولم يكن بالسيفِ ونحوه، فلم يوجبْ أبو حنيفة فيه القصاص ولا القتل. الحجة السابعة: ما تقدَّم من حديث عبادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بايعهم ليلة العقبة على أشياء أن لا يفعلوها، منها: قتل أولادهم، ثم قال: " فمن عُوقِبَ بشيءٍ من ذلك في الدنيا، فهو كَفَّارتُه، ومن لم يعاقب فأمره إلى الله إن شاء عذَّبَه وإن شاء عَفَا عنه " (¬3) وسيأتي تمام البحث فيه، ويعضد عمومه ما رواه النسائي (¬4) ¬
في القتل بخصوصه من حديث بريدة أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن هذا قتل أخي، قال: " اذهب فاقتله كما قتل أخاك "، فقال له الرجل: اتق الله واعفُ عني، فإنه أعظم لأجرك، وخيرٌ لك ولأخيك يوم القيامة، قال: فخلَّى عنه، فأُخْبِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فأخبره بما قال له، قال: فأعتَقَه، فقال: " أما إنه كان خيراً مما هو صانعٌ بك يوم القيامة، يقول: يا ربِّ سَلْ هذا فِيم قتلني " ذكره ابن الأثير في الفصل الرابع في العفو من كتاب القتل من حرف القاف من " الجامع " (¬1) وهو يدل على أن من قُتلَ قِصاصاً كان ناجياً يوم القيامة فهو بالقصاص (¬2) بالقتل مثل حديث قتادة في الحدود على العموم والحمد لله. الحجة الثامنة: حديث جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المهاجر الذي مَرِضَ فجَزِعَ فقَطَعَ براجِمَه فمات، فرآه الطفيل بن عمرو في الجنة مُغَطِّياً يديه، وقال: إن الله غفر له بهجرته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: فما بالك (¬3) مغطياً يديك قال: قال الله لي: أما ما أفسدت من نفسك، فلَنْ نُصْلِحَه، فقَصَّها الطفيل على رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وَلِيَدَيْهِ فاغفر " رواه مسلم (¬4). ويعضُده قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، وقاتل نفسه كقاتل غيره في الإثم (¬5) وفيه الأحاديث الصحاح مثل حديث: " من قَتَلَ نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده يجأ بها بطنه في النار خالداًَ مخلداً " (¬6). الحجة التاسعة: ما ورد مما يدلُّ على استحباب العفو عنه وتأكيد ذلك حتى روى النسائي (¬7)، من حديث أنس، أن رجلاً أتى بقاتل وَليِّه رسول الله، فقال ¬
له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اعفُ عنه " فأبى، فقال: " خُذِ الدية "، فأبى، فقال: " اذهب فاقتله فإنك مثله " فذهب فلحِقَ الرجل. فقيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتله فإنه مثله " فخلَّى سبيله فمرَّ بي الرجل وهو يَجُرُّ نِسْعَتَه (¬1). فهذا رواه النسائي على تشيعه ورواه ابن الأثير في " الجامع " (¬2) في حرف القاف في الفصل الرابع في العفو. وذكر بعده حديثاًً في معناه رواه مسلم في " صحيحه " (¬3) من حديث وائل بن حُجر وفي آخره عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن أشوع ما يُوهمُ أن العلة في كونه مثله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أن يعفُوَ عنه فأبى، ويدل عليه حديث بريدة المقدم في الحجة السابعة. الحجة العاشرة: أن القتل لو كان كفراً لكان الأمر في قتل القاتل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا إلى أولياء المقتول. القول الخامس: أنه مؤمن كامل الإيمان، وأن إيمانه يُكَفِّرُ ذنبه قطعاً إن استقام على الإيمان حتى يموت، وختم له بذلك، لكنه لا يعلم ذلك، فهو يخاف العذاب لعدم علمه بالخاتمة، ويخاف من ذنب القتل أن يكون سبباً في سوء الخاتمة، والموت على غير الإسلام، وهذا قول المرجئة، وأحاديث الشفاعة العامة في العصاة ترُدُّه، لأنها مصرِّحة بدخولهم النار، بل أحاديث قتل المؤمن للمؤمن المقدمة تردُّه، وإنما لم يُحتج عليهم بالآية، لأن النزاع فيها لعدم نصِّها على أن القاتل مؤمن كما يأتي بيانه. أمَّا الأحاديث المقدمة عن أبي الدرداء، ومعاوية، وعقبة بن مالك، فإنها نصوصٌ في قتل المؤمن للمؤمن، وإنه كالشرك بالله مما خص بأنه لا يُغفر، فوجب تقديمها لنصوصها وخصوصها على جميع قواعد أهل العلم، إلاَّ أنه يلزَمُ ¬
المعتزلة ألا يقولوا بها متى التزموا قاعدتهم في أن العمومات الخبرية في الوعد والوعيد لا يجوز تخصيصها بالآحاد، وإنه لا يجوز التخصيص للاعتقاد وقد تقدم بطلانه، وسيأتي أيضاً والرد على المرجئة في كل كتابٍ من كتب الحديث الصحاح، وبذلك ابتدأ البخاري " صحيحه " ونصرَه شُرَّاح كتب الحديث، وقد تطابق على تزييف قولِهم أهل الحديث وأهل الكلام وجميع طوائف الإسلام، وانقرضوا فلم نُعَاصِرْ منهم أحداً بحمد الله، ولذلك لم نُطَوِّلْ بالرد عليهم، كما لم نطول في الرد على الخوارج، ومن قال: إن العاصي المتعمد منافقٌ ونحوهم، لظهور بُطلانها، وانقراض أهلها، وعدم معاصرة من يجادل عليها ويَذُبُّ عنها، ولكن ينبغي ممن يسمعُ بقول المرجئة ممن أنكره أو قَبِلَه، أن لا يغفل عن قولهم: إن الكبيرة قد تكون سبباً للكفر عند الموت، " وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذ من تخبُّطِ الشيطان عند الموت " (¬1) خاصة إذا قاربها الاستحقاق أو الأمان كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه} [الروم: 10]، وقد جوّد التعبير عن هذا المعنى الغزالي في كتاب التوبة من " إحياء علوم الدين " فليطالع هنالك، وما أوقع قوله (¬2) فيه: وقول العاصي للمطيع: إني مؤمنٌ وأنت مؤمن، كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر: إني شجرة وأنت شجرةٌ، فتقول شجرة الصنوبر بلسان الحال: ستعرفين اغترارك بشمول الاسم، إذا عصفت رياح الخريف، فعند ذلك تَنْقلِعُ أصولُك، وتتناثر أوراقك، وينكشف غرورك، بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة عن أسباب ثبات الأشجار، وهو أمرٌ يظهر عند الخاتمة. وإنما تقطعت نياط قلوب العارفين خوفاً من الفوت، ودواعي (¬3) الموت، ومقدماته الهائلة التي لا يثبُتُ عليها غير الأقلين، فالعاصي إذا كان لا ¬
يخافُ الخلود كالصحيح الذي لا يخاف الموت فجأة لندوره، لكنه إذا انهمك في الشهوات المضرة، فإنه يخاف المرض، ثم إذا مرض خاف الموت، فكذلك العاصي المسلم يخاف سوء الخاتمة، ثم إذا خُتِمَ له بذلك وَجَبَ الخلود في النار، فالمعاصي للإيمان كالمأكولات المُضرة للأبدان. إلى آخر كلامه في ذلك، وهو كلامٌ بليغٌ مجوَّد ينبغي من كل مسلم معرفته، والعمل بمقتضاه، نسأل الله التوفيق. وعن علي عليه السلام: أن عابداً زنى بامرأةٍ، فخاف الفضيحة، فقتلها فافتضح، وأخذوه، فجاءه الشيطان فقال: اسجُدْ لي أُنجيك، فسجَدَ له وفيه نزلت: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} [الحشر: 16] صححه الحاكم في تفسير الآية (¬1). القول السادس: قول المعتزلة: إن الآية مخصوصة متأولة بغير التائب، وغير من جَدَّد الإسلام بعد القتل، وغير قاتل المؤمن في القصاص، وحد الزنى خصوصاً بعد التوبة فيهما، وذلك لأن الآية لم تَنُصَّ علي التعدي مع التعمد ولا بد منه، ومن تعمد وليس بمتعدٍّ، فلا وعيد عليه، وإن وعيد القاتل بالعذاب والخلود إنما هو بسبب حق الله، لا بسبب حق المقتول، فإنه لا يستحق به الخلود، بل ولا العذاب، لأنه يَجِبُ عندهم على الله أن لا يُميت القاتل حتى يُعِدَّ له من أعواضه ما يقضي حق المقتول، ويوفيه ولا يخاف الظالم عندهم من المظلوم في الآخرة البتة من جهة حقوق المخلوقين، لكن من جهة حق الله تعالى، فإذا ثَبَتَ أنه عمومٌ مخصوصٌ فقد اشتد الخلاف فيه في أمرين خفيَّيْن ظنيين: أحدهما: هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز، وفيه ثمانية أقوال، وقول الجمهور منها: إنه مجاز لوجهين. أحدهما: أنه لو كان حقيقة في الباقي بعد التخصيص كما كان قبله، لكان ¬
مشتركاً، وذلك باطلٌ، لأن الغرض أنه حقيقة في الاستغراق. وثانيهما: أن الخصوص لا يُفْهَمُ إلاَّ بقرينةٍ كسائر المجاز، قال المخالف مطلقاً: -وهم الحنابلة- المتأول باقٍ، وكان حقيقةً، قلنا: كان حقيقةً مع غيره، قالوا: يسبق إلى الفهم كغيره، قلنا: بقرينة وهو دليل المجاز. الأمر الثاني: اختلافهم في كونه حجةً بعد التخصيص، والسرُّ في ذلك أن أدلَّتَهم فيه معروفة في كتب الأصول، وهي من قَبيل الأمارات الظنية والذوق، وليس فيها دِلالةٌ قاطعةٌ، وذلك جَلِيٌّ لمن يعرف شروط القطع، وهو في النقليات، التواتر الضروري في النقل، والتجلي الضروري في المعنى، وهذه المسألة نقلية عن أهل اللغة العربية وعرفها، وليس للعقل فيها مجالٌ، فانظر الآن الأقوال ومآخذها، فقد اشتد اختلاف المعتزلة وغيرهم في العموم المخصوص كما هو مُبَيَّنٌ في كتب أصول الفقه. فقال شيخ الاعتزال أبو القاسم البَلْخي: إن العموم المخصوص ليس بحجة، إلاَّ أن يكون خُصَّ بمتصل كالاستتناء ونحوه، لأنا قد علمنا أن ظاهره غير مراد. وقال الشيخ أبو عبد الله البصري: إن كان العموم مُنبئاً عن المخرج منه المخصوص، فهو حجةٌ كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] مع تحريم قتل أهل الذمة منهم وإن لم يكن منبئاً عنه لم يكن حجة بعد التخصيص كالسارق والسارقة، فإنه لا يُنبىءُ عن النصاب والحِرز. وقال قاضي القضاة: إن كان غير مفتقرٍ إلى بيانٍ كالمشركين، فهو حجة بعد التخصيص، وإلا فهو غير حجة، مثل: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] مع تحريمها على الحائض. ومن العلماء من قال: يكون حجة في أقل الجمع. وقال أبو ثور: ليس بحجةٍ، والصحيح أنه حجة ظنية إلاَّ أن ينضم إليه ما
يصيرُ معناه قطعياً، ولم (¬1) يُؤَثم أحدٌ من هؤلاء المختلفين، ثم إنهم بعد ذلك غَفَلُوا عن قواعدهم في أصول الفقه، وزعموا أن دلالة الآية بعد تخصيصها باقيةٌ على إفادة القطع بأن الإسلام لا يجوز أن يكون له تأثير في تخصيص القاتل المسلم من أهل الخلود إذا تقدم إسلامه على القتل، وإن استقام عليه وخُتم له به (¬2)، ومات على الاستقامة على ذلك مع إجماعهم على أن هذا الإسلام الذي لا أثر له عندهم قطعاً لو تأخَّرَ بعد القتل لَهَدَم القتل بمجرده، وإن كان قد قتل ألف نبيٍّ مرسل، وإن كان معه جميعٌ أنواع الشرك والجحود والإلحاد وأنواع الطغيان والفساد، فيا عجباً لهم كيف استنكروا من أهل السنة أن يجعَلُوا له تأثيراً في عدم الخلود، ولا (¬3) في عدم العقاب والانتصاف للمقتول، وهو يهدم الكفر وما صَحِبَه من الموبقات، بحيث إن القاتل المستحق للعذاب الدائم عند المعتزلة لو ضمَّ الشرك إلى ذنب القتل، ثم أسلم آخر عُمرِه لنفَعَه الموت على الإسلام، أفما ضَرَّه إلاَّ سبقُه إلى الإسلام، وعدم جمعه بين الشرك والقتل، وأنه استقام على الإسلام حتى مات ولم يُشرك بربِّه طرفة عين؟ فكذلك عند المعتزلة لو كَفَرَ بعد القتل ثم أسلم نفعه إسلامه بخلاف ما لو استقام على إسلامه، فلو أن رجلين قتلا رجلاً، ثم استقام أحدهما على الإسلام والقيام بجميع فرائضه ونوافله غير أنه لم يجمع شرائط التوبة النصوح مع الاستغفار، وعفا المقتول عنه أو أرضاه (¬4) بالاستيفاء والتعرُّض لجميع المكفِّرات من العِتْقِ والحج والجهاد والصدقات العظيمة والصدقات الدائمة من عمارة المناهل والمساجد والمدارس وسائر أنواع المصالح التي جاءت الآيات والأخبار بتكفيرها للذنوب واستجلابها لرحمة خير الراحمين. وأحدهما ارتدَّ عن الإسلام وسعى في الفساد في الأرض، وقتل الصالحين وحَرَبَ (¬5) المُحقين، لكنه خُتِمَ له ببعض ما استقام عليه، وهو مجرد النطق بالشهادتين عند النَّزْعِ، لَوَجَبَ القطع بأنه أسعد من ¬
صاحبه المستقيم على الإسلام، بل لوجب القطع لصاحبه المستقيم أنه خالدٌ في النار أبداً مع الكفار لا تُدركه رحمة، ولا يُكفِّرُ عنه شيء من حسناته تكفيراً يجوز معه مجرد تجويز أن يخرج من النار بعد أن يقف فيها عدد رمل الرمال، ومثاقيل ذرِّ الجبال أعواماً وقرونا ودهوراً وأحقاباً، وإن أخرجه الله من النار بعد ذلك وأضعافه وأضعاف أضعافه، فما جزاه حق جزائه، وكان ذلك خُلفاً قبيحاً، وكذباً مَحْضاً، لا يصح فيه تأويلٌ لأحدٍ من الراسخين، بل لا يجوز مجرد تجويز أن (¬1) يَصِحَّ أن يستأثر الله بعلم تأويلٍ يحسن ذلك معه، ولا يخرُجُ عفو الله عنه معه من صريح القُبح المبطل للربوبية والنبوات وشرائع الإسلام مع ما وَرَدَ في الأحاديث الصحيحة الشهيرة من تحسين ذلك، فقد صح أن الله تعالى يقول: "الحسنة بعشر أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها أو أعفو" (¬2) خرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيدٍ الخدري (¬3) وابن عباس (¬4) وأبي ذر (¬5)، وأحمد من حديث أبي رزين العُقيلي رضي الله عنهم نحوه (¬6) ولولده عبد الله والطبراني (¬7) ¬
نحوه (¬1) من حديث لقيط بن عامر (¬2) بسندين مرسلٍ ومسندٍ، ورجاله ثقات (¬3). فهذه خمسة أحاديث مع ما يَعْضُدُهُ من الأحاديث ويشهَدُ لها من القرآن مثل: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} [الأحزاب: 24] الآية. والإجماع، ومن حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها، ومع ما في النظر من حسن ذلك، بل يرجحه (¬4) على العقوبة المستحقة، وإن قلنا: إن الله تعالى لا يفعل ذلك بلا تأويل مع حسنه، لغنائه عنه بما هو أحسن منه، كما يأتي الآن. وخالف الخصوم هذا كله، ورجَّحوا تأويل الوعد على تأويل الوعيد، وأدَّاهم ذلك إلى أشياء ركيكةٍ، مثلما ذكرتُه الآن من الرجاء لمن أسلم عند موته دون من سَبَقَه بالإسلام واستقام عليه، حتى وجد فيهم من يكفر عند موته ثم يتوب ليحصل له بذلك القطع بالمغفرة على زعمه، ويلزمهم أن يكون الأحوط للكافر تأخيرُ الإسلام متى قال: اللهُمَّ إنِّي أشهدُ بالتوحيد في آخر وقت يصحُّ مني فيه الإسلام أو نحو ذلك كما حُكِيَ (¬5) عن مصنفِ " كنز الأخيار " الأمير إدريس بن علي بن عبد الله الحمزي (¬6) أنه كَفَرَ عند موته ثم ¬
تاب، وأفتى بعضُ الشيعة بذلك الأمير الباقر بن محمد الهادوي، فغضب من ذلك، وأقسم لا كَفَرَ بالله أبداً وإن عذَّبه، فرحمه اللهُ إني لأرجو له المغفرة بهذا وحده. فإن كانوا قالوا ذلك بمحض العقل، فإن فِطَر عقول العقلاء تُنكر ذلك بدليل ما عليه من لم يتلقن علم الكلام، والامتحان للعقلاء بالسؤال عن ذلك يوضِّحُ ما ذكرت، وإن كانوا قالوا ذلك من أجل التصديق للسمع والإيمان بأن العمومات لا تُخصَّصُ، فإن الإيمان بعموم الوعد بالرحمة والمغفرة، وخصوص الإخراج من النار لمن دخلها من الموحدين كالقاتل ولو على سبيل التجويز من غير قطعٍ بذلك، آكدُ من الإيمان بعموم الوعيد، لأن إخلاف الوعد بالخير فيه قبيحٌ بإجماع الخصوم، وإخلاف الوعيد بالشر مختلفٌ فيه، فإن كان تأويلهم لبعض الوعد تفسيراً لا تكذيباً، كان تأويل أهل السنة لبعض الوعيد كذلك، وإن كان تأويل بعض الوعيد عندهم تكذيباً، ونسبة للخلف إلى الله تعالى كان تأويلهم (¬1) لبعض الوعد كذلك وقد أجمعنا على أن من حَلَفَ على الوعيد استُحبَّ له الحِنْثُ والتكفير عن يمينه، وصحت فيه النصوص، وتلقتها الأمة بالقبول، وسمته العرب في أشعارها عفواً لا كذباً ولا خُلْفاً، كما قال قائلهم وهو كعب بن زهيرٍ في قصيدته المشهورة في النبي - صلى الله عليه وسلم -: نُبِّئْتُ أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمولُ (¬2) ولم يقل: والخُلْفُ عند رسول الله مأمولٌ، والمختار لنا أن نقول: إن الله تعالى منزه عن ذلك، ولا يجوز لعلمه السابق عند الوعيد بالعواقب الحميدة من ¬
غيرها وقدرته سبحانه على ما هو خيرٌ منه لما فيه من نسبة (¬1) الخُلْفِ المذموم، فهو غنيٌّ عنه بخيرٍ منه، ولأن الله تعالى يختار من كل شيءٍ حسنٍ أحسنه فهو كما قال: {ما يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ} [ق: 29]، وإنما يقع في كلام الله تعالى التأويل لا الخلف، كالضرب بالضِّغثِ في قصة أيوب، وكما صح فيمن مات له وِلْدانٌ أنها لا تمسُّه النار إلاَّ تَحِلَّةَ القسم (¬2)، وهذه الآية تشهد لصحة هذا الحديث من حيث التأويل، وكما صح قصرُ كثيرٍ من العمومات على أسبابها، كما صح في ذَمِّ {الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] أنها نزلت في اليهود أو في المنافقين (¬3)، وأن المؤمن من سرَّته حسنتُه وساءته سيئتُه (¬4) ولم يكن ذلك ردّاً لكتاب الله، وكما صح تخصيص: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] بغير أهل الصغائر، وما تعارض، ولم يتضح الخاصُّ فيه، وجب الوقف فيه، وإذا كان التخصيص والتفسير ليس من التكذيب في شيء فما بال المعتزلي يعترض السني في تخصيص القرآن بالقرآن وبالأخبار، ¬
وينسبه إلى التأتيم المقطوع به؟ وقالت المرجئة وكثيرٌ من أهل السنة: إن قوله تعالى: {ما يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ} [ق: 29] نزل في الكفار المشركين كقوله تعالى قبلها: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 24 - 29] فالخصومة هنا بين المشركين وقرنائهم من الشياطين، وذلك بيّن، وقد ثبت أن تعدية الآيات عن أسبابها ظني، ولكنه قد يقوى (¬1) ويضعف على حسب الدلائل المنفصلة من القرائن المرجحة، والتعدية هنا لا تقوى لوجهين: أحدهما: النصوص الصحاح "أن الله تعالى يقول: الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو" (¬2) متفق على صحة هذا المعنى من حديث ابن عباس، ومن حديث أبي سعيد وأحسبه لمسلم عن أبي ذر، وفي مسند أحمد وغيره عن أبي رزين العقيلي، واسمه لقيط بن عامر، والجمع بين الآية والأحبار يقتضي أن الآية في الكافرين الذين نزلت فيهم، وأن الأخبار فيمن (¬3) عداهم، والجمع أولى من الطرح ويؤيِّده. الوجه الثاني: وهو أن القرآن قد دلَّ على حسن التبديل بالقول إلى أحسن منه كما قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، والنسخ في معنى التبديل أو هو أشدُّ لقوله (¬4) {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة} [النحل: 101] ويعضُدُهُ النص والإجماع على أن من حَلَفَ على شيءٍ ٍفرأى غيره خيراً منه، فليأت الذي هو خير، وما تقدم في أول هذه المسألة من ذكرِ فداء ¬
مذهب أهل السنة: أن القاتل عاص لله، صاحب ذنب كبير
الذبيح بالكبش، وكل مسلم بيهودي أو نصراني وما أشبه ذلك يعضده أن التبديل لم يقبُحْ لذاته، فقد قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، فدل على أن التبديل المذموم، تبديلٌ مخصوص لا كل تبديل، فقد بَدَّل الله ذبح الذبيح بالكبش، وضرب امرأة أيوب بالضِّغث (¬1)، واستقبال بيت المقدس بالكعبة، بل ذمَّ الله من بدَّل ذلك حيثُ قال لهم سفهاء، حيث قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} يوضحه أن فعل الله لا يكون إلاَّ راجحاً لأن غير الراجح يُباح (¬2) وهو العبث واللعب، والله منزهٌ عنه، وقد ثبتَ بالسمع أن عذاب الكفار راجحٌ، فلا يحسُنُ تبديله، ولم يثبُت ذلك في عذاب المسلمين، أو في عذاب كثيرٍ منهم لقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فيجوز أن يكون العفو راجحاً، فلا يجوز قياس التبديل فيهم للوعيد بالعفو على ذلك خصوصاً على سبيل القطع. ومذهبُ أهل السنة، ونَسَبَهُ ابنُ هبيرة والريمي إلى أئمة الفقهاء الأربعة (¬3) في إجماعها هو القول السابع: وهو أن القاتل عاصٍ لله، صاحب ذنبٍ كبير، مستحقٌّ للعذاب الشديد العظيم المهين في الآخرة، مستحق في الدنيا للقتل، مجروح العدالة، واجبٌ على كل مسلم البراءةُ من فعله، والكراهةُ له، ومنعه منه، وقتاله عليه، وقتله دونه إن كان إلى ذلك سبيلٌ، واجبٌ في حكم الله وحكمته أن يُنتصف للمقتول منه، ويُرضيه في يوم الدين، ولا يُسقط حقاً (¬4) للمقتول حتى يستوفي حقه، ويرضى بعدل الله تعالى أتم الرضا، حتى إذا لم يبق إلاَّ حقُّ أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وَكَلُوا الأمر في ذلك إلى من له الحق وله الحكم، ولم يقضوا عليه في حقه (¬5) بشيء، وقالوا: إن عاقبه فبعدله وإن سامحه فبفضله، لكنهم قطعوا بعدم خلوده، والمختار الوقف وهو القولُ ¬
الثامن، وإنما قطعوا بعدم خلوده لأدلة سمعية، ونظرية معارضاتٍ لهذا العموم نذكر ما حضر منها: الدليل الأول: أن الآية تحتمل معنيين احتمالاً واضحاً: أحدهما: أن الله تعالى أراد الإخبار بما يستحقُّ قاتل المؤمن على سبيل التخويف الصارف عن القتل، والإعلام بأنه من الكبائر، ولم يَرِدِ الإخبارُ المحضُ من كون ذلك عاقبته ومصيره، وقد فَهِمَ هذا من قَدَّمنا ذكره، وهم من أهل اللسان العربي كابن عباس، وصاحبه أبي مجلز لاحق بن حُميد أحد رجال الجماعة وثقات التابعين، ومحمد بن سيرين، وعون بن عبد الله، وأبي صالح. وقد قال الخليل عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَني فإنَّه مني ومن عَصَاني فإنَّكَ غفورٌ رَحيمٌ}. وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم}. وثبت في الأحاديث الصحاح عن ابن عباسٍ، وأبي سعيد، وأبي ذرٍّ، وأبي رزين العُقيلي، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عن الله عزَّ وجلَّ إنه يقول: "الحسنة بعشر أمثالها أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو" كلها في الصحيح إلاَّ حديث أبي رزين العقيلي، ففي مسند أحمد. وعضدها قوله تعالى في " آل عمران ": {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، وقوله تعالى في سورة الأحزاب: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24] فأطلق الوعد للصادقين، ولم يقيده بشرطٍ أصلاً، وشَرَطَ المشيئة في وعيد المنافقين الذين هم شر الكافرين بشهادة نص القرآن على أنهم في الدرك الأسفل من النار هذا وقد توعَّدَهم في سورة الفتح بالعذاب، وزاد على ذلك قوله تعالى: {وغَضِبَ عليهم ولَعَنَهُم
وأعَدَّ لهم جَهَنَّم وساءَتْ مصيراً} [الفتح: 6] وهذا يشبه (¬1) بوعيد القاتل، فكما أنه شرط المشيئة في وعيد (¬2) المنافقين في آية، وأطلقه في آية أخرى، جاز مثلُ ذلك في آية القتل، وإن كانت التوبة المشروطة للمنافقين قبل الموت فالمسوغُ تخصيص العموم تخصيصاً منفصلاً من غير إشعار بذلك متقدم، والمقصودُ هنا من الآيتين الكريمتين مشابهة الأحاديث الصحاح في شرط المشيئة في وعيد العصاة دون وعد المؤمنين، لكن شرط المشيئة مؤثرٌ في وعيد عصاة المسلمين مطلقاً في الدنيا والآخرة، وعليه دَلَّت النصوص في وعيد عُصاة الكفار في الدنيا فقط، لمنع الإجماع والنصوص من الرجاء في الآخرة المعفوّ عنهم، وقوله تعالى في [هود: 107]: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد}، وفي [الأنعام: 128]: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيم} وجائزٌ أن يرجع الاستثناء إلى بعض من توعد بالخلود من الموحدين إن صح وعيدُ أحدٍ منهم به. فإن قيل: فقد وَرَدَ الاستثناء في أهل الجنة ولا خلاف في خلودِ جميع أهلها حتى من دخلها بغير عمل كالأطفال. قلنا: قد دلَّت الأخبار التي ذكرناها على (¬3) أن الاستثناء في الخير للزيادة (¬4) وفي الشرِّ للنقصان، ويشهَدُ له من كتاب الله: {ولدينا مزيدٌ} [ق: 35]، {ويزيدهم من فضله} [النور: 38]، {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ} [يونس: 26] ونحوه، ولذلك أشار الله تعالى إلى هذا في آية الاستثناء بنفسها فقال بعد الاستثناء من خلود النار: {إن ربَّك فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ} [الأنعام: 128]. وقال بعد الجنة: {عطاءً غَيرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي: غير مقطوع، والعقل يعضُدُ ذلك، وهذا مُنَزَّلٌ على ما ذكرنا من أن الوعيد أو كثيراً منه خَرَجَ مَخْرَجَ ¬
التهديد والتخويف للوقوع فيما يستحقُّ العاصي، والخبر عما يستحقه وما أعد له إن لم يعف عنه، وقد أجمعوا على إضمار التوبة في آيات الوعيد ولو انفصلت أدلتها، وكذلك التكفير بالحسنات، وزاد أهل السنة إضمار المشيئة والعفو فيما دون الشرك للنصوص الواردة فيه قرآناً وسنة، وعلى هذا يخرج الجواب على من احتجَّ على تكليف ما لا يُطاق بقوله تعالى في أبي لَهَبٍ: {سَيَصْلَى ناراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، فإنهم قالوا: قد كلف بالإيمان والطاعة التي ينجو معها من النار، ومن جُملة الإيمان أن يؤمن بأنه سيصلى ناراً ذات لهب، ومع إيمانه بهذا كيف يجوز ألا يقع حتى يسعى في عدم وقوعه، وفَتَحَ الله عليَّ في الجواب عن ذلك، أن الآية يجوز أنها خرجت مخرج الوعيد، لا مخرج الخبر المحض عن عاقبته، وكذلك يتخرج الجواب عن نجاة قوم يونس من العذاب بعد وعدِ يونس لهم به ليومٍ معين، ثم عفا الله عنهم بعد مُشاهدة العذاب بالنص والوفاق من غير توبةٍ صحيحة، لأنهم قد كانوا مُلحين بمشاهدة العذاب على الصحيح، وممَّنْ اختاره القرطبي في " تذكرته " (¬1)، واحتج بقوله تعالى في يونس: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [يونس: 98]، وبقوله فيهم: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين} [الصافات: 147 - 148]، والفرق بينهما واضحٌ، فإنه يحسن الوعيد في المستقبل ممن لا يعلم الغيب، ولا يحسن الخبر المحض بذلك لجواز أن يموت أحدهما أو يعجز صاحب الوعيد، أو يرجع عن وعيده أو غير ذلك (¬2)، وإذا ثبت أنه يجوز أن الآية المتعلقة بأبي لهب خرجت مخرج الوعيد العام للعاصين، فإنه بالإجماع موقوفٌ على شروطٍ تجمعها مشيئة الله تعالى، منها ما هو مجمعٌ عليه كالإسلام أو التوبة أو تكفير الصغائر، ومنها مختلفٌ فيه كالعفو وتكفير بعض الكبائر بما سيأتي بيانه ولا دليلَ قاطعٌ مع الوعيدية في هذه الآية خصوصاً يمنع من هذا الاحتمال ¬
لاحتمال لفظها ولو تجويزاً مرجوحاً، فإن التجويز البعيد المرجوح يمنع من القطع. الدليل الثاني: سلَّمنا أنه خبر محض عن العاقبة لا يحتمل الشرطية قطعاً، لكنه عام محض بالنظر إلى القاتل الكافر والقاتل المسلم، والعموم يجوز أن يُراد به بعض ما يدل عليه لدليل ولو منفصلاً، وإن كان خبراً محضاً، كما جاء في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم} [آل عمران: 173]، فإن الذي قال: {مِنَ النَّاسِ} نعيم بن مسعود الأشجعي والذي جمع من الناس هو أبو سفيان بن حرب (¬1)، وقد سمع الآية من لم يعرف هذا. وقد قال الله تعالى في سورة [الذاريات: 41 - 42]: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيم}، وقال في: [الحاقة: 8] فيهم: {فهل ترى لهم من باقيةٍ}، وهذا عموم خبري لا يتخصص بالعقل، والذى يسمعه يعتقد ظاهره حتى يسمع قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِين} [الأحقاف: 25] بعد أن قال فيها: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} فدلَّ قوله: {إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} على أن الريح ما دمَّرَتْهُمْ، وأنها مخرجةٌ من تلك العمومات الخبرية المحضة. وقال تعالى في [سوره القمر: 33 - 34]. {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ}، ولم يستثن في هذه الآية ولا في ¬
السورة امرأة لوط من آلهِ الذين أخبر بنجاتهم مع دخولها فيهم لُغةً، ولذلك استثناها في غير موضع، والعقل هنا لا يخصُّها أيضاً، فدلَّ على جواز التخصيص في الأخبار المحضة بالدليل المنفصل، وذلك يمنع القطع عند سماع العموم، لأن القطع (¬1) لا ينتقض، فمن سمع آية سورة القمر قبل سماع الاستثناء، لم يُفدْه القطعُ بقبح الاستثناء في غيرها، وأمثال هذا كثيرٌ في كتاب الله تعالى. ولذلك أجمع العلماء على جواز تخصيص العموم، وأنه ليس من التكذيب في شيءٍ، حتَّى قال بعضهم: إن العموم مشتركٌ بين العموم والخصوص، وإنه يُطلقُ عليهما معاً على جهة الحقيقة دون المجاز لكثرة وقوعه، وهذا العموم الذي لم يخصص ولا نزل على سبب، أما العموم المخصص ففيه الخلاف المتقدم، لأنه قد عُلِمَ أن ظاهره لم يُرَدْ به، وقد أقرَّت المعتزلة أن هذه الآية مخصوصة بما قدمنا ذكره من القاتل غير المتعدي في القصاص والحدود للمؤمن التائب، ويخص أيضاً بقتل الباغي والمدفوع، لأن المؤمن المُحَرَّمَ قتلُه هو المصدَّق لا العدل عند الجميع، كما سيأتي بيانه، وكذلك هي مما نزلت على سبب مخصوص كما سيأتي. فإن قيل: إنها نص (¬2) في القتل. قلنا: صحيح، لكنها عامةٌ في القاتلين غير نصٍّ في كل منهم، ولا يلزم أن يكون نصاً في كل قاتل كما أجمعنا عليه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِه} [النساء: 48 و116] فإنها (¬3) نصٌّ في الشرك لا في كل مشركٍ، فقد أجمعنا على تخصيصها بالإسلام بعد الشرك، بل كما خَصَّتِ المعتزلة من آية القتل: التائب، وقاتل المؤمن في القِصاص والحد، ومن أسلم بعد القتل، ولم يمنع من ذلك كونها نصاً في القتل، كذلك لا يمنع كونها نصاً فيه وجود ¬
مخصِّصٍ آخر لبعض القاتلين، كقاتل الزاني المحصن التائب من الزنى وأمثال ذلك. وكذلك قوله تعالى: {ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره} [الزلزلة: 8]، فإنها نص في الصغيرة، وحجة للخوارج خصوصاً، وقد اتفقوا على صحة حديث ابن عباس الذي فيه: " وما يُعَذَّبانِ في كبيرٍ " (¬1) وقد تأولها (¬2) الجميع. أما أهل السنة فما ورد في الحديث عن أنس أنها نزلت وأبو بكر يأكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما نزلت رفع أبو بكر يده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ترون مما تكرهون فذلك ما تُجزون، ويُدَّخَرُ الخير لأهله إلى الآخرة ". رواه الحاكم (¬3) من طريق سفيان بن حسين، وقال: صحيح، وله شاهد رواه الطبراني من طريق شيخه موسى بن سهل، والظاهر أنه الوشاء (¬4). ¬
وأما المعتزلة، فقال الزمخشري (¬1): إن المعنى: من يعمل من أهل الشر مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل من أهل الخير مثقال ذرة خيراً يره. فلم يمنعِ النص على الصغر من التأويل لذلك النص على بعضه (¬2)، هذا هو التخصيص، وعلى الجملة كلما صحَّ من المتكلم أن يستثنيه استثناءاً متصلاً، صح أن يخُصَّه خصوصاً منفصلاً بالإجماع، إلا أن بعضهم يُسميه نسخاً، والأكثر على تسميته تخصيصاً، أي: بياناً لمراده الأول، لا رجوعاً عنه ولا تبديلاً. فإن قيل: إن وعيد الآية خاصٌّ بالقاتل المؤمن. فالجواب: أن ذلك ممنوعٌ لوجوه: الأول: عموم لفظ " مَنْ " وهو المعتمد، وقد اختاره الزمخشري في " كشافه " (¬3) فإنها من ألفاظ العموم، ولذلك يحتج بها الخصوم في نحو: {ومن يعصِ الله ورسوله}. الثاني: أن إخراج الكافر القاتل من الوعيد لكونه زاد الكفر على القتل عناد، وداعٍ إلى الزيادة في الفساد، وعكس للمعروف في دليل الفحوى عند أهل العلم، فإن المعروف أنها لو نزلت في حقِّ المؤمن، لكان الكافر أولى بها، كما أن التأفُّف لما حُرَّمَ كان ما فوقه من العقوق أولى بخلاف العكس، ولذلك كان القطع على سرقةِ عشرة دراهم دليلاً على القطع فيما فوقها، لا فيما دونها. الثالث: إنها نزلت على سبب قتل كافرٍ لمؤمن فيما رواه أهل التفسير. قال الواحدي في " أسباب النزول " (¬4)، قال الكلبي عن أبي صالحٍ، عن ابن عباس ¬
أن مِقْيسَ بن صُبابة وجد أخاه هشام بن صُبابة قتيلاً في بني النجار، وكان مسلماً فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه رسولاً من بني فِهْرٍِ، وقال له: " إيت بني النجار فأقرِئْهم السلام وقل لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن صُبابة أن تدفعوه إلى أخيه يقتصُّ منه، فإن (¬1) لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا إليه ديته " فأبلغهم الفِهري ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمعاً وطاعةً لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلاً، ولكنا نؤدي إليه ديته، فأعطوه مئةً من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فأتى الشيطانُ مِقْيساً فوسوس إليه، فقال: أيَّ شيءٍ صنعت، تقبل دية أخيك، فتكون عليك مسبةً، اقتل الذي معك، فتكون نفسٌ مكان نفس وفضل الدية، ففعل ذلك مِقْيَسٌ، ورمى رأس الفِهْري بصخرةٍ فشَدَخَ رأسه، ثم رَكِبَ بعيراً منها وساق بقيتها راجعاً إلى مكة كافراً، وجعل يقول في شعره: ثأرتُ به فِهراً وحَمَّلْتُ عقله ... سَراة بني النجار أرباب فارعِ (¬2) فأدركت ثأري واضطجعتُ موسداً ... وكنتُ إلى الأوثان أول راجعِ (¬3) ¬
فنزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} [النساء: 93]، ثم أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه يوم فتح مكة، فأدركه الناس وهو في السوق فقتلوه. فهذا السبب يدلُّ على دخول الكفار في الوعيد، وإذا كانوا داخلين فيه جاز أن يُرادوا بالخلود الذي فيه، ويُخَصُّوا به لنزول الآية بسببهم كما نزل فيهم: {من كان يريد الحياة الدنيا} الآية وتجويز ذلك في أمثال هذا مجمعٌ عليه، وإنما يختلف العلماء في الظاهر المظنون في العمليات، هل هو شمول غير السبب أم لا، وللعلماء فيه قولان معروفان، وممن قال بقصره على سببه ما لم يدلُّ دليلٌ على شموله الشافعي، ومن قال بقوله، وهو ظاهر مذهب أهل البيت والشيعة، فإنهم أخرجوا نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] بسبب الحديث الوارد (¬1) ¬
مع أن أول الآية وآخرها فيهن، ومن حُججهم ما رُوِيَ عن الصحابة من ذلك مع الإجماع على حفظ أسباب النزول، ولولا ذلك ما (¬1) كان في حفظها، فائدة ولا له ثمرة، ولذلك أورد المصنفون في المناقب أمثال ذلك، فيذكرون في مناقب علي عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} [المائدة: 55]، ويقولون: إنه المراد بها لما نزلت بسبب صدَقَته بخاتَمه وهو راكع. كما رواه الطبراني من حديث عمار بن ياسر قال: وقف على علي عليه السلامُ سائل، وهو راكع في تطوع، فنزع خاتمه، فأعطاه السائل فنزلت: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون} فقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: " من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ". رواه الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬2) في تفسير سورة المائدة وعزاه إلى الطبراني، وهو من أحاديث الرجاء كحديث أنس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " المرء مع من أحب " متفق عليه (¬3). ولأجلِ الأسباب افترق الحال بين المستأذنين في التخلف عن الجهاد، ففي التوبة التشديد في ذلك حيث قال: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} .. إلى قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون} [التوبة: 44 - 45]، وقال تعالى في آخر النور: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ¬
[النور: 62]، وقال في الأولين: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] فقاسه على ذلك، فانظر إلى هذا الاختلاف الكبير بين الآيتين، وما ذلك إلا لاختلاف (¬1) أسباب النزول لما نزلت آية التوبة في المنافقين، وآية النور في المؤمنين على اعتبار الأسباب. وعن علقمة قال: كنا عند عائشة فدخل أبو هريرة فقالت: أنت الذي تحدث: " أن امرأةً عُذِّبت في هرة إذ ربطتها فلم تطعمها ولم تَسْقِها "، فقال: سمعته منه -يعني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - فقالت: هل تدري ما كانت المرأة مع ما فعلت، كانت كافرةً، والمؤمن أكرم على الله من أن يعذبه في هرةٍ، فإذا حدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطر كيف تُحدِّثُ. رواه أحمد (¬2). وقال الهيثمي (¬3) رجاله رجال الصحيح خرجه فيما يستحقر من الذنوب من أبواب التوبة، ولابن عبد البر مثل هذا التأويل في " التمهيد " عند ذكر عذاب بني إسرائيل على ذنوبهم، ولذلك يظهر مثل ذلك في كثير من الوعيد على بعض الذنوب مثل قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} إلى قوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5]، وكذلك عذاب (¬4) قوم شعيب على إخسار (¬5) الميزان مع كفرهم ونحو ذلك، وهذا وأمثاله كثيرٌ. فاحتج الشافعي بأن الظاهر خصوص هذه العمومات بما نزل فيه وما نزلت بسببه: ألا ترى أنه لو تَصَدَّقَ مُتصَدِّقٌ في الصلاة بعد نزولها لم يقطع على أنه داخلٌ (¬6) في هذه الفضيلة، وإن كان ذلك مجوزاً ممكناً، وقد ينص في بعض ما نزل على سبب أنه أريد به العموم كما جاء في حديث كعب بن عجرة حين نزلت فيه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] فكان يقول: ¬
نزلت لي خاصةً، وهي لكم عامة (¬1)، والحق أن ذلك يختلف بحسب القرائن، ففي التحليل والتحريم يكون للعموم، لأن الحكم لو اختص بالواحد من غير عموم لزم عمومه، لأن حكم التكليف واحد، وحكم الرسول على الواحد حكمه على الجماعة (¬2)، كيف إذا انضمَّ إلى ذلك العموم، وفي غير ذلك (¬3) نقف على القرائن والله سبحانه أعلم. فإن قيل: إن أول الكلام في القتل مسوقٌ في قتل المؤمن للمؤمن، لأن الآيات في ذلك مصدرة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأ} [النساء: 92] إلى آخر ما ذكره في أحكام قتل الخطأ، فيلزم أن تكون هذه الآية الثانية كذلك. قلنا: هذا لا يلزم، وقد قال الله تعالى في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم} [البقرة: 104] وقال في آخر آية الظِّهار بعد خطاب المؤمنين: {وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم} فهذه آيةٌ واحدة جعل أولها خطاباً للمؤمنين، وآخرها مختصاً بالكافرين ووعيداً لهم، فكيف بآيتين مختلفتين، خصوصاً مع طول الأولى، ونزول الثانية على سببٍ يختص بالكافرين، وقد ثبت في " صحيح مسلم " وغيره نزول قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] في علي وفاطمة وابنيهما عليهم السلام (¬4) مع أن الآيات قبلها وبعدها في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهن، فلم (¬5) يمنع ذلك من قبول الرواية في ذلك. فلو سلمنا أن آية القتل نزلت صريحةً في المسلمين لكانت خاصةً فيمن ¬
ارتدَّ منهم، فقد يسمى مسلماً باسم ما كان عليه كما كان يسمى المُعْتَقُ عبداً بذلك (¬1). وإن كان ذلك السبب من طريق الكلبي، فقد قال ابن عدي (¬2): إنه صالحٌ في التفسير، وضعيفه محمولٌ على غير التفسير جمعاً بين كلام الحفاظ، ولو سُلِّمَ ضعفُه فصدقه محتملٌ، ومجرد التجويز يمنع القطع خصوصاً، والمخصصات المنفصلة تُقَوِّي ذلك، ولا يلزم في رجال أسباب النزول من التشدد (¬3) ما يلزَمُ في رجال الحديث، كما لم يلزم مثل ذلك في آثار الصحابة والتابعين ومذاهب العلماء ورواة اللغات والتواريخ وسائر العلوم، وقد تقدم (¬4) حديث واثلة في كفارة العتق للقتل العمد في حق المسلم، رواه صاحب " شفاء الأوام " واحتجَّ به وجعلَه المذهب، وذهب إليه الشافعي وغيره من علماء الإسلام. وعضدَه قوله تعالى: {إنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} وأحاديث فضل العتق، وقد روى منها صاحب " الشفاء " حديث ابن عباس (¬5)، وحديث أبي هريرة (¬6)، وتقدم حديث جابر في القاتل المهاجر: " وليديه فاغفر " رواه مسلم (¬7). ويعضُدُه قوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100]. ¬
وكذلك حديث علي عليه السلام المتفق عليه الذي فيه: " لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة " (¬1) وفيه شهادة لعدم خلودهم في النار مع الكفار متى كانوا مسلمين، مع أنهم قاتلون لأنفسهم. وكذلك حديث عبادة المتقدم (¬2) المتفق على صحته في تكفير العقوبات الدنيوية كالحدود لمن فعل شيئاً مما بُويعوا عليه، ومن ذلك الذي بويعوا عليه: [عدم] قتل أولادهم وفيه تفويض أمرهم في الآخرة إلى الله تعالى، وعدم الجزم بيقين عذابهم، ولا يخفِّف ذلك كونهم أولادهم، فإنه أعظم للإثم لقطيعة الرحم مع وزْرِ القتل، ولا كونهم صغاراً، لأنه أعظم من الإثم حيث لم يذنبوا قطعاً، ويدل عليه تخصيص الموؤودة بالسؤال والإشارة إلى سبب تخصيصها بقوله عز وجل: {بأيِّ ذنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9]. وكذلك صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من مات له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغُوا الحِنْثَ كانوا له حِجاباً من النار " وقد مرَّ (¬3)، فقُيِّدَ بعدم بلوغ الحنث لذلك، ولأنهم وُلِدُوا على الفطرة، ولذلك كتب لهم ما عَمِلُوا قبل البلوغ من حجٍّ وصلاةٍ، كما وردت به النصوص، ويصح عتقهم عند كثرٍ من العلماء في كفارة القتل لدخولهم في أهل الإسلام والإيمان اسماً وحُكماً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه " (¬4) وقوله بعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]. وفي ¬
" الكشاف " (¬1) أنه قول عامة العلماء، وعن الحسن البصري: لا تُجزىء الصغيرة، ويُقَوِّي ذلك عموم قوله تعالى: {إنَّ الحسنات يُذهبن السيئات} وحديث أبي ذر مرفوعاً: " واتبع الحسنة السيئة تَمْحُها " رواه الترمذي (¬2) والنووي في " الأربعين " (¬3) ورواه الترمذي عن معاذ أيضاً (¬4)، وليس في رواته إلاَّ ميمون بن أبي شبيب التابعي، قال الذهبي: صدوق، وقال أبو (¬5) حاتم: صالح الحديث روى له الأربعة (¬6). ويعضُدُه حديث واثلة في كفارة القتل بالعتق كما مضى (¬7) أو يأتي، و [ما] عقبها بها (¬8) إلاَّ لحكمةٍ بالغةٍ، ورحمةٍ واسعة، وبذلك ينقطع قول من قال: إنها نزَلَتْ بعدها، والله أعلم. على أن الخصوص مُقدمٌ، وإن تأخر كما هو موضَّحٌ في الأصول، وقد مرَّ شيءٌ من بيان ذلك، ويقوي هذا أنه الذي فَهِمَتْهُ الصحابة وفهمُهم حجةٌ كما سيأتي عند ذكر قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فإنهم فهموا العموم لما عدا الشرك من الكبائر. وروى الذهبي ما يدلُّ على فهمِهم لذلك في القتل بخصوصه، فإنه روى في ترجمة مسلم بن خالدٍ الزنجي (¬9)، من حديث عن عُبيد الله بن عمر، عن ¬
نافع، عن ابن عمر، قال: كنا نَبُتُّه على القاتل حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] فأمسكنا. وقد تقدم الكلام في (¬1) الزنجي، وعلى كل حال (¬2) إنه حسن الحديث كقول ابن عدي وصححه في رواية عثمان الدارمي، عن ابن معين، وكذلك على قواعد الفقهاء، وأهل الأصول لا سيما المعتزلة، لأنه كان يرى رأيَهُم في القدر، وذلك من أسباب الكلام عليه، وهو من شيوخ الإمام الشافعي، وكان فقيهاً عابداً يصوم الدهر، وحديثه هذا حديثٌ جيد، يدلُّ على تأخر قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} على وعيد القاتل وهم يتمسكون في التاريخ بدون هذا، وهذه فائدةٌ عظيمة، والأمر مع ذلك في غاية الخطر، لقوله تعالى: {لِمَنْ يَشَاء}، فسبحان المخوف مع سعة رحمته، المرجُوِّ مع شديد انتقامه، الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يأمن عذابه، ولا يقنط من رحمته، ولا يحكم على مشيئته إلا ما حكم على نفسه، لا مُعَقِّبَ لحكمه، ولا محيطَ بعلمه. هذا وقد قيل: إن ظاهر الآية في قتل الكافر للمؤمن بالنظر مع الأثر، وذلك أن الله تعالى لما ابتدأ الآية بقتل المؤمن للمؤمن، وذكر أحكامه حتى فَرَغَ منها، شرع بعدها في قسم هذا الذي بدأ به، وهو قتل الكافر للمؤمن والقرينة الدالة على هذا أنه لم يذكر القصاص قط في قتل العمد هنا وهو واجبٌ بين المسلمين بالإجماع، وكفارةٌ لهم عند كثيرٍ من العلماء، وذلك يقوِّي هذا النظر مع ما عَضَّدَه من الأثر خصوصاً، وقد ذكر الخلود في الوعيد في هذه الآية، ولم يذكره في الآية التي قبلها مع أنها في القتل لما خصَّ بها المؤمنين، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29 - 30]. يوضح ذلك أنه قَيَّدَ الوعيد هنا بكونه عدواناً وظلماً لما كان قتل المسلم ينقسم ¬
خاتمة: وهي من وصايا حذاق العلماء المجربين لجدال المبطلين
مع التعمد (¬1) إلى العدوان وغيره إلى القصاص والحدود، وما تقدم، ولم يُقَيَّدْ بذلك في تلك الآية، لأن قتل الكافر للمؤمن مع التعمد لا يخلو عن العدوان، ولا ينفَكُّ عنه، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً والله أعلم. فإن قيل: إنما أوَّلُ الآيات في قتل المؤمن للمؤمن خطأ، وآخرها في قتله (¬2) عمداً، فهو قسيمه، لا ما ذكرتم. قلنا: هذا مبنيٌّ على أن الاستثناء متصلٌ في قوله: {إِلَّا خَطَأً} وهو ممنوعٌ لأن قتل الخطأ غير موصوف بالإباحة والحل، فلذلك شُرعت له الكفارة، وسماه الله تعالى توبةً منه على المخطىء (¬3)، ومتى لم يبق في الخطأ شيء من التقصير البتة، لم يوصف بحظرٍ ولا إباحةٍ، لأنهما من صفات الأفعال الاختيارية، وحينئذٍ تكون الكفارة تعبُّداً محضاً، لكن الله تعالى أعلم وأحكم، والظاهر أنه علم أن المخطىء لا يخلو من تقصيرٍ، حيث شرع الكفارة وسمَّاها توبةً منه، سبحانه على عباده فلله الحمد كثيراً، وبكلِّ حالٍ فلا برهان ينتهض للقطع بامتناع تخصيص المسلم من وعيد الخلود في هذه الآية، كما لم يمتنع تخصيص غيره ممَّن قدمنا، والوقف في أحكام الآخرة أولى بالمتحرِّي في عذاب القاتل وخلوده، لتعارض الأدلة القرآنية، وما ورد من التشديد في الأحاديث النبوية وحديث: " كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلاَّ الشرك بالله وقتل المؤمن " وقد تقدَّم (¬4)، وعدم النص عليه في أحاديث الشفاعة، وعدم الحاجة إلى تعجيل المفصل (¬5) فيه قبل يوم الفصل والله أعلم. خاتمة: وهي من وصايا حُذَّاق العلماء المجرِّبين لجدال المبطلين، وذلك أنهم كثيراً ما يمنعون من (¬6) أدلة المحقين، ويشوِّشُون فيها وإن تجلت، فيعسر ¬
علاجهم (¬1) في هذا المقام مع اعتمادهم على ما هو دونها فيما يحتاجون إلى إثباته، فليعتمد المجادل لهم المُحِقُّ على معارضتهم بذلك، وسبقهم إليه، فلا يسند على المعاند (¬2) منهم، ويمتنع (¬3) من تسليم صحة الشُّبه التي يحتج بها، فيكون بذلك أولى منهم، وهذا حين اليأس من التناصف وظهور قرائن التعسُّف، وإن ظن الإنصاف استدل فأفاد واستفاد، ورَجَعَ ورُجِعَ إليه، هذا على أن المعتزلة قد أوجبوا على الله تعالى أن يُعِدَّ للقاتل المتعمد وسائر الظلمة من أعواضهم على الآلام في الدنيا وعلى المصائب ما يقضي عنهم حقوق المخلوقين في الآخرة ويقوم بذلك، وقطعوا على أنه يَقْبُحُ من الله أن يُميت ظالماً قاتلاً أو غيره كافراً أو مسلماً إلاَّ وقد عوَّضه من بلاويه بما يُرضي جميع خصومه، ويُوَفِّي بجميع ما عليه، فعلى قاعدتهم هذه يجب أن يأمن جميع الظلمة الجبارين، وقتلة الأولياء من المؤمنين العذاب على شيءٍ من حقوق المخلوقين، وإنما عُذِّبُوا في الآخرة في حق أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد} [غافر: 51] إلى غير ذلك من الآيات التي سقتُها في سبب ترجيح العقاب على العفو في الآخرة في حقِّ من حَقَّ عليه العذاب أو الخلود، وقولهم هذا عكس ما عُلِمَ من الدين من أن أعظم الخوف من حقوق المخلوقين، فكيف ساغ لهم لأنظارٍ عقليةٍ لا يدرون تُخطىء أم تُصيب القطع أنه لا يسوغ لغيرهم التجويز فكان قطعهم، مع بقاء الخوف في الدارين أن يُعِدَّ الله للمسلم دون الكافر فيما يختص بحق الله الغني الحميد دون حقِّ العباد وما يُكَفِّرُ ذنبه العظيم أو يدخله في واسع رحمة أرحم الراحمين الذي لا يتعاظمه عظيمٌ بعد الانتصاف للمظلوم، وانحسام موادِّ المفاسد هنالك في عفو الحي القيوم، لما ورد في ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف هذه الأمة، أليس تجويز ذلك في فضلِ الله من غير تقبيح خلافه أيسر من إيجاب ما أوجبوه على الله تعالى وأمَّنوا فيه ¬
الظَّلَمَةَ والكَفَرَة من عذاب الله، ولم يأتوا عليه بأثارةٍ من علمٍ من كتاب الله ولا من سُنَّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من أحدٍ من سلف هذه الأمة، المجمع على فضلهم ونبلهم، وعلى قيامهم بحق علوم الإسلام من قبلهم. فإن قيل: أين موضع التشنيع عليهم بالترخيص، وقد أوجبوا خلود القاتل في النار؟ قلت: موضعه أنهم عكسوا المعلوم في ذلك بالقرائن الضرورية، وذلك أن سبب الوعيد العظيم في هذا الذنب هو حق المؤمن، والتعدي في احترامه، لا مجرد مخالفة أمر الله الذي غَفَرَه الله في الصغائر، فجعلوا العذاب العظيم فيه لا في مقابلة ما عظَّمه الله تعالى من حق المؤمن، وأهل السنة عظَّموا حق المؤمن، ومنعوا الرجاء فيه وجعلوا العقاب عليه، وجعلوا تجويز الرجاء في حق الغني الحميد لنصوص خاصة، فقصدوا الجمع بين الإيمان بالجميع سبيل تقديم الخاص لأنه أبينُ، وتقديمه القاعدة المستمرة عند علماء الإسلام في مثل هذا. تكميل: أما الأحاديث التي يحتج بها المعتزلة على خلود أهل الكبائر، فهي كلها في القتل، وهي بصيغة العموم، كلها كالآية سواء، وهي كلها عن أبي هريرة، وكثيرٌ منهم يقدَحُ فيه، ومن لا يقدح فيه يوثق من يقدح فيه منهم، والكلامُ فيهما واحد، إلاَّ حديث علي عليه السلام في أهل السرية الذين أمرهم أميرهم بدخول النار، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لو دخلوها ما خرجوا منها " فإن الصحيح فيه كما يقدم أنه قال: " ما خرجوا منها إلى يومِ القيامة ". رواه البخاري ومسلم والنسائي (¬1)، وذكره ابن الأثير في الغَزَوات (¬2)، ورُوِيَ: " ما خرجوا منها أبداً " (¬3) ولكن تلك الزيادة صحيحة، وهي مبينةٌ مفسرة واجبٌ قبولها، ولا قائل أيضاً بتأبيد عذاب البرزخ لتوسُّط يوم القيامة وهو خمسون ألف سنة، ولهذا (¬4) ¬
شاهد حسن، وهو حديث أبي مُوَيْهِبَةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله خَيَّرني في مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة ولقاء ربي، فاخترت لقاء ربي " (¬1). رواه ابن عبد البر في " التمهيد " وفي " الاستيعاب " (¬2) وقال: إنه حديث حسن، ورواه قاسم بن أصبغ. وذكر الذهبي في ترجمته من " التذكرة " (¬3) أن له صحيحاً على هيئة " صحيح مسلم ". ورواة الوعيد في قتل المرء لنفسه جماعة لم يذكر الخلود منهم فيه إلاَّ أبو هريرة، وكثيرٌ من المعتزلة لم (¬4) تحتج بذلك، وتقدم في أبي هريرة فاعرف ذلك. بل هذا كله مستندٌ إلى الاستثناء الوارد في كتاب الله تعالى كما تقدم في قوله: {إلاَّ ما شاء الله} [الأنعام: 128] وتعقيبه بقوله: {إن ربك فَعَّالٌ لما يريدُ} [هود: 107]، وما ثبت في الكتاب والسنة من أن الاستثناء في الخير للزيادة، ولذلك قال بعد ذلك في الجنة: {عَطاءً غير مجذودٍ} [هود: 108]، وفي الشر للنقصان، وقد تقدم ما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، ووعيدُ ¬
القاتل المسلم يحتمل مثل هذا كما ورد في وعيد تارك الزكاة (¬1)، بدليل عموم أحاديث الشفاعة وخصوص حديث جابرٍ في المهاجرٍ الذي قتل نفسه، فيغفرُ الله له بهجرته. رواه مسلم (¬2). ويعضُدُه قوله: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100] وحديثُ الذي أوجب النار بالقتل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعْتِقوا عنه يعتِق الله بكلِّ عضوٍ من النار عضواً منه " كما مرَّ (¬3). رواه أبو داود والنسائي وأحمد من حديث واثلة، واللفظ لأبي داود والنسائي. ويعضده أحاديث فضل العتق الصحيحة الشهيرة وقوله: {إن الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] وما في معناها من كتاب الله، وقد تقدم. وأما حديث: " لو بَلَغْتِ معهم الكُدَى " فضعيفٌ. رواه أحمد وأبو داود (¬4) من حديث ربيعة بن سيفٍ المعافري المصري، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نظر بامرأةٍ لا تَظُنُّ أنه عَرَفَها (¬5)، فلما توسَّط الطريق وقف حتى انتهت إليه، فقال: " ما أخرجَكِ من بيتك يا فاطمة " قالت: أتيتُ أهل هذا البيت فرَحَّمْتُ إليهم (¬6) ميتهم وعزَّيْتُهم، قال: " لَعَلَّك بلَغْتِ معهم الكدا " (¬7) قالت: معاذ الله أن أكون ¬
بلغتُها معهم، وقد سمعتُكَ تذكُرُ في ذلك ما تذكُرُ، قال: " لو بَلَغْتِها ما رأيتِ الجنة حتى يراها جَدُّ أبيك " هذا حديث منكرٌ تفرَّدَ به ربيعةُ، قال البخاري، وابن يونس: عنده مناكير، وضعَّفه الحافظ عبد الحق الأزدي عندما رَوَى له هذا، وقال ابن حبان: لا يتابع ربيعة على هذا (¬1)، ولم يُخَرِّجْ له أحدٌ من أهل الصحيح لا البخاري ولا مسلم، وأما النسائي والدارقطني فجعلاه حَسَنَ الحديث (¬2). قلت: حسن الحديث هو الذي لا يحتمل التفرد (¬3) بالمنكرات، وإنما أراد في غير هذا الحديث، فأما في هذا فقد خالف مما تواتر من أحاديث الشفاعة في خروج الموحدين، وخالف الحديث الصحيح عن أم عطية: نُهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَمْ علينا، متفق على صحته (¬4). ولحديث الكُدا مُعارِضٌ في " مسند أحمد " فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قبرَ بنتَه رُقيةَ وفاطمةُ واقفة (¬5) على شفيرِ القبرِ تبكي. رواه أحمدُ (¬6) من حديث علي بن زيد، عن بوسف بن مهران، عن ابن عباس. وعلي بن زيد أحد علماء التابعين والشيعة الصادقين، خَرَّجَ له مسلم (¬7) ¬
والأربعة، وقال الترمذي: صدوقٌ، وأنكر الذهبي (¬1) شهود فاطمة القبر، وما أظنه إلا لحديث ربيعة بن سيف (¬2)، وعليٌّ أوثق منه، فكيف تُنْكَرُ مخالفته له؟ وكذلك حديث حذيفة بن اليمان: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يدخل الجنة قتات " (¬3) عمومٌ مخصوصٌ بقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وبأحاديث الشفاعة، وهي نصوصٌ متواترةٌ، وقد أجمعنا على تخصيصه (¬4) بالتوبة فيه والإسلام بعد الكفر، لكونهما (¬5) أخص منه، فكذلك سائر المخصصات. وإذا صَحَّ تخصيصه بهما قبل أن يخصَّ بغيرهما، صح بعده بهما أولى، لأن العام بعد أن يُخَصَّ أضعف منه قبل ذلك، وأقبل للتخصيص (¬6). وقد أجمعنا على تخصيص: {ولن يَتَمَنَّوْهُ أبداً} [البقرة: 95] بقولهم: {يا مالك لِيَقْضِ علينا ربُّك} [الزخرف: 77] مع تأكيده بالتأبيد ودعوى الخصم أن " لن " أقوى في النفي من " لا "، وكذلك: {يا ليتنا نُرَدُّ} [الأنعام: 27]، {يا ليتها كانت القاضية} [الحاقة: 27]، ونحو ذلك، وقد فسر ذلك ونحوه بأنه لا يدخل الجنة مع أهلها حين يدخلونها، فيكون من الجمع لا من التخصيص مع أن التخصيص نوع جمع، ولو سَلِمَ فيه المعارضة وجب ترجيح القرآن والسنة المتواترة عليه، أعني قوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك ¬
لمن يشاء} وأحاديث الشفاعة، فإنه آحاديٌّ من رواية همَّام وشقيق عن حُذيفة، خرَّجاه. وعلى تقدير صحة أحاديث خلود القاتل المؤمن وعدم المعارض وعدم التأويل، فلا يصح قياس شيءٍ من الكبائر عليه، لأن شرط القياس الظني مساواة الفرع للأصل، وليس فيها ما يُساويه في الإثم لِمَا وَرَدَ فيه من التشديد في القرآن والأحاديث الصحاح وغيرها. وهذا ليس موضعاً للقياس القطعي لو كان يسلمُ وجودُه، كيف وهو ممتنعُ الوجود. ومن ذلك -وهو الثاني من أدلة الوعيد- قوله تعالى في الفرقان بعد ذكر الشرك وقتل النفس والزنى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68 - 69]، والجواب عنها من وجوه: الأول: أنها نزلت في مشركي قريش كما هو ثابتٌ في البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس (¬1). الثاني: أن قوله تعالى ذلك راجعٌ إلى جميع ما تقدَّم، ومنه الشرك بالله تعالى، يدل عليه أنه لو قال: ومن يفعل بعض ذلك، دل على مقصود الخصوم بغير شك، فكان في قوله ذلك ما يدل على نقيض مقصودهم، ألا تراه قال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُون}، ولم يقل: والذين لا يقتلون، والذين لا يزنون كما يقول في كثيرٍ من آيات الوعد بالثواب، ولا نص على التبعيض هنا كنصه حيث قال: {ومن يعمل من الصالحات} ونحوها كما نُوضِّحه. الوجه الثالث: وهو قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن} [الفرقان: 70] بواو الجمع، فإنها تدل على أنها في المشركين، لأن المؤمنين لا يقال فيهم: {إلاَّ من تاب وآمن}، ومثلها في سورة مريم [60]، وفي سورة طه [82]: ¬
{وإني لَغَفَّارٌ لمن تاب وآمن}، وهذه كلها في المشركين، وكذا قوله: {وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} [الزمر: 54]، من بعد قوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يدل على أنها نزلت فيهم، وأنهم المرادون بهذا الأمر بعدها، فلو أراد الجميع لقال في هذه الآيات: إلاَّ من تاب أو آمن. ومن ذلك -وهو الثالث من أدلتهم- قوله تعالى في الحجرات [2]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون} وفيها حجةٌ للجميع على المرجئة إن سَلَّموا أن ذلك ليس بكفر ولا يؤول إلى الكفر، لتضمُّنِه الاستهانة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ قد صح أن الآية لم تنزل فيمن هو جهوريٌّ الصوت خِلقةً لا اختيار له فيها، فروى موسى بن أنس، عن أنس بن مالك، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيسٍ، فقال رجل: أنا أعلم لك علمه، فوجده جالساً في بيته منكّساً رأسه، فقال: ما شأنك؟ قال: شَرٌّ، من كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حَبِطَ عمله، وهو من أهل النار، فأتى الرجل، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجع المرة الثانية ببشارةٍ عظيمةٍ، فقال: " اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة " رواه البخاري وحده في علامات النبوة، وفي التفسير عن ابن المديني، عن أزهر بن سعد، عن ابن عون، عن موسى (¬1). فإن قيل: في هذا فَهِمَ ثابتٌ لما فهمته المعتزلة من ظاهر الآية، وهو حجةٌ، لأنه (¬2) عربي. قلنا: لا يصح ذلك مع بطلان ما فهمه بالنص النبوي الموافق لما فهمه أهل السنة، وقد يَغْلَطُ العربي في فهمه كما غَلِطَ عدي بن حاتم في الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقال له - صلى الله عليه وسلم -: " إنك لعريض القفا " (¬3). ¬
رد احتجاج المعتزلة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ... } على أهل السنة على أن الكبائر بمنزلة الشرك في الإحباط
وغَلِطَ عمر في قوله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] (¬1)، فالعربي حجةٌ ما لم يَتَّضِحْ غَلَطُه. وقد قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: أو فَهْمٌ أُوتيه أحدٌ (¬2). ونصَّ القرآن (¬3) على تفضيل سليمان على أبيه داود في الفهم. وأما احتجاج المعتزلة بها على أهل السنة على أن الكبائر بمنزلة الشرك في الإحباط، وأن ذلك مستلزم الخلود، وقُبح العفو من الله، فمردودٌ لوجوه: الأول: ما ذكرنا من جواز أن الإحباط بسبب تجويز الوقوع في الكفر بسبب الاستهانة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أجل أن ذلك قد يؤدي إليها على جهة التجويز جاء بأن المصدرية التي للتخويف، أي: مخافَةَ أن تحبط أعمالكم، ولو كان ذلك استهانةً محضة أو كانت الاستهانة لازمةً له ولا بد، لما جاء بهذه الصيغة. الوجه الثاني: أنه فرقٌ واضح بين أن يقول: تحبط من غير إدخال " أن " المصدرية، ويكون مجزوماً في إعرابه، تقديره: إن تفعلوا ذلك تَحْبَطْ أعمالكم، وبين إدخال " أن " المصدرية، ولا شك أن الصورة الأُولى تدل على الإحباط وأن دخول " أن " قد غيَّرَ معناها إلى معنى التخويف الذي قد يقع وقد لا يقع. يوضحه ما في " صحيح البخاري " عن ابن أبي مُليكة عن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في أبي بكرٍ، وعمر وأنهما كادا يَهْلِكان. رواه البخاري في ¬
" المغازي "، والترمذي، والنسائي في " التفسير " (¬1). فهي في التخويف مثل قوله تعالى: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 73]، وقوله: {أن تُرَدُّ أيمانٌ بعد أيمانهم} [المائدة: 108]. الوجه الثالث: أنا لو سَلَّمنا دلالة ذلك على أن في ذنوب المسلمين ما يُحْبِطُ العمل لم يستلزم أن الإحباط يستلزم الخلود، وقبح العفو من الله، لأنه لا مانع من أن يَحْبَطَ عمل العبد ويدخل الجنة برحمة الله تعالى فقد دخلها الصبيان بغير عمل، ويخلق الله لفضول الجنة خلقاً لم يعملوا، ولم يُكَلَّفُوا، كما ثبت في البخاري وغيره (¬2). وقد جاء في الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه: " اللهم إني أعوذ بك أن أكسِبَ خطيئةً مُحبطةً أو ذنباً لا يُغْفَرُ " ففرَّق بين الخطيئة المحبطة، وبين الذنب الذي لا يُغفر. رواه أحمد والحاكم من حديث زيد بن ثابت (¬3). وكذلك بَيَّنَ الله تعالى في قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين} [المائدة: 5] أن الخسران في الآخرة أمرٌ غير ¬
الإحباط، والظاهر في الذنب الذي لا يُغفر أنه الشرك، لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به} [النساء: 48 و116]، وقد خرَّج الحاكم ما يدل على ذلك نصاً صريحاً في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ (¬1) عَنْهُمْ أَحْسَنُ مَا عَمِلُوا وَيُتَجَاوَزُ (1) عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون} [الأحقاف: 16]. كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وفيه عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قضى أن يُؤتى بحسنات العبد وبسيئاته، ويُقَصُّ بعضُها ببعض، فإن بقيت حسنةٌ، وسَّعَ الله له في الجنة ما شاء، وإن لم يبق له شيءٌ فـ {أولئك الذين يُتَقَبَّلُ عنهم أحسنُ ما عَمِلُوا، ويُتجاوزُ عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يُوعَدُونَ} قال الحاكم: صحيح الإسناد (¬2). فهؤلاء الذين لم يبق لهم من حسناتهم هم الذين حبطت أعمالهم (¬3)، فلم يمنع ذلك من تدارُكِ رحمة الله تعالى الواسعة لهم، وفيه دِلالةٌ على أنه يجوز أن يحبط عملُ المؤمن بذنوبه ثم تُدركه الرحمة والحمد لله. وأما حديثُ سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً: "رُبَّ صائمٍ حَظُّه من ¬
صيامه الجوعُ والعطش، وربَّ قائمٍ حظه من قيامه السهر" رواه أحمد والنسائي وابن ماجه. فرواه مرةً أحمد (¬1) من طريق عمرو بن أبي عمر، وعن سعيد وقد كان أحمد يُوثقه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والعجلي، لكن ضعَّفه ابن معين والنسائي، وأبو داود، وعثمان الدارمي (¬2)، ورواه النسائي وابن ماجه (¬3) من طريق أُسامة بن زيد الليثي، عن سعيد، وأسامة مختلفٌ فيه كذلك، ثم سعيد المقبري مختلفٌ فيه، وقد اضطرب في هذا الحديث، فرواه النسائي عنه موقوفاً ومرفوعاً، ومرةً عن أبي هريرة، ومرةً عن أبيه، عن أبي هريرة (¬4)، وعلى تسليم صحته فهو محتملٌ أنه في المُرائي، وفي غير أهل الإسلام احتمالاً بيناً، ويعارضه في أهل الإسلام ما لا يحصى مثل آية الخالطين [التوبة: 102]، وأن الحسنات يذهبن السيئات وما سيأتي. وأما ما رواه البخاري والنسائي (¬5)، عن أبي المَليح، عن بُريدة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من ترك العصر فقد حَبِطَ عمله "، فتفرد به البخاري دون مسلم، لأجل يحيى بن أبي كثير وتدليسه، والخلاف فيه مع اضطرابٍ وقع في القصة، فروي أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ في يوم غيم فقال: " بَكِّرُوا بالصلاة (¬6) في يوم الغيم، فإنه من ترك العصر، فقد حَبِطَ عملُه " وروي عن أبي المليح أنهم كانوا مع بُريدة في سفرٍ في يوم غيم فقال ذلك لهم، لأنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول الحديث، وإن صح ففي مسلم من طريقين عن جابر أن ترك الصلاة ¬
إطلاق الكفر على تارك الصلاة يحتمل كفرا دون كفر
كفر، وشواهده كثيرة، والقول بكفر تارك الصلاة شهيرٌ في الحديث، رواه الجماعة إلاَّ البخاري عن جابر مرفوعاً (¬1)، والأربعة، وأحمد عن بريدة مرفوعاً (¬2) والترمذي (¬3)، عن الصحابة موقوفاً من طريق عبد الله بن شقيق، والنووي في " شرح مسلم " (¬4) عن علي عليه السلام موقوفاً، وروى أحمد عن ابن عمرو عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أن تاركها يُبْعَثُ مع قارون وفرعون وأُبيّ بن خلف " (¬5) وهو الحديث الرابع عشر بعد المئة من (¬6) مسند عبد الله بن عمرو من " جامع المسانيد "، وفي صحته نظر، لأنه من رواية سعيد يحتمل أنه ابن بشير، وله معارِضٌ بل معارضات. أما إطلاق الكفر عليه، فصحيحٌ، ولكنه يحتمل كُفراً دون كُفرٍ، ودَلَّت على هذا دلائل منها حديث عُبادة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " ومن لم يحافظ عليها فليس له عند الله عهدٌ إن شاء عذَّبه وإن شاء غفر له ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة (¬7)، وصَحَّحَه ابن كثير. وخرَّج البخاري ومسلم عن عبادة: " من قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله -الحديث- أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " (¬8). وخرَّجا من حديث أبي ¬
موسى: " من صلَّى البَرْدَيْن، دخل الجنة " (¬1) وعن عُمارة بن رُوَيْبَة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لن يلج النارَ أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " -يعني الفجر والعصر- فقال له رجل من أهل البصرة: أنت سمعتَ هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم، قال: وأنا سمعتُه منه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). رواه مسلم في الصلاة من ثلاث طرقٍ عن وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، ومسعر، والبَخْتَريِّ بن المختار، سمعوه من أبي بكر بن عمارة، عن أبيه. ورواه أبو داود فيه عن مسدد، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل به، وذكر حديث الرجل. والنسائي من طريق رابعة عن وكيع به، وقال البختري بن أبي البختري، ولم يذكر حديث الرجل. ومن طريق يحيى ولم يذكره، وفي التفسير من طريق ثانية عن قُتيبة، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق -وهو السبيعي- عن عمارة ابن رويبة، وذكر حديث الرجل. وزاد المِزِّيُّ أنه رواه عبد الله بن رجاء الغُداني عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بكر بن حفص، عن عُمارة، وذكر فيه حديث الرجل (¬3). قلت: وله طريق أخرى خرَّجها أحمد (¬4) عالياً عن سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عمارة. وخرجها مسلم نازلاً عن الدَّوْرَقي، عن يحيى بن أبي بكير، عن شيبان، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن عمارة، عن أبيه عمارة. والظاهر عندي أن أبا إسحاق وعبد الملك سمعاه بواسطةٍ أولاً ثم سألا ¬
لا يصح في الإحباط بغير الشرك نص جلي المعنى
عُمارة عنه فسمعاه منه لما فيه من البُشرى، فلم يكتفيا (¬1) حتى سمعاه منه، فقد اجتمع على هذه البُشرى الجليلة أبو موسى وعُمارة من أربع طرقٍ عنه، ورجلٌ من أهل البصرة صحابي، فلله الحمد. وروى أبو داود (¬2) من حديث فضالة شاهداً لذلك بغير لفظه. وروى النسائي، عن عثمان، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من علم أن الصلاة حَقٌّ واجبٌ دخل الجنة ". ورواه عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (¬3). وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة: " أخرجوا من النار من لم يعمل خيراً قط، وكان في قلبه من الإيمان ما يزن ذرة " متفق عليه (¬4)، وغير ذلك وسيأتي والله أعلم. وعلى الجملة فلم يصح في الإحباط بغير الشرك نصٌّ متفق عليه جَلِيُّ المعنى، فإن صح لم يمتنع معه تجويز العفو كما تقدم في حديث ابن عباس، وأحاديث الشفاعة الصحاح بل المتواترة مُصَرِّحةٌ بخروج أهل التوحيد كلهم من النار، سواءٌ حَبِطَتْ أعمالهم أو لم تَحْبَطْ، وهي متواترةٌ كما يأتي والله سبحانه أعلم. وقد قيل: إنه يمكن أن يحبط في الدنيا حتى يُشْفَعَ له في الآخرة، ومعنى إحباطها في الدنيا، عدمُ تأثيرها في حقن دمه وماله وعدم الدفع من الله تعالى ¬
عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا كما قال تعالى، وهذا يستحق العقوبة بعدم الدفع، وبإنزال المصائب عليه. وعن المهلب نحو في تفسير: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " كما سيأتي (¬1). وروى الحاكم في " المستدرك " في كتاب التوبة عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله قضى أن يُؤتى بحسنات العبد وسيئاته ويُقَصَّ بعضُها ببعض، فإن بقيت حسنةٌ وَسَّعَ الله له بها في الجنة ما شاء، وإن لم يبق له شيء فـ {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (¬2). ورواه في موضعٍ قبل هذا بنحوه من طريق الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: صحيح، ذكره في كتاب التوبة، والآية في الأحقاف [16]. وروى الحاكم (¬3)، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، [عن أبيه]، عن أبي طلحة الأنصاري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحدَكُم ليجيء بالحسنات لو وُضِعَتْ على جَبَلٍ لأثقلته ثم [يجيء] النعم، فتذهب تلك بتلك، ويتطاول (¬4) الريب بعد ذلك برحمته " ويشهد لهذا حديث جابر في الذي عبد الله في جزيرةٍ في البحر خمس مئة عام لم يُذنب، فحوسِبَ فلم تَفِ عبادتُه (¬5) بشكر نعمة البصر. الحديث أخرجه الحاكم أيضاً وصححه (¬6) من حديث جابر فهذا الحديث الأول نصٌّ -ولله الحمد- على النظر الذي ذكرت، فإن هذا هو الإحباط الذي لا ¬
يُبقي (¬1) للعبد حسنةً بسبب كثرة سيئاته وغلبتها على حسناته، فلم يكن ذلك مانعاً من تدارُكِ رحمةِ الله للعبد المسلم، والحمد لله رب العالمين. ويشهد له من القرآن تقسيمُ أهل الجنة، وقوله فيمن اصطفى: {فمنهم ظالمٌ لنفسه} [فاطر: 32] مع قوله: {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} [النمل: 59]. ومن ذلك وهو الرابع من أدلتهم، وهو يلحق بالنوع الثاني، منها ظواهر، ومطلقات، وعمومات، ربما وَهِمَ بعضهم أنها نصوص أو أوهمت عبارته ذلك، ولا نص فيها غير مُحتملٍ للتأويل مثل (¬2) قوله تعالى في الجواب على اليهود حين زعموا أنهم لا يكونون في النار إلاَّ أياماً معدودةً: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطيئاتُهُ (¬3) فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] والجواب من وجهين: أحدهما: أن سبب نزول الآية في خطاب اليهود ورد قولهم بتقدير مكثهم في النار بالأيام المعدودة، وهي سبعة أيام (¬4)، فيما نقله المفسرون وقد ذكرنا أن ¬
تعديةَ ما نزل (¬1) بسبب إلى غيره ظنيٌّ مختلف فيه كما هو مقرر في الأصول. وثانيهما: أنه مُسلَّم لو لم يرد من القرآن إلاَّ هذا الجنس أنه كان يدل على ما ذكروا (¬2)، فلما ورد القرآن والحديث بما (¬3) هو أبينُ منه، وجب الجمعُ بينهما والرجوع إلى الأبين، وقد قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] فدل على خروج ما دون الشرك من القطع، كما دلَّ القرآن بإجماعنا على خروج الصغائر المعمودة، ويقوى ذلك بمثل قوله تعالى في النار في غير آية: {أعدّت للكافرين}، بل قوله: {لا يَصلاها إلا الأشقى، الذى كَذَّبَ وتَولَّى} [الليل: 15 - 16]، وقوله تعالى: {إنا قد أُوحيَ إلينا أنَّ العذاب على من كَذَّبَ وتولَّى} [طه: 48]، وقوله في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد: 21]، وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {ولَمْ يَلْبسُوا إيمانهم بظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، أنه الشرك (¬4)، مع قوله تعالى بعد ذلك: {أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} [الأنعام: 82] والمراد إن شاء الله لهم الأمن في الآخرة، ولا أمان في الدنيا لصالح، فكيف غيره لقوله في مغفرة ما دون ذلك لمن يشاء، ولجهل السوابق والخواتم، ولقوله تعالى: {إنَّ عذابَ ربِّهم غيرُ مأمونٍ} ¬
[المعارج: 28]، ولما في الأمن من فساد أكثر الخلق، وبمثل ذلك يُجاب على من احتجَّ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} [البقرة: 102]، ويُزاد عليه الاستدلال على أنها في الكفار قوله قبلها: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر} [البقرة: 102]، وقوله بعدها: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة} [البقرة: 103]. ومن ذلك قوله تعالى: {وما للظالمين من أنصارٍ} [البقرة: 270]، والظاهر فيها وفي غيرها من لا خير فيه وهم الكفار، لأنَّ الله تعالى قد ميَّزَ الخالطين (¬1) بحكم، وكذلك: {ومَنْ يعملْ مِنَ الصالحات وهو مؤمنٌ} [طه: 112] بآيات كريمة لو لم يكن إلاَّ قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]، فقد خرجوا بالمخصص كما خرج صاحب الصغيرة، وقد صح حديث ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم - في تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى: {ولم يلبسوا إيمانَهم بظُلْمٍ} (¬2). وكذلك قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، وكذلك ها هنا، ولا بُدَّ من إثبات ظلمٍ دون ظلم، فقد قال آدم عليه السلام: {ربَّنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23]، مع أنه معصومٌ من الكبائر، وإن أُطلق على ذنبه اسم ظلم، وقد تقدَّمَ هذا المعنى في قبول المتأولين، وسبيل هذه الآيات سبيلُ قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء: 18]، فإنها مخصوصةٌ (¬3) بمن نزلت فيه من المشركين ولو كانت على ظاهرها، هَلَكَ الخلق، وكفى بياناً لها (¬4) قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] فأثنى عليهم بذلك، فكذلك مطلق الظالمين يخرج منهم أهل الإسلام في كثيرٍ من المواضع، وقد تناولهم وَعْدُ المحسنين والمسلمين كما ¬
تناولهم وعيد الظالمين، فتعارَضَ فيهم، ويجب أن يشتقَّ لهم اسم الإحسان من إحسانهم، والإسلام من إسلامهم، والظلم من ظلمهم، ويبقى الوعيد خالصاً لمن له اسم الظلم خالصاً، وعلى نحو هذا يُفَسَّرُ قوله تعالى: {وقد خاب من حمل ظلماً} [طه: 111]، كما فسر النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ} ولذلك قال الله تعالى بعد قوله: {وقد خاب من حمل ظلماً}: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلماً ولا هضماً} [طه: 112]، فدل على أن معنى التي قبلها: من حمل ظلماً ولم يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فذلك هو المشرك، أما لو كان قد عَمِلَ من الصالحات وهو مؤمن تناقض وعده ووعيده، هذا لو لم يرِدْ بيان ذلك مُفَصَّلاً من السنة، فأما بعد وروده فلا يعدل (¬1) عنه، ومن عَدَلَ عنه، فلا بد أن يقع في أضعف مما فَرَّ منه، ويتناقض، ويرد الظن الصحيح الواجب قبوله كنصوص الأخبار الصحاح بالظن الضعيف المُحَرَّم قبوله من الآراء الفاسدة، ولكنه مع ذلك يُسميه علماً لتقليده في قواعده من غير شعورٍ بالتقليد، لأنه قَطَعَ بها لشهرتها بينهم وظن ذلك القطع علماً كظن جميع المبطلين، وهذه ظلماتٌ بعضُها فوق بعض، تَرَكَّبَ منها صورة اعتقاد علم فيما هو مجموع جهالات، وأنتج هذا رد السنن والآثار وتفاسير السلف، فنعوذ بالله من ذلك، ومنهم من مَنَعَ الأخبار مطلقاً، حتى في الفروع كالبغدادية، وعَلَّلوا ذلك بتقبُّح الظن، ولم يشعروا أنهم ما تمسكوا في رده إلاَّ بظواهرَ سمعيةٍ ظنيةٍ، وأما العقل، فهو عليهم لا لهم، كما بيَّنه الأئمة وأبو الحسين (¬2) فالله المستعان. وتأتي الأجوبة مفرقة في كل آية أو في أكثرها فتأمله، وإنما القصد سياقة الأجوبة على غير ترتيب للبينة على النظر، ومن أحَبَّ التحقيق، نظر الجواب المبسوط في آيه القتل، ونقل تلك الوجوه كلها أو معظمها إلى كل آيةٍ عُرضت من العمومات التي يحتج بها الخُصُومُ، وكذلك المباحث المتعلقة بتفسير ¬
الإسلام، والإيمان، والإحسان، تأتي مبسوطةً في موضعٍ واحدٍ، وقد تُذكر في غيره من غير بسطٍ فتأمَّلْ ذلك. ويتصل (¬1) بهذه الآيات التي يحتج بها المعتزلة في نفي الشفاعة -وهو لاحق (¬2) بالأمر الثاني من أنواع أدلتهم- مثل قوله تعالى: {ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18]، والذي قبلها والذي بعدها يدل على أنها في الكفار كقوله قبلها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 10]، إلى قوله: {وإن يُشْرَكْ به تؤمنوا}، وقوله بعدها: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْء} [غافر: 20] فرجع الضمير في الذين يدعون من دونه إلى الظالمين ولو تجويزاً، والداعون (¬3) معبوداً دون الله كفارٌ، فكذلك الظالمون الذين وصفهم الله بهذا الكفر ولو تجويزاً، وهذه كالآية الثانية، وهي قوله تعالى: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء: 96 - 102]، وقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِين} [الروم: 13]، وقال: {ما سَلَكَكُم في سَقَرَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِين} [المدثر: 46 - 48]. وفيه حديث ابن مسعود خرَّجه الحاكم (¬4) في التفسير، وفيه إثبات الشفاعة ¬
للمسلمين، ونفيُها عن الكافرين، رواه عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود وقال: على شرطهما. وقال الله تعالى في ذلك: {ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من وليٍّ ولا شفيعٍ أفلا تَتَذَكَّرون} [السجدة: 4]، وهذا مع ما قدمنا أن الظالمين في عُرْفِ القرآن يخُصُّ الكافرين، لقوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]، لأنه صح تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - للظلم بالشرك في قوله: {ولم يلبسوا إيمانهم بظُلمٍ} وقد مرّ (¬1) تقريره في الكلام على قبول المتأولين في أول الكتاب، وقد خصَّ الله تعالى عموم نفي الشفاعة بقوله في سورة مريم: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 85 - 87]، وإنما ينفي الله تعالى الشفاعة عن المشركين، لأنه صرَّح في القرآن: أنهم عَبَدُوا غير الله، ليكونوا لهم شفعاء، والآيات في التصريح بذلك ونفي هذه الشفاعة لا تُحصى، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} [الأنعام: 94]، وقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيم} [الشعراء: 97 - 101]، ولذلك قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]، ولذلك ذكر الولي مع الشفيع، ولا حجة فيها للمعتزلة، فإنها في المؤمنين الصالحين، والشفاعة عند المعتزلة ثابتةٌ لهم، فتأويلها بما ذكرنا لازمٌ للجميع يُوضِّحه قوله تعالى بعدها: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِك ¬
بحث في الحاشية في تفسير قوله تعالى: {أمرنا مترفيها}
الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70]، فأوضح في آخرها أنها في الكفار. وكذلك لا حجة لهم في قوله تعالى: {ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى} [الأنبياء: 28]، لأنها في شفاعة الملائكة، ومن كانوا يُعبدون من دون الله، لا في شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن مفعول " ارتضى " المحذوف هو المذكور قبله، أي: لمن ارتضى أن يشفعوا له؛ لا لمن ارتضى عمله باتفاق أهل العربية، كما تقول: لا تُكْرِ دارَك (¬1) إلاَّ لمن ارتضيتَ، أي: الكراء منه لا عمله، وإنما هي كقوله: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذِنَ له} [سبأ: 23]، ويُشْبِهُها من وجهٍ قوله تعالى: {يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلاَّ من أذن له الرحمن ورَضِيَ له قولاً} [طه: 109]، فالمرضي مفعوله المأذون له هنا هو الشافع لا المشفوع له، والمرضي في الأولى: هو الشفاعة نفسها، وأما المشفوع له، فلو كان مرضياً من كُلِّ وجه، لكان بأن يكون شافعاً أنسب من أن يكون مشفوعاً له، بل ذلك ثابتٌ في الحديث المتفق على صحته، وفيه يقول الله: " شَفَعَتِ الملائكة، وشَفَعَ الأنبياء، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلاَّ أرحم الراحمين " الحديث (¬2)، والعمدة دِلالة الفعل المذكور على المُضمرِ المُقَدَّر، وهو إجماع أهل العربية، وهذا الذي حمل الزمخشري (¬3) على تقدير: أمرنا مُترفيها بالفِسْقِ مجازاً، لقوله بعده: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ففسقوا، وذلك أن المحذوف إذا دل عليه المنطوق وجب تقديره من جنسه. ومثلهما قوله تعالى في الشفاعة: {من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه} [البقرة: 255]، وقوله: {إلاَّ من بعد أن يأذنَ الله لمن يشاء ويرضى} كلها في نفي الشفاعة من غير مشيئته ردّاً على المشركين في جهالاتِهم، ولولا قبولُ الخاص وتقديمه على العامِّ، لَوَجَبَ نفيُ الشفاعة عن المؤمنين لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فكيف تُرَدُّ أخبار الشفاعة الصريحة الصِّحاح، بل المتواترة عند أهل العلم التامِّ بالحديث لأجل عموماتٍ نزلت في ردِّ جهالات المشركين، وما يجري هذا المجرى في الاحتجاج منهم والحساب عليهم قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّار} [الزمر: 19]. والجواب أنها عمومٌ، وأن آية سورة مريم أخصُّ وأحاديث الشفاعة المتواترة وسائر أدلة أهل السنة، ويوضح ذلك أن هذه فيمن حقَّتْ عليه كلمة العذاب كما هو بيِّن فيها، وقد قال الله تعالى: {وكذلك حقت كلماتُ (¬1) ربك على الذين كفروا أنهم أصحابُ النار} [غافر: 6]، ولها نظائر، وفي حديث الشفاعة الصحيح تقول الملائكة (¬2): لم يبق في النار إلاَّ من حَبَسَهُ القرآن (¬3)، يريد الكفار الموعودين بالخلود، والآية التي احتجوا بها في " الزمر " وعقيبها قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20]، وبعدهما بيسير: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [الزمر: ¬
33]، فحكم لهم بالتقوى كما سيأتي تحقيقه لأنهم اتقوا الشرك بالله، وقد قال فيهم: {لِيُكَفِّرَ اللهُ عنهم أسْوَأ الذي عَمِلُوا} [الزمر: 35]. ومن ذلك قوله تعالى في تحريم الربا: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275]، وظاهرها في الكفار، لأنه قال في أولها: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، وهذا الكلام يخُصُّ الكافرين، لأنه صريح الإنكار لتحريم الربا، والاحتجاج على الله تعالى بالقياس كما احتج الشيطان في تفضيل نفسه على آدمَ، وإنما الذي يَخُصُّ المؤمن من وعيد الربا قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه} وليس فيه ذكر الخلود، على أنه من أشَدِّ وعيدٍ، وأعظم تهديد. ونحوه ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أن الله تعالى يقول: من عادى لي ولياً فقد آذَنْتُه بحربٍ " (¬1). وكذلك جعل هذه الآية الآخرة في المؤمنين الواحديُّ في " أسباب النزول " (¬2). وقد ثبت أن أكل الربا من السبع الموبقات (¬3)، وفي حديث سمرة في الرؤيا النبوية، رواه البخاري (¬4): " وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويُلْقَمُ الحجارة، فإنه آكلُ الربا "، وهذا التفسير إشارة إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قبله: "فأتينا على نهر -حسبتُ أنه قال:- أحمر مثل الدم، فإذا في النهر رجلٌ يسبح، وإذا على شَطِّ النهر رجلٌ قد جمع عنده حجارةً كثيرة، وإذا ذلك السابحُ يسبَحُ ما سَبَحَ، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه، فَغَرَ له فاه، فيُلقمه حجراً (¬5)، قال: قلتُ ما هذا؟ ¬
قالوا: انطلِقْ انطلِقْ" الحديث، ثم فَسَّراه بما تقدم من أنه آكلُ الربا، وهو حديثٌ شديد، إلاَّ أن في آخره ذكر المغفرة للخالطين (¬1). رواه البخاري في تفسير قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102]. وله شاهدٌ حَسَنٌ بغير لفظه رواه أحمد وابن ماجه (¬2) من طريق ابن لهيعة، عن عبد رَبِّه بن سعيد، عن المَقْبُري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل النار إلاَّ شَقيٌّ " قيل: ومن الشقي؟ قال: " الذي لا يعمل بطاعةٍ ولا يَتْرُكُ لله معصيةً " خرَّجه ابن ماجه في الزهد وهو الحديث (652) من مسند أبي هريرة في " جامع ابن الجوزي " وهو يدلُّ على مثل حديث البخاري عن سَمُرَة في الخالطين. وكان أحمد يقوي شأن ابن لهيعة في الحديث، ويقول: إنه محدثُ مصر، ويقول: من مثله في حفظه وإتقانه، وأثْنى عليه ابن وهب، وقال: إنه بارٌّ صادقٌ، وأثنى عليه الليثُ وسفيان، وخرَّج له الأربعة، وإن ضعَّفه الأكثرون فقد علم هؤلاء تضعيفهم له وسببه، ثم خالفوهم فيه. وإنما قلت: إن حديثه يشهد لحديث سمرة في الخالطين، لأن كل مسلمٍ قد أطاع الله في التوحيد، وفي ترك الشرك، وجميع أنواع الكفر، وتعظيم الرسل، وحُبِّهم لله عز وجل، وقد كان بعضهم يقول: اللهم إني أطعتُك في فعل أحب الأشياء إليك، وتَرْكِ أبغضها إليك، فاغفر لي ما بينهما، أو كما قال، فنسأل الله أن يصدق ذلك بواسع رحمته، وعظيم فضله، إنه على ذلك قدير، وبكل خيرٍ جدير، وقد يُجازى المؤمن في الدنيا بعقوباتٍ مختلفة على جهة التدريج، على ما جاء تفسيره في قوله تعالى: {أو يأخُذَهُم على تَخَوُّفٍ فإنَّ ¬
أشد وعيد في خطاب المؤمنين في قوله تعالى: {ومن يولهم يومئذ دبره}
ربكم لرؤوفٌ رحيم} [النحل: 47]، والتخوُّف: التنقص قليلاً قليلاً، ونسألُ الله العافية من ذلك كله، فإن البشر ضعيفٌ، وقليلُ العذاب شديد، ولا أمان من واحدٍ منهما، ولا نجاة إلاَّ برحمة الله فحسبنا الله ونعم الوكيل. ومن أشدِّ وعيدٍ وَرَدَ في خطاب المؤمنين فيما علمتُه قوله تعالى في " الأنفال " [15 - 16]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير} فهذا وعيدٌ شديد يخص المؤمنين، ولذلك لم يذكر فيه الخلود. وعن الحسن البصري أنه مُختَصٌّ بيوم بدر (¬1)، وإن كان الفرار من الزحف أحد السبع الموبقات في كل موطن على ما ثبت في حديث أبي هريرة (¬2)، لكنه قد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فئة المسلمين، كما في حديث ابن عمر في فِرارِهم من نجد، وقولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: نحن الفرارون، فقال: " أنتم العَكَّارون " وهو صحيحٌ (¬3) فدلَّ على صحة قول الحسن البصري في أن هذا الوعيد يختصُّ بيوم بدر، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ كان معهم فيه، فالفِرار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتَرْكُه للمشركين يُنافي الإيمان، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يؤمن أحدُكُم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه" (¬4). ¬
وكذلك يُقاسُ عليه الفِرارُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غير فئةٍ في كل موطن مثل بدر، ولعلَّ هذا الوعيد إن شاء الله من قبيل قوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] لعلم الله أن أهل بدر لا يَفِرُّ منهم أحدٌ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعه للمشركين، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية: {وليُبْلِي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميعٌ عليمٌ} [الأنفال: 17]، ويدل على جواز تخصيص الوعيد العام، وأن رحمة الله تعالى قد تغلبُ على غضبه المنصوص في الوعيد حيث يشاء سبحانه، أن طائفةً من المسلمين قد انهزَمُوا يوم أحد، فنَزَلَ القرآن صريحاً بالمغفرة لهم والعفو عنهم، بل صرَّح بأن الله تعالى وليُّهم في قوله تعالى: {والله وليُّهُما} [الأنعام: 127]، وسُرَّ بعض المنهزمين بهذه الآية، بل اعتذر الله سبحانه لهم لُطفاً بهم، فقال: {إنما استزلَّهُم الشيطان ببعض ما كَسَبُوا} [آل عمران: 155] كما نَزَلَ القرآن بالعفو عنهم في حديث الإفك في سورة النور مع أنه أحد الموبقات السبع، ولم تشتهر التوبة عنهم في القصتين معاً، بل الظاهر خصوصاً في حديث الإفك إصرار جميعهم أو بعضهم حتى نزلت مع أن الإفك من حقوق المخلوقين، ولذلك كَرَّرَ الله آيات الرحمة في ذلك كقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، وقوله: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيم} [النور: 20]، {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [النور: 21]. ومن أرجى آيةٍ فيها قوله تعالى في قطع أبي بكر نفقة مِسْطَحٍ وحَلِفِه على ذلك، لأن مِسْطَحاً كان من أهل الإفك، فأنزل الله في قَسَمِ أبي بكر على قطع نفقته: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22] فانظر كيف أثنى الله تعالى على مسطحٍ مع ذنبه المجمع على كبره، بأنه من المهاجرين في سبيل الله، وترحَّم له بأنه من المساكين، وأمر بالعفو عنه، ووَعَدَ بالمغفرة جزاءً لمن عفا عنه، وهذه الآياتُ مدنيةٌ من آخر ما
نَزَلَ، وكذلك السورة كلها، وهذا مع التشديد العظيم في هذه السورة في هذا الذنب، فالحمد لله رب العالمين. ومما يوضح لك (¬1) اعتبار أسباب النزول، والفرق بين وعيد المسلمين والكافرين في الذنب الواحد، أن الله قال بعد الحَثِّ على العفو على مِسْطح من غير فصل: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين} [النور: 23 - 25]. فهذه في المنافقين من أولها، وآخرها صريحٌ في ذلك، وشهادة الجوارح لا تكون إلاَّ على المنافقين كما في الحديث الصحيح (¬2)، لأن المنافق هو الذي يختص بالإنكار، ودعوى الإيمان والصلاح في الآخرة كما كان في الدنيا، والقرآن يكفي في الرد على منع صحة هذا، فسبحان المخوف مع سَعةِ رحمته، المرجوِّ مع شديد انتقامه، الحكيم الذي لم يُؤَمِّنِ الصالحينَ بحكمته، ولم يُقَنِّطِ المسرفين لرحمته، ومن نَظَرَ في قطع يد السارق الفقير البائس المسكين في رُبْعِ دينار أو عشرة دراهم، وإن كان سَرَقَها على أعتى الناس وأفجرهم لم يأمن من شديد عقوبة الله تعالى، وعظيم انتقامه، فإن هذه العقوبة تُخالِفُ ظنون العقلاء ومقاييس أهل الرأي، وأقوى البشر يضعُفُ عن أهون عقوبات الآخرة، وقد شاهدنا في الدنيا من أنواع المصائب والبلاوي ما لا تحتمله (¬3) قوانا، فنعوذ بالله من مباشرة المعاصي التي هي أسبابُ البلاء (¬4) والمصائب في الدارين، وكم من أهوالٍ في الدنيا، وفي البرزخ، وفي عَرَصَاتِ القيامة في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، وإن سَلِمَ العاصي المسلم من الخلود، فدون الخلود من العقوبات والمصائب والأهوال ما لا تَقْوَى له (¬5) الجبالُ، وكفى عبرةً في ذلك بما حكاهُ الله تعالى من مَشيبِ الأطفال في يوم ¬
القيامة مع عدم الذنوب، وأعظم من ذلك ما وَرَدَ في أحاديث الشفاعة الصحاح من خوف كبار الأنبياء من ذنوبهم، وامتناعهم من الشفاعة بسبب ما صدر منهم من الصغائر المغفورات التي لا قَدْرَ لها في جنب عظيمِ إحسانهم ورفيع مكانهم ومما قلتُ في ذلك: إذا خافَ الخليلُ وخافَ موسى ... وآدَمُ والمسيحُ وخافَ نوحُ ولم يَتَشَفَّعُوا للناس خوفاً ... فما لي لا أخافُ ولا أنوحُ فالأمر عظيمٌ، والخطبُ جسيمٌ، والخوف من عذاب الرب العظيم عظيم، لولا ما آنس قلوب العارفين من سَعةِ رحمة الرحمن الرحيم، وعلى كُلِّ حال فما لنا إلاَّ رحمته، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الأمر الثالث من الأصل ما تعلَّقوا به قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، فإنهم زعموا أنها أخص وأبين من قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، وأبين من سائر ما ذكرنا ومن سائر ما نذكره من أدلة أهل السنة، والجواب عليهم من وجوه: الوجه الأول: وهو تمهيدٌ للتحقيق (¬1)، أن ذلك لا يصح إلاَّ لو كان أهلُ الجنة من المسلمين نوعاً واحداً لا تفاضُلَ ولا اختلاف، وأما مع صحة انقسامهم إلى قسمين كما في " الواقعة " و" الرحمن " وغيرهما، وإلى ثلاثة أقسام كما في " التوبة " وغيرها، ألا تراه يقول في بعضهم: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً} [التوبة: 102]، ويقول في بعضهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ .. } إلى قوله: {والذين كفروا لهم نارُ جهنم .. } الآية [فاطر: 32 - 36]. ويقول في آيةٍ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) ¬
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 25 - 26]، ويقول في آياتٍ كثيرةٍ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، وفي آية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُون} [الأنبياء: 94]، وفيها دلالةٌ واضحةٌ على التفرقة بين الإيمان والعمل في الوضع الحقيقي، كما سيأتي، وإلا لكان المعنى: ومن يعمل من الصالحات وهو عاملٌ للصالحات، ويعضُده ما جاء في كتاب الله تعالى من الوعيد على بعض الصالحات صريحاً كقوله تعالى: {ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]، وفي قوله في الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّه ... } الآية [الصف: 10 - 11]. ومثلها: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُون ... } [التوبة: 111]، وقوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 85]، وفي قوله في سورة الحديد [21] في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقوله فيها: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18] قرأ ابن كثير: المُصَدِّقين بتخفيف الصاد من التصديق فيهما، وقرأ الأكثرون بتشديد الصاد فيهما من الصدقة (¬1)، وفي الصدقة يقول الله تعالى: {الشيطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويأمُرُكُم بالفحشاء} [البقرة: 268]، وهي الشُّحُّ هنا كما دل عليه أول الآية: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [البقرة: 268]، وأصرحُ منها في الصدقة قوله تعالى في آخر " التغابن ": {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيم} [التغابن: 17]. وخرَّج الحاكم (¬2) من حديث الأوزاعي عن أبي كثيرٍ الزُّبيدي عن أبيه وكان ¬
يُجالسُ أبا ذر. قلت: يا أبا ذر، دُلَّني على عملٍ إذا عَمِلَ به العبد دخل الجنة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تؤمن بالله " قلت: يا رسول الله: إن مع الإيمان عملاً قال: " يَرضَخُ مما رزقه الله " قلت: يا رسول الله، فإن كان مُعْدِماً لا شيء له، قال: " يقول معروفاً " وذكر أشياء من أعمال الخير على هذا التدريج حتى قال: " يَدَعُ الناس من أذاه " قلتُ: يا رسول الله، إن هذا ليسير كله، قال: " والذي نفسي بيده ما من خَصْلةٍ يَعْمَلُ بها عبدٌ يبتغي بها وجه الله تعالى إلاَّ أخذتْ بيده يومَ القيامة فلم تُفارقه حتى تُدخله الجنة ". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. وروى ابن عبد البر نحوه عن أبي سعيد الخُدري، ذكره صاحب " التنضيد " في باب ما يكره من الكلام، وصحَّحَ الحاكم (¬1) نحوه من حديث أنس، وصححه ابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح " وفي (652) عن أبي هريرة مرفوعاً نحو ذلك بغير لفظه (¬2). وفي " صحيح البخاري " (¬3) ورد عن ابن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أربعون خَصلة، من عَمِلَ بواحدةٍ منها دخل الجنة، أعلاها منيحة الشاة " أو كما قال، ويشهَدُ لذلك قوله تعالى: {ومَنْ يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ} [طه: 112] في غير آية، وسيأتي مبسوطاً. فإذا تقرر انقسام أهل الجنة، فهذه الآية التي ذكروها من أهلِ مرتبةٍ رفيعة من أهل الجنة، ألا تراه رَتَّبَ على اجتناب الكبائر أمرين، كل واحدٍ منها أرفعُ من المغفرة: أحدهما: قوله تعالى: {نُكَفِّرْ عنكُم سيئاتِكم} [النساء: 31]، فإن ¬
المدخل الكريم في قوله تعالى: {وندخلكم مدخلا كريما} هو درجة شريفة من درج الجنة
التكفير بالأعمال في عُرفِ الشرع، ولذلك فرَّق الزمخشري (¬1) بين المغفرة والتكفير في قوله (1): {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]، ومنه سُمِّيَتِ الكَفَّارات خصوصاً عند الخصوم أن التكفير على جهة الوجوب على الله دون التفضُّل بالمغفرة الذي هو نصيب بعض أهل الآخره بنص كتاب الله حيث قال: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20]، وقد يُسمى التكفير مغفرةً، ولا تسمى المغفرة تكفيراً، فالمغفرة جنسٌ يدخُلُ التكفير تحتها، والتكفير نوعٌ منها عند أهل السنة، وقد فرَّق الله بينهما فقال: {ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكَفِّرْ عنا سيئاتنا وتوفَّنَا مع الأبرر}. وثانيهما: قوله تعالى: {ونُدخلكم مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31]، فإنه يحتمل أن هذا المدخل الكريم هو درجةٌ شريفةٌ من دَرَجِ الجنة، إما درجة المقتصدين أو غيرهم، بل قد دل القرآن على أنها درجة المحسنين، لقوله تعالى في سورة النجم: {ويَجْزِيَ الذين أحسنَوا بالحُسنى} [النجم: 31] ثم وصفهم بصفة مجتنتبي الكبائر، فقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة} [النجم: 32]، كما سيأتي في تفسيرها، فجعل أهل الصغائر واللَّمَم مُحسنين في النجم، وجعلهم في هذه الآية من أهل المُدْخَلِ الكريم، فدلَّ على أنهم طائفةٌ من أهل الجنة، وأهل الجنة طوائف متفاوتة، ولهم دَرَجٌ كثيرةٌ كما قال تعالى: {هم درجاتٌ عند الله} [آل عمران: 163]، وقال في المجاهدين: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 95 - 96]. وفي " الصحيح " أن في الجنة مئة درجة بين كل درجتين كما بين السماء ¬
والأرض (¬1). صحَّحَ ابن تيمية أن الحديث في الجنة، لا أنه أن الجنة مئةُ درجة، وطوَّل في هذا، وفي الأدلة عليه، ذكره تلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه " حادي الأرواح " (¬2). وفي " الأنفال " [2 - 4]: {إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قلوبهم} ... إلى قوله: {أولئك هم المؤمنون حقاً} وبعدها [5 - 6]: {وإنَّ فريقاً من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعدما تبَيَّنَ} فلما كان المؤمنون في الدنيا مراتب متفاوتة، كانوا كذلك في الآخرة، وقد دل حديث الشفاعة أن الخارجين من النار بالشفاعة ثلاث طوائف، وأن الله يُخرج بعدهم (¬3) من النار برحمته لا بالشفاعة طائفة رابعة لم يعملوا خيراً قط، ولا في قلوبهم خيرٌ (¬4) قط، ممن قال: لا إله إلاَّ الله، يُسَمِّيهم أهل الجنة عُتقاء الله من النار بل في الجنة من لم يَقُلْ قبل موته لا إله إلاَّ الله، ولا يدخُلُها بعملٍ كالأطفال، وفيها من لم يُكَلَّفْ كحور العين، وفيها قومٌ يُنشئُهم ويسكنهم فضولَ الجنة التي تبقى ليس فيها أحدٌ كما في " الصحيحين " (¬5). ¬
ورود الشرع بأن الحسنات يذهبن السيئات
فإذا تقرَّرَ هذا، فالمعتزلة لم تُقِرَّ ببعضه، وهو انقسامُ دَرَجِ الجنة على حَسَبِ أعمالِ أهلها، بل تقول: إن الأطفال من أهلها بغير عمل، فما أمنهم أن الآيات التي احتجوا بها في صفة بعض أهل الجنة لا في صفة جميعهم، بل لا بد من ذلك عندهم، وإلا لَمَا دخلها الأطفال، وإنما أخبر الله تعالى بهذه الآية عن طائفةٍ من الجنة أنهم من أهل المُدْخَلِ الكريم عنده، وسكت في هذه الآية عمَّنْ عداهم، ثم ذكرهم في غيرها من كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي. الوجه الثاني: تمهيدٌ كالأول أيضاً، وذلك أن الشرع ورد بأن الحسنات يُذهبن السيئات، ومنه قوله: {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11]. وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه} [المائدة: 45]. وروى أحمد حديثين في ذلك: أحدهما في تفسير الآية (¬1)، والثاني حديثُ هشام بن عامر في المتهاجرين، وأن من بدأ منهما بالرجوع عن ذلك كانت كفارة له (¬2). وفي الحديث: " وأتْبِعِ السيئة الحسنةَ تَمْحُها " (¬3) رواه الترمذي من حديث أبي ذرٍّ ومعاذ، وحديث أبي ذر أصحُّ وإسناده صالح. ورواه النووي في " مباني الإسلام " (¬4) والآية المقدمة تشهد له، وجاء في الشرع صريحاً بذكر التكفير ¬
تكفير الدنوب بالتوبة، وتكفير الصغائر باجتناب الكبائر
والكفارات، فالإسلام يَجُبُّ ما قبله ويُكَفِّرُ ما تقدمه من حقوق الله وحقوق المخلوقين بالإجماع. وكذلك التوبة تُكَفِّرُ الذنوب بالإجماع مع اجتماع شرائطها، وكذلك كفارات الأيمان، وكفارات الظِّهار، وقتل الخطأ، وقتل الصيد في الحرم إجماعاً، واختلف في كفاره من تَرَكَ الجمعة أو أتَى حائضاً، وقتل العمد كما مضى، وغير ذلك. وكذلك اجتناب الكبائر تُكفِّرُ الصغائر بالإجماع أيضاً، ولا يُعْتَدُّ بخلاف الخوارج في ذلك. وقال تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم} [التغابن: 17] وأمثالها كثيرٌ في الوعد بالمغفرة على العمل الواحد من الصدقة أو الجهاد أو غير ذلك من الطاعات، فقد قال الله تعالى: {ومَنْ يُطعِ الله} في الوعد كما قال: {ومَنْ يَعْصِ الله} في الوعيد كما مضى قريباً. وقال: {هل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان} [الرحمن: 60]، والإحسان: هو الإخلاص في العمل وإن قَلَّ، كما يأتي بيانه، يُوضِّحُ ذلك أنه تعالى جعل السيئة بسيئة مثلها واحدة في جميع كتبه، وعلى ألسنة رسله، ومثله في جميع الأحوال إلاَّ ما اختلف فيه من سيئات الحرم، ولم يَصِحَّ فيه شيءٌ، وأما الحسنة، فجعلها بعشرٍ إلى سبع مئة ضعف والله يُضاعفُ لمن يشاء، أي: يزيد على السبع مئة لمن يشاء على أحد التفسيرين، وهو الصحيح لقوله تعالى في جزاء الصابرين: إنه بغير حساب [الزمر: 10]، ولما صح (¬1) من حديث: "كل حسنةٍ ¬
بعشر إلى سبع مئة إلاَّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وهذا يدلُّ على أن جزاء الصوم يزيد على سبع مئة كالصبر، فهو (¬1) يُناسِبُ في المعنى، لأن الصومَ صبرٌ مخصوص، فقد دَخَلَ في وعدِ الله في كتابه للصابرين حيث قال: {إنما يُوفَّى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزمر: 10] وصح في حسنة الحرم أنها بمئة ألف حسنة، وأن الصلاة فيه بمئة ألف صلاة، ومتى انضم ذلك إلى مضاعفة الجماعة كانت الصلاة الواحدة فيه تعدل ثمانين سنةً في غيره، ومتى انضم ذلك إلى تضعيف الأجير في ليلة القدر أعجز الحاسبين حسابه، فتضعيف الحسنات على السيئات تشهَدُ لتكفيرها، وهي من غَلَبِ الرحمة الغضب، ولله الحمد. وجاءت السنن الصِّحاح بما شَهِدَ (¬2) له القرآن الكريم من تكفير الحسنات ¬
للسيئات مُطلقاً، وتكفير الحدود للكبائر كما يعرفُه من طالع كتب الحديث، ووقف على فضل الوضوء، والصلاة، والصوم، والحج، والصدقة ولو بِشقِّ تمرة، والجهاد ولو فُواقَ ناقةٍ (¬1)، وسائر الأعمال. ومنها ما وَرَدَ في السنة من التكفير للذنوب، والآلام، والمصائب، والحدود مع الإسلام، وهو صحيحٌ بالأدله الواضحة، وإن خالف الخصم فيه كما نُقرره إن شاء الله تعالى في آخر هذه المسألة. وإذا ثبت ذلك فما المانع أن تكون الآية في تكفير الذنوب بالأعمال الصالحات، فمن اجتنب الكبائر عُوفيَ عافيةً تامَّةً في الدنيا والآخرة، ومن لابس بعض الكبائر غير الشرك، كُفِّرَ عنه بأنواعٍ مختلفةٍ من طاعاتٍ، وأمراضٍ، وبلاوي، ومخاوف، وعذاب القبر، والوقوع في النار حتى يُشْفَعَ له، وقد ورد الشرع بتكفير الحسنات للسيئات، ويدخل في عموم ذلك ما شاء الله من الكبائر، لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] وربما دل على ذلك بعض النصوص كما اتفقوا على صحته من حديث عبادة المتقدم في تكفير الكبائر بالحدود، وروى ابن أبي الحديد في شرح قول علي عليه السلام: أما إنه سيظهر عليكم رجلٌ رَحْبُ البُلعوم. في ذكرِ جماعةٍ من المُنْحرفين عنه عليه السلام، منهما رجلٌ يقال له: النجاشي من اليمانية، وأنه حده في الخمر فغضبت اليمانية، فقال عليه السلام: وهل هو إلاَّ رَجُلٌ من المسلمين انتَهَكَ حُرمةً من حُرَمِ الله، فأقمنا عليه حداً كان فيه كفارته (¬2). انتهى. ¬
وفيه شُهرةُ هذا الحكم في ذلك الصدر الأول بغير مناكرةٍ، وروى في شرح قوله عليه السلام: فأما السبُّ فسُبُّوني، لأن طارق بن عبد الله الجُهني النَّهدي غَضِبَ لغضب النجاشي وسار معه إلى معاوية، فتكلَّم معاوية بكلامٍ قبيح انتقص فيه علياً عليه السلام، فقام طارقٌ فأثنى عليه، عليه السلام حتى أغضب معاوية، فبلَغَ علياً عليه السلام، فقال: لو قُتِلَ الجهني يومئذٍ قُتِلَ شهيداً. وهذا يدل على الرجاء للعُصاة، لأنه بمفارقة علي عليه السلام عاصٍ لله تعالى ولإِمامِهِ مُصِرٌّ على ذلك، وفي كلامه إنما غَصِبَ كما غَضِبَ جَبَلَةُ بن الأيْهَم، ومن يعص الله عند غضبه يخرُجْ من العدالة خصوصاً في الخروج من الجماعة والطاعة، فإذا كان ذنب هذا يُغفر بثنائه على أمير المؤمنين عليه السلام، فكيفَ لا يُرجى مثل ذلك بالثناء على رب العالمين، والتوحيد له، والإخلاص، والخوف، والرجاء، وترك ذنوب الكفر، وكثير من ذنوب الإسلام، ويأتي مثله في حديث أمير المؤمنين عليه السلام من طرق، ومن طريق أهل البيت عليهم السلام عن الصادق، عن الباقر، عن زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن علي عليه السلام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أحَبَّني وأحَبَّ هذين وأباهما وأمهما كان معي في دَرَجتي يوم القيامة " رواه أهل البيت عليهم السلام وعبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " والترمذي (¬1)، ولم يذكر أحدٌ من روايه علي أمير المؤمنين عليه ¬
السلام، فمن بعده من أئمة العترة له تأويلاً ولا على رجاء صدق وعدِه تحذيراً، فكذلك سائر فضائل الأعمال، وليس في سنده مجروح ولا مضعَّفٌ والحمد لله، ويشهد لصحته وصحة معناه: " أنْتَ مع من أحببتَ " و" المرء مع من أحب " متفق على صحته (¬1) من حديث أنس قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة على المنبر جواباً على الأعرابي الذي سأله عن الساعة، وقال: إنه لم يُعِدَّلها كثيرَ عملٍ إلا أنه يحب الله ورسوله، فالحمد لله رب العالمين، واتفقا على مثله من حديث ابن مسعود (¬2)، وهو الحديث الثالث والخمسون بعد المئة من مسنده من " جامع المسانيد " لابن الجوزي. وفي الباب عن جابر (¬3)، وعلي عليه السلام (¬4)، وعنه (¬5) وعن ابن مسعود (¬6) ¬
وعنه (¬1) وعن أبي قتادة (¬2)، وأبي سريحة (¬3)، وعبد الله بن يزيد الخَطْمي (¬4)، وعبد الرحمن بن صفوان (¬5)، وعروة بن مُضَرِّس (¬6)، ومعاذ بن جبل (¬7)، وأبي أُمامة (¬8)، وأبي قِرْصافة (¬9)، والحسين بن علي عليهما السلام (¬10)، ذكرها الهيثمي في كتاب " الزهد " (¬11)، ووَثَّقَ رجال ثلاثةٍ منها. لكن خرَّج قبلها (¬12) سبعة عشر حديثاًً في فضل المتحابين في الله، وأن ¬
نصوص في تكفير الذنوب بالأعمال الصالحات
الأنبياء والشهداء يَغْبِطونَهم لقربهم يوم القيامة من الله، ووجوب محبة الله لهم، ونحو ذلك. وَثَّقَ رجال تسعة (¬1) منها. بل في كتاب الله تعالى ما يدل على هذا، وكذلك قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور} [الشورى: 23]، وهي حجةٌ على جميع الوجوه في تفسيرها، والزيادة في الحسنة حسناً، والتمدح بالغفور الشكور في تعليل ذلك تقوية. وفي البغوي (¬2) عن ابن عباس: يغفر الكبائر ويجزي على الطاعات الصغائر في تفسير الغفور الشكور، أظنه ذكره في " فاطر " [30]، ونحو ذلك قوله تعالى في آخر " المجادلة " [22]: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر} الآية، وسائر أحاديث الحب في الله والبغض في الله، وهي كثيرةٌ، وقد أفردتُ الكلام في أعمال القلوب في قصيدةٍ طويلةٍ، وحَصَّلَها الصِّنْوُ العلامة صلاح الدين الداعي إلى سنة سيد المرسلين عبد الله بن الهادي ابن أمير المؤمنين (¬3)، وشَرَحَ كثيراً منها، وفيها فوائد نفيسة، تُقَوِّي هذا المعنى، والحمد لله رب العالمين. وعن علي عليه السلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر في قصة حاطب: " وما يدريك لعلَّ الله اطلع إلى أهل بدرٍ، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وأحمد (¬4). وعنه عليه السلام، سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا عاد الرجل أخاه المسلم مشى في خِرافةِ الجنة حتى يجلس، فإذا جلس غَمَرَتْهُ الرحمة، فإن كان ¬
في غدوةٍ صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يمسي، وإن كان مساءً صلى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُصبح". رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد، وهذا لفظه. ولفظ أبي داود: " كان له خريفٌ في الجنة " (¬1). قال أبو داود: وقد رُوِيَ من غير وجه عن علي عليه السلام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر ابن الأثير في " الجامع " (¬2): أن الترمذي رواه، ولم يذكره المزي (¬3) في نسختين، أعني في ترجمة عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي، والظاهر أن الترمذي رواه من غيرها، فإنه رواه من طريق ثوير، وليس له ذكرٌ في هذه الترجمة. نعم ذكره المِزِّي (¬4) عن الترمذي في ترجمة سعيد بن علاقة أبي فاختة والدثوير (¬5)، عن علي عليه السلام، وقال: حسن غريب، رُوِيَ عن علي من غير وجهٍ، ومنهم من وَقَفَه، رواه في الجنائز، والنسائي في الطب (¬6). وعن زيد بن وهب الجُهَني، عن علي عليه السلام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سَمِعَه يقول في الخوارج: " لو يعلم الجيشُ الذين يُصيبونهم ما قُضِيَ لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لَنَكَلُوا عن العملِ ". رواه مسلم في الزكاة، وأبو داود في السنة (¬7)، وهو صريحٌ في عدم ذكر فضائل الأعمال، لأنها لو كانت له على وجهٍ يجب معه بقاء عموم الوعيد على ظاهره، ما قال: إن العلم بذلك يؤدي إلى ترك العمل، وسنده صحيحٌ ليس فيه من تكلم فيه إلاَّ عبد الملك بن أبي سليمان، ¬
ولم يُتكلم فيه بشيءٍ إلاَّ أنهم خَطَّؤوه في حديث الشفعة (¬1) ووَثَّقُوه. وقال شعبة: ¬
لو رَوَى حديثاًً آخر مثله لطرحتُ حديثه، وليس هذا جرحاً، فإن شُعبة ما طَرَحَ حديثه، وهو المتكلم عليه. ومثله حديث أبي هريرة، وعمر الذي فيه قول عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " دع الناس يعملوا ". رواه مسلم (¬1)، وكذا حديثُ معاذ الذي أخبر به عند موته تأثماً، رواه البخاري ومسلم (¬2) وغيرهما. كلها قاطعةٌ في نفي التأويل. وعن عاصم بن ضمرة، عن علي عليه السلام: " من قرأ القرآن فاستظهره شَفَعَ في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب " (¬3). ¬
وعن عُبيد الله ابن أبي رافعٍ، عن أبيه، عن علي عليه السلام، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديث النزول بعد الثلث الأول، وفيه يقول الله: " ألا سائلٌ فيُعطى، ألا مُذْنِبٌ يَستَغْفِرُ فيُغْفَرَ له " (¬1) وهذا التخصيص بهذا الوقت يدلُّ على أن الاستغفار غير التوبة، وعن علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث: " من عُوقِبَ في الدنيا، فالله أكرمُ من أن يُثني عقوبته، ومن عفا الله عنه، فالله أحلمُ من أن يعود فيما عفى عنه " (¬2). وقد ذكرتُ طُرُقَهُ في غير هذا الموضع. وعن علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ما تقدم، ذكره محمد بن منصور في " العلوم " فيما يُقال بعد الصلوات. وعن النعمان، عن علي عليه السلام، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن في الجنة غُرفاً لمن أطاب الكلام، وأفشى السلام، وأطعَمَ الطعام، وصلى بالليل والناس نيام " (¬3) فهذه تسعة أحاديث كلها من طريق أمير المؤمنين علي عليه السلام، تدل على صحة الرجاء، وعلى عدم تأويل أحاديثه. وفي " نهج البلاغة " (¬4)، عنه عليه السلام في ذلك حديث عاشر، وهو في " مسند أحمد " (¬5)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من طريق عائشة ولفظه: "الدواوين عند الله ¬
ثلاثةٌ، ديوانٌ لا يَدَعُه -وهو: الشرك بالله-، وديوانٌ لا يتركُه -وهو: حقوقُ المخلوقين، وديوانٌ لا يُبالي به وهو: ما بين العبد وربه عزَّ وجلَّ من صلاةٍ وصومٍ- ". وله شاهد عن أنس مرفوعاً، رواه البغوي (¬1) في تفسير: {إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَونَ عنه} [النساء: 31]. ولفظه: " يُنادي منادٍ من بُطنانِ العرشِ يوم القيامة: يا أمة محمد، إن الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات، تواهَبُوا المظالم، وادخلوا الجنة برحمتي " ذكره بسنده. وروى الهيثمي (¬2) مثل حديث عائشة، عن أنس (¬3)، وسلمان (¬4)، وأبي هريرة (¬5) في باب ما جاء في الحساب. وروى عن أنس أيضاً نحو حديثه الذي رواه البغوي في باب آخر بعد ذلك، وهو باب من يتكفل الله تعالى بغرمائهم، وقال (¬6) فيه: رواه الطبراني في ¬
" الأوسط "، وفيه الحكم بن سنان أبو عون، قال أبو حاتم: عنده وهمٌ كثير، وليس بالقويِّ، ومحلُّه الصدق، ويُكْتَبُ حديثُه، وضعَّفه غيره، وبقيتُهم ثقات. فكيف يتواتر مثل هذا عنهم من غر تأويلٍ، ويكون ظاهره ضلالاً وبدعة، وهم أعرف الناس بالسنة، وهم القدوة، وفيهم الأسوة. وكذلك جاء عنه عليه السلام موقوفاً في ذلك أثران من رواية ابن أبي الحديد، وفي " النهج " أثرٌ ثالث وهو قوله عليه السلام في خطبته بعد ذكر الشهادتين: لا يَخِفُّ ميزانٌ توضعان فيه، ولا يثقل ميزانٌ ترفعان منه، وهذا مذهب أهل السنة، كان يخطب به من على فروع المنابر، في مشاهد الإسلام ومجامعه ومحافله، يُعَلِّمُه المسلمين ويُبَشِّرُهم به، فكيف يقال: إنه منكر من قائله، أو متشابهٌ يحرم إطلاقه للجاهلين من غير بيان، ومن المعلوم أنه يحضُرُ في الجمعة كثيرٌ من أهل الجهل، ومن لا يعرف المُخَصصات، وموجبات تأويل الظاهر، مع أن الأثرين الأولين نصَّان لا يَصِحُّ تأويلهما. وفي حديث فَضْلِ الصلاة، عن عُبادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أتى بِهِنَّ لم يُضَيَّعْ منهن شيئاً استخفافاً بحقِّهن كان له عند الله عهد أن يُدْخِلَه الجنة ". رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وقد تقدم (¬1). ولأحمد عن عبد الله بن عمر نحوه أيضاً (¬2)، وتواتَرَ قول المؤذنين في الدعاء إليها: " حيَّ على الفلاح "، وأجمعت الأمة عليه إجماعاًً ضرورياً بحيث يكفر المخالف الجاحد له، والخالد في النار ليس من المفلحين ضرورةً. وجاء في فضل الصلوات الخمس، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أرأيتُم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسِلُ فيه كل يومٍ خمس مرات، ما تقولون ذلك يُبقي مِنْ درنه؟ " قالوا: ما يبقى شيءٌ، قال: "فذلك (¬3) مثل ¬
الصلوات الخمس يمحوا الله بها الخطايا". وفي روايةٍ: " مثل الصلوات الخمس مثل نهرٍ عظيمٍ ببابِ أحدِكم يغتسل فيه كل يومٍ خمس مراتٍ، فإنه لا يُبقي ذلك من دَرَنِه شيئاً ". رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي (¬1)، من أربع طرقٍ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هُريرة. والمرويُّ عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام في " النهج " أنه كان يخطب بذلك من غير استثناء (¬2)، وكذلك سمعنا غير واحدٍ من خطباء أولاده وشيعته يخطُبون به من غير مناكرةٍ بينهم في ذلك. وروى البُخاري أن قوله تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]، نزلت في الصلوات الخمس. رواه البخاري (¬3) من حديث ابن مسعود، ويعضُدُه مفهوم آية السجدة الأولى في سورة " الحج " فإن الله تعالى قال عقيب قوله فيها: {وكثيرٌ من الناس} يعني يسجدون لله تعالى، {وكثيرٌ حَقَّ عليه ¬
العذابُ} [الحج: 18]، فجعل الذين حَقَّ عليهم العذاب هم الذين لا يسجُدُون لله وزادت السنة هذا بياناً، فورد في سجود التلاوة: " أن العبد إذا سَجَدَ للتلاوة اعتزل الشيطان يبكي ويقول: سجد ابن آدم فله الجنة، وعَصَيْتُ فلي النار " رواه مسلم (¬1) بتخويف كما يأتي قريباً بلفظه. وعند بعض أهل العلم: دلَّت على أنهم الذين لا يسجدون تكذيباً وكفراً، وأما المُقِرُّون المُوَحِّدون فجعلوهم تحت المشيئة إما أن يُعفى عنهم، أو يُعَذَّبوا عذاباً منقطعاً حسب الحكمة لعموم: {ويَغْفِرُ ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]، وخصوص حديث عبادة ابن الصامت فيمن حافظ على الصلوات ومن أضاعهن وغير ذلك كما تقدم (¬2)، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَثَلُ الصَّلوات الخمس كمثل نهرٍ جارٍ غَمْرٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمسَ مراتٍ ". قال الحسن: وما يُبقي ذلك من الدرن. رواه مسلم (¬3). وروى النسائي (¬4) نحو ذلك عن أبي أيوب، وعقبة بن عامر، ولم يختلف في هذه الأحاديث أنه لم يَرِدْ فيها استثناء شيء من الذنوب، إلاَّ حديثان يأتيان، وأما فضل الصلوات من غير استثناء، فرواه البخاري والنسائي (¬5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها كَفَّارات لما بينها مُطلقاً. وكذلك روى أبو داود (¬6) في ذلك حديثاًً (¬7) عن عبد الله بن عمرو بن ¬
العاص، وكذلك رواه أحمد في " المسند " والترمذي (¬1) في البر من حديث زاذان، عن ابن عمر بن الخطاب، وهو الحديث (253) من مسنده في " الجامع ". وكذلك رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي (¬2) ثلاثتهم عن أبي هريرة مطلقاً، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ، وانفرد مسلمٌ فرواه في كتاب الطهارة، من طريق هشام بن حسانَ، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فزاد فيه: " ما لم يغشَ الكبائرَ " (¬3). وسيأتي الكلام عليه وهذا أحد الحديثين. وثانيهما: حديث عثمان في فضل الصلوات تفرَّد به مسلم (¬4)، لكن رواه البخاري ومالكٌ في " الموطأ "، والنسائي (¬5) بنحو حديث أبي هريرة مُطلقاً، بل روى النسائي من حديث عثمان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من علم أن الصلاة عليه حقٌّ واجبٌ دخل الجنة " وزاده عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " كلاهما ¬
من طريق عبد الملك بن عبيد، عن حُمران عنه (¬1)، وعبد الملك لم يُذْكَرْ بجرحٍ قطُّ، وهو من تابعي التابعين، مُقِل، وهو أوثق من عمرو بن شعيب (¬2) في الظاهر، ويَشْهَدُ لذلك ما رواه البخاري ومسلم (¬3)، عن عثمان، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من مات وهو يعلم أنه لا إله إلاَّ الله دخل الجنة ". وروى مسلمٌ من حديث عمرو بن سعيد بن العاص الأموي الأشدق فضل الصلوات والجمعة عن عثمان، فزاد فيه نحو ذلك (¬4). ولهم في مخالفته ألفاظٌ منها عن عثمان أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من توضأ فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى صلاةٍ مكتوبةٍ فَصَلاَّها، غُفِرَ له ذنُبه " (¬5). رواه البخاري في الرقاق، عن سعد بن حفصٍ، عن شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن معاذ بن عبد الرحمن القرشي، عن حمران، عن عثمان. والذي وجدت في كتاب الرقاق، وبعض نسخ " صحيح البخاري " في أوائله في باب قول الله عز وجل: {يا أيها الناس إن وعد الله حق} الآية [فاطر: 5]، قال [مجاهد]: الغرور الشيطان، ثم ذكر بالسند المقدم: "من توضأ نحو هذا ¬
بحث زيادة "لا تغتروا" في حديث عثمان "من توضأ نحو وضوئي هذا"
الوضوء، ثم أتى المسجد فرَكَعَ ركعتين، ثم جَلَسَ غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه " قال: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَغْتَرُّوا " انتهى (¬1). ومعنى " لا تغترُّوا ": لا تقطعوا وتأمنوا لجهلِ الخواتم كما سيأتي، على أني لم أجدْ هذه الزيادة إلاَّ عند البخاري في هذا السند فقط ففي النفس منها على صحة معناها، ويحيى بن أبي كثير مُدَلِّس، وفي شيبان والتيمي كلام سهلٌ يُؤَثِّرُ مثله هنا، لأن هذه الزيادة لا يَغْفُلُ عن مثلِها من شاركهم في رواية الحديث من الثقات، عن مُعاذ بن عبد الرحمن ثم عن حُمران مع كثرتهم، فيجوز ذلك إلا أن يكون حديثاًً آخر غير متصل بهذا الحديث مرسلاً أو مسنداً، ويدل على ذلك قوله: وقال - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان من الحديث لم يُناسبْ إفرادُها بذلك مدرجة بهذا السند أو بغيره، فيكون هنا لها حكم. ورواه مسلم (¬2) في الطهارة عن أبي الطاهر بن أبي السَّرْحِ، ويونُسَ بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن حكيم بن عبد الله القُرشي، عن نافع بن جُبير بن مُطعم، وعبد الله بن أبي سلمة كلاهما عن معاذ بن عبد الرحمن به. ورواه النسائي في الطهارة (¬3)، عن إسحاق بن منصور، عن عُبيد الله، عن شيبان به. وفي الصلاة (¬4)، عن سليمان بن داود، عن ابن وهب به. ¬
قال المِزِّي (¬1): ورُوِيَ عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن شقيق بن سلمة، عن حُمران، وعنه، عن محمد بن إبراهيم، عن عيسى بن طلحة، عن حُمران. ومنها: عن عثمان، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند انصرافنا من صلاتنا هذه -قال مسعر: أُراها العصر- فقال: " ما أدري هل أُحَدِّثُكم بشيءٍ أم أسكتُ " قلنا: يا رسول الله: إن كان خيراً فَحَدِّثنا، وإن كان غير ذلك، فالله ورسوله أعلم، فقال: " ما من مسلم يتطهَّرُ فيُتِمُّ الطُّهور الذي كتب الله عز وجل، فيُصلي هذه الصلوات الخمس إلاَّ كانت كفاراتٍ لما بينهُنَّ ". لفظ ابن الجوزي في " جامع المسانيد " وقال: تفرَّد به مسلمٌ (¬2)، فوهم في ذلك، إنما تفرد مسلم بطريق جامع بن شداد، لا بالمتن (¬3)، فإنه مما رواه البخاري ومسلم ومالك في " الموطأ "، والنسائي كما ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬4) وهو يعتمد على نقل الحافظ الحميدي في " الجمع بين الصحيحين " وقد ساق في طرقه، والتمييز بين ما اتفق عليه البخاري ومسلم منها، وما انفرد به كل واحدٍ منهما ما يشهَدُ بتحقيقه. وقد راجعتُ كتاب البخاري فوجدتُه قد خَرَّجه في الطهارة في باب الوضوء ثلاثاً، ثلاثاً (¬5)، من حديث عروة، وفيه: أن عثمان قال: ألا أحدِّثكم حديثاًً لولا آيةٌ في كتاب الله ما حدثتكموه؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يَتَوضَّأُ رجلٌ فيُحسن وضوءه ويُصلي إلاَّ غُفِرَ له ما بينه وبين الصلاة حتى يُصَلِّيها " قال عروة: ¬
الآية: {إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا} وقد ذكر ذلك المِزِّي (¬1) في ترجمة عروة، عن حمران، عن عثمان. وقال المِزِّي في " الأطراف " (¬2) رواه مسلم (¬3) في الطهارة عن ابن مثنى وبندار، كلاهما عن غندر، وعن عُبيد الله بن مُعاذٍ، عن أبيه، كلاهما عن شُعبة، وعن أبي بكر، وأبي كُريب، وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن وكيعٍ، عن مِسعرٍ، كلاهما عن جامع بن شداد أبي صخرة، عن حُمران به. انتهى. طريق أخرى شاهدة لرواية حُمران من غير طريقه، قال أحمد بن حنبل (¬4)، أخبرنا أبو عبد الرحمن المُقرىء، حدثنا حَيْوَةَ، أخبرنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جَلَسَ عثمان، وجلسنا معه، فجاء المؤذِّن فدعا بماءٍ في إناءٍ أظنُّه سيكون فيه مُدٌّ، فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ وضوئي هذا، ثم قال: من توضَّأ وضوئي هذا فصلى صلاة الظهر غُفِرَ له ما بينه وبين صلاة الصبح، ثم صلَّى العصر، غُفِرَ له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غُفِرَ له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء، غُفِرَ له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لَعَلَّه يبيتُ يتمرَّغُ ليله، ثم إن قام فتوضَّأ فصلى الصبح غُفِرَ ما بينها وبين صلاة العشاء، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات ". وفي هذه الرواية نوع مخالفةٍ، لكنها صحيحة يشهد لها ما اتفق البخاري ومسلم على روايته من حديث أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صَلَّى البردين، دخل الجنة " (¬5). وروى مسلم، وأبو داود، والنسائي حديث أبي موسى هذا من حديث عمارة بن رُؤْبة، وتقدمت شواهد ذلك (¬6)، ويعضُده حديث فضل الوضوء وحده، ¬
فقد ثبت عن عثمان، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره " (¬1). وفي رواية: أن عثمان توضَّأ، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: " من توضأ هكذا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلةً ". رواه البخاري ومسلم (¬2). ذكره كله ابن الأثير في " جامعه " (¬3) في الفضائل من حرف الفاء، وذكر ابن الجوزي منه الرواية الأولى، وعزاها إلى مسلمٍ وحده، ذكره في مسند عثمان من كتابه " جامع المسانيد " وليس في " مسند أحمد " الذي ذكره ابن الجوزي إلا عثمان بن حكيم، انفرد عنه مسلم، والأربعة، ولم يتكلَّم فيه أحدٌ، ولا ذكره في " الميزان ". وقال في " الكاشف " (¬4): وثَّقوه، وبقية رجاله متفقٌ عليهم (¬5). وخرَّج مسلم الرواية الثانية في أول كتاب الوضوء عن عبد العزيز الدراوردي، عن زيد بن أسلم، عن حمران، عن عثمان، ونسب المِزِّي (¬6) هذا السند ومتنه إلى مسلمٍ وحده، وأخرج مسلمٌ (¬7) الحديث بنحو ذلك من طريق هارون (¬8) بن سعيد الأيلي عن ابن وهب، عن مَخْرَمَة بن بُكيرٍ، عن أبيه، عن حُمرانَ بنحوه والله أعلم. ولم يُشارك مسلماً أحدٌ من الستة في هاتين الطريقين على ما أشار إليه المِزِّي في أطرافه، وإنما رواه البخاري وغيره من طريق عروة، وعطاء، ومعاذ بن ¬
عبد الرحمن، ثلاثتهم عن حُمران، وقد تقدم لفظ البخاري، عن معاذ في الرقاق وخالفه مسلم وغيره في الزيادة التي فيه، ولفظ البخاري عن عُروة، وعطاءٍ، في كتاب الطهارة (¬1) بالحديث من غير هذه الزيادة فكأنه إنما ذكرها في الرقاق، وقد يتساهل في الرقاق، ويمكن أنه حديثٌ آخر بسبب آخر، أدرجه على هذا الحديث، وهذا الإسناد (¬2) يحيى بن أبي كثير -لما فيه من الزجر- فقد كان يُدلِّسُ، فهذا أشبه (¬3) به والله أعلم. ويدل على هذا قوله فيها: " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولو كانت من جملة الحديث ما ناسب إفرادها بذلك، والرواية المشهورة فيه عن عقبة بن عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل، فجاءت نوبتي أرعاها فروَّحْتُها بعشي، فأدركت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يُحَدِّثُ الناس، فأدركت من قوله: " ما من مُسلمٍ يتوضأ، فيحسن وضوءه، ثم يقوم، فيصلي ركعتين يُقْبِلُ عليهما بقلبه ووجهه إلاَّ وجبت له الجنة ". فقلتُ: ما أجود هذا، فإذا قائلٌ بين يدي يقول التي قبلها أجود، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب قال: إني قد رأيتك جئت آنفاً قال: " ما منكم من أحدٍ يتوضأ فيُبْلِغُ الوضوء، أو يُسبِغُ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلاَّ فُتِحَتْ له أبواب الجنة الثمانية فيدخل من أيِّها شاء ". قال ابن الأثير في " الجامع " (¬4): رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي (¬5)، وساق بقية ألفاظهم، وهذا لفظ مسلم. وللترمذي (¬6) إسنادٌ ضعيفٌ ¬
غير إسناد مسلم، وهو شاهد مُقَوٍّ لا مُعْتَمَدٌ، والمراد بيان شذوذ الاستثناء الوارد، فلو جاء مع شُذوذه عن ثقةٍ حافظ كان الشذوذ له علةٌ، كيف وما جاء إلاَّ عن مُختلَفٍ فيه. أما عمرو بن سعيد بن العاص (¬1) فكان من أُمراء بني أمية الكبار المشغولين بالمُلك، تَغَلَّبَ على دمشق من غير وجهٍ مُبيحٍ لذلك، وهمَّ بالخروج على عبد الملك بن مروان، فاحتال عليه عبد الملك بن مروان حتى ظَفِرَ به، فذبحه صبراً، ذكر ذلك الذهبي مختصراً في " الميزان " (¬2) ولم يحتج به البخاري، فينظر في " الكاشف " (¬3)، و" التهذيب " من وثَّقَه أو خرَّج حديثه، ولا ذكر المِزِّي في " تهذيب الكمال " (¬4) مع توسُّعِه فيه وتقصِّيه عن أحدٍ أنه وثَّقَه، وذكر من جُرأته على الملك نحواً مما ذكره الذهبي وروى عن البخاري - صلى الله عليه وسلم - (¬5) أنه غزا عبد الله بن الزبير، وفي " أطراف المِزِّي " (¬6) قيل: له رؤية ولم يَثْبُتْ، وفي " تهذيبه " نحوه، وفي " جامع المسانيد " لابن الجوزي قال البخاري: لا يصح سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هو عمرو بن سعيد بن العاص الذي هاجر الهجرتين، وقَدِمَ مع سفينة ¬
جعفر، ذكره ابنُ الأثير في " جامع الأصول " (¬1) في الصحابة، وذكر الأخير في التابعين، ومن نظر إلى من خالفه في الحديث لم يلتفت إلى زيادته، ولذلك تركها البخاري، بل جاء في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بتركها في قوله تعالى: {إنَّ الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]، وقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. وأما مسلم، فيقوي لها (¬2) سبب نزول الآية في مقدمات الربا لا فيه، وهو متفقٌ على صحته من حديث ابن مسعود كما سيأتي (¬3)، ويوافقه هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وإنما يُقوِّيه ويكون متابعاً له لو رواها عن عثمان. وأما هذه الزيادة (¬4) في حديث أبي هريرة فهي فيه مُعَلَّةٌ مثل هذه في حديثِ عثمان على أنهما لو اجتمعا في حديثٍ واحد ما قَوِيا على مُعارضة من خالفهما من الثقات الأثبات كيف وهذا شعبة يقول في هشام بن حسان: لو حابيتُ أحداً لحابيتُ هشام بن حسان كان خَتَني، ولم يكن يحفظ. وقال يحيى بن آدم: قال أبو شهاب: قال لي شعبة: عليك بحَجَّاجٍ، ومحمد بن إسحاق، فإنهما حافظان، واكتُم علي عند البصريين في خالدٍ وهشام، وقد رد الذهبي (¬5) هذا على شعبة فبالغ، ولكلام شعبة وجهٌ. وقال عَفَّان: أخبرنا وُهيبٌ، قال لي الثوري: أفِدْني عن هشام، فقلت: لا أستحل ذلك، وقد نقل ابن حجر في " علوم الحديث " (¬6) له عن الذهبي أنه ¬
قال: ما اجتمع اثنان من أئمة هذا الشأن على توثيق رجلٍ أو تضعيفه إلاَّ كان كما قالا. قال ابن حجر: والذهبي من أهل الاستقراء التام، فقد اجتمع شعبةُ ووُهَيْبٌ على تضعيفٍ هشامٍ مُطلقاً .. أما من ضعفه عن الحسن، فكثير، ومع ذلك فحديثه عن الحسن في الصحيح بغير متابع، لكن غير ما أُعِلَّ. وقد احتج ابن حجر بذلك في مقدمة شرح البخاري (¬1) في ترجمة هشام على ما اختاره في " علوم الحديث " من كون الصحيح ينقسم إلى قسمين، وقد طَوَّلوا في الكلام عليه، خصوصاً في حديثه عن الحسن البصري. وأما روايته عن محمد بن سيرين فهو فيها قويٌّ عندهم، ولكن فيما لم يُخالِفْ فيه، ولذلك ترك البخاري هذه الزيادة من رواية هشام (¬2)، مع أنه من رجاله، وقد أنكر أيوب على هشام شيئاً من حديث محمد بن سيرين، وقد قال هشام: إنه ما كتب عن ابن سيرين شيئاً يعني لحفظه، وهذا هو سبب ما وقَعَ له من الوهم، فإن الحفظ خَوَّان، وقد كان أحمد بن حنبل لا يُحدث إلاَّ من الكتاب، وينهى عن الرواية من الحفظ لمثل هذا. ولذلك أمر الله تعالى بكتابة الشهادة، وعلَّلَ ذلك بأنه أدنى أن لا يرتابوا، وحديث عمرو بن سعيدٍ، عن عثمان (¬3) أشدُّ ضعفاً لعدم صحة توثيقه من الأصل مع الإعلال البين. ¬
وحديث هشام عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أشدُّ إعلالاً؛ لأن الرواة عن أبي هريرة كثرةٌ عظيمة، يَزيدون على ثمانِ مئة، ثم عن محمد بن سيرين، فتفرُّدُ محمد بن سيرين بمثلِ هذا عن أبي هريرة، ثم تفرُّد هشامٍ عن محمد غريبٌ جداً؛ لأن مغفرة الذنوب بذلك مستغربة مستنكرة في طباع المشددين، ولذلك أنكرها المبتدعة بآرائهم، بل أوجب تأويلها كثيرٌ من كبراء أهل السنة بمجرد الطبيعة مع موافقتها لأُصولهم، مثل ابن عبد البر وغيره، وقد كان من عمر بن الخطاب مع أبي هريرة في ذلك ما يأتي ذكره، فلو ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك استثناءً، لم يَغْفُلْ عنه أحدٌ قط. فإن قلت: وكذلك الاستثناء لا يغترُّ به أحد. قلت: بل قد يجوز في أهل الورع، والطبيعة الغليظة الغالبة أن تقطع على أن (¬1) ذلك هو مُرادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو يسمع أنه تأويل قوله، فيستثني هو من عند نفسه، ولا يقصد روايته، فيحسَبُه السامع من الحديث، وهو الذي يسمى المُدْرَجَ، أو يقصد إيهام ذلك، لأنه عنده حقٌّ، وقد نَسَبَ ابن عبد البر تعمُّدَ مثل هذا إلى الزهري، بل قال في موضعين من " تمهيده ": إن الزهري كثيراً ما يفعل ذلك، وخاصة مثل عمرو بن سعيد، فإنه يخاف التكذيب إن لم يَسْتَثْنِ ذلك أو أن يُتَّهَمَ، ويحتمل أن هشاماً ما سَمِعَ هذه الزيادة إلاَّ في حديث عمرو بن سعيد فتوهَّمها في الحديثين معاً خصوصاً (¬2) إن كان روى الحديثين، والحامل على الإصغاء إلى هذه الاحتمالات مخالفة الأكثرين من الثقات فيما لا يُحتملُ غفلتهم عنه من المهمات والله أعلم. وليس القصد أنه يحصُلُ لأحدٍ بهذه المبشرات القطع بالغفران والأمان المطلق لجهل الخواتم وتخويف الله تعالى الصالحين حيث قال: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27 - 28]، ولكن القصد بيان الصحيح من الرواية، وقد تقدمت الروايات المخالفات لهذه ¬
الزيادة وهي مشتملةٌ على حديثين عن أبي هريرة، وأربعة أحاديث عن عثمان، وحديثين عن أبي موسى، وعمارة بن رُوَيْبة، وحديث عقبة بن عامر، وحديث عبادة في فضل الصلاة، ومثله حديث ابن عمر، وهذه عشرة أحاديث ليس في شيءٍ منها استثناء، ومعناها يَرْجِعُ إلى شيءٍ واحد، وهو تجويز تكفير بعض الكبائر بغير التوبة. وروى النسائي والترمذي (¬1) عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما قال عبدٌ: لا إله إلاَّ الله قط مُخلصاً إلاَّ فُتِحَتْ له أبواب السماء حتى يُفضي إلى العرش ما اجتنب الكبائر " قال الترمذي: واللفظ له: حسن غريب من هذا الوجه. قلت: وهو من حديث الولد بن القاسم الهَمْدَاني عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هُريرة كما ذكره المِزِّي في " أطرافه " في هذه الترجمة، وفي الوليد بن القاسم، ويزيد بن كيسان كليهما كلامٌ يقتضي عدم صحة حديثهما من غير مُعارضة، كيف إن عارض معناه ما لا شك في رجحانه، والاتفاق على صحته، مما لا ذِكِرَ لذلك فيه -وسَلِمَتِ المعارضة- (¬2) مثل حديث معاذ (خ م)، وحديث عبادة (خ م)، وحديث أبي ذر (خ م)، وحديثي أبي هريرة حديث عند (خ)، وحديث عند (م)، وحديث ابن مسعود (خ م)، وحديث عتبان بن مالك وغيرها، وكل هذه في فضائل الإسلام من " جامع الأصول " في حرف الفاء (¬3)، وسيأتي ذكرها، وذكر غيرها في باب ما جاء في بُشرى هذه الأمة، وبيان تواترها، مع ما يشهد لها من القرآن، وبيان أن ذلك لا يُفيد الأمان، ولا يرفَعُ الخوف بالإجماع. ويعضُدُها أخبارٌ كثيرةٌ أذكر منها بعضها وكلها كالشرح لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48]. ¬
فأقول: الحديث الحادي عشر عن أنس قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله أصَبْتُ حدّاً فأقِمْ فيَّ كتاب الله، قال: " أليس قد صليت معنا "، قال: نعم، قال: " فإن الله قد غفر لك ذنبك "، أو قال: " حَدَّك "، رواه البخاري ومسلم (¬1) من طريقين عن عمرو بن عاصم، عن همام بن يحيى العَوْذي البصري، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، ورواه البخاري في المحاربين، ومسلم في التوبة، وله شاهدٌ صحيحٌ من حديث أبي أُمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وهو: الحديث الثاني عشر. رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والنسائي (¬2) كلهم من حديث شداد بن عبد الله، عن أبي أمامة، ورواه عن شدادٍ الأوزاعي وعكرمة بن عمار، قال المِزِّي في " أطرافه ": رواه مسلم في التوبة، وأبو داود في الحدود، والنسائي في الرجم من طرقٍ تركتها اختصاراً. الحديث الثالث عشر: ما رواه أحمد (¬3) قال أخبرنا هُشيمٌ، حدثنا العوَّام بن حَوْشَبٍ، عن عبد الله بن السائب، عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الصلاة المكتوبة إلى الصلاة المكتوبة التي بعدها كفارةٌ لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر -يعني رمضان إلى رمضان- كفارةٌ لما بينهما " ثم قال بعد ذلك: " إلاَّ من ثلاثٍ: إلاَّ من الإشراك بالله، ونكثِ الصفقة، وترك السُّنة، قلتُ: يا رسول الله أما الإشراك بالله، فقد عرفناه، فما نكث الصفقة قال: " أن تُبايِعَ رجلاً، ثم تخالِفَ إليه تقاتُله بسيفك، وأما ترك السنة، فالخروج من الجماعة " رواته ثقات إن كان عبد الله بن السائب هو الكوفي، وذلك هو الظاهر والله أعلم، وهذا الحديث هو الحديث الثاني والخمسون من مسند أبي هريرة من " جامع المسانيد ". ¬
وهذه الثلاثةُ الأحاديث عن أنس، وأبي أمامة، وأبي هريرة وما في معناها مما سيأتي ذكر بعضه الآن هي (¬1) أرجح من اعتبار سبب نزول الآية في مقدمات الربا، لأن قصر العموم على سببه مختلفٌ فيه، ومختلف المواقع في القوة والضعف بحسب القرائن، وهذه القرائن أقوى من النصوص (¬2) مع قُوَّةِ العموم. والله أعلم. الحديث الرابع عشر: ما رَوَى حُريث بن قبيصة، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أوَّلُ مما يُحاسَبُ عليه العبد الصلاة، فإن صَلَحَتْ، فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فَسَدَتْ، فقد خاب وخسِرَ " الحديث رواه الترمذي، والنسائي (¬3) من طريق الحسن البصري عن حُريثٍ، عن أبي هريرة، ورواه النسائي (¬4) أيضاً من طريق نفيع بن رافع، عن أبي هريرة، وذكر الطريقين المزي في " أطرافه " (¬5). الحديث الخامس عشر (¬6): ما رواه مسلمٌ وأحمد من طريق أبي هريرة أيضاً، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا قرأ ابن آدم السجدة، فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: أُمِرَ بالسجود فسَجَدَ فله الجنة، وأُمِرْتُ بالسجود، فعَصَيْتُ، فلي النارُ " وهذا حكاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُقَرِّراً له، فكان حجة كما تقرر. فمثله ما حكاه الله في كتابنا، وتلاه علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستحسناً له غير منكر، ويشهد لمعناه ما تقدم قريباً من مفهوم آية السجدة الأولى في سورة الحج، وكذلك سائر المُكَفِّرات لم يرد في شيءٍ منها استثناءٌ، وهي كثيرةٌ جداً، وليس هذا موضع استيفائها، ولكن نشيرُ إلى طرفٍ من مشهوراتها من ذلك وهو. الحديث السادس عشر (¬7): عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ، ¬
فأحسنَ الوضوء خرجت خطاياه من جَسَدِه" وفي رواية: " من توضَّأ نحو وضوئي هذا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته نافلة " رواه البخاري ومسلم. الحديث السابع عشر: عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وفي لفظه: " حتى يخرج نَقِيّاً من الذنوب ". رواه مالك في " الموطأ "، ومسلمٌ، والترمذي (¬1). الحديث الثامن عشر: عن عبد الله الصُّنابحي عنه - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك. رواه مالك في " الموطأ " والنسائي (¬2). الحديث التاسع عشر: عن أبي أُمامة الباهلي مثل ذلك وأبين منه، رواه النسائي (¬3) ويشهد لذلك القرآن الكريم، وذلك قوله تعالى في المائدة [6] بعد ذكر الوضوء والتيمم: {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليُطَهِّرَكُمْ}، فقوله: {ولكن يريد ليطهركم}، يدل على ذلك لأن التطهير بذلك له معنيان لغويٌّ: وهي النظافة، وشرعي: وكثير ما يرد لتطهير الذنوب، كقوله تعالى في الزكاة: {تطهرهم وتُزَكِّيهم بها} [التوبة: 103]. وأما النظافة التي هي الطهارة اللغوية، فيبعُدُ (¬4) إرادتها خصوصاً، والتطهير ورد بعد ذكر التيمم، وليس فيه نظافةٌ، وهو أقل الطهارتين قدراً وأجراً، لأنه لا يُعْدَلُ إليه إلاَّ عند الضرورة، وقد أخبر الله تعالى أنه يريد أن يُطهِّرَنَا به، فدَلَّ على أنها طهارةٌ شرعية، وتردد الأمر بين أن يكون ذلك هو رفع الحدث فقط، أو تكفير الذنوب، أو مجموعهما، فمن يجعل دلالته (¬5) عليهما من قبيل دلالة العام على مفرداته يقول: إن الآية تعُمُّهما (¬6)، ومن يجعله من المشترك، فلهم فيه قولان، منهم من ¬
يقول: يدل على الجميع، وهو مذهب الزيدية، وبعض الأصوليين، ومنهم من يقول: يجب التوقف حتى تدُلُّ قرينةٌ، وقد دلت الأخبار هذه المذكورة على أن تكفير الذنوب مراد الله، فلم يَجُزْ نفي التفسير بذلك، وحَسُنَ إيرادُها في تفسير ذلك. الحديث المُوَفِّي عشرين: عن أبي هريرة قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام بلالٌ يُنادي، فلما سكت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قال مثل هذا (¬1) يقيناً، دخل الجنة " رواه النسائي (¬2). الحديث الحادي والعشرون: عن عمر بن الخطاب، عنه - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديث أبي هريرة فيمن أجاب المُؤذن، وزاد: لا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم حين الحيعلة. رواه مسلم وأبو داود (¬3). الحديث الثاني والعشرون: عن سعد بن أبي وقَّاص عنه - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديث عمر، وأبي هريرة في إجابة المؤذن، ولفظه: " ممن قال حين يسمع المؤذِّنَ: وأنا أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً "، وفي رواية: نبياً، غُفِرَ له ذنبه " رواه مسلم وأبو داود، والترمذي، والنسائي (¬4). الحديث الثالث والعشرون: عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المؤذن يُغْفَرُ له مدى صوته، ويشهد له كل رَطْبٍ ويابس، وشاهد الصلاة في الجماعة يُكْتَبُ له خمسٌ وعشرون صلاة، ويُكَفَّرُ عنه ما بينها ". رواه أبو داود، وروى ¬
النسائي منه فضل المؤذن، وزاد: " وله مثل أجر من صلَّى " (¬1). الحديث الرابع والعشرون: مثل حديث النسائي المُقَدَّم، لكنه عن البراء بن عازب رواه النسائي (¬2). الحديث الخامس والعشرون: ما ثبت من غير طريق، أو تواتر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال. " من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِرَ له (¬3) ما تقدم من ذنبه " (¬4). وعن شدَّاد بن عبد الله عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من حافظ على سُبْحَةِ (¬5) الضحى، غُفِرَتْ ذنوبُه وإن كانت مثل زبد البحر ". رواه الترمذي وابن ماجه (¬6). وعن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من غدا إلى المسجد أوراح أعدَّ الله له نُزُلاً كلما غدا أو راح، خرَّجاه (¬7). وعنه [أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:] ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات "، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطَا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط ". رواه مسلم، ومالك في " الموطأ "، والنسائي، وغيره (¬8). ¬
وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قام رمضان احتساباً، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه " رواه الجماعة (¬1). كل هذه رُويت عنه - صلى الله عليه وسلم -، هكذا مطلقة (¬2) من غير استثناء، فإذا كانت المغفرة المطلقة قد صحت عن أبي هريرة في ثلاثة عشر حديثاًً فيما يتعلق بالصلاة والوضوء والأذان، بل في ذكر واحدٍ من أذكار الصلاة، وهو التأمين، ولكل واحدٍ من هذه الأحاديث أو الكثير (¬3) منها عدة طرقٍ وما ذكر أحدٌ في ذلك استثناء قط، مع أن الرواة عنه أكثرُ من ثمان مئةٍ من التابعين، والرواة عنهم أضعافُهم من تابعي (¬4) التابعين، فأين يقع هشام بن حسان (¬5) من هؤلاء مع صحة تضعيفه! وكذلك عثمان قد صحت عنه ستة أحاديث بنحو ذلك مع قلة حديثه، وروى عنه عروة بن الزبير (¬6) ما يدلُّ على عدم الاستثناء، فإنه رواه عنه أنه قال: إني مُحدِّثُكم حديثاًً لَوْلا آيةٌ في كتاب الله ما حدَّثتكموه، ثم روى لهم حديث تكفير الوضوء، والصلوات لما بينها، فمراد عثمان أنه يخاف عليهم من معرفته التجرُّؤ على الكبائر، أما لو استثنى ذلك لما استعظم روايته، وامتنع منها حتى يخاف العقوبة على كتمِها (¬7)، فإن القرآن قد نص على مغفرة الصغائر لمجرد اجتناب الكبائر، كما قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا}. ¬
ورُوي: لولا أنه في كتاب الله بالنون، وهي في " الموطأ " (¬1)، قال النووي (¬2): والأولى هي الصحيحة، ومعناه على هذه الرواية الإشارة إلى قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، يريد لا فائدة في الكتم، وقد ظهر هذا في كتاب الله تعالى، وعلى تسليم صحة هذه الزيادة فإن الجمع بين هذه الأحاديث يجوز أن يقتضي رُجحان الظن لغُفران جميع الذنوب بفضل الصلوات بدليل حديث أنس الصحيح المقدم (¬3) الذي فيه: " اذهب فقد غفر الله لك حَدَّكَ "، وبيانه أن الزيادة هذه لا تدل على عدم المغفرة للكبائر بالنص، بل بالمفهوم، وشرطُ المفهوم أن لا يكون للتخصيص بالذكر وجهٌ إلاَّ المخالفة (¬4)، وهنا وجهٌ ممكن غير المخالفة، وهو خوف المفسدة في البيان في بعض الأحوال كما سنذكره، فيكون المطلق هنا أكثر فائدةً من المقيَّد، فلا يكون للقيد مفهومٌ، كما قَوَّوا ذلك في صورة النهي، كالنهي عن القِرَان في التمر مُطلقاً (¬5)، والذي يشهد لهذا ما ثبت من أمثاله، وهي كثيرةٌ، من ذلك ما اتفقوا على صحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من مات له ثلاثةٌ من الولد لم تمسَّه النار إلاَّ تَحِلَّة القسم " (¬6). ومفهوم هذا ¬
مخالفةُ الاثنين للثلاثة في الحكم، فلمَّا قالوا: واثنان يا رسول الله، قال: " واثنان "، قال بعضهم: لو استزَدْناه لزادنا. ورواه أحمد في " مسنده " (¬1) في الواحد من حديث أبي عبيدة عن ابن مسعود، وهو الحديث الثاني من " مسنده " في " جامع المسانيد " لابن الجوزي، بل قد صح في البخاري (¬2) ما يقتضي ذلك في الواحد، حيث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله من قَبَضْتُ صَفِيَّهُ من أهلِ الدنيا لم يكُن له جزاءٌ عندي إلاَّ الجنةُ ". وقد صرَّحتِ الأحاديث بأن الكتم في هذا المعنى مقصودٌ كما في حديث مُعاذٍ المشهور (¬3) وفي غيره، وهو يُقوي هذا التأويل، ويُضعفُ العمل بالمفهوم في نحو ذلك، بل يوجب بطلانه، وليت شعري ما يقول متأوِّل النصوص بذلك وما يظن في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بلاغته وفصاحته، أنه لم يفهم العبارة، ولم يفهم أن للصغائر اسماً يخُصُّها، وللعموم لفظاً يدلُّ عليه، فما استطاع أن يوضِّحَ أن ¬
هذه المغفرة للصغائر فقط، على وجهٍ يَصِحُّ عنه صحةً لا ريب فيها، كما صَحَّ التَّعميم عنه، بل تواتر. وإذا حُمِلَ ذلك على الصغائر فقد صَحَّ أن الجمعة تكفِّرُ ذنوب عشرة أيام (¬1)، فمن أين جاء القطع أن صلاة العشرة الأيام لا تُكفِّرُ كبيرةً، بل صح أن رمضان يُكَفِّرُ ذنوبَ السنة (¬2)، فمن أين القطع أن صلوات سنةٍ كاملة لا تكفر كبيرةً، فقد كُفِّرَتْ صغائرُها برمضان، أفلا تقوى صلوات العام مع اجتماعها على تكفير كبيرة، بل صح أن صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء يكفران ذنوب ثلاث سنين (¬3)، أفلا تقوى صلاةُ ثلاث سنين، وصيام ثلاثة أشهرٍ فيها فرائض من ما فيها من الجُمَعِ على تكفير شيءٍ من الكبائر، وتجويز ذلك قبيحٌ على الله، واجبٌ تكذيبُ من رواه من الثقات، وتأويل ما اقتضاه من الآيات فنعوذ بالله من الغُلُوِّ وتحريف النصوص. وأما قول ابن عبد البر: إنه يلزم من عدم التأويل ألا تجب التوبة فباطلٌ، لأن التوبة واجبةٌ لقُبحِ الذنب، لا لخوف (¬4) العقوبة، ودفع المضرة، ولذا نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]، بعد قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. ¬
وأما ما ذُكر من خوف المفسدة الكبرى بترك الناس العمل، فقد اختلفت فيه الأحاديث، وانعقد الإجماع بعدُ على خلافه، فكيف يكتم أو ينكتِمُ ما يشهد به القرآن. والصحيح أن كل أحدٍ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له (¬1)، فلا يَضُرُّ، ولذلك قال عيسى عليه السلام: {والسلامُ عليَّ يَومَ وُلِدْتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حَيَّاً} [مريم: 33]، وكذلك قال الله في يحيى بن زكريا وأمثالهما من أهل العصمة، ولذلك كان الرواة لأحاديث الرجاء والشفاعة كبراء الصحابة، كأبي ذَرٍّ رضي الله عنه، وأبي الدرداء، وجابر وأمثالهم، فلم يَحْمِلْ ذلك أحداً منهم على الوقوع في كبيرةٍ، بل كانوا أعلام الهُدى، وإليهم المنتهى في التقوى، وكذلك من رواها عنهم من التابعين، فقد روى الصادق، عن أبيه الباقر، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " رواه الحاكم في " المستدرك " (¬2) مع تشيُّعِه، وقد اشتدَّ خوف الثلاثة المخلفين (¬3) مع عظيم فضلهم وصِحَّةِ بُشراهم، فإنَّ اثنين منهم من أهلِ بَدْرٍ، وثالثهم كعب بن مالك من السابقين الأولين (¬4) أهل بيعه العقبة مع صحة التوبة منهم (¬5)، ولم يكن أهل الإيمان يزدادون بمثل ذلك إلاَّ رغبةً، ولذلك قالت المعتزلة والصوفية: من عَمِلَ لأجلِ الخوف فقط، لم تَصِح عبادته، ولم تُقبل، ومن كان لا يُبالي بغضب الله تعالى ونواهيه ما لم يَخَفِ العقوبة، فهو ناقصُ الإيمان أو مسلوبُه (¬6)، ولما روى عمر حديث القَدَرِ، قال: الآن نجتهد (¬7) ولو كانت البُشرى مفسدةً، ما كان القنوط مفسدةً، وهو حرامٌ وِفاقاً، وإنَّما المفسدة الأمان. وأين هو ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬
يقول: سَمِعَ رجلاً يقول لميت [يعني] مسلماً: أبشِرْ بالجنة، فقال: " وما يُدريك لَعَلَّه تكلَّم بما لا يَعنيه، أو بَخِلَ بما لا يُغنيه " رواه الترمذيُّ في " الزهد " عن سليمان الأعمش، عن أنس، وقال: غريب (¬1). وقد صُرِّحَ بغُفران الكبيرة والصغيرة (¬2) في فضل صلاة التسبيح التي نقلها أهل البيت عليهم السلام وأهل الحديث، وما قال أحدٌ: إن رواية ذلك من الفساد المحرم (¬3). وصنف عبد الغني في تصحيحها كتاباً مفرداً، وقال إمام النُقَّاد أبو الحسن الدارقطني: إنها أصحُّ شيء في فضائل الصلوات، وأصحُّ شيءٍ في فضائل سور القرآن سورة: " قل هو الله أحد "، ورُويت فيها (¬4) ستة أحاديث عن ستة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم عبد الله بن عباس (¬5)، وأخوه الفضل بن ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عباس (¬1)، وأنس (¬2)، وأبو رافع (¬3)، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (¬4)، ¬
وعبد الله بن عمرو بن العاص (¬1). أما حديث عبد الله، فهو أقواها رواه الحاكم، وأبو داود، والترمذي (¬2) وابن ماجة، وابن خزيمة المُسَمَّى إمام الأئمة في كتابه " الصحيح "، وأبو علي بن السكن في " صحيحه "، وذكر الحاكم أن النسائي (¬3) رواه في " صحيحه " عن عبد ¬
الرحمن بن بشر، والحديث مشهورٌ من حديث عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، عن موسى بن عبد العزيز، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس. قلت: أورده المِزِّي (¬1) في ترجمة الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وقال: رواه أبو داود وابن ماجة جميعاً في الصلاة، عن عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري، عن موسى بن عبد العزيز القنباري، عن الحكم به. قال ابن حجر (¬2): قال الحاكم (¬3): وتابعه إسحاق بن أبي إسرائيل عن موسى. ورواه ابن خزيمة (¬4)، عن محمد بن رافع (¬5)، عن إبراهيم بن الحكم، عن أبيه، [عن عكرمة] مرسلاً. قلتُ: روايته في " المستدرك " (¬6) من طريق إسحاق بن راهويه الإمام، قال: ¬
أخبرنا إبراهيم وساقه مُسنداً كالأول، ثم قال الحاكم: ومما يُستدل به على صحته استعمال الأئمة من أتباع التابعين إلى عصرنا إياه، ومواظبتهم عليه، وتعليمهم الناس، منهم عبد الله بن المبارك رواه عنه من طريقٍ وَثَّقَ رجالها، ثم قال: ولا يُتَّهَمُ ابن المبارك أن يُعَلّم ما لم يصِحَّ عنده. وذكر الذهبي (¬1): أن الحكم هذا الراوي له كان من العباد، وأنه (¬2) كان يقف في البحر الليل بين الماء، والماء إلى ركبتيه لا ينام، يذكر الله تعالى مع حيتان البحر. وأما حديث الفضل، فذكره المُنذري (¬3)، وأما حديث أنسٍ فرواه الترمذي، وأما حديث أبي رافع فرواه الترمذي أيضاً، وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فرواه الحاكم، وقال: صحيحٌ لا غبار عليه بهذه العبارة، وخالف ابن حجر (¬4) فقال: ضعيف، وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فرواه أبو داود، وفيه: " فإنك لو كنت أعظم أهل الأرض ذنباً غُفِرَ لك ذلك "، وقال في سنده: حدثنا محمد بن سفيان الأُبَلِّي، حدثنا حبان بن هلال أبو حبيب، حدثني مهدي بن ميمون، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، حدثني رجلٌ كانت له صحبة يرون أنه عبد الله بن عمرو، وساق الحديث، وإسناده قوي، ولم يُذكر في " الميزان " منهم أحدٌ بجرح ولا ضعفٍ، ولا تدليس. وفي " الجامع الكافي " عن محمد بن منصور قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو كانت ذنوبك عدد نجوم السماء، وعدد قطر الماء، وعدد أيام الدنيا، وعدد رمل عالج، لغفرها الله " وإنما أشرت إلى طَرَفِه باختصار لأنه مما يحافِظُ عليه أهل البيت عليهم السلام، يروونَه في كتبهم، ولم يُنكروا ما فيه من التصريح بغفران الكبير والصغير، ولا حذَّرُوا من اعتقاد ذلك، ولا من الرجاء له، وذلك دليل ¬
مخالفتهم لغُلاة المتكلمين في الشواهد على ذلك، ويُقَوِّي ما وَرَدَ في فضلها حديث " الحمد لله (¬1) تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض " رواه مسلم (¬2)، والله أكبر تملأُ ما بينهما أيضاً ولا إله إلاَّ الله أفضل من ذلك. ويشهد له: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية [إبراهيم: 24]، ومن النظر أن التسبيح والتحميد يجمعان قسمي المحامد تنزيهاً وتحميداً (¬3)، والتهليل، والتكبير يجمعان قسمي الملك تعظيماً وتوحيداً، والحمد لله والملك يجمعان الأسماء الحسنى، فيكون فضل سبحان الله والحمد لله ثلاث مئة مرة، لأنهما يُقالان فيها ثلاث مئة مرة، وفضل التكبير كذلك، وفضل لا إله إلاَّ الله أكثر من ذلك لما وَرَدَ من تفضيلها (¬4)، صار الجميع ملء ما بين السماء والأرض تسع مئة مرة من غير فضل ما يقرؤه قبلها (¬5)، وفضل الركوع والسجود، فهذا مأخوذٌ من أحاديث صحاحٍ وحسان غير أحاديثهما مع ما ورد في المبالغة في تمثيل مقدار ذنوب الموحِّدِ بقوله: " وإن كانت مثل زَبَدِ البحر " رواه مسلم (¬6)، وحديث: " لو بلغت ذنوبُك عنان السماء " ثم استثنى: " لا يُشْركُ بي شيئاً " (¬7)، وذلك أن " لو" موضوعةٌ لامتناع الشيء لامتناع غيره، فدل على امتناع بلوغ (¬8) ذنوبه ذلك المبلغ برحمة الله مع (¬9) كلمةٍ واحدةٍ من ذكر الله، وهو حديثٌ صحيحٌ خَتَمَ ¬
النووي به مباني الإسلام مع شهادة كتاب الله لذلك بما ضربه مثلاً للكلمة الطيبة الواحدة، وكذلك ما ضَرَبَه للخبيثة، ومن شهادته بأن الله هو المتبارك المبارك فيما كان له، الذي لا نهاية لبركته، ومن هنا كانت الحسنات يذهبن السيئات، كما يُذهبُ الماء الكثير الطيب أقذار النجاسات، كما رواه الحاكم (¬1) عن أنس أن أبا ذرٍّ بال قائماً، وانتضح من بوله على ساقيه وقدميه، وقال: هذا دواء هذا، ودواء الذنوب أن تستغفروا الله عز وجل. فهذه ستة أحاديث إلى تلك الخمسة والعشرين صارت إحدى وثلاثين حديثاًً، ويُشبه أحاديث صلاة التسبيح في النص على غفران الكبيرة حديث: " من قال بعد صلاة الفجر أو العصر أو المغرب وهو ثانٍ رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير، لم يَنْبَغِ لذنبٍ أن يدركه غيرُ الشرك بالله في يومه ذلك، وكُتِبَتْ له عشرُ حسنات، ومُحِيَتْ عنه عشر سيِّئاتٍ، ورُفِعَ له عشر درجات " الحديث. وفي روايةٍ: " كانت له بعدلِ عشر رقابٍ مؤمناتٍ، ومُحِيت عنه عشرُ سيئات موبقاتٍ، وكُتبت له عشرُ حسنات موجبات ". روى الترمذي في ذلك حديثين: الأول: عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وقال: حديثٌ صحيح حسن غريب وهو اللفظ الأول (¬2). والحديث الثاني: عن عمارة بن شبيب السَّبئيِّ الأنصاري، وقال: حديث ¬
حسن غريب (¬1). ويعضُدُه حديثُ: " خيرُ دُعاءٍ دعاءُ يومِ عرفة، وخيرُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ، وهو على كل شيءٍ قدير "، رواه الترمذي (¬2) من حديث عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، ولَفْظُه: " أفضلُ الدعاء يوم عَرَفَه، وأفضلُ ما قُلتُ أنا والنبيون قبلي " الحديث. وروى الطبراني (¬3) نحوه من حديث (¬4) علي عليه السلام في كتاب المناسك من طريق قيس بن الربيع، ولفظه: " أفضل ما قلت أنا والأنبياء قبلي عشية عرفة " الحديث، وهكذا رواه مالك (¬5) في " الموطأ " مرسلاً من وجهٍ آخر ذكر ذلك كله ابنُ كثيرٍ في " الإرشاد " في باب صفة الحج. قلتُ: قال المِزِّي (¬6) في حديث عُمارة المُقَدَّم: رواه الترمذي في الدعوات عن قُتيبةَ عن ليث (¬7)، عن الجُلاح أبي كثير، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن عُمارة، وقال: غريبٌ لا نعرفه إلاَّ من حديثِ كثير، ولا نعرف لعُمارة سماعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه النسائي في " اليوم والليلة " عن قتيبة به، وعن أبي الطاهر ابن ¬
السرح، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن الجُلاح، عن أبي عبد الرحمن المعافري، أن عماراً السبئي حدَّثه أن رجلاً من الأنصار حدَّثه نحوه، قال أبو القاسم -يعني ابن عساكر-: وحديثُ عمرو هو الصواب إلاَّ قوله: " عمار " فإنه " عُمارة ". قلتُ: بمثل هذا يُعْرَفُ فضلُ النسائي، فإن الترمذي مع علمِهِ قد كان حكم بغرابته وأنه لا يعرفه إلاَّ من حديث ليثٍ، فجاء به النسائي عن عمرو بن الحارث إمام الديار المصرية، عالمها، ومُفتيها، وأحد رجال الجماعة كلهم، ووصل انقطاعه، والجلاح ثقةٌ من رجال مسلم، [والترمذي]، والنسائي، وأبي داود، لم يذكره الذهبي في " الميزان " لعدم الاختلاف فيه، وشيخه أبو عبد الرحمن الحُبُلي متفقٌ عليه من رجال الجماعة، فهذا حديثٌ صحيح. وقد أورد النسائي (¬1) في هذا المعنى ثلاثة أحاديث: عن أبي ذَرٍّ، واللفظ المقدم له، ورواه الترمذي معه، وقال: حسنٌ غريبٌ صحيح، وعن معاذ، وزاد فيه: " ومن قالهُنَّ حين ينصرف من العصر أُعطي مثل ذلك في ليلته "، وعن أبي أيوبَ بنحوه، ورواه معَهُ ابن حبان، ذَكَرَ ذلك مصنف " رياض الجنة " وغيره. وروى أحمد (¬2) معنى ذلك من حديث أم سلمة مرفوعاً، وهو الحديث 49 من مسندها في " جامع " ابن الجوزي، وفيه دلالةٌ على أن في الحسنات ما يوجبُ الرضا، وله شواهد كقوله لأهل بدرٍ: " اعملوا (¬3) ما شئتم " (¬4)، وإنما نذكر هذا على جهة الترغيب في العمل، وحسن الظن بأرحم الراحمين. وقد روى أحمد في " المسند "، وأبو داود، والترمذي عن سمير بن نهار، ¬
وقيل: شُتَير بن نهار، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن حُسْنَ الظن بالله من حُسْنِ العبادة " (¬1). وفي الصحيح، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى يقول: " أنا عند ظن عبدي فليظن بي ما شاء " (¬2) ويشهدُ لذلك من كتاب الله تعالى مثل قوله في الحجرات [12]: {واتقوا الله إن الله توابٌ رحيمٌ} فجعل هذين الوصفين الحميدين من البواعث على التقوى، ولذلك هيَّج بذكرهما قلوبَ المتقين عند الأمر بالتقوى. وأما قوله في غيرها: {فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً، واتقوا الله إن الله غفور رحيم} [الأنفال: 69]، فيحتمل أنه تأكيدٌ لأول آية، ويقوي هذا المعنى ما عُلِمَ من أن المقصود الأعظم في النبوات هو الدعاء إلى توحيد الله، وأن يكون هو المخصوصٌ بالدعاء والعبادة، وهو المذكور في عالم الذر (¬3) وفي فتنة القبر وحده وِفاقاً، ألا ترى إلى قوله تعالى في " إبراهيم ": {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وأوْصى (¬4) بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّين} إلى قوله في وصية يعقوب: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيم}، إلى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [البقرة: 131 - 133]، بل حكى الله عزَّ وجلَّ هذا عن الرسل كلهم. ¬
فقال تعالى في سورة السجدة [وهي فصلت: 14]: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}. وفي الأنبياء: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلاَّ يُوحىَ (¬1) إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]. وفي المؤمنين [23 و32] نحو هذا عن نوحٍ وغيره. وفي يوسف عليه السلام [40] نحوه عنه، ويقرُبُ منه قوله في حم عسق [الشورى: 13]: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}. وقريب منه ما ذكرته من تفسير الدين بذلك قوله: {كَبُرَ على المشركين} مع ما تبين في غير هذه الآية من تفسير الدين بذلك كآية السجدة التي تقدَّمت الآن، وما يأتي في تفسير الصراط المستقيم، وكقوله: {ومن يرتدد منكم عن دينه} [البقرة: 217]، والرِّدَّةُ لا تكون بذنبٍ دونَ الكفر إجماعاً، يؤيده أن هذا هو الصراط المستقيم كما دل عليه القرآن، قال الله تعالى في يس [61]: {وأنِ اعبدوني هذا صراطٌ مستقيمٌ}. وقال تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلام: {إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 51]. وفي حديث النَّوَّاس بن سَمْعَان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كَنفَي الصِّراط سُوران لهما أبوابٌ مُفَتَّحَةٌ، على الأبواب سُتورٌ، وداعٍ يدعو على رأس الصراط، وداعٍ يدعو فوقه: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25]، والأبواب التي ¬
على كَنَفي الصراط: حدود الله، فلا يقع أحدٌ فيها حتى يكشِفَ السِّتْرَ، والذي يدعو من فوقِه واعظُ ربِّه". رواه النسائي، والترمذي (¬1) وقال: حسنٌ غريب، وهو من حديث بقية، عن بَحير بن سعد، وروى رزين (¬2) نحوه من حديث ابن مسعود مرفوعاً، وفيه بيان: " أن الصِّراط المستقيم: الإسلام، والأبواب المُفَتَّحة: محارم الله، والستورَ المُرخاة: حدوده، والداعي على رأس الصراط: القرآن ". وفي حديث معاذ (¬3) المتفق عليه: " إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم ". ومن أقامَ الصلواتِ فقد عبد الله وحده لُغَةً مع ما مَرَّ في فَضْلِها، وفضلِ البَرْدَينِ. وخرَّج الحاكم (¬4)، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو حديثاً فيه طول، وفيه عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أن نوحاً لما حضَرَتْه الوفاة دعا بنيه، فقال: إني قاصٌّ عليكم الوصية، آمُرُكم باثنتين، وأنهاكم عن اثنتين، أنهاكم عن الشرك والكِبرِ، وآمركم بلا إله إلاَّ الله، فإن السماوات والأرض وما فيها لو وُضعت في كَفَّةِ الميزان، ووُضِعَتْ لا إله إلاَّ الله في الكفة الأُخرى، كانت أرجحَ منها، ولو أن السماوات والأرض وما فيها كانت حلقةً، فوُضعت [لا إله إلاَّ الله] عليها لَقَصَمَتْهما، وآمركم بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيءٍ، وبها يُرْزَقُ كلُّ شيءٍ ". رواه الحاكم من حديث الصَّقْعَبِ، عن زيد، وحكى الحاكم عن ¬
أبي زُرعة أنه ثقةٌ، ولم يُذْكَرْ في " الميزان " بجرحٍ ولا تضعيف (¬1). وما زال السلف يروون هذه المبشرات بغير مناكرةٍ، وقد جعلها الهيثميُّ فاتحة كتابه " مجمع الزوائد " (¬2) فأورد منها في باب فضل الإيمان ما يحصُلُ به التواتر، وذكر من خرَّجها من الأئمة والحُفَّاظ، مع أنها كلها زيادةٌ على ما في دواوين الإسلام الستة. ومما ذكره فيها عن أبي بكر الصديق أربعة أحاديث، وعمر بن الخطاب ثلاثة أحاديث، وسُهيل ابن البيضاء، وأبي موسى، وأبي الدرداء، حديثان، ومعاذ حديثان، وجابر، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ ثلاثة أحاديث، وزيد بن خالد، وسلمة بن نعيم الأشجعي، وأبي شيبة الخُدري أخي أبي سعيد، وشدَّاد، وعُبادة، وابن عمرو، وعمران حديثان، وجرير، وأبي عمرة، وعمارة بن رُويبة، وابن عمر، وخُرَيْم بن فاتِكٍ، وابن عباس، واشترط عدم القتل، وسعد بن عبادة، وعبد الرحمن بن عوف، وأنسٍ، فهؤلاء خمسةٌ وعشرون صحابياً رَوَى عنهم خمسة وثلاثين حديثاًً في هذا المعنى غير ما في الكتب الستة مما ذكره ابن الأثير في (¬3) " جامع الأصول " (¬4)، عن عُبادة (خ م ت)، وأنسٍ (ت)، والخدري (ت)، وأبي هريرة (خ م)، ومعاذ (خ م ت د)، وأبي ذرٍّ (خ م ت)، وابن مسعود (خ م)، وعُتْبانَ بن مالك (خ م)، وأبي هريرة (خ)، رضي الله عنهم، وكذلك سائرُ أحاديث سؤال الملكين كلها صريحةٌ في نَجاتِه بالشهادتين فقط، ورُواتها سبعةُ صحابة، وأحاديثها عشرةٌ، منهم أنسٌ، والبراءُ متفقٌ على حديثهما (¬5) وبقيتها في " الجامع " (¬6) و" مجمع الزوائد " (¬7). ¬
الخوف من الله شعار الصالحين
وأما الأمان فلا سبيل إليه، بل الخوفُ واجب، وهو شعار الصالحين، وقد كان ابن مسعود يقول: وَدِدْتُ أن الله غَفَرَ لي ذنباً من ذنوبي، ودُعيتُ عبد الله بن روثة، بل في البخاري (¬1) أن عثمان بن مظعون لما تُوفي قالت زوجته: هنيئاً لك الجنة، فقال رسول الله: " وما يدريك، والله إني رسول الله وما أدري ما يُفْعَلُ بي " فقالت: لا أُزَكِّي بعده أحداً أبداً. وإنما المراد: الذبُّ عن السنن الصحيحة، وعن رواتها الثقات، وتلقي ما رُوِيَ بالإيمان مع الرجاء والخوف، وما زالَ المسلمون يروون المُكَفِّرات ويستبشرون بها، سواءٌ كانت من الأعمال أو من المصائب، ولا مانع أن تكون الفرائض والنوافل أو بعضُها مع أجر الآلام والمصائب والإيمان بالله ورسله، ومقابلة المصائب بالحمد والشكر مُكَفِّرَةً لذنوب بعض أهل الجنة، كما أن اجتناب الكبائر مكفِّرٌ لذنوب بعضهم، ورافعٌ لدرجتهم. وفي " شرح مسلم " (¬2) للنووي في فضل الوضوء قوله: " ما لم يُؤتِ كبيرةً " (¬3): قال القاضي عياض: هذا مذهب أهل السنة، أن الكبائر (¬4) إنما تكفِّرها التوبة أو رحمة الله وفضلُه. قال النووي: وقد يُقالُ: إذا كفر الوضوء الصغائر، فماذا تكفِّرُ الصلوات، والجمعات، ورمضان، ويومُ عرفة، ويوم عاشوراء؟! والجواب: ما أجاب به العلماءُ أن كل واحدٍ من هذه صالحٌ للتكفير ... ... إلى قوله: فإن صادف كبيرةً أو كبائر ولم يُصادف صغيرة، رجونا أن يخفف من الكبائر. انتهى. ¬
الدنيا دار بعض الجزاء للمؤمنين وللكافرين
وقد ثبت أن الدنيا دار بعض الجزاء، أما للمؤمنين، فعلى ذنوبهم، كما ورد في الأحاديث الصحاح، وستأتي، ويشهد لها من كتاب الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [آل عمران: 165]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُون} [الروم: 36]، وكذا قد تقدم لهم شيءٌ من ثوابهم لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل: 97]. وفي هذا آياتٌ كثيرةٌ قد ذكرتُها في غير هذا الموضع، وأما الكفار فهم على العكس من حال المؤمنين، لا يُجْزَوْنَ في الآخرة بشيءٍ من حسناتهم، بل جزاؤهم عليها تقدم في حياتهم الدنيا إن كان لهم عليها أجرٌ، وقد ورد بذلك خبرٌ مرفوعٌ رواه مسلم في التوبة، عن أبي بكر، وزهير، وأحمد في " المسند " ثلاثتهم، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى، [عن قتادة]، عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولفظه: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعْطَى عليها في الدنيا، ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً " (¬1) تفرد به مسلم وإسناده على شرط الجماعة كلهم. وقد قال الله تعالى في هذا المعنى: {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27]، لأن سيئات المؤمنين مُكَفَّرةٌ فلم يُجْزَوا إلاَّ بأحسنَ، وحسنات الكافرين مُحْبَطَة فلم يجزوا إلاَّ بالأسوأ، ومثل ذلك قوله تعالى فيهم: {وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} [الزمر: 48]، فثبت أن الدنيا دارٌ لبعض الجزاء، أما المؤمن فبسيئاته إن لم تُغفر، وشيءٍ قليلٍ من ثواب حسناته، وأما الكافر فبحسناته إن ¬
بيان أنه لا معارضة بين الآيتين: {إن تجتنبوا} و {إن الله لا يغفر أن يشرك به}
لم تُحْبَطْ بالمرَّة، وشيءٍ قليلٍ من عقابه، وهو الذي سمَّاه الله تعالى في كتابه بالعذاب الأدنى حيث قال سبحانه: {ولَنُذِيقَنَّهُم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} عكس هذا قوله تعالى فيمن لَطَفَ به: {كذلك يُتِمُّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون} [النحل: 81] فلله الحكمة البالغة وهو أعلم بما يُصْلِحُ عباده، وبما يستحقونه من العقوبات، أو الملاطفات، أو المسامحات، ولا قاطع بأيدي الخصوم يرفع هذه النصوص في تكفير ذنوب بعض المؤمنين في الدنيا كما جاء في تفسير قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيم} [النحل: 47]. الوجه الثالث من الجواب: وهو التحقيق أنه لا معارضة بين الآيتين بل قوله تعالى: {إن تجتنبوا} [النساء: 31]، بيان حكم المجتنبين، وليس فيه ذكرٌ لحكم مرتكبي الكبائر. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48] بيان حكم مرتكبي الكبائر الذي لم يُبين في الآية الأولى إلاَّ من طريق مفهوم المخالفة، فإن المفهوم منها أن حكم المرتكبين يخالف حكم المجتنبين على سبيل الإجمال، وليس من شرط المخالفة أن يستوي جميع أهل الكبائر في الأحكام، فإن أحكامهم مختلفة بالإجماع في الدنيا والآخرة، وليس حكم الشرك وأهله حكم المرتكبين لشيءٍ مما دونه من الكبائر وأهلها عند أحدٍ إلاَّ الخوارج الموارق، وقد قال الخليل عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، فلم يلزم في من عصاه أن يكون مقطوعاً له بنقيض ذلك، بل اكتفى في مخالفته لمن يتبعُه (¬1) بأنه في حكم المشيئة، ومتبعه مقطوعٌ له بالنجاة، ومدارُ حجتهم على صحة مفهوم المخالفة، وصحته ظنيةٌ، وكيف يبنون على الظن مسألة قطعية. ¬
وإنما قلت: إن صحته ظنيةٌ، لأن الخلاف فيها شهيرٌ بين علماء الإسلام، وممن ينفي صحته أبو حنيفة وأصحابه، وهو إمام الزمخشري وكثير من المعتزلة، والأدلة من الجانبين ظنيةٌ، وهذه الآية من مفهوم الشرط أحد أقسام مفهوم المخالفة، وقد خالف في صحته مع الحنفية قاضي القضاة عبد الجبار، وأبو عبد الله البصري، والباقلاَّنيُّ، كل هؤلاء نَفَوْا كونه حجةً ظنيةً في الفروع كيف في القطعيات (¬1). ومن أدلتهم: أنه قد وُجد الشرط من غير مخالفة في كثيرٍ من المواضع، مثل ما اتفق عليه الجمهور من قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} [النساء: 25]، لأنه عند الجمهور كذلك وإن لم يُحْصَنَّ، ولم يقل أحدٌ بتأثيم من خالف في مفهوم المخالفة كله، كيف في مفهوم الشرط وحده، وعلى تسليم أنه حجة ظنية فلا يلزم عند أحدٍ من القائلين به أن يكون ما خالف (¬2) الشرط على ضدِّ حكمه بنفي مخالفه كما ذكرنا في كلام الخليل عليه السلام، وأيضاً فشرطُ مفهوم المخالفة عند جميع من يقول به أن لا يكون تخصيص المذكور بالذكر محتملاً للموافقة بسببٍ من الأسباب، وقد بيَّنَّا في ما تقدم في الكلام على تكفير الصلوات الخمس لما بينها من الذنوب أنه قد صح أن كتم بعض المبشرات مقصود للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحوال، ولذلك صحَّ أنه قال: " من مات له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغُوا الحِنْثَ لم تمسَّه النار إلاَّ تحِلَّةَ القسم " قالوا: واثنان، قال: " واثنان "، قال بعضهم: ولو استزَدْناه لزادنا (¬3). قلت: وقد صح في الواحد حديث خرَّجه البخاري لكن بلفظ الصَّفِيِّ كما ¬
تقدم (¬1)، ودل على أن المفهوم في نحو ذلك ليس بحجةٍ بخلاف الحلال والحرام الذي لا كتم فيه بالاتفاق، وهذه فائدة مهمةٌ ولله الحمد والمِنَّةُ. فإذا ثبت ذلك نزلنا الآيتين منزلة الآية الواحدة، فكأنه عقيب آية الاجتناب قال (¬2): وإن لم تجتنبوا فإن الله لا يغفر أن يُشْرَكَ به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وفي هذا مخالفةٌ ظاهرة لحكم المجتنبين، لأن مخالفيهم ما بين مشرك لا يُغفر له، وصاحب كبيرة موقوفٍ تحت المشيئة يرجو المغفرة، ويخاف العقوبة، وقد خصَّ الله تعالى المجتنبين بالقطع لهم بتكفير سيئاتهم بحسناتهم، والوعد الصادق بالمدخل الكريم، وهذا ظاهر القرآن، ومقتضى الجمع بين الآيات على الإنصاف بالنظر الصحيح، كيف وقد تواترت الأخبارُ الصحيحة بذلك بنقل الصحابة والتابعين وخيار المسلمين خَلَفِهم عن سلفهم، وإن جَهِلَ ذلك، أو جَحَدَه من عادى السُّنن وأهلها كالخوارج ومن شابههم وما ضَرُّوا -ولله الحمد- إلاَّ أنفُسَهم، ولكن لا بد من إيراد بعض (¬3) ما يتمسك به المخالف ليتضح الحقُّ من الباطل، فمما تمسكوا به أن هذه الآية مجملةٌ لقوله: {لمن يشاء}. والجواب: أن المغفرة تُعدَّى إلى مفعولين مغفورٍ، ومغفور له، والله تعالى لم يُجمِلِ الذنب المغفور، بل جعله ما دون الشرك، وإنما أجمل صاحب الذنب المغفور له لوجهين: أحدهما: أنه سبحانه صادق الوعد فلو لم يُقَيِّدْ ذلك بالمشيئة لزم أن يدخل فيه ما دون الشرك من ذنوب المشركين. وثانيهما: أنه سبحانه لطيفُ الحكمة، ولم يكن لِيُؤَمِّنَ أهلَ الكبائر لما في ¬
ذلك من الفساد، فإنه سبحانه لم يؤمِّن أهل الفضائل لما في الخوف من مصلحة العباد، وقد قال تعالى فيمن عَبَدَه المشركون لفضله كعيسى والملائكة: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56 - 57]. وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56]. وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} [الزمر: 9]. بل قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]. وقال تعالى فيمن أثنى عليه في كتابه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]. وقال خليل الله عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} [الشعراء: 82]، ولم يقل: والذي يغفرُ لي، كما قال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِين} [الشعراء: 79 - 81]، بل جَزَمَ في جميع هذه الأفعال، وجعل هذه المغفرة مرجُوَّةً لا مقطوعةً مع رفيع منزلته عند الله، ومع عظيم رجائه، حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، فكذلك فليكن العلماء. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27 - 28]، فخَوَّفَهم سبحانه لصلاحهم، كما أنه لم يُقَنِّطِ المسرفين من رحمته لما في القنوط من الفساد أيضاً، فإن الخوف والرجاء جَنَاحَا العمل، ولا يقوم الطائر إلاَّ بجناحيه مع الأكثرين، ومتى عُدِمَ أحدُهما كان القنوط أشدَّ فساداً، ولذلك لم ينتقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمله ولا مناقبه بعد غفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر من ذنبه.
ضعف حديث: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" في الحاشية
ويُروى (¬1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " نِعْمَ العبدُ صهيبٌ، لو لم يَخَفِ الله لم يَعْصِه " (¬2) وكثير من أهل الصلاح يعمل على المحبة، ولذلك كان في المرجئة من يَعْظُمُ خوفُه وتقواه، وأما من أَيِسَ وقَنَطَ من الرحمة ورضيَ وعَلِمَ أنه مغضوبٌ عليه غيرُ مقبول منه، فإنه يكون أقرب إلى عدم الداعي إلى الطاعة، فلأجلِ تخويف المسلمين وصلاحهم. قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} مع إخراج كبائر الكفار وإن كانت المرجئة تزعم أنه تعالى ما قال: {لِمَنْ يَشَاءُ} إلا ليخرج كبائر أهلِ الكفر، وستأتي أدلتُهم، فإنهم أيضاً يقولون: الخوف باقٍ للجهل بالخواتمِ والسوابق، ويذكرون في مثل ذلك قصة بَلْعَم (¬3)، وقصةَ مانعِ ¬
بيان ضعف قصة ثعلبة بن حاطب في الحاشية
الصدقة (¬1) الذي نزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75]، وقيل: إنه ¬
بدري، ولم يَصِحَّ أنه بَدْري (¬1). وبقوله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم: 10] على أحد الاحتمالات، وأحد التفسيرين، ومجرد الاحتمال يوجب الخوف. وقد خرَّج الحاكم (¬2) ما يشهد لذلك في تفسير الحشر من " المستدرك " فقال: أخبرنا أبو زكريا العنبري، أخبرنا محمد بن عبد السلام، أخبرنا إسحاق، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن حُميد بن عبد الله السلولي، عن علي عليه السلام: كان راهبٌ يتعبد في صومعةٍ، وإنَّ امرأةً زينت له نفسها، فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان، فقال له: اقتُلْها، فإنَّهم إن ظهروا عليك افتُضحت فقتَلَها، فدفَنَها، فجاؤوه، فأخذوه [فذهبوا به فبينما هم يمشون]، إذ جاءه الشيطان، فقال له: أنا الذي زينتُ لك، فاسجُدْ لي سجدة ¬
أُنْجيك، فسجد له، فأنزل الله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْك} [الحشر: 16]. صحيح الإسناد. والتفسيرُ الثاني: أن السوأى هي النار، وقوله: {أنْ كَذَّبوا} تعليل، ذكره البغوي والهروي والجوهري في " الصحاح " (¬1)، قال: {السُّوأَى} في الآية: النار، والله أعلم. ولو لم تؤدِّ المعاصي إلى الكفر في الخاتمة، فإنها من غير شكٍّ تؤدي إلى ضعف الإيمان وقلته، كما دلت عليه آيةُ الظهار. وقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155]، وحديث: " لا يزني الزاني وهو مؤمنٌ " (¬2). وحديث: " أعوذ بك أن يتخبَّطَني الشيطانُ عند الموت " (¬3) فيخافُ صاحبُ المعاصي أن يسلَّطَ عليه الشيطان ولو عند الموت، بما يُزيل إيمانه أو يُضعفه، فيدخل النار حين يضعف إيمانه على قول أهل الرجاء كما تقدم (¬4) في الجمع بين حديث: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلاَّ الله " وحديث الشفاعة لمن في قلبه مثقالُ حبةٍ من إيمانٍ، والله أعلم. وليس يلزم من إجمال أحد المفعولين، إجمالُ المفعول الآخر مع بيانه، ولا الإجمال فيما يسري بالمجاورة، كسَرْي النجاسة في الماء، ولذلك لم يرتضِ هذا الخيال الزمخشري في " كشافه " واضطَرَّ مع حِذْقِه في فَنِّه إلى ما لا يليق بمثله، وأنا أُورد كلامه بنصِّه، وما يرد عليه ليتضح ما ذكرت، فأقول: قال في " كشافه " (¬5): فإن قلت: قد ثبت أن الله يغفر الشرك لمن تاب منه، وأنه لا يغفر ما دون ذلك من الكبائر إلاَّ بالتوبة، فما وجهُ قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. ¬
الآية: {إن الله لا يغفر أن يشرك به .. } قاضية بالتفرقة بين الشرك وما دونه
قلت: الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجَّهين إلى قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ}، كأنه قيل: إن الله لا يغفر لمن يشاء الشرك، ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك، على أن المراد بالأول من لم يتُبْ، وبالثاني: من تابَ، ونظيره قولُك: إن الأمير لا يبذُلُ الدينار، ويبذل القنطار لمن يشاء، يريد: لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. انتهى بحروفه. ولو كان ممن لا يعرف العربية والمعاني والبيان لَعيبَ عليه هذا، كيفَ وهو من أئمةِ هذا العلم بلا خلافٍ!. ولنتكلمْ على إيضاح غَلَطِه الذي لا يخفى على من هو دونه في تأويله وتمثيله. أمَّا تأويله: فالجواب عليه من وجوه: الوجه الأول: أن محصول كلامه أنه لا فَرْقَ بين الشرك وغيره في هذه الآية، فإن الشرك لا يُغْفَرُ إلاَّ مع التوبة، وكذلك ما دونه، وهما كلاهما لا يُغفران من غير توبة، وهذا حاصلُ كلامه على ما نُقرره. والآية قاضيةٌ بالتفرقة بين الشرك وما دونه كما يقضي بذلك كلُّ ذَوْقٍ سليم، وفهم مستقيم، ولو كانت كما زَعَمَ لكان صواب التعبير عن ذلك عند كُلِّ من يعرفُ لسان العرب: إنَّ الله لا يغفر لمن لا يتوب، ويغفر لمن يتوب، أو: إن الله يغفر لمن يشاء، ويعذِّب من يشاء، كما قال في غير آيةٍ من دونِ فرقٍ بين الشرك وغيره، ألا ترى كيف قال سبحانه حيث أراد المغفرة بالتوبة: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، ولم يُفَرِّقْ بين شركٍ وغيره، ولذلك قال بعدها لرفع الالتباس: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَاب} [الزمر: 54]، فلمَّا فرَّق بين الشرك وما دونه في المغفرة لم يكن ذلك موجهاً إلاَّ إلى التوبة، ولذلك قال أهل التفسير: إن هذه الآية في مغفرة الآخرة بالتفَضُّلِ، وتلكَ في مغفرة
الدنيا بالتوبة. ذكره ابن عبد البر في " التمهيد "، وهو من أحسن الجمع وأوضحه، وأما الزمخشري فمحصول تأويله: أن الله أراد أن يُفَرِّقَ بين التائب وغيره، فجاء بالفرق بين الشرك وما دونه ليُفْهَمَ منه الفرق بين التائب، وغيره، فالعجبُ كيف جاء مثلُ هذا في أبلغ الكلام، مع أن الشرك ليس هو الإصرار، ولا هو بلازمهِ عقلاً، ولا ما دون الشرك هو التوبة لغةً، ولا بلازم التوبة عقلاً، بل قد يتوب المشرك وقد لا يتوب غير المشرك، فما الملجىءُ في أفصح الكلام وأبلغه إلى التعبير بالشرك عن المُصِرِّين وبما دونه عن التائبين، ولو قصد الفرقَ بين التائب وغيره العَييُّ من الناس الذي يجوز عليه الخطأ ما وقع في مثل هذه العبارة البعيدة من مراده، بل الدَّالة على ما يُخالِفٌ مراده، ويُفْهَمُ منه غيره، فالله المستعان. فإن قيل: ما المانعُ أن يكون الله أراد ما ذكره الزمخشري على سبيلِ المجاز والكناية لما في ذلك من البلاغة على عادةِ بُلغاء العرب!! فالجواب من وجهين: أحدهما: أن شرط ذلك أن يدل عليه دليلٌ هو أحدُ القرائن الثلاث التي ذكرها علماء المعاني، ولولا تقييد صحة المجاز بذلك لصحَّ مذهب الباطنية، وادعى كل من شاء ما شاء في تأويله، وذلك مبطلٌ لفائدة تنزيله. وثانيهما: ما ذكره الإمام المؤيَّدُ، والجاحظ في " إثبات النبوات " في الرد على ابن المُقَفَّع، حيث عارضَ القرآن بتلك الفصول الركيكة التي منها قوله: وأما الذين يزعمون أن الشك في (¬1) غير ما يفعلون. قالا (¬2): هذا كلام مسترذل من ألفاظ العامة والسُّوقة، لأنه أراد أنهم نَفَوْا الشكَّ عما كانوا يفعلون (¬3). فلم يُصَرِّحْ به، وإنما أثبته في غير ما يفعلون، ¬
ولعمري إن الفصيح قد يعدِلُ عن التصريح إلى التلويح، لكن على وجهٍ يكونُ أبلغ من التصريح، ويكون ذلك لغرضٍ صحيح. إلى آخر ما ذكراه في هذا الفصل في إثبات النبوات، وهذا مُجَوَّد في علم المعاني، والشيخ لا يُؤْتى فيه من عدم المعرفة ولا من قلَّتِها، وإنما اضطره اعتقاده إلى ما وقع فيه، فإذا تقرَّرَ هذا، فمحالٌ أن تجيء العبارة هكذا عن اختيارٍ مع حكم تقدير أن مراده بيانُ ما ذكره الزمخشري من الفرق بين التائب وغيره على كل تقدير، فبَطَلَ ما أدَّى إلى هذا الباطل، والحمد لله الذي هدانا لهذا وكفى بربك هادياً ونصيراً. وقد رُوِيَ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: ما في القرآن آيةٌ أحبُّ إليَّ من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]. رواه الترمذي، وقال (¬1): حديث حسن غريب. وقال الحاكم في " المستدرك " (¬2) في تفسير سورة النساء: حدثنا أبو العباسِ محمد بن يعقوب، أخبرنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكرٍ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن بِشْر (¬3) العَبْدي، حدثنا مسعرُ بن كِدامٍ، عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، [عن] عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لَخَمْسَ آيات ما يَسُرُّني أن لي بها الدنيا وما فيها، ثم عدَّها، وعَدَّ فيها: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. وصححه الحاكم عند من يقول إن عبد الرحمن سمع من أبيه، فإن في ذلك خلافاً بين الأئمة. قلت: المثبت أولى من النافي، وذكر الذهبي في " الميزان " (¬4) عن ابن معين ¬
قولين في ذلك، وأن النفاة استصغروه، فالظاهر أنه استبعادٌ، وحديثه عن أبيه في السنن الأربع وعلى تسليم الانقطاع، فإنه أعرف الناس بحديث أبيه، فهو منقطعٌ جيد، وهو حُجَّةٌ عند الخصم وحده، وإنما هو معنا شاهدٌ. وروى الزمخشري هو في " كشافه " (¬1) في تفسير قولي تعالى: {يُريد أن يتوب عليكم} [النساء: 27] عن ابن عباس أنه قال: في سورة النساء ثماني آياتٍ هي خيرٌ لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، وعدَّ هذه الآية منها (¬2). وتقدم أن الطبراني روى عن ابن عمر أنهم كانوا لا يستغفرون لأهل الكبائر حتى نزلت، فرجَوْا لهم ثم استغفروا (¬3)، وهؤلاء عليٌّ، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر رضي الله عنهم من أهل الفهم الصحيح، وفهمُهم مقدَّمٌ على كل أديبٍ وفصيحٍ، فلو فَهمُوا ما فَهِمَه الزمخشري ما كانت أحبَّ آيةٍ في القرآن إلى أمير ¬
المؤمنين، وباب مدينة العلم، وإمام الراسخين، ولا كانت عند ابن عباس المُسَمَّى بالبحر والحَبْرِ خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، ولا فرَّقَ عبدُ الله بن عمر وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حال أهل الكبائر قبل نزولها وبعده، وإنما ذكر الصحابة معه لأنه قال: كنا، وهذه العبارة تقتضي رواية إجماع الصحابة عند أهل العلم، وقد روى الزمخشري من هذه الآثار الثلاثة أثر ابن عباس فإن كان باطلاً، فما ينبغي له أن يرويه، ويسكُتَ عنه في كتابٍ سماه تفسيراً لكلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يُدْخِلَ في تفسيره شيئاً من الباطل، وإن كان حقَّاً، لَزِمَه ألاَّ يخالفَ معناه ومفهومه بالتأويلات المتعسَّفة، والتمحُّلات المُتَكَلَّفة، وما أشد مراء في ادعى أن هذه الآية لا تدل على التفرقة بين الشرك وما دونه ولا تخص الشرك بشيءٍ من التغليظ، ولا يُفْهَمُ منها أن ما دونه يختص بنوعٍ من التخفيف، وقد أردف الله تعالى هاتين الآيتين معاً بما يدلُّ على ما ذكرته، فقال عقيب الأولى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وقال عقيب الثانية: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116]، وهذا يضطرُّ العاقل مع النصِّ المُكَرَّرِ فيهما المؤكد أن المرادَ بالفرق بين الشرك وما دونه، وأن الشركَ لكونه أغلظ مما دونه وأقبح وأفحش وأنكر، استحق زيادة تغليظٍ في العقوبة، والتشديد في الوعيد، والامتياز في الحكم المُغَلَّظِ في الدنيا والآخرة. وكيف يَصَحُّ في الأذهانِ شيءٌ ... متى احتاج النهارُ إلى دليلِ (¬1) ولكن القصد التقرب إلى الله بتفهيم من أضرب عن تأمُّلِ (¬2) الجَليَّات وتذكير من غَفَلَ عن الضروريات. الوجة الثاني: أن توجيه النفي إلى قوله: {لمن يشاء}، يُفْسِدُ المعنى، لأن أهل البلاغة لا يقولون في من يعفو عن بعض المذنبين دون بعض على ¬
حسب مشيئته وحكمته: إنه لا يغفر لمن يشاء بالنفي، بل يقولون: إنه يغفرُ لمن يشاء، لأن الإثبات يُعطي هذا المعنى على أوضح ما يكون، فإذا أدخلت حرف النفي على هذا المعنى الصحيح البَيِّن، عَمَّاه، وغيَّره، وأوهم بمفهومه أنه لا يغفر لمن يشاء بالنفي، لكن (¬1) يغفر لمن لا يشاء، ولا يغفر لمن لا يشاء إلا المكرَهُ غير المختار، لأن حرف النفي إن دخل لغير فائدةٍ لم يكن كلام حكيم، ولا كلام فصيحٍ، وأقلُّ أحوال القرآن أنه كلامٌ بليغٌ، وإن كان حرف النفي دخل لفائدة، فلا تكون فائدته إلاَّ بتغيير المعنى الذي كان مفهوماً قبل دخوله، لأنه موضوعٌ لنفي ما دخل عليه، وقد كان المعنى قبله أن له المشيئة في المغفرة، فلما دخل نَفَى ما دخل عليه كما هو موضوعٌ لذلك، فصار المعنى أنه لا مشيئة له في المغفرة ولا اختيار، وهذا نقيض معنى الآية، ونقيض المعلوم ضرورةً من الدين، ومن إجماع المسلمين. الوجة الثالث: أن أهل علم العربية -الذي هو أحدُ أئمته- قد ضعَّفوا مثل هذا فيما كان عمدةً من الكلام، والعمدة عندهم ما لا يَتِمُّ الكلام إلاَّ به، ومَثَّلُوا ذلك الذي ضَعَّفُوه، واسْتَرَكُّوْه بقول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ (¬2) أي: نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راضٍ. قالوا: والوجه في ضعفه أنهم حذفوه في الأول ولم تَتَقَدَّمْهُ قرينةٌ تدل على ¬
حذفِه، فلو ذكره في الأول، وحذفه في الثاني لكان فصيحاً، لأن ذكره في الأول قرينةٌ متقدمة تُسَوِّغُ حذفه في الثاني لتقدُّمِ دلالتها على الحذف، كما لو قال: نحن راضون بما عندنا وأنت بما عندك، أي: وأنت بما عندَك راضٍ، وكل صحيح الذوق يعرف صحة كلامهم هذا، وإنما وقع الشاعر فيما وقع فيه لضرورة الشعر، وهذا في العمدة (¬1) التي حذفها قرينةٌ ضرورية تُوجب تَطَلُّبَ التأويل والإضمار. وأما قوله في الآية: {لمن يشاء}، فليس بعمدةٍ في الكلام في عرفهم ومعنى هذا: أنه لو حذفها، لكان ما قبله كلاما صحيحاً (¬2) مستقلاًّ بنفسه لا يتوقفُ فهمه عليه، فلا يصحُّ أن يضمر فيه ما لم تدل عليه قرينةٌ متقدمةٌ، لأنه يَغْلَطُ السامع في معناه، ولا يعلم ما أضمره المتكلم من غير قرينةٍ إلاَّ الله، والكلامُ إنما وُضِعَ لإيضاح المعاني، خصوصاً الكلام البليغ، لأن البلاغة: بلوغُ المتكلم إلى مراده بأوضح عبارة، فمتى وقع الإضمارُ فيما ليس بعمدةٍ من غير قرينة متقدمةٍ كان من قبيل الإلْغازِ والتعميةِ للمقاصد، بل لو كانت الآية على العكس من كلامه -فقد ذكر المشيئة في الجملة الأولى، وحذفه في الثانية- ما دلَّ على كلامه، كما لو قال: إن الله يغفر ما دون أن يشرك به لمن يشاء، ولا يغفر أن يُشْرَكَ به، وإنما كان لا يدلُّ حينئذٍ على ما ادعى، ولا يكونُ تقدم ذكر المشيئة قرينةً، لِمَا ذكرنا من أن ذكر المشيئة غير عُمدةٍ في الكلام، بل ما قبله كلامٌ تام، وما بعده كذلك والسرُّ في هذا: أن الإضمار خلافُ الظاهر، فلا يُصارُ إليه إلاَّ لضرورةٍ ودلالةٍ على تعيين ما أضمر، وإلا لادَّعى كلُّ أحدٍ ما شاء من تأويلٍ وصحةَ تأويلات الباطنية، وانفتحت أبوابُ الجهالات في تأويل القرآن، وذلك أعظم أسباب (¬3) الفساد، لأن القرآن هو الفاروقُ الأعظمُ بين المُحقين والمُبطلين، فمتى صح للمبطلين انفتاحُ باب التأويلات الباطلة، لم يُنْتَفَعْ بما ¬
في القرآن من الحق المحفوظ، فلذلك يجب على من يتقي الله مراعاةُ قواعد العلم الصحيحة في التأويل وعدمُ الحَيْفِ فيه، ولو صح له مثلُ هذا في رَدِّ مذهب السنة صح للخوارج مثله في رد مذهب المعتزلة، فكانوا يقولون: إن معنى قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} [النساء: 31]، أي: بالتوبة، لقوله تعالى: {ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يره} [الزلزلة: 8]، وقوله: {من يعمل سوءاً يُجْزَ به} [النساء: 123]، ولا يُغفر لمتعمدٍ خاصة، وهو يروي: " لا صغيرةَ مع الإِصرار " (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أحوطُ وأنسبُ لسُنة التشديد والتغليظ التي اختارها الزمخشريُّ وادعى أنها سنةُ الله. والعجب منه كيف يروي هذا الحديث ولا يُضَعِّفُه ولا يتأوَّلُه وهو يصادمُ (¬2) مذهبهم في مغفرة (¬3) الصغيرة، فدعوى صحة التأويل بغير دليل ليس أمراً مقصوراً على أحدٍ، وليته نقلَ فِرارَهُ من التقدير بغير قرينة من قوله تعالى: {أمرنا مُتْرَفيها} [الإسراء: 16] إلى هذه الآية، فإنه بالغ في تلك أنَّ معناها: أمرناهم بالفِسْقِ مجازاً (¬4) ليطابق قوله: {ففسقوا فيها} لأن المذكور بزعمه يدلُّ على المحذوف كقوله: أمرتُه فصام، فبالغ هناك في منع ما لا يدل دليلٌ على تقديره، وقدَّرَ هنا تقديرين ما دل على تقدير واحدٍ منهما شيءٌ مع تغييرهما للكلام على أنه ¬
أخطأ في تلك الآية، لأن الأمر لا يكون إلاَّ بالطاعة، فهو قرينةٌ على تقديرها كقولك: أمرتُه فَعَصاني. ذكره المُرْتَضى في " الغُرر " والجوهري في " صحاحه " (¬1) في مادة " أمر " وهو صحيح. الوجه الرابع: أنه جَعَل المشيئة بنفسها في الجملة الأولى دالةً على عدمِ التوبة، وفي الجملة الثانية دالةً على التوبة، فالمشيئة لا تدُلُّ على التوبة (¬2) في وضع اللغة، ولا على نفيها، ولا هي بعض من أبعاضها، ولا يُلازمُها في العقل، والدلائل عند أهل العلم خصوصاً أهل علم المعاني والبيان لا تخلو من هذه الأقسام الثلاثة، فإن اللفظ إن دلَّ على المعنى الذي وُضِعَ له، فهي الدلالة اللغوية، وهي تُسمى دلالة المطابقة، وإن دل على بعض من أبعاضه كدلالة الإنسان على الوجه، فهذه دلالة التضمن، وهي عقليةٌ، وإن دلَّ على ما يلازمُه كدلالة الإنسان على حاجته إلى الأكل والشرب، فدلالته التزامية، وهي أيضاً عقلية، ودلالة المشيئة في الجملة الأولى على نفي التوبة، وفي الثانية على حصولها ليست من أحدِ هذه الدلالات المعروفة عند العلماء، ولا رابعة لها بالإجماع، أو يجعل الدلالة على ذلك أمراً أجنبياً عن الآية، فهذه دعوى جديدة تحتاج إلى استئناف دلالة، وليست من تفسير هذه الآية في شيء، وإنما الكلام مسوقٌ لتفسير هذه الآية الذي يفهمُه أهلُ اللغة، ثم يخرج ما يُدَّعَى (¬3) منها بدليلٍ مستقلٍّ بعد تقرُّر معناها كما أُخرج التائبُ من وعيد القاتلٍ بعد تقرُّر معنى آية القتل، وكما أخرجنا كلُّنا مما دون الشرك كبائر الكفار، فدلَّ على أن كلامه في ذلك من جُملة الدعاوي الباطلة، ولو كانت المشيئة مذكورةً مرتين في الجملتين. وأما ولم تذكر إلا مرةً في الجملة الأخيرة، فتفسيرُها بدلاليتها على النقيضين ¬
من غير إيضاح وجه الدلالة بما لا يَليقُ بحالِ العلامة على ما له في هذا الشأنِ من التقدُّم والإمامة. وليحذَرِ المعاند بعد هذا البيان من الخذلان الذي وعد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث حُذيفة الصحيح: قال حذيفة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تُعْرَضُ الفِتَنُ على القلوب كالحصير عُوْداً عُوْداً (¬1)، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه (¬2) نكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه (2) نكتةٌ بيضاء حتى تصيرَ على قلبين، أبيض مثل الصَّفا، فلا تَضُرُّهُ فتنةٌ ما دامت السماوات والأرض، والآخرُ أسودُ مربدّاً كالكوز مُجَخِّياً لا يعرف معروفاً، ولا يُنكرُ مُنْكَراً إلاَّ ما أُشرِبَ من هواه " (¬3)، وفي رواية كعرضِ الحَصيرِ. ذكرها الحُميدي. قال ابنُ الأثير في " الجامع " (¬4): والمعنى في الروايتين معاً: أن الفتن تُحيطُ بالقلوب كالمحصور المحبوس. يقال: أحصَرَه القوم: إذا أحاطوا به، وحَصَروه: إذا ضَيَّقُوا عليه. قال: وقال الليث: حصيرُ الجَنْبِ: عِرْقٌ معترضٌ على الجنب إلى ناحية البطن، شَبَّهَ إحاطتها بالقلب بإحاطته بالبطن. وقوله: " عُوْداً عُوْداً " أي: مرةً بعد مرة - والمربادُّ والمُرْبَدُّ معاً: الذي في لونه رُبدةٌ، وهي بين السواد والغبرة، والمُجَخِّي: المائلُ عن الاستقامة والاعتدال ها هنا، وهذا عارضٌ لا يخلو من فائدة جعلنا الله ممن ينكر الفتن بقلبه ولسانه، وجعلنا من أوفر عباده حظّاً من رحمته وغفرانه. ¬
الوجه الخامس: أن الزمخشري روى في " كشافه " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار " (¬1) فإن لم يكن هذا صحيحاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي له أن يدخله في تفسير كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن كان صحيحاً فقد خالفه في كلا الجُملتين، أما أنه خالف قوله: لا صغيرةَ مع الإصرار، فذلك معلومٌ بالضرورة من مذهبه ومذهب شيوخه، فإن الصغيرة عندهم مكفَّرةٌ بحسنات صاحبها، والكبير لا تُكَفَّر إلاَّ بتوبةٍ (¬2). وهذا هو الفرق عندهم بين الصغائر والكبائر، ولكنهم لِعَدَمِ عنايتهم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعدم التفاتهم إليه لا ينظرون في صحة سنده، ولا في صحة معناه فالله المستعان. وأما مخالفته للجملة الأخيرة، فلأنها من أدلة أهل السنة، وسيأتي ذلك قريباً عند الكلام على تفسير الاستغفار في اللغة والشرع، على أنه غير صحيح عند أئمة الأثر نقلاً، كما أنه غير صحيح عند أئمة النظر عقلاً، وإنما رواه أبو شيبة الخُراساني -مجهول- عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، وليس هذا في أحاديث هذين الإمامين، ولا عند أحد من ثقات أصحابهما. وقال الذهي: هو خبرٌ منكر، ذكره في ترجمة أبي شيبة من " الميزان " (¬3). الوجه السادس: أنا نظرنا في سائر كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لعلنا نجد ما يناسب ظاهر هذه الآية، أو يدل على تأويلها وصرفها عن ظاهرها، فإن القرآن يفسر بعضه بعضاً، وكذلك السنة تفسر القرآن، وقد كانت الصحابة تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما اشتد عليهم، أو أشكل عليهم فيوضحه لهم، فوجدنا القرآن والسنة يشهدان (¬4) لتقرير هذه الآية الكريمة، والبُشرى الصادقة على ظاهرِها، ¬
والأدلةُ على ذلك لا تُحصى كثرة (¬1)، بل تنتهي عند البحث التام إلى العلم الضروري كما أوضحتُه (¬2) عند سرد الآيات والأخبار، لكن أشير ها هنا إشارةً يسيرة: فمن ذلك قوله تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]، كما سيأتي تقريره، ورَدُّ ما اعتذروا به عنها. وقوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]. وقوله في النار: إنها {أُعدَّت للكافرين} في غير آية [البقرة: 24، آل عمران: 131]. وقوله تعالى في غير آية: {وبَشِّر المؤمنين} [التوبة: 112]. وقوله: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} [الرحمن: 46]. وقوله: {ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8]. وقد وَرَدَ الحديث عن أبي الدرداء (¬3)، أن المراد مجرد الخوف الملازم ¬
نص الله في آية من كتابه على استحقاق الجنة أو المثوبة على الإيمان به وبرسوله
للتصديق، لا العمل بمقتضاه كما تقضي بذلك اللغة، وسيأتي بيانه. ومن ذلك أن الله تعالى نصَّ في غير آيةٍ من كتابه على استحقاق الجنة أو المثوبة على الإيمان به وبرسوله، والإيمان إذا قُيِّدَ بالله وبرسوله كان بمعنى التصديق بالاتفاق، من ذلك قوله تعالى بعد ذكر الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُون} [الحديد: 19]. وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه} [التغابن: 11]. وقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [البقرة: 256]. وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 152]. وأجمعت الأمةُ على تفسير الإيمان بذلك في قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك} [البقرة: 221]. ¬
وفي قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] كما أجمعوا على ذلك في تفسير المسلم حيث جعلوا الإسلام شرطاً في صحة الصلاة والزكاة، فما قال أحدٌ في هذه المواضع: إن الخروج من العدالة يُبطل الإسلام، ولا الإيمان، ولا يُحِلُّ القتل، ولا يفسَخُ النكاح، ولا يمنع وجوب العبادات ولا صحتها، حتى تمارَوْا في علم الكلام. وزَعَمت المعتزلة أن المسألة قطعية، وأن تسمية المُوَحِّدِ العاصي مؤمناً أقل الإيمان من الباطل المقطوع به، بل غَلَوْا، فسلبوه اسم الإسلام، وقالوا: إنه اسم مدحٍ لا يستحقه. وكان يلزمهم أن يسلُبوه اسم الموحد والمُصَلِّي لذلك، ويلزمهم ألا تتناول الآية التي في تحريم قتل المؤمن تحريم قتل المسلم صاحب الكبيرة، وأن يُحِلُّوه ولا (¬1) يجعلوا قتله كبيرةً، فإن الأحاديث الواردة في ذلك لفظها ليس هو مثل لفظ الآية في تحريم قتل المؤمن، ولو قَدَّرْنا وجود دليلٍ آحادي لهم أو عمومٍ ظني لم ينفعهم هنا، لأنهم يشترطون القطع في التفسيق، وسيأتي تمام البحث في المعارضات والجمع بينها، وكذلك السنة جاءت بمثل ذلك، ففي حديث الجارية السوداء التي سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تجزي عن (¬2) عتق الرقبة المؤمنة أنه سألها عن ربها، وعن نبيِّها لا سوى، ثم حَكَمَ بإيمانها، وله طُرُقٌ (¬3) صحيحة كثيرة تأتي إن شاء الله تعالى. ويأتي هذا المعنى مبسوطاً أكثر من هذا. ومن ذلك أن الله أمرَ بتوحيده واستغفاره كقوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]. وقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]. وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، وفي تفسيرها حديث أبي الدرداء عنه - صلى الله عليه وسلم - وفيه أنه ¬
بحث في الاستغفار
قال: يا رسول الله وإن زنى وإن سَرَقَ، ثلاثاً، وقال في الثالثة: " على رغم أنف أبي الدرداء " (¬1). وله طرقٌ أحدُها برجال الصحيح. وجعل الله تعالى هذه صفة المذنبين من المؤمنين كما قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135]. وفي الحديث: " ما أصَرَّ من استغْفَرَ وإن عادَ في اليومِ سبعين مرةً ". رواه أبو داود والترمذي (¬2) من حديث أبي بكر، عنه - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صالح. وروى الزمخشري في " الكشاف " (¬3): " لا كبيرة مع الاستغفار ". وقال الله تعالى في صفه الكافرين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]. وقال في صفة طائفةٍ من المذنبين المؤمنين: {َآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. وسيأتي الكلام على معنى الإصرار المُجمع عليه، وأنه ليس من صفة المسلمين، ولذلك لم يأتِ الاستغفار منه، ولذلك جاء التكرار في ¬
فضلِ الاستغفار، ولم يأتِ ذكرُه في التوبة (¬1)، إنما جاء من الإسرف، وفُهِمَ من مجموعها من الإجماع أنه لا ينفع الاستغفار وعدم الاعتراف بالذنب. وهذا إجماع، والنصوص دلَّت على نفعِه بعد التوحيد والاعتراف، وأنه غير التوبة، أما نفعه بعده فمنصوص مُجمعٌ على النص عليه، وأما أنه غيرُ التوبة فلوجوهٍ: الأول: أن التوبة غير مرتبةٍ على الإسلام، بل التوبة من الشرك لقبحه صحيحةٌ قبل مجيء الرسول وبعده، لجمعها شرائط التوبة كما صحت من زيد بن عمرو بن نُفيل (¬2). وليست كالعبادة لا تصح قبل ذلك، فلو كان تقدُّمُ الإسلام شرطاً فيها، لأدى (¬3) إلى الدور بخلاف الاستغفار، فالنصوصُ والإجماع دلاَّ على اشتراط تقدم الإسلام في نفعه. الثاني: قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]، ولا تصح التوبة لهم. وكذلك مفهوم: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} [التوبة: 70] أن ذلك ينفع غيرهم من المسلمين، كصلاة الميت، وإن للتكرار أثراً ولا معنى له في التوبة أصلاً، وكذلك قوله تعالى في الملائكة: {ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى: 5]، وفي آيةٍ: {للذين آمنوا} [غافر: 7]. وكذلك مدح المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه، وأمثال ذلك لا يحصى مما لا يَصِحُّ حملُه ¬
على التوبة لتعديه على الغير. الثالث: قوله تعالى: {أفلا يَتُوبون إلى الله ويَستغفرونَه} [المائدة: 74]، وقوله تعالى: {واستَغْفِروا ربَّكُم ثم توبوا إليه} في غير آية [هود: 90]، ففرق بالنص بينهما. وقد ذكر الحاكم المعتزلي في تفسيره لذلك: أن الاستغفار باللسان، والتوبة بالقلب. ذكره عنه الخصم في تفسير سورة هود، ولم يعترضه، ولا تنبه على تحريم اعتقاده، وذكر قبله أشياء ركيكة لا حجة لصحتها. أولها: تفسير الاستغفار بالإيمان بالله تعالى حتى تصح التوبة من عبادة الأوثان، وهذا كله عجيب منه من وجهين: أحدهما أن تفسير الاستغفار بالإيمان بالله غريبٌ يحتاج إلى نقلٍ صحيحٍ عن لغة العرب، وقد كان يشدِّدُ في تفسير القرآن بما نقله أئمة اللغة عن اللغة العربية، فكيف بالتفسير بما لم ينقله أحدٌ منهم عنها. وثانيهما: اشتراطه الإيمان بالله في صحة التوبة من الشرك المعلوم بطلانه وقبحُه عقلاً، وقد يكون قبحه ضرورياً في العقل، مثل قبح عبادة الحجارة، فإنه أجلى من وجوب الإيمان بالله لتوقف الإيمان على النظر، ومن تَجَلَّى له قبح الشرك قبل أن ينظر في معرفة الله تعالى، كيف لا تصح منه التوبة على الفور، بل كيف يَحِلُّ له التراخي في التوبة عنه حتى ينظُر، وكيف لا يتضيَّقُ عليه وجوبها عن أقبح القبائح، وهل لوجوب التوبة وصحتها شرطٌ غير العلم بقُبحِ القبيح. وهذا نقله عن الزمخشري (¬1) وما أعلم أحداً سبَقَه إلى ذلك. والله أعلم. وقد خالفه الحاكم في " التهذيب " مع اشتراكهما في المذهب، فقال: {واستغفروا ربكم}، أي: اطلُبُوا المغفرة منه، ذكره عنه المقرىء الأعقم في ¬
" تفسيره " (¬1) كما قرَّره في أوله، فوافق الحاكم اختياري، وخاتمة الآية تدُلُّ عليه، وهو قوله: {إن ربي قريبٌ مُجيبٌ} في الآية الأولى في هود، وهو الظاهر كما يوضحه في الوجه الذي بعدَه. الرابع: أن الفرق بينهما هو الظاهر في اللغة، فالاستغفار قولٌ باللسان معناه: طلب المغفرة وسؤالها، كالاسترزاق: طلب الرزق، والاستطعام: طلب الطعام، والاستسقاء: طلب السقيا، فثبت أنه من أعمال الجوارح، والتوبة من أعمال القلوب بالإجماع، فمن جعلَهُما شيئاً واحداً، فعليه الدليل، لأنه خالف الظاهر، لا من فرق بينهما. الخامس: أنه قد صَحَّ الاستغفار مما تقدَّمَ ومما تأخَّرَ، كما في حديث التشهُّد في " صحيح مسلم " (¬2) من رواية علي عليه السلام: " اللهم اغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرتُ " الحديث، وكذا في حديث قيام الليل: " اللهم لك الحمد، أنت قَيِّمُ السماوات والأرض ومَنْ فيهن " إلى قوله: فاغفر لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرتُ " رواه البخاري (¬3) من حديث ابن عباس، وكذا في دعاء السجود عنه - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم اغْفِرْ لي ذنبي كُلَّه دِقَّه وجِلَّه أوَّله وآخرَه " خرَّجاه (¬4)، ولا تَصِحُّ التوبة من الذنوب المستقبلة بالإجماع. السادس: قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17]، وما صح من تخصيص قبول الاستغفار في جوف الليل، فإنه لا معنى لتخصيص التوبة بالأسحار، بل هي واجبةٌ على الفَوْرِ، أي: وقت وقع الذنب تَضَيَّقَ وجوب التوبة والبِدار بها، وكذلك وجوب قبولها عند المخالف. ¬
السابع: قوله تعالى في حق بني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 58]، فقوله: {قولوا حِطَّةٌ} بمعنى حُطَّ عنا ذنوبنا عند الجميع، وهذا نظير الاستغفار، ولذلك قيل: بدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم، فإذا كان هذا منصوصاً في بني إسرائيل فكيف فيمن خَفَّفَ الله عنهم، وحَطَّ عنهم الأغلال التي كانت على من قبلهم. الثامن: ما جاء في حديث الخليل عليه السلام من قوله تعالى: " إن قَصْرَ عبدي مني إحدى ثلاثٍ: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني فأغفر له، أو أُخْرِجَ من صلبه من يعبدني " رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " من حديث جابر، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " (¬1). وقد تقدم أن الزمخشري روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا كبيرة مع الاستغفار " (¬2) فإن كان هذا باطلاً حَرُمَت عليه روايته وإن كان صحيحاً، أو يجوز أن يكون صحيحاً، بَطَلَ قطعه بالوعيد على الكبائر في حق من يجوز أنه من المستغفرين في اللغة التي لا يَحِلُّ (¬3) تفسير القرآن والسنة بغيرها، وهو أجلُّ من أن يجهَلَ أن الاستغفار في علم التصريف: استفعالٌ من طلب المغفرة، كالاستطعام وأمثاله مما تقدم. أما أهل السنة، فلم أرَ أحداً منهم ذكره، ولا صَحَّحه، لكن روى أبو داود والترمذي بإسنادٍ صالح من حديث أبي بكر رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " ما أصَرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرةً " (¬4) وله شواهد بغير لفظه، منها حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -، أن رجلاً أذنب، فقال: اللهُمَّ اغفر لي، فقال تعالى: "عبدي أذنب ذنباً فعلِمَ أن له رباً يغفِرُ الذنب ويأخُذُ به، قد غفرتُ لعبدي، فعاد فأذنبَ فقال مثل ذلك، فقال الله تعالى مثل ذلك حتى قال في ¬
الرابعة: أُشهِدُكم أنِّي قد غفرتُ لعبدي فليعمل ما شاء" رواه البخاري، ومسلم، والنسائي وأحمد (¬1)، وله شواهد، وهو يأتي بشواهده قريباً في الفرق بين الإسلام والإيمان، وسيأتي الاختلاف (¬2) في تفسير الإصرار. والجواب عن معارضة هذه الأدلة الخمسة الجليَّة بما ظنه بعضهم في قوله تعالى في اليهود: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169]، فإن هذه في اليهود الكفار، ثم في حقوق المخلوقين، ثم في التألِّي على الله بالخبر القاطع، وقد جاء: " من يتألَّ على الله يُكَذِّبْه " (¬3)، ولما قالت امرأة عثمان بن مظعون: إنه في الجنة، زَجَرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه، وقال: " إني لأرجو له الخير " (¬4) فاليهود لم يستغفروا مُشفقين مجوِّزين للعفو والعقوبة، بل أخبروا عمَّا لم يُحيطوا به علماً، ولم يَنْقِمْ عليهم أنهم كلما أذنبوا، استغفروا، ولا قال أحدٌ بقُبح الاستغفار من العاصي لنفسه، حتى الوعيدية إنما قبَّحوا من الغير أن يستغفر للعاصي، وقد بَسَطْتُ جوابه في الإجادة. وربَّما يأتي في الكلام على الإصرار، فهي كقولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، وقولهم: لن تمسَّهم النار إلاَّ سبعة أيام (¬5)، وقد قال الله تعالى في نحو ذلك: {وتَصِفُ ألسنتُهم الكَذِبَ أن لَهُم ¬
الحُسْنى} [النحل: 62]، ومدح المعترفين المستغفرين، ومن ذلك ورودُ القرآن بأن الحسناتِ يُذهبن السيئاتِ في حَقِّ المسلمين في عشر آيات تدل على ذلك كما سيأتي. ومنها ترتيب الجزاء على مجرد التصديق، كقوله تعالي: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون ... لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر:33 و35] بخلاف الشرك، فقال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك} [الزمر: 65] وكل هذا يناسب ظاهر هذه الآية الكريمة، والقرآن يشبه بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً. وأما السنةُ، فلا خلاف في تصريحها بذلك، ولكن الخصم يقول: إنها آحادية، ونحن نقول: إنها متواترةٌ، ولو كانت آحادية، لصحَّ التفسير بها مع صحتها، أما التواتر فليس يصح إقامة البرهان عليه إلاَّ بكثرة النقل، وسوف يتضحُ ذلك، والمعتزلة تقول: إن التواتر يحصُلُ بنقل الخمسة ونحن ننقل مثل ذلك عن أضعافِ ذلك من الثقات، على أن العدالة لا تشترط في المتواترات. وقد نقلت في هذا الكتاب قريباً من خمس مئة حديثٍ مما يدلُّ على الرجاء من غير استقصاءٍ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما أن الآحادي الصحيح مما يدخُلُ في التفسير، فلإجماع المسلمين على ذلك في تفاسيرهم، وفي أسباب النزول حتى الخصوم كما مَرَّ تقريرهُ. ¬
الظلم في قوله تعالى: {ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} هو الشرك
ويوضحه أنه لا سبيلَ إلى القطع بتكذيب الراوي لتخصيصِ العموم، وتقييد المطلق بالإجماع، وإذا حَرُمَ تكذيبه، وكان ثقة، أثمر الظن بالضرورة، فيجبُ العمل في العمليات، ويمتنع القطع على ما يُخالفه في الاعتقاديات. فمن ذلك تفسيرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للظُّلم بالشرك في قوله تعالى: {ولم يَلْبِسُوا إيمانهم بظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، رواه البخاري، ومسلم عن ابن مسعود (¬1) وهو من أثبتِ الآثار وأبينها، وذلك أنها لما نَزَلَتْ، اشتدَّت عليهم، فسألوا عنها، وكذلك رَوَى في تفسيرها الحاكم -على تشيُّعِه- عن أبي بكرٍ في " المستدرك " (¬2) أن الظلمَ في هذه الآية هو الشرك، وخَرَّجَ في " المستدرك " (¬3) من حديث أبي ذرٍّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يغفرُ لعبدِه ما لم يَقَعِ الحجابُ، قالوا: وما الحجاب؟ قال: " موتُ النفس مشركةً ". وختم النووي مباني الإسلام بحديث أنس قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بَلَغَتْ ذنوبُك عنانَ السماء، ثم استغفرتَني غَفَرْتُ لك، يا ابنَ آدمُ، لو أتيتني بقِراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشركُ بي شيئاً، لأتيتُك بقرابِها مغفرةً " رواه الترمذي، وقال: حديث حسن (¬4)، وسيأتي تواترُ هذا المعنى. ثم عَضَدْنا ذلك بالنظر العقلي على رأي من يراه، وإن لم يعتقد أنه حجةٌ قاطعة، فوجدنا الإسلام يهدِمُ الشرك، وما كان فيه بالإجماع والنصوص، فلم يُستنكرْ في العقل أن يكون لمن أخلصه، واستقام عليه حتى مات مُوقناً مَزِيَّةٌ تفرق بينه وبين المشركين (¬5)، كما جُعِلَ لهم في أحكام الدنيا مَزِيَّةٌ تدل على بقاء تعلق الرحمة والرفق بهم، كجواز مناكحتهم، وتحريم دمائهم وأموالهم، وأعظمُ ¬
من ذلك كلِّه وأَدَلِّه على الخير صحة العبادات منهم، فإنها تستلزم القبول ووجوب الثواب، وذلك أمارةُ صحة ما ذكره أهل السنة من جواز التكفير عنهم بعباداتهم ومصائبهم، وقد ذكر الرازي أن المعتزلة أخَلُّوا بالتحسين العقلي، حيثُ أوجبوا لمن خَلَطَ الطاعة والمعصية النار دون الجنة، وكان العدل العقلي يقتضي أن يُدْخَلَ النارَ مدةً، والجنة مدةً، بل لو خُلِّينا وقضية القياس العقلي الذي هو مفزَعُ الخصوم، لأوجبنا له الجنة كما قالت المرجئة، فإن الإسلام يزيد ولا ينقص، وقد أجمعنا على أن من كَفَرَ طول عمره، ثم أسلم عند موته أنه مغفورٌ له، فلا يكون بكفره طول عمره، وتأخُّر إسلامه أسعد من السابق إلى الإسلام المستقيم عليه الذي لابس بعض كبائر الشرك، بحيث ما ضرَّهُ إلاَّ تقدم إسلامه وسبقه إليه، واستقامته عليه، فإن التقدير أن المشرك المغفور له بالإسلام المتأخر قد لابس الكبيرة التي عُذِّبَ المسلم عليها لم يكن بينهما (¬1) فرقٌ إلاَّ أن المسلم فعلها وهو معها موحِّدٌ خائفٌ راجٍ، والمشرك على الضِّدِّ من ذلك حال فعلها، وقبله، وبعده. والإسلام الذي كفَّرها للمشرك، وكفَّر سائر كبائره حاصل مع المسلم الذي فعلها وحدها قبلها وبعدها وحالها مع حسنات (¬2) مكفِّراتٍ وبلاوي، فهو زائدٌ في الفضل على ذلك المشرك عقلاً، ولكن الله خَوَّفَ المسلمين كما خوّفَ الصالحين، ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولِمَا عُلِمَ في التخويف من الصلاح لهم، فقلوبهم وجلةٌ، ودموعهم جاريةٌ، ولذلك تجد أكثرهم صلاحاً أكثرهم خوفاً، فالحمد لله رب العالمين. فقد فَضَّلَ الله السابقين في كتابه والمنفقين من قبل الفتح، فكيف تَجْعَلُ الإسلام الدائم كالأوصاف المُلغاة في القياس، وتنكر النصوص القرآنية الموافقة لهذا، وتَرْكَبُ في تأويلها الصعب والذَّلُول، وعادتكم تأويل النصوص إذا خالفت القياس، فهذا هو الكلام على ما سنَحَ من رد تأويله. وأما الكلام على عدم المطابقة في تمثيله، فهو أوضح من أن يختص به الفطناء، وأجلى من أن يحتاج إلى كشفه الأذكياءُ، وذلك أنه جعل الآية نظير قولك: إن الأمير لا يبذُلُ الدينار، ويبذل القِنطار لمن يشاء، فبدأ في تمثيله بنفي ¬
موهبه الحقير، وأخَّر ما نفاه من إثبات موهبه الخطير، وذلك نقيض ما ورد في الآية الكريمة، وعكسه فأول ما يُنْقَمُ عليه الأبله الذي لا يفهم غائلته (¬1) في هذا التحريف اللطيف أنه عاكس صورة الآية الظاهرة وخالفها، بل ضادَّها، ثم ادعى المماثلة، وحقُّ التمثيل أن يكون مطابقاً جليَّاً، لا معاكساً خفياً، ثم إن غرضه بهذة المعاكسة في التمثيل الاحتراز عما نقم عليه في التأويل. بيان ذلك أنه نقم عليه في تأويله أنه أضمر في الجملة الأولى تقييدها بالمشيئة من غير دليلٍ، وإن ذلك لا يصح حتى إنه (¬2) ارتكب لأجل الفرار منه أن معنى قوله تعالى: {أمرنا مترفيها فَفَسَقُوا فيها} [الإسراء: 16]، أمرناهم بالفسق مجازاً، كما تقدم، وهو صريحٌ في " الكشاف " (¬3) في موضعه، فلم فهم هذا التأويل، احترز منه في التمثيل، فجعل تقديم الأدنى الحقير مع تعقيبه بالأعلى الخطير قرينةً عقليةً يحسن معها إضمارُ التقييد للجملة الأولى في تمثيله، وذلك أن من يَهَبُ القنطار لمن يشاء، أولى وأحرى أن يَهَبَ الدينار لمن يشاء، مثلما أن الآية لو وردت بأن الله يغفر الشرك لمن يشاء، ولا يغفر (¬4) ما دون ذلك، حَسُنَ أن يضمر إلاَّ أن يشاء، فيما دون ذلك بالقرينة العقلية، ولكن تكون العبارة في المضمر، إلاَّ أن يشاء، ولا يصلح أن يكون لمن يشاء، لما قدمنا ذكره من النظر في دُخُول حرف النفي في مثل هذا، وقد أخذ هذه الحيلة في تمثيله من قوله فيمن يُؤتمن ومن لا يؤتمن: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75]، وليس مثل الآية إلاَّ أنه (¬5) يمكن الاعتراضُ عليه، ويمنع تقدير المشيئة في تمثيله، لاحتمال أن يكون الأميرُ لا يعطي الدينار أنَفَةً وترفُّعاً من عطاء الحقير، والقرينة الدالة على هذا ما وصف به بعده من إعطائه القنطار. ¬
وهذا وجهٌ جليٌّ لا غُبار عليه، موجِبٌ خروج الحق على كل تقديرٍ من يديه، وأما الآية الكريمة، فإنها دالةٌ على أن من أدَّى الأمانة في القنطار أولى بتأديتها فيما دونه، ومن لم يؤدِّها في الدينار أولى أن لا يؤدِّيها فيما فوقه، ولا يمكن الاعتراض فيها في كلا الجملتين. وبهذا يتميَّزُ القرآن وبلاغته على بلاغة (¬1) البُلغاء. ولولا عصبية الشيخ في هذه المسألة، ما وقع في مثل هذا، مع إمامته في هذا الفن، فالله المستعان. وبيان ذلك أنك لو عكست مثاله، وقدمت ما أخَّر، وجعلت الجملة الأولى مشتملة على الأمر الخطير كالآية سواء، انقلبت الحجة عليه، وخرجت الشبهة من يديه، وذلك هو الذي يعرِفُه كل منصفٍ، ولا يستطيع إنكاره بعد كشفه المتعسِّفُ، فالحمد لله الذي أنطق الخصم به، ليظهر التمثيل الصحيح من مثاله الذي اختاره، وارتضاه وطلبه (¬2) وانتقاه، فنقول: مثالُ الآية المطابق الدال على قول أهل السنة: إن الأمير لا يُعطي القنطارَ، ويُعطي الدينار من يشاء، فها هنا (¬3) لا يجوز إضمار المشيئة في الجملة الأولى بالإجماع، لعدم القرينة الدالة عليه، لا من اللفظ، ولا من العقل، كالآية سواء، إلاَّ أن المثال غير لائق، لأنه جعله في العطاء، لا في المغفرة، والله تعالى هو الرب الجليل المعطي لكل جزيلٍ، الملك الوهَّاب الرزاق لمن يشاء بغير حسابٍ، الذي لا يمنع العطاء والغفران إلا لما يعلم من جلب الصَّلاح ودفع الطغيان، وأمثال ذلك مما يُعدُّ (¬4) من جملة الإحسان، ولا يقال مثل ذلك في فضله العظيم، وجوده الواسع العميم. ثم إنه غير المقدر المضمر في تمثيله، فلم يجعله المشيئة أيضاً، بل جعله الاستحقاقَ، وهذا مشكلٌ عليه أيضاً، ملزِمٌ له أن تكون المشيئة برحمته عن الاستحقاق، وإذا كان كذلك، فلا مانع من أن يعلم الله تعالى استحقاق المسلم ¬
إن قيل: ما ذكرتم من بطلان فائدة التقسيم للذنوب إلى شرك وما دونه غير مسلم، فالجواب من وجوه
الموحد للمغفرة من غير توبة، واستحقاق المشرك ألا يغفر له إلاَّ بالتوبة، وهذا أيضاً مَنٌّ، ولله الحمد. فإن قيل: ما ذكرتم من بطلان فائدة التقسيم للذنوب إلى شركٍ وما دونه على كلام الشيخ غير مُسَلَّمٍ، لأنه يمكن أن تكون (¬1) الفائدة فيه تعظيم الشرك بنفي المغفرة له مطلقاً، لأن الآية مَسُوقَةٌ لتعظيم ذنب المشرك، فلم يقتض هذا المقام التصريح بمغفرته مع التوبة، لمنافاته المقصود. فالجواب من وجوهٍ: الأول: أن تعظيم الشرك بإيهام ذلك، وإرادة ذلك الإيهام أمرٌ محال، ولو صحَّ، لكان قبيحاً، لا يجوز على الله تعالى. أما أنه أمر محالٌ غير ممكن، فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرَ الرسل بُعِثُوا والأرض طافحةٌ بالشرك، داعين للمشركين إلى التوبة من الشرك، وقد علم المشركون ذلك ضرورةً من أديان الرسل، ولا يمكنُ إيهامُهم ذلك، ولا يرتفع عنهم ذلك العلمُ الضروري إلاَّ بنصٍّ جليٍّ وذلك لا يجوز عند الخصم، لقبحه عقلاً وشرعاً، ولو ورد نصٌّ بذلك، لكان فيه إفحامُ الرسل الداعين للمشركين إلى الإسلام، وإلزامهم المناقضة. الثاني: أن نفي المغفرة لا يستلزم نفي قبول التوبة، لأنهما متغايران لغةً وشرعاً، بدليل قول الله سبحانه وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3]، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، وإنما بَنَوا ذلك على زعمهم في تأويل الآية، وهو ممنوعٌ من الأصل. الثالث: أن تشبيه الشرك بما لا يغفر بالتوبة لا يصح؛ لعدم المشبه، وعدم إمكانه، فإنه ليس في الذنوب ما لا يغفر، وشرط صحة التشبيه وجود مشبَّهٍ به وإمكانه (¬2)، وقد صرحوا بذلك في توجيه كلام الزمخشري. الرابع: أن ذلك إيهامٌ قبيحٌ عقليٌّ على الله، وذلك لا يصحُّ، ولو صح ما ¬
حَسُنَ على قواعد الخصوم. الخامس: أن مجرد الوعيد من غير ذكر توبة لا يقتضي إيهام ذلك، فقد ورد ذلك في الكتاب والسنة على جميع المعاصي، ولم يقتضِ إيهام ذلك ولا أوهمه، ولا قال بذلك أحدٌ من مُفسِّري كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23]. بل قد جاء الوعيد على مثقال الذرة غير مقرونٍ بالتوبة، كما في سورة الزلزلة، وإنما ترك ذكر التوبة كثير، ولم تذكر التوبة عند كل وعيد، لأن قبولها معلومٌ ضرورة من أديان الأنبياء، وثابتٌ في غرائز العقول، وفِطَن العقلاء عند الخصوم، وإذا تعارضت الأقوال في تفسير الآية، كانت أقوال الصحابة مقدمة عند أهل الإنصافٍ، فإن أفهامهم كانت سليمةً، وعقائدهم مستقيمةً، ولم تكن بالابتداع مريضةً، ولا سقيمةً، وقد نقل الجميع عنهم أن هذه الآية الكريمة سرَّتهم، وفِرحُوا واستبشروا بها كما تقدم ذلك عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: وعن ابن عباس تُرجمان القرآن، وحبر الأمة وبحرها، وعن عبد الله بن مسعود، وابن عمر رضي الله عنهم، وحديث ابن عمر يقتضي رواية ذلك عن الصحابة أجمعين، ولا شك أن فهمهم صحيحٌ، بل حجةٌ، ولذلك كانت آثارهم مذكورة في تفسير القرآن بإجماع المسلمين، دون أقاويل من تأخَّرَ من جميع أهلِ الدعاوى، وتفسير القرآن (¬1) لمجرد التجويز والاحتمالات حرامٌ عقلاً وسمعاً. أمَّا العقل، فلأنه لا يجوز الإخبار عن زيدٍ بأنه في الدار، لمجرَّدِ احتمالِ ذلك، فكيف الإخبار عن معاني كلام (¬2) الله الذي هو المفزع. وأما السمع، فلقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، ولحديث ابن عباسٍ وجُندُبٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم التفسير بالرأي، وقد تقدم ذكرُ ¬
ذلك مستوفىً، ولأن تفسير الصحابة هؤلاء هو السابقُ إلى الأفهام، ولا يشك كل سليم الفهم والطبع أن الآية مسُوقةٌ للفرق بين الشرك وما دونه، وجرب ذلك في كل من يتلقَّن خلافه من أسلافه وأصحابه، ويتعصَّب لمذاهب آبائه وأترابه، فنسأل الله الهداية والتوفيق وهو حسبي ونعم الوكيل. ولأن تفسير الصحابة وأهل السنة من قبيل تخصيص العام، وهو صحيحٌ بالإجماع، كثير بالإجماع، لا تكلُّف فيها ولا شذوذ، حتى قيل: إن كل عمومات القرآن مخصوصةٌ إلا: {وهو بكل شيءٍ عليمٌ} [الأنعام: 101]، وحتى قيل: إن إطلاق العام على الخاص حقيقةٌ لا مجاز، وقد تأولت الوعيدية هذه الآية الكريمة مع خصوصها وبيانها وتأخرها -كما تقدم بيانه- بأنواع من التأويلات المتعسِّفة التي لا تحتاج إلى العناية في بطلانها، وإنما أوضحت الرد على الزمخشري، لأنه في العربية إمامٌ كبيرٌ، لا يظن بمثله ما اختار لنفسه من ذلك القول الساقط. ومما ينبغى التعرض لذكره بعده من تأويلاتهم (¬1) تأويل الشيخ محمود بن الملاحمي، فإنه زعم أن الآيتين محمولتان على عذاب الاستئصال، واستدل بما قبلهما فأبعد (¬2)، فإن ما قبل الأولى يُوجِبُ أنه قد وقع الخُلْفُ، وما قبل الثانية ذكر جهنم، وفسَّر التوبة (¬3) بغير حجةٍ، ذكر تأويله هذا الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في " التمهيد " والجواب عنه من وجوه: الأول: أن هذا التأويل وأمثاله خلاف المعلوم ضرورةً لأهل البحث التام عن الأخبار النبوية، والآثار الصحابية، وسوف يظهر للمتأمِّل المنصف تواتُرُ ذلك بتأمل ما في هذا الكتاب وحده من ذلك، فقد اشتمل على ثلاث مئة حديثٍ في الرجاء، وكثيرٌ منها فيه التصريح بخروج الموحِّدين من النار. فرواة هذا النوع وحده بلغُوا حد التواتر، وزادوا عليه، ولا خلاف في تقديم التأويل ¬
المنصوص الصحيح الآحادي على مجرد الاحتمال النظري، فكيف بالنصوص المتواترة؟ على أنه خلاف المعلوم ضرورةً للجميع، فإن كثيراً من المشركين -أو أكثرهم- ما عُذِّبُوا في الدنيا عذاب الاستئصال، وإنما عُذِّبَ به بعض من عاصر الأنبياء عليهم السلام، وهذا نبينا محمد صلوات الله عليه الذي أنزلت عليه هاتان الآيتان لم يعذِّب من عاصره منهم عذاب الاستئصال، بل كان حربُه لهم سجالاً، وهؤلاء خصومه اليهود والنصارى في ذمته إلاَّ من أبى، مع قولهم بأعظم الشرك من نسبة عيسى وعزير إلى أنهما ولدان لله سبحانه وتعالى عما يقولون علوَّاً كبيراً. الثاني: أنه مصادم للنصوص النبوية الواردة بنقيضه، فإنها وردت لمخالفة ذلك على وجوهٍ شتَّى، ومن أصرحها ما رواه مسلم في " الصحيح " في التوبة منه من حديث همَّامٍ، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: " إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً يُعطى عليها في الدنيا ويُثابُ عليها في الآخرة، وأما الكافر، فيُطعَمُ بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنةٌ يُعطى بها خيراً " (¬1). وعن علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك في تفسير قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كَسَبَتْ أيديكم} [الشورى: 30]. رواه أحمد، والترمذي، والحاكم في " المستدرك " وصححه، وقال: خرَّجه إسحاق بن راهويه في تفسيره (¬2). وخرَّج الحاكم نحوه من حديث طارق بن شهابٍ عن ابن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكره في كتاب القراءآت في قراءة النبي منها، أول كتاب التفسير، وقال: صحيح الإسناد (¬3). ¬
وروى السيد هذا المعنى في " تفسيره " في تفسير قوله تعالى في هود: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُون} [هود: 15]. وفي " مجمع الزوائد " (¬1) باب مفرد في ذلك في أوائل كتاب التوبة فيه نحوُ ذلك عن عبد الله بن مُغَفَّل رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، وكذلك أحد إسنادي الطبراني (¬2). وعن عمار بن ياسر رواه الطبراني بإسناد جيد (¬3). وعن ابن عباسٍ حديثان في ذلك، رواهما الطبراني، أحدهما من طريق عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي (¬4)، والثاني من طريق محمد بن خليد الحنفي (¬5). وفي " البخاري " (¬6) عن أبي هريرة نحوه، وفي " الترمذي " عن أنسٍ أصرح منهما. ¬
فهذا تواترٌ في النقل، ويشهد لذلك إنظار الله عزَّ وجلَّ للشيطان إلى الآخرة. ومنها أحاديث تكفير المصائب، والآلام لذنوب المسلم في الدنيا حتى يلقى الله وما عليه خطيئةٌ، وعكس ذلك الكافر، وهي كثيرةٌ. قال ابن عبد البر في " التمهيد ": إنه مُجمَعٌ عليها، منها تكفير ذنوبهم بالحدود، ومنها العفو عمن عفا عنه في الدنيا، ومنها: حديث " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " (¬1)، وجاء ذلك في تفسير: {من يعمل سوءاً يُجْزَ به} [النساء: 123]، {ومن يعمل مثقال ذرةٍ شرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 8]، ومنه قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقد تقدم من هذا طرفٌ صالحٌ. الثالث: أنه مصادمٌ لما فهمه الصحابة من هاتين الآيتين الكريمتين، منهم علي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ورواه ابن عمر، عن الصحابة كما تقدم في الرد على الزمخشري. وقد أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تفسير القرآن بآثار الصحابة، واحتجوا بها، لأنهم أصحُّ فهماً، وقول الشاعر الآحادي حجةٌ في العربية، كيف قول الصَّحابي المسند الصحيح. الرابع: أنه لا يتم له تأويله إلاَّ بعد أن يقيد إطلاق القرآن الكريم، وهذه زيادةٌ في كلام الله، ولو ساغ هذا له، لم يَعْجِزْ خصمه عن مثله في آيات الوعيد، بل لم يعجز الملاحدة عن مثله في مذاهبهم، وبمثل هذا يكتفي طالب الحق في الرد على من تمنَّى على الله الأمانيَّ في تحريف التأويلات والمعاني، مثل أن يقول في مثل هذه الآية: إن أولها في عذاب الآخرة، وآخرها في عذاب الدنيا كما يأتي بطلانه، فافهم هذه الطريقة في الرد على المبتدعة والملاحدة تكفك المُؤْنَة في كثيرٍ من المواضع. ¬
عمومات الوعيد توجب تأويل خصوصيات الوعد
الخامس: أنه مبنيٌّ على أن عمومات الوعيد توجب تأويل خصوصيات الوعد، وذلك عكس المعلوم في الأصول والفروع والمعقول والمسموع، وقد ذكر الفخر الرازي في كتاب " الأربعين " أن المعتزلة في هذه المسألة يحتجون بالعمومات، وأهل السنة بالنصوص الخاصة، وأن ذلك يكفي مرجِّحاً لمذهب أهل السنة فيها، والله سبحانه أعلم. السادس: أن الله تعالى قد قال في شر الكفار المشركين: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]، وهي عند الجمهور من الفريقين في عذاب الدنيا، وقال: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25]، يعني في الدنيا بالإجماع، فبطل وجوب عذاب المشركين في الدنيا، وكذا قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ} [الرعد: 31]، يدلُّ على عدم وجوب عذاب المشركين فيها، وأنه مشروطٌ فوجب صرف قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48]. وهذا واضحٌ. السابع: أنا لو ساعدناه على قوله، لوجب صدق الوعيد في الدنيا، وقد علم أن الله لم يطمِسْ وجوه اليهود في الدنيا في عصر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد زعم أن الله تعالى أراد ألا يغفر ذلك في الدنيا لهم، لأنه تعالى قال قبل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47]. الثامن: أن ذلك لو كان كما زعم، لصدق، ولو صدق مستمراً، لبطلَ التكليف، وعدم الكفر بالقهر، وقد أشار الله تعالى إلى عكس ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33]. التاسع: أنه يلزم الرجاء لهم في الآخرة لجواز إضمار قيدٍ أو شرطٍ مثل ذلك في كلِّ وعيدٍ.
العاشر: يلزم أن يكون مفهومُ الآية أن عذابهم في الآخرة جائزٌ، لا واجب، والمفهوم أخصُّ من عمومات الوعيد، أو معارض، فيبطل كونها قاطعة. فإن قلت: ما منع الشيخ محموداً من القول بأن آخر (¬1) الآية هو الذي يختصُّ بأحكام الدنيا، ليخرج بذلك من هذه الإشكالات؟ قلت: منعه من ذلك أمورٌ أربعةٌ، منها: ثلاثةٌ قد تقدمت، وهي الثالث والرابع والخامس كما تقدم قريباً. ومنها -وهو الحجة الواضحة- أن ذلك يؤدي إلى عدم الفرق بين الشرك وما هو دونه من الكبائر، وهو عنادٌ كما مضى، وذلك لأن الله لا يغفر ما دونه منها عند الخصم في الآخرة، ويغفر الشِّرْكَ في الدنيا لمن بشاء بالنَّصِّ، والوفاق قبل خلاف المخالف، أي: يؤخِّرُ عقوبته كما قرره الخصم، وكلامه مبسوطٌ في " التمهيد ". يتَّضح منه ما ذكرته عنه، والحمد لله. فهذه جملة صالحة في جمهور ما يحتج به الوعيدية، والإرشاد في كيفية الجواب عليهم، أو المعارضة والتَّقصِّي لكل ما يمكن أن يحتجوا به، أو يُوردوه من الأسئلة. مما يُمِلُّ ولا ينفع البليدَ إذ قد يَرِدُ عليه ما لا يعرفه، ولو لم يكن إلا (¬2) مجرد المنع من الحجة الواضحة، أو تغيير العبارات، فإن البليد إذا غيرت عليه العبارة، ظن أن الحجة قد تغيَّرت، فأمَّا الفطينُ، فأقل من هذا ينفعه، لأنه يتنبه بالشيء على أمثاله، ويفتح له في كل باب أبواباً، وما أوتي أحدٌ خيراً من الفهم، والمواهب الرَّبَّانيَّة فيه لا تقف على حدٍّ، فمن لم يفهم، يسألُ الله أن يفتح عليه باب الفَهْمِ، ويداومُ المسألة والتضرع في أوقات الإجابة والرِّقَّة، فإنه سبحانه كما قال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، وكما قال: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 31]. ¬
ما جاء في بشرى هذه الأمة المرحومة
ثم إني أشرع الآن بعد تقديم هذه المقدمة في المقصود، وهو باب ما جاء في بُشرى هذه الأمة المرحومة في كتاب الله تعالى الذي نزله تعالى تبياناً لكلِّ شيءٍ وهدىً ورحمةً وبُشرى للمسلمين، كما قال تعالى، وكما نبَّه في آياته المحكمة، وتفسيره وسنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - التي حملت أهلَ السنة على القول بأن مجموعها يفيد تواتُرَ الآحاد، والعلم الضروري بالمراد، وما تكرَّر في كتاب الله تعالى من تخصيص البشرى بالمؤمنين تارةً، وبالمتقين تارةً أخرى، وتخصيص النِّذارة بغيرها، حيث تكون لقطع الأعذار، لا للنجاة، وذلك يبين معنى: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36]، ونحوها من العمومات والآيات الخاصة كثيرة، والمراد عموم المؤمنين، لا كل مؤمن وحده بخصوصه، وقوله: {وبَشِّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً} [الأحزاب: 45] بعد قوله: {إنا أرسلناك شاهداً ومُبَشِّراً ونذيراً} [الأحزاب: 47]، فبين أنه مبشرٌ للمؤمنين ونذيرٌ لغيرهم، وكذلك قال في سورة مريم [97]: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}. ونحوها آية الأعراف [1 - 2]: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين}، لأنها دالة على أن النِّذارة لغيرهم. ومنه: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَان} [التوبة: 21]. ومنه: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِم} [يونس: 2]. ومنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [يونس: 63 - 64]. وقال تعالى في خطاب موسى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين} [يونس: 87]. وقال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِين} [يونس: 103].
وقال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21]. ومنه: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223]. وأما حيث تقصر النِّذارة على المؤمنين ونحوهم، فالمراد النذارة (¬1) النافعة المنجية، ولذلك لا تجيء إلاَّ مقصورة عليهم، لأن النذارة التي للكافرين لإقامة الحجة عليهم، وقطع أعذارهم، والأولى لنجاة المؤمنين، كقوله: {إنما أنت مُنْذِرُ من يخشاها} [النازعات: 45]. وقوله: {إنما تُنْذِرُ الذين يخشون ربهم} [فاطر: 18]. ويدل على ذلك آية يس [11]: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} ويدل على ذلك فيها ما قبلها وما بعدها، فالذي قبلها في الكفار: {وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} [يس: 10]. والذي بعدها: {فَبَشِّرْهُ بمغفرة وأجرٍ كريمٍ} [يس: 11]، فجعل هذا المنذر الإنذار النافع هو المبشر بنفسه، فهذه نِذارةٌ خاصة تستلزم البشرى، فهي في معنى (¬2) الذكرى كما مضى في آية الأعراف، وكقوله: {فذكر إن نفعت الذكرى} [الأعلى: 9] وقوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} [إبراهيم: 52]. والبشرى للمؤمنين صريحةٌ بلفظها، وغير صريحةٍ في جميع آيات الوعيد (¬3)، فتأمَّل ذلك. والذي أذكره في هذا الباب ما هو أخص من ذلك، ولنبدأ بما حضر من آيات كتاب الله تعالى، وما ورد في تفسيرها المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ¬
أُمناء أصحابه رضي الله عنهم. الآية الأولى: قوله تعالى في الزمر [32 - 36]: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَه} وفي قراءة {عباده} (¬1). والبشرى فيها من وجهين: الوجه الأول: أنه ثبت بها إن الصادق، المصدِّق بقلبه المخلص للتصديق من المتقين، وهذا صحيحٌ في السمع واللغة. أمَّا السمع: فهذه الآية وغيرها مما يأتي بعدها. وأما اللغة، فلأنه قد اتقى جميع أنواع الشرك والكفر، وكل من فعل فعلاً وجب في اللغة أن يُشتَقَّ له منه اسمٌ، فيجب أن يشتق له اسم المتقي، كما أنه لو عصى معصيةً واحدةً، وجب أن يُشتَقَّ له اسم العاصي، وقد قال الله في آدم وهو نبيٌّ ذنُبه صغيرٌ: {وعصى آدمُ ربَّه فغوى} [طه: 121]، فنسب إليه المعصية والغِوايَة بصغيرةٍ مكفَّرةٍ في جنب حسناته، فكيف لا يُنسَبُ إلى المسلم تقوى أعظم الذنوب، ويُشتَقُّ له منها اسم المتَّقي بخلاف الاتقاء، فلا يكون إلاَّ لمن ترك الشرك والكبائر؟ وهو الذي يُجَنَّبُ النار، كما قال تعالى: {وسَيُجَنَّبُها الأتقى} [الليل: 17]، وقال: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء: 102]، وأما التقي، فيردُها، ثم ينجو برحمة الله، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 71 - 72]. والذي يوضِّح هذه المسألة: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وقد أجمعت الأمة على صحة طاعات أهل الكبائر من ¬
المسلمين، والخصومُ يُوجبون الثواب والقبول على كل طاعةٍ صحيحةٍ جامعةٍ لشرائط الصحة، ومن الحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121]. وقوله تعالى في المنافقين: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُون} [التوبة: 54]. وأمثال ذلك. ومن السنة حديث الذي قال: إنه أصاب حدَّاً، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل صلى العصر؟ قال: نعم، قال: " اذهب، فقد غفر الله لك حدَّك، وما جاء في تكفير الصلوات للذنوب ونزول قوله تعالى في ذلك: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (¬1) وفرقهم بين المرتد وغيره وقد أوردت هذا مجوداً في هذه المسألة من هذا الكتاب ولله الحمد والمنة. وإذا ساغ للوعيدية أن يتأوَّلُوا القبول حيث ورد على شرط كمال التقوى، ساغ لمخالفهم حملُ عدم القبول على شرط حصول الكفر بدليل منفصلٍ، ولذلك أشكل على العلماء ورُودُ الوعيد (¬2) بعدم القبول في معاصٍ مخصوصةٍ، مثل ما ورد في شارب الخمر أنها لا تقبلُ صلواته أربعين يوماً، وفي روايةٍ " توبته "، وفيه اضطراب، رواه النسائي والحاكم من حديث ابن عمرو بن العاص مرفوعاً. ¬
قلت: وبالغ الحاكمُ في تصحيحه، فقال: صحيح، قد تداولته الأئمَّةُ، واحتجا بجميع رُواتِه، ولا أعلمُ له علةً، وقيل: من حديث ابن عمر بن الخطاب موقوفاً، ولعلها علَّتُه إن كانت له علَّةٌ، ولم يخرِّجه البخاري ولا مسلمٌ، وخرَّج أبو داود من حديث ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " بُخِسَتْ صلاته أربعين يوماً " وهو أشبه، وهو خلاف قول من قال بالإحباط، ويحتمل تأويل عدم القبول بالبخس، كما رواه ابن عباس، والله أعلم (¬1). وعن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنه قال: " من تعلَّم صرف الكلام لِيسبِيَ به قلوب الرجال، أو الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً، ولا عدلاً " رواه أبو داود (¬2)، وهذا كالأول في معناه إن شاء الله تعالى، وقد تكلم الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة " على معنى القبول وعدمه، وذكر الاختلاف في ذلك، وجوَّد الكلام فيه، ولي فيه كلامٌ زيادة على كلامه وتكميلٌ، وليس هذا موضع بسطه، وقد تقدم القول بأنه لا مانع قاطع من الإحباط على قواعد أهلِ السنة، ويكون العبدُ معه في مشيئة الله تعالى. الوجه الثاني: أن الآية تدل على أن المصدِّق بقلبه، الموقن، المخلص (¬3) من النفاق يُسمَّى مُحسناً، ويستحقُّ ما وعد الله به المحسنين، والآية كافيةٌ في الدلالة على ذلك، فإنه لم يجعل المحسنين من لا ذنب له، لقوله بعد ذلك: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35]. ويوضحه قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85]، فجعلهم من المحسنين بقولهم، وهو ما قدم من قولهم: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِين} [المائدة: 84]. ويوضحه قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاة ¬
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]، وصح في تفسير ذلك مرفوعاً أن التثبيت في الآخرة بذلك هو الشهادتان في القبر عند المسألة (¬1)، وأنه بعد شهادتهما (¬2) يُبَشَّرُ، ويرى مقعده من الجنة، ولا يُمتَحَنُ بالسؤال عن غيرهما في جميع الأخبار المتفق على صحتها. ويشهد لمعنى ذلك شواهدُ كثيرةٌ، منها قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهمْ (¬3)} [الأعراف: 172]. وقوله تعالى: {وألزمهم كلمة التقوى} [الفتح: 26]، ونحو ذلك، وفي " الصحيحين " من حديث خيثمة بن عبد الرحمن (¬4)، عن عدي بن حاتم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرةٍ، فمن لم يجد فبكلمةٍ طيبة " (¬5). ويعضده قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية [إبراهيم: 26]. ويدل على ذلك حديثُ عمر في تفسير الإحسان، فإنه جعله من قبيلِ الفِتَنِ. وأصرحُ منه حديث ابن مسعودٍ، وحديث أبي هريرة متفقٌ عليهما. أمَّا حديث ابن مسعود (¬6) عنه - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحسن في الإسلام، لم ¬
يؤاخذ بما عَمِلَ في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أُخِذَ بالأولِ والآخِرِ"، فدلَّ على أن الإساءة في الإسلام هي النِّفاق، أو الرِّدَّة، للإجماع على أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وأن صحيح الإسلام إذا عمل كبيرةً، لم يُعَاقَبْ بالشركِ الذي تاب منه. وأما حديثُ أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -، ففيه: " إذا أحسن أحدكم إسلامه، فكل حسنةٍ يعملها تُكتب بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعفٍ، وكل سيئةٍ يعملها تُكتب بمثلِها، حتى يلقى الله " (¬1) فجعله محسناً في إسلامه في كلا حالتيه، مع عمل الحسنات، ومع عمل السيئات. وقد ذكر الخطابي (¬2) هذا المعنى - أعني أن الإحسانَ في الإسلام: إخلاصه من النفاق، والأحاديث المتفق على صحتها تدل عليه، وكذلك الآيات المذكورة وغيرها، والحمد لله رب العالمين. ومن ذلك حديث تفسير الإحسان، رواه مسلم عن عمر، والبخاري عن أبي هريرة (¬3)، وفي لفظ البخاري في تفسير الإسلام: " أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً "، وفي تفسير الإحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه "، فدل على أن العبادة من الإسلام، لا من الإحسان، ألا ترى أن العبادة تقع من المُنافق كسائر أركانِ الإسلام، والإحسان لا يقع منه، لأنه ضدُّ النِّفاق، فلا يجمعان قطعاً. وقوله: " كأنك تراه لا يقتضي حقيقة المُماثَلَةِ " ألا ترى إلى قول الخليل: {ولكن لِيَطمَئِنَّ قلبي} [البقرة: 260]، وقول الحواريين: {وتَطْمَئِنَّ قلوبنا} [المائدة: 113]، وشكاية الصحابة الوسواس، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ذلك محضُ الإيمان " (¬4). ¬
وروى البخاري: " نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم " (¬1). والتحقيق أنَّ الإحسانَ أعلى وأدنى، كالإيمان أعلى وأدنى، والإسلام والصِّدق، وخرج البخاريُّ في قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين} [الأعراف: 56]. حديث: " إنما يرحم الله من عباده الرُّحماء " (¬2). ويمكن أن يُستخرج نحو هذا من قوله تعالى: {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر}، إلى قوله: {سَيُدخِلُهُم الله في رحمته} [التوبة: 99]، ثم ذكر السابقين بالرضا عنهم ومنهم، فدل على أن أهل الرحمة -وهم من المحسنين- دون السابقين، ومنهم أهل العفو، لقوله تعالى: {فاعْفُ عنهم واصْفَحْ إن الله يُحبُّ المحسنين} في المائدة [13] وهي مدنيةٌ، وقوله: {فادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين} [الأعراف 56] يدل على أن من دعاه خوفاً وطمعاً، فهو منهم، وإلا لم يكن بين الجملتين مناسبةٌ، وكان بمنزلة أن يقول: إن رحمة الله قريبٌ من الملائكة المطهَّرين، أو الأنبياء والمرسلين. الآية الثانية: في قوله تعالى في سورة الحديد [19]: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ}، والصِّدِّيقُ: فِعِّيل من الصدق، وهو المُبالِغُ في الصدق، قاله ابن الأثير (¬3)، وقال في " الضياء ": ومنه " قيل ليوسف: الصِّدِّيق، قال: وقيل: هو كثيرُ التصديق، والقول الأول أولى، لأن فِعِّيلاً من فَعَلَ، مثل سِكِّيت، مِنْ سكت ونحوه، وفيه مبالغةٌ بإدخال الألف واللاَّم على الخبر للحصر، كأنه قال: هم الصِّدِّيقون، لا غيرهم، كما يقول العلماء هم الراسخون، أو هم العاملون (¬4). ونحو ذلك. الآية الثالثة: قوله تعالى في الأحزاب [8]: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}، فجعل الكافرين مقابلين للصادقين. ¬
الآية الرابعة: قوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِم} [الأحزاب: 24]، ففي ذكر المنافقين عقيب الصادقين دِلالةٌ على أنهم الصادقون في الإيمان؛ لأنه واطأ ما في قلوبهم ما نطقوا به، بخلاف المنافقين الذين قالوا ذلك كذباً، قال الله تعالى في أولِ سورة المنافقين [1]: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون} فكما أنهم كذبوا لعدم مطابقة قلوبهم لألسنتهم، فمن حصلت معه المطابقة، وجب أن يكون صادقاً، ولا خلاف في أنه صادقٌ في اللغة، ولا خلاف أن القرآن يفسَّر باللغة العربية. ويوضح ذلك. الآية الخامسة: وهي قوله تعالى في العنكبوت، وهي مدنية (¬1): {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ}، إلى قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [1 - 11]، والحجة منها: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين}، فظاهرها يقتضي ما ذكرنا، حيث كان المنافقون قد شاركوا المخلصين في قولهم: آمنَّا، بل في الأقوال والأفعال الظاهرة، أو في كثيرٍ منها، فالفتنة كالمحنة، كما في قوله: ¬
{فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، كما يأتي. والذي يوضح هذا -مع ظهوره- لغةٌ قوله تعالى في هذه السورة بعد هذه الآية بقليل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10 - 11]. فأبدل الذين آمنوا من الذين صدقوا، وأبدل المنافقين من الكاذبين. وكذلك قوله تعالى في سورة براءة [42 - 43]: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، وكذا قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُون} [التوبة: 77]، وقوله في الثلاثة المخلَّفين: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119]، كله لم يتأوَّل (¬1) فيه الصدق والكذب بغير معناهما السابق إلى الفهم. الآية السادسة: قوله تعالى: {يوم ينفعُ الصادقين صِدْقُهُم} [المائدة: 119]، وحقيقة الصدق في القول، وقد يكون في الفعل على جهة التَّجوُّز، كما أوضحه الزمخشري في " أساس البلاغة " (¬2)، فقال في حرف الصَّاد مع الدال المهملة: صدقته الحديث [في مَثَلٍ]: وصَدَقني سِنَّ وسِنُّ بَكْرِه (¬3)، وصادقه ولم يُكاذبه، وتصادقا ولم يتكاذبا، وصدقه فيما قال، وقوله مصدَّقٌ، ورجلٌ صدوقٌ من قومٍ صُدُقٍ، ورجل صِدِّيق، وعنده مصداق ذلك، وهو ما يُصدِّقُه من الدليل. إلى قوله: ومن المجاز رجلٌ صادقُ المحملة، وذو مَصْدَقٍ في القتال، ¬
وفرس ذو مصدق في الجري، وعند بني فلان مصادق، وصدقوهم القتال، قال جرير: أولئك خيرٌ مَصْدَقاً من مُجاشعٍ ... إذا الخيل جالَت في القَنَا المتكسِّرِ وقال زهير: حتى تجلَّت مصاديقُ الصباح له ... وبات منحسرَ المَتنْيَنِ طيَّانا جمع مصداق. ونجم صادق: لم يُخلف، قال زهير: في عانَةٍ بَذَلَ العِهاد لها ... وسَمِيَّ غَيْثٍ صادِقِ النجم وصادقته المودة والنصيحة، وهو رجلٌ صِدْقٌ، وهم قومٌ صِدْقٌ، وله قدمُ صِدْقٍ، وكذلك كل ما كان رضاً، وفلان صَدْقٌ، وصدق المعاجم، وفلانة امرأة صدقة. انتهى من نسخة معتمدة في الصحة. فهذا مع تصدير الآية بالإيمان الذي بمعنى التصديق لقوله: {ومنهم من يقول آمنا بالله} ودلالته بذكره علم ما في الصدور على أن مراده بالصدق في الإيمان مطابقة الضمير للقول. الآية السابعة: قوله تعالى: {والصادقين والصادقات} [الأحزاب: 35]، وقد تقدم في الآية الثانية أن النص في القرآن أن المؤمنين بالله ورسله صدِّيقون، وما فيه من المبالغة من جهة التركيب، ومن جهة قَصْرِ ذلك عليهم، فكيف لا يتناولهم وعد الصادقين، وسوف يأتي تقريره عند الكلام على أن الخصلة الواحدة من هذه الخِصال نافعةٌ، كآيات الوعيد عند الخصم، فإن الخَصْلة الواحدة فيها ضارَّةٌ عنده. يوضحه ما تكرَّر في كتاب الله من قِسْمةِ الناس إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، ومقابلة الكافرين والمنافقين بالمؤمنين في غير آية، كقوله بعد ذكر
الأمانة وعرضها على السماوات والأرض والجبال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً} [الأحزاب: 73]. وفي سورة الفتح بعد أن قال المسلمون: هنيئاً لك يا رسول الله، هذا لك، فما لنا؟ فنزل قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 5 - 6] (¬1)، وقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 47 - 48] وغير ذلك. الآية الثامنة: قوله تعالى في العنكبوت [7]: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون}، فهذه الآية مثل آية الزمر [35]: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} في الدلالة على أن (¬2) الجزاء بالعمل كله خيره وشره يخصُّ الكافرين في عشر آياتٍ تطابقت في الدلالة على ذلك وأنا أسوقُها متواليةً بعد هذه الآية إن شاء الله تعالى بل قد تقدم الدليل على أن الله تعالى قد يقدم جزاء الكافرين، وجزاء من لم يعف عنه من المؤمنين ممن أراد التخفيف عنه، وأخذه بالتخويف، كما قال سبحانه وتعالى. الآية التاسعة: قوله تعالى في الأحقاف [16]: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُون}. وروى الحاكم في تفسيرها حديثاًً حسناً في كتاب التوبة، عن الغِطريف، ¬
عن أبي الشَّعثاء، عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن الله قضى أن يُؤتى بحسنات العبد وسيئاته، ويقص بعضها ببعض، فإن بقيت حسنةٌ، وسَّعَ الله له في الجنة ما شاء، وإن لم يبق له شيءٌ، فأولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يُوعدون ". ورواه قبل ذا بنحوه من طريق الحكم بن أبان، عن الغِطريف، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عباس، وقال حديثٌ صحيح (¬1). ويشهد له من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُون} [المؤمنون: 103 - 105]، فدل على أن الذين خفَّت موازينهم أهل التكذيب بآيات الله، كما دلَّ على ذلك حديث البطاقة وأمثاله مما تقدم بعضه، ويأتي بعضه الآخر، وآخر الآية أوضح في الدلالة على ما ذكرت، لأن الكفار لما قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107] قال في جوابهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون: 109 - 110]، فتأمل كيف عظم هذا القول، وأهله لمطابقة ما في قلوبهم من الإيمان وجازى أعداءهم الكافرين انتقاماً لهم. الآية العاشرة: في التوبة -وهي مدنية- وهي من قوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَاب}، إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121]. الآية الحادية عشرة: في النحل [96] قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [النحل: 96]. ¬
الآية الثانية عشرة عقيبها قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]. وفيها زيادةُ الوعد بالحياة الطيبة في الدنيا أيضاً. الآية الثالثة عشرة: قوله تعالى في " النور " -وهي مدنيةٌ-: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ}، إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 36 - 38]. الآية الرابعة عشرة: في الفتح -مدنيةٌ متأخِّرة- قوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5]، وعن أنسٍ أنها لما نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1]، قال المسلمون: هنيئاً مريئاً، فما لنا؟ فنزلت: رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي، وقال: حسنٌ صحيحٌ (¬1)، واللفظ للبخاري، وكان ذلك مرجِعَهُم من الحُديبية سنة ستٍّ في ذي القعدة. الآية الخامسة عشرة: قوله تعالى في الصافات [39 - 42]: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُون} وهذا من أصرح الآيات وأحنسها، والآية تُقرأُ في السبع (¬2) بالكسر والفتح (¬3)، والحجة في القراءة بالكسر، لأن الإخلاص هو تركُ الرياء، كذا نصَّ عليه الجوهري في " صحاحه " (¬4)، وهو نظير الإحسان من أعمال القلوب، فمن أخلص في توحيد الله وعبادته، فقد دخل في هذه البشرى الصادقة. ¬
ضعف تفسير أصحاب اليمين في قوله تعالى: {كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين} بأنهم أطفال المسلمين
الآية السادسة عشرة: قوله تعالى: {كل نفسٍ بما كَسَبَتْ رهينةٌ إلا أصحاب اليمين} [المدثر: 38] وهي مثل التي قبلها، والقرآن يفسِّرُ بعضه بعضاً، وهذه في المُدَّثِّر، وفي الطور [21]: {كلُّ امرىءٍ بما كسب رَهِينٌ} من غير استثناءٍ، وذلك دليلٌ على ما قدمنا من اعتبار تقديم الخاصِّ على العام في القرآن، لما فيه من الجمع بينهما. وأما تفسير أصحاب اليمين بأنهم أطفال المسلمين، فضعيف، لأنه من رواية عليِّ بن قادمٍ، عن الثوري، عن الأعمش، عن عمران القطَّان (¬1)، عن زاذان، عن عليٍّ عليه الكلام موقوفاً. وقد جمع بين الضعف والإعلال، ومخالفة القرآن. ومخالفة الخصوم. أمَّا الضعف، فلأنَّ علي بن قادمٍ مُضَعَّفٌ تضعيفاً لم يعارضه توثيق، ضعَّفه ابن سعدٍ وابن معين، وتضعيف ابن معين شديدٌ، لأنه نفى للتوثيق كما ثبت عنه في علوم الحديث، فالضعيف عنده لا يكتب حديثه، ولا يعتبر به في الشواهد، ولم يوثق، لكن قال أبو حاتم وحده: محله الصدق، وهي عبارة تضعيف عندهم، يعني أن غلطه من قبل سوء حفظه، لا من قبيل تعمُّد الوضع. تفرد به الحاكم (¬2)، ولم يذكره أحد من أهل الكتب الستة، ولا من أهل المسانيد، ¬
ولا هو في " مجمع الزوائد "، وهو مما انتُقد على الحاكم رحمه الله. وأما الإعلالُ، فلأنه روى هذا التفسير الغريب عنهم، عن أئمة مشاهير، علمهم محفوظٌ متداولٌ في أقلَّ من هذا، فمن جاء بالغريب عنهم من الضُّعفاء، لم يُلتَفت إلى ما جاء به. وأما مخالفته لكتاب الله تعالى، فلأنه قد تكرَّر فيه ذكر أصحاب اليمين، وظهر أن المراد بهم طائفةٌ من المكلَّفين دون المقرَّبين، كما جاء في سورة " الواقعة "، بل في هذه الآية نفسها ما يدل على ذلك، حيث قال: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر} [المدثر: 39 - 42]، والأطفال لا يختصون دون المكلفين بمثل ذلك، بل أهل التكليف الذين عادوهم في الدنيا هم أهل الاختصاص بذلك كما قال تعالى في الصافات [51 - 57]: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ}، إلى قوله: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِين}، وفي قوله: {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} ردٌّ واضحٌ على من يقول: إن الجنة لا تُنال بالرحمة والتفضل كما سيأتي بيانه. وقد سمى الله تعالى أصحاب اليمين بأسماء، حيث قسم أهل الجنة إلى قسمين، وإلى ثلاثة، كقوله تعالى: {فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مُقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات} [فاطر: 32]، ولم يجعل الأطفال قسماً من أقسامهم في شيءٍ من الآيات، لأنهم في منزلة الحور العين (¬1)، ومن تشبيه الله تعالى لفضول الجنة وأهلها في العرف السابق هم أهل الجنة (¬2). وأما مخالفته لمذهب الخصوم وكثيرٍ من أهل السنة، فلأنه خصَّ أطفال المسلمين دون أطفال المشركين، وقد خرَّج البخاري في حديث سمرة أن النبي ¬
- صلى الله عليه وسلم - أُري إبراهيم الخليل في الجنة وعنده أطفال الناس (¬1)، فقالوا: يا رسول الله وأطفال المشركين؟ قال: " وأطفال المشركين " (¬2). وسيأتي ذكر مذهب أهلِ السنة في ذلك وبراءتهم مما يرميهم بعض أهل المقالات من القول بأنهم يُعذبون بذنوب آبائهم، تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيراً. الآية السابعة عشرة: قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور} [سبأ: 17]، وقريبٌ منها قوله تعالى: {كذلك نَجْزي كل كفورٍ} [فاطر: 36]، لكن الأولى أصرح في نفي المُجازاة بالذنوب عن غير الكافرين، وهذا يختص بالآخرة، لما ورد من الأحاديث الكثيرة بالجزاء في الدنيا للمؤمنين على سيئاتهم بما يلقَوْنَ من الآلام وأنواع البلاوي، فنسأل الله العافية في الدارين، والإعانة على ترك الذنوب، فإن تركها أيسرُ مشقَّةً من عقوباتها، وهذه الآية هي العاشرة من هذا النوع المقدم ذكره، ومن عُذِّبَ في الآخرة حتى يُشْفَعَ له، فيحتمل أنه ما جُوزِيَ بجميع ما يستحقه، لأنه لو جوزي، لكان خالداً أو معذباً عذاباً أطول من ذلك بمُدَدٍ متطاولةٍ، ويحتمل أن الذين لا يُجْزَوْنَ بسيئاتهم هم الذين لم يكن في نفسهم من التوحيد نقصانٌ، كما أشارت إليه الأحاديث، وقد تقدم في الجمع بين الأخبار المختلفة في أول المسألة. الآية الثامنة عشرة: في التغابن -مدنية- {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} [التغابن: 9]، وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، فقوله: {ويعمل صالحاً} لا يعم كقوله: {الصالحات}، فإنه نَكِرَةٌ مثبتةٌ، كقولك: رأيتُ رجلاً، فإنه لا يفيد العموم، بخلاف النفي، كقولك: ما رأيتُ رجلاً، فإنه يفيد. ويوضحه قوله: {يكفر عنه سيئاته}. الآية التاسعة عشرة: فيه أيضاً قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17]، وهي من أحسن ¬
بيان معنى اللمم
الآيات في الحث على الصدقة، ونظيرها قوله بعد ذكر الصدقة: {الشيطان يعدُكُم الفقر} [البقره: 268]، قال الواحدي: يعني بسبب الصدقة: {ويأمرُكم بالفحشاء} قال الواحدى: يريد البخل، {والله يعِدُكُم} في الصدقة {مغفرةً منه} في الآخرة: {وفضلاً} في الدنيا، {والله واسعٌ عليمٌ}. وأول هذه الآية يدلُّ على تفسير الواحدي، وآية التغابن في ذلك صريحة، غير محتاجة إلى تفسيرٍ، ولله الحمد. الآية الموفية عشرين: قوله تعالى في النجم -وهي مكية-: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 31 - 32]، وهي من جنس ما تقدم، لأنه وعد الذين أساؤوا بالجزاء بما عملوا من خيرٍ وشرٍّ، وإن كان شرُّهم محبِطاً لخيرهم، وأما الذين أحسنوا (¬1)، فلم يعدهم أن يجزيهم إلا بالحسنى، لا بكل عملٍ من خيرٍ وشرٍّ، لأن سيئاتهم مكفَّرةٌ، أو مغفورةٌ، ولا يتصور أنه لا سيئة لهم، وآدم يقول: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ونوح يقول: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، ونحو ذلك مما يطول شرحه. وأما اللَّمَمُ، فقد ثبت في اللغة أن اللمم: القليل، وقال الزمخشري في " الكشاف " (¬2) اللمم: ما قلَّ وصَغُرَ، وهو يُخالف مذهبهم في مغفرة الصغائر، وإن كثرت. ثم ذكر الشواهد على ذلك، فلم يأت بشاهدٍ واحدٍ على الصِّغر، وإنما هي كلها في القِلَّةِ، فمنها قول الشاعر: لقاءُ أخِلاَّءِ الصَّفاء لِمَامُ ... وكلُّ وصالِ الغَانياتِ ذِمامُ ومنها: اللمم: القليل من الجنون، ومن ذلك ألمَّ بالطعام: إذا أخذ منه ¬
أخذاً قليلاً، لكن في " فقه اللغة " للثعالبي (¬1)، و" ضياء الحلوم " لمحمد بن نشوان: أنه الصغائر، فإن ثبت على ذلك شاهدٌ لغوي، كان يُطلق على الجنسين: القليل والصغير، وفي " القاموس "، و" أساس البلاغة " (¬2)، ولا شك أن الصغائر قد خرجت من مفهوم الآية، والظاهر في الاستثناء الاتصال، فهذا (¬3) ما تقتضيه اللغة. وأما الآثار، فأصح ما رُوِيَ في ذلك: حديث مجاهدٍ، عن ابن عباس ": " أنه الذي يُلِمُّ بالذنب ثم يدعُه " رواه الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " (¬4) وهو صحيح. ويقاربه في المعنى ما رواه البزار في " مسنده " (¬5)، عن ابن عباس (¬6) أنه قال: هو اللَّمَّةُ من الزِّنى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن تغفر اللهم تغفر جمّاً ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا قال الهيثمي (¬7): رجاله رجال الصحيح. وفي " الصحيحين " من حديث عائشة في حديث الإفك الطويل: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " وإن كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري الله " (¬8). وفي " النهاية " (¬9) أنه بمعنى قاربت، وليس بشيءٍ لوروده على سبب الإفك العظيم، والعموم نصّ في سببه، لكنه يدلُّ على تسمية قليل الكبائر لَمَمَاً. ¬
ومنه حديث عمر في تسمية الوطء بذلك: " ما بالُ رجالٍ يطؤون ولائدهم ثم يعتزلونهن لا تأتينِّي وليدةٌ يعترف سيِّدُها أنه قد ألمَّ بها، إلاَّ ألحقتُه ولدها ". رواه الشافعي (¬1) عن مالكٍ، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن عمر. وإنما سماه إلماماً لما كان قليلاً، إذ كان الأكثر معهم نكاح الحرائر، ولذلك جاءت الأحاديث بأن كثرة السَّراري من أمارات الساعة، حيث قال: " وأن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها " (¬2). وفي كتب الغريب والآثار غير ما ذكرته مما لم يصح، فتركته هنا اختصاراً، وقد بسطتُ ذلك في غير هذا الموضع. الآية الحادية والعشرون: قوله تعالى في سورة القتال [2]: {كَفَّرَ عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم}. الآية الثانية والعشرون: في المائدة، وهي مدنية، ليس فيها منسوخٌ: قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12]. الآية الثالثة والعشرون: قوله في المائدة [45] {فمن تَصَدَّقَ به فهو كفارةٌ له} بعد قوله: {والجروح قِصَاصٌ}، وهي فضيلةٌ عظيمةٌ تحثُّ على العفو. وقال أحمد في " المسند ": حدثنا يحيى بن سعيدٍ القطان، عن مجالدٍ، عن عامرٍ، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن رجُلٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من أصِيبَ بشيءٍ في جسده، فتركه لله، كان كفارة له " (¬3). ¬
وعن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه، رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، كلاهما في الديات عن أبي السَّفَر عنه (¬1). وهذا مناسبٌ لهذه الآية الكريمة، وكفى بها شاهدة على تكفير الحسنات للسيئات، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين} [هود: 114]، ومنه في الكفار {أولئك لهم سوء الحساب} [الرعد: 18]، وهي في " الرعد ". فهذه قدر ست عشرة آية مع ما في معناها، كالغفور الشكور، ومع ما معها من الأخبار مما يدل على ذلك، والحمد لله رب العالمين. وأما ما ورد في ذلك من السنة، ففي فضائل الإسلام والأذكار من " جامع الأصول " و" مجمع الزوائد "، وأوائل " سلاح المؤمن "، وهذه أبوابٌ من ذلك، أو في الباب عن أنس (خ م ن)، وأبي سعيد (م د س)، وعبادة (م ت)، وأبي ذر (م هـ)، وابن عمر (ك)، وابن مسعود (ك)، كلها في " سلاح المؤمن "، وفيه عن أم هانىء (ك). وفي " جامع الأصول " (¬2) لابن الأثير عن عبادة بن الصامت (خ م ت)، وأنس (ت)، والخدري (ت)، والخدري (د)، وأبي هريرة (م)، ومعاذ (خ م)، والخدري (د)، وأبي ذر (خ م ت)، وابن مسعود (خ م ت)، وعِتبان (¬3) بن مالك (خ م)، وأبي هريرة (خ). هذا مع موضع واحد، ويأتي مفرَّقاً، ومن أحبَّ أن يعلم (¬4) تواتُرَ ذلك مِنْ غير تقليدٍ، تتبَّعه في مسند كل صحابيٍّ في كتب المسانيد. وكنت شرعتُ في جمع ذلك، فوجدته مطولاً جداً ويملُّ ويزيد على التواتر. ¬
باب أكثر الإيمان وأقله
باب أكثر الإيمان وأقله: وكله إيمان ونفي الناقص مجازاً بدليل اختلاف الحصر، وثبوت النفي. قال الله تعالى في الأنفال [2 - 4]: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}. وقال في سورة النور [62]: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فقصر هؤلاء على أقل ما قصر عليه المؤمنين الذين وصفهم الله في الأنفال، وكذلك قصرهم على غير هذه الأوصاف في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. وكذا قوله في الحرز: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون} [السجدة: 15]، وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. فلما اختلفت أوصافُهم التي قصرهم عليها، عرفنا أنها وردت على أسباب مخصوصةٍ، وعلى المدح بكمال الإيمان، كما يقال: إنما الغنى القناعة ويدل عليه قوله تعالى في آخر الأنفال [74]: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74] فقصر المؤمنين على المهاجرين والأنصار، وقد قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72]، وأوجب لهم النصرة في الآية، ثم قال بعد ذلك: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال:
75]، فزادهم عليهم بعد ذلك القصر، فدل على أن مثل تلك الصيغة تَرِدُ للمصر على الأفضلين، والله أعلم. يوضحه أنه الذي يجبُّ ما قبله مع الشهادتين بالإجماع. يوضحه ما انعقد عليه الإجماع من تفسير الإيمان بالتصديق في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك} [البقرة: 221]. ومن هنا دخل قاتل الفاسق عند الخصوم في وعيد: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} [النساء: 93]، وإلا لزم ألاَّ يقطعوا بأنه كبيرةٌ، وقوله في الأنفال بعد قصر المؤمنين على تلك الطبقة الرفيعة عقيبها من غير فاصلٍ: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 5 - 6]، فجعل هؤلاء من المؤمنين، وهم دون أولئك، حيث جادلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحق بعد تبيينه. ومما يدلُّ عليه قوله تعالى: {واتَّبَعَتُهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمانٍ} [الطور: 21]، فقد ذكر الزمخشري في " الكشاف " (¬1) في تنكير إيمانهم وجهين: أحدهما: أنه نُكِّرَ لتعظيمه، وهذا ضعيفٌ، لأنه لو نُكِّرَ لتعظيمه، لكانوا في منازل آبائهم بأعمالهم، لا مُلْحَقِينَ بهم تفضُّلاً. وثانيهما: أنه نُكِّرَ لنقصانه، وهو الوجه إن شاء الله تعالى، بدليل: {وما ألَتْنَاهُم من عَمَلِهِم من شيءٍ}، وبدليل أحاديث الباب، والله سبحانه أعلم. ولأن إسناده معرفة التأكيد وعكسه من التنكير لا يستند إلاَّ (¬2) إلى القرائن، وقد جمعها الشاعر في قوله: ¬
اضطرار الزمخشري والمعتزلة إلى صحة الجمع بين الإيمان وما عدا الشرك من الكبائر
له حاجبٌ عن كلِّ أمرٍ يشينُه ... وليس له عن طالبِ العُرفِ حاجِبُ (¬1) فلم يختلف أهل البلاغة أنها تقتضي أن يكون تنكير " حاجب " الأول للتأكيد وتنكير " حاجب " الثاني للتخفيف، لأن تأكيد الأولِ وتخفيف الثاني هو مقتضى المدح والثناء، وكذلك تنكير " إيمان " في الآية يقتضي التخفيف، لأن الآية مسُوقَةٌ لبيان الامتنان على المؤمنين برفع ذرِّيَّتهم إليهم بغير شرطٍ زائدٍ على أن يتبعوهم بإيمان، فلو كان ذلك هو الإيمان الكامل، كان معلوماً من آيات الجزاء على الأعمال، ولم يُناسب قوله: {وما ألتناهم من عَمَلِهِم من شيءٍ} كما هو مُبيَّنٌ في كتب التفسير. يوضِّحُه أنه لو لم يكن لهم أبٌ في مرتبةٍ أرفع منهم، لم يكونوا من أهلِ هذه الآية، فدلَّ على نُقصان إيمانهم عن إيمان آبائهم، أو عن أعمالهم، وقال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُون} [الشعراء: 215 - 216]. وقد اضطر الزمخشري والمعتزلة إلى صحة الجمع بين الإيمان وما عدا الشرك من الكبائر في مواضعَ منها في تفسير قوله تعالى: {ولم يلبسوا إيمانهم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، فإنهم فسَّروه بالفسق بالكبيرة، ومنعوا مما صح في حديث ابن مسعود أنه الشرك (¬2)، وعلَّلُوا ذلك بأن الشرك لا يُجامِعُ الإيمانَ، ¬
الإيمان بعد الكلفر مقبول ومكفر لذنب الكفر بمجرده
بخلاف سائر الكبائر، ونسوا قاعدتهم في الوعيد، وهي أن الإيمان لا يُجامِعُ شيئاً من الكبائر، والحق أن الإيمان المذكور هنا هو اللُّغويُّ، وهو يُجامِعُ الشرك والكبائر. قال الله تعالى فيه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، فردُّهُم للحديث الصحيح هنا غلطٌ فاحشٌ، والله أعلم. ومنها: {ولا تَنْكِحُوا المُشركاتِ حتَّى يُؤمِنَّ} [البقرة: 221]، وغير ذلك، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، ففرق بين الإيمان وكسب الخير فيه. وأما معناها، فقد وهِمَ الزمخشري أنها تردُّ مذهب أهلِ السنة في الرجاء، فقال ما لفظه (¬1): المعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت، وهي آيات ملجئةٌ مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذٍ نفساً غير مقدِّمَةٍ إيمانها من قبل ظهور الآيات أو مقدِّمة إيمانها، غير كاسبةٍ خيراً في إيمانها (¬2) فلم يفرق -كما ترى- بين النفس الكافرة إذا آمنت في وقته، ولم تكسِب خيراً، ليعلم أن قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} جمع بين قرينتين لا تنفكُّ إحداهما عن الأُخرى، حتى يفوزَ صاحبها ويسعَدَ، وإلا فالشِّقْوةُ والهلاك. والجواب أن الشيخ غفلَ غفلةً عظيمةً، وهي إن شاء الله من قبيل النسيان لا من قبيل الخطأ وذلك من وجهين: أحدهما: أن الإيمان بعد الكفر مقبولٌ بل مكفِّرٌ لذنبِ الكفر بمجرده قبل الأعمال كلها بإجماع المسلمين: المعتزلة وغيرهم، كإيمان الأصمِّ، ومن مات قبل العمل، وهذا ينقُضُ ما اعتقده من بُطلان هذه القاعدة على الإطلاق، وإذا أمكنه أن يُخَصِّصَ هذه الصورة بدليلٍ منفصلٍ، أمكن غيره تخصيص المؤمنين ¬
لا بد من الإيمان من أمور هي من كسب الخير كنفي جميع أنواع الشرك وغيره
المخلصين قبل حدوث الآيات. فإن قال: لا بد مع الإيمان من اشتراط التَّلفُّظ بالشهادتين، وهو عملٌ ترك قوله: وانتقض بالأصمِّ والميت قبل التمكُّن. ثانيهما: أن الله تعالى لم يقل: وكسبت في إيمانها كل خير، وإنما قال: {أو كسبت في إيمانها خيراً}، والنَّكرة المثبتة لا تفيد العموم بالإجماع، لأنك إذا قلت: رأيتُ رجلاً، لم يُفِدْ أنك رأيت كل رجُلٍ، ولا جميع الرجال إجماعاً، بل الآية حجةٌ لأهل السنة، لأن من مذهبهم أن الإيمان اللغوي لا يكفي، بل هو إجماع المسلمين، إذ لا يقول أحدٌ من المرجئة بالإرجاء في حق اليهود والنصارى، مع أنهم لا يَخْلُون من الإيمان اللغوي ببعض ما يجب الإيمان به، بل مشركو العرب لم يَخْلُوا من بعضه، والإيمان اللغوي هو المذكور في هذه الآية بالاتفاق، لأنه فصله عن كسب أدنى خيرٍ فيه، وهذا لا يكفي عندَ فرق جميع أهل السنة، بل أهل الإسلام، فلا بد معه من أمورٍ هي من كسب الخير. أعظمها: نفي جميع أنواع الشرك، لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]. وثانيها: إخلاصه لله، كقوله: {مخلصين له الدين} [يونس: 22]، وقوله: {ألا لله الدين الخالص} [الزمر: 3]. وثالثها: النظر في المعجزات المثمرة للإيمان بجميع رسل الله، وكتبه، وملائكته، واليوم الآخر. ورابعها: حب الله ورسوله وأوليائه. وخامسها: النطق بتوحيد الله وتصديق الرسل مع زوال الموانع من ذلك على الصحيح في هذا الأمر الخامس. ومع اشتراط هذه الأمور الخمسة عند أهل السنة، وإقامة الصلوات عندَ
كثيرٍ منهم: وهي رؤوس مكاسب الخير، كما ثبت في الحديث الصحيح في فضائلها، كيف يلزم أهل السنة محذور من اشتراط خبرٍ منكرٍ مع الإيمان اللغوي الذي لم يَخْلُ منه الشيطان الرجيم، وأكفر أتباعه الجاحدين والبراهمة، واليهود، والنصارى المترجم عنهم بالمغضوب عليهم، والضالين في فاتحة كتابنا المبين، التي يقرأ بها كل مُصلٍّ من المسلمين، وأحاديث الشفاعة التي هي من جملة أدلة أهل الرجاء مصرِّحَة بأنهم من أهل النطق بالشهادتين، وذلك رأسُ الخيرات المكسوبات، وهو يهدِمُ ما قبله، لِعِظَمِ محلِّه من جميع المُهلكاتِ. فبان أن هذه الآية من جملة حُجج أهل السنة، وهي كقوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن} في غير آية كما أوضحناه، والقرآن يفسِّر بعضه بعضاً والحمد لله رب العالمين. على أن الذي ذكره الشيخ غيرُ قاطعٍ، فقد اعترضه ابنُ الحاجب، وقال: إن المعنى: أو كسبت في إيمانها خيراً لم تكن كسبت من قبْلُ، كأنه قال: لا ينفع نفساً إيمانُها أو كسبُها، كقوله: لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيني (¬1) أي: وقرارها، وإنما حذفه إيجاراً، لتقدُّم ذكره مع استوائهما (¬2) في الحاجة إلى الاختيار في شرط التكليف مثلما حذف الصبر في قوله: {إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} ¬
الإيمان شرط نفع العمل
[الأنفال: 65]، أي: مئة صابرة، وكذلك في آخر الآية: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66]، أي: ألف صابرون ونظائره كثيرة. وكذلك قدَّر أكثرُ العلماء في كفارة الظِّهار أن يكون قبل أن يتماسَّا، سواء كفَّر المُظاهِرُ بالعتق، أو الصوم، أو الإطعام، حملاً على ذلك، مع أن الله ما اشترط ذلك إلاَّ في العتق والصوم، وهذا لفظ الآية: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 3 - 4]، وذلك كثيرٌ جداً، وهو من أنواع البلاغة. وقد استجاد صاحب الحواشي كلام ابن الحاجب، ولا شك في احتماله، فبطل القطعُ، ويكون معنى الآية عليه الفرقُ بين الكسب بعد ظهور الآيات وقبلها، كما هو كذلك في الآيات بالاتفاق. ويؤيد هذا أنه قد جاء كذلك في كتاب الله تعالى حيث جاء بيِّناً من غير اشتباه ولا اختلاف، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْي} [يونس: 98]. ولما قال فرعون: {لا إله إلاَّ الذي آمنت ... }، قيل له: {الآنَ} ومفهومه: نفعها وحدها قَبْلُ. وقال الله تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة: 29]، ومفهومها أنه ينفع غيرهم، وإنما لم يذكر ما اشترطنا من ذلك العمل، لملائمته للإيمان الشرعي، فكأنه منه، كما هو كذلك في العُرف خاصة، والله أعلم. ويعضُدُه أن المعروف شرعاً أن الإيمان شرطُ نفع العمل، كقوله تعالى:
{ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن}، وقوله: {أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [الأحزاب: 19]، وتأويل ابن الحاجب يقرر هذا، وكلام الزمخشري يوجب أن العمل شرطٌ في نفع الإيمان، وهو خلاف السمع كما تقدم، وخلافُ الإجماع، فقد يتعذَّرُ العمل كما في إيمان الأصم الذي لم يسمع شيئاً من الشرائع، ومن مات قبل التمكن من العمل، وقال تعالى: {قالوا} -أي الذين آمنوا- {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} [البقرة: 249]، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10]، وقال تعالى: {لكيلا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم} [الأحزاب: 37]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، وقال: {خالصةً لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50]، وقال: {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} [الأحزاب: 58]، وقال: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 73]. والخصوم خالفوا في هذه الآية وحدها دُونَ ما تقدمها في " الأحزاب "، مع قرينة تقديم المنافقين والمشركين، فإنها تدل على أن المؤمنين من عداهم. وليس العجب من الخلاف على جهة الظن وتجويز تصويب الجميع، إنما العجب من القطع في غير موضعه، وقال تعالى: {قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ} [السجدة: 29]، وفي غير آيةٍ: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ}، فلو كان المؤمن هو عامل الصالحات، لكان المعنى: ومن يعمل من الصالحات وهو عاملٌ لها، فيكون عملُها كلُّها شرطاً في عمل بعضها، ولذلك يدخُلُ صاحب الكبيرة بالإجماع في مثل: {يا أيُّها الذين آمَنُوا إذا قُمْتُمْ
إلى الصلاة فاغْسِلُوا وجوهكم} [المائدة: 6]، وكذلك في سائر أحكام الشريعة في الحدود والقصاص. ألا ترى أن الله تعالى قال: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} الآية [النساء: 93]، فلو أن مؤمناً قتل صاحب كبيرةٍ من المُوحِّدين، وجب عليه القصاص بالإجماع، وكذلك قال العلماءُ في تفسير الرقبة المؤمنة في العتق. قال الزمخشري في " الكشاف " (¬1) ما لفظه: والمراد بالرقبة المؤمنة: كلُّ رقبةٍ كانت على حُكم الإسلام عند عامَّة العلماء، وعن الحسن: لا تُجزىءُ إلاَّ رقبةٌ قد صلَّت وصامت، ولا تجزىء الصغيرة. ومنه: {قال الذين كفروا للذين آمنوا} وأمثالها، ومثله ما تكرَّرَ من ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ففرق بين الإيمان والعمل، مع أن هذه الآيات هي من جُملة أدلة المُخالف، فانقلبت (¬2) عليه. ومع أن قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ} أخصُّ منها وأبْيَنُ، فيجبُ تفسيرُها بالأبين، ولو كانت حجةً للخصم لكنها (¬3) حجةٌ عليه، لا له، مع بقائها على ظاهرها. يوضِّحه قوله تعالى: {أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم} [الأحزاب: 19]، ففرَّقَ بين الإيمان والأعمال في جميع الآيات، فمرَّةً جعلَ الإيمان شرطاً في صحة العمل، وموجباً لقبوله، وهي أبين الآيات، مثل ما تكرَّر في قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ} وتارة عطف الأعمال على الإيمان عَطْفَ الشيء على غيره، وهو كثيرٌ في ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتارة جعل عدم الإيمان مُحْبِطاً للعمل، كقوله تعالى: {أولئك لم يُؤمنوا فأحْبَطَ الله أعمالَهُم}. ومن ذلك قوله تعالى في " المجادلة " [3 - 4]: {والذين يُظَاهِرُونَ مِنْ ¬
نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير}، إلى قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم}، فجعل العمل وسيلةً إلى قوة الإيمان، فدلَّ على تغايرهما. ومن ذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، فجعل القلوب محلَّ الإيمان دون سائر الجوارح، وقد بيَّنَ الله أن الإيمان به مراده الأعظم، وأنه أراد ما عداه لتمامه وكماله. أمَّا أنه أراد ما عداه من أعمالنا لذلك، فهذه الآية المتقدمة شاهدةٌ لذلك، وهي تناسِبُ قول كثيرٍ من المعتزلة: أن الشَّرعيَّات ألطافٌ. وأما أنه مراده بأفعاله تعالى ومخلوقاته، فلقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وذلك لأن العلم بذلك إيمان، وأشرفُ مراتب الإيمان بذلك العلم به، وهذا سرٌّ عظيمٌ، ينبغي تأمُّلُه وتأمُّلُ شواهده. فإن قيل: إن الآيات التي عطفت الأعمال فيها على الإيمان حجةٌ على أنَّ الإيمان وحده لا ينفع حتى تنضمَّ إليه الأعمال الصالحات كلها. فالجوابُ من وجهين: أحدهما: ما قدمنا أنه أبْيَنُ وأخصُّ وهو قوله تعالى: {ومن يعمل من الصالحات وهو مُؤمنٌ}، وما وعد الله على العمل الواحد في غير آيةٍ، وما عضد ذلك من السنة كما مرَّ، أو سيأتي. ثانيهما: أنه يحتمل أن الله إنما عطف عمل الصالحات على الإيمان على جهة الثناء على المؤمنين، وإن لم يكن شرطاً، كما قال في المشركين: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاة} [فصلت: 6 - 7]، فقوله: {لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاة}
ليس بشرطٍ في استحقاقهمُ الويل، وإنما هو زيادة ذمٍّ، ومع الاحتمال يحرُمُ القطع، خصوصاً عند الوعيدية، فإنها عندهم قطعيةٌ، كيف ومع كثيرٍ من أهلِ السنة أدلةٌ تقوِّي هذا الاحتمال ذكروها في مواضعها، ويأتي كثيرٌ منها، ويقوِّي ذلك كونه لم يذكر تحقيق (¬1) ترك الكبائر، فدلَّ على أنه أراد الثناء، لا شروط الاستحقاق على دعوى الخصم، ولكن لا بُدَّ من الخوف، لقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48 و116]، كما تقدم في الجمع بين المُتعارضات، ولجهل الخواتم على كل تقديرٍ. ويوضِّحُ ذلك ما جاء من الثناء على من آمن الإيمان اللغوي الذي هو التصديق بالاتفاق، وذلك حيث يكون مُعَدَّىً بحرف الجرِّ، وهو الباء المُوحَّدَة، وذلك لا يكاد يُحصى في كتاب الله، كقوله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، وقوله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]، وقال الخليل عليه السلام: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [البقرة: 126]، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 152]، وقال: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]، وقال تعالى: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، وقال: {إنهم فتيةٌ آمنوا بربِّهم} [الكهف: 13]، وقال صاحب يس: {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 25 - 27]، وقال: {إنْ تُسْمِعُ إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} [النمل: 81]، وقال: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران: 193]، وقال: {فمن يُؤمِنُ ¬
الإجماع على أن صاحب الكبيرة تصح منه جميع العبادات
بربه فلا يخاف بَخْسَاً ولا رَهَقَاً} [الجن: 13]، وقال: {وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه} [طه: 127]، وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] الآيتان إلى آخر البقرة، وما جاء في فضلهما من الحديث (¬1). وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُون} [الحديد: 19]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175]، وقال: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن: 11]، وقال: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سبأ: 21]. وأجمعوا على أن صاحب الكبيرة تصح منه جميع العبادات، وأنها لا تصحُّ إلا من مسلمٍ، وفي هذا ردُّ قول الخصوم: إن صاحب الكبيرة غير مسلمٍ ولا مؤمن، وإن المسلم والمؤمن مترادفان، لأنهما -بزعمهم- أسماء مدحٍ، وفي الآيات والأخبار ما يرد عليهم، كقوله في الأحزاب: [73]: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات}، ففرَّق بينهم. ومن أوضح ما ورد في ذلك قوله في " الحجرات " [14 - 15] رداً عليهم، ودلالةً على ما نحن فيه، وهي قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}. قال شيخُ الإسلام ابن تيمية في بعض رسائله: وهذا على أظهر أقوالِ العلماء أن هؤلاء الأعراب ليسوا كفَّاراً، ولا منافقين، بل لم يبلغوا إلى حقيقةِ ¬
قول الباقر عليه السلام وغيره من السلف: إن الإسلام دائرة كبيرة والإيمان دائرة في وسطه، والكلام في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"
الإيمان وكماله، وإن كانوا يدخلون في الإيمان في مثل قوله: {فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ} [النساء: 92]، وقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6]، وهذا بابٌ واسعٌ. قلت: ويعضُدُ هذا القول في تفسير هذه الآية قوله تعالى في قوم موسى عليه السلام: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، إلى قوله: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 138 - 140]، فقد أدخل هؤلاء الجهلة في بني إسرائيل المفضَّلين على العالمين، ومن المعلوم أن هؤلاء الجهلة ليسوا من العلماء بالله، المؤمنين الإيمان الصادق، ولم يكونوا مع ذلك كفاراً ولا منافقين، فكانوا كالذين قال الله فيهم: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]، والحجة في آية الحجرات في المقصود أن الإيمان الذي لم يحصل لهؤلاء: هو أشرف من إسلامهم الذي قال الله فيهم معه: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً والله غفورٌ رحيمٌ} [الحجرات: 14]، وكيف لا ينفع الإيمان أهله، وهو أشرف من هذا الإسلام الضعيف الذي نفع أهله؟ وروى ابن تيمية عن الإمام الباقر عليه السلام وغيره من السلف أنهم كانوا يقولون: إن الإسلام دائرةٌ كبيرةٌ، والإيمان دائرة في وسطه، فإذا زنى العبد خرج من الإيمان، لا من الإسلام (¬1)، لما ثبت في " الصحيحين " عن أبي هريرة، وفي " البخاري " و" النسائي " عن ابن عباسٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (¬2) الحديث ورواه ¬
في " مجمع الزوائد " (¬1) في أوله في كتاب الإيمان من طرق أخرى، وفي كل منها نظرٌ على قواعد أهل الصحيح، والله أعلم. قلت: ولفظ الحديث مشعرٌ بخلاف مذهب المعتزلة، فإنه ظاهرٌ في تقييده لنفي الإيمان بحال ملابسة هذه المعصية، ولا يظهر نفيه مطلقاً من ذلك كما هو مذهب الخصوم، ولا يفهم ذلك صحيح الذوق، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفصحُ العرب، ولو أراد ذلك، لقال: إن الزاني والسارق غير مؤمنين، أو أنهما ليسا من المؤمنين ولم يَعْدِلْ إلى هذه العبارة المقيدة بحال المباشرة للذنب، والملابسة له (¬2)، ولا يخلو عدُولُه إليها من معنى لطيفٍ، لبلاغته التامة. وقد روى ذلك الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " (¬3) صريحاً على أنه من الشيعة فقال: حدثنا أبو النضر الفقيه، وأبو الحسن الحيريِّ، قالا: أخبرنا عثمان بن سعيد الدارمي (ح)، وأخبرنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هانىء، ¬
أخبرنا الفضلُ بن محمد بن المسيِّب (ح)، وأخبرنا علي بن حمشاد، قال: أخبرنا عبيد بن عبد الواحد قالوا جميعاً: أخبرنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا نافع بن يزيد، أخبرنا ابن الهادي أن سعيد بن أبي سعيدٍ حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا زنى العبد، خرج منه الإيمان، وكان كالظُّلَّةِ، فإذا انقلع منها، رجع إليه الإيمان ". قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا برواته، وله شاهدٌ على شرط مسلم: حدثنا بكر بن محمد بن حمدان الصَّيرفيُّ بمرو، حدثنا عبد الصمد بن الفضل (ح)، وحدثنا جعفر بن محمد بن نُصيرٍ ببغداد، أخبرنا بشر بن موسى، قالا: أخبرنا أبو عبد الرحمن المقرىء، حدثنا سعيد بن أبي أيُّوب، أخبرنا عبد الله بن الوليد، عن ابن حُجيرة أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من زنى أو شَرِبَ الخمر، نزع الله الإيمان منه كما يخلع الإنسانُ القميص من رأسه ". قال الحاكم: قد احتج مسلمٌ بعبد الرحمن بن حُجيرة، وعبدِ الله بن الوليد، وهما شامِيَّان (¬1). قلت: وخرج الحديث الأول أبو داود والترمذي ولفظ أبي داود: " وخرج منه الإيمان، فكان كالظلة وإذا أقلع، رجع إليه " وطريقه عن ابن أبي مريم كالحاكم، ولفظ الترمذي: " خرج منه الإيمان، وكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل، عاد إليه الإيمان ". قال الترمذي: قال الباقر رضي الله عنه تفسيره: يخرجُ من الإيمان إلى الإسلام (¬2). ¬
قلت: يعني في حال ملابسة المعصية، لا مطلقاً. ذكره ابن الأثير في اللواحق من " جامع الأصول " (¬1). وحديث ابن عباس عند البخاري والنسائي -على تشيعه- قال ابن عباس بعد رواية الحديث تفسيره: يُنْزَعُ منه الإيمان، لأن الإيمان نَزهٌ (¬2)، فإذا ما أذنبَ العبد، فارقه، فإذا نزع، عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه، ثم فرقها. قلت: هذا في حكم المرفوع، لأنه لا يُعْرَفُ بالرأي، وقد رفعه الحاكم وأبو داود والترمذي في رواياتهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والحمد لله. ويقوي ذلك أن شارب الخمر مذكورٌ في الحديث في بعض رواياته أنه لا يشرب حين يشرب وهو مؤمن. رواه البخاري من حديث الفضيل بن غزوان، عن عكرمة، عن ابن عباس في كتاب المحاربين في أواخر " الصحيح " (¬3). وقد خرج البخاري (¬4) قبل ذلك في كتاب الحدود من حديث زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أن رجلاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله، وكان يلقبُ حماراً، وكان يُضْحِكُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتِيَ به يوماً، فأمر به فجلده، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يُؤتى به! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلاَّ أنه يحب الله ورسوله ". وروى البخاري بعده، وأبو داود والنسائي، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقال فيه: "لا تكونوا أعوان ¬
الشيطان على أخيكم" (¬1). فدل على أن شارب الخمر غير خارجٍ من أقل الإيمان، وكذلك غيره، ولذلك قال البخاري في ترجمة الباب: إنه غير خارجٍ من المِلَّةِ. وقد اضطرب عكرمة في إسناده ولفظه. أما إسناده، فذكر بعض ذلك المزي (¬2) في ترجمة فُضيل بن غزوان عن عكرمة، عن ابن عباسٍ، فقال في هذا الحديث وقد أخرجه عنه بهذا الإسناد ثم قال: رواه عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة، عن أبي هريرة قوله، يعني غيرَ مرفوعٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه إسرائيل عن جابرٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة مرفوعاً. وأما متنُه، فقال البخاري في كتاب المحاربين من رواية فضيل عنه عن ابن عباس: " فإن تاب، عاد إليه "، وروى ابن الأثير في " الجامع " (¬3) ما قدمناه وعزاه إلى البخاري (¬4) وهو ناقلٌ عن الحميدي في " الجمع بين الصحيحين "، وهو يذكرُ ما اجتمعا عليه، وما انفرد به كل واحدٍ منهما. ¬
ويعضد ذلك حديث: " المؤمن والإيمان كمثل الفرس في آخيَّتِه " (¬1). ذكره ابن الأثير في " النهاية " (¬2) وقال: الآخيَّة -بالمد والتشديد-: حبلٌ أو عودٌ (¬3) تُشد فيه الدَّابَّةُ ومعناه: أنه يبعُدُ عن ربه بالذنوب، وأصل إيمانه ثابتٌ. ويدل عليه تفسير ابن عباسٍ اللمم في القرآن باللَّمَّة من الزنى، كما مضى (¬4)، مع أنه راوي الحديث في زعم عكرمة. وفي " صحيح مسلم " و" الترمذي " عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " مثل المؤمن كالزرع، لا تزال الريح تُفيئُه " (¬5). وفي أول كتاب الحدود من " البخاري " (¬6) باب لا يشرب الخمر، وقال ابن عباس: يُنزع منه نورُ الإيمان في الزِّنى. وفي الباب الموفى ثلاثين باباً من المظالم من " صحيح البخاري " (¬7)، وهو باب النُّهبى (¬8) قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر (¬9) قال أبو عبد الله: ¬
تفسيره: أن يُنزَعَ منه، يريد نور الإيمان (¬1). ويوضحه ما في أحاديث الشفاعة من تقدير قليل الإيمان بحبِّ الخردل ودونه، وحديث أبي ذر: " وإن زنى وإن سرق " خرجاه (¬2)، وفيه ذكر الحَرَّة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيها، وأن كلام جبريل سمع منها، وهو يُشعِرُ بأن ذلك كان (¬3) متأخراً في المدينة، فإنها بين الحرَّتين، والحرَّة: أرضٌ تربتُها حجارةٌ سودٌ، وليس للحِرار ذكرٌ في مكة. والبرهان القاطع على عدم النسخ: أنهم كانوا أتقى وأعلم وأعقل من أن يروُوا للمسلمين المنسوخات من غير (¬4) بيانٍ كما تقدم. واتفق لبعض الصالحين من قُرَّاء الحديث في عصري أنه لما بلغ هذا الحديث، وجَدَ في قلبه نكارةً له، فكَرِهَ كُتُبِ الحديث، ونوى تركها، فنعس، فرأى قائلاً يقول له: هذا الحديث أحبُّ الحديث إلى الله تعالى، فرجع عما كان يراه (¬5) من ترك كتب الحديث. وقال النووي في " شرح مسلم " (¬6) -أظنه في كتاب الإيمان-: وقد جمع بينَ الأحاديث بعضهم بمن فعل ذلك مستحِلاًّ. قلت: ورواه الهيثمي في " مجمعه " (¬7) عن علي عليه السلام ولم يصحح سنده. ¬
قال (¬1): وقال الحسن وابن جرير الطبري: معناه: يُنزَعُ منه [اسم] المدحُ الذي يُسمى به أولياء الله المؤمنين، ويستحق اسمَ الذم الذي يُقال: سارقٌ، وزانٍ، وفاجرٌ، وفاسقٌ، وحكي عن ابن عباس: أنه يُنزع منه نور الإيمان وفيه حديث مرفوع، وقال المهلَّب: يُنزع منه بصيرته (¬2) في طاعة الله، وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث، وما أشبهه يؤمن بها وتُمَرُّ على ما جاءت، ولا يُخاض في معناها، وإنا لا نعلم معناها، وقال أمرُّوها كما أمَرَّها الذين من قبلكم، وقيل في معناه غير ما ذكرته مما ليس هو بظاهرٍ، بل بعضُها غلطٌ، فتركتها، وهذه الأقوال محتملةٌ، والصحيح ما قدمناه أوَّلاً. قلت: والذي قدَّم النووي أن المراد نفيُ كمالِ الإيمان عن الزاني والسارق، وذكر أن هذا التأويل قريبٌ، كثيرُ الاستعمال. قلت: ولا يبعُدُ أن يكون من ذلك قوله تعالى: {إنه ليس من أهلك إنه عَمَلٌ غيرُ صالحٍ} [هود: 46]، مع قوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214]، فأنذر الكفار، بل قال الله: {فأنجيناه وأهله إلاَّ امرأته} [الأعراف: 83]، فلم تخرج بالكفر من الأهل، فدل على التَّجوز في أحدهما ونحو ذلك، وكذا قوله تعالى: {وَذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبا إن كنتم مؤمنين} [البقرة: 278]، وقوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 83 - 84]، وقوله تعالى للملائكة: {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} [البقرة: 31]، مع قوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، ويقول أهل اللغة: إن كنتَ أبي، أو أمي، أو وَصِيِّي، أو نحو ذلك، ومنه: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ... لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ¬
بيان أن الإيمان لا يبقى في حال العصيان متمكنا في القلب
[الممتحنة: 1 - 6]، وأوضح منه في التمثيل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الحجرات: 4]، مع أن معهم من العقل ما حَسُنَ معه ذمُّهم وتكليفهم، فوضح أنه يلزم الناقص نفي الكل (¬1) مجازاً، ويرجِعُ إلى تنزيل التَّبيان، ومنه قول الرسل: لا عِلْمَ لنا. والذي ظهر لي: أن الإيمان هو التصديق التام، واليقين المثمِرُ لإجلالِ الرب عز وجل، وأن هذا لا يبقى في حال العصيان متمكِّناً في القلب، إذ لو بقي قويَّاً متمكِّناً، لظهر أثره في الامتناع من العصيان، ولذلك شبّه إيمانهم في أحاديث الشفاعة بالمحقِّرات؛ يُظهِرُ ذلك ما رواه الحاكم في الفتن (¬2) عن أبي موسى أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الهرج. قالوا: وما الهرج؟ قال: " القتل ". قالوا: وأكثر مما يُقتَلُ اليوم؟!! إنا لنقتل من المشركين كذا وكذا. قال: " ليس قتل المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضاً " قالوا: وفينا كتاب الله؟! قال: " وفيكم كتاب الله عز وجل ". قالوا: ومعنا عقولنا؟! قال: " إنه ينتزع عقول عامة ذلك الزمان يحسبون أنهم على شيءٍ وليسوا على شيءٍ " سكت عنه الحاكم، وهو من رواية الحسن عن أبي موسى، وهو صالحٌ للتمثيل في التأويل، والله سبحانه أعلم. وأما تحقيق كونه كالظُّلَّةِ، وما هو وما كيفيَّتُه، فأهل السنة لا يتكلمون فيه، ولا يزيدون على الإيمان والتصديق، وأهل الكلام يوجهونه بوجهٍ مجازيٍّ، وليس للمعتزلة في الحديث حجةٌ، لأنه مقيدٌ بنفي الإيمان حال المباشرة، خرجه البخاري ومسلم، ثم يعود كما رواه الحاكم كذلك مرفوعاً، وكذلك رواه الترمذي وأبو داود، وقد مضى هذا قريباً، ولأنه آحادي، والمسألة عندهم قطعيةٌ، ولو كان قطعيَّاً فمعناه (¬3) ظنِّيٌّ معارَضٌ بما قدمناه من إجماعهم على إثبات اشتراط إيمان ¬
المرأة المنكوحة دون عدالتها، لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، ونحو ذلك، والله سبحانه أعلم. فإن قالوا: الحديث قطعي، لأنه متلقىً بالقبول، لأن الكل يرويه، ومنهم من يحتج به، ومنهم من يتأوله، ولأنه من أحاديث البخاري ومسلم. وجميع ما فيهما مُتلقّىً بالقبول. فقد رواه البخاري في المظالم عن سعيد بن عُفيرٍ، وفي الحدود عن يحيى بن بُكيرٍ، كلاهما في الليث، عن عقيلٍ، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشامٍ، عن أبي هريرة، قال الزهري: وحدثني سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة بمثل إسناد حديث أبي بكر هذا، إلاَّ النُّهبة. ذكره المزي (¬1). ورواه مسلمٌ بسند البخاري عن الزهري، عن أبي بكر في الإيمان، ورواه مسلمٌ في الإيمان من طريقٍ واحدةٍ، والنسائي في الأشربة، وفي الرجم من أربع طرقٍ، خمستها عن الأوزاعي، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، إلاَّ طريق النسائي: عن عبد الله بن مخلد النيسابوري، عن محمد بن يوسف، عن الأوزاعي، وأنه جعل فيها رواية الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، لا عن ابن المسيب، والرواية الأخرى رواها أربعةٌ عن الأوزاعي وهم عيسى بن يونس، وأبو المغيرة، والوليد بن مسلم، والوليد بن مزيد. ورواه البخاري ومسلم من حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة " البخاري " في الأشربة، و" مسلم " في الإيمان، وقال عن سعيد، وأبي سلمة، كلاهما به. قال الزهري: وأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: وكان أبو هريرة يُلحق معهن النهبة. ¬
ورواه البخاري ومسلمٌ والنسائي من حديث شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة " البخاري " في المحاربين، و" مسلم " في الإيمان، و" النسائي " في الجنائز، وفي مسلم تصريح الزُّهري بالسماع من شيوخه الثلاثة في هذا ابن المسيب، وأبي سلمة وأبي بكر. وفي ذكر النهبة اضطراب، وفي ذكر كونها ذات شرف. رواه مسلم من طريق صفوان، عن عطاء بن يسار مولى ميمونة، وحميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، من غير طريق الزهري، والأعمش، ورواه أيضاً من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال مسلم: كل هؤلاء بمثل حديث الزهري، غير أن العلاء وصفوان بن سُليمٍ ليس في حديثهما: " يرفع الناس إليه (¬1) فيها أبصارهم "، وفي حديث همام: " يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبُها مؤمنٌ "، وزاد: " ولا يَغُلُّ أحدكم حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم. وفي رواية شعبة عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، قال عقيب الحديث: " والتوبة معروضةٌ بعد ". رواه البخاري ومسلم. فالجواب من وجوه: الوجه الأول: المنع من تلقِّيه بالقبول، ومن تلقي جميع ما في " الصحيحين " بذلك، فقد استثنوا من ذلك ما وقع فيه الاختلاف وأخرجاه مع شهرة الاختلاف فيه، وذلك مثل ما في " مسلم " من حديث أبي الزبير، عن جابر، ومثل ما في " البخاري " من حديث عكرمة، عن ابن عباس، فإن الخلاف في أبي الزبير، وفي عكرمة بين علماء الإسلام، بل بين البخاري ومسلمٍ أشهرُ ¬
من أن يُنكرَ، وقد ذكر في هذا الاستثناء غير واحد من علماء الحديث منهم الحافظ الكبير ابن حجر العسقلاني في شرح مصنفه في علوم الحديث، وهذا الحديث من ذلك، لأن له طريقين: أحدهما: طريق ابن عباس، ومدارها على عكرمة، وكان عكرمة خارجيَّاً، وكذَّبه جماعةٌ من كبراء التابعين وثقاتهم، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، وسعيد بن المسيب، وعطاءٌ، وعلي بن عبد الله بن عباس، قال: إن هذا الخبيث يكذِبُ على أبي، ومحمد بن سيرين، وقال: ما يسوؤني أنه من أهل الجنة، ولكنه كذابٌ. وقال ابن أبي ذئب: رأيتُ عكرمة، وكان غير ثقةٍ. وقال محمد بن سعدٍ: كان من بحور العلم؛ ولا يُحتج بحديثه. وكاد مالكٌ يكرهُ أن يُذكر عكرمة، ولا يرى أن يروى عنه، قال أحمد بن حنبل: ما علمت مالكاً روى عن عكرمة، ولا حدَّثَ عنه بشيء إلاَّ في الرجلِ يطأ امرأته قبل الزيارة. وفي كتاب علي ابن المديني: سمعت يحيى بن سعيد يقول: حدثوني والله عن أيوب أنه ذكر له أن عكرمة لا يُحسِنُ الصلاة، فقال له أيوب: وكان يصلي؟! وقال ابن المديني، عن يعقوب الحضرمي، عن جده: وقف عكرمةُ على باب المسجد، فقال: ما فيه إلاَّ كافر، وكان يرى رأي الإباضية. وقال الفضل السِّيناني عن رجل: رأيت عكرمة قد أُقيمَ قائماً في لعب النرد. وروى سليمان بن معبد السِّنجي (¬1) قال: مات عكرمة وكُثَيِّرُ عَزَّةَ في يومٍ واحدٍ، فشهد الناس جنازةَ كُثَيِّرٍ، وتركوا جنازة عكرمة. وقال عبد العزيز الدراوردي: ما شهدهما إلاَّ سُودان المدينة. وقال إسماعيلُ بن أبي أويس عن مالك، عن أبيه: أُتي بجنازتهما بعد ¬
ذكر ترجمة عكرمة مولى ابن عباس من "مقدمة الفتح" لابن حجر
العصر، فما علمتُ أن أحداً من أهل المسجد حلَّ حَبوتَه إليهما. وترك مسلمٌ حديث عكرمة كما تركه مالك، ولم يخرج له مسلمٌ إلاَّ حديثاً واحداً في الحج مقروناً بسعيد بن جبيرٍ، ذكر ذلك الذهبي (¬1). وقد تعقب جماعةٌ على هؤلاء، وصنَّفوا في الذَّبِّ عنه، منهم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن منده الشيعي، وأبو حاتم بن حبان، وأبو عمر بن عبد البرِّ، وخاتمة الحُفَّاظ، حافظ العصر ابن حجر في " مقدمة شرح البخاري "، وفي ترجمة عكرمة من مختصره " لتهذيب الكمال "، وهذا كلامه في مقدمة " شرح البخاري " (¬2). قال: أما أقوال من وهَّاه، فمدارها على ثلاثة أشياء: على رميه بالكذب، وعلى الطعن عليه برأي الخوارج، وعلى القدح فيه بأنه كان يقبل جوائز السُّلطان. فأما البدعة، فإذا ثبتت عليه، فلا تضرُّ حديثه، لأنه لم يكن داعيةً، مع أنها لم تثبت عليه. وأما قبول الجوائز، فلا يقدح أيضاً، إلاَّ عند أهل التشديد، وجمهور أهل العلم على الجواز، كما صنف في ذلك ابن عبد البر. وأما التكذيب فسنبيِّنُ وجوه ردِّه بعد حكاية أقوالهم، وأنه لا يلزم من شيءٍ منه قدحٌ في روايته. فالوجه الأول فيه أقوال، فأشدُّها ما رُوِيَ عن ابن عمر أنه قال لنافعٍ: لا تكذِبْ عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباسٍ، وكذا ما رُوِيَ عن سعيد بن المسيب أنه قال ذلك لمولاه بردٍ (¬3)، فقد روى ذلك عن إبراهيم بن سعد بن ¬
إبراهيم، عن أبيه، عن ابن المسيِّب، وقال إسحاق بن عيسى بن الطَّبَّاع: سألتُ مالكاً: أبلغك أن ابن عمر قال لنافع: لا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس؟ قال: لا، ولكن بلغني أن سعيد بن المسيب قال ذلك لبردٍ مولاه. وقال جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زياد: دخلت على علي بن عبد الله بني عباس، وعكرمة مقيَّدٌ، فقلت: ما لهذا؟ قال: إنه يكذب على أبي. ورُوِيَ هذا أيضاً عن عبد الله بن الحارث أنه دخل على عليٍّ ... الحديث. وسئل ابن سيرين عنه، فقال: ما يسوؤني أنه من أهل الجنة، ولكنه كذابٌ. وقال عطاءٌ الخراساني: قلت لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوَّج ميمونة، وهو محرِمٌ، فقال: كذب مخبَثَان (¬1). وقال فطر بن خليفة: قلتُ لعطاءٍ: إن عكرمة يقول: سبق الكتاب الخُفَّين، فقال: كذب، سمعت ابن عباس يقول: امسح على الخفين وإن خرجت من الخلاء، ثم طوَّل في الحكاية لأمثال ذلك، إلى قوله في الجواب عنه: أما الوجه الأول، فقول ابن عمر لم يثبُت عنه، لأنه من رواية أبي خلف الجزَّار، عن يحيى البَكَّاء، عن ابن عمر، ويحيى البكَّاء متروك الحديث، قال ابن حبان: ومن المحال أن يُجرَحَ العدل بكلام المجروح، وقال ابن جريج: إن ثبت هذا عن ابن عمر، فهو محتملٌ لأوجهٍ كثيرةٍ، لا يتعيَّنُ منه القدح في جميع رواية عكرمة، فقد يمكن أن يكون أنكر عليه مسألةً من المسائل كذبه فيها - قال ابن حجر: وهو احتمالٌ صحيحٌ، لأنه روي عن ابن عمر أنه أنكر عليه الرواية، عن ابن عباس في الصَّرف، ثم استدل ابن جرير على أن ذلك لا يُوجِبُ قدحاً فيه بما رواه الثقات، عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه لما قيل له: ¬
إن نافعاً مولى ابن عمر حدَّث عن ابن عمر في مسألة الإتيان في المحلِّ المكروه: كذب العبد على أبي، قال ابن جريرٍ: ولم يَرَوْا ذلك من قول سالمٍ في نافعٍ جرحاً، فينبغي أن لا يَرَوْا ذلك من ابن عمر في عكرمة جرحاً، وقال ابن حبان: أهل الحجاز يُطلقون " كذب " في موضع " أخطأ "، ذكر هذا في ترجمة بُرد من كتاب " الثقات " ويؤيد ذلك إطلاق عبادة بن الصامت قوله: كذب أبو محمد، لما أُخْبِرَ أنه يقول: الوِتْرُ واجب، فإن أبا محمد لم يقُلْه روايةً، وإنما قاله اجتهاداً، والمجتهد لا يقال: إنه كذب، إنما يقال: إنه أخطأ. وذكر ابن عبد البر لذلك أمثلةً كثيرةً. وأما قول سعيدٍ بن المسيِّب، فقال ابن جريرٍ: ليس ببعيدٍ أن يكون الذي حُكِيَ عنه نظير الذي حُكِيَ عن ابن عمر. قال ابن حجر (¬1) وهو كما قال، فقد تبيَّنَ من حكاية عطاء الخراساني عنه في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - بميمونة ولقد ظُلِمَ عكرمة في ذلك، فإن هذا مرويٌّ عن ابن عباس من طرقٍ كثيرة أنه كان يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرمٌ. ونظير ذلك ما تقدم عن عطاءٍ وسعيد بن جبيرٍ. ويقوي صحة ما حكاه ابن حبان أنهم يطلقون الكذب في موضع الخطأ ما سيأتي عن هؤلاء من الثناء عليه والتعظيم له، فإنه دالٌّ على أن طعنهم عليه إنما هو في هذه المواضع المخصوصة. وكذا قول ابن سيرين: الظاهر أنه طعن عليه من حيث الرَّأي، وإلا فقد قال خالدٌ الحذَّاء: كل ما قال ابن سيرين نُبِّئْتُ عن ابن عباسٍ، فإنما أخذه عن عكرمة، وكان لا يسميه، لأنه لم يكن يرضاه. وأما رواية يزيد بن أبي زياد عن علي بن عبد الله بن عباس في تكذيبه، فقد ردها أبو حاتم ابن حبان بضعفِ يزيد، وقال: إن يزيد لا يُحتَجُّ بنقله، وهو كما قال. ¬
وأما ما رُوِيَ عن يحيى بن سعيد الأنصاري في ذلك، فالظاهر أنه قلَّدَ سعيد بن المسيب. وأما قصة القاسم بن محمد، فقد بيَّن سببها، وليس بقادحٍ، لأنه لا مانع من أن يكون عند التَّبحُّر في العلم في المسألة القولان، والثلاثة، فيخبر بما يستحضر منها، ويؤيد ذلك ما رواه ابن هبيرة، قال: قدم علينا عكرمة مصر، فجعل يحدثنا بالحديث عن الرجل من الصحابة، ثم يحدثنا بذلك الحديث عن غيره، فأتينا إسماعيل بن عبيد الأنصاري، وقد كان سَمِعَ من ابن عباس، فأخبره بها على مثل ما سمع، ثم قال: ثم أتيناه، فسألناه، فقال: الرجل صدوقٌ، ولكنه سمع من العلم، فأكثر، فكلما سنح له طريقٌ سلكه. وقال أبو الأسود: كان عكرمة قليل العقل، وكان قد سمع الحديث من رجلين، فكان إذا سُئِلَ حدث به عن رجلٍ، ثم يسأل عنه بعد حينٍ فيُحدِّثُ به عن الآخر، فيقولون: ما أكذبه! وهو صادقٌ. وقال سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، قال أيوب: قال عكرمة: هؤلاء الذين يكذبوني [من خلفي]، أفلا يكذبوني في وجهي؟ يعني: أنهم إذا واجهوه بذلك، أمكنه الجواب عنه، والمخرج منه. وقال سليمان بن حرب: ووجه هذا أنهم إذا قرَّرُوه بالكذب، لم يجدوا عليه حجةً. إلى قوله: وأما ذمُّ مالكٍ له، فقد تبيَّنَ سببه، وإنه لأجل ما رُمِيَ به من أجل بدعة الخوارج، وقد جزم بذلك أبو حاتمٍ، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عكرمة، فقال: ثقةٌ، فقلت: يُحتجُّ بحديثه؟ قال: نعم، إذا روى عنه الثقات، والذي أنكر عليه مالك، إنما هو بسبب رأيه، على أنه لم يثبُت عنه من وجهٍ قاطعٍ، وإنما كان يُوافق في بعض المسائل، فنسبوه إليهم، وقد كان برَّأه أحمد والعجلي من ذلك، فقال في كتاب " الثقات " له: عكرمة مكيٌّ تابعيٌّ ثقةٌ، بريءٌ
مما يرميه الناس به من رأي الحرورية، وقال ابن جرير: لو كان كل من ادُّعِيَ عليه مذهبٌ من المذاهب الردية ثبت عليه ما ادُّعِيَ به وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك، للَزِمَ ترك أكثر محدثي الأمصار، لأنه ما منهم إلاَّ وقد نسبه قومٌ إلى ما يرغب به عنه. وأما قبوله لجوائز الأمراء، فليس ذلك بمانعٍ من قبول روايته. إلى قوله: وإذ قد فرغنا من الجواب عما طُعِنَ عليه به، فلنذكر ثناء الناس عليه من أهل عصره، وهلمَّ جراً. قال محمد بن فضيل، عن عثمان بن حكيمٍ: كنت جالساً مع أبي أُمامةَ بن سهلِ بن حُنيفٍ، إذ جاء عكرمة، فقال: يا أبا أُمامة، أذكرك الله، هل سمعت ابن عباس يقول: ما حدثكم به عني عكرمة فصدقوه، فإنه لن يكذب عليَّ؟ فقال أبو أمامة: نعم. وهذا إسنادٌ صحيحٌ. وقال يزيد النحوي، عن عكرمة، قال لي ابن عباس: انطلق، فأفتِ النَّاسَ. وحكى البخاري عن عمرو بن دينارٍ، قال: أعطاني جابر بن زيدٍ صحيفة فيها مسائلُ عن عكرمة، فجعلت كأني أتبَاطأ، فانتزعها من يدي، وقال: هذا عكرمة مولى ابن عباسٍ، هذا أعلم الناس. وقال الشعبي: ما بقي أحدٌ أعلم بكتاب الله من عكرمة. وقال حبيب بن أبي ثابتٍ: مرَّ عكرمة بعطاءٍ وسعيد بن جبير، قال: فحدثهم، فلما قام، قلت لهما: تُنكران مما قال شيئاً؟ قالا: لا. وقال أيوب: حدثني فلان، وقال: وكنتُ جالساً إلى عكرمة وسعيد بن جبير وطاووس، وأظنه قال: وعطاء في مصر، وعكرمة صاحب الحديث يومئذٍ، وكأن على رؤوسهم الطير، فما خالفه منهم أحد إلاَّ سعيد، خالفه في مسألةٍ واحدة،
وقال أيوب: أرى ابن عباسٍ كان يقول القولين جميعاً. وقال حبيبٌ أيضاً: اجتمع عندي خمسةٌ: طاووسٌ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، فأقبل مجاهدٌ وسعيدٌ يُلقيان على عكرمة المسائل، فلم يسألاه عن آيةٍ إلاَّ فسَّرَها لهما، فلما نَفَدَ ما عندهما، جعل يقول: نزلت آية كذا في كذا، ونزلت آية كذا في كذا. وقال ابن عيينة: كان عكرمة إذا تكلم في المغازي، فسمعه إنسانٌ قال: كأنه مُشرفٌ عليهم يراهم. قال: وسمعنا أيوب يقول: لو قلت لك: إن الحسن ترك كثيراً من التفسير حين دخل عكرمة البصرة حتى خرج منها، لصدقت. وقال عبد الصمد بن مَعْقِل: لما قَدِمَ عكرمة الجَنَدَ، أهدى له طاووس نجيباً بستين ديناراً، فقيل له في ذلك، فقال: ألا أشتري علم ابن عباس لعبد الله بن طاووس بستين ديناراً؟ وقال الفرزدق بن خراش: قدم علينا عكرمةُ مروَ، فقال لنا شهر بن حوشب: ائتُوه، فإنه لم تكن أمة إلاَّ كان لها حَبْرٌ، وإن مولى ابن عباس هذا حبر هذه الأمة. وقال جرير بن مغيرة: قيل لسعيد بن جبير: تعلمُ أحداً أعلم منك؟ قال: نعم، عكرمة. وقال قتادة: كان أعلم التابعين أربعةٌ، فذكره فيهم. قال: وكان أعلمهم بالتفسير. وقال معمر عن أيوب: كنت أريد أن أرحل إلى عكرمة، فإني لفي سوق البصرة، إذ قيل لي: هذا عكرمة، فقمت إلى جنب حماره، فجعل الناس يسألونه وأنا أحفظ. وقال حماد بن زيدٍ: قال لي أيوب: لو لم يكن عندي ثقةٌ، لم أكتب عنه.
وقال يحيى بن أيوب: سألني ابن جريجٍ: هل كتبتم عن عكرمة؟ قلت: لا، قال: فاتكم ثُلُثُ العلم. وقال حبيبُ ابن الشهيد: كنت عند عمرو بن دينارٍ، فقال: والله ما رأيتُ مثل عكرمة. وقال سلام بن مسكين: كان عكرمة من أعلم الناس بالتفسير. وقال الثوري: خذو التفسير عن أربعةٍ، فبدأ به. وقال البخاري: ليس أحدٌ من أصحابنا إلاَّ احتج بعكرمة. وقال جعفر الطيالسي، عن ابن معين: إذا رأيتَ إنساناً يقع في عكرمة، فاتهمه على الإسلام. وقال عثمان الدارمي: قلت لابن معين: أيما أحب إليك: عكرمة عن ابن عباس، أو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنه؟ قال: كلاهما، ولم يختر. قلت: فعكرمة وسعيد بن جبير؟ قال: ثقةٌ وثقةٌ، ولم يختر. قال النسائي في " التمييز " وغيره: ثقة. وتقدم توثيق أبي حاتم والعجلي. وقال المروزي: قلت لأحمد بن حنبل: يحتج بحديثه؟ قال: نعم، وقال أبو عبد الله محمد بن نصرٍ المروزي: أجمع عامة أهل العلم على الاحتجاج بحديثه (¬1)، واتفق على ذلك رؤساء أهل العلم بالحديث من أهل عصرنا، منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور ويحيى بن معين، ولقد سألت إسحاق عن الاحتجاج بحديثه؟ فقال: عكرمة عندنا إمام الدنيا، وتعجب من سؤالي إيَّاه، وقال: حدثنا غير واحدٍ أنهم شهدوا يحيى بن معين، وسأله بعض الناس عن الاحتجاج بعكرمة، فأظهر التَّعجُّبَ. ¬
وقال علي بن المديني: كان عكرمة من أهل العلم، ولم يكن من موالي ابن عباس أغزر علماً منه. وقال ابن مندَة: قال أبو حاتم: أصحاب ابن عباسٍ عيالٌ على عكرمة. وقال البزار: روى عن عكرمة مئة وثلاثون رجلاً من وجوه البلدان، كلهم رضوا به. وقال العباس بن مصعب المروزي: كان عكرمة أعلم موالي ابن عباس وأتباعه بالتفسير. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان عكرمة من أثبت الناس فيما يروي، ولم يحدث عمن دونه أو مثله، أكثر حديثه عن الصحابة. وقال أبو جعفر بن جرير: ولم يكن أحد يدفع عكرمة في العلم بالفقه، وبالقرآن، وتأويله، وكثرة الرواية بالآثار، وأنه كان عالماً بمولاه، وفي تقريظ جِلَّةِ أصحاب ابن عباس إياه، ووصفهم له بالتقدم في العلم، وأمرهم الناس بالأخذ عنه. ما بشهاده بعضهم تثبت عدالة الإنسان، ويستحق جواز الشهادة، ومن ثبتت عدالته، لم يقبل فيه الجرح، وما تسقط العدالة بالظن. وبقول فلان لمولاه: لا تكذب علي، وما أشبهه من القول الذي له وجوه وتصاريف ومعانٍ غير الذي وجَّهه إليه أهل الغباوة، ومن لا علم له بتصاريف كلام العرب. وقال ابن حبان: كان من علماء زمانه بالفقه والقرآن، ولا أعلم أحداً ذمَّه بشيءٍ، يعني: يجب قَبُولُه والقطع به. وقال ابن عدي في " الكامل "، ومن عادته فيه أن يخرِّج الأحاديث التي أُنكِرَتْ على الثقة، أو على غير الثقة، فقال فيه بعد أن ذكر كلامهم في عكرمة: ولم نُخرِّجْ هنا من حديثه شيئاً، لأن الثقات إذا رَوَوْا عنه، فهو مستقيم الحديث، ولم يمنع الأئمة، وأصحاب الحديث من تخريج حديثه وهو أشهر من أن أخرِّجَ له شيئاً من حديثه.
وقال الحاكم أبو أحمد في " الكنى ": احتج بحديثه الأئمة (¬1) القدماء، لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيِّز الصحاح احتجاجاً بما سنذكره، ثم ذكر حكاية نافعٍ. وقال ابن منده: أما حال عكرمة في نفسه، فقد عدَّله أمةٌ من التابعين، منهم زيادةٌ على سبعين رجلاً من خيار التابعين ورفعائهم، وهذه منزلةٌ لا تكاد توجد لكبير أحدٍ من التابعين على أن من جرَّحَه من الأئمة لم يُمْسك عن الرواية عنه، ولم يستغن عن حديثه، وكان حديثه يُتَلَقَّى بالقبول قرناً بعد قرنٍ إلى زمن الأئمة الذين أخرجوا الصحيح، على أن مسلماً كان أسوأهم رأياً فيه، وقد أخرج له مع ذلك مقروناً. وقال أبو عمر بن عبد البر: كان عكرمة من جِلَّّةِ العلماء ولا يقدح فيه كلام من تكلم فيه، لأنه لا حجة مع أحد يتكلم فيه. وكلام ابن سيرين فيه لا خلاف بين أهل العلم أنه كان أعلم بكتاب الله من ابن سيرين، وقد يظن الإنسان ظناً يغضب له، ولا يملك نفسه، قال: وزعموا أن مالكاً أسقط ذِكرَ عكرمة من " الموطأ " لا أدري ما صحته، لأنه قد ذكره في الحج، وصرَّح باسمه، ومال إلى روايته في ابن عباسٍ، وترك رواية عطاء في تلك المسألة، مع كونه عطاء أجلَّ التابعين في علم المناسك، والله أعلم. قال الحافظ ابن حجر: وقد أطلنا القول في هذه الترجمة، وإنما أردنا بذلك جمع ما تفرق من كلام الأئمة في شأنه، والجواب عما قيل فيه، والاعتذار للبخاري في الاحتجاج بحديثه، وقد صحَّ صحةُ تصرفه في ذلك. والله أعلم. انتهى كلام الحافظ ابن حجر مع اختصار شيءٍ منه. ومع أنه اختصره كما صرح به في أول كلامه، وإنما أوردته ليعلم من وقف عليه من جهَلَةِ قدر علماء الآثار وسَعَة علومهم واطلاعهم، وما ترتب عليه تصحيحهم للحديث وتضعيفهم ¬
تبادر كثير من أهل العلم إلى القطع بالتكذيب حين يسمعون المستبعدات
من البحث الطويل، والبُعْدِ الكثير، والجمع بين المختلفات، والتَّحرِّي والإنصاف وتوفية الاجتهاد حقه في طلب الظن الأقوى، وتمهيد قواعد ذلك حسب الإمكان. وقد يعضد من وقف على تصحيح حديثه بأن مدار الجواب على الحمل على السلامة، ولو بالتأويل الممكن المرجوح لقرائن تُصَيِّرُ ذلك المرجوح راجحاً عند من وثَّقه، وتلك القرائن ثبوت عدالته، وكثرة الثناء عليه، مع أن القدح لم يكن بأمرٍ قطعيٍّ لا يحتمل التأويل. ويقوي هذا العذر لمن وثقه: ما عُلِمَ من طباع البشر في سوء الظن بمن عَلِمَ ما لا يعلمون، أو روى ما لا يعرفون، وكفى في ذلك بقصة الخَضِر مع موسى عليه السلام، فإنه لما رأى منه ما لا يعرف له وجهاً، قطع ببادىء الرأي بقبحه وإنكاره، ولم يصبر، مع أن الله تعالى هو الذي أخبره عن تفضيل الخضر عليه في العلم، ومع ما تقدم من تحذير الخضر له من عدم الصبر ومن وعده بالصبر، ثم أعجب من هذا: تكرُّرُ هذا منه، وعدم اعتباره (¬1) بالمرة الأولى، وهذه القصة -كما قيل- تكُفُّ كفَّ الاعتراض على الأعلم (¬2). ومن ذلك حديث بريدة في قصة السبِيَّة التي أخذها علي عليه السلام من المغنم، ووطئها، فأنكروا ذلك عليه، وكتبوا مع بُريدة كتاباً بذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قاطعين بقُبحه، حتى ذبَّ عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث معروف في " البخاري "، و" مسند أحمد " وغيرهما (¬3). وهذا بابٌ واسعٌ، لو بسطته، لطال الكلام، والقليل يكفي المنصف عِبْرَةً. وقد تبادر كثيرٌ من أهل العلم إلى القطع بالتكذيب حين يسمعون المستَبْعَدات، وقد كان عمر بن الخطاب من أسوأ الناس ظنَّاً بمن روى ما لا ¬
يعرفه، وقد توعد أبا موسى بالضرب إن لم يأته بشاهدٍ على حديث الاستئذان، فجاء إلى الأنصار مذعوراً، فقالوا: لا يقوم معك إلاَّ أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري، فشهد له بذلك، فعَجِبَ عمر من خَفاءِ ذلك عليه من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولم يقبل عمر حديث عمار في تيمُّم الجُنُب، ونسي ذلك، مع أنه كان معه، وقال له: اتق الله يا عمَّار، ومن مثلُ عمار، ولجلالة عمار أَذِنَ له عمر في رواية الحديث مع نسيانه له، وقال له: قد ولَّيناك ما تولَّيت (¬2)، ووقف مع ذلك عن العمل به. وكذا ترك حديث فاطمة بنت قيسٍ لمعارضته لكتاب الله تعالى (¬3)، وهو خاصٌّ مفسِّرٌ لا معارض، والمصير إليه واجبٌ على مقتضى قواعد الأصول الفقهية، ولذلك قلَّتِ الرواية في أيام خلافته، ولذلك كَرِهَ أهل الحديث الرواية عن الأحياء، لأنهم قد ينسون كما نسي عمر، فيكذِّبُون من روى عنهم، فيؤخذ بكلامهم، لغَلَبَة سوء الظن على الطبائع، ولا يلتفت إلى المحامل الحسنة. وقد أوضحت وجه الحجة في هذا المقام في كتابي في علوم الحديث في الكلام على تقديم (¬4) الراجح من الجرح والتعديل وعدم إطلاق تقديم الجرح، وكيف يسوغ ذلك (¬5)، وقد رأينا الكلام لا يكثر إلاَّ في الأعيان المفضلين، فما سُبَّ من على المنابر من الصحابة إلاَّ خَيرُهم، ولا خُصَّ بالرفض والنَّصب إلا أهل المراتب الرفيعة منهم. أفيقال: إن من كفَّرَهم وسبَّهم أولى، لأنه مُثْبِتٌ ومُطَّلِعٌ؟ بل الواجب النظر والبحث عن الخبر، والجمع بين المتفرقات، وترك التعصب، والبناء على قواعد العلم المشهورة. وأما من غَلَّبَ الجرح في حق عكرمة، فتمسك بالقاعدة المشهورة في ¬
أصول الفقه وفي الفقه، وهي: أن المُثبِتَ أولى من النافي، والجارح مقدَّمٌ على المعدل، لأنه أثبت أمراً عَرَفَه، والمعدِّل محمول على عدم معرفة ذلك، وهذا عندهم من قبيل الجمع، وهو مقدمٌ على الرد. والجواب عليهم: أنه لم يقع ردٌّ ولا تكذيبٌ لأحد من الثقات ممن وثَّق عكرمة، ولا ممن كذَّبه، بل حُمل المكذب على أنه سمى الخطأ كذباً، أو قال قولاً يظن أنه فيه بارٌّ صادقٌ على حسب ظنِّه واجتهاده، فالكل من قبيل الجمع، لا من قبيل الرد. وإذا كان كذلك، فكلٌّ يعمل في الجمع بما يترجَّح في اجتهاده، ولا حرج، لكن يلزم المعتزلة البقاء على قاعدتهم في تقديم الجرح، فيبطل عليهم الاحتجاج بحديث عكرمة في الفروع الظنية كيف في المسائل القطعية؟ والله يحب الإنصاف، وخصوصاً قبوله فيما يُقوِّي بدعته، لأنه قد اتُّهم ببدعة الخوارج، وصح عنه أنه وافقهم في بعض أقوالهم، وإنما دفع عنه المجيبون موافقتهم في الجميع. وقد اتُّهم بتكفير أهل الذنوب من المسلمين، وهو أقوى ما نُقِمَ عليه، وأكثر ما جرَّأهم على الوقيعة فيه، فقال ابن لهيعة (¬1) عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن يتيم عروة: كان عكرمة حين أتى نجدة الحروري، فأقام عنده تسعة أشهرٍ، ثم رجع إلى ابن عباس، فسلم عليه، فقال: جاء الخبيث، قال: فكان يحدِّثُ برأي نجدة. قال: وكان -يعني نجدة- أوَّل من أحدث رأي الصُّفريَّة. قال الجوزجاني: قلت لأحمد بن حنبل: أكان عكرمة إباضياً؟ فقال: يقال: إنه كان صُفرياً. وقال أبو طالب، عن أحمد: كان يرى رأي الخوارج الصفرية. وعنه أخذ أهل إفريقية، وقال علي ابن المديني: يقال: إنه كان يرى برأي نجدة، وقال يحيى بن معين: كان ينتحلُ مذهب الصُّفريَّة، ولأجل ذلك تركه مالكٌ، وقال مصعبٌ الزبيريُّ: كان يرى رأي الخوارج، وزعم أن عليَّ بن ¬
عبد الله كان على هذا المذهب. قال مصعبٌ: وطلبه بعض الولاة بسبب ذلك، فتغيَّب عند داود بن الحصين إلى أن مات، وقال خالد بن أبي عمران المصري: دخل علينا عكرمة إفريقية وقت الموسم، فقال: ودِدْتُ أني اليوم بالموسم بيدي حربةٌ أطعَنُ بها يميناً وشِمالاً. وقال أبو سعيد بن يونس في " تاريخ الغرباء ": إلى وقتنا هذا قومٌ على مذهب الإباضية، يعرفون بالصُّفريَّة، يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن عكرمة. وقال يحيى بن بُكَيْرٍ: قدم عكرمةُ مصرَ، وترك بها داراً. وخرج إلى المغرب، فالخوارج الذين بالمغرب عنه أخذوا. وروى الحاكم في " تاريخ نيسابور " عن يزيد النحوي، قال: كنت قاعداً عند عكرمة، فأقبل مقاتل بن حيَّان وأخوه، فقال مقاتلٌ: يا أبا عبد الله، ما تقول في نبيذ الجرِّ؟ فقال عكرمة: هو حرامٌ، قال: فما تقول فيمن شربه؟ قال أقول: إنَّ كلَّ شَربةٍ منه كفرٌ. قال يزيد: والله لا أدعه. قال فوثب مغضباً، قال: فلقيته بعد ذلك في مفازَة فرد، فسلمت عليه، وقلت له: كيف أنت، قال: بخيرٍ ما لم أرك! وقال الدراوردي: توفِّي عكرمة وكُثَيِّرُ عزةَ في يومٍ واحدٍ، فعجب الناس لموتهما، واختلاف رأيهما: عكرمة يُظَنُّ به رأيُ الخوارج، يكَفّرُ بالذنب، وكُثَيِّرٌ شيعيٌّ يؤمن بالرَّجعة إلى الدنيا. ذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر (¬1). وفيه أنه كان داعيةً إلى مذهب الصُّفريَّة، وإماماً فيه، فكيف قبلتِ المعتزلة حديثه الذي يُقَوِّي بدعته، وهم أبعد الناس عن قبول الثقات الذين لم يُقْدَحْ فيهم فيما هو من القطعيَّات عندهم، بل قول البغدادية منهم برد أحاديث الثقات في الفروع الظنية. وقول شيخ الاعتزال أبي علي الجُبَّائيِّ بأنه لا يقبل الثقة الواحد في الحديث، كالشهادة، ولهم قواعد ¬
تقتضي ألا يحتج بحديث عكرمة هذا من جهاتٍ شتى. وفي " ميزان الذهبي " (¬1) نجده بن أبي عامر الحَرُوري، من رؤوس الخوارج، زائغٌ عن الحق، ذكره الجوزجاني في " الضعفاء ". وفي " صحاح الجوهري " (¬2): والصُّفريَّة -بالضم- صنفٌ من الخوارج، نُسِبُوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم (¬3) وزعم قومٌ أن الذي (¬4) نُسِبُوا إليه عبد الله بن الصَّفَّار، وأنهم الصِّفرية -بكسر الصَّاد- في " ضياء الحلوم ": سُمُّوا بذلك لصُفْرَة أبدانهم من الصيام والعبادة. وقيل: بكسر الصاد، لأن رئيسهم خاصم رجلاً، فقال: أنت صِفْرٌ (¬5) من الدين، فسمي (¬6) بذلك. ولم يذكر الذهبي في " ميزانه " زياد بن الأصفر، ولا عبد الله بن الصَّفَّار، لأنهما ليس لهما رواية. وقال أهل كتب المقالات: مذهبُ الصُّفريَّة. وأما حديث أبي هريرة الذي يشهد (¬7) له، فأصول المعتزلة تقتضي ألا يحتج به لوجوه: أولها: أن المسألة عندهم قطعية، والحديث أحادي. وثانيها: إن مداره على سعيد المقبُري، وقد قال ابن سعد: ثقة، لكنه اختلط قبل موته بأربع سنين، وأتاه ابن عيينة، فرأى لُعابَه يَسيلُ، فلم يأخذ عنه. ذكر ذلك الذهبي (¬8)، وقال: ما أظن أحداً أخذ عنه بعدما اختُلِطَ. ¬
وقال ابن حجر في " مقدمة شرح البخاري " (¬1): مجمَعٌ على ثقته، لكن كان شعبة يقول: حدثنا سعيدٌ المقبُري بعد أن كَبِرَ، وزعم الواقدي أنه اختُلِطَ قبل موته بأربع سنين، وتبعه ابن سعدٍ ويعقوب بن شيبة وابن حبان، وأنكر ذلك غيرهم وقال الساجي: [عن يحيى بن معين: أثبت الناس فيه ابن أبي ذئب. وقال ابن خراش: أثبت الناس الليث بن سعد] (¬2). قال ابن حجر: أكثر ما روى له البخاري من حديث هذين عنه، وأخرج له أيضاً من حديث مالكٍ وإسماعيل بن أُمَيَّة، وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهم من الكبار، وروى له الباقون، لكن لم يُخرجوا من حديث شعبة عنه شيئاً. قلت: لكونه صرَّح بأنه أخذ عنه بعدما كبر، والذي ظنه (¬3) الذهبي صحيحٌ بعد تبيُّنِ الاختلاط، ولكن يجيءُ قليلاً قليلاً، فربما أخذ عنه في أوائله قبل تحقُّقه. والمعتزلة تقدم الجرح مطلقاً، وتُغَلَّبُ جانب الحظر في مثل هذا، وليس لهم بحث عمن (¬4) أخذ عنه قبل أوائل الاختلاط، ومن أخذ عنه بعد ذلك، ولا عن الشواهد والتوابع، ولذلك لو قيل للمتكلمين منهم: هل تُفَرِّقُ بين رواية شعبة عن المقبُرِيِّ، ورواية من أخذ عنه قديماً، لم يفرقوا بين ذلك، فليس لهم أن يحتجوا بحديثه، ولا أن يقلدوا أهل الحديث في مسألةٍ قطعيةٍ، مع انتقاصهم لهم، وقدح كثيرٍ منهم فيهم. وثالثها: أن أبا هريرة متكلَّمٌ عليه مجروحٌ عندهم مُكَذَّبٌ، كما ذكره ابن أبي الحديد وطول فيه، وأفحش في شرح قول علي عليه السلام لأصحابه: أما إنه سيظهر عليكم رجل رَحْبُ البلعوم إلى آخر ما ذكره (¬5). ¬
وقال شيخهم أبو الحسين: إنه مُغَفَّلٌ، يعني كثير الوهم (¬1)، سيىء الحفظ، فخالف إجماع العارفين بهذا اللسان (¬2)، وقد نسبه ابن أبي الحديد إلى تعمُّد الكذب، وصرَّح بجرحه عند شيوخهم. فالعجب منهم كيف يحتجون بحديثه في القطعيات عند الحاجة إلى ذلك! ورابعها: أن للحديث علةً على أصول الجميع، وهي (¬3) أنه لم يصرِّح أبو هريرة بالسَّماع في هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كان روى حديث فطر مَنْ أصبح جُنُبَاً، فلما خالفته أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: حدثني بذلك الفضل بن العباس (¬4)، فدل على أنه قد يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويُسقط واسطةً، ولو لم يكن صحابياً، لعده المحدِّثُون مُدَلِّساً، بل قد قال بذلك إمام المحدثين شعبة بن الحجاج الحافظ، رواه عنه يزيد بن هارون، قال: سمعته من شعبة. رواه عنه الذهبي في ترجمة أبي هريرة من " النبلاء " (¬5) بصيغة الجزم، ثم قال: تدليس الصحابة كثيرٌ، ولا عيب فيه، فإنه عن صاحب أكبر منهم، وهم كلهم عدول. وفيه نظر إذ أمكن واحتمل أن تدليس بعضهم عن تابع مختلفٍ فيه مثل ما نحن فيه، وهذا بيِّنٌ. وقد كان معاصراً لعكرمة مخالطاً له (¬6)، وأحدهما راوٍ عن الآخر، ذكره المزِّي في " تهذيب الكمال " في ترجمة أحدهما، أو في ترجمتيهما، ومن رويا عنه. وقد ذكر ابن الحاجب في " مختصر المنتهى " (¬7) خلافاً بين أهل (¬8) الأصول في قول الصحابي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هل هو واجب القبول، أو لا بد من أن ¬
يقول: سمعته (¬1)، أو أخبرني أو حدثني؟ واختار أنه محمولٌ على السماع، وأن ذلك ينبني على عدالة الصحابة. قلت: قد ادعى ابن عبد البر (¬2) الإجماع على قبول مُرْسَلٍ الصحابي، وعلَّل ذلك بتحقُّق أن الواسطة المحذوف صحابيٌّ، وأن الصحابة كلهم عدولٌ، وهذا ظاهرٌ على أصول المحدِّثين دون المعتزلة، وكذا متى جوز أن الواسطة غير صحابي مثل هذا الحديث ولا إجماع. وذكر ابن حجرٍ أنه قد يكون بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين الصحابي وسائطُ كثيرةٌ، ذكره في " علوم الحديث ". فاحتمل حينئذٍ أن يكون أبو هريرة سَمِعَه من عكرمة عن ابن عباس، فرواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعضله بذلك، كما حذف الفضل في حديث " من أصبح جُنباً " وهذا احتمالٌ قريبٌ، فكيف تُعارَضُ الآيات القرآنية التي لا يأتي عليها العدد، وما لا يُحصى من الحديث الذي لا علَّةَ له بمثل هذا من لا يلتفت إلى الأخبار التي لا مقال فيها، ويعتذر عن متواتراتها بأنها آحادٌ، حتى إذا احتاج إلى آحادها المُعَلَّة على قواعده، احتج بها، فما هذا عمل العارفين، ولا عمل المُتناصفين، فالله المستعان. ويؤيد ما ذكرته من الاحتمال أن المِزيَّ ذكر (¬3) في ترجمة فُضيل بن غزوان، عن عكرمة عن ابن عباسٍ من " الأطراف " (¬4) ما يدلُّ على اضطراب عكرمة فيه، كما تقدم، فرواه مرَّةً عن أبي هريرة موقوفاً، ومرة عن أبي هريرة وابن عباس وابن عمر مرفوعاً، وفى الأكثر عن ابن عباسٍ، فلعله رواه لأبي هريرة وابن عُمَرَ، ثم سمعهما يرويانه مرسلاً، فرواه عنهما تقويةً لمذهبه، وقد روى عنه البخاري في ¬
فصل في الفرق بين الإيمان والإسلام والإحسان
كتاب المحاربين ذكر التوبة، فما مثله بمؤتمن على التَّفرُّد، ومخالفة غيره في هذا. وهذا على أن الحديث -على تسليم صحته- مخالفٌ لمذهب الخصوم حيث قَيَّدَ نفيَ الإيمان بحال مُباشَرَةِ العصيان، وصرح الحاكم والترمذي وأبو داود برفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه الترمذي عن محمد بن علي الباقر، وأكثر سادات العترة عليهم السلام كما مضى بيانه، ولو أراد نفي الإيمان مُطلقاً، ولم يقيِّدْهُ، ولا أطلقه كما أطلق الله لعنَهُ على اليهود حيث قال: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43]. فصل في الفرق بين الإيمان والإسلام والإحسان وبيان أن الإيمانَ سريرةٌ، والإسلام علانيةً، كما رواه أحمد في " مسنده " (¬1) من حديث أنس مرفوعاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن المكلفين كافرٌ ومؤمنٌ، كما قال الله تعالى: {هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، وبيان ما عضد ما قدمنا من القرآن الكريم، وفسَّره وبيَّنه من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما بيَّن الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر شرائع الإسلام، فلم تزل السنن النبوية تأتي بزيادة البيان وتخصيص العموم، وتفسير المُجْمَل، وعلى ذلك علماء الإسلام الصحابة، والتابعون، ثم سائر القرون، حتى انبعثت (¬2) فرقةٌ من فِرَقِ المعتزلة، فمنعت السنن الواردة في هذه المسألة بخصُوصها، وادعت أنها قطعيةٌ لا تقبل فيها الآحادُ، وبلغت الأخبار في مخالفتهم مبلغ التواتر المجمع عليه، وزادت (¬3) ¬
على ذلك، وهم مصرُّون لجهلهم بالأخبار على تسميتها (¬1) آحاداً. وهم صادقون من وجهٍ دون وجهٍ، وذلك أنها آحادٌ بالنظر إليهم وإلى أمثالهم من العامة، فإن العالم المبرِّزَ في الكلام جاهلٌ في غير فنِّه، مثلما أن الإمام المحدث الحافظ جاهلٌ بعلم الكلام. ثم إن هذه الطائفة من المعتزلة مع منعهم من الاحتجاج في هذه المسألة بالآحاد، احتجُّوا بها، وناقضوا، وتارة منعوا من ذلك بغير حجةٍ صحيحةٍ من عقلٍ ولا سمعٍ ولا لُغةٍ ولا أثارةٍ من علمٍ يدل على ما ادَّعُوهُ من كون العموم يفيد القطع فيما طريقه الخبر، ويفيد الظن فيما طريقه الإنشاء، وهو الأمر والنهي، بل العموم ظنيٌّ في الموضعين كما قدمنا الأدلة عليه، وأنه قابلٌ للتخصيص، كما يوافقون على ذلك حيث تكون الحجة لهم كما تقدم. فانظر الآن بإنصافٍ إلى بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن يُسمَّى (¬2) مؤمناً ومن يسمى مسلماً، حتى تعلم أنه قد تناولهم جميع ما وعد الله المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات من الرحمة والمغفرة، وتكفير السيئات بالحسنات، والخلود بفضله في الجنات، بعد أن ينتصف لبعضهم من بعض في المظالمات، ويعذِّبَ من يشاء منهم على ارتكاب المُوبقات، حتى يشفع لهم نبيُّهم صاحب المقام المحمود عليه أفضل الصَّلوات. فمن ذلك إجماع الأمة المعلوم المقطوع به على أن الإسلام الذي يَجُبُّ ما قبله، ويُوجِبُ الموارثة، ويُحِلُّ المناكحة، ونحو ذلك من الأحكام هو (¬3) ما ذهب (¬4) إليه (¬5) أهلُ السنة. ¬
ومن ذلك: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، مع قوله: {ومَنْ يَرْتَدْ منكم عن دينه} [البقرة: 217]، وأجمعت الأمة على أن الرِّدَّة لا تصح بمجرد الكبيرة حتى تكون كفراً. ومن ذلك: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد ... لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين} [الكافرون]، فدل على أن الدين عبادة الله وحده، كما جاء صريحاً في حديث معاذٍ في حق الله على العباد، وحق العباد على الله (¬1). ويقيِّدُ الدين والإسلام شروط كمالٍ، من تركها استحق العقاب، ولم يكن مرتداً من الإسلام، ومن ذلك ما ذكره ابن الأثير أبو السعادات في " جامع الأصول والأمهات " (¬2)، فقال رحمه الله: الفصل الأول في تحقيقهما وأركانهما: عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر بن الخطاب: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياض الثِّياب شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفُهُ منَّا أحدٌ، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه (¬3)، ووضع كفَّيه على فَخِذَيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. قال - صلى الله عليه وسلم -: " الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً ". قال: صدقت، فعَجِبْنا له يسأله ويُصَدِّقُه، قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: " أن تُؤْمِنَ بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ... الحديث إلى قوله: ثم انطلق، فلبث ملياً (¬4)، ثمَّ ¬
قال: " يا عمرُ، أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " فإنه جبريل جاءكم يُعلِّمُكم دينكم ". قال الحميدي: جمع مسلمٌ فيه الرواة، وذكر ما أوردنا من المتن، وأن في بعض الروايات زيادةً ونقصاناً، وأخرجه الترمذي بنحوه، وتقديم بعضه وتأخيره، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وأخرجه أبو داود بنحوه في رواية: " والاغتسال من الجنابة " (¬1). وروى البخاري ومسلمٌ معاً حديثاًً ثانياً نحو هذا من حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وروى أبو داود والنسائي حديثاًً ثالثاً نحو هذا من حديث أبي ذرٍّ وأبي هريرة معاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنحو ما تقدَّم وأتمَّ منه (¬3). وأخرجه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬4). وقال: رواه أحمد والبزار بنحوه، وفي إسناد أحمد شهر بن حوشب. قلت: أكثر الأئمة على الاحتجاج به، ومن تكلَّم فيه، فما تكلَّم بحجَّةٍ كما هو مبيَّنٌ في مواضعه، وهذا يدلُّ على أن إسناد البزَّار من طريقٍ أخرى، يقوي طريق أحمد ويشهدُ لها. وروى أنسٌ حديثاًً خامساً في هذا المعنى، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه البزار (¬5) ¬
من طريق الضحاك بن نبراس، ذكر الهيثميُّ من حديث أنسٍ وحديث ابن عباسٍ في باب ما ورد في القدر، أو في باب ما ورد في الإسلام والإيمان في كتابه " مجمع الزوائد " (¬1). وذكر الحافظ المراكشي أن البخاري إنما لم يخرِّج حديث عمر الأول، لاضطراب الرواة فيه، فإن منهم من جعله عن عمر، ومنهم من جعله عن ابنه عبد الله بن عمر. قلت: هذا لا يضرُّ، لأنهما كلاهما ثقتان، فهذه ستَّةُ أحاديث في معنى لكل واحدٍ منها (¬2) أو لأكثرها طرقٌ جمَّةٌ، وفي الباب سواها ما يطول ذكره. من أشهر ذلك: حديث ابن عباسٍ، وفيه أن وفد عبد القيس أتَوُا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " من الوفد "؟ قالوا: ربيعة. قال: " مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى ". قالوا: إنَّا نأتيك من شُقَّةٍ بعيدةٍ، وإنَّ بيننا وبينك هذا الحيَّ من كفار مضر، وإنَّا لا نستطيع أن نأتيك إلاَّ في الشهر الحرام، فمُرنا بأمرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ به من وراءنا، وندخل به الجنة. قال: فأمرهم بأربعٍ، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده. قال: " هل تدرون ما الإيمان؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله ". وعَقَدَ بيده واحدةً. لفظ البخاري ومسلم: ثم ذكر بقية الأربع. وفي لفظ الترمذي: " الإيمان بالله "، ثم فسَّرها: " شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنِّي رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تُؤدُّوا خُمْسَ ما غَنِمْتُم " وقال: حديث حسن صحيح، ففرَّق بين الإيمان والعمل، ومراده بالإيمان: اعتقاد ذلك كما هو المفهوم في لغة العرب. رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود ¬
والنسائي (¬1) بألفاظٍ مختلفةٍ، والمعنى متقارب، وفيه: ونهاهم عن أربعٍ: عن الدُّبَّاء، والمُزَفَّت، والحَنْتَم، والنَّقير. وقال شعبة: ربما قال: والمُقَيَّر، وهي آنية تُسرع بالتخمير، وقد نُسِخَ تحريمها وبقي تحريم المسكر. ومن أشهر الأحاديث في هذا المعنى حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى رجلاً، وترك رجلاً هو أعجبهم إليَّ، فقلت: يا رسول الله: ما لك عن فلانٍ، فوالله إني لأراه مؤمناً؟! قال: أو مسلماً، فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه، فقلت: مالك عن فلانٍ، فوالله إنِّي لأراه مؤمناً؟! قال: أو مسلماً، ثم غلبني، فعدتُ لمقالتي، وعاد رسول الله لمقالته، ثم قال: " يا سعد، إني لأُعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ منه، خشية أن يكُبَّهُ الله في النار ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (¬2). وفي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مناقبِ الحسن عليه السلام: " إن الله يصلح به بين طائفتين من المسلمين ". خرَّجاه عن أبي بكرة (¬3)، وروته الشيعة والعِترة وأهل الحديث. وذكر ابن عبد البر في " الاستيعاب " (¬4): أن رواته من الصحابة اثنا عشر، فهذا مع موافقة الخصم أنهم لا يُسَمَّوْنَ مؤمنين. وحديث ابن عباسٍ مرفوعاً: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مُؤمِنٌ " وفيه في رواية: " لا يقتل حين يقتل وهو مؤمنٌ " (¬5). ¬
إنكار فرقة متأخرة من وعيدية المعتزلة الفرق بين الإسلام والإيمان
وفي " الصحيحين ": " سبابُ المؤمن فسوقٌ، وقتاله كفرٌ " (¬1)، وهو كفرٌ دون كفرٍ بالإجماع، لوجوب القصاص في أغلظه، وهو العمد العدوان. فهذه الأحاديث الصحيحة المتظاهرة مبيِّنةٌ لما اجتمعت عليه في معناها من الفرق بين الإسلام والإيمان، كما في كتاب الله تعالى، كقوله تعالى: {إنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} ... الآية [الأحزاب: 35]، وقوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} الآية [التحريم: 5]، وقوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. وروى النسائي حديث سعدٍ في تفسيرها على تشيعه (¬2). وجاءت هذه الفرقة المتأخرة من وعيدية المعتزلة، فأنكرت الفرق بينهما، استدلالاً بأنهما أسماءُ مدحٍ، فلا يطلقان، ولا أحدهما، إلاَّ على العدل المرضيِّ، وهذه حجةٌ داحِضَةٌ، لأن الموحِّد اسمُ مدحٍ، وكذلك المُصلِّي والصائم والمجاهد وغيرُ (¬3) ذلك. ومن المعلوم من إجماع المسلمين، بل العقلاء أجمعين أنه يشتَقُّ لكل فاعلٍ اسم من فعله وإن كان ذلك اسم مدحٍ خصوصاً، وقد تواترت به نصوص الكتاب والسنة. وقد دَلَّتِ النصوص على أن الإسلام: عمل الجوارح التي تحقِنُ الدَّمَ، وقد يصدُرُ هذا عن المنافق والإيمان: التصديق بالقلب لِمَا ظهر باللِّسان، والإحسان: اليقين المستلزم إخلاص الجميع لله عز وجل، وعدم النفاق في ذلك (¬4) كما فسَّر الإحسان بذلك الخطابي رحمه الله تعالى. ¬
وقال النواوي في " شرح مسلم " (¬1): إنه قول جماعةٍ من المحقِّقين، وإنه صحيحٌ. ذكره في باب " هل يؤاخذ بأفعال الجاهلية، في أواخر كتاب الإيمان، والحمد لله رب العالمين. ويزيده بياناً في الإحسان أحاديث، منها حديثان صحيحان متفقٌ عليهما. أحدهما: حديث عبد الله بن مسعودٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أحسن في الإسلام لم، يؤاخِذْه بما عَمِلَ في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام، أُخِذَ بالأول والآخر " رواه البخاري ومسلم، كلاهما من طرق عن منصور، عن أبي وائل، عن ابن مسعود (¬2). فقوله: " ومن أساء أُخِذَ بالأول والآخر " يدلُّ على النفاق، فإن المسلم صاحب الكبيرة لا يُؤاخذُ بما تَقَدَّمَ قبل إسلامه بالإجماع والنُّصُوص المعلومة، لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، فدل على أن الإحسان المقابل للنفاق هو الإخلاص. الحديث الثاني: حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: " إذا أحسن (¬3) أحدُكم إسلامه، فكلُّ حسنةٍ بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ، وكل سيئةٍ يعملها تكتب بمثلها حتَّى يلقى الله عزَّ وجلَّ ". رواه البخاري ومسلم، كلاهما من طرُقٍ عن عبد الرزاق، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة (¬4). والحجة فيه واضحةٌ، فإنه جعل المسلم المُحسِنَ صاحب حسناتٍ وسيئاتٍ، وسماه مُحسناً في حاليه كليهما، حال حسناته وحال سيئاته. ¬
الحديث الثالث: عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أسلم العبد، فحَسُنَ إسلامه، كتب الله له كل حسنةٍ كان أزلفها، وكان بعد ذلك القصاص كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف، والسيئة بمثلها إلاَّ أن يتجاوز الله عنها " أخرجه النسائي، واختصره البخاري تعليقاً عن مالك، ولم يذكر الحسنة (¬1). ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬2) في حرف الفاء في أول الباب التاسع في فضائل أعمال وأقوال في الفصل الأول منه. الحديث الرابع: عن ابن عباس، قال: جلسَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه جبريل، فقال: حدثني ما الإسلام ... وساق الحديث إلى أن قال: حدثني ما الإحسانُ، قال: " أن تعمل لله كأنَّك تراهُ، فإن كنتَ لا تراهُ، فإنه يراك ". رواه أحمد وهو (433) من مسنده من " جامع ابن الجوزي " وهو حديث حسن من حديث شهر عن ابن عباس (¬3). ويشهد لذلك ما رواه مسلمٌ والنسائي وابن ماجه من أهل الكتب الستة، وأحمد من أهل المسانيد من طرقٍ عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر حديثاً طويلاً فيه تخويفٌ عظيمٌ من الفِتَنِ، وفيه: " فمن أحبَّ منكم أن يُزَحْزَحَ عن النار ويدخل الجنة، فليُدْرِكه موته وهو مؤمنٌ بالله واليوم الآخر، وليأْتِ إلى الناس ما يحبُّ أن يُؤتَى إليه ". رواه مسلم في المغازي، والنسائي في البيعة، وابن ماجة في الفتن، وذكر أبو داود بعضه في الفتن (¬4). وهذا أمرٌ صحيحٌ يشهد له كتاب الله كما تقدم في قوله تعالى: {والذي ¬
بيان إحسان العبد في ذنبه من وجوه
{جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين} [الزمر: 33 - 34]، ولم يقدِّم من أعمالهم إلاَّ الصدق والتصديق، ثم قال عَقِبَ ذلك: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 35]، وذلك يقتضي أنهم أحسنوا في طاعاتهم وذنوبهم، أما طاعاتهم، فأخلصوها لله تعالى وحده، واتَّبعُوا رِضوانه، وصدَقوا فيها بوعده، وركنوا فيها إلى صِدْقه وحُسْنِ الظن به، وعظيم الرجاء لفضله العظيم، واعترفوا فيها بأن المِنَّة له بهدايتهم، وتوفيقهم، وعدم خذلانهم، وأنه لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم طرفة عينٍ، ولو وَكَلَهُم إليها، لما آمنوا، ولا أخلصُوا ولا أحسنوا، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن ثابتٍ: " وأشهد أنك إن تَكِلْني إلى نفسي، تكلني إلى ضَيْعَةٍ وعورَةٍ، وذنبٍ وخطيئةٍ ". رواه أحمد والحاكم (¬1)، وللحاكم (¬2) في حديثٍ آخر عن ابن مسعودٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " وإن تَكِلْنِي إلى عملي، تقرِّبني من الشَّرِّ، وتباعدني من الخير ". وأمَّا إحسانهم في ذنوبهم ففي وجوه: أحدها: أنهم اعترفُوا بها كما قال تعالى: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} [التوبة: 102]، ولم يقولوا كما قال المشركون: {وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها} [الأعراف: 28]، فنزَّهُوا الله تعالى من قبائحهم وفضائحهم، واعترفوا بأن الحُجَّة قد قامت عليهم، وأن الملامة كلها مصروفةٌ بالحجة البالغة إليهم، وأن الله إن عذَّبهم، مستحقٌّ -في عذابه لهم- بالثناء والحمد على ما أقام فيه مِنَ العدل الواضح، وعلى ما له فيه من الحكمة الخَفِيَّة التي صار فيها عذابهم من جملة الفضل الراجح. وفي بعض تعاليق علم الكلام عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من نَزَّهَ الله يوم القيامة ¬
من ذنبه، ونسب الذنب إلى نفسه، غفر الله له. والقرآن يشهد لمعناه في حكم الخالطين كما تقدم. وثانيها: استغفارُهم له سبحانه امتثالاً لأمره، وطمعاً في عظيم فضله، وواسع بِرِّه، حيث قال: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]، وقال: {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لمن يَشاءُ} [النساء: 48]. وثالثها: علمهم بسَعة قُدرته على كلِّ شيءٍ، واختصاصِ محبَّته للخير، وقد عبَّر عن ذلك سبحانه بقوله: {بِيَدِكَ الخيرُ إنك على كل شيءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وأمثالها، ولم يقل في آيةٍ قطُّ: بيده الشَّرُّ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. وفي " الصحيحين " عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هُريرة أنَّ رجلاً أذنبَ، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تعالى: أذنب عبدي (¬1) ذنباً، فعَلِمَ أن له ربَّاً يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرتُ لعبدي، فعاد، فأذنب، فقال: اللهم اغفر لي، فقال لذلك، حتَّى قال العبد في الرابعة، فقال الله: " أُشهِدُكم أني قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء ". رواه البخارى في التوحيد، ومسلم في التوبة، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "، وأحمد في " المسند "، وهو الحادي والستون من مسند أبي هريرة في " الجامع "، والحاكم، وقال: على شرطهما ولم يخرِّجاه، فوهم في ذلك (¬2). وروى الحاكم في التوبة من " المستدرك " أ (¬3) من حديث ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تعالى يقول: من عَلِمَ منكم أني ذُو قُدْرةٍ على مغفرة الذنوب. غفرتُ له ولا أُبالي، ما لم يُشْرِكْ بي شيئاً. قال الحاكم: حديثٌ صحيحٌ، وهو من حديث الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباسٍ. ¬
وخرَّج أيضاً في التوبة حديث أبي طوالة، عن أنسٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أذنبَ ذنباً، فعَلِمَ أن له ربَّاً إن شاء أن يغفر له، غفر له، وإن شاء عذبه، كان حقَّاً على الله أن يغفِرَ له ". ذكره عقيب حديث أبي هريرة المقدم، وقال فيه: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه (¬1). وروى الترمذي (¬2) من حديث أنسٍ، وسمعتُه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان فيك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بَلَغَتْ ذنوبُكَ عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرتُ لك، ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتُك بقُرابها مغفرةً ". وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه، قال صاحب " سلاح المؤمن " ورواه أبو عوانة في " مسنده " الصحيح من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه (¬3). وخرَّج مسلمٌ والحاكم حديث أبي إدريس الخَوْلانيِّ عن أبي ذرٍّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله تعالى يقول: يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أُبالي، فاستغفروني أغفر لكم " (¬4). وخرَّج الحاكم عن أنس أن أبا ذرٍّ بال قائماً، وانتضح من بولِه على ساقيه وقدميه إلى قوله: فتوضأ وغسل ساقيه وقدميه: وقال: هذا دواء هذا، ودواء الذنوب أن تستغفر الله عزَّ وجلَّ (¬5). ¬
وهذا بابٌ واسعٌ، ليس القصد التعرض إلى تقصِّيه، إنما القصد الترغيب في كثرة الاستغفار، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء: " إني رأيتُكُنَّ أكثرَ أهلِ النار، فتصدَّقن وأكثِرْنَ الاستغفار " (¬1). ورابعها: خوفُهم له، لعلمهم بقدرته وعدله، وخفيِّ حكمته في ترجيحِ العقوبة على العفو في بعض الأشخاص وبعض الأوقات، وعدم إيمانه لهم، حيث قال: {إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غيرُ مأمُونٍ} [المعارج: 28]، وأنه لا حُكم للعبد على الرب، وأن الخواتم والسوابق مجهولةٌ، والخوف من أعظم الحسنات، لقوله تعالى: {ذلك لمن خَشِيَ ربه} [البينة: 8]، وسوف يأتي هذا. وخامسها: رجاؤهم له، لعلمهم بأن رحمته هي السابقة الغالبة الواسعة لكل شيءٍ، التي نصَّ في كتابه أنه كتبها على نفسه، وسوف يأتي هذا مبسوطاً. وقد قال يحيى بن معاذٍ (¬2). إن سيئةَ المؤمن مقرونةٌ بحسنتين: الخوف والرجاء، وكل حسنة بعشرِ أمثالها، فصارت سيئةً مقرونةً في الحقيقة بعشرين حسنةٍ. وسادسها: اغتمامه بذنبه، وحُزْنُهُ لأجله، وقد ورد في غير حديثٍ: " إن المؤمن من سَرَّته حسنتُه وساءته سيِّئَتُه ". رواه البخاري ومسلم (¬3) عن عمر بن الخطاب في خُطبته، ورواه الحاكم في كتاب الإيمان، عن أبي موسى، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: صحيح على شرطهما. وقد احتجا برواته عن آخرهم. قال: وله شاهد بهذا اللفظ، ثم رواه من ثلاثِ طرقٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ، ¬
عن زيد بن سلاَّم، عن جدِّه ممطُورٍ، عن أبي أُمامة مرفوعاً (¬1)، وفي الباب عن ..... (¬2). فإن انتهى ذلك إلى الحد الذي يُسمَّى ندماً، جاز أن يدخل في زمرة التَّائبين، لمَا ورد في أحاديث الندم عن ابن مسعودٍ وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي. وسابعها: أن المسلم يهُمُّ بالتوبة، وفي الصحاح: " من هَمَّ بحسنةٍ، فلم يعملها، كُتِبَتْ له حسنةً كاملة ". رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، وروى مسلمٌ والترمذي من حديث أبي هريرة مثله من طُرُقٍ، وهو في " البخاري " " أراد "، والهمُّ أكثرُ الروايات، وفي لفظٍ للترمذي: " يحدِّثُ نفسه " (¬3)، وهي كرواية الهَمِّ، وليس هو في المعنى العزم، لأن العزمَ حسنةٌ كاملةٌ، خصوصاً إلى التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ به وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24]، ولم يكن ذلك عزماً، وسيأتي هذا. فمن ها هنا لم يكن ما ورد به النصوص من تسميته محسناً مما تنكره العقول، وإحسانُ المؤمن المذنب في هذه الأمور هي (¬4) مقدِّمات التوبة النَّصُوح، وأسبابٌ لتوفيقه لذلك ورحمته واللُّطف به في الدَّارَيْنِ إن شاء الله تعالى، ولا نكارة في الإحسانِ في الإساءة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتْلَةَ " رواه النواوي في " الأربعين " (¬5) له، فأمرَ ¬
المسيء إلى الكافر بالقتل أن يُحسِنَ في إساءته إليه، وهذا أولى، لأن العبد إنما ظلم نفسه، فلا يمتنعُ أن يُحسن (¬1) في إساءته إلى نفسه، على (¬2) أن الأظهرَ أو المحتمل أن المراد: أنه يُحسن في إيمانه بالله ورسله، وما جاؤوا به، لأن الاحسان ضدُّ النِّفاقِ، لا في جميع أعماله، فلا يلزم تكلُّفُ بيان إحسانه في ذُنوبه، والله سبحانه أعلم. نوع منه يتضمَّن ذكر الإيمان وحده، وفيه أحاديث: الحديث الأول: عن معاوية بن الحكم، قال: أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن جاريةً لي كانت ترعى لي غنماً، فجئتُها، وقد فقدت شاةً من الغنم، فسألتُها عنها، فقالت: أكلَها الذئبُ، فأسِفْتُ عليها، وكنتُ من بني آدم، فلطمتُ وجهَهَا (¬3)، وعليَّ رقبةٌ، أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أين الله "؟ فقالت: في السماء، فقال: " من أنا "؟ فقالت: أنت رسول الله، فقال: " أعتقها، فإنها مؤمنةٌ ". رواه مسلم واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي، ومالك في " الموطأ " وألفاظهم مختلفة، والمعنى متقاربٌ، وكلهم رووه عن معاوية بن الحكم إلاَّ مالكاً، فقال: عمر بن الحكم في قول أكثر الرواة عنه، وقيل عنه، وهو معدودٌ في أوهام مالكٍ (¬4). الحديث الثاني: ما رواه أحمد في " المسند " عن عبد الرَّزاق، عن معمر، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود: أن رجلاً من الأنصار جاء بأَمَةٍ سوداءَ، فقال: يا رسول الله، عليَّ عِتْقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، فإن كنتَ ترى هذه مؤمنةً اعتقتُها، فقال لها: " أتشهدين أن لا إله إلاَّ الله "؟ قالت: نعم يا رسول الله. ¬
قال: " أتشهدين أني رسولُ الله "؟ قالت: نعم. قال: " أتؤمنين بالبعث بعد الموت " قالت: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فأعتقها ". ورواه مالك في " الموطأ " (¬1). وهذه الرِّواية تدل على استحباب امتحان الكافر عند إسلامه بالإقرار بالبعث، كما هو قول الشافعي (¬2)، وفيه تنبيهٌ على تفسير الامتحان للنساء في قوله: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، وفي " البخاري " (¬3)، عن عائشة أن امتحان النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن كان بالبيعة على ما أمره أن يبايعَهُنَّ عليه في قوله: {فَبَايِعْهُنَّ} الآية، فمن بايعت، فقد امتُحِنَتْ. وقد امتحنَ الله الخلق في النشأة الأولى بالإقرار بالتوحيد، والإخلاص فيه لا سوى، كما صح ذلك عند أهل السنة، وقد أوضحته في مسألة الأطفال. وفي " النبلاء " (¬4) في ترجمة أم كلثوم بنت عقبة أنها لما نزلت: {فامْتَحِنوهُنَّ} كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "آلله ما أخرَجَكُنَّ إلاَّ حبُّ الله ورسوله ¬
والإسلام، ما خرجتُنَّ لِزَوْجٍ ولا مالٍ؟ " فإذا قلن ذلك، لم يرجعهُنَّ إلى الكفار. انتهى. الحديث الثالث: ما رواه أبو داود (¬1) من حديث عون بن عبد الله بن عُتبة، عن أبي هريرة أن رجلاً أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بجاريةٍ سوداء، فقال: يا رسول الله، إن عليَّ رقبةً مؤمنةً، فقال لها: " أين الله "؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقال لها: " من أنا "؟ فأشارت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى السماء تعني: أنت رسول الله، فقال: " أعتِقها، فإنها مؤمنةٌ ". الحديث الرابع: ما رواه أبو أحمد العسال (¬2) في كتاب " السنة " له من طريق أُسامة بن زيدٍ، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: جاء حاطبٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجاريةٍ، فقال له: يا رسول الله، إنَّ عليَّ رقبةٌ، فهل تجزىءُ هذه عني؟ فقال: " أين رَبُّكِ "؟ فأشارت إلى السماء، فقال: " أعتِقها، فإنها مؤمنةٌ " (¬3). الحديث الخامس: ما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبَّان في " صحيحه " من حديث الشَّريد بن سُوَيْدٍ، فقال: يا رسول الله، إن أُمِّي أوصت أن أعتق عنها رقبةً، وعندي جاريةٌ سوداءُ ... الحديث، كذا قال ابن حجر (¬4) في ذكر شواهد ما تقدم، ولم أعرِفْ لفظ أحمد وابن حبان، ولفظ أبي داود ¬
أحاديث في بيان الإيمان وهو التصديق بالله ورسله والتوحيد
والنسائي: وعندي جارية سوداء (¬1) أفأعتقها؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ادعُ بها "، فدعوتها. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ ربُّكِ "؟ قالت: الله. قال: " فمن أنا "؟ قالت: رسول الله. قال: " أعتِقْها، فإنها مؤمنةٌ " رواه أبو داود من أئمة أهلِ السنة، والنسائي من أئمة الشيعة (¬2). الحديث السادس: ما رواه الطبراني في " معجمه الأوسط " من طريق ابن أبي ليلى، عَنِ المنهال، والحكم عن سعيدٍ، عن ابن عبَّاس أن رجُلاً أتى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ عليَّ رقبةً، وعندي جاريةٌ سوداءُ أعجميَّةٌ، فذكر الحديث. ذكره ابن حجر في شواهد ما تقدم (¬3). الحديث السابع: ما رواه أحمد (¬4) من حديث أبي هريرة بنحوه. الحديث الثامن: ما رواه الحاكم في " المستدرك " (¬5) من طريق عون بن عبد الله بن عُتبة، قال: حدثني أبي، عن جدِّي، وهو خلافُ الحديث الثالث، لأن ذلك عن أبي هريرة، وهذا عن أبيه، عن جدِّه، أشار إليه ابن حجر في الظِّهار من " التلخيص "، ولم يَسُقْ لفظه. فهذه ثمانيةُ أحاديث إلى السِّتَّةِ المتقدِّمَة، صارت أربعة عشر، دالَّةً على ما دلَّ عليه ما لا يُحصى من الآيات القرآنية التي قدمنا منها الكثير الطَّيِّبَ في الدلالة على أن التصديق بالله ورسله والتوحيد يسمى إيماناً في اللغة، والشريعة ¬
كما قال به عامة أهل العلم من الموافقين والمخالفين والمُعظمين عند الفريقين من الفقهاء الأربعة أئمة الإسلام، ومن لا يُحصى من الصحابة والتابعين، وحسبك أن أكثر الخصوم وأعرفهم بالعربية العلامة الزمخشري اعترف في " كشافه " (¬1) أن هذا تفسير الرَّقبة المؤمنة في كفارة القتل، بل عزاه إلى عامة أهل العلم. ويُشبه هذه الأحاديث من بعض الوجوه حديثُ ابن عباس، قال: جاء رجلان يختصمان في شيءٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال للمدِّعي: " أقم البينةَ "، فلم يُقِمْها، فقال للآخر: " احلف " فحلف بالله بالذي لا إله إلاَّ هو ما له عندي شيءٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بلى، قد فعلت، ولكن غُفِرَ لك بإخلاص قول: لا إله إلاَّ الله ". وفي رواية للحاكم: " شهادة أن لا إله إلاَّ الله كفارة يمينك " وفي رواية أحمد: " فنزل جبريلُ، فقال: إنه كاذبٌ وكفارةُ يمينه معرفة لا اله إلاَّ الله " (¬2) ذكر ذلك ابن حجر في كتاب " البيِّنات " من " تلخيصه " (¬3)، وقد رواه أبو داود والنسائي. قال ابن حجر: وأعلَّه ابن حزم بأبي يحيى الراوي عن ابن عباس. قلت: ذكر الذهبي في ترجمة عطاء بن السائب من " الميزان " (¬4) توثيق أبي يحيى هذا عن ابن معين، وأبي داود بغير معارضٍ لتوثيقهما على تقدير أنه زيادٌ المكِّيُّ، وهو الذي صحَّح المِزِّيُّ في " أطرافه " (¬5). وقيل: هو مِصْدَع، وهو من رجال مسلم والأربعة، ولكن الراوي عنه عطاء بن السائب، ولا يصح من حديثه إلاَّ القديم. وممن روى القديم من حديثه: سفيان، وهو أحد رواة هذا الحديث عنه، رواه النسائي من طريقه، قال ابن حجر: وأعله أبو حاتم باضطراب عطاء، فإن ¬
شعبة رواه عنه بسند (¬1) آخر، وهو أقدم سماعاً من غيره، ثم رواه من طريق أنسٍ وابن عمر (¬2). قلت: حديث ابن عمر خرَّجه أحمد، وهو الثاني والثمانون بعد المئتين من " جامع ابن الجوزي ". ولحديث ابن عباس هذا شواهد ذكرها الهيثمي في " مجمع الزوائد " أحدها عن ابن عمر، رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه، ورجالهما رجال الصحيح، إلاَّ أن حماد بن سلمة قال: لم يسمع هذا ثابتٌ من ابن عمر، بينهما رجل (¬3). ومنها عن أنس، رواه البزار وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح (3). ومنها عن ابن الزبير، وحديثه مختصر، ولفظه: أن رجلاً حلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو كاذباً، فغفر له. رواه الطبراني برجال الصحيح؛ ذكر ذلك الهيثمي في " الأذكار " من " مجمعه " (¬4)، في باب ما جاء في فضل لا إله إلاَّ الله، وفيه من ¬
هذا القبيل شيءٌ كثيرٌ، فليُنظر فيه. نوعٌ آخر من ذلك: عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ". أخرجه مسلم والترمذي وقال: " وبمحمد نبياً ". وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ (¬1). وعن أنس بن مالك، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الإيمان سريرة، والإسلام علانية ". رواه أحمد في " المسند "، وقد مرَّ (¬2). وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثٌ من كُنَّ فيه، وجد فيهن طعم الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبداً لا يحبه إلاَّ لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار ". أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي (¬3). وفي " جامع المسانيد " في الحديث الموفي عشرين بعد الثمان مئة حديث: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن أبي طارقٍ، عن الحسن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يأخذ منِّي خمس خصالٍ، فيعمل بهن أو يعلِّمُهُنَّ من يعمل بهن "؟ قلت: أنا. قال: فأخذ بيدي، فعدهن فيها، ثم قال: " اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسِنْ إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تُميت القلب " (¬4). ¬
فصل في المجاز المجمع عليه في قصر الإيمان على أهل المراتب الرفيعة
وأخرج أبو داود (¬1) من حديث يحيى بن سعيدٍ القطان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً ". نوعٌ آخر: يشهد لذلك، وهو ما ورد في تفسير قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة} [إبراهيم: 27]، وقد ثبت أن المراد بالآخرة هنا: القبر والمسألة فيه. خرَّجه الشيخان (¬2) وغيرهما من حديث البراء بن عازب، والطبراني عن أبي سعيدٍ الخدري (¬3)، وابن عباس (¬4)، وفيها أنه لا يُسأل إلاَّ عن الشهادتين وبعدهما يبشر بالجنة، وقد روى ذلك غير واحدٍ من الصحابة في ذكر عذاب القبر، لكن بغير تعريضٍ لتفسير الآية بذلك. فصل في المجاز المُجمَع عليه في قصر الإيمان على أهل المراتب الرفيعة: من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، فهؤلاء -كما قال الله تعالى- هم المؤمنون حقَّاً، لا مجاز في هذا، وإنما يدخل التجوز في ¬
نفي الإيمان عمن قصَّر عن هذه المرتبة على القول بأن لفظ " إنما " يفيد الحصر، وفي ذلك خلافٌ بين أهل العلم، والجمهور على أنها تفيد الحصر، ومعناه إثبات المذكور بعدها ونفيُ ما عداه. ومما احتجوا به على ذلك فهم ابن عباس له من حديث: " لا ربا إلاَّ في النسيئة " (¬1) وأن الصحابة لم يعترضوه في فهمه، وإنما احتجوا عليه بأحاديث أُخَرَ، هي أصرح من حديثه وأقوى، وأنصُّ على ثبوت (¬2) الربا في غير النسيئة، فكان المصير إليها أولى من الترجيح، وإذا تقرر هذا، فقد يفهم منها الحصر مطلقاً، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات " (¬3) على الصحيح في تفسير النية بإخلاص العمل لله في العبادات وسائر الشرعيات من شائبة الرِّياء، أو فعله لوجه حُسْنِه في غيرها. أما إذا فسَّرناه بالإرادة المقارنة المُؤَثِّرة في وقوعه على بعض الوجوه، خرج من ذلك ما ليس بعبادةٍ، كقضاءِ الدَّيْنِ، وغَسْلِ النجاسات، ونحو ذلك. وقد يُفهَمُ منها حصرٌ مخصوصٌ، فيدخل فيها نوعٌ من التجوز، وهو كثيرٌ، كقوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إنما أنت مُنْذِرٌ} [الرعد: 7]، فظاهره الحصرُ له - صلى الله عليه وسلم - في النذارة، وليس كذلك، فإنه عليه السلام لا تنحصر أوصافه الحميدة في ذلك، فإن البشارة من أوصافه بنصِّ القرآن كالنذارة، والشفاعة من أوصافه بالنصوص والإجماع، ولكن مفهوم الكلام يقتضي حصرَه في النذارة فقط لمن لا يُؤمن، ونفي كونه قادراً على ما يقترحه الكُفَّار من الآيات، فيفهَمُ الخصوص في الحصر بعد " إنما " على حسب القرائن. ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أنا بشرٌ مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ " (¬4)، فإنه إنما حصر نفسه وصِفاته البشرية بالنسبة إلى الاطلاع على بواطن الخصوم، لا بالنسبة إلى كل شيءٍ. وقد يكون الحصر من باب التغليب للأكثر، كقوله تعالى: {إنما الحياة ¬
الدُّنيا لَعِبٌ ولَهوٌ} [محمد: 36]، ويمكن أن يحمل على الحصرِ المخصوص بالنسبة إلى من جعل الدنيا دون الآخرة همَّه، لا بالنظر إلى المؤمن، فإنَّ دنياه صارت وسيلةً له إلى الآخرة، والآية المقدمة في حصر المؤمنين على أرفعهم مرتبةً، يحتمل أن يكون المراد بها حصراً مخصوصاً، وذلك أن يكون حصر المؤمنين المستحقِّين للدرجات الرفيعة والمراتب الشريفة، وهم الذين كَمُلَ إيمانهم، وتمَّ إحسانهم، ويدل على هذا قوله بعد الآية: {لهم درجاتٌ عِنْدَ ربِّهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ} [الأنفال: 4]. فهؤلاء المخصوصون بهذه الدرجات الرفيعة هم المحصورون إن شاء الله تعالى، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18]، ولا بُدَّ من هذا على أصول أهل السنة والمعتزلة، وإن كان كثيرٌ من أهل الاعتزال يحسبونها حجةً لهم وحدهم، فليس (¬1) كذلك، وقد احتج بها ابن بطَّال في " شرح البخاري " وغيره من أهل السنة على مثل مذهب المعتزلة في التسمية (¬2)، ولا بد للجميع من التجوز في ذلك، وإلا لزمهم نفيُ إيمان من قصَّر من ذلك، وإخراج من لم يُوْجَلْ قلبه عند ذكر الله من الإيمان، وهذا خلاف الإجماع. ومن ذلك ما روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المسلم من سلم الناس من لسانه ويَدِه، والمؤمن من أمَّنَه الناس على دمائهم وأموالهم ". رواه الترمذي والنسائي والحاكم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (¬3). وروى مسلمٌ (¬4) من حديث جابرٍ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده ". وتفسير هذا ما رواه مسلم (¬5)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي المسلمين خيرٌ؟ قال: ¬
"من سَلِمَ المسلمونَ من لسانه لسانه ويده". وكذلك روى الحاكم في " المستدرك " (¬1) من طريق ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أكمل المؤمنين إيماناً من سلم المسلمون من لسانه ويده ". وقال أحمد (¬2): قال حُجين أبو عمرو: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجِشون، عن منصور بن أذين (¬3)، عن مكحولٍ، عن أبي هريرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن العبد الإيمان كلَّه حتى يترُكَ الكَذِبَ في المُزاحَة، ويترك المِراء وإن كان صادقاً ". (665) من " الجامع ". وعن أبي سعيد الخُدريِّ: قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من رأى منكم منكراً، فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". رواه مسلم والترمذي، ورواه النسائي ولفظه: " من رأى منكراً، فغيَّره بيده، فقد بَرِىءَ، ومن لم يستطِعْ، فغيَّره بلسانه، فقد برىء، ومن لم يستطع، فغيَّره بقلبه، فقد بَرِىءَ، وذلك أضعفُ الإيمان " (¬4). وعن عبد الله بن مسعودٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من نبي إلاَّ كان له من ¬
فصل في ذكر أدلة المعتزلة على ما ادعوا من ثبوت الأسماء الدينية في المؤمن والمسلم والفاسق والكافر
أُمَّته حواريون وأصحابٌ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعده خُلُوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده، فهو مؤمنٌ، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبَّةُ خردلٍ ". رواه مسلم (¬1). على أن حديث " المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمؤمن من أمنه الناس " (¬2) لو لم يتأوَّل بما ذكرنا، لاستلزم الرجاء، لأن ذلك قد بَغَّضَ أهل الكبائر، والله أعلم. وهذه الأخبار الفارِقَة بين كمال الإيمان والإسلام ونقصانهما على صحة تأويل الآية المتقدمة بما ذكرته ولله الحمد، بل هو هو، فإن الأحاديث التي فيها أن " المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده " كالآية سواءٌ في قصر المسلمين كلهم على أهل هذه المرتبة الرفيعة. والأحاديث الأخرى دالةٌ على أن معنى تلك قصر خيار المسلمين على ذلك، وهذا التأويل قريبٌ كثيرٌ مستعمل، كما نقول: إنما العلماء العاملون، وإنما المال الحاصل، وإنما القوي الصَّبورُ عند الغضبِ. والقصد بتمهيد هذا في هذا المقام المُجمَع عليه أن يعجَبَ من إنكار المعتزلة لهذا بعينه على جهة القطع، مع إجماعهم على صحته هنا، حيث يأتي جواباً عليهم فيما يحتجُّون به الآن وأدناه من صاحب الكبيرة. فصل في ذكر أدلة المعتزلة: على ما ادعوا من ثبوت الأسماء الدينية، وقد اتفقتِ المعتزلة وأكثرُ أهلِ السنة على إثبات الأسماء الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وخالف بعض أهل العلم في ذلك، وقال: إنها استُعْمِلَتْ في معانيها اللغوية، مع زياداتٍ وشروطٍ، وذهبت المعتزلة ومن وافقهم إلى إثبات الأسماء الدينية في ¬
المؤمن والمسلم، والفاسق والكافر، وليس المنكر في هذا الباب إلاَّ إدخاله في القطعيات وتأثيم المخالفين، والعجب ممن يعرف الأصول، وشروط الأدلة القاطعة كيف غَفَلَ عن اعتبار تلك الشروط العزيزة في هذه المسائل، والذي عرفتُه للمعتزلة في إثبات الأسماء الدينية أدلَّةٌ: الأول: مجموعُ آياتٍ، منها قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} [البينة: 4 - 5]. قالوا: فدلَّت هذه الآية على أن الدين العبادات، لقوله: {ذلك دينُ القَيِّمَةِ} بعد ذكر العبادة والصلاة والزكاة. وإذا تقرر هذا، فالدين المعتبَرُ هو الإسلام، لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلامُ} [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]، والإسلام: هو الإيمان، لأنه لو كان غير الإسلام لزم ألا يُقبَلَ ممن ابتغاه، لقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}. والجواب: أن هذه المقدمات مسلَّمات إلاَّ الأخيره، فإنها ممنوعةٌ. بيان المنع من وجوهٍ: الأول: المعارضة بما تقدم من الفوارق الجمة بين الإسلام والإيمان من الكتاب والسنة، كقوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]، وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35]، وسائر الأخبار المتواترة في ذلك، أو الصحيحة عند من قَصَّر، ولم يعرف التواتر، فإن تفسير الألفاظِ القرآنية والنبوية تُؤخذُ من كتب الغريب واللغة بالإجماع. كيف لا تؤخذ من الأخبار المسندة الصحيحة الكثيرة الشهيرة، وحين وقع التعارض، وجب الجمع إن أمكن، وإلا رجعنا إلى الترجيح، والجمع
لم يمنع الله من ابتغاء غير الإسلام مطلقا، إنما منع من ابتغى غير الإسلام دينا
ممكنٌ على وجهٍ صحيحٍ قريبٍ، غير متعسفٍ، وهو ما تقدم مثله في تأويلِ المجازِ المُجمَع عليه، وما كان هذه صفته، فهو ظني اجتهادي، لا إثم فيه على المخالف، فما وجه إدخال بعض متأخري المعتزلة لهذه المسألة في القطعيات، وإن كان المرجُوُّ في أهل التحقيق منهم ألا يجهلوا ذلك، ولم يُخَطِّئُوا فقهاء الإسلام وأئمة العلم في تفسيرهم للرقبة المؤمنة في كفارة القتل هي المقرة بالشهادتين ولا أثَّموا من قال بذلك مع اشتراط إيمانها في كتاب الله تعالى، والعجب من ابن الحاجب أنه اقتصر على المعارضة في الجواب عليهم في " مختصر المنتهى " وهي من أنواع الجدل، وليست من البراهين المقنعة. الوجه الثاني: أن الله تعالى لم يمنع من ابتغاء غير الإسلام مطلقاً، إنما منع من ابتغى غير الإسلام ديناً، فقيَّد المنع بأن يكون المطلوب ديناً كاملاً، والإيمان الذي هو التصديق بالقلب فقط ليس بدينٍ كاملٍ، ومن ابتغاه، فلم يبتغ ديناً، إنما ابتغى ركناً من أركان الدين، وبعضاً من أبعاضه، وذلك كمن ابتغى الصلاة دون سائر أركان الإسلام، فإنها تصح منه عند الخصوم وتقبل. ولا يُشترط في صحة صلاة المسلم أن يصوم ويزكِّي ويحج، وذلك الدين، وكان يلزمُهم أن لا تصح صلاته وحدها، لأنها -بإقرارهم- ليست بدينٍ، ومن ابتغاها، فقد ابتغى غير الإسلام ديناً (¬1)، لأنه ابتغى بعضه، والبعض غير الكل بالضرورة، لكن الجواب الحق أنها تصح، لأن الله تعالى إنما نفى قبول من ابتغى غيرَ الإسلام ديناً، ولم يَنْفِ قبول من ابتغى فرضاً من فرائض الإسلام. والعجب من المعتزلة كيف احتجوا بهذا، وقد أجمعنا وأجمعوا وأجمع المسلمون أن من شَهِدَ الشهادتين، وآمن بقلبه، وصدَّق، وارتكب كبيرةً، وأخلَّ بما ليس تركُه كفراً من الفرائض، أنه قد صح إسلامه، وغُفِرَتْ له ذنوب الكفر، وصحَّت منه الطاعات، فكان يلزمهم أن يخالفوا الإجماع في هذا، ويقولوا: إنه باقٍ على الكفر، وإنه لا يقبل منه إلاَّ كمال الإسلام، للآية. ¬
الوجه الثالث: وهو التحقيق أن الدلالات تنقسم إلى دلالةٍ مُطابَقَةٍ، وهي اللغويَّة، ودلالة تضمُّن ودلالة التزام (¬1)، وهما عقليتان، فدلالة الإسلام على الإيمان دلالة تضمن أو التزام، لأنه إما بعضه كالرأس من الإنسان، أو شرطه كالوضوء والنِّيَّة من الصلاة، فمن ابتغاه، فقد ابتغى أساس الإسلام والدين الذي ينبني عليه، أو رأس الإسلام والدين، فهو مقبول، ولم يَصْدُق عليه أنه ابتغى غير الإسلام ديناً، لأن الدين في دلالة المطابقة اللغوية هو المجموع لا البعض، ومعنى الآية: من ابتغى ديناً غير الإسلام كاليهودية والنصرانية والمجوسية، لا من ابتغى فريضةً من فرائض الإسلام تقرُّباً إلى الله. والذي غرَّهم أنهم لم يفهموا لقوله ديناً ثمرة، بل جعلوا وجوده كعدمه، وهذا لا يكون في كلام البُلغاء، كيف كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين. ونظير هذا قولنا: من ابتغى غير العلماء قدوةً، أو غير الثقات راوياً، فقد ضلَّ، فإنه لا يلزم الضلال من ابتغاء غير العلماء والثقات خادماً أو زوجة أو بغلاً أو حماراً، فكذلك من ابتغى غير الإسلام مسجداً، أو وِرْداً، أو ذكراً، أو خشوعاً، أو تصديقاً، لم يلزم ألا يقبل منه، وإن لم يكن شيء من ذلك وحده يُسَمَّى ديناً كاملاً وإسلاماً تاماً. فهذه الوجوه كلها على تقدير تسليم المقدمات كلها إلاَّ الأخيرة، وهي أن الإسلام هو الإيمان، ويكمُنُ النِّزاع في المقدمة الأولى، وهي قولهم: إن الدين هو مجموع العبادات، فإن ذلك ممنوعٌ، ودليل المنع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. وقد أجمعت الأمة على أن من ترك بعض العبادات غير مستحلٍّ لذلك، فليس بمرتدٍّ. إذا تقرَّر هذا، فيُحتَمَلُ أن للدين كمالاً، وهو المجموع، وأن يكون أقلُّه هو الذي حكم بِرِدَّةِ من تركه، ولئن سلمنا أن الدين هو مجموع تلك الأمور (¬2)، لكن ¬
لا نسلِّمُ أن كل واحدٍ منها على انفراده يُسَمَّى ديناً، بدليل أن تاركه وحده ليس بمرتدٍّ عن الدِّين، وهذا يرجع إلى أن حكمَ الجملة لا يجب لأفرادها، وهذا هو الصحيح في الأمور الشرعية كالإجماع. ألا ترى أن حكم البعض من الفريضة غير حكم الكُلِّ، فقد يكون البعض ظنياً، ولأن مؤدَّى البعض غير خارجٍ من عهده التكليف كمؤدَّى الكُلِّ، وعلى تسليم الجميع، فإن المعتزلة أدخلت في الدين ترك جميع الكبائر، مع أداء جميع العبادات، وهذا الترك غير مذكورٍ في الآيات التي ذكروها، ومع أن فاعل بعضِ الكبائر غير مرتَدٍّ وفاقاً. الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [التحريم: 8]، وصاحب الكبيرة يجوز دخوله النار عند الجميع ما خلا المرجئة، ومن دخل النار، فقد أُخزي لقوله: {من تدخل النار فقد أخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]. والجواب: أن هذا تمسك بالعمومات البعيدة المخصوصة، ولو لم يَرِدْ إلا هذا القدر في السمع، لم يقع بين العارفين في ذلك خلافٌ، وإنما يحتاج إلى الفهم الصحيح في الجمع بين مختلفات الأدلة، وقد دلَّ السمع على أن الخزي يختص بالكافرين، لقوله تعالى: {إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين} [النحل: 27]، وذلك لِمَا ينكشِفُ من كذبهم ودعاويهم لربوبية الأصنام وسائر المخلوقين، كما قال الله تعالى: {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} [النحل: 39]. ووجه الحصر أن الألف واللاَّم في الخزي تفيد العموم على ما هو مقرر في الأصول، بدليل صحة الاستثناء من ذلك، فهو كقوله: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} [غافر: 43]، وغير ذلك. والوجهُ المعقولُ في ذلك أنه لما ثبت في الصِّحاح أن من دخل النار من المؤمنين فخرج منها، مخلوقٌ للخلود في دار الكرامة من جملة أهل الجنة المُكْرَمين بنصِّ كتاب الله تعالى، لم يجب القطع بأنه أُدخِلَ النار ليخزَى ويُهانَ،
لأنه عن قريبٍ يخرج منها، والخروج منها كرامةٌ، ثم يدخل الجنة، ودخولُها كرامة، ثم يخلد فيها مُكرَماً بنص كتاب الله تعالى في أهل الجنة، وذلك أعظم الكرامة، ومن سبقت له الكرامة في علم الله تعالى وأريدت به وله، وكانت عاقبته الدائمة، لم يُرَدْ به الخزيُ والهوان. وفي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا زنت أمة أحدكم (¬1)، فتبين زناها، فليحُدَّها الحدَّ ولا يُثَرِّب عليها "، وفي رواية أبي داود: " ولا يعيِّرها " (¬2). وقال ابن عبد البر في " التمهيد " (¬3) ذكر الحدِّ مُعَلٌّ، غير محفوظٍ. والقصد بإيراد الحديث الدلالة على أن عُقوبة المسلم قد تخلو من الخزي وقصده كحدِّ التائب والقصاص منه لقوله: " لا يعيِّرها ولا يثرِّب عليها "، فأما الأمر بأذى الزَّانيَيْنِ، فإنما كان مع الحبس حولاً كاملاً، وقد نُسِخَ بالحدِّ .. ورواه أبو داود في ابن عباسٍ أول باب الرجم من الحدود (¬4). والله أعلم. ويشهد لهذا المعنى ما خرَّجه الحاكم في كتاب التوبة من " المستدرك " (¬5) من حديث أبي الزِّناد، عن القاسم، عن عائشة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما عَلِمَ الله من عبدٍ ندامة على ذنبٍ، إلاَّ غفَرَ له قبل أن يستغفره منه ". قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وسيأتي (¬6). قلت: فلما علم الله أنه صائِرٌ إلى التوبة، لم يُرِدْ عقابه، لأنَّ عِلْمَه الحق ¬
الإرادة لا تضاد العلم
بحُسْنِ عاقبته يمنع إرادته لما يضادُّ ذلك، والسِّرُّ في ذلك أن الإرادة لا تضادُّ العلم، كما سيأتي مبيناً في مسألة الإرادة، وهو معلومٌ على الجملة، فإن العاقل يعلم أنه لا يريد وقوع ما يعلم (¬1) أنه لا يقع، فعلام الغيوب لمّا عَلِمَ أن المؤمنين الداخلين النار من أهل الجنة المُكرمين في عاقبة أمرهم، لم يمتنع أن يمنعه علمه بذلك من إرادة خِزيهم بوقوعهم في النار إلاَّ لتحلة القسم، وصِدْقِ الوعيد، كما ورد في الصِّحاح في بعضهم، أو لتطهير ما بَقِيَ فيهم من خُبْثِ الطِّباع، لأنه لا يصلُحُ لدخوله دار السلام من بقي فيه شيءٌ من ذلك، كما قال تعالى فيما روي عنه سبحانه أنه يقول: " هم عبادي إن أحسنوا، فأنا حبيبهم، وإن أساؤوا، فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطهِّرَهم من المعايب (¬2)، والنار آخِرُ المطهِّرات، فمن لم يتطهَّر في الدنيا بالتوبة والإنابة والطاعة يطهر في الآخرة ويخلص بالنار، كما يخلصُ خَبَثُ الذهب بالنار، لا ليُهان ويَخزَى، وليس يجب إذا استووا في أمر واحد وهو دخول النار أن يستووا في كل أمر كالخلود والإهانة وعدم الرحمة، ألا تراهم في الدنيا قد استووا في الموت والفناء، وجعل الله ذلك لبعضهم عقوبة ونكالاً وهلاكاً، كما قال تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 16 - 18]، في آياتٍ كثيرةٍ جداً في هذا المعنى، وجعل الله أمثال ذلك رحمةً لأهل الإسلام، كما ورد في الطاعون أنه شهادةٌ (¬3) وورد الثناء على هذه الأُمَّة بأن أكثر هلاكهم بالطعن والطاعون (¬4). ¬
تخصيص الكافرين والمنافقين بالخزي والسوء يوم القيامة
وفي الأحاديث الحِسان أن الموت كفارةٌ لكل مسلم، وبالإجماع أن المسلم يُثابُ على ألمِ الموت بخلاف الكافر، فكذلك أحوال الآخرة، ويدل على صحة ذلك وجهان: الوجه الأول: ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من حديث النَّجوى، وهي المسارَّةُ في حساب المؤمن حتى لا يُعْلِمَ أحداً ما بينه وبين ربِّه ستراً عليه، حتى لا ... (¬1)، وذلك ما رواه البخاري في مواضع كثيرة من طرقٍ جمَّةٍ، ومسلمٌ والنسائي وابن ماجة، وغيرهم من أهل المسانيد، عن صفوان بن مُحرزٍ المازني قال: بينما أنا (¬2) أمشي مع ابن عمر آخذاً بيدي، إذ عرض رجل، فقال: كيف سمعتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النجوى؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله يُدني المؤمن، فيضعُ عليه كنفه وسِتْره " -وفي رواية: يستره- فيقول: أتعرفُ ذنب كذا، أتعرفُ ذنبَ كذا، فيقول: نعم أيْ ربِّ، حتى إذا قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين ". هذا لفظ البخاري في كتاب المظالم، وله ولمسلم: " فينادى على رؤوس الأشهاد "، وفي رواية: " الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربِّهم، ألا لعنة الله على الظالمين "، ولفظ مسلم في كتاب التوبة: " وأما الكفار والمنافقون، فيُنادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله ". وهذا حديثٌ جليل دالٌّ على تخصيص الكافرين والمنافقين بالخزي والسوء يوم القيامة، كما دَلَّ عليه (¬3) القرآن. رواه البخاري في المظالم: عن موسى بن إسماعيل، عن همام، وفي التفسير: عن مسدِّدٍ، عن يزيد بن زُريع، عن سعيد، وهشام، وفي الأدب وفي ¬
التوحيد: عن مسدَّد، عن أبي عوانة، وقال آدم عن شيبان: خمستهم عن قتادة، عن صفوان. ورواه مسلم في التوبة: عن زهير بن حرب، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، به. وعن أبي موسى، عن ابن أبي عدي، عن سعيدٍ، به، وعن بُندار، عن ابن أبي عدي، عن سعيد وهشام، به. ورواه النسائي في " التفسير " عن أحمد بن أبي عبيد الله، عن يزيد بن زُريع، عن سعيد، به، وفي الرقائق: عن سُويد بن نصر، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن يسار، عن قتادة، به. ورواه ابن ماجه في السنة: عن حميد بن مسعدة، عن خالد بن الحارث، عن سعيد، به (¬1). قال المزي (¬2): وحديث النسائي ليس في السماع ولم يذكره أبو القاسم. وذكر البخاري في " التوحيد " في باب كلام الرَّبِّ عز وجل مع الأنبياء وغيرهم يوم القيامة في آخر الباب أن آدمَ قال. أخبرنا شيبان، قال: حدثنا قتادة، قال: حدثنا صفوان، وإنما ذكره البخاري، لأنه ليس في الحديث مقالٌ إلا عنعنة قتادة، لأنه مدلِّسٌ على حفظه العظيم وجلالته في هذا الشأن، فبيَّن البخاري أنه قد صرَّح بالسماع في رواية شيبان عنه، فأمن تدليسه، وهي زيادةٌ حسنةٌ، لأنه لم يختلف فيها على شيبان، فتكون عنه مُعَلَّةً، ولا يثبت أن شيبان سَمِعَه من قتادة مع من رواه بالعنعنة (¬3) عن قتادة، فيُعَلُّ بذلك، على أن قتادة كان من أوائل المعتزلة، وليس يُتَّهمُ في مثل هذا الإجماع على صدقه وحفظه. ¬
ويعضُدُه حديث عائشة، قال ابن أبي مُليكة: كانت عائشة لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلاَّ (¬1) راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من نُوقِشَ الحساب عُذِّبَ ". قالت: فقلتُ: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9]، فقال: " إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يحاسَبُ يوم القيامة إلاَّ هلك ". وفي رواية: " وليس أحدٌ يُناقَشُ الحساب يوم القيامة إلاَّ عُذِّبَ ". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي (¬2)، وذكره ابن الأثير، وحديث ابن عمر الذي في النجوى في الباب الثاني من كتاب القيامة من حرف القاف في " جامع الأصول " (¬3). وهذه سنة الله في الدنيا والآخرة، وربُّ الدَّارَيْنِ واحدٌ، وحكمتُه فيهما (¬4) متشابهةٌ، ألا تراه يقول في قتال الكفار في الدنيا: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين} [التوبة: 14]، فذكر خِزيَهم في الدنيا، وأنه مقصودٌ له. وأما من يستحق القتال من بُغاة المسلمين، فقال فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}، إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} [الحجرات: 9 - 10]، فسمى الباغي والمبغيَّ عليه أخَوَيْنِ للمؤمنين بعد وقوع البغي من الباغي. وكذلك ورد في حديث القصاص يوم القيامة: " من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه، فليستحلِلْهُ منها قبل أن يُؤخَذَ لأخيه من حسناته، فإن لم تكن له حسناتٌ، أُخِذَ من سيئات أخيه، فطُرِحَتْ عليه ". رواه البخاري (¬5) في باب ¬
الحدود كفارات ورحمة
القصاص من كتاب " الرقاق "، من حديث مالك عن المقبري، عن أبي هريرة. والقرآن كافٍ في ذلك، بل هو أنصُّ على المراد، إذ هو في القتال الذي ورد في الصحيح تسميتُه كفراً، ولذلك أمر بقتالهم لحسم مادة هذه الفتنة الكبرى، وهذا القتال القصد به كفُّهم عن البغي الذي يَضرُّهُم في أُخراهم ويضرُّ المبغيَّ عليه في دنياه، ولذلك لم يُجمع العلماء على الإجهاز على جريحهم والاتباع لمُدبِرهم، لأن القصد كفُّهم عن المضرة لأنفسهم وللمحقين، لا قتلهم، فصارَ قتلهم كقطع الإنسان يده المتآكلة، لا يحِلُّ إلاَّ عند خوفه على نفسه للضرورة، وكالقصاص الذي أُرِيدَ به الحياة (¬1) الأُخرى، كما قال تعالى: {ولكم في القِصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب} [البقرة: 179]. وكذلك الحدود، وإن سُمِّيَتْ عذاباً ونكالاً من وجهٍ، فإنها كفاراتٌ ورحمةٌ من وجهٍ، ويدلُّ على هذا أنه يُحَدُّ التائب على قول الجماهير، وهو الصحيح، وإلا بَطَلَتْ بدعوى التوبة من غير التائب، ولا يمتنع أن يكون للشيء جهتان، كخروج آدم عليه السلام بسبب الذنب وهو صغيرٌ مغفورٌ، وإنما خرج على الحقيقة للاستخلاف في الأرض كما سبق به العلم والخبر، والذي يدلُّ على أن كفَّهم عن مضَرَّة نفوسهم (¬2) مقصودٌ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمَّى ذلك نصراً لهم، حيث قال عليه السلام: " انصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قيل: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: " يُؤْخذ فوق يديه ". رواه البخاري (¬3) في المظالم من حديث معتمر بن سليمان، عن حميد، عن أنس، عنه - صلى الله عليه وسلم -. يوضحه استحبابُ العفو، وعدم وجوب الانتقام، بخلاف الكفار الذين يَجِبُ قتالهم، ويحرُم العفو عنهم. ¬
وكذلك روى البخاري في " الحدود " عن أبي هريرة أنه أُتِيَ برجُلٍ جُلِدَ في الخمر، فلما انصرف، قال رجلٌ: ما له أخزاه الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكونوا أعوان الشيطان على أخيكم " زاد أحمد: " وقولوا يرحمه الله " (¬1). وروي عن عمر بن الخطاب أيضاً أن رجلاً كان اسمه عبد الله، وكان يُلَقَّبُ حماراً، وكان يُضحِكُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأُتِيَ به يوماً، فأُمِرَ به فجُلِدَ، فقال رجلٌ من القوم: " اللهم العَنْهُ، ما أكثر ما يُؤتى به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تلعنوه فوالله ما علمت إلاَّ أنه يحب الله ورسوله " (¬2). انتهى. وفيه حجةٌ على أن متابعة الرسول في الإسلام دِلالةُ المحبة، وإن لم تكمل، كما في قوله تعالى: {إن كنتم تحبُّون الله فاتبعوني يُحبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31]. وثبت في " الصحيحين " وغيرهما أنه قال عليه السلام: " إذا زنت الأمة، فتبيَّن زناها، فليجلِدْها، ولا يعيّرها، ولا يثرِّب عليها " (¬3)، كما تقدم، بل جاء في كتاب الله عن نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم أنه قال لإخوته بعد القدرة عليهم واعترافهم: {لا تثريب عليكم اليوم} ثم قال مستغفراً لهم: {يغفر الله لكم وهو أرحمُ الراحمين} [يوسف: 92]، فجرت سنةُ الله وسنة خير خلقه في الدارين بعدم الخزي والإهانة لمن أُرِيدَ له المغفرة والكرامة في عاقبة أمره. وكذلك أمرَ الله بالسَّتر على المسلم في الدنيا. وفي " صحيح مسلم " (¬4)، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من سَتَرَ مسلماًَ، ستره الله في الدنيا والآخرة ". ¬
وروى الحاكم في " علوم الحديث " (¬1) له في أول نوعٍ منها نحو ذلك من حديث أبي أيوب الأنصاري وعقبة بن عامرٍ، كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي سعدٍ المكِّيِّ الأعمى. ذكره الذهبي في " الميزان " (¬2)، فلم يقدح فيه ألا يتفرَّدِ ابن جُريجٍ بالرِّواية عنه، فيقوي حديث الستر على المسلم في الدنيا ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً. وأما قوله في حديث ابن عمر في النَّجوى (¬3): " وأنا أغفرُها لك اليوم "، ففيه بحثٌ، وهو أنه يمكن أن يخرُجَ منه المجاهرون الذين ستر الله عليهم، ففضحوا نفوسهم في الدنيا، وجاهروا بالفجور. وروى البخاري من حديث محمد بن عبد الله بن مسلمٍ المعروف بابن أخي الزهري، عن عمِّه الزُّهري، عن سالم، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - " كل أمتي مُعافى إلاَّ المجاهرين، وإنَّ من الجِهَارِ أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يُصبحُ، وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلانُ، عملتُ البارحة كذا وكذا، وقد بات يستُرُهُ ربُّه، فيصبح يكشفُ نفسه ". ورواه مسلم من طريق ابن أخي الزهري (¬4)، والذي يدل على تخصيصهم منه قوله: " سترتُها عليك في الدنيا "، وهذا فيمن لم يُعاقب في الدنيا من المجاهرين، وأما من عُوقِبَ بالحدِّ وغيره من المصائب؛ فقد صح في حديث عليٍّ عليه السلام، وحديث عبادة أنها لا تُعادُ عليه العقوبة، على أن في ابن أخي الزهري خلافاً، وعلى أن حديث علي عليه السلام أرجى من حديث عُبادة، فإن في حديث عبادة: " ومن لم يُعاقب في الدنيا، فأمره إلى الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له ". متفق عليه (¬5). ¬
وفي حديث علي عليه السلام: " ألا أخبركم بأفضل آيةٍ في كتاب الله، حدثنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وسأفسِّرُها لك يا عليُّ: ما أصابكم من مصيبةٍ أو مرضٍ أو بلاءٍ في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله أكرمُ من أن يثنِّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أحلم من أن يعودَ بعد عفوه ". رواه جماعة، منهم الترمذي والحاكم وابن ماجه وأحمد في " المسند "، وأبو يعلى وهذا لفظهما (¬1). وشهد له أحاديث المصائب. قال ابن عبد البر في " التمهيد ": إنه مجمعٌ عليها، فلا يخرُجُ من حديث ابن عمر مؤمنٌ على جهة القطع، لأنَّ المستور في الدنيا داخلٌ فيه، ومن لم يستره في الدنيا، يجوز أنه عُوقِبَ في الدنيا. بقي أن يُقال: لا يدل على سلامة كل المؤمنين من دخول النار، إنما يدل على سلامة المستورين منهم. فالجواب: إنا إنما استدللنا به (¬2) على أن الخِزْيَ والإهانة تخصُّ الكفار والمنافقين، وهذه الدِلالة لم يحصُل لها معارضٌ صريحٌ، إلاَّ ما توهَّموا من مفهوم: {من تُدْخِلِ النارَ فقد أخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وهي حكايةٌ حكاها الله تعالى من كلام أهل الإسلام وظاهرها في الكفار، لقوله عقيبها: {وما للظالمين من أنصارٍ}، وقد قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} [البقرة: 254]. وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفسيرُ الظلمِ بالشرك في قوله: {ولم يَلبِسُوا إيمانهم بِظُلْمٍ} (¬3) [الأنعام: 82]، وقدمنا في ذلك من النظر العقلي، والآثار النبوية المفسَرة المفصلة، فكما أنها مقبولةٌ في العبادات التي نحنُ أحوجُ ¬
إلى بيانها لنا إذا كانت من أعمالنا، فقبُولُها أولى في (¬1) أفعال الله في الآخرة التي يكفينا فيها الإيمان الجمليُّ (¬2) بأنه العدل، الحكيم، البَرُّ الصادق. وأما قوله تعالى فيها: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فلا تردُّ مذهبَ أهل السنة، فيقال: إن صاحب الكبيرة غير آمنٍ في الدنيا بالإجماع، لأن المراد: لهم الأمن في وقتٍ مخصوصٍ في الآخرة، وأما في الدنيا، فلا أمنَ لأحدٍ فيها بالإجماع، لو لم يكن إلاَّ لجهل الخواتم. ولقد خاف الذين بشَّرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، ونصَّ عليهم، مع أن الآية تحتمل أن لهم الأمن من مضرَّةِ شركائهم (¬3) لهم، كما دل عليه أول الآية، وقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن لم يكن هذا مخالفاً لحديث ابن مسعود (¬4)، وفهمِ الصحابة، فيُنظر في ذلك. فإن قيل: فإنه قَوِيَ بالنظر الي السياق، فكيف يدخل في الظالمين الذين لا ناصِرَ لهم من أعدَّ الله له أحب خلقه إليه شفيعاً، وكيف لا يُقْبَلُ البيان النبوي في ذلك والله يقول: {وما أَتَاكُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نَهَاكُمْ عنه فانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ويقول. {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يأتي رجلٌ مُتْرَفٌ متكىءٌ على أريكته، يقول: لا أعرف إلاَّ هذا القرآن، ما أحلَّه أحللتُه، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه " (¬5). ولم يقر الوعيديُّ في هذا إلاَّ مجرد الاشتراك في اسم الدخول، وليس ذلك يمنع من الافتراق العظيم بين الداخلين كالمحدودين، ألا ترى أن آدم صلوات الله عليه، ¬
والشيطان لعنه الله قد اشتركا في الخروج من الجنة بسبب الذنب، وإن كان بين الخارجَيْنِ ما بين السماء والأرض، مع الاشتراك في اسم الخروج؟ أما آدم، فقال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 121 - 122]، ثم أخرجه خليفةً في الأرض مرضيّاً ورسولاً له سبحانه ونبيّاً، وجعل على إبليس لعنتُه إلى يوم الدين، وأقسم ليملأنَّ جهنم منه، وممَّن تَبِعَهُ أجمعين، فإياك أن تغترَّ بمجرد الاشتراك في بعض الأسماء، ألا ترى أن صاحب الصغيرة مشارِكٌ للكفار في اسم العاصي والغاوي ونحوهما؟ وإن كان متميِّزاً بغير ذلك. فكذلك عُصاة المسلمين متميِّزين عن المشركين بخُروجهم من النار، كما جاء في تفسير قولي تعالى: {رُبَما يَوَدُّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]، وذلك أنهم حين يرونهم معهم في النار يَشْمَتُون بهم، ويقولون: " ما نفعكم إسلامكم، فيخرجهم الله، فيودُّ الذين كفروا أنهم كانوا مسلمين " (¬1). وقد سمَّى يوسفُ أخاه سارقاً لِغرض له، ولم يكن مُخزِياً له بذلك في الحقيقة والعاقبة، وإن كان ذلك خِزْياً لمن سُمِّيَ به حقيقة، ولم ينكشف خلافُ ذلك في العاقبة، وهذا الكلام كله في حقوق الله وتعالى بعد صحة التوحيد والسلامة من أنواع الكفر. وأما حقوق المخلوقين، فقد روى البخاري في " المظالم "، وفي " الرقاق " (¬2) ¬
من ثلات طُرُقٍ، عن قتادة، عن أبي المتوكِّل النَّاجي، واسمه علي بن دؤاد، عن أبي سعيد الخُدري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " إذا خَلَصَ المؤمنون من النار، حُبِسُوا بقنطرةٍ بين الجنة والنار، فيَتَقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا، أُذِنَ لهم بدخول الجنة ". وصرح قتادة بالسماع في رواية شيبان كما تقدم لشيبان مثل ذلك في حديث النجوى، وهذا يدل على تقدُّم شيبان بالإتقان لحديث قتادة كما قال يحيى بن معين: هو أحبُّ إلي في قتادة من معمر. وقال أحمد بن حنبل: هو ثبتٌ في كلِّ المشايخ، وقد جوّد ابن حجرٍ الثناء عليه في " مقدمة شرح البخاري " (¬1)، وأنه مُجْمَعٌ عليه، إلاَّ خلافاً مدفوعاً في حديثه عن الأعمش، وأما كون البخاري روى ذلك تعليقاً (¬2) عن يونس بن أحمد، عن شيبان، فهو بصيغة (¬3) الجزم، وقد أسنده ابن منده في كتاب " الإيمان " (¬4)، ذكره ابن حجر (¬5). وفي هذا الحديث أعظم بُشرى، حيث لم يُخْزَوْا ويدخلوا النار بحقوق المخلوقين. وأما خُلوصهم من النار قبل ذلك، فيحتمل أنه المرور على الصراط كالورود، بل هو الظاهر، وأنه الخُلوص من خوفها، ولو كان منها لم يضرَّ، لكن يكون معناه بعض المؤمنين، لكن لا مُلجِىءَ إليه، لأن الخلاصَ من النار يُحتمل في اللُّغة أنه النَّجاة، كقول هِرقل: لو أعلم أني أخلُصُ إليه (¬6)، وأنه التَّميُّز، كقوله تعالى: {خَلَصُوا} [يوسف: 80]، أي: تميزوا من الناس متناجين، ومنه يوم الخلاص يوم يخرُجُ إلى الدَّجَّال من المدينة كلُّ منافقٍ ومنافقة، فيتميز المؤمنون منهم (¬7). ¬
الفرق بين دخول النار وورودها والوقوع فيها
وفي حديث الإسراء: " فلمَّا خلصت (¬1) لمستوى (¬2) أسمع فيه صَريفَ الأقلام " (¬3) أي: وصلتُ، والظاهر أن هؤلاء المؤمنين الخالصين هم أهل الجنة الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يدخل أهلُ الجنةَ الجنةَ، وأهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتُم في قلبه مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، فأخرِجوه ". الحديث. ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد أيضاً (¬4). الوجه الثاني من الأصل: وهو الفرق بين دخول النار ووُرودها، والوقوع فيها، فإن الورود والوقوع فيها يكون في بعض المؤمنين المسوقين إلى الجنة من طريقها التي هي الصراط، والدخول إنما يكون من أبواب النار، ويخصُّ الكفار، وإليها يُساقون حتى يدخلوها، فتُطْبَقُ عليهم للخُلُود، كما يظهر لِمَنْ تأمَّل تفاصيل أحاديث القيامة. ألا ترى إلى ما رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أنس (¬5)، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا كلها، أكنتَ ¬
مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أيسر من هذا، ألاَّ تُشْرِكَ بي شيئاً، ولا أدخلُك النار وأُدخلك الجنة، فأبيت إلاَّ الشرك". أخرجاه، واللفظ لمسلم. وفيه دلالة على ما دلَّ عليه القرآن من أنها أُعدَّت للكافرين، لأنه جعل أيسرهم عذاباً مشركاً. وفيه أنه لا يدخلها إلاَّ أهل الشرك، فدل على الفرق بين دخولها من أبوابها التي لا تُطْبَقُ على الداخلين للخلود، وبين وُرُودِ من يرِدُ عليها، ووقوع من يقع من طريق الجنة إليها ثم يميته (¬1) فلا بقاء (¬2) له فيها حيّاً سالِماً حتى يشفع له أكرمُ شفيعٍ إلى أكرم الأكرمين وأرحمِ الراحمين، فيخرجُ مرحوماً مكرَّماً. وقد خرَّج مسلمٌ (¬3) من حديث يزيد بن صُهيبٍ الفقير، قال: كنتُ قد شغفني رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابةٍ ذوي عددٍ نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا فيها جابر بن عبد الله جالس إلى ساريةٍ يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين، فقلت: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تُحَدِّثُونا، والله يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} [آل عمران: 192]، و {كُلَّما أرَادُوا أن يَخْرُجوا منها أُعِيدوا فيها} [السجدة: 20]، فما هذا الذي تقولون؟ قال: أتقرأُ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فإنه مقامُ محمدٍ المحمود الذي يُخرج الله به من يُخْرِجُ. وفي رواية رزين قال جابرٌ: فاقرأ ما قبله، يريدُ الآية الثانية، وفي الأولى ما بعده، فإنه في الكفار، ثم اتفقا. قال: ثم نَعَتَ وَضْعَ الصراط، ومَرَّ الناس عليه، وأخافُ أن لا أكون أحفظُ ذلك، غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. الحديث. ¬
إلى قوله: فرجعنا، وقلنا: ويحَكُم! أترون هذا الشيخ يكذِبُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجلٍ واحدٍ. وعن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يُسْأَلُ عن الورود، فقال: نجيءُ نحن يوم القيامة عن كذا وكذا انظر أيَّ ذلك فوقَ الناس (¬1) ثم ذكرَ اتباع كل أمَّةٍ لمن عبدوه دون الله حتى تبقى هذه الأمَّة إلى قوله: ويُعطى كلُّ إنسانٍ منهم -يعني من هذه الأمة- نُوراً منافقٌ أو مؤمنٌ، وعلى جسر جهنم كلاليبُ وحسكٌ تأخذ من يشاء، ثم يُطفأُ نورُ المنافقين، ثم ينجو المؤمنون، فتنجو أوَّلُ زمرةٍ، وجوهُهم كالقمر ليلة البدر، سبعون ألفاً لا يُحاسَبونَ، ثم الذين يلُونَهم كأضوأ نجمٍ في السماء، ثم كذلك، ثمَّ تحِلُّ الشفاعة ويشفعُون، حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلاَّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يَزنُ شعيرة. الحديث رواه مسلم (¬2) مختصراً، وظهر في الحديث شيءٌ مما أشرتُ إليه. ¬
والذي يوضِّحُ ذلك من كتاب الله أن الله تعالى قد نصَّ في كتابه على أن للنار سبعة أبوابٍ، لكلِّ بابٍ من أهلها جزءٌ مقسومٌ، ثمَّ بيَّن تارةً، أن أهل النار هم الكافرون، وهذا كثيرٌ، وتارةً أن أهل هذه الأبواب السبعة هم الكافرون، وذلك في قوله تعالى في النحل: {قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين} [النحل: 27 - 29]، وقال في سورة الزُّمر: {وسِيقَ الذين كفروا إلى جهنم زُمَراً}، إلى قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 71 - 72]، فوصف الداخلين لأبواب جهنم كلها وكلهم بالكفر والتكبر، ولا حجة لمن قال: إن أحد الأبواب للموحدين لا من كتاب الله، ولا من صحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أما حديث جُنيدٍ عن ابن عمر، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " بابٌ منها لمن سلَّ سيفه على أُمَّتي ". رواه أحمد والترمذي (¬1)، فلم يصح، وقال الترمذي: غريب، وقال ابن أبي حاتم: منقطع لم يسمعه جنيد من ابن عمر (¬2)، هو عن ... (¬3). وعلى تقدير صحَّته، فليس فيه أنهم مِنَ المسلمين، ولعلَّه للخوارج الذين سمَّاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موارِقَ، وتكفيرهم أحد أقوال أهل الإسلام، وأما ظنهم أن الكفار ستة أجناس، فباطل، فإنهم عدوا اليهود والنصارى والمجوس والصَّابئين والمشركين والمنافقين، وهؤلاء ستةُ أصنافٍ، وجعلوا الصِّنْفَ السابع عُصاة الموحِّدين، ونسُوا من أكفرِ الكافرين جيشين عظيمين: يأجوجَ ومأجوج. وقد ثبت أن للجنَّة ثمانية أبوابٍ، وأن أعمال البِرِّ أكثرُ من ثمانية أنواعٍ، وأنَّ ¬
العاملين بها أكثرُ من ثمانية أصنافٍ، فكذلك أبوابُ النار وأنواعُ الكفر، وأصنافُ الكافرين، وتقسيم ذلك على التحقيق يحتاج إلى برهان صحيح، والذي دل عليه القرآن أن أهل أبواب النار كلهم من الكفار المتكبِّرين، والذي دلت عليه السنة الصحيحة أن الذين يُعذَّبُون من أهل الكبائر من المسلمين يسقُطون من الصِّراط الذي هو طريق أهل الجنة إليها، فتميتُ النارُ من سقط منهم حتى يُشْفَعَ لهم، ثم يقاصُّ بينهم في قنطرةٍ بين الجنَّةِ والنار بعد خُلوصِ المؤمنين من النار، حتى ينتصف بعضُهم من بعضٍ مظالمَ كانت بينهم، فإذا هُذِّبُوا، أُذِنَ لهم بدخول الجنة كما هو معروفٌ في الصِّحاح والله أعلم. سلَّمنا أن كل واردٍ وواقعٍ يُسمَّى داخلاً، وكلَّ داخلٍ مُخْزَىً بمجرد الدخول، فما المانع من تخصيص عموم قوله تعالى: {يومَ لا يُخْزِي اللهُ النبيَّ والذين آمنوا مَعهُ} [التحريم: 8]، وقد ثبت أن المؤمنين مُتفاوتون في المراتب، وأن {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20]، كما قال الله تعالى، وأن في الذين اصطفى الله قوماً ظالمين لأنفسهم كما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِه} [فاطر: 32]، مع قوله تعالى: {وَسَلامٌ على عباده الذينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]. وقد ثبت بموافقة الخُصوم أن للعُصَاة المسلمين في الدنيا حكماً بين الحُكمين، فما المانِعُ من تصديق النُّصُوص الواردة بأنهم في الآخرة كذلك تفسيراً للكتاب لا تكذيباً، وبياناً لا معارضةً؟ ومع ذلك، فهم متردِّدون بين أن يخصُّوا من عموم الخِزْي، وهو القريب القوي، وبين أن يخصُّوا من عموم المؤمنين، كما قد خصصنا الجميعَ ما احتجنا إليه بأدلةٍ منفصلةٍ. سلمنا تسليمَ جدلٍ أن عُمومات الوعيدية لا تخصَّصُ لخاصة فيهم، فلنا أن نُجيبَ عن هذه الآية بأجوبةٍ: الجواب الأول: أنها ظاهرةٌ في الصحابة، لقوله فيها (¬1) {معه} وبهذا ¬
أجابَ ابنُ الحاجب في " مختصر المنتهى "، لكنه لم يذكر فيه لفظَ المعيَّة، واقتصر على: {والذين آمنوا} على عادته في الاختصار، وظَنَّ بعضُ المعتزلة أن الآية كذلك، فقال: إنه عدلَ عن الظاهر لغير موجبٍ، وليس بعدولٍ عن الظاهر مع تأمُّل فائدةِ لفظ المعيَّة، فإن ذلك فيه ظاهرٌ، كقوله تعالى: {والذين معه أشِدَّاءُ على الكفار رُحَمَاءُ بينهم} [الفتح: 29] الآية، وهي فيهم قطعاً إجماعاً، وفي " المؤمن " في قصة موسى: {قالوا اقْتُلُوا أبناء الذين آمنوا معه} [غافر: 25]، وفي " الممتحنة " [4]: {قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه}، وفي " سورة البقرة " [214] {حتَّى يقولَ الرسول والذين آمنوا معه}، وفيها أيضاً [249]: {فلمَّا جَاوَزَهُ هو والذين آمنوا مَعَهُ}، فكذلك هذه. وهذا محتملٌ مانعٌ من ظهور غيره، ولا مانع من ذلك (¬1) قاطع، خصوصاً على قول المعتزلة: إن الصحابي من لازم وطالت ملازمته، فلم يكن في مَنْ هذه حالُهُ من يُعلم بدليلٍ قاطعٍ أنه يدخل النار. أما الذين قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك "، فقد صحَّ " أنهم ما زالوا يرتدُّون القهقرى " (¬2) ويحتمل أنهم مِمَّن ارتدَّ أو ظهر نفاقُه، ولا يُرَدُّ الاحتمالُ بالاحتمال، إنما يُرَدُّ بقاطعٍ، وهذه نكتةٌ لطيفةٌ فتأملها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، ولم يقل: آمَنُوا معنا، ولا: آمنَّا معهم، بل تحتمل الآية احتمالاً قريباً أن يكون في السابقين إلى الإسلام من الصحابة، فإنهم آمنوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت المتقدِّم، وقد فرَّق الله بين من أنفق قبل الفتح، ومن أنفق بعده من الصحابة، كيف لا يقع فرقٌ بين الصحابة وغيرهم. ¬
وسرُّ هذا الجواب: أن المعيَّة تصحُّ أن تكون معيةً باعتباراتٍ مختلفةٍ، والحقيقة متعذِّرَة، وأبعدُ التقديرات مذهب المعتزلة، والذي يدلُّ على ما ذكرتُ من كثرة اعتباراتها أنه قد ورد القرآنُ بأن الله مع الصَّابرين والصادقين، وبأنه مع كل أحدٍ، فالمعية الأولى بالنَّصر والإعانة، والثانية بالعلمِ، والعُمْدَةُ القرائن في هذا الباب، وإذا جاز تخصيصُ الحقائق (¬1)، فكيف المجازات. والله سبحانه أعلم. الجواب الثاني: أنه لا يَصْدُقُ إذا أُخزِيَ مؤمنٌ واحد أو بعضُ المؤمنين، أن الله قد أخزى المؤمنين، ولا تصحُّ هذه العبارة، ولا سيما وهي تُوهِمُ أن الإيمان هو سببُ الخِزْي، إنما يُقال: إن الله قد أخزى من عصاه بارتكاب المُوبقات من المؤمنين، وهذه مسألةٌ معروفةٌ في أصول الفقه والعربية، وهي أن الإثبات يفيد العموم دون النفي، فإذا قلت: قام القوم، أفادَ العموم، ولم يَجُزْ أن يكون أحدٌ منهم غيرَ قائمٍ، إلاَّ أن يُخَصَّ باستثناءٍ متَّصلٍ، أو دليلٍ مُنفصلٍ، وأما إذا قلتَ: ما قامَ القَومُ، لم يدل على نفي القُعود عن جميعهم، ولكن يدل على نفي القيام عن جميعهم، ويبقى آحادهم موقوفين على دليلٍ آخر، وهذا نظير الآية، والحمد لله. الجواب الثالث: أنه يجوز أن تكون الجملة التي بعدها حاليَّةً مقيَّدةً لِمَا أُطلِقَ في الجملة الأولى من الأحكام، بل ذلك أقربُ إلى ارتباط الكلام بعضه ببعضٍ، وذلك أنه قد حصل شرطُ جواز ذلك مع ما فيه من حُسْنِ ارتباط الكلام، ومراعاة أسباب ارتباطه، وذلك أن شرط صحة ذلك أن يكون في الجملة الثانية ضميرٌ يرجعُ إلى الأولى، أو حرف عطفٍ، وقد حصل الضمير هنا رابطةٌ بين الجملتين، فجاز أن يكون المعنى: أن الله لا يخزي المؤمنين في حال سَعْي نُورِهم بين أيديهم، ويمكن أن تعذيبَ المُعَذَّب منهم ودخوله النار كان قبل هذه الحالة، فإن هذه حالة إكرام، والإكرام لا تعقبه الإهانة، بخلاف العكس، وقد يمكن على بعده متى كانت الإهانة في معنى العقوبة، والكرامة ¬
في معنى العفو، وهذا يبطلُ القطع على الوعيديِّ وإذا بطَلَ القطعُ، لم يبقَ مانعٌ من قبول أخبار الثِّقات الظنية الآحادية، كيف وقد ترقَّت إلى مرتبة التواتر عند أهل التَّوسُّع في هذا الشأن؟ يوضح ذلك ما رواه الحاكم في " المستدرك " في تفسير هذه الآية بعينها عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ليس أحدٌ من الموحِّدين إلاَّ يُعطى نوراً يوم القيامة، فأمَّا المنافق، فيُطْفَأُ نورُه، والمؤمن مشفقٌ مما رأى من إطفاءِ نور المنافق، فهو [يقول: ربنا] أتمِمْ لنا نورنا. قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ الإسناد. ذكره في تفسير " سورة التحريم " (¬1). وروى الحاكم أيضاً في تفسير " سورة النور " من حديث صفوان بن عمرو، قال: حدثني سُلَيْمُ بن عامرٍ، قال: خرجنا على جنازةٍ في باب دمشق، معنا أبو أُمامة الباهليُّ، فلما صلَّى على الجنازة، وأخذوا في دفنها، قال أبو أمامة: يا أيها الناس، قد أصبحتم وأمسيتم في منزلٍ تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ويُوشِكُ أن تظعَنُوا منه إلى المنزل الآخر، وهو هذا -يُشير إلى القبر- بيت الوحدة، وبيتِ الظُّلَمَة، وبيت الدود، وبيت الضيق، إلاَّ ما وسَّع الله، ثم تنتقلون إلى مواطن يوم القيامة، فإنكم لفي بعض تلك المواطن، حتى يغشى الناسَ أمرٌ من أمر الله، فتبيضُّ وجوهٌ، وتسودُّ وجوهٌ، ثم تنتقلون منه إلى موطن آخر، فتغشى الناسَ ظلمةٌ شديدةٌ، ثم يُقْسَمُ النور، فيُعطى المؤمن نوراً، ويُترَكُ الكافر والمنافق لا يُعطيان شيئاً، وهو المثل الذي ضرب الله في كتابه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ... } الآية. إلى قوله: {فما له من نورٍ} [النور: 40]، ولا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى بِبَصَرِ البصير، يقول المنافق (¬2) للذين آمنوا: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ من نوركم قِيلَ ¬
ارجِعُوا وَرَاءَكُمْ فالتَمِسُوا نوراً} [الحديد: 13]، وهي خدعة الله التي خَدَعَ بها المنافق. قال الله عز وجل: {يُخادِعُونَ الله وهو خادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فيرجعون إلى المكان الذي قُسِمَ فيه النور، فلا يجِدُون شيئاً، فينصرفون إليهم وقد: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} نُصلِّي بصلاتكم، ونغزو مغازيكم؟ (¬1): {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} تلا إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 14 - 15]. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه. وهذا إسناده: قال الحاكم (¬2): أخبرني الحسن بن حُليم المروزيُّ، أخبرنا أبو المُوَجِّه، أنبأنا عبدان، أخبرنا عبد الله (¬3)، أنبأنا صفوان بن عمرو، حدثني سُليم بن عامرٍ. الحديث. الجواب الرابع: ما ذكره ابن الحاجب في مختصر " المنتهى " وهو أنه (¬4) يحتمل أن يكون نفي الخزي موجِّهاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، والجملة بعده استئنافيةٌ. قلت: بل هي محتملةٌ على ذلك أن تكون استئنافيةً، وأن تكون الحالية لاجتماع الواو في أولها، والضمير في " معه " (¬5) وكل (¬6) واحدٍ منهما وحده مسوغ ¬
للحال، كيف مع اجتماعهما؟ ويكونُ لها مع ذلك معنى لطيفٌ، وهو أنه لا يخزى من هذه حال أتباعه، ومن اتَّسم بنصيبٍ من الإيمان؛ فإنهم إنما نالوا هذه المَثُوبَةَ العُظمى، والكرامةَ الجليلة، ببركة الإيمان به، ونجاة شفاعته، ألا ترى إلى ما رواه البخاري في " صحيحه " (¬1) قال: أخبرنا إسماعيل بن عبد الله، قال: أخبرنا أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئبٍ، عن سعيدٍ المقبُري، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يلقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجهِ آزر قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ، فيقول إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا ربِّ إنك وعدتَني ألا تُخزيني يوم يبعثون (¬2)، وأيُّ خزيٍ أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله تعالى: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين، ثم يُقالُ: يا إبراهيم، انظر ما تحت رجليك، فينظر، فإذا هو بِذيخٍ متلتطِّخٍ، فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار ". انفرد به البخاري، وهو الثاني عشر بعد أربع مئة من " جامع المسانيد " من مسند أبي هريرة. وذكره المزي في " الأطراف " (¬3) في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيدٍ المقبُريِّ، عن أبي هريرة، قال: ورواه البخاري في أحاديث الأنبياء وفي " التفسير " بإسناده المقدَّم. وإسماعيل: هو ابن أبي أُوَيس، أخرجوا عنه إلاَّ النسائي، وعبد الحميد: خرَّجُوا عنه إلاَّ الترمذي. وفي " نهاية " (¬4) ابن الأثير، و" فائق " (¬5) الزمخشري أن الخليل عليه السلام يحمل أباه ليجُوزَ به الصراط، فينظرُ إليه، فإذا هو عَيْلامٌ أمْدَرُ، والعَيْلام والذِّيخُ، كلاهما ذكر الضِّباعُ. وهذا يدلُّ على وجود روايةٍ أخرى أو أكثر غير رواية ¬
البخاري، تشتمل على ذكر هذه الألفاظ، وتدل على شُهرةِ الحديث والله أعلم. وفي أحاديث الشفاعة الصِّحاح، ما يعضُدُ هذا المعنى، وهو أن الله تعالى إذا أراد انقطاع الشفاعة بعد خروج من أراد خروجه من النار غيَّرَ خلوق أهل النار، وصورهم، حتى لا يعرف أحدٌ من الشافعين أحداً من المعذَّبين، وفي هذا صيانةٌ لهم عن أن يشفعوا، أو لا يُشَفَّعُوا، وعن أن يستغيث بهم من عرفوه، فلا يُنقذوه، فإذا جاز وأمكن من كرامة إبراهيم عليه السلام ألا يخزى بتعذيب من أصرَّ على الكفر، لأجل القرابة حتى غيَّرَ خلق ذلك الكافر تغييراً بعيداً (¬1) لا يُعرفُ معه، فمن أين يمتنِعُ ويستحيل أن يكون الخِزيُ أبعد كل بعيدٍ، وأسحق كلَّ سحيقٍ عن محمدٍ الشفيع المقبول بإنقاذه لبعض من آمن به من النار، وإكرامهم بما يسعى بين أيديهم، وبأيمانهم (¬2) من الأنوار، كرامة لنبيهم المصطفى المختار - صلى الله عليه وسلم -، آناء الليل، وأطراف النهار، وعلى آله الطيبين الأطهار. وإنما قلنا لبعض من آمَنَ به لما وردَ في حديث الشفاعة الصحيح: " أن الله تعالى يُخرجُ الطائفة الرابعة من النار برحمته، لا بالشفاعة " والله أعلم. ومما احتجت به المعتزلة: قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35 - 36]. والجواب من وجهين: أحدهما: أنا لم نقل: إن الإسلام ضدُّ الإيمان، بحيث لا يجتمعان قطعاً، وإنما تصلحُ الآية حجة على من قال ذلك، وإنما قلنا: إنهما مختلفان، يجوزُ اجتماعُهما، ولا يجب، ويجوزُ افتراقهما ولا يجب أيضاً، وما هذا حاله، لا يلزم من اجتماعهما (¬3) المماثلة ولا الاتِّحاد، كما هو حكم المختَلِفات عندَ جميعِ النُّقَّاد. ¬
الثاني: أنه -مع هذا- يحتملُ الاختلاف، ألا ترى أنه يجوزُ أن يكونَ أهلُ ذلك البيت منهم مؤمنٌ مخلصٌ، ومنهم مسلمٌ دونه في اليقين، فجاء حينئذٍ بأعمِّ العبارتين، ولا سيما إن حملنا اسم البيت على الحيِّ من بُيوتاتِ العربِ، وهو أحدُ معانيه، ذكره في " الضِّياء ". ومن أدلتهم، قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بعد قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} [الحجرات: 17]. والجواب: أن الإيمان يلازم الإسلام الصادق قطعاً، والمعنى: إن كانوا صادقين في قولهم: أسلمنا، فهي كقوله تعالى في بني إسرائيل: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93]، فلم يلزم من إضافة الإيمان إليهم في قوله: {إِيمَانُكُمْ} صحته مع قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فكذلك هؤلاء لقوله: {إن كنتم صادقين}، ولا سيما والظاهر أن هؤلاء هُمُ الذين قال لهم قبل هذا بقليل: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]، فلذلك لم يُثبت لهمُ الإيمان مطلقاً، لأن إثباته مطلقاً يُناقِضُ نفيه، وإنَّما أثبته على تقدير صدقهم في إسلامهم، لأن صدق الإسلام هو مطابقةُ اعتقاد القلب لما يظهَرُ من أفعال الجوارح، كما تقدم شرحه، وهذا بيِّنٌ والحمدُ لله رب العالمين. وهذا آخرُ البحث عن أدلَّة المخالفين، والجواب عليهم، وقد طالَ وأمَلَّ، ولكن كثرةُ جهلِ بعض المعاصرين أثارَ البساط إلى ذكر قليلٍ من كثيرٍ من علوم العارفين، والله تعالى ينفع بذلك ويعيذُني من فتنتَي العلم والجهل معاً، وهو حسبي ونعم الوكيل.
باب في تفسير التقوى والمتقين وأقل ذلك
باب في تفسير التقوى والمتقين وأقل ذلك وقد ذكر الثَّعلبيُّ (¬1) أكثر من ثلاثين قولاً (¬2) في ذلك من غير حجة، فيها حديثان وآثار بلا إسنادٍ. وقيل: إن الشرع قد ينقُلُ معنى التقوى في اللغة إلى اتِّقاء المعاصي كلِّها، وقيل: إلى اتِّقاء الكبائر، ولم أعرف الحجة في ذلك، لكن هذه آياتٌ من كتابِ الله تدل على غير ذلك. قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 33 - 35]. وقال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26]. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131]. وفي أول " النحل " [2]: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُون}. ومنه: {أفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُون} [النحل: 52]. ¬
وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56]. وروى السيد أبو طالب في " أماليه "، والحاكم في " المستدرك "، وأبو داود، والترمذي من حديث أنسٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}، " قال الله تعالى: أنا أهلٌ أن أُتَّقَى، فمنِ اتَّقاني، فلم يَجْعَلْ معيَ إلهاً، فأنا أهلٌ أن أغفرَ له " (¬1). ومما يدلُّ على ذلك أن الله تعالى قد أضاف التقوى إلى القلوب، لاختصاصها بالقلوب، فقال: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الحجرات: 3]، والقلوبُ ليس فيها شيءٌ من أعمال الجوارح الظاهرة، وإنما فيها تقوى الشِّرك، وتقوى الرياء بتصحيح النية، وإخلاص التوحيد، والعمل لله تعالى. ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحقرنَّ أحدُكم أخاه، ها هنا التقوى، ها هنا التقوى ". ثلاثاً، ويشير إلى صدره. رواه مسلم (¬2) من حديث أبي هريرة، وإنما كرَّر ذلك للتأكيد، وإنما أكَّده، لعدم اعتبار الأكثرين بذلك، وقد عقَّب ذلك على قوله: " لا يحقرنَّ أحدكم أخاه " لما تقرَّر أن الكرم: التقوى، فخافَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرى المؤمنُ المجتهدُ من هو دُونه في عملِ الظاهر، فيزدريه، ويظنّ أن ما كان في الباطن لزم ظهورهُ، فأوضحَ بهذا عظيمَ التفاوت في الباطن الذي ¬
يخفى، وزجرَ عَنِ الاستهانة والاستحقار بالمسلم، لجهالة باطنه. فالوليُّ مخبوءٌ في الناس لا يُدرى أيُّهم هو، كما أن الرضا مخبوءٌ في الطاعات لا يُدرى في أيِّها هو، والسُّخطُ -نعوذ بالله منه- مخبوءٌ في المعاصي، لا يُدرى في أيِّها هو. ولذلك قال الله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]. والذي يوضِّحُ ذلك أن المتقي في اللغة: هو من اتَّقى شيئاً ما، والاشتقاقُ يحصل بفعلٍ واحدٍ، كما يُسمَّى القاتل قاتلاً بقتل نفسٍ واحدةٍ، والعاصي عاصياً بركوب معصيةٍ واحدةٍ، فكذلك يُسمى المؤمنُ متَّقِياً باتِّقاء أعظم الذنوب، وهي جميع ذنوب الكفر على أكثر صورها، لكنه يجمعُها التَّكذيب بالله، أو شيءٍ من كُتُبِه، أو بأحدٍ من رُسُله، أو الاستهانة بشيءٍ من ذلك، فمتى وحَّدَ العبدُ ربَّه، وأخلص توحيده من النِّفاق، واتَّقى الكفر وجميع أنواعه، وأخلص في ذلك، فقد حصل في أدنى مراتب التقوى، بحيثُ تصحُّ منه العبادة، ويُرجى له قَبُولُها، وأن يخرج من جملة من لا تصح له عبادةٌ من أهلِ الكفر، وفيهم إن شاء الله يقول الله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، لإجماع المسلمين على خطاب صاحب الكبيرة بالعبادات ووجوبها عليه وصحتها منه، لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54] الآية. فهذا حصرٌ لموانع القبول في الكفر، ولله الحمدُ. ويدل على ذلك من السنة الصحيحة دلالةُ النُّصوصية: الحديثان المقدَّمان في تفسير الإحسان: بإخلاصِ الإسلام من النِّفاق، أحدهما عن أبي هريرة، والآخر حديث عبد الله بن مسعودٍ، متَّفقٌ على صحَّتِهما. ¬
ويُرجى للمسلم -إن شاء الله- أن يدخل فيما وعد الله المتقين من المغفرة والرحمة، ويكون ذلك له وسيلةٌ إلى (¬1) التَّرقِّي إلى أرفعِ مراتب التَّقوى، حتى يتَّصِفَ بالأتقى الذي يُجَنَّبُ النار، ولا تمسُّه، لقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17]. وقد أثنى الله على المتقين الذين يظنُّون أنهم ملاقوا ربِّهم، وأنهم إليه راجعون، وقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون} [القلم: 34 - 36]. يوضِّحُه أنه (¬2) ربما عبَّر عنهم بعبارتين تدلُّ إحداهما على الأُخرى، كما قال في الجنة مرَّةً: {أُعِدَّت للمتقين} [آل عمران: 133]، ومرة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، والإيمان متى تعدَّى بالباء إلى أمرٍ معيَّنٍ، لم يجُزْ تفسيره بالأعمال، لكن صاحب التقوى الناقصة لا يأمَنُ مِنْ (¬3) مطلقِ العذاب المنقطعِ حتى يُرحَمَ أو يُشفَعَ له، كما دلت السنة على تفصيلِ ذلك. ولم تزل السنة تفصِّلُ مجملات (¬4) القرآن وتخصِّصُ عمومه في أركان الإسلام، وأكثر الأحكام، فما خصُّ هذه المسألة بعدم قبول السنة في تفاصيلها (¬5). وقال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 67 - 70]. وأثنى الله على النصارى الذين آمنوا بالكتاب الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ¬
بقولهم: {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 84 - 85]. فجزاهم بالقول الصادق المُخلِصِ لله تعالى، فدلَّ على أن ذلك أدنى مراتب التقوى. ويُقوِّي هذا ما ثبت في تفسير الظلم بالشرك (¬1) فإنه متى انتفى الظلم الموعودُ صاحبُه بالخلود لم يَبْعُدْ ثبوتُ التقوى الموعود صاحبها بالجنة، ولو بعد عذابٍ منقطعٍ، وقد ثبت تفسير الظلم بالشرك من حديث ابن مسعودٍ عند البخاري ومسلم من قول أبي بكر، وعند الحاكم في التفسير. ومما يدلُّ على ذلك من كتاب الله تعالى قوله سبحانه في أول سورة البقرة [2 - 3]: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فهؤلاء أهل المرتبة الرفيعة من المُتقين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل، ثم عطف عليهم أهل المرتبة (¬2) الدنيا من المُتَّقين، فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون} [البقرة: 4]، ولذلك ذكرهم بعد أهل المرتبة الرفيعة، ليعلم أن غيرهم متَّقون (¬3)، وذكر بعدهم الكفار والمنافقين، وإلا، فحرف العطف كافٍ في إفادة ذلك كما سيأتي تقرير ذلك، وهذا مثل ما قال في سورة المعارج [26]: {والذين يُصَدِّقُون بيوم الدِّين}، بعد قوله [22 - 25]: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم}، فلم يكن من هذه حالُه يَشُكُّ في يوم الدِّين، ولا يُوصَفُ بهذا الثناء بأرفع مراتب القرب لمجرد التصديق، وإنما هذا في معنى البيان لأقسام أهل الجنة الذين أجملهم في " الواقعة " و" الرحمن " وغيرهما. ويدل عليه أمورٌ، منها: ذكرُ المصلين مرتين في سورة " المؤمنين "، وفي ¬
سورة " المعارج ". ففي الأولى وصفهم بالخشوع والدوام، وفي الثانية وصفهم بالمُحافَظَةِ فقط. ومنها أنه قد جاء في غير آيةٍ: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه: 112] و [الأنبياء: 94]. ومنها أنه قد جاء كثيراً الوعدُ الجازم على أحد هذه الخِصَال مفرداً، كقوله في الصدقة: {إن تُقْرِضُوا الله قرضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لكم ويَغْفِرْ لكم} [التغابن: 17]، وفي الجود: {ومن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9] و [التغابن: 16]، وفي الجهاد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] الآية. وفي الإيمان بالله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، مع ما تقدم من بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصريح الصحيح في حديث " أربعون خصلة، من عَمِلَ بواحدةٍ منها دخل الجنة، أعلاها منيحةُ العنزِ " (¬1)، وحديث الذي دخل الجنة في غُصْنِ شوكٍ أماطه من طريق المسلمين (¬2)، وحديث البَغِيَّةِ التي غُفِرَ لها برحمة كلبٍ عاطشٍ سقتهُ شَرْبَةَ ماءٍ (¬3)، وكلها في الصحيح، وشواهدها متواترةٌ عن أئمة هذا الشأن، وحديث: " فقد غفرتُ لك بخوفِكَ لي " (¬4)، مع موافقته لظواهر آياتٍ كثيرةٍ في ¬
المغفرة للخائفين مثل: {ولمن خاف مقام ربه جنتان] [الرحمن: 46]. وعن أبي الدرداء حديث في تقريرها على ظاهرها على شرط الصحيح (¬1)، وكذلك: {ذلك لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] وأمثالها. وعن عمر: لما نزل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]، إلى عشرِ آياتٍ، قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أقام هذه العشرَ آياتٍ، دخل الجنة " رواه الترمذي والنسائي (¬2). وستأتي سائر الأدلة على أن الواو في هذه العواطف للمغايَرَة، كما أنها كذلك في آياتِ الوعيد عند الخصوم، قد مضى ذلك فيحرر. ومن هذا قوله تعالى: {أُعِدَّتْ للمُتَّقين}، ثم بيَّن أنها قسمان، فقال في القسم الأول: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين} [آل عمران: 134]. وقال في القسم الثاني: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. وأصرح منها قسمتُهم إلى ثلاثةِ أقسامٍ في قوله تعالى: {ثُمَّ أورَثْنا الكتابَ ¬
باب الكلام في معنى الإصرار
الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر: 32]، وكلهم مصطفى: {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59]، فكيف يُسمَّى مُصطفىً من لا يُسمَّى مُتَّقِياً، مع ما ورد من تفسيرها في الحديث كما تقدم. ويتمُّ هذا بالكلام على معنى الإصرار والاستغفار. فأما الاستغفار، فقد تقدَّم مستوفىً. وأما الإصرار، فنذكر ما حضر فيه. باب الكلام في معنى الإصرار قال صاحب " ضياء الحُلوم ": الإصرار على الشيء: الإقامة عليه، لا يَهُمُّ بالإقلاع عنه، قال الله تعالى: {وأصَرُّوا واستكبروا استكباراً} [نوح: 7]، وقال صاحب " القاموس " (¬1): أصر على الأمر: عزم. وقال القاضي عياض في " مشارق الأنوار ": الإصرار: الإقامة على الشيء، وقيل: المُضيُّ على العزم، وقوله: يُصِرُّ على أمرٍ عظيمٍ: أي يعتقده، ويُقيمُ عليه. وقال الجوهري في " الصِّحاح " (¬2): الإصرار: الإقامة والدوام. وقال أبو البقاء في كتاب " المشوف المعلم " (¬3)، عن ابن السِّكِّيتِ: إنه الإقامة. وقال الزمخشري في كتابه " أساس البلاغة " (¬4): ومن المَجاز: أصرَّ على ¬
الذنب، مِنْ أصرَّ الحمارُ على العانة. وقال الزمخشري أيضاً في " الكشاف " (¬1) في تفسير قوله تعالى: {وأصروا واستكبروا استكباراً} من أصرَّ الحمارُ على العانة: إذا صرَّ أذنيه، وأقبل عليها، يكدُمها ويطرُدُها، استُعِير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها. انتهى بحروفه من " الكشاف ". وقوله: صرَّ أُذنيه: أي سوَّاها، وقوله: يكدُمها: أي: يعَضُّها. وقال (¬2) في تفسير قوله تعالى: {ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون} [آل عمران: 135]، ولم يقيموا على قبيح فعلهم، غير مستغفرين، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرةً " (¬3). ورُوِيَ: " لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار " (¬4) انتهى بحروفه من " الكشاف " (¬5). وقد ظهر من مجموع كلامهم أن منهم من جعل الإصرار مجرد الإقامة على الذنب، ومنهم من شَرَطَ في هذه التسمية العزم على عدم التوبة والهمِّ بها، كما صرَّح به صاحبُ " الضياء "، وقد صرَّح به القاضي عياض بالاختلاف في تفسير الإصرار، وإن منهم من قال: هو المُضِيُّ على العزم، وظاهر كلام الزمخشري في " كشافه " يعضُدُ هذا القول، كما هو الحقيقة في إصرار الحمار على العانة، إلا أن يُقال: هو قبلَ تمامِ الفعلِ المضي على العزم، وبعده: العزم على المُعاوَدَة والإقامة، ولا شك أن هذين إصرارٌ، وأما الإقامة مع العزم على التوبة وتسويفها، أو مع الهمِّ بها، والندم والاستغفار، ففي كونه إصراراً نظرٌ، لاختلاف أئمة اللغة في النَّقل، ولما في ظواهر القرآن والحديث في الاستغفار، والاعتراف والندم. ¬
أما الاستغفار، فقد تقدم ما ورد فيه من الكتاب، والسنة، واللغة العربية، التي يجب تفسيرُ كلام الله ورسوله بها، ولا حاجة إلى التطويل بإعادته، ومن أحسنه حديث: " ما أصَرَّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرةً " وأمثاله، حتى قال الزمخشري في " كشافه " في تفسير: {ولم يُصِرُّوا على ما فَعَلوا}: ولم يصرُّوا غير مستغفرين، وروى الحديث المقدم. وأما الاعتراف، فلقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102]. وفي " البخاري " من حديث سَمُرَةَ كما تقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في رُؤياه الطويلة أنه رأى قوماً نِصْفُ خُلوقهم كأحسن ما خلق الله، ونصف خلوقهم كأقبح ما خلق الله، فقال. " ما هؤلاء؟ " فقيل له: هؤلاء الذين خَلَطُوا عملاً صالحاً تاب الله عليهم (¬1). أو كما ورد في سيِّدِ الاستغفار عن شدَّادِ بن أوسٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيِّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلاَّ أنت، خلقتتي وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلاَّ أنت، قبل أن يُصْبِحَ، فمات فهو من أهل الجنة " رواه البخاري والنسائي، ورواه الترمذي بنحوه، واللفظ لهما (¬2). فقوله فيه: أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي: أي أُقِرُّ وأعترِفُ، فدل على أن للاعتراف أثراً في مغفرة الذنوب، وكذلك الاستغفارُ، وقد جُمعا في هذا الاستغفار العظيم، ولو كان بمنزلة التوبة، لم يشترط في المغفرة (¬3) لصاحبه أن ¬
يموتَ من يومه قبل أن يُمسي أو في ليلهِ قبل أن يُصْبِحَ، فإن التائب يُغفر له ما لم يَعُدْ بالإجماع، ولأنه رتَّبَ المغفرة على القول واليقين به، لا سوى. وفي باب الندامة على الذنب من كتاب " التوبة " في " مجمع الزوائد " (¬1) عن عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنْ كُنْتِ ألمَمْتِ بذنبٍ فاستغفري، فإن التوبة من الذنب: النَّدامة والاستغفار ". رواه أحمد (¬2) ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن يزيد الواسطي وهو ثقة. وفي الصحيح منه: " إنْ كنتِ ألممتِ بذنبٍ فاستغفري " (¬3). وعن أبي أُمامة مرفوعاًً نحو ذلك. ذكره الهيثمي (¬4) في باب العجلة بالاستغفار من كتاب التوبة، وقال: رواه الطبراني (¬5) بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا. فهذا ما لم يتقدم ذكرُه من الاستدلال على الفَرْقِ بين التوبة الشرعية والاستغفار، والفرق بينهما أكثرُ من أن يُحصى إذا تتبَّعت. وأما التوبة اللغوية، فقد تُوافِقُ الاستغفار وتُلازِمُه، لأنه رجوعٌ إلى الله سبحانه بطلب مغفرته، وسؤال فضله ورحمته، وذلك هو معناها، ومنه توبة الله على عبده: أي رجُوعه عليه، قال الله عز وجل: {ثمَّ تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118]، وقال: {فَتَلَقَّى آدَمُ من ربه كلماتٍ فَتَابَ عليه} [البقرة: 37]. ¬
وفي " الصحيحين " (¬1) من حديث أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " يضحَكُ الله لرجُلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخُلُ الجنة، يُقتل هذا، فيَلجُ الجنة، ثم يتوب الله على الآخر، فيهديه إلى الإسلام، ثم يُجاهِدُ فيُسْتَشْهَدُ ". وقد تدل بعض القرائن على تفسير التوبة بذلك، كما جاء في حديث أبي أُمية المخزومي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بلِصٍّ اعترف اعترافاً، ولم يوجد معه متاعٌ، فقال له: " ما إخالُك سرقت ". قال: بلى، قال: " اذهبوا به، فاقطعوه، ثم جيئوا به "، فقطعوه، ثم جاؤوا به، فقال له: " قل: أستغفِرُ الله وأتوب إليه "، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال: " اللهم تُبْ عليه ". فهذا رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طرق كلها عن حمَّاد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أبي المنذر مولى أبي ذر، عن أبي أمية به (¬2). فتعليقه الأمر بالقول من غير قرينةٍ، ولكنها هنا معارضة باعترافه، وقد يأتي الوعد معلقاً بالقول من غير قرينةٍ معارضةٍ، بل مع قرينةٍ أُخرى، كذكر يوم الجمعة: " من قال يوم الجمعة بين الأذان والإقامة ثلاث مرات: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلاَّ هو الحي القيوم وأتوب إليه، غفر الله له ". رواه ابن السُّنِّي، عن أنس. فالتوبة هنا تقوى بالقرائن أنها اللغوية لِمَا ذكرنا من تعليقها بالقولِ والاشتراط المخصوص، وتكرير ذلك ثلاثاً، ونظائره كثيرةٌ، والله أعلم. ¬
وفي " الترمذي " (¬1) عن الخدري مثله سواء، لكن قال: عندما يأوي إلى فراشه، عِوَضاً عن الجمعة. وقال: حسن غريب. وأما قوله في سيِّدِ الاستغفار: " وأنا على عهِدك ووعدِك ما استطعتُ "، فقال ابن الأثير في " النهاية " (¬2): أي أنا مقيمٌ على ما عاهدتُك عليه من الإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك [لا أزول عنه]، واستثنى بقوله: " ما استطعتُ " موضع القدَر السابق في أمره: أي: إن كان قد جرى [القضاء] أن أنقُضَ العهدَ يوماً [ما]، فإني أخلُدُ عند ذلك إلى التَّنَصُّل والاعتذار، لعدم الاستطاعة على دفع ما قضيتَه علي. وقيل: معناه: إني متمسِّكٌ بما عهدتَه إليَّ من أمرِكَ ونهيك، ومُبْلي العُذْر في الوفاء به قَدْرَ الوُسْعِ والطاقة، وإن كنت لا أقْدِرُ على أن أبلُغَ كُنْهَ الواجب فيه. انتهى. وفيما ذكره في التفسيرين معاً نظر: أما الأول: فَذِكْرُه الاعتذار بعدم الاستطاعة، والاستطاعة هي حجة الله على عباده عند أهل السنة والمعتزلة الجميع، كما قرَّرتُه في هذا الكتاب، وإنما أراد بالاستثناء رد الأمير في الاستقامة إلى مشيئة الله تعالى ولُطْفه، وإعانته، كقول شعيبٍ: {وما توفيقي إلاَّ بالله} [هود: 88]، وقول يوسف (¬3): {إنَّ ¬
النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بالسُّوء إلاَّ ما رَحِمَ ربِّي} [يوسف: 53]، وقول شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89]، وقول نوح: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]. وقد بسطتُ القول في هذا الكتاب في أن الاستطاعة للعبد من الله تعالى لكمال حُجَّة الله، فيعمل العبدُ باختياره، ومشيئته، تبعاً لمتقدِّم قَدَرِ الله ومشيئته، وذلك أن الله أراد وقدَّر أن يكون العبدُ فاعلاً مختاراً، لِمَا يُوجِبُ ¬
مثوبته، أو قيام الحجة عليه، فيعمل مطابقاً لسابق القَدَرِ في اختياره، وقيام الحجة عليه، فلو كان مجبوراً غير مختار، لم يقع ما أراده الله تعالى من اختياره وقيام الحجة عليه به، ومراد الله واجب الوقوع قطعاً، عقلاً وسمعاً، ولو لم يسبق تقدير الله لذلك الاختيار ومشيئته، لم يقع ذلك البتة، لأن الله هو المكلف المريد للتكليف، المقدر له ولمقدماته وتوابعه، وهو العزيز العليم، القدير الحكيم، الخبير، فبعزته استقل بسابق التقدير والمشيئة، وبحكمته أقام الحجة على عباده بالاختيار على جميع البرية، والعمل مع القدر صحيح (¬1)، والجمع بينهما لازم، وقد بينت الوجوه العقلية والسمعية في ذلك في موضعه من هذا الكتاب فيما تقدم مستوفى (¬2). وأما التفسير الثاني؛ فلو كان كما زعم، لناقض قوله: " وأبوء بذنبي "، فإن من أبلى في (¬3) الوفاء بأوامر الله على قدر وسعه وطاقته، فقد خرج من العهدة. وقد نص الله تعالى على أنه لا يكلف نفساً إلاَّ وسعها، وإلا ما آتاها، وقال: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32]، مع أنه قد ناقض أوله بقوله في آخره: وإن كنت لا أقدر على أن أبلغ كنه الواجب فيه، ولزمه فيه ما لزم صاحب التفسير الأول، وهذا عارض، ولكنه محتاج إليه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في دُعائه ومناشدته لربه عز وجل: " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك "، رواه البخاري من حديث خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس في الجهاد والمغازي، والتفسير (¬4). وفيه جواز أن يكون تفسير العهد والوعد في سيد الاستغفار مثل تفسيرهما في هذا الحديث، فيقرب من أن يكون معناه: إني على انتظار ما عهدت ووعدت ¬
من وحَّدك ودعاك ورجاك، ولم يَدْعُ ولم يرجُ سواك. كما رواه أنس بن مالك أنه سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان منك، ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بَلَغَتْ ذنوبك عِنَانَ السماء، استغفرتني، غفرتُ لك، ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُرابَِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشْرِكُ بي شيئاً، لأتيتُك بقُرابها مغفرة ". رواه أبو عوانة في " مسنده الصحيح "، والترمذي في " جامعه "، وقال: حسن غريب من هذا الوجه (¬1)، وختم به النووي كتابه " الأربعين " الذي سماه " مباني الإسلام ". ولم أجده فيما جمع ابن الجوزي من " مسند أحمد "، ولكن لأحمد (¬2) معناه من حديث أخشن السَّدُوسي، قال: دخلتُ على أنسٍ، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " والذي نفسي بيده، لو أخطأتُم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتُمُ الله، لغفر لكم. والذي نفسي بيده، لو لم تُخطئوا، لجاء الله عز وجل بقومٍ يُخطئون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم " وهذا الحديث الخامس والثمانون بعد الثلاث مئة من " مسند أنس " في " جامع ابن الجوزي ". وفي الحديث الثاني والأربعين بعد الثلاث مئة نحوه من حديث شعبة، عن قتادة، عن أنسٍ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني " (¬3). والعجب ممن يستنكر هذه الأحاديث، ومعناها في كتاب الله عز وجل، وهل فيها زيادة على قوله تعالى: {وقال ربُّكُمُ ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ¬
الندم توبة
60]، وقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجِيبُ دَعْوَهَ الداع إذا دعان} [البقرة: 186]، وقال: {وما كان الله مُعَذِّبَهُم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33]. ويشهد لذلك قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 30]. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ما تقولون في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}؟ قالوا: ثم استقاموا، فلم يلتَفِتُوا. قال: حملتموها على غير [وجه] المحمَلِ، ثم استقاموا، فلم يلتفتوا إلى إله غيره. رواه الحاكم في " التفسير ". وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه (¬1). قلت: وهو الظاهِرُ لغةً، حيث يُحذفُ المفعول، وقد تقدَّم ما يُردُّ إليه، ويدل عليه، أنه يقتصر على تقديره، ولأن التقدير خلاف الأصل، فيجب ألا يقدر ما لا دليل عليه، والقدر الذي ذكره الصديق مجمعٌ على تقديره، والقرينة تسوق الفهم إليه، وتقدير ما زاد عليه تَقُوُّلٌ على الله، ودعوى على (¬2) كتاب الله من غير بُرهانٍ، وتقدمت شواهده في تفسير الإحسان، وتفسير الصِّراط المستقيم، بأنه عبادة الله وحده لا شريك له، لقوله تعالى حكايةً عن عيسى عليه السلام: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم} [مريم: 36]، وقوله تعالى في يس: {وأنِ اعْبُدُوني هذا صراطٌ مستقيمٌ} [يس: 61]. وبحديث معاذ المتقدم في حق الله على عباده، وحقِّهم عليه، فتقرَّر أنه لا قاطع على أن المسلم المعتَرِفَ، المستغفرَ، النَّادِمَ، يُسمَّى مصرَّاً في اللغة، والشرع، والعُرف الأول. وأما الندم، فقد قال جماعةٌ من أئمة العلم: إنه توبةٌ، ومنهم جماعةٌ من ¬
أئمةٍ المعتزلة، وقوَّاه الشيخ محمودٌ الملاحميُّ في " الفائق " ونصره الشيخ مختارٌ في كتاب " المجتبى "، واختاره الإمام يحيى بن حمزة من أئمة العترة، واحتج الشيخ مختار بقوله تعالى: {وآخَرونَ اعترفوا بذنوبهم} [التوبة: 102] الآية، لأن الاعتراف يُلازِمُ الندم فيما قال، وهؤلاء لم يجعلُوا العَزْمَ رُكْناً للتوبة، بحيث لو غَفَلَ النادِمُ عن تذكُّر المستقبل حتى يموت، صحَّت توبته، أما لو تذكَّرَهُ، فإن النَّادِمَ الصادق عندهم يستلزم العزم، فلو لم يعزِمْ مع التَّذكُّرِ، كان ذلك قادحاً في صدق ندمه عندهم. قلت: والصحيح، الاحتجاج على أن الندم توبةٌ بما ورد في الحديث، لأن التوبة شرعيةٌ، وقد ورد في ذلك أحاديث، وقد روى الهيثمي فيه تسعةَ أحاديث في بابٍ في كتاب التوبة في " مجمع الزوائد " (¬1). وقد جمع الحاكم ذلك في بابٍ جعله من الأبواب التي يجمعها أهلُ الحديث، ذكره في كتابه " علوم الحديث " (¬2) في النوع الموفي خمسين منها، ولم أقف على ما جمع الحاكم فيه، ولكني أذكر ما حضرني، وهو أحاديث أربعةٌ: الحديث الأول، وهو المشهورُ؛ حديث ابن مسعودٍ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الندم توبة " رواه ابن ماجه في " سننه " (¬3) وذكره المزي في " أطرافه " (¬4) في ترجمة عبد الله بن معقل بن مُقرِّن المُزني، عن ابن مسعودٍ، وذكر اختلافاً في سنده ينبغي ذكره لمن أحبَّ معرفة مقدار الحديث من القوة، وماله من العِلَّةِ، فأهل الحديث يقولون: بِجَمْعِ الطُّرُقِ تُعْرَفُ عِلَّةُ الحديث. قال المزي: رواه ابن ماجة في " الزهد "، عن هشام بن عمارٍ، عن ¬
سفيان بن عيينة، عن عبد الكريم الجزرِيِّ، عن زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن معقلٍ به. قال المزيُّ: ورواه سفيان بن عيينة أيضاً عن أبي سعد البقَّال، عن عبد الله بن معقل، رواه سهل بن عثمان، عن سفيان بالإسنادين جميعاً. قلت: لكن ذكر الحافظ العلائي في كتابه في المدلِّسين (¬1) ما يدلُّ على أن هذه المتابعة لا تتقوَّى بها، فقال: قال ابن المبارك: قلتُ لشريك بن عبد الله النَّخعي: تعرفُ أبا سعد البقَّال؟ قال: إي والله، أعرفه، عالي الإسناد، أنا حدَّثته (¬2)، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم، عن ابن معقلٍ، عن ابن مسعودٍ حديث: " الندمُ توبة "، فتركني، وترك عبد الكريم، وترك زياد بن أبي مريم، ورواه عن ابن معقل. انتهى. قال المزي: وتابعه سفيان الثَّوريُّ، عن عبد الكريم. رواه عن الثوريِّ عليُّ بن الجعد (¬3) وغيره كذلك. وكذلك رواه معمر بن سليمان الرَّقيُّ، عن خُصَيفٍ، عن زياد بن أبي مريم، ورواه النَّضْرُ بن عربيٍّ، وفرات بن سليمان، عن عبد الكريم، عن زياد بن أبي الجراح، عن عبد الله بن معقل، وكذلك رواه شُريك بن عبد الله في المشهور عنه، عن عبد الكريم. وقال زهير بن معاوية: عن عبد الكريم، عن زياد -وليس بابن أبي مريم-، عن عبد الله بن معقل. ورواه عبيد الله بن عمروٍ الرَّقيُّ عن عبد الكريم، فاختلف عليه، فقال: عبد الله بن جعفر، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن زياد بن أبي مريم. وقال لُوين وغيره: عن عبيد الله (¬4) بن عمرو، عن عبد الكريم، عن زياد بن الجَرَّاح. ¬
وقال علي بن الجعد في موضع آخر (¬1): عن سفيان الثوري وشريكٍ، عن عبد الكريم، عن زياد بن أبي مريم، وكأنه حملَ حديث شريكٍ على حديث سفيان، والمحفُوظُ عن شريك: " زياد بن الجراح ". وقال مغيرة بن عبد الرحمن بن عون بن حبيب بن الزَّيَّات الحرَّانيُّ (¬2): قال لي أبي يوماً: من أين جئتَ؟ قلت: من عند معمر بن سليمان، قال: ما حدثكم؟ قلت: أخبرنا عن خُصَيْفٍ، عن زياد بن أبي مريم، عن عبد الله بن معقل، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الندم توبة ". قال أبي: هذا هو زياد بن الجَرَّاح، وهو عم جدتك، وكان رجلاً من أهل الحجاز من موالي عثمان، وكان زياد بن أبي مريم رجلاً من أهل الكوفة، قدم حرَّان، فنزلها، وكان يتوكَّلُ لزياد بن الجَرَّاح. ثم قال: حدثني أبي عون بن حبيبٍ، عن زياد بن الجرَّاح، عن ابن معقلٍ، عن ابن مسعودٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر حديث: " الندم توبة ". وقد روى عبد الكريم عن زياد بن أبي مريم حديثاًً غير هذا في القولِ عندَ تدليَةِ الميت في القبر. انتهى ما ذكره المزي. فقد تابع عبد الكريم على أصل الحديث اثنان: خُصَيْفٌ، وعون بن حبيب، ولم يبق الكلام إلاَّ في زيادٍ: من هو؟ والصحيح أنه ابن الجراح، ولم يذكره في " الميزان " (¬3) بجرحٍ قطُّ. وإن يكن ابن أبي مريم، فكذلك لم يُذكر إلا بأنه مجهولٌ، لم يرو عنه إلاَّ عبد الكريم (¬4)، وجهالته من هذا الوجه باطلةٌ، فقد تابعه خصيفٌ على الرواية عن زياد بن أبي مريم، وقد وُثِّقَ فيما رواه الذهبي، فزالت جهالة العين برواية اثنين عنه، وجهالة الحال بالتوثيق، وتوبع عن ابن معقل، فزال الشذوذ والنكارة. ويشهد له حديث عائشة وابن عباس الآتيان، وإسناد مغيرة بن عبد الرحمن قويٌّ، لا غبار عليه. مغيرة وثَّقه النسائي، ¬
وأبوه وجدُّه عون لم يُذكرا في " الميزان " بجرحٍ أصلاً، ووثَّقهما. وأما خُصيف، فمن تابعي التابعين، وثقه أبو زرعة، وابن معين، وتُكلِّم عليه بالإرجاء وسوء الحفظ، فهو ثقةٌ عند البعض، وصالحُ في التوابع عند الجميع. الحديث الثاني: ما خرجه الحاكم في كتاب التوبة من " المستدرك " من حديث أبي الزِّناد، عن القاسم، عن عائشة، رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما علم الله من عبدٍ ندامةً على ذنبٍ، إلاَّ غفر له قبل أن يستغفره منه ". قال الحاكم: هذا حديث صحيح (¬1). ويعضدُ ذلك حديث ابن عباسٍ، وهو الحديث الثالث. رواه أحمد في " المسند " (¬2) من طريق يحيى بن عمرو بن مالك النُّكريّ، عن أبيه، عن أبي الجَوْزاء، عن ابن عباسٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كفارة الذنب الندامة "، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو لم تُذنِبوا، لجاء الله عز وجل بقوم يذنبون كي يغفر لهم ". ويحيى بن عمرو النكري ضعيف، ولكنه شاهدٌ لما تقدَّم، وهو من رجال الترمذي. الحديث الرابع، عن أنس أنه سمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الندم توبةٌ ". خرَّجه الحاكم في التوبة من " المستدرك " (¬3)، وقال: على شرطهما (¬4)، وهذا إسناده: ¬
أخبرنا الحسين بن الحسن بن أيوب، أخبرنا أبو حاتمٍ الرازي، وحدثنا أبو النضر الفقيه، وأبو الحسن العَنْزي، قالا: حدثنا عثمان بن سعيدٍ الدَّارمي، حدثنا عثمان بن صالحٍ السهمي، حدثنا عبد الله بن وهبٍ، عن يحيى بن أيوب، عن حُميدٍ الطويل، قال: قلت لأنس بن مالكٍ: أسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الندم توبةٌ "؟ قال: نعم. وفيه عثمان بن صالح بن رجال البخاري، وادعى ابن حجرٍ (¬1) أنه إنما روى له ما عَرَفَ صحته من حديثه ولم يستوعِبْهُ، وعدَّه الذهبي في غرائب يحيى. ويقوي ما ذكره من ذهب إلى ذلك، وما ذكره صاحب " ضياء الحلوم " من تفسير الإصرار أن الإصرار من أفعال القلوب في المعاصي، كالاستقامة في الإسلام وقد ثبت أن من أسلم، أو تاب من ذنب دون ذنبٍ (¬2)، ثم عَزَمَ على تسويف المُعاوَدَة إلى الكُفر، أو الذنب، ونَدِمَ من إسلامه أو توبته، فإنه -مع ذلك- لا يُسمَّى مستقيماً على الإسلام، ولا على التوبة، فيلزم فيمن ندم من ذنبه، وعَزَمَ على تسويف التوبة، وبادر بالاستغفار والاعتراف وسؤال التوفيق للتوبة النَّصُوح ألا يُسمَّى -مع ذلك- مصرّاً على جهة القطع، لأن الإصرارَ في الشرِّ كالاستقامة في الخير إن شاء الله تعالى. ومع عدم القطع بذلك يبقى الخوف والرجاء، وبهما يتوسَّلُ إلى التوبة بلُطفٍ الله تعالى وتوفيقه، ويقوِّي ذلك حديث: " من همَّ بحسنةٍ، كتبها الله له حسنةً كاملةً ". رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس (¬3). ولمسلم والترمذي عن أبي هريرة مثله من طرق (¬4). وفي " صحيح البخاري ": " أراد " مكان " هم "، رواه البخاري منفرداً به في " التوحيد " (¬5) في الباب الخامس والثلاثين وهو باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] من حديث قتيبة، ¬
عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة به. ورواية الهَمِّ أكثر وأحوط لأن إرادة المعصية ذنبٌ، ولذا جاء في حديثِ الفتنة: " القاتل والمقتول في النار " (¬1) تعليل استحقاق المقتول للعذاب بأنه كان حريصاً على قتل صاحبه، وفي رواية للترمذي: " يحدِّثُ نفسَه ". وليس بمعنى العزم أيضاً، لأن العزم حسنةٌ كاملةٌ، لا سيما في التوبة، فإنه (¬2) كمالُها، ويدل على أن الهم غيرُ العزم قوله تعالى: {ولقد هَمَّتْ به وَهَمَّ بها} [يوسف: 24]، فدل ذلك على أن صاحب الهم بالتوبة مع الندم على الذنب لا يُقْطَعُ بتسميته مُصِرّاً، وهو مرتبة بين التائب والمصر، لأن الاصرار على أحد القولين: العزم على الإقامة، والاستمرارُ على الذنب، وعدم الهم بالإقلاع عنه، ولذلك لم يرد في الأخبار: الاستغفار من الإصرار، وقد ورد في الاستغفار من الإسراف، لأن الإصرار المجمع عليه لا يتصوَّرُ من مسلمٍ معترفٍ بقُبْحِ ذنبه، راجٍ لفضلِ ربِّه، كارهٍ للموت على العصيان، خائفٍ أن يلقى الله عز وجل وهو عليه غضبان، نعوذ من ذلك (¬3) برحمة الرحمن، ونستعينه على طاعته، وهو نعم المستعان. وقد طال الكلامُ في جانب الرجاء لأرحم الراحمين، وخير الغافرين، ولولا الملالة، وخشية إملال (¬4) الحريص، لسُقْتُ آيات الرجاء وأحاديثه على ترتيبِ ¬
السُّوَرِ في كتاب الله، وترتيب رجال المسانيد، وقد كنتُ عزمتُ على ذلك، وشرعتُ فيه، فوجدته يُمِلُّ الرَّاغِبَ. ولا يأتي إلاَّ في مجلدٍ ضخم، وقد تقدم ما فيه كفايةٌ، وإذا كان المتقدم يزيد على قدر التواتر، فإن الخصوم نصُّوا على أن التواتر قد يحصل بخمسةٍ من آحاد الناس، فكيف لا يحصُلُ برواية جماهير الصحابة الذين يحصل العلم عند بعض أهل العلم بخبرِ الواحد منهم، وكانوا يُخبرون بذلك في المحافل، فلا ينكر أحدٌ عليهم، وعدم الإنكار من الباقين حجةٌ إجماعيةٌ، وقرينةٌ ضرورية، لأن ذلك صدر من الجَمِّ الغفير صدوراً كثيراً متكرِّراً في المحافل، فاستحال عادة أن يكون منكراً ولا ينكر، أو أن يكون قد أنكر ولم ينقل. وجملة ما تقدم من عدد الأحاديث مئة حديثٍ وخمسة وسبعون حديثاًً عن ثمانيةٍ وأربعين صحابياً، وهم على ترتيب رواياتهم في هذا الكتاب: عِتبانُ بنُ مالكٍ الأنصاري، وأنس بن مالكٍ له (17) (¬1) وعبد الله بن عمر بن الخطاب، له خمسةٌ، وعبد الله بن مسعودٍ، له (15) (¬2)، وأبو الدرداء، له (3)، وسَمُرَةُ وعبَّاس بن مِرداسٍ، وعبادة بن الصامِتِ له (4)، وجابر بن عبد الله له (8)، وعمر بن الخطاب، له خمسة، ومعاذ بن جبل، له (2)، وأبو ذر (6)، وأبو هريرة (27) (¬3)، وعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام، له (10) و (3) آثار، وعائشة (2)، وأبو أُمامة خمسة، وأبو سعيد الخُدري (3)، وأبو بكر الصِّديق (3)، وأبو موسى الأشعري (3)، وبريدة ووائل، وعبد الله بن عباس (9)، وأبو رَزين العقيلي وعمَّار بن ياسرٍ وأبو مُوَيْهِبَة وعُمارةُ بن رُوَيبة وفضالة، وعثمان بن عفان (4)، وأبو طلحة وعبد الله بن عمرو: (8)، وأبو أيوب وعقبة بن عامر: (2)، وعمرو بن العاص في فضل الصلوات، وعبد الله الصُّنابحيُّ، وسعد بن أبي وقَّاص: (2)، والبراء بن عازبٍ، والفضل بن العباس، وأبو رافعٍ، وأبو بكرة، وزيد بن ¬
ثابتٍ، ومعاوية بن الحكم، والشَّريدُ بن سُوَيْدٍ، وعبد الله بن عتبة عن أبيه عن جده، والعباس بن عبد المطلب، وشداد بن أوسٍ وثلاثة غير مسمَّين. وأما حديث يحيى بن عبد الرحمن بن حاطبٍ: " أعتقها، فإنها مؤمنة " (¬1) فأظنه مرسلاً، وثلاثة أحاديث لم يحضرني (¬2) أسماءُ رواتها من الصحابة حال كتابته، وأحد عشر صحابياً من رواة حديث الثناء على الحسن عليه السلام بالصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، لم تحضرني أسماؤهم، ويمكنُ أن يكونوا من هؤلاء، وأن يكون فيهم غيرهم، ذكرهم ابن عبد البر في ترجمة الحسن عليه السلام من كتابه " الاستيعاب " (¬3)، وقد نبَّهتُ عليها بكتابة اسمِ الصحابي الرَّاوي للحديث في حاشية الكتاب، وأزيدُ على ذلك أشياء على جهةِ الإيجاز الكثير. فمن ذلك الذي حضرني من أحاديث خروج أهل الكبائر من النار اثنا عشرَ حديثاً بلفظ الخروج من النار عن عشرين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم: علي بن أبي طالب عليه السلام (¬4)، وأبو بكر رضي الله عنه (¬5)، وأبو سعيد الخدري (¬6)، وأنس بن مالك (¬7)، وأبو هريرة (¬8)، وابن عباس (¬9)، وأبو موسى (¬10)، ¬
وعبد الله بن مسعودٍ (¬1)، وجابر بن عبد الله الأنصاري (¬2)، وحذيفة بن اليمان (¬3)، وعمران بن حُصَيْنٍ (¬4) في " مجمع الزوائد " (¬5) في مواضع متقاربةٍ في باب الشفاعة وما يناسبها. مثل ذلك عن عبادة بن الصامت (¬6)، وعبد الله بن عمرو وأبيه (¬7)، وخَرَشَةَ بن الحُرِّ (¬8)، والمغيرة (¬9)، وعوف بن مالك (¬10)، وأبي أُمامة (¬11)، وعبد الله بن سلامٍ (¬12)، وأبي بكرة، وحديثه فيما جاء في " الميزان "، والصراط والورود (¬13)، رواه أحمد برجال الصحيح والطبراني في " الصغير "، و" الكبير "، والبزَّار برجال الصحيح (¬14). وفضالة بن عبيدٍ عند أحمد (¬15) في باب الرحمة. ¬
أمَّا حديث علي عليه السلام، فرواه محمد بن منصورٍ في كتابه " علوم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - "، ويُعرف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد، ذكره في باب ما يقال بعدَ الصلوات، وقد تقدم ذكر ذلك وذكرُ إسناده وأن رجاله من أهل البيت عليهمُ السلام (¬1). وروى الترمذي عن عليٍّ عليه السلام ما يشهد لذلك، ولكن بغير لفظ (¬2) الخروج من النار، وذلك أنه روى عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن مستظهِرَ القرآن يُشَفِّعُهُ الله في عشرةٍ من أهل بيته، كلهم قد استوجب النار (¬3). وعنه عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أشفعُ حتى يناديني ربي: قد رضيتَ يا محمد؟ فأقول: أي ربِّ، قد رضيتُ ". رواه البزار (¬4). وأما حديث أبي بكر رضي الله عنه، فرواه أحمد في " المسند " (¬5)، وصحَّحه ابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح " (¬6). وأما حديث أبي سعيد، فرواه البخاري ومسلم والنسائي (¬7). ¬
وأما حديثُ أنسٍ، فرواه البخاري ومسلمٌ والنسائي وابن ماجة، وهو أول حديثٍ في " مسنده " في " جامع المسانيد " لابن الجوزي (¬1). وقال المِزِّيُّ في " أطرافه " (¬2): رواه البخاري في " التفسير "، ومسلم في " الإيمان "، والنسائي في " التفسير "، وابن ماجه في " الزهد ". وأما حديث أبي هريرة (¬3)، فرواه البخاري ومسلم والترمذي، ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (¬4) في حرف القاف في الباب الثاني من ذكر القيامة وأحوالها مع غيره. وأما حديث ابن عباس، فرواه أحمد، وهو الحديث الرابع والأربعون بعد الثلاث مئة من مسند ابن عباس من " جامع المسانيد " لابن الجوزي (¬5). وللحاكم عن ابن عباس نحوه، كما يأتي في حديث أبي موسى، فرواه الطبراني وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬6) في تفسير سورة الحجر. وللحاكم في " المستدرك " (¬7) نحوه عن ابن عباس بغير لفظه. وأما حديث ابن مسعود، فرواه مسلم في ذكر آخر من يدخل الجنة (¬8). ¬
وأما حديث جابر بن عبد الله، فله حديثان: تقدم أحدهما، وكلاهما عند مسلم (¬1). وأما حديث حذيفة، فرواه أحمد في " المسند " (¬2)، وهو الحديث السابع والأربعون من مسند حذيفة من " جامع المسانيد ". وأما حديث عِمران بن حُصينٍ، فرواه البخاري في " الرقاق " (¬3)، وذكره ابن حجر في ترجمة الحسن بن ذكوان من " مقدمة شرح البخاري " (¬4)، وقال: إن له شواهدَ كثيرة. وقال الحافظ المزي في " أطرافه " (¬5) في ترجمة أبي رجاء عنه: رواه البخاري في صفة الجنة، وأبو داود في السنة، والترمذي في صفة النار، وابن ماجة في الزهد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. انتهى. وأظن في المسانيد أكثر من هذه الطرق، فيُنقل ذلك من " مجمع الزوائد " ويُضَمُّ إلى هذا إن شاء الله تعالى، فهؤلاء أكثر من عشرةٍ كبار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روَوْا ذلك جهاراً في مواطن مختلفةٍ، ولم يُذكَرْ من بقية الصحابة نكيرٌ لذلك، ولا عن (¬6) أحدٍ من التابعين، ولا أعلم أنه تقدم من هذه الأحاديث إلا حديث جابرٍ وعليٍّ عليه السلام، وقد نبهت عليه فيما تقدَّم، والرواة عنهم أكثرُ في الوسط والطرف الآخر، ولولا خشية الإطالة، لذكرتُ من روى عنهم من التابعين، وعن التابعين من تابعيهم، لتظهرَ كثرة الرواة في الطرف الأخير وزيادتهم. ¬
وأما ما يلزم منه موافقة هذه الأخبار بغير لفظ الخروج من النار، فما لا يُحصى، مثل الأحاديث التي فيها أن الشفاعة نائلةٌ من مات (¬1) لا يشرك بالله شيئاً، هذا مرويٌّ من طرقٍ، حضرني منها طريق عبد الله بن عمر بن الخطاب (¬2)، وأبي ذر الغفاري (¬3)، وعبد الله بن عمرو بن العاص (¬4)، وعوف بن مالكٍ (¬5)، ومن الأولين: أبو هريرة (¬6)، وابن عباسٍ (¬7)، وبلفظ: " شفاعتي لأهلِ الكبائر من أمتي " عن أنس (¬8)، وابن عمر (¬9)، رواهما الهيثمي. حديث أبي ذر خرَّجه البزار برجال الصحيح، والحاكم في تفسير سورة سبأ، وقال: على شرطهما، ولم يخرجاه بهذه السِّياقَة، إنما أخرجا ألفاظاً من الحديث متفرِّقة (¬10). قلت: وهي أنها نائلةٌ من لم يشرك بالله شيئاً، وقال: في " مسند " البزار انقطاع ما بين مجاهد وأبي ذر. وعن أنس وجابر رواهما الحاكم في " المستدرك " ¬
وصحَّحهما، وقال بعد حديث أنس ما لفظه (¬1): ومن توهَّم أن هذه لفظة من ذلك الحديث -يعني حديث أنس الطويل في خروج الموحِّدين من النار المشار إليه أوّلاً- قال الحاكم: من توهَّم أن هذه لفظة من الحديث، فقد وَهِمَ، فإن هذه شفاعة فيها قمعُ المبتدعة المفرِّقة بين الشفاعة لأهل الصغائر والكبائر. قال: وله شاهدٌ من حديث قتادة وأشعث بن جابرٍ الحُدَّانِيِّ، وساقهما، وقال في حديث أشعث: إنه على شرط مسلم، ثم رواه بلفظٍ من طريق جعفر الصادق عن أبيه الباقر عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " رواه عن الصادق من طريقين: إحداهما على شرط البخاري ومسلم (¬2). وذكر الحاكم النوع الموفي خمسين من كتابه " علوم الحديث " (¬3) أنه قد ذكر أخبار الشفاعة في باب، وأنه من الأبواب التي يجمعها أهل الحديث، فانظر إلى كلام الحاكم في إرغام المبتدعة بذلك، وهو من رؤوس الشيعة، ومحبي العترة، يعلم أن موافقة كثير منْ متأخري الشيعة لوعيدية المعتزلة أمر حادث، وأن عنق الشيعة كانوا على السنة وموافقة الحديث في أكثر الأمور، كما ذلك مبين بالنقل الصحيح في كتاب الزيدية المعروف " بالجامع الكافي " تأليف أبي عبد الله العلوي الحسني رحمه الله. وفي " مجمع الزوائد " للهيثمي في أحاديث الشفاعة طرق غير ما ذكرته، منها عن ابن عمر أن " شفاعتي ليس للمؤمنين المتقين، لكنها للمذنبينَ الخاطئين المتلوثين "، رجاله ثقات (¬4). وعن عبد الله بن بسر، ولفظه: "شفاعتي ¬
للمذنبين المُثْقَلِينَ" (¬1). وعن أم سلمة، ولفظها: " وشفاعتي للهالكين " (¬2)، وعن أبي أمامة: " لِشرَار أمتي " وسنده ضعيف (¬3). وأما أحاديث الشفاعة لأهل لا إله إلاَّ الله، فكثيرٌ غير ما تقدم، منها في " مجمع الزوائد " عن معاذ وأبي موسى من طريق عاصم القارىء، وبقيتهم رجال الصحيح (¬4)، وعن أبي موسى برجال ثقات (¬5) وأنس من طريق علي بن قرة بن حبيب (¬6)، وعنه (2) من طريق يزيد الرقاشي (¬7)، وعنه (3) برجال الصحيح (¬8)، وعنه حديث (4) وقد تقدم. وعن أبي أيوب من طريق ابن لهيعة (¬9)، وعن أبي ¬
سعيد في أبواب البعث (¬1)، وفي فضل لا إله إلاَّ الله، عن يعلى بن شداد ... (¬2). وأما بلفظ " شفاعتي لأمتي "، و" اختبأت دعوتي لأُمَّتي " فكثيرةٌ جداً، بالغٌ مبلغ التواتر، والله سبحانه أعلم. وهذا كله مع شهادة كتاب الله لذلك، حيث قال تعالى في النار: {أُعِدَّتْ للكافرين} [البقرة: 24]، وقال: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 - 16]، وقال تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86 - 87]، وقال: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48]. وقال في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]، إلى سائر ما تقدم ذكره. وقال تعالى في أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] على ما تقدم بدلائله أن الاستثناء في الخير للزيادة، وفي الشر للنقصان وغير هذه الآية مما يذكر في هذا الموضع، ومن ذلك أحاديث: " من كان آخر كلامه لا إله إلاَّ الله، دخل الجنة " (¬3)، وهي مشهورةٌ، بل متواترةٌ. وممن روى ذلك من أهل البيت عليهم السلام السيد الإمام أبو طالب في " أماليه "، وذلك أيضاً مرويٌّ عن علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في " مجموع " زيد بن عليٍّ عليه السلام في آخر كتاب الصلاة منه، ورواتها يزيدون ¬
على عدد التواتر، والذي حضرني منهم أربعة عشر صحابياً، وهم: عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وأبو ذر، وعبادة، وطلحة، وجابر، وابن عمر، وتقدم حديث علي عليه السلام وذكر بقيتهم الحافظ ابن حجر في كتابه " التلخيص " الحبير في أحاديث الشرح الكبير " (¬1)، وعزا كلَّ حديثٍ إلى من خرَّجه، فاستغنيتُ بذلك عن التطويل بنقل جميع ما ذكره. ومن ذلك أحاديث تكفير الذنوب بالمصائب والآلام والموت (¬2)، وموت الأولاد، إلى أدنى المؤذيات من الفقر، والتعب، والهم، والنَّكد (¬3)، والشوكة، كما مضى في تفسير: {فمن يعمل مثقال ذرةٍ شرَّاً يره} [الزلزلة: 8] (¬4) وفي تفسير: {من يعمل سوءاً يُجْزَ به} [النساء: 128] مثله، قال ابن عبد البر: وهو عن أبي بكر من وجوهٍ شتَّى (¬5). وفي " أسباب النزول " للواحدي له شواهد عن غيره أيضاً، عن أبي هريرة وعائشة، وفي الباب عن أنس. وقال ابن عبد البر: إن تكفير الذنوب بالآلام والمصائب أمر مجمع عليه. قلت: ثبت بل قد تواتر أن " من مات له ثلاثة أولادٍ لم يبلُغُوا الحِنْثَ، أو اثنان، كانوا له حِجَاباً من النار ". خرَّجه البخاري ومسلم، عن أبي سعيد (¬6)، ¬
وخرَّجاه هما، ومالك، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة (¬1)، والترمذي (¬2) عن ابن مسعود، والبخاري ومسلم عن أنس (¬3)، ولفظ البخاري عنه: " بفضل رحمته إياهم "، وهو يفيد عدم النظر إلى عِظَمِ الحزن وقلَّته. رواه ابن الجوزي كذلك، وعزاه إلى أفراد البخاري في الحديث الثالث والثمانين بعد الثلاثمئة من مسند أنس. وقال الترمذي في كتاب الجنائز بعد رواية حديث أبي هريرة (¬4): وفي الباب عن عمر، ومعاذٍ، وكعب بن مالكٍ، وعتبة بن عبد، وأم سُليم، وجابر، وأنس، وأبي ذر، وابن مسعودٍ، وأبي ثعلبة الأشجعي، وليس هو بالخشني، وابن عباس، وعقبة بن عامر، وأبي سعيد وقرة بن إياسٍ المُزَنِيِّ، فهو عنده عن خمسة عشر صحابيّاً. ورواه مالك (¬5) عن أبي النضر السُّلميِّ، والنسائي (¬6) عن أبي ذر، وليس في حديثه ذكر الاثنين. والترمذي (¬7) عن ابن عباس، وفي حديثه (¬8) زيادةٌ عظيمةٌ، ولفظه: " من كان له فَرَطَانِ من أمتي، دخل الجنة بهما " (¬9). قالت عائشة: فمن كان له فرطٌ من أمتك، قال: " ومن كان له فرطٌ يا مُوَفَّقَةُ " قالت: فمن لم يكن ¬
له فرطٌ من أمتك؟ قال: " أنا فرطُ أُمَّتي، لم يُصابوا بمثلي ". رواه الترمذي. وروى النسائي (¬1) من حديث معاوية بن قرَّةَ عن أبيه ما يشبهُه بغير لفظه في الفَرَطِ الواحد. وفي " صحيح البخاري " (¬2) شاهدٌ لذلك في الفرط الواحد ولفظه: " يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيَّهُ من الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ". وهذا الحديث، وحديث عائشة في الفرط يعمُّ الأولاد كسائر القرابات، والزوجات، والأزواج، والأصدقاء. وتقدم (¬3) حديث: " الحُمَّى حظُّ كل مؤمن من النار " من حديث أبي هريرة وأبي أمامة. وفي " مسلم " (¬4) عن جابر نحوه. وفي " الصحيحين " و" الترمذي " من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معاً أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما يصيبُ المؤمن من وَصَبٍ، ولا نصبٍ، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهمِّ يُهَمُّهُ، إلاَّ كفَّر الله به سيئاته " (¬5). وفيهما وفي " الموطأ " و" الترمذي " نحوه عن عائشة (¬6) وفيه: " حتَّى الشوكة يُشاكُها ". وفيهما (¬7) عن ابن مسعود نحوه، وفيه: " حطَّ الله به خطيآته كما تَحُطُّ الشجرةُ ورقها ". ¬
ورواه أبو داود (¬1) عن أمِّ العلاء: " إن مرض المسلم يُذْهِبُ خطاياه كما تُذهِبُ النارُ خبث الفضة ". ولمالك (¬2) نحوه عن يحيى بن سعيد، وعزاه رزين إلى النسائي، وعن أنس نحوه في " الترمذي " (¬3). وعن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وليست له خطيئةٌ " رواه مالك والترمذي (¬4). ولمحمد بن خالدٍ السُّلمي عن أبيه، عن جده، وكانت له صحبةٌ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سَبَقَتْ للعبد من الله منزلةٌ، فلم يبلُغها -يعني بعمله- ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده " -زاد في رواية: " ثم صبَّره على ذلك "، ثم اتفقا-: " حتَّى يُبَلِّغَه المنزلة التي سبقت له " رواه أبو داود (¬5). وعن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من يُرِدِ الله به خيراً يُصِبْ منه ". رواه مالك والبخاري (¬6). وفي الباب غير هذا، وهو أمر متواتر، فهذه ثلاثة وعشرون حديثاًً، في كتب الترغيب والترهيب، وفي حرف الفاء من " جامع الأصول " (¬7) في كتاب الفضائل شواهد لما نحن فيه، ينبغي الوقوف عليها لمن أراد الفائدة مثال ذلك في فضل العتق (¬8) خمسة أحاديث مصرِّحةٌ بنجاة من أعتق مسلماً من النار: عن أبي هريرة ¬
(البخاري ومسلم)، وأبي أمامة (الترمذي)، وأبي نجيح (أبو داود)، وشُرحبيل بن السّمط (أبو داود والترمذي)، والغريف بن الدَّيلمي (أبو داود). وفي عيادة المرضى (¬1) خمسة يستلزم ذلك عن علي عليه السلام (أبو داود والترمذي)، وثوبان (مسلم والترمذي)، وأنس (الموطأ)، وجابر (الموطأ)، وأبي هريرة، (الترمذي). ففي كل جنس أو نوع تواترٌ وشهرةٌ حتى يحصل بالمجموع فوق شجاعة علي عليه السلام، وجُودُ حاتمٍ المضروبَيْنِ مثلاً في التواتر بأضعافٍ مضاعَفَةٍ. فإن في فضل الصوم ستة عشر (¬2)، وفي فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله أربعة عشر (¬3)، وفي الحج ستة عشر (¬4)، وفي الجهاد أربعة وأربعين (¬5)، وفي الشهادة أربعة وعشرين (¬6)، وفي الذكر والدعاء خمسة عشر (¬7)، وفي الصلاة، والأذان، والمشي إليها وانتظارها، والجمعة، وصلواتٍ مخصوصةٍ؛ قدر تسعين حديثاً ونيِّف (¬8). وهذا الذي في " البخاري " و" مسلم " و" أبي داود " و" الترمذي " و" النسائي " و" الموطأ "، غير ما في المسانيد، وهو أضعاف هذا، ألا ترى أن في هذه الكتب في صلاة الضحى ستة أحاديث، وفي " مجمع الزوائد " نيف وأربعون؟ فهذه مئتا حديث وتسعون حديثاًً من فضلِ الشهادة عند الموت إلى فضل الفقر والفقراء، فقد تقدم منها مقدار ثلاثين حديثاً في الوجه الثاني من وجوه الجمع بين قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]، في أدلة المعتزلة، وإذا أضفتَ هذه العدة الكثيرة إلى ما تقدم، وهو (175) حديث صار المجموع منها قدر ثلاثمئة حديثٍ ¬
وخمسة وأربعين حديثاًً (¬1) من غير المكرَّر، إلاَّ ما سهوتُ عنه، وهو النادر إن وقع، وغالبها صحاحٌ، وبقيتها تصلح في الشواهد والاعتبارات، وتصح على قواعد الفقهاء والأصوليين، ثم لحق بعد هذه خمسةٌ وثلاثون حديثاًً من " مجمع الزوائد " من أول باب فيه عن خمسةٍ وعشرين صحابياً كما تقدم في موضعه، صارت ثلاث مئة وثمانين حديثاًً، وفيها شاهدان لحديثٍ عن أبي بكرٍ الصدِّيق عن كوثر وسويد بن عبد العزيز (¬2). قال الهيثمي (¬3): فيهما متروكان، وقد قيل إنهما ضعيفان، لا متروكان. وأما قوله (¬4) في حديث عمران بن حصين (¬5): فيه عمران القصيرُ، متروكٌ. فخطأٌ فاحشٌ، فإنه من رجال الجماعة إلاَّ الترمذي، وثَّقه جماعةٌ، وفيه كلامٌ سهلٌ قريبٌ مثل غيره من الأئمة. وإنما ذكرت هذا لأعرِّفَك أنِّي لم أُورِدْ في هذه الأحاديث من رواية الكذابين شيئاً فيما أعلمه، والله الهادي. ثم لَحِقَتْ عشرةُ أحاديث عن سبعة صحابةٍ في نجاة الميِّت عندَ المسألة في القبر بسبب الشهادتين فقط، منها عن أنسٍ (¬6) والبراء (¬7)، متفق على صحتهما، وبقيتها في " مجمع الزوائد " و" جامع الأصول ". ¬
لحق حديثان من " البغوي " عن أنس في العفو عن حقوق الله، وعن ابن عمر رواه أحمد. وفي باب سجود الشكر من " مجمع الزوائد " (¬1) في هذا المعنى (3) أحاديث: عن حذيفة عند أحمد (¬2)، وعن معاذ (¬3) وعبد الرحمن بن أبي بكر عند الطبراني (¬4). ومن مظانه في " مجمع الزوائد " فضل الأمة في المناقب (¬5)، وذكر رحمة الله وذكر الشفاعة والبعث من علامات النبوة (¬6). وفي " البخاري " (¬7) في تفسير (حم السجدة) أثر عن ابن عباسٍ، لكنه في حكم المرفوع، لأنه تفسيرٌ، وهو المغفرة لأهل الإخلاص، صارت أربع مئة تنقصُ خمسة. وفي مسند هشام بن عامرٍ حديثٌ، وفي مسند يزيد بن أسد حديث (¬8)، وفي مسند يزيد بن شجرة (¬9) وهو (28)، وحديث آخر، وهو الثالث (¬10). ¬
وبذلك كمُلَتِ الأحاديث أربع مئة في عدتي، وأظنها أكثر، لأنِّي قد زدت فيها (¬1) بعد فراغى من التسويد لحق بعد كمال الأربع مئة حديث في الرجاء أحاديث كثيرة في ذلك من " مجمع الزوائد " (¬2) منها (11) حديثاًً في المغفرة ليلة النصف من شعبان، وفى كل اثنين وخميس لجميع العباد إلاَّ لمشركٍ، أو مُشاحنٍ لأخيه، ومنها ستة في خروج الموحدين من النار إلى (11) حديثاًً، صارت (17)، ومنها في الشفاعة لأهل لا إله إلاَّ الله في " مجمع الزوائد "، ومنها خمسةٌ وعشرون حديثاًً في الحبِّ في الله، فيها اثنا عشر رجالها ثقات وفي " جامع الأصول " خمسة أحاديث في ذلك، صارت ثلاثين، وبقيتهم رجال التواتر. وأحاديث: إن أحداً لا يدخل الجنة بعمله، لكن برحمة الله. اتفق البخاري ومسلمٌ منها على حديث عائشة (¬3)، وحديث أبي هريرة (¬4)، وتفرد مسلم (¬5) بحديث جابر في ذلك، وزاد الهيثمي في " مجمع الزوائد " (¬6) عشرة أحاديث أو أحد عشر عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة حديثان، وأبي موسى وشريك بن طريفٍ، وأسامة بن شريكٍ، وأسد بن كُرزٍ، وأنس، وابن عمر بن الخطاب، وواثلة، وُثِّق رجال أربعة أحاديث منها، تقدمت في إثبات الحكمة في آخر مسألة الأفعال. وأحاديث الحسنة بعشر أو أزيد والسيئة بمثلها أو أعفو، خمسة (¬7) صار الجميع أربعةً وسبعين حديثاًً بعد الأربع مئة ¬
بحث في الفقر والأحاديث الواردة فيه
وفي شفاعة المسلمين للميت في صلاة الجنازة أحاديث. وما لم نذكر ربما يكونُ أضعاف ذلك في المسانيد الحافلة، وضممتُ إلى ذلك إظهار الرواة لذلك، وتكرارهم له من بين الصحابة فَمَنْ بعدهم من غير نكيرٍ ولا اختلافٍ، وعرفت قدر العناية بعلم الحديث وأن فائدته العُظمى التَّنزُّه عن الجهل الفاحش بالمعلومات من ضرورة الدين، والمماراة فيما هو عند العارفين من الحق اليقين المستغني بالضرورة عن البراهين، ولقد كان في كتاب الله كفاية لو قدَّمت النصوص، ولم ترجِّحِ العُموم على الخصوص، ولا زيادة على هذا البيان والله المستعان. ويتصل بهذا ما ورد في فضل الفقر في الأحاديث الصحيحة، والبلوى بالفقر كثيرةٌ، والغمُّ به كثيرٌ لأجل الجهل بفضله، فلنُورِدْ ما حضر من ذلك ليهون على الفقراء كراهته، ونقتصر على قدر (¬1) خمسة وعشرين حديثاًً منتقاة من الصِّحاح، وما له حكمها. فروى البخاري ومسلم من حديث حارثة بن وهبٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهل الجنة كل ضعيفٍ متضعِّفٍ لو أقسم على الله لأبرَّه " (¬2). قال ابن حجر في " مقدمة شرح البخاري " (¬3) هو الخاضع الذي يضع (¬4) نفسه لله، وهذا يقتضي أن العين مكسورةٌ من " متضعِّفٍ ". وقال ابن الأثير في " النهاية " (¬5) في شرح ذلك، يقال: تضعَّفتُه (¬6)، ¬
واستضعفته، يريد الذي يتضعفه (¬1) الناس ويتجبرون عليه وهذا يقتضي أنه بفتح العين. وكلام ابن حجر أرجح، لأنه أحفظُ لضبط الحديث، وأكثرُ عناية بذلك، ولأن كلامه أنسبُ بمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ "، لأنها فضيلةٌ تُناسِبُ الأفعال الاختيارية. ولكلام ابن الأثير وجهٌ أيضاً، وهو أنه يقع معه (¬2) مجموع الضعف. والاستضعاف ذوقُ الافتقار إلى الله تعالى، فيحمله على الالتجاء إلى الله تعالى بذَوْقِ الضرورة إلى ذلك، وذلك أقرب أحوال العبد إلى الله تعالى، وهو سبب فضيلة الفقر والمصائب والضرورات. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43]، فجعل التَّضرُّع سبباً للنجاة بعد مجيء بأس الله، والضرورات تستلزمه، فإن الغنى والعافية يسلُبان ذوق الافتقار إلى الله، ويجد صاحبها في قلبه (¬3) برد الغنى، وكفاية الاستغناء، فيغفل عن التضرع، ولا يذوق طعم الافتقار، فيبعد بذلك عن الله تعالى، وإن ذَوْقَ الافتقار والإقبال على الله تعالى في طلب كشف الضرورات، وقضاء المهمات خيرٌ للعبد من مطلوبه الذي طلبه، وإنما الضرورات للعبد كالسَّوط للدَّابَّة. ويؤيد هذا المعنى الذي ذكره ابن الأثير حديث: " رُبَّ أشعثَ أغبرَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه ". رواه مسلم عن أبي هريرة (¬4). وروى الحاكم (¬5) في تفسير سورة القلم من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه ¬
يقول: " أهلُ النار كلُّ جَعْظِريٍّ جَوَّاظٍ مُستكبرٍ جمَّاعٍ، وأهل الجنة الضعفاء المغلوبون " وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلم، وسيأتي شيءٌ (¬1) من كلام الصُّوفيَّةِ في ذلك، وكذلك سائر الأحاديث التي تأتي الآن، فإنها تُناسِبُ تفسير ابن الأثير، والله أعلم. فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في محاجة الجنة والنار: وقالت الجنة: " فما لي لا يدخلني إلاَّ ضعفاء الناس وسَقَطُهُم؟ " (¬2). وروى مسلمٌ (¬3) عن أبي سعيد في مثل ذلك: " قالتِ الجنة: فيَّ ضُعُفاءُ الناس ومساكينُهم ". وفي " البخاري " في " صفة الجنة " (¬4) عن عوفٍ، عن أبي رجاء، عن عِمران بن حصينٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اطَّلعتُ في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء ". وروى البخاري والترمذي عن ابن عباسٍ وعمران معاً (¬5). وفي " البخاري " (¬6) عن سليمان التيمي عن أبي عثمان، عن أسامة، عنه ¬
- صلى الله عليه وسلم -: " قمتُ على باب الجنة، فكان عامَّةُ من دخلها المساكين وأصحابُ الجَدِّ محبوسُون، غير أن أهل النار قد أُمِرَ بهم إلى النار ". وفي " أبي داود " و" الترمذي " عن أبي سعيدٍ مرفوعاً: إن فقراء المهاجرين يدخلون قبل أغنيائهم بخمس مئة عامٍ. قال الترمذي: حسن غريب. ورواه مسلم أيضاً (¬1). وقال أحمد في " المسند ": حدثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " يدخل فقراء المؤمنين قبل أغنيائهم بخمس مئة عامٍ " رجاله على شرط البخاري ومسلم، ورواه ابن ماجة في الزهد من حديث محمد بن بشرٍ ومحمد بن إبراهيم كلاهما عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. ورواه الترمذي في الزهد عن سفيان الثوري، عن محمد بن عمرو به، وقال: حديث حسن صحيح. ورواه النسائي في " التفسير " عن الثوري به، ورواه الترمذي عن المحاربي عن ابن عمرو به. وفي " مسلم " (¬2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص: " بأربعين خريفاً ". ومثله في الترمذي (¬3) عن أنس وقال الترمذي: حديثٌ غريبٌ. ومثله فيه عن جابرٍ (¬4)، وقال: حديث حسن. وقد جُمِعَ بين الأحاديث بأن من الفقراء من يسبق بخمس مئة، ومنهم ¬
بأربعين، ومن الأغنياء من يستحق التأخير بخمس مئة، ومنهم من يستحق التأخير بأربعين، على قدر تفاوت الأحوال والأعمال. وقال ابن الجوزي في " جامع المسانيد " في الحديث السابع عشر بعد الأربع مئة من مسند ابن عباس: حدثنا أحمد (¬1)، قال: حدثنا حسن، قال: حدثنا دُويد، عن سَلْم بن بشيرٍ، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " التقى مؤمنانِ على باب الجنة: مؤمنٌ غنيٌّ، ومؤمنٌ فقيرٌ، كانا في الدنيا، فأُدْخِلَ الفقيرُ الجنةَ، وحُبِسَ الغني ما شاء الله أن يُحبس، ثم أُدخِلَ الجنة، فلقِيَهُ الفقير. قال: أي أخي، ماذا حبسك؟ والله لقد حُبِسْتَ حتى خِفْتُ عليك. فقال: أي أخي: إني حبست بعدك (¬2) مَحْبِساً فظيعاً كريهاً، وما وصلتُ إليك حتى سال مني من العرق ما لو ورده ألفُ بعيرٍ كلها آكلة حَمْضٍ، لصدَرَتْ عنه رِواءً. قلت: الحمض: شجر تأكله الإبل. وقال الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " (¬3): حدثنا الشيخ أبو الوليد الفقيه، أخبرنا حسام بن بشر، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنيَّةَ، عن حفص بن عمر بن الزبير، عن أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كان ليعقوبَ أخٌ مؤاخٍ في الله، فقال ذات يومٍ: يا يعقوب، ما الذي أذهب بصرك، وقوَّس ظهرك؟ فقال: أما الذي أذهب بصري، فالبُكاء على يوسف، وأما الذي قوَّسَ ظهري، فالحزن على ابني يامين، فأتاه جبريل ¬
عليه السلام، فقال: إن الله يُقرِئُك السلام، فقال: أما تستحي تشكوني إلى غيري؟! فقال: إنما أشكو بثِّي وحُزْني إلى الله. فقال جبريل: اعلم ما تشكو يا يعقوب. قال: ثم قال يعقوب: أي ربِّ، أما ترحم الشيخ الكبير، أذهبتَ بصري، وقوَّسْتَ ظهري، فاردُد عليَّ ريحانتي أشمُّه (¬1) شماً قبل الموت، ثم اصنع بي ما أردتَ، فأتى جبريل فقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول: أبشر، وليفرَح قلبُك، فوَعِزَّتي لو كانا ميِّتَيْنِ، لنشرتُهما، فاصنع طعاماً للمساكين، فإن أحبَّ عبادي إليَّ الأنبياء والمساكين. أتدري لم أذهبت (¬2) بصرك، وقوَّسْتُ ظهرك، وصنع إخوةُ يوسف به ما صنعوا؟ إنَّكم ذبحتم شاةً، فأتاكم مسكينٌ يتيمٌ، وهو صائمٌ، فلم تُطعموه منها شيئاً. قال: فكان يعقوبُ بعد ذلك إذا أراد الفداء أمر منادياً فنادى: ألا من أراد الغداء من المساكين، فليتغدَّ مع يعقوب، وإذا كان صائماً [أمر منادياً، فنادى: ألا من كان صائماً من المساكين،] فليفطر مع يعقوب ". أخرجه الحاكم في تفسير سورة يوسف، وقال: هكذا في سماعي بخطِّ يدي. حفص بن عمر بن الزبير، وأظن الزبير وهماً من الراوي، فإنه حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك، فإن كان كذلك فالحديث صحيح (¬3). قال الحاكم: وقد أخرج الإمام إسحاق بن راهويه هذا الحديث في تفسيره ¬
مرسلاً أخبرناه أبو زكريا العنبريُّ، حدثنا محمد بن عبد السلام، حدثنا إسحاق، أخبرنا عمر بن محمدٍ، حدثنا زافرُ بن سليمان، عن يحيى بن عبد الملك، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو الحديث. وقال ابن الجوزي في الحديث الثالث والستين بعد السِّتِّ مئةٍ من مسند أبي هريرة: أخبرنا أحمد (¬1)، أخبرنا أزهر بن القاسم الراسبي، أخبرنا هشام، عن عباد بن علي، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ويلٌ للأُمراء، ويلٌ للعُرَفاء، ويلٌ للأُمناء، ليَتَمنَّينَّ أقوامٌ يوم القيامة أن ذوائِبَهم كانت معلَّقةً بالثُّريَّا، يُدَلَّون بين السماء والأرض، ولم يكونوا عَمِلُوا على شيء ". وروى البخاري وابن ماجه (¬2) من حديث أبي حُصينٍ، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تعسَ عبدُ الدينار والدِّرْهَم والقَطِيفة، طُوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسُهُ، مغبَرَّةً قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، وإن كان في الساقة، كان في الساقة، إن استأذن لم يُؤْذَنْ له، وإن شَفَع لم يُشَفَّع " رواه البخاري في الجهاد، وابن ماجة في الرِّقاق، وذكر اختلافاً في رفعه. وروى البخاري في حديث ابن عباس الذي فيه قصَّتُه قيصر مع أبي سفيان، وفيه أن ضعفاء الناس هم أتباع الرسل (¬3)، وكفى بها كرامةً مُرَغِّبَةً في الفقر. ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، وكفى بهذه الآية الكريمة مُزَهِّدةً في الغِنى. وروى البخاري من حديث محمد بن طلحة، عن طلحة، عن مُصعبِ بن ¬
سعدٍ، قال: رأى سعدٌ أن له فضلاً على من دُونَهُ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بضُعَفَائِكُم ". ورواها النسائي ولفظه: " إنما يَنْصُرُ الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم (¬1) وصلاتهم وإخلاصهم " (¬2). وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة محمد بن طلحة الراوي له (¬3) الاختلاف في محمدٍ هذا، وذكر أن حديثه هذا فردٌ إلاَّ أنه في فضائل الأعمال. قلت: لعله يريد أنه فردٌ من طريق سعدٍ، لا مطلقاً، فقد جاء عن أبي الدرداء (¬4) عنه - صلى الله عليه وسلم - مثله. رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وحديث الأخَوَين اللذين كان أحدهما يلزم المسجد، وأحدهما يحترِفُ، فشكا أخاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " لعلَّكَ تُرزَقُ به ". رواه الترمذي وحده في " الزهد " (¬5) من حديث أبي داود الطيالسي، عن حمَّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، وهو على شرط مسلمٍ، ذكره النووي في " رياض الصالحين " (¬6)، وقال الترمذي: حديث صحيح حسن غريب. وروى البخاري (¬7) في فضل الفقر من الرِّقاق من حديث أبي حازمٍ، عن أبيه، عن سهل بن سعدٍ الساعدي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه في ذكر تفضيل فقيرٍ على غنيٍّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وقد رأى فقيراً مسكيناً وغنيّاً من ذوي الجَدِّ والهَيْبَة: " هذا خيرٌ من مِلْءِ الأرضِ مثل هذا ". ¬
وفي كتاب الخصائص النبوية من " تلخيص " (¬1) الحافظ ابن حجر، قال ابن سعد (¬2): أخبرنا أبو النَّضر، حدثنا أبو معشر، عن سعيدٍ، عن عائشة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: " لو شئتُ، لسارت معي جبالٌ الذهب. أتاني مَلَكٌ فقال: إن ربَّك يُقرِئُكَ السلام، ويقول لك: إن شئتَ كنت نبيَّاً مَلِكاً، وإن شئت نبياً عبداً، فأشار إليَّ جبريل أن ضَعْ نفسك، فقلت: نبيَّاً عبداً ". فكان بعد ذلك لا يأكُلُ متَّكِئاً، ويقول: " آكُلُ كما يأكُلُ العبد، وأجلس كما يجلسُ العبدُ ". قلت: سعيدٌ الراوي عن عائشة يُحتمل أنه ابن المسيِّب، فإنه مكثرٌ عنها، وأنه ابن جُبيرٍ، وأنه المَقْبُرِيُّ، وأنه ابن العاص. كلُّهُم رَوَوا عنها (¬3). وفي " صحيح البخاري " في كتاب المظالم في باب الغُرْفة والعُِلِّيَّة المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها (¬4) من حديث الليث، عن عُقيلٍ، عن الزهري، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب بحديثٍ طويلٍ فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتزل نساءه، فوقف في غرفةٍ، أو قال في عُِلِّيَّةٍ، فاستأذن عليه عمرُ مراراً. ولا يُؤْذَنُ له، حتى أُذِنَ له في الثالثة، قال عمر: فدخلتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو مُضطجِعٌ على رمال حصيرٍ ليس بينه وبينه فراشٌ، قد أثَّرَ الرِّمال بجنبه، متَّكىءٌ على وسادةٍ من أدَمٍ حشوها ليفٌ، ثم رفعتُ بصري في بيته، فوالله ما رأيتُ فيه شيئاً يردُّ البصر غير أهَبَةٍ ثلاثة، فقلت: ادع الله فليُوَسِّع على أُمَّتِك، فإن فارس والرُّوم وُسِّعَ عليهم، وأُعطُوا الدنيا وهم لا يعبدون الله، فقال: " أوَفي شَكٍّ أنت يا ابن الخطاب، أولئك قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيِّباتُهم في الحياة الدنيا " فقلت: يا رسول الله، استغفر لي. الحديث. ¬
وفي حديث أنس بعده في " البخاري " (¬1) أنها كانت قد انفكَّت قدمُه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت، فلعلَّه سببُ اتِّكائِه على تلك الوسادة. وفي " مسند أحمد " (¬2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد زيارة فاطمة عليها السلام، فرأى على بابها ستراً، فانصرف، ولم يدخُلْ، فعرفت أنه رجع لأمرٍ كَرِهَه، فأرسلت إليه فقال: " ما لي وللدنيا، ما لي وللرَّقم، قولوا لها تنزِعُ تلك السِّتارة، وتعطيها بني فلان ". وفي الحديث: أنها عليها السلام جَرَّت بالرَّحى حتى أثَّرت الرَّحى في يدها، وأسقت بالقِربَةِ، حتى أثَّرَت في نحِرها، وكنَستِ البيت حتَّى اغبرَّت ثيابُها، وعلمت برقيق أتاهُ، فسارت إليه - صلى الله عليه وسلم - لتسأله، فوجدت عنده خداماً، فرجعت، فأتاها من الغد، فأخبره عليٌّ عليه السلام بحاجتها، فقال: " يا فاطمة، اتق الله، وإذا أخذت مضجعِك، فسبِّحي ثلاثاً وثلاثين واحمدي كذلك، وكبِّري أربعاً وثلاثين، فذلك خير لك من خادم ". وفي رواية: " ولم يخدمها " رواه أبو داود من حديث علي عليه السلام وله طرقٌ كثيرةٌ صحيحةٌ، أخرج البخاري ومسلمٌ منها طريق ابن أبي ليلى وفيها قال سفيان: إحداهن أربع وثلاثون. وإنما عزَّيتُه إلى أبي داود، لأن الذي حكيته هو لفظُه (¬3). وفي كتاب " الزهد " من حرف الزاي من " جامع الأصول " (¬4) من ذلك عن ¬
كلام في المفاضلة بين الغني الصالح المتصدق الشاكر وبين الفقير الصالح الصابر
عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن كنت تريدين الإسراع واللُّحوق بي، فليَكْفِكِ من الدنيا كزاد الرَّاكبِ، وإيَّاك ومُجالسَةَ الأغنياء، ولا تستخلفي ثوباً حتى تُرَقِّعيه ". رواه الترمذي (¬1). وعن أبي هريرة، سمعتُه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اللهم اجعل رِزْقَ آل محمَّدٍ قُوتاً ". رواه البخاري ومسلم والترمذي، وقال حسن صحيح (¬2). وعن فضالة بن عُبيدٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلَّى يَخِرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخَصَاصة -وهم أصحابُ الصَّفَّةِ- حتى يقول الأعراب: مجانين، فإذا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، انصرف إليهم، فقال: " لو تعلمون ما لكم، لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً " (¬3). فهذه أربعة وعشرون حديثاًً والأخبارُ في هذا أكثر من أن تُحصى، وإنما القصد هنا التنبيه على أن الفقر من جُملة المكفِّرات للذنوب، والمقرِّبات إلى الله تعالى، خصوصاً مع الصبر، فإنه حينئذٍ يدخل فيما وعدَ الله الصابرين، وإن شكر دخل فيما وعد الله أفضل الشاكرين، ولا يُناقِضُ هذا ما صح من استعاذة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقر، لأن ذلك بمنزلة سؤال العافية، وقد تواتر سؤال العافية فعلاً وأمراً، مع تواتر الأجر العظيم في الأمراض، وذلك لضعفٍ البشر فالسُّنَّةُ وردت بسؤال العافية والغنى (¬4)، وبالصبر عند الابتلاء. وأما المفاضلة بين الغَنِيِّ الصالح المتصدِّق الشاكر، وبين الفقير الصالحِ ¬
الصَّابر، فلا إطلاقَ فيها، بل يكون بعض الأغنياء أفضل من بعض الفقراء، لتعاظُمِ صدقاته وخيراته، كما جاء في حديث: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ " لمَّا شكى الفقراء أن الأغنياء عملوا مثل عملهم، وزادوا عليهم بالصدقات والعِتْقِ ونحو ذلك. وهو حديث صحيح (¬1)، ولكن الغنى الذي يعمل ذلك قليلٌ، وقد يكون بعض الفقراءِ أفضل، وهو الأكثر، لِمَا ورد من الأحاديث، فإنها خرحت مخرج الأكثر لمَّا كان المال حين يحصل (¬2) محبوباً: {وأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128]، كما قال تعالى، ولذلك استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فتنة الفقر، وفتنة الغنى، ولأن الحلال قليلٌ ولعلَّ المكثرين غيرُ محلِّين. وفي " البخاري " (¬3)، عن خولة الأنصارية، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن رجالاً يتخوَّضُونَ في مال الله بغير حقٍّ، فلهم النار يوم القيامة ". وقد تقدم الكلام على هذا في أول الكتاب. وقد تكلم القرطبي على ذلك في " تذكرته " (¬4) وأجاد، ويشهد لما ذكرتُه من التفضيل حديث أبي ذرٍّ المشهور في ذلك، خرَّجه البخاري ومسلمٌ من حديث عبد العزيز بن رُفَيعٍ، عن زيد بن وهبٍ، عن أبي ذرٍّ، قال: خرجتُ ليلةً من الليالي، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي وحده، فظننتُ أنه يكرهُ أن يمشي معه أحدٌ، فجعلتُ أمشي في ظلِّ القمر، فالتفتَ، فرآني، فقال: " من هذا؟ "، قلت: أبو ذرٍّ -جعلني الله فداك- قال: " يا أبا ذرّ تعاله ". فمشيت معه ساعةً، فقال: " إن المُكثِرِيَن هم المقلُّون يوم القيامة إلاَّ من أعطاهُ الله خيراً، فنفخ فيه يمينه، وشماله، وبين يديه، ووراءه، وعمل فيه خيراً ". الحديث (¬5). ¬
واعلم أن النفس تَقْوَى بالغنى على نيل الشهوات الحلال، وتستمر على ذلك، فيضعُفُ صبرُها، وتقوى صولتُها على القلب، فربما لم تجد ما قد ألِفَتْ من الحلال، فتأخذه من شُبْهَةٍ، وذلك أميلُ، ولكن قد تأخذه من حرامٍ، وأيضاً قد تشتهي شهوةً محرَّمةً، وقد ألِفَتِ الشهوات، وتمكَّنت بالغنى من تلك الشهوة المحرمة، فيكون التَّمكُّن سبباً للهمِّ، والهمُّ سبباً للعزم، والعزم سبباً للوقوع، والوقوع سبباً للمداومة، والمداومة سبباً لسوء الخاتمة. وأعظم من ذلك كله، شغلُ النفس بالغنى عن ذَوْقِ الافتقار إلى الله تعالى، ومداومة التَّضرُّع، ولزوم المناجاة، ومما قاله أهل التصوف والرياضة في ذلك: قول ابن الفارض (¬1): وأقبل إليه وانحُه (¬2) مُفلساً فقد ... وَصَيْتَ لِنُصْحي إنْ قبلتَ نصيحتي قال الشارح (¬3): مفلسٌ من كل وسيلةٍ وعلمٍ وعملٍ. يعني: لا يعتد (¬4) بها مع حصولها، لا (¬5) أنه يتركها. بِذاكَ جَرى شرطُ الهوى (¬6) بين أهلِهِ ... وطائفةٌ بالعهدِ أوْفَتْ فَوَفَّتِ ¬
متى عصفت ريحُ الغنى (¬1) قصفت أخا ... غَنَاء ولو بالفقر هبَّت لربَّتِ قال الشارح: الغِنى الأول المقصور: عدم الاحتياج، والثاني الممدود: اليسارُ والثروة. قلت: وهو في معنى قولهم: وإن الغنى إلاَّ عن الشيء لا به (¬2) وبالأول يفسِّرون غِنى الرب عز وجل، وعندي: أن الأولى تفسير غنى الرَّبِّ عز وجل بالاعتبارين معاً، والغنى الثالث هو الملك. ومعنى البيت: أن عز الربوبية وغناه يقصِفُ عزَّ الملوك وغناهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ (¬3) منك الجدُّ، وأنه مولى أهل الفقر والذِّلَّة لسَعَةِ الرحمة. وأغنى يمينٍ، باليسار جزاؤُها ... مُدى القطع ما للوصل في الحب مُدّتِ وأخْلِصْ له وأخلُصْ بِهِ عن رُعونةِ افـ ... ـتقارك من أعمالِ برٍّ تزكَّتِ قال الشارح -وهو الفرغاني-: يعني: إذا جئتَ مفلساً لم تنظر إلى إفلاسك، وتركن إلى وسيلةٍ وسببٍ، بل انظُرْ إلى من وهبَ لك الإفلاس، وسبَّبه لك وسيلة إليه، فأخلص بالنظر إلى المسبِّب من رُعونَةِ النظر إلى السَّبب. ولي في هذا رقائق كثيرةٌ أودعتها " الدِّيوان الرَّبانيِّ ". ¬
واعلم أن السِّرَّ كله في إقبال القلب على الله تعالى، وأكثر الفقراء قد أغفلهم فقرُهم عن الله، وأقبلوا بكلِّيَّتِهم على رجاء المخلوقين، فالله المستعان. وفي الأغنياء أفرادٌ قلوبهم معلَّقَةٌ بالله تعالى، كما قيل في كثيرٍ من الصحابة، كانت الدنيا في أيديهم، لا في قُلوبهم، ويدل على ذلك ما رواه الترمذي عن أبي ذرٍّ، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليست الزَّهادةُ في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكنَّ الزُّهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبْتَ بها أرغب منك فيما أنها لو بقيت لك ". زاد رزين في " كتابه ": " لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] (¬1). قلت: وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال: ومَنْ كَمُلَت فيه النُّهى لا يسرُّه ... نعيمٌ، ولا يرتاعُ للحَدَثانِ وإنما استحبَّ شيوخُ الصوفية التَّجرُّد من الأسباب، لأن الذِّلَّةَ في الفقير طبيعيةٌ وفي الغنيِّ اكتسابيَّةٌ، والطبيعي أقوى من الاكتسابيِّ. كيف إذا ضُمَّ التَّذلُّل الاكتسابيُّ إلى الذِّلَّة الطبيعية، وإلى ذلك أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " أهل الجنة كلُّ ضعيفٍ متضعِّف " (¬2) على أحد التفسيرين كما تقدم، فالله تعالى يَهَبُ لنا من الذِّلَّةِ والخضوع لجلاله، ولأوليائه، ولمساكين خلقِه ما يبلِّغُنَا رضاه. وقد يُستَدَلُّ على قوة الرَّجاء والرُّجوع إليه بقوله تعالى: {مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]، ¬
فإن القُشَعرِيرة هي الانقباضُ، ومنه حديث كعبٍ أن الأرض إذا لم تُمطر اربَدَّتْ واقشعرَّت (¬1). وحديث عمر لما ضرب أبا سفيان بالدَّرَّة، قالت له هندُ: لرُبَّ يومٍ لو ضربتَه، لاقشعرَّ بطنُ مكة. قال: أجل (¬2). ذكرها ابن الأثير في " نهايته " (¬3). فكأنَّ هؤلاء ابتدؤوا (¬4) بالتَّفكُّر في أعمالهم، وذُنوبهم، وجهلِ خواتِمِهم، وما سبقَ في علم الله لهم، فاشتدَّ خوفهم، حتَّى انتهى بهم الفِكرُ إلى رحمة الله تعالى وغناه وجمعه بين عظيم (¬5) الملك، وعظيم الحمد، فاستقرَّ في هذا المقام قرارُهم، واجتمعت عليه جلودُهم وقلوبُهم، ولذلك أجمع العلماءُ على ترجيح الرَّجاء عند الموت، لأنه اللائِقُ بالله، وإنما خِيفَت منه المفسدة على العبد، فعُوِّضَ بالخوف، لأجل المصلحة، فإذا حقَّتِ الحقائق عند النَّزْعِ، بطَلت مصلحةُ الخوف، وتعيَّن الرَّجاء واللَّجأ. قال صاحب " الابتدا " في تفسيره " تجريد الكشاف مع زيادة نكتٍ لطاف ": وإنما عدَّاهُ بإلى، لأنه ضمَّنه معنى يسكنُ ويطمئنُّ، واختلف: فقيل: تقشعرُّ من آياتِ وعيده، وتلينُ من آيات وعده عن السُّدِّيِّ. وقيل: تقشعرُّ لإعظامه خوفاً، ¬
وتلينُ عند تلاوته رجاء. كما حكاه الماورديُّ. انتهى. فقدِ اجتمعا على المعنى الذي أشرتُ، والرجاء صريحٌ في كتاب الله والنصوص النبوية كما مضى، وإنما أردتُ الاستدلال بهذه الآية الشريفة على علوِّ مرتبته، وفضيلته، حيث انتهى إليه عِرفانُ العارفين، ولأن العلم به اقشعرار الخاشين، فالحمد لله رب العالمين. وهذا آخرُ الكلام في هذا الكتاب في أحاديث الرجاء لأرحم الرَّاحمين، وخير الغافرين، زادنا الله لفضله رجاءً، وصدَّق فيه رجاءنا، ووهب لنا أضعاف رجائِنا، فإن كل رجاءٍ في حقِّ الله تعالى لا بد أن يكون قاصراً عما استأثر الله به من عظيم فضلِه المرجُوِّ، ولذلك روى الهيثمي في " مجمعه " (¬1) عن [حذيفة بن اليمان] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " والذي نفسي بيده، ليغفرَنَّ اللهُ يوم القيامة مغفرة لم تخطُر على قلبِ بشرٍ ". وجاء في الصحيح في ذكر آخر مَنْ يدخل الجنة أنه يسألُ الله أن يصرفَ وجهَهُ عن النار، ويُعاهِدُ أن لا يسأل غير ذلك، فيُعطاهُ، فيقول: لقد أعطاني اللهُ ما لم يُعْطِ أحداً من العالمين، فيرى شجرةً فيسألُ الله الدُّنوِّ منها، وأن يبقى في ظلِّها، ويُعاهِدُ أن لا يسأل غير ذلك، فيُعطاهُ، فيرى شجرةً أحسن من الأولى، فيسألُها، فيُعطاها، ويعاهِدُ كذلك، فيسمعُ منها أصوات أهل الجنة، فيقول: أيْ ربِّ، أدخلنيها فيقول: يا ابن آدم ما يَصْرِيني منك؟ أي: ما يُرضيك ويقطعُ مسألتك، أيُرضيك أن أُعطِيَكَ الدنيا ومثلَها معها؟ قال: يا رَبِّ أتستهزىءُ منِّي وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول الله: إني لا أستهزىءُ منك، ولكنِّي على ما أشاءُ قادرٌ ". خرَّجه مسلمٌ من حديث ابن مسعودٍ، وخرَّجاه بنحوه من حديثه أيضاً، وفي المتفق عليه عند البخاري ومسلم: أنه يُعطى ذلك وعشرة أضعاف الدنيا، وفيه أن الله قال له في كلِّ مرَّةٍ: " يا ابن آدم " ما أغدرك، ألم تعط المواثيق، ألاَّ تسألني غير ذلك، وفيه أن ربه يعذرُه، لأنه يرى ما لا صبرَ له عليه، وهو حديثٌ ¬
متفق على صحته (¬1)، وفي معناه أقول: إذا صحَّ منا الخُلْفُ والغَدْرُ بعدَ ما ... بغينا وصحَّ العفوُ عن ذاك والصَّفْحُ فغفرانُه عن غَدْرِنا قبل أن نرى ... جهنَّم أرجى منه إذ ضرَّنا اللَّفْحُ وقد صحَّ هذا في " البخاري " و" مسلمٍ " ... وزيدَ عليه الفضلُ إذ قُضِيَ النُّجْحُ جميعُ الأماني بعد ذاك ومثلُها ... وتسعةُ أمثالٍ كذا يكُنِ الرِّبْحُ وليس لفضل الله حَدٌّ وغايَةٌ ... له الملك حقاً، والمحامِدُ والمَدْحُ وكذلك ما في " الصحيحين " (¬2) من حديث أبي سعيدٍ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة (¬3): يا أهل الجنة، فيقولون: لبَّيْك ربنا وسَعديك، والخيرُ في يديك، فيقول: هل رضيتُم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقِك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأيُّ شيءٍ أفضلُ من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسْخَطُ عليكم بعدَه أبداً ". ففي هذه الأخبار دلالةٌ على أن فضل الله تعالى وجُودَه فوقَ آمالِ الآملين، وفوقَ رجاءِ الرَّاجين، ويعضُدُه قول الله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وما ورد أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن ¬
فصل في بحث عن الخوف والرجاء
سمعت، ولا خطر على قلب بشر. رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - في تفسير هذه الآية (¬1). فإذا ثبت أن في الجنة ما لم يخطر على قلبِ بشرٍ، ثبت أن في رحمة الله مثل ذلك، وأكثر منه، لأن الجنة بعضُ رحمةِ الله وفضلِه. فصل ولما اقتضى كمالُ مُلْكِ الله، وتمامُ عزَّته، وجلالُ كبريائه أن يكون مخُوفاً، مَهيباً، مرهوباً بالنظر إلى إصلاحِ عباده، وتأديبهم، والعدل بينهم، ونحو ذلك مما لا يحيطُ بجميعه سواه، كما أنه مرجو، ومأمول مستعانٌ (¬2) مستغاثٌ بالنظر إلى أكثر أسمائه الحسنى، وغالبِ نُعوته الحميدة، لزم كل عبدٍ لله أن يكون خائفاً مع رجائه، جامعاً بين الرَّغَبِ والرَّهَبِ في لَجائه، لأنه لا حُكْمَ للعبد على سيده، فمن ها هنا ورد الوعيد من المجيد الحميد لِمَا فيه من صلاح العبيد (¬3)، فكانا كالجَناحين للعمل، بل كالأب والأُمِّ للمولود. وفي " عوارف المعارف " (¬4) أن الخوف بمنزلة الأب: فيه الذُّكورَةُ، والرجاء بمنزلة الأُمِّ فيه الأُنوثة. ويدلُّ على ما أشرتُ إليه من اعتبار الجهتين في الخوف والرجاء قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه} [الزمر: 9]، فجعل رحمته متعلَّقَ الرجاء، وخوفَ جزاء عمله متعلَّق الخوف. وقد نبَّه على ذلك في آيتين مختلفتين: إحداهما: قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِين} [الأعراف: 56]، فعقَّب ذكر الطَّمع بذكر الرحمة التي هي من أشهر أسمائه ونعوته. وقال: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، فعقَّب الرَّهَبَ بذكر خُشُوعِ العبد الصالح لربه، فدل على أنه ¬
سببُ حُسنِ الرَّهَبِ، كما أن جُودَ الرَّبِّ وكرمه سببُ الطمعِ. ولما كان النِّزاعُ بيننا وبين خصومنا ليس هو في تخويف الموحِّدِين، وإنما هو في حقِّهم في عدم الخُلُودِ، وعدم القٌنوطِ، لم نستكثر من إيراد الأدلة على أمرٍ مجمعٍ عليه، ولكن لا بد من إشارةٍ إلى ما يَكُفُّ (¬1) الواقف على ما تقدم عن الاسترسال الذي هو عملُ الجُهَّال، بل من عادة الضُّلاَّل، وما يسترسِلُ في المعاصي لأجل أحاديث الرجاء إلاَّ من سبق في علم الله أنه كذلك لو لم يسمعها، لأنها لو كانت في علمه منشأ للمفسَدَة بكلِّ حالٍ، لعصم رسولَهُ - صلى الله عليه وسلم - من الخبر بها إن لم يكتمها عنه، ولعصمَ خيرَ أمَّةٍ أُخرِجَتْ للناس من نشرها (¬2) ولكنه كما أجاب به - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا عند سماع أخبار القدر: أفلا نتِّكلُ على كتابنا؟ فقال عليه السلام: " اعمَلُوا، فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له " (¬3)، وكما قال تعالى في الشياطين: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 162 - 163]. وقد بشَّرَ الله تعالى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة غير واحدٍ من أهله وأصحابه وأُمَّتِه، وعيَّنهم بأسمائهم، وعَلِمُوا بذلك، فما فجروا لذلك، ولا اتَّكُلوا، بل كانوا خيرَ الناس أعمالاً، وأحسنهم أحوالاً. منهم الخمسة عليهم السلام، والعشرة رضي الله عنهم، ومنهم زوجاته رضي الله عنهنَّ، ومنهم أهلُ بدرٍ، وغيرُهم، ومنهم أويسٌ القَرَني من التابعين، رضي الله عن الجميع، ولو كانت البِشَارات والرَّجاءُ مفاسدَ -ولا بد- لظهر الفساد من كل مُبَشَّرٍ بالجنة. وقدِ اختلف أهل الإسلام في تغليب الخوف أو الرجاء، مع اتفاقهم على حُسنِهما، وهذا أمرٌ قريبٌ، وقد صح اختلاف الملائكة في حُكمِ الذي رَجَعَ إلى الله تعالى بعد قتل مئةِ نفسٍ، حتى أمر الله مَلَكاً بالحكم بينهم، فكان ¬
إيراد شيء يسير من الوعيد المختص بأهل الإسلام
الفَلَجُ (¬1) لملائكة الرحمة (¬2) وكيف لا يكون لهم وإنَّما رحمتُهم جزءٌ يسيرٌ من رحمة الله العظمى الغالبة السابقة التي كتبها على نفسه، ووسِعَتْ كلَّ شيْءٍ على حدِّ سَعَةِ عِلْمِه الذي لا يُتَصوَّرُ بشيْءٍ أوسع منه. وفي حديث خصومة الملائكة عليهم السلام في هذه المسألة الكبرى مأخذٌ حسنٌ في حَمْلِ الفريقين على السلامة، وترجيح جانب الرحمة، ورجاء نجاة الجميع برحمة الله، فإن الوعيدية إنما شدَّدوا على العُصاة غَضباً لله تعالى عز وجل، وخَوْفاً من مفاسد الأمان، كما فعلت ملائكة العذاب. وأهل الرجاء إنما قصدوا عدم القُنوطِ من رحمة الله لسَعَتها، وتمدُّحه بذلك، وعظيم غناه، وخوفاً من مفاسد القُنوط، وتكذيب البُشرى، لا ترك الخوف والترخيص في المعاصي (¬3)، فلما لم يعنِّف أحداً من الطائفتين المختلفتين في ذلك من الملائكة، رَجَوْنا مثل ذلك في حقِّنا إن شاء الله تعالى. فإذا عرفت هذا، فلنقتَصِر على إيراد شَيْءٍ يسيرٍ من الوعيد المختصِّ بأهلِ الإسلام من الآيات والأخبار الصحيحة عنه عليه السلام. فمِنْ ذلك: قوله تعالى فيمن أثنى عليهم: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 27 - 28]. وقوله تعالى في خطاب المؤمنين: {واتَّقُوا النَّار التي أُعِدَّت للكافرينَ} [آل عمران: 131]، وقوله فيهم خاصةً في آية الرِّبا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من الله ورسولِه} [البقرة: 279]، ولعلَّه أشدُّ وعيدٍ قُوبِلَ به أهل الإيمان، وهي فيهم في لفظها، وفي أسباب النُّزول. وفي الحديث الصحيح أن أكل الربا من المُوبِقَاتِ (¬4). وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "درهم ¬
ربا يأكلُهُ العبد وهو يعلم أشدُّ مِنْ ستٍّ وثلاثين زنيةً". رواه أحمد في " المسند " (¬1)، ولم يذكره ابن الجوزيِّ في " جامعه "، لكن ذكره ابن تيمية في ¬
" المُنتقى "، وهو ثقةٌ عارفٌ بصيرٌ بالمُسند، فأكل الرِّبا المعلوم من المغلَّظاتِ المُوبِقَاتِ، وفيه يقول الله في آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130 - 131]. ومن ذلك قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير}، إلى قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَاد} [آل عمران: 28 - 30]. وفي هذه الآية وعيدٌ شديدٌ من وجهٍ، وذلك أن الرؤوف بالعباد لا يُعاقِبُ إلاَّ حيث عَلِمَ أن العقوبة أرجحُ من العفو لِمَا اشتملت عليه من المصالح التي استأثر بعلمها، لا سيما العقوبات الدنيوية كالحدود والقِصاص، لذلك قال الله تعالى: {ولكم في القِصَاصِ حَياةٌ يا أُولي الألبابِ} [البقرة: 179]. وما أحسن قول العلامة ابن عقيلٍ: لا تأمَنْ عقوبة من أوجب قطع اليد في رُبع دينارٍ. ومن ها هنا قال الله تعالى: {ولا تأخُذُكُمْ بِهِما رأفةٌ في دين الله} [النور: 2]. ولذلك صح أنها كفَّاراتٌ، وقد تقدم ما ورد من تعجيل عقوبة المؤمن في الدنيا بالبلاوي والأمراض، وأنواع المصائبِ. ولا شك أن الحامل على المعصية محبَّةُ اللَّّذَّة، وإدخالُ المَسرَّةِ العاجلة عليها. فإذا تقرر عند العارِفِ أنه مُعَاقَب عليها في الدنيا قبل الآخرة، ما ضر من صبر عن المعصية، حمى نفسه من المعاصي كما يحتمي العليلُ المجرِّبُ للمضَرَّةِ العظيمة في تناول كثير من الطَّيِّبات، وما أحسن قول بعضهم: ¬
ذكر فوائد في قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَته ... لا مرحباً بسُرُورٍ جاء بالضَّرر وقد تقدم أن في هذا نزل قوله تعالى: {من يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ به} [النساء: 123]، وقوله: {ومن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7]. وكانت البشرى النبوية هي في تقديم عُقوبة المؤمن بما يلقاه في دنياه، فصارت عقوبات الدنيا من أماراتِ الذُّنوب. وفي " العوارف " (¬1) أن بعض الصالحين وجد بعض متاعه قد أكله الفأر، فأنشد بيت الحماسة متمثلاً: لو كنتُ من مازنٍ لم تَستَبِحْ إبلي ... بنو اللَّقِيطَةِ من ذُهْلِ ابنِ شيبانا أي: لو كنت من الصالحين ما سطا عليَّ هذا الفأرُ. ومن ذلك قوله تعالى: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} [فاطر: 28]، وفيها فوائد: الأولى: أنه قصرَ الخشية على العُلماء، فلا تُوجَدُ في غيرهم، ولم يقصُرهُم على الخشية حتَّى لا يوجد فيهم غيرها من الرجاء، وسائر العقائد والأخلاق، وإنما خصَّ الخشية بالذكر هنا وحدها دون الرجاء وغيره، لأن الذي قبل الآية ذكر الكفر والتكذيب للرسل، إلى قوله تعالى: {ثُمَّ أخَذْتُ الذين كفروا فكيف كان نكير} [فاطر. 26]. وهذا تخويفٌ شديدٌ، فلما كان لا تُؤثِّر خشيةٌ في قلوب الجاحدين، أخبر الله أنه لا يخشاه الخشية (¬2) النافعة، أو المطلقة إلاَّ من لم يَكْفُر به، وبالمرجِع إليه، وكان عالماً بالله وبدار الآخرة فذِكْرُ هذا هو المناسب لهذا المقام. الفائدة الثانية: أن الله ذكر بعد ذلك ما يُوجِبُ الرجاء من قوله: {إن الله ¬
عزيزٌ غفورٌ} [فاطر: 28]، ثم قوله: {يَرْجُونَ تجارةً لن تبورَ} [فاطر: 29]، ثم قوله: {إنه غفورٌ شكورٌ} [فاطر: 30]. ثم ذكر آية الرجاء الكبرى في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِه .. } [فاطر: 32]، إلى آخرها، كما تقدم في موضعه. الفائدة الثالثة: أن الرجاء والخوفَ من المختلفات التي يمكن اجتماعها، لا من المتضادَّات التي يستحيل اجتماعها، وبذلك قد يجتمعان في الآية الواحدة، كقوله: {يحذرُ الآخرةَ ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9]، فهما كالصلاة والزكاة، لا كالإيمان والكفر، والصوم والفِطر، فاعرف ذلك. ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ .. } إلى قوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام} [المائدة: 94]، وفيه تحذير من التَّمكن من المعاصي، وبيان أنه للامتحان. وأما قوله تعالى في " الأنعام " [15]: {قُلْ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ ربِّي عذاب يوم عظيم}، فالظاهرُ أنها كقوله: {لَئِنْ أشرَكْتَ ليحبطنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، أي: لئن عصيتُ ربي بما لا يَغْفِرُ لي، وهو عليه السلام معصومٌ عن (¬1) ذلك، وكذلك قوله: {إذاً لأذقناك ضِعْفَ الحياة وضِعْفَ المَماتِ} [الاسراء: 75]، خرج مخرج: {لئن أشركتَ} بغير شَكٍّ، وإنما المراد تخويف المؤمنين من ارتكاب المعاصي، والتحكم والتَّألِّي على الله في مغفرته، وإنما يغفر سبحانه لمن يشاء لا حكم لعبدٍ من عباده عليه. وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون} [الأنعام: 51]. وقد تقدم ما فيها من ¬
آيات الشفاعة من أن معناها تنزيهُ المؤمنين مما ثبت ذمُّ المشركين به من اتخاذِ شركائهم -في زعمهم- شركاء لله وشفعاء إليه. ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65]. وقد ثبت في الأحاديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن الخَصلتين الأولتين، ولم يُجَبْ في الثالثة (¬1)، وأثها عقوبة هذه الأمة، فليحذرها المؤمن، فإن ترك الذنوب أهون منها بكثيرٍ، وقد قيل في الأمثال: حنانَيك بعضُ الشَّرِّ أهونُ مِنْ بعضِ فكيف يبدل الخير بالشر، واختيار النور على الظلمات، وكم بين أُنسِ الطاعة ووحشة المعصية. ومن ذلك قوله تعالى في [الأنفال: 16]: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير}. وهذا أشدُّ وعيدٍ علمتُه للمؤمنين. وقد قال الحسن البصري: إنه مختصٌّ ¬
بمن فرَّ يومَ بدرٍ (¬1)، لقوله تعالى: {يَومئذٍ} ويقدم في ذلك حديثٌ مرفوعٌ من حديث أبي سعيد. رواه أبو داود والنسائي، والحاكم، وقال: صحيحٌ على شرطِ مسلمٍ، ولفظه: أنها نزلت فينا أهل (¬2) بدر (¬3)، وفي حديث أبي هريرة عدَّها في السبع الموبقات. متفق على صحته (¬4). ومع عدم القطع، فمجرد الاحتمال يثيرُ الخوف، كما أن مجرَّدَهُ يثيرُ الرجاء، ولكن وازعُ (¬5) الخوف أقوى من روح الرَّجاء، لأن المرجُوَّ لو فات، لم يتضرر الراجي بمجرد فوت منفعته، والمرجُوُّ إذا حصل، كان مجرد زيادة لَذَّةٍ، وأما الخوف، فإنه -على تقدير وقوعه- أمرٌ فظيعٌ، يهونُ في الاحتراز منه بَذْلُ الروح في كل ساعة، كيف إلاَّ أدنى صَبْرٍ، فما كلَّفَ الله عسيراً ولا حرجاً، فله الحمد، وله الشكر، وله الثناء. ومن ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الأنفال: 24 - 25] الآيات. وفيها: {ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُم} [الأنفال: 46]، وهذا من العقوبة العاجلة. ومن التوبة [13]: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين}، وفيها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18]. ففيهما نصَّ على أن الله أحقُّ أن يُخشى، بل على أنه هو الذي لا يستحق ¬
الخشيةَ سواه، لأنه القادِرُ الذي لا مُعَقِّب لحكمه، ولا رادَّ لأمره، فكيف يُقال: إن رجاءَه يمنعُ من خوفه، أو إن مذهب الحقِّ عدمُ خوفه، بل العلم بكمال قُدرته، ونفوذ إرادته هو من خواصِّ عقائد السنة، وبه يتم قصر الخوف على الله دون غيره، ولذلك قال ابن عباس: القدرُ نظام التَّوحيد. ومن سورة هود [113]: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}. قال أبو حيان في " غريب القرآن " له أي: لا تطمئنوا. وهو حسنٌ. فإنه العرفُ في الرُّكُونِ، والزمخشري ذكرَ أصل الوضع اللغوي، والتفسير بالعُرْفِ أقوى، كالدَّابَّةِ والصلاة ونحو ذلك، وذكر الإمام المهدي محمد بن المطهِّر: أن الموالاة المجمع عليها: حبُّ الظالم لأجل ظلمه. قلت: ولذلك عُفِيَ عن حاطبٍ، وقَبِلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عُذْرَهُ، واللهُ أعلمُ. ومن الأحزاب [30] قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}. فهذا وعيد شديد، وأرجو أن يكون هو وأمثاله مما خُوطِبَ به أهل الصلاح من قبيل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]. ومنه حديث: " لو سرقت فاطمةُ بنتُ محمدٍ، لقطعتُ يدها " (¬1). ولكنه لا يمنع الخوف، لاحتماله، والمخوفُ عظيمٌ، لا يخاطِرُ حازمٌ في أدنى أدنى أدنى منه. ومن " الشورى " [30]: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} وتقدم حديث عليٍّ عليه السلام في تفسيرها، وهو وإن كان ميسَّراً في الآخرة، فإنها وعيدٌ عظيمٌ في العاجل، وخوف العاجل أنفع لكثيرٍ من ¬
النُّفوس ... ويُناسبها بعدها بيسير قوله تعالى في الفُلك: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34]. ومن " الحجرات [2]: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُون}. وقد تقدم الكلام فيها، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك أن أكتسب خطيئةً محبطةً " (¬1). وفي البخاري: " من ترك صلاة العصر، فقد حَبِطَ عملُه " (¬2). وقوله: {وأنتم لا تشعرون} وعيدٌ شديدٌ، والجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون} [آل عمران: 135]. أن المراد: وأنتم لا تشعرون بالذنب محبط عملكم بكونه ذنباً، وقوله: {وهم يعلمون} يعني: بقُبْحِ الذنب الذي أصرُّوا عليه، فالجاهل لقبح الذنب فيما يُجهلُ مثله معذورٌ، بخلاف من علم الذنب وجَهِلَ الإحباط. ومنها قوله تعالى في التَّنابُزِ بالألقاب واللَّمز: {ومن لم يَتُبْ فأولئك هم الظالمون} [الحجرات: 11]، ثم تحريمُ الغيبة، وظنِّ السوء، والتَّجسُّسِ، والسُّخرية، وهذه أمَّهاتُ التَّعادي والتَّفرُّق المحرم في كتاب الله تعالى. وفي " الممتحنة " التَّشديد في المُوالاة. وتقدم القول فيه. وفي قوله فيها: {حتى تؤمنوا بالله وحده} [الممتحنة: 4]، رخصةٌ في محبَّةِ عُصاة المسلمين لأجل الإسلام، أو خصال خير فيهم. ومن " الصَّفِّ " [3]: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تفعلون}. ¬
ومن " التحريم " [6 - 8]: {قُوا أنْفُسَكُم وأهْليكُم ... }، إلى قوله: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وفي التفسير: هي أن لا يعود رواه ... (¬1). وفي سورة " نون ": قصةً أصحابِ الجنة، وقوله تعالى: {كذلك العذابُ} [القلم: 33]. ومن " الزلزلة " [8]: {ومَنْ يَعْمَلْ مثقال ذَرَّةٍ شَرِّاً يَرَهُ} وتقدم تفسيره. فهذا ما يخصُّ المؤمنين بلا نزاعٍ من وعيد القرآن الكريم أو أكثره، وهو نيِّفٌ وعشرون آية، إن فات شيءٌ فهو اليسير. وأما العُموماتُ التي يُمكن أنها نزلت في المشركين، والتي نزلت فيهم في أسباب النزول، والتي يدلُّ سياق الكلام على أنها فيهم من قبلُ ومِنْ بعدُ، فلم أتعرَّض لذكرها، وإن كان كثيرٌ مِنها مخوُفاً، لأني قصدتُ إيرادَ أكثر الآيات زجراً، وردعاً، وتخويفاً، ونفعاً. ومن السنة في التَّخويف أحاديثُ كثيرةٌ، نقتصر منها على قدرِ ثلاثينَ حديثاًً، وقد تخيَّرت منها ما يكثُر به بلوى أهل العلم، والدِّين؛ لأنهم الذي يمكن وقوفُ بعضِهم على هذا الكتاب، والله الموفِّق للصواب. ¬
الحديث الأول: عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن العبد ليتكلَّمُ بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها في النار " رواه البخاري. وفي " الموطأ " نحوه. وفي رواية للبخاري ومسلم معاً: " إن العبد لتكلَّمُ بالكلمة ما يتبيَّنُ فيها، يَزِلُّ بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب ". وفي رواية الترمذي: " إن الرَّجُل يتكلَّمُ بالكلمة لا يرى بها بأساً يهوي بها سبعين خريفاً في النار " (¬1). الحديث الثاني: عن بلال بن الحارث المُزنيِّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يَكتُبُ الله له بها رِضوانه إلى يوم القيامة، وإن كان الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتُبُ الله له بها سَخطَهُ إلى يوم القيامة ". رواه مالكٌ، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (¬2). الحديث الثالث: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تعلَّمَ صَرْفَ الكلام لِيَسبي به قُلوبَ الناس، لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً ". رواه أبو داود، وسنده قوي (¬3). قال ابن الأثير في " النهاية " (¬4)، أراد ما يتكلَّفُه الإنسانُ في الحديث من ¬
الزِّيادة فيه على قدر الحاجة لما يدخله من الرِّياء والتَّصنُّع، ولما يُخالِطُه بن الكَذِبِ والتَّزيُّدِ. يقال: فلان لا يُحسنُ صَرْفَ الكلام، أي: فصل بعضه على بعض، وهو مِنْ صرف الدراهم وتفاضُلها. انتهى. وقوله: ليسبيَ به قُلوبَ الناس: يخرج من الوعيد أهلُ المقاصد الصالحة في بيان المعارف العلميَّةِ، وتحسين الدقائق الوعظيَّة، ونحو ذلك. الحديث الرابع: عن ابن مسعودٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " هَلَكَ المُتنطِّعُونَ ". رواه مسلم، وأبو داود (¬1). وعنه موقوفاً: " إن الرجل ليخرُجُ من بيتِه ومعه دينُه، ثم يرجِعُ وما معه شيءٌ ". رواه النسائي (¬2). الحديث الخامس: عن خارجة بن زيدٍ، عن أمِّ العلاء، امرأةٍ من الأنصار بايعتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان بن مظعون لمَّا تُوفِّي وغُسِّلَ وكُفِّنَ، دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: رحمةُ الله عليك يا أبا السَّائبِ، فشهادتي عليك، لقد أكرمك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وما يُدريكِ أن الله أكرمَه؟ " الحديث. رواه البخاري (¬3). وكان عثمان بن مظعون من فُضلاء الصحابة وعُبَّادهم. الحديث السادس: عن أنس، أن رجلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تُوُفِّيَ، فقال رجلٌ آخرُ: أبشر بالجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما يُدريك؟ لعلَّه تكلَّم بما لا يَعنيه، أو بَخِلَ بما لا يُغنيه ". رواه الترمذي (¬4). ¬
وروى الحاكم في تعبير الرؤيا من " المستدرك " (¬1) من حديث محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى، عن عبد الرحمن بن حاطبٍ، قال: اجتمعَ نساءٌ من نساء المؤمنين عند عائشة، فقالت امرأةٌ منهن: والله لا يُعذِّبُني الله أبداً، إنما بايعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا أُشرِكَ بالله شيئاً، ولا أسرق، ولا أزني، ولا أقتل ولدي، ولا آتي ببُهتانٍ أفتريه بين يديَّ ورجليَّ، ولا أعصيه في معروفٍ. وقد وفَّيت، فأُتِيَتْ في منامها، فقيل لها: أنت المتألِّيَةُ على الله تعالى؟ فكيف بقولك فيما لا يَعنيكِ ومنعكِ ما لا يغنيك؟ فرجعت إلى عائشة فأخبرتها، وتابت إلى الله تعالى. وروى البخاري عن أنسٍ أنه قال: إنَّكم لتعمَلُونَ أعمالاً هي في أعيُنِكُم أدقُّ من الشَّعر، كُنَّا نعدُّها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقاتِ (¬2). وخرَّج الحاكم في " التوبة " (¬3) عن عُبَادة من كتاب الصحابة مثل ذلك، وقال: صحيح الإسناد. وخرَّج البخاري (¬4) عن ابن عمر ما يفسِّرُ هذين الأثرين، وذلك أن أُناساً سألوا عبد الله بن عمر، فقالوا إنا ندخُل على سُلطاننا، فنقول لهم بخلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عندهم، فقال ابن عمر: كنا نعدُّ هذا نفاقاً على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ورواه النواوي عن ابن عمر في " رياض الصالحين " في الباب الثمانين بعدَ المئة، وعزاه إلى البخاري. ¬
وفي " مسند أحمد " (¬1)، عن حُذيفة: إن كان الرجُلُ ليتكلَّمُ بالكلمة على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير بها مُنافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في المَجْلس عشر مرَّاتٍ. الحديث السابع: عن ابن مسعود، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الجنة أقربُ إلى أحدكم من شِراكِ نَعْلِه، والنار مثل ذلك ". رواه البخاري في " الرِّقاق " (¬2). الحديث الثامن: عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كيف أنعمُ وصاحبُ القَرْنِ قدِ التقمَ القَرْنَ، وحنى جبهتَه يستمعُ متى يُؤْمَرُ، فينفُخ؟ " فقال أصحابُ محمدٍ: كيف نقولُ؟ قال: " قولوا: حسبُنا الله ونِعْمَ الوكيل. على الله توكلنا ". رواه أحمد وغيرُه، وهو الرابع والأربعون بعد الأربعئمة (¬3). الحديث التاسع: عن أبي أسماءَ أنه دخلَ على أبي ذرٍّ وهو بالرَّبَذَةِ، وعنده امرأة له سوداءُ مُشَعَّثةٌ (¬4)، ليس عليها أثر المجاسد ولا الخَلُوقِ، فقال: ألا تنظرون إلى ما تأمُرني به هذه السُّويداء؟! تأمرُني أن آتي العِراقَ، فإذا أتيتُ ¬
العراق مالوا عليَّ بدنياهم، وإنَّ خليلي - صلى الله عليه وسلم - عَهِدَ إليَّ أنَّ دون جسر جهنم طريقاً ذا دَحَضٍ، وإنا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدارٌ، أحرى أن نَنجُوَ، عن أن نأتِيَ عليه ونحنُ مواقير. رواه أحمد (¬1)، وهو الحديث التاسع والسبعون من مسند أبي ذر في الجامع. الحديث العاشر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه حدَّث عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من سَمَّعَ بعلمه، سمَّعَ الله به سامِعَ خَلْقِه، وصغَّره وحقَّره " فذرفَت عينا عبد الله. رواه أحمد (¬2) وهو الحديث السادس والسبعون من مسنده في " الجامع "، وليس فيه إلاَّ جهالة الراوي عن عبد الله، وهو تابعيٌّ، مجهولُهم مقبولٌ عند كثيرٍ من أهل العلم في الأحكام، كيف المواعظ. ورواه الطبراني، وسمَّى الرَّجُلَ خيثمة، هو ابن عبد الرحمن (¬3). قال الهيثمي (¬4): فبهذا الاعتبار رجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني في " الكبير " رجال الصحيح. الحديث الحادي عشر: عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخُلُ الجنة إنسانٌ في قلبه مثقال حبَّةِ خردلٍ من كِبْرٍ ". رواه أحمد (¬5). والكِبر: بطرُ الحَق وغَمْصُ الناس " (¬6)، كما ورد مرفوعاً، وليس منه محبَّةُ الجمال في الثِّياب، والهيئة، ولكنه قد يكون وسيلةً إلى الكِبْرِ مع الجهل أو الغفلة، ولذلك رُوِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ¬
قال: " مَنْ ترك لُبْسَ ثوبِ جمالٍ وهو يقدر عليه تواضعاً لله، كساه الله من حُلَّةِ الكرامة ". رواه أبو داود (¬1) عن رجل من أبناء الصحابة عن أبيه عنه - صلى الله عليه وسلم -. الحديث الثاني عشر: عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عمل الجنة الصِّدق: إذا صدَق برَّ، وإذا برَّ آمن، وإذا آمن، دخل الجنة، وعملُ النار الكذب: إذا كذبَ فجرَ، وإذا فجرَ، كفر، وإذا كفرَ، دخل النار ". رواه أحمد (¬2)، وهو التاسع والثلاثون بعد المئة من مسنده في " الجامع ". وفيه متمسَّكٌ في (¬3) خوف الذنوب أن تَجُرَّ إلى الكفر، ولا سيما للمرجئة، لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه} [الروم: 10]. الحديث الثالث عشر: عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يغفِرُ الله ليلة النصف من شعبان إلاَّ لاثنين: مُشاحِنٍ، وقاتلِ نفسٍ " رواه أحمد (¬4). وهو الرابع عشر من مسنده. ¬
وفي هذا تخويفٌ عظيمٌ من المُشاحَنَةِ، وفيها أخبارٌ كثيرةٌ، وإنَّما اخترتُ هذا، لما فيه من المُقارنَةِ بين الشَّحناء وقتل النفس. ويشهد لهذا ما رواه الحاكم (¬1) من حديث الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن ابن مسعودٍ، يرفعُه إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لو أنَّ رجُلَيْن دخلا في الإسلام، فاهتجرا، كان أحدُهما خارجاً مِنَ الإسلام حتَّى يرجِعَ الظُّالِمُ " قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. انتهى. وأحسنه كما جاء في كفرٍ دون كفر، ومنه: " المسلم من سلم المسلمون من يدهِ ولِسانِه " (¬2). وفي " سنن أبي داود " (¬3) بإسناد صحيحٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " هَجْرُ المسلم سنةً كسَفْكِ دمِهِ ". ذكره ابن الأثير في الصُّحبة من حرف الصاد في " جامعه " (¬4). الحديث الرابع عشر: عنه، عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أكثرُ مُنافقي أمَّتي قُرَّاؤُها ". رواه أحمد (¬5)، وهو الثالث والعشرون بعد المئة. ¬
الحديث الخامس عشر: عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يُحشَرُ المتكبِّرُون يومَ القيامة أمثال الذَّرِّ في صُوَرِ الناس، يعلوهُم كل شيءٍ من الصِّغار، حتى يدخلوا سِجناً في جهنَّم يقال له: بولس، تعلُوهم نارُ الأنيار، يُسْقَونَ من طينة الخبَال: عُصارة أهل النار ". رواه أحمد (¬1)، وهو السابع والسبعون بعد المئة. الحديث السادس عشر: عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أكثر أهل النار الأغنياء والنِّساء ". رواه أحمد (¬2)، وهو التاسع والسبعون بعد المئة. الحديث السابع عشر: عن حُذيفة قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يدخُلُ الجنة قَتَّاتٌ " رواه البخاري ومسلم، والقتات: النمَّامُ، وفي رواية مسلم: قيل لحذيفة: إنَّ فُلاناً يرفَعُ الحديث إلى الأمير، فقال له حذيفةُ: سمعتُه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يدخُلُ الجَنَّةَ قَتَّات " (¬3). الحديث الثامن عشر: عن جابرٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الغِيبةُ أشدُّ من الزِّنى ". رواه الطبراني (¬4). ¬
الحديث التاسع عشر: عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، عنه - صلى الله عليه وسلم - مثله. رواه الطبراني (¬1). الحديث الموافي عشرين حديثاً: عن سعيد بن زيدٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ مِنْ أربى الرِّبى الاستطالة في عِرْضِ المسلم بغير حقٍّ ". رواه أبو داود (¬2). وله في " مجمع الزوائد " (¬3) شواهد أحدها من رجال الصحيح، رواه أبو يعلى (¬4) وهو الحادي والعشرون. ومنها ما رجاله ثقاتُ، وإن لم يخرِّج حديثهُم في الصحيح (¬5). وهو الثاني والعشرون. ومنها ما خرج للاستشهاد وهو الثالث والعشرون (¬6). وبعضها عند البزار. وذكر الهيثمي لهذا الحديث مع حديث: " الغيبة أشدُّ من الزِّنى " يدلُّ على أنه أزنى من الزِّنا -بالزاي- إن كان بالرَّاء، فهو أغلظُ، كما تقدم مِنْ حديث " أكلُ درهمِ رباً معلومٍ أعظمُ عند الله من سبعين زنية " (¬7). ¬
الحديث الرابع والعشرون: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سُئِلَ عن عِلمٍ يعلمُه وكتمَهُ أُلْجِمَ بِلجامٍ من نارٍ ". رواه أبو داود والترمذي واللفظ له (¬1). وذكر بعض أهل العلم أن هذا الوعيد على كَتْمِ ما يعلمه من كتاب الله وسُنَّةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما مذهبه فيما رواه، فليس من العلم في شيءٍ، فقد يترتب على ذكر مذهبه مفسدَةٌ وخوفُ مضرَّةٍ، فيجوز له ترك حكاية ذلك، ويروي الحديث كما سمع، والله أعلم. الحديث الخامس والعشرون. عن أبي ذرٍّ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأرى ما لا تَرَوْنَ، وأسمعُ ما لا تسمعون، أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لها أن تئطَّ، ما فيها موضعُ أربعِ أصابعٍ إلاَّ وفيها مَلَكٌ واضِعٌ جبهته لله ساجداً، والله لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتُم قليلاً، ولبَكيتُم كثيراً، وما تلذَّذْتُم بالنِّساء على الفُرُش، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرُون إلى الله، ولودِدْتُ إنِّي شجرةٌ تُعْضَدُ ". ويروى عن أبي ذر موقوفاً. رواه الترمذي وأحمد، قال الترمذي: حديث غريب (¬2) وفي الصحيح له شاهدٌ يأتي الآن عن أبي هريرة. قلت: هذا حديثٌ صحيح المعنى، فإن كليم الله موسى عليه السلام خرَّ صَعِقاً من اندكاك الطُّور، مع قوَّةِ حاله مع الله، فكيف سائرُ المؤمنين لو كُشف لهم ما كُشِفَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خوارِقِ المَلَكُوتِ الباهرة التي تتلاشى عند بعضِها القُوى البشريَّة؟ ولو أن الإنسان رأى غيرَه يُعَذَّبُ العذاب الأكبر، ما احتمل رؤية عذاب غيره. يُوَضِّحُه الحديث السادس والعشرون: قالت عائشة: ما رأيتُ رسول الله ¬
- صلى الله عليه وسلم - مُستجمِعاً قطُّ، ضاحكاً حتَّى تُرى منه لهواتُه، إنما كان يتبسَّمُ. زاد في رواية. وكان إذا رأى غيماً عُرِفَ في وجهه، فسألته عن ذلك، فقال: " وما يُؤَمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ قد عُذِّبَ فيه قومٌ بالرِّيح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: {هذا عارضٌ مُمْطِرُنا} [الأحقاف: 24] ". وفي رواية: كان إذا رأى مَخِيَلَةً في السماء أقبل وأدبر، وخرج ودخل، وتغيَّر وجهُه، فإذا أمطرت [السماءُ]، سُرِّيَ عنه (¬1). فهذا وخوفه - صلى الله عليه وسلم - على غيره، بل الظاهر أن خوفه هنا على من عاصره من المشركين من أقاربه من قريش وغيرهم، فإنه عليه السلام كان بهم شفيعاً، ولذلك قال الله تعالى: {فلا تَذْهَبْ نفسُكَ عليهم حَسَراتٍ} [فاطر: 8]، فكيف بمن يخافُ على نفسه؟. وقد خرج البخاري هذا المعنى عن أنسٍ، وهو: الحديث السابع والعشرون: قال أنسٌ: كانت الرِّيحُ إذا هبَّت، عُرِفَ ذلك في وجه رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). الحديث الثامن والعشرون: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو تعلمون ما أعلمُ، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً ". رواه البخاري والترمذي، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ (¬3)، وقد تقدم نحوه عن أبي ذرٍّ من طريقٍ غريبةٍ. الحديث التاسع والعشرون: عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خافَ أدلجَ، ومن أدلجَ، بلغَ المنزلة ألا إنَّ سلعةَ الله غاليةٌ، ألا إنَّ ¬
حديث الثلاثة المخلفين
سلعةَ الله الجنة" رواه الترمذي (¬1)، وقال: حديثٌ غريبٌ. قلت: وما أحسن قول ابن الفارض (¬2) في هذا المعنى: بذلتُ له رُوحي لراحة قُرْبِهِ ... وغيرُ عجيبٍ بذليَ الغالي بالغالي وقد تقرَّر في كتاب الله فضلُ الخوف في غير آيةٍ، كقوله تعالى: {ذلك لمن خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8]، وقولِه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ} [الرحمن: 46]، وقوله: {إنَّ الذين يَخْشَونَ رَبَّهُم بالغَيْبِ لَهُمْ مغفرةٌ وأجْرٌ كبيرٌ} [الملك: 12]. ولنختم هذه الأحاديث بحديث الثلاثة المخلَّفين، لِمَا فيه من ترقيق القلوب القاسية، وتخويف النُّفوس الغافلة، ولذلك رواه البخاري في تسعةِ مواضعَ من " صحيحه ". الحديث الموفي ثلاثين: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه -وكان قائد كعب من بنيه حين عمي- قال: سمعت كعبَ بنَ مالكٍ يحدِّثُ حديثه حين تخلَّف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالكٍ: لم أتخلَّف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاةٍ غزاها إلاَّ غزاةَ تبوك، غير أني قد تخلَّفتُ في غزوة بدرٍ، ولم يعاتِبْ أحداً تخلَّف عنه، إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يُريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدُوِّهم على غير ميعادٍ. ولقد شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ العقبِة حين (¬3) تواثقنا على الإسلام، ¬
وما أُحِبُّ أن لي بها مشهدَ بدرٍ، وإن كانت بدرٌ أذكرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلَّفتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: أنِّي لم أكن قطُّ أقوى ولا أيسر منِّي حين تخلَّفتُ عنه في تلك الغزوة والله ما جمعتُ راحلتين حتى جمعتُهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريدُ غزوةً إلاَّ ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدوَّاً كثيراً، فجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غزوِهم، فأخبرهم بوجههمُ الذي يريدُ، والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرٌ، ولا يجمعُهم كتابٌ حافظٌ -يريد بذلك الديوان- فقلَّ رجلٌ يريد أن يتغيَّب إلاَّ ظنَّ أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله تعالى، وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثِّمار والظِّلالُ، فأنا إليها أصعَرُ، فتجهَّزَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه، فطفِقْتُ أغدو لكي أتجهَّزَ معه، فأرجِعُ ولم أقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادرٌ على ذلك إذا أردتُ، فلم يزَلْ ذلك يتمادى بي حتَّى استمرَّ بالناس الجدُّ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غادياً والمسلمون معه، ولم أقضِ من جَهازي شيئاً، ثم غدوت، فرجعتُ ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغَزوُ، فهممتُ أن أرتحلَ فأدركَهم، فيا ليتني فعلت، ثم لم يُقدَّرْ ذلك لي، فطفِقْتُ إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَحزُنُني أنِّي لا أرى لي أُسوةً إلاَّ رجلاً مغموصاً عليه في النِّفاق، أو رجلاً مِمَّن عذَرَ الله تعالى من الضُّعفاء، ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالسٌ في القوم بتبوك: " ما فعل كعبُ بنُ مالكٍ؟ ". فقال رجلٌ من بني سَلِمَةَ: يا رسول الله، حبسه بُرداه، والنَّظر في عِطْفَيْهِ، فقال له معاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه: بئس ما قلت، والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينما هو على ذلك، رأى رجلاً مُبيِّضاً يزول به السَّرابُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كُنْ أبا خيثمة "، فإذا هو أبو خيثمةَ الأنصاريُّ، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. قال كعبٌ: فلمَّا بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجَّه قافلاً من تبوك، حضرني
بثِّي، فطَفِقْتُ أتذكَّرُ الكَذِبَ، وأقول: بم أخرُجُ من سَخَطِه غداً؟ وأستعينُ على ذلك بكلِّ ذي رأيٍ مِنْ أهلي، فلما قيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظَلَّ قادماً، زاح عنِّي الباطل، حتى عرفتُ أنِّي لن أنجوَ منه بشيءٍ أبداً، فأجمعتُ صدقَهُ، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادماً، وكان إذا قَدِمَ من سفرٍ بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المخلَّفُون يعتذِرُون إليه، ويحلِفُونَ له، وكانوا بضعاً وثمانين رجُلاً، فقَبِلَ منهم علانيَّتهم، وبايعهم، واستغفرَ لهم الله، ووكَلَ سرائِرَهم إلى الله تعالى، حتى جئتُ، فلمَّا سلَّمتُ تبسَّم تبسُّمَ المغضَبِ، ثم قال: " تعالَ "، فجئتُ أمشي حتى سلَّمتُ عليه، وجلستُ بينَ يديه، فقال لي: " ما خلَّفَكَ؟ ألم تكن قدِ ابتَعْتَ ظهرَكَ؟ " قال: قلت: يا رسول الله، إنِّي -والله- لو جلستُ عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيتُ أني سأخرُج من سَخَطِه بعُذْرٍ، ولقد أعطيتُ جَدَلاً، ولكنِّي [والله] لقد علمتُ، لَئِنْ حدَّثتُك اليوم حديثَ كَذِبٍ ترضى به عنِّي، ليوشِكَنَّ الله أن يُسخِطَكَ عليَّ، وإن حدَّثتُك حديثَ صدقٍ تجِدُ عليَّ فيه، إنِّي لأرجو فيه عُقبَى الله عز وجل، والله ما كان لي من عُذْرٍ، والله ما كنتُ قطُّ أقوى ولا أيسرَ مِنِّي حين تخلَّفتُ عنك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما هذا، فقد صدق فقُم حتى يقضِيَ اللهُ فيكَ "، وثار رِجالٌ من بني سَلِمَة، فاتَّبعوني، فقالوا لي: والله علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عَجَزْتَ في ألاَّ تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذرَ إليه المخَلَّفُون، فقد كان كافِيَك ذنبَك استغفارُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكَ قال: فوالله ما زالوا يُؤنِّبُونَني حتَّى أردتُ أن أرجِعَ فأُكَذِّبَ نفسي، ثم قلت: لهم: هل لَقِيَ هذا معي من أحدٍ؟ قالوا: نعم. [لقِيَه] معك رجُلانِ، قالا مثلَ ما قلت، وقيل لهما مثلُ ما قيل لك. قلت: من هما، قالوا: مرارةُ بن ربيعة العامري (¬1) وهلالُ بنُ أميَّةَ ¬
الواقفيُّ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً (¬1) فيهما أسوةٌ. قال: فمضيتُ حتى ذكروهما لي. ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامِنا أيُّها الثلاثةُ من بين من تخلَّف عنه، قال: فاجتَنَبَنا الناسُ، أو قال: تغيَّرُوا لنا، حتَّى تنكَّرت لي في نفسيَ الأرضُ، فما هي بالأرضِ التي أعرِفُ، فلبِثْنَا على ذلك خمسين ليلةً، فأمَّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بُيوتِهما يبكيان، وأما أنا فكنتُ أشبَّ القوم وأجلَدهم، فكنتُ أخرج أشهدُ الصلاةَ، وأطوفُ في الأسواق، ولا يكلِّمُني أحدٌ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأسلِّمُ عليه وهو في مجلسه، وأقول في نفسي: هل حرَّكَ شَفتَيه بردِّ السلام أم لا؟ ثم أُصلِّي قريباً منه، وأسارقُه النَّظرَ، فإذا أقبلتُ على ¬
صلاتي نظرَ إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرضَ عنِّي، حتَّى إذا طال عليَّ ذلك مِنْ جفوةِ المسلمين، مشيتُ حتَّى تسوَّرْت جدارَ حائطِ أبي قتادةَ، وهو ابنُ عمِّي، وأحبُّ الناسِ إليَّ، فسلَّمتُ عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشُدُكَ بالله، هل تعلمُني أُحِبُّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ فسكت، فعدتُ فناشدتُه، فسكت، فعدتُ فناشدته، فقال: الله ورسولُه أعلم، ففاضت عينايَ، وتولَّيتُ حتَّى تسوَّرتُ الجدارَ، فبينا أمشي في سُوقِ المدينة إذا نَبَطِيٌّ من نَبَطِ أهل الشام ممن قدِمَ بالطعام يبيعُه بالمدينة يقول: من يدلُّ على كعبِ بن مالكٍ؟ فطَفِقَ الناسُ يُشيرون له إليَّ، حتَّى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملكِ غسَّان، وكنت كاتباً، فقرأته، فإذا فيه: أمَّا بعدُ، فقد بلَغَنا أن صاحِبَكَ قد جفاكَ، ولم يجعلْكَ اللهُ بدارِ هوانٍ ولا مَضْيَعَةٍ، فالحَقْ بنا نُواسيكَ، فقلت حين قرأتُها: وهذه أيضاً مِنَ البلاء، فيمَّمتُ بها التَّنُّورَ، فسجرتُها، حتى إذا مضت أربعونَ يوماً من الخمسين، واستلبثَ الوحيُ، إذا رسولُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يأتيني، فقال: إنْ رسولَ الله يأمُرك أن تعتزِلَ امرأتَك، فقلت: أُطَلِّقُها أم ماذا أفعل؟ فقال: بلِ اعتزِلْها فلا تقرَبنَّها، وأرسَلَ إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلِك، وكُوني عندهم حتى يقضيَ اللهُ مِنْ هذا الأمرِ، فجاءت امرأةُ هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: يا رسول الله، إنَّ هلالَ بن أميَّة شيخٌ ضائعٌ، ليس له خادِمٌ، فهل تكره أن أخدُمَه، قال: " لا ولكن لا يقرَبَنَّك "، فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيءٍ، ووالله ما زال يبكي منذُ كان مِنْ أمرِه ما كانَ إلى يومِه هذا، فقال لي بعضُ أهلي: لوِ استأذَنتَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتِكَ، فقد أَذِنَ لامرأةِ هلالٍ أن تخدُمَه، فقلت: لا أستأذنُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما يدريني ماذا يقولُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذنتُه فيها، وأنا رجلٌ شابٌّ، فلبثتُ بذلك عشرَ ليالٍ، فكمُلَ لنا خمسونَ ليلةً مِنْ حين نُهِيَ عن كلامنا، ثم صلَّيتُ صلاة الفجر صباح خمسين ليلةً على ظهرِ بيتِ من بيوتِنا، فبينا أنا جالسٌ علي الحالِ التي ذكرَ الله تعالى منَّا قد ضاقَت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرضُ بما رَحُبَتْ، سمعت صوتَ صارخٍ أوفى على سَلْعٍ يقول بأعلى صوتِه: يا كعبَ بن مالكٍ، أبشرِ، فخررت
ساجداً، وعلمتُ أنه قد جاء فرجٌ، فآذنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بتوبةِ الله علينا حينَ صلَّى صلاة الفجر، فذهبَ النَّاسُ يبَشِّرُونَنا، فذهبَ قِبَل صاحبي مبشِّرُونَ، وركضَ رجلٌ إليَّ فرساً، وسعى ساعٍ مِنْ أسلمَ قِبَلي، وأوفى على الجبل، فكان الصَّوتُ أسرعَ مِنَ الفرس، فلمَّا جاءني الذي سمعتُ صوتَه يُبَشِّرُني، نزعت ثوبيَّ، فكسوتُهما إيَّاه ببِشارَتِه، والله ما أملِكُ غيرَهُما يومئذٍ، واستعرتُ ثوبين، فلبستُهما، وانطلقتُ أتأمَّمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلقَّاني النَّاسُ فوجاً فوجاً، يهنِّئُونَني بالتوبة، ويقولون: لِتَهْنِئْكَ توبةُ الله عليك، حتَّى دخلتُ المسجد، فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حولَه الناسُ، فقام طلحةُ بن عبيد الله يُهروِلُ حتَّى صافحني وهنَّأني، والله ما قامَ رجلٌ من المهاجرين غيره، فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة قال كعبٌ: فلمَّا سلَّمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يَبْرُقُ وجهُه من السُّرور: " أبشِرْ بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذُ ولدتك أمُّك ". فقلت: أمِنْ عِنْدِكَ يا رسول الله، أم مِنْ عندِ الله؟ قال: " لا بَلْ مِنْ عندِ الله ". وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سُرَّ، استنارَ وجهُه حتى كأنَّ وجهَه قطعةُ قمرٍ، وكُنَّا نعرِفُ ذلك، فلمَّا جلستُ بين يديه، قلتُ: يا رسول الله، إنَّ مِنْ توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسُولِه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أمسِكْ عليكَ بعضَ مالِكَ، فهو خيرٌ لك "، فقلت: إنِّي أُمسِكُ سهميَ الذي بخيبرَ، وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصِّدق، وإنَّ مِنْ توبتي أن لا أُحَدِّثَ إلاَّ صدقاً ما بقيتُ، فوالله ما علمتُ أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذُ ذكرتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ ممَّا أبلاني الله. والله ما تعمَّدتُ كَذبةً منذُ قلتُ ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا، وإنِّي لأرجُو أن يحفَظَني الله تعالى فيما بَقِيَ. قال: فأنزلَ الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ .... } حتى بلغ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} [التوبة: 117 - 119]. قال كعبٌ: واللهِ ما أنعمَ الله عليَّ مِنْ نعمةٍ قطُّ بعدَ إذ هداني الله للإسلامِ
أعظمَ في نفسي مِنْ صِدْقي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ألاَّ أكونَ كذبتُه، فأهْلِكَ كما هَلَكَ الذين كَذَبُوا. إن الله تعالى قال للذين كذبُوا حين أنزل الوحيَ شرَّ ما قال لأحدٍ، فقال الله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95 - 96]. قال كعبٌ: كنَّا خُلِّفْنَا -أيها الثلاثة- عن أمرِ أولئك الذين قَبِلَ منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ حلفُوا له. فبايَعَهم واستغفرَ، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَنا حتَّى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفْنَا تخلُّفَنَا عن الغَزْوِ، وإنما هو تخليفُه إيَّانا وإرجاؤُه أمرَنا عمَّنْ حَلَفَ له واعتذرَ، فقَبِلَ منهم. رواه البخاري ومسلم (¬1). ومن ذلك: أحاديث الصحابة الذين اختُلِجُوا دُونَه - صلى الله عليه وسلم -، وقال فيهم: " فأقول: سُحقاً، لمَنْ بدَّل بعدي " (¬2)، وحديث المتلاعِنَيْن، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لهما: " إنَّ عذابَ الدنيا أهونُ من عذابِ الآخرة " وأنَّ الخامسة هي الموجبة (¬3)، وأمثال ذلك والله أعلم. ومنه حديث عمَّار: " ويح ابن سميَّة، تقتُلك الفئةُ الباغيةُ، يدعُوهُم إلى الجنةِ ويدعُونَهُ إلى النار " (¬4). وهو يمنعُ تأويل الذين قال فيهم: " سُحقاً لمن بدَّل بعدي " بالمرتدِّين فقط. ويشهدُ لذلك خَوفُ الصحابة، ونهيُه - صلى الله عليه وسلم - من زكَّى بعضَهم، وأمثالُ ذلك مما يَرِدُ على المرجئة، القاطِعينَ بالأمان لِمَنْ مات على مجرَّدِ الإيمان. ¬
ومن ذلك أحاديثُ التَّشديد في الغُلول في الغنائم، ومنها حديثُ سالمٍ أبي الغيثِ، عن أبي هُريرة في عبد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أصابَه سهمٌ، فقالوا: هنيئاً له الشهادةُ، فقال: " إنَّه غلَّ شملةً، وإنَّها لتَلْتَهِبُ عليه ناراً ". متَّفق على صحته، وفي سالم كلامٌ سهلٌ (¬1). وعن ابن عباس، عن عمر، أنهم قالوا؟ فلانٌ شهيدٌ، فقال: " كلاَّ، إنِّي رأيتُه في النار في بُردَةٍ غلَّها ". ثم قال: " يا ابن الخطاب، اذهب فنادِ في الناسِ أنه لا يدخُلُ الجَنَّة إلاَّ المؤمنون ". رواه مسلمٌ والترمذي (¬2)، ولفظه مُخالفٌ وهو من حديث عكرمة بن عمار، عن سماكِ بن الوليد، عن ابن عباسٍ، عن عمر. قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا يعرف من حديث عمر إلاَّ عن عكرمة، عن سماكٍ، وفي عكرمةَ بنِ عمَّار خلافٌ. وقد ذكر أمثالَ هذه الأحاديث وجَوَّدَ الكلام في التَّخويف الشيخ الإمام الشَّهيرُ بابنِ قيِّمِ الجوزية، تلميذُ شيخِ الإسلام ابن تيميَّةِ في كتابه المعروف " الجواب الكافي على من سأل عن الدَّواءِ الشَّافي "، فمن أراد الشِّفاءَ التَّامَّ في هذا المعنى، فعليه بمطالعتِهِ، لما فيه من تدبُّرِ كتاب الله، وصحيحِ السُّنَّةِ النبوية. وقد كنتُ اختصرتُ منه شيئاً، وقد ترجَّحَ لي نقلُه إلى هُنا، فليلحق بهذا، وهو نسخةٌ في كتبِ الفقيه محمَّد بن عليٍّ الحاشديِّ الشَّظَبِيِّ رحمه الله. والحمدُ لله ربِّ العالمين، أتمَّ الحمدِ، وأفضَلَه، وأكملَه، وأحبَّه إليه، وأرضاه له، وعلى مُصطفاه مِنْ خلقِه محمَّدٍ رسولِه، وآله أفضلَ الصَّلوات والتَّسليم. ¬