العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية

ابن العربي

تصدير

[تصدير] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنعم على الإنسانية برسالة الإسلام، وصلى الله وسلم على الإنسان الأعلى، والمعلم الأكمل، محمد بن عبد الله صفوته من خلقه. وأعلى مقام الذين قاموا بتحقيق رسالته، ممن تشرفوا بصحبته، وأحسنوا الخلافة على أمته، ومن واصلوا عملهم بعدهم، ملتزمين سنتهم، ومتحرين أهدافهم، إلى يوم الدين. وبعد فإن هذا العالم الإسلامي الذي نعتز بالانتساب إليه، ونعيش لإسعاده والسعادة به، قد افتتح أكثره في الدولة الإسلامية الأولى بعد الخلفاء الراشدين، ودخل معظم شعوبه في هداية الإسلام على أيدي الخلفاء الأمويين وولاتهم وقواد جيوشهم، إتماما لما بدأ به صاحبا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفتاه الأولان - أبو بكر وعمر - سلام الله عليهما، ورضي عنهما وأرضاهما وأحسن جزاءهما عنا وعن الإسلام نفسه وجميع أهله. وإن حادثة انتشار الإسلام، ودخول الأمم فيه، أصبحت في ذمة التاريخ. والأجيال التي أتت بعد ذلك إلى يومنا هذا منهم من يفتخر بذلك، ويمتلئ قلبه سرورا به، ويدعو بالخير لمن كانوا سبب هذا الخير العظيم. ومنهم من ابتأس به، وامتلأ فؤاده حقدا على الذين عملوا فيه، وجعل من دأبه أن يصمهم بكل نقيصة.

وقد نعذر الذين لم يذوقوا حلاوة الإسلام وحالت البيئة بينهم وبين الأنس بعظمته، وشريف أغراضه، وسيرة الذين قاموا به، إذا نظروا إلى تاريخ الإسلام نظرة خاطئة، واتخذوا له في أذهانهم صورة غير صورته التي كانت له في الواقع. ولكني أعترف- ولا فائدة من الإنكار- بأن في المنسوبين إلى الإسلام من يبغض حتى الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلب جميع حسناته سيئات. وإن أحد الذين شاهدوا بأعينهم عدل عمر، وزهده في متع الدنيا، وإنصافه لجميع الناس، لم يستطع أن يمنع الحقد الذي في فؤاده على الإسلام من أن يدفعه إلى طعنه بالسكين دون أن يسيء إليه. وفي قوم طاعن عمر بالسكين من يؤلفون المؤلفات إلى يومنا هذا في تشويه حسنات هذا المثل الأعلى للعدل والإنسانية والخير. وفي عصر عثمان من ضاقت صدورهم بطيبة ذلك الخليفة الذي خلق قلبه من رحمة الله، فاخترعوا له ذنوبا وما زالوا يكررونها على قلوبهم حتى صدقوها، وتفننوا في إذاعتها، ثم استحلوا سفك دمه الحرام، في الشهر الحرام، بجوار قبر أبي زوجتيه محمد عليه الصلاة والسلام. وما برحت الإنسانية تشاهد المعجزات من رجالات الإسلام في نشره وإدخال الأمم فيه وتوسيع النطاق في الآفاق لكلمة " الله أكبر. . . حي على الفلاح " حتى نودي بها على جبال السند، وفي ربوع الهند وعلى سواحل المحيط غربا، وفي أودية أوربا وجبالها، بما لم يملك أن يصفه حتى أعداء الإسلام إلا بأنه معجزة. كل هذا في زمن هذه الدولة

الأموية، التي لو صدر عن المجوس وعبدة الأوثان عشر ما صدر عنها من الخير، وجزء من مائة جزء مما أثر عن رجالها من إنصاف ومروءة وكرم وشجاعة وإيثار وفصاحة ونبل، لرفعوا لأولئك المجوس والوثنيين ألوية الثناء والتقدير، لكنه في الخافقين، والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناته على قدرها، وأن يتقي الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فيها، ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها. ونحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كاذب. فالإنسان إنسان يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر. وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات. وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه بوادر صالحات في بعض الأوقات. يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، ألا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات. ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات، ألا يوهم الناس أنهم من الصالحين من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات.

إن أحداث المائة الأولى من عصور الإسلام كانت من معجزات التاريخ والعمل الذي عمله أهل المائة الأولى من ماضينا السعيد لم تعمل مثله أمة الرومان ولا أمة اليونان قبلها. ولا أمة من أمم الأرض بعدها. وأما أبو بكر وعمر وسائر الخلفاء الأربعة الراشدين، وإخوانهم من العشرة المبشرين بالجنة، وطبقتهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصوصا الذين لازموه وراقبوه وتمتعوا بجميل صحبته - من أنفق منهم من قبل الفتح وقاتل، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا - فإنهم جميعا كانوا شموسا طلعت في سماء الإنسانية مرة، ولا تطمع الإنسانية بأن تطلع في سمائها شموس من طرازهم مرة أخرى إلا إذا عزم المسلمون على أن يرجعوا إلى فطرة الإسلام، ويتأدبوا بأدبه من جديد، فيخلق الله منهم خلقا آخر يعيش للحق والخير، ويجاهد الباطل والشر، حتى تعرف الإنسانية طريقها الحقيقي إلى السعادة. وهذه الشموس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفاوت أقدارها، وتتباين في أنواع فضائلها، إلا أنها كلها كانت من الفضائل في مرتقى درجاتها، وإذ بدأ المشتغلون بتاريخ الإسلام من أفاضل المسلمين في تمييز الأصيل عن الدخيل من سيرة هؤلاء الأفاضل العظماء، فإنهم ستأخذهم الدهشة لما اخترعه إخوان أبي لؤلؤة، وتلاميذ عبد الله بن سبأ، والمجوس الذين عجزوا عن مقاومة الإسلام وجها لوجه في قتال شريف. فادعوا الإسلام كذبا، ودخلوا قلعته مع جنوده خلسة، وقاتلوهم بسلاح (التقية) بعد أن حولوا مدلولها إلى النفاق،

فأدخلوا في الإسلام ما ليس منه، وألصقوا بسيرة رجاله ما لم يكن فيها ولا من سجية أهلها. وبهذا تحولت أعظم رسالات الله وأكملها إلى طريقة من الخمول والعطالة والجمود كان من حقها أن تقتل الإسلام والمسلمين قتلا، لولا قوة الحيوية الخارقة التي في الإسلام، وهي التي ترجى إذا رجعنا إليها، وجردناها من الطوارئ عليها، وخلصنا سيرة رجالها مما شيبت به، وسرنا في طريقهم مخلصين، أن نعود مسلمين من ذلك الطراز الأول كما كان في الواقع، لا كما أراد مبغضو الصحابة والتابعين لهم بإحسان أن يعرضوه على الناس. ونحن بتقديمنا هذه الحقائق من قلم الإمام ابن العربي، أو من النصوص الأصيلة التي علقنا عليها، إنما أردنا عكس ما يريد المتعرضون لهذه البحوث من ترديد خلافات عفا عليها الزمن. والصحابة كانوا أسمى أخلاقا وأصدق إخلاصا لله وترفعا عن خسائس الدنيا من أن يختلفوا للدنيا، لكن كان في عصرهم من الأيدي الخبيثة التي عملت على إيجاد الخلاف وتوسيعه مثل الأيدي الخبيثة التي جاءت فيما بعد فصورت الوقائع بغير صورتها. ولما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم قدوتنا في ديننا وهم حملة الكتاب الإلهي والسنة المحمدية إلى الذين حملوا عنهم أماناتها حتى وصلت إلينا، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرة حفظتها الأولين كل ما ألصق بهم من إفك ظلما وعدوانا، لتكون صورتهم التي تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي

كانوا عليها، فتحسن القدوة بهم وتطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم. وقد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعن في الدين الذي هم رواته، وتشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها، وتشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة. وأول نتائجه حرمان شباب الجيل، وكل جيل بعده، من القدوة الصالحة التي من الله بها على المسلمين ليتأسوا بها، ويواصلوا حمل أمانات الإسلام على آثارها، ولا يكون ذلك إلا إذا ألموا بحسناتهم، وعرفوا كريم سجاياهم، وأدركوا أن الذين شوهوا تلك الحسنات وصوروا تلك السجايا بغير صورتها، إنما أرادوا أن يسيئوا إلى الإسلام نفسه بالإساءة إلى أهله الأولين. وقد آن لنا أن ننتبه من هذه الغفلة فنعرف لسلفنا أقدارهم، لنسير في حاضرنا على هدى ونور من سيرتهم الصحيحة وسريرتهم النقية الطاهرة. وهذا الكتاب الذي ألفه عالم من كبار أئمة المسلمين بيانا لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، وإدحاضا لما ألصق بهم وبأعوانهم من التابعين لهم بإحسان، يصلح على صغره لأن يكون صيحة من صيحات الحق توقظ الشباب المسلم إلى هذه الدسيسة التي دسها عليهم أعداء الصحابة ومبغضوهم ليتخذوها نموذجا لأمثالها من الدسائس فيتفرغ الموفقون إلى الخير منهم لدراسة حقيقة التاريخ الإسلامي واكتشاف الصفات النبيلة في رجاله فيعلموا أن الله عز وجل

قد كافأهم عليها بالمعجزات التي تمت على أيديهم وأيدي أعوانهم في إحداث أعظم انقلاب عرفه تاريخ الإنسانية. ولو كان الصحابة والتابعون بالصورة التي صورهم بها أعداؤهم ومبغضوهم لكان من غير المعقول أن تتم على أيديهم تلك الفتوح، وأن تستجيب لدعوتهم الأمم بالدخول في دين الله أفواجا. والقاضي أبو بكر بن العربي مؤلف (العواصم من القواصم) إمام من أئمة المسلمين، ويعتبره فقهاء مذهب الإمام مالك أحد أئمتهم المقتدى بأحكامهم، وهو من شيوخ القاضي عياض مؤلف كتاب (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى) ، ومن شيوخ ابن رشد العالم الفقيه والد أبي الوليد الفيلسوف، ومن تلاميذه عشرات من هذه الطبقة كما سترى من ترجمته الآتية بعد. وكتابه (العواصم من القواصم) من خيرة كتبه، ألفه سنة 536 وهو في دور النضوج الكامل، بعد أن امتلأت الأمصار بمؤلفاته وبتلاميذه الذين صاروا في عصرهم أئمة يهتدى بهم. وهذا الكتاب في جزأين متوسطي الحجم، ومبحث (الصحابة) الذي نقدمه لقرائنا هو أحد مباحث جزئه الثاني (من ص98 إلى ص193 من طبعة المطبعة الجزائرية الإسلامية في مدينة قسنطينة بالجزائر سنة 1347) وكان قد وقف على تلك الطبعة شيخ علماء الجزائر الأستاذ عبد الحميد بن باديس رحمه الله. ومما يؤسف له أن الأصل الذي اعتمد عليه في تلك الطبعة كان مكتوبا بقلم ناسخ غير متمكن، فوقعت فيه تحريفات لفظية وإملائية حرصنا على

ردها إلى أصلها، بل إن النسخة المخطوطة التي طبعت عليها طبعة الجزائر يظهر أن المجلد وضع بعض ورقاتها في غير مواضعها، فأرجعناها إلى ما دل عليه السياق في القول، والترتيب في المسائل. وفيما عدا ذلك التزمنا الأمانة في عرض الكتاب إلى أقصى غاية. وعلقت على كل بحث منه بما يزيده وضوحا، مقتبسا ذلك من أوثق المراجع وأمهات الكتب الإسلامية المعتمدة، مبينا في كل نص مأخذه بكل أمانة ووضوح. وأرجو الله أن يجزل ثواب الإمام ابن العربي على دفاعه هذا عن أصحاب رسول الله الذين حملوا معه صلى الله عليه وسلم أعظم رسالات الله، وكانوا أصدق أعوانه على تبليغها في حياته، وبعد أن اختاره الله إليه. بل كانوا سبب كياننا الإسلامي، ولهم ثواب انتمائنا إلى هذه الملة الحنيفية السمحة التي لا عيب لها غير تقصيرنا في التخلق بآدابها في أنفسنا، وتعميم سننها في بيوتنا ومجتمعنا وأسواقنا ومحاكمنا ودور حكمنا. وعسى أن يكون في قراء هذا الكتاب من يعاهد الله على أن يكون خيرا منا عملا، وأصح منا علما، وعلى الله قصد السبيل. جزيرة الروضة (تجاه الفسطاط) : 3 رمضان 1371 محب الدين الخطيب (1303 - 1389)

القاضي أبو بكر بن العربي مؤلف العواصم من القواصم 468 - 543

[القاضي أبو بكر بن العربي مؤلف العواصم من القواصم 468 - 543] [نشأته الأولى] القاضي أبو بكر بن العربي مؤلف (العواصم من القواصم) (468 - 543) نشأته الأولى: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أحمد بن العربي المعافري. ولد في إشبيلية - لما كانت كبرى عواصم الأندلس - في يوم الخميس 22 من شهر شعبان سنة 468 في بيت من أعظم بيوتها بعد بيت مليكها المعتمد بن عباد. وكان أبوه عبد الله بن محمد بن العربي من وجوه علماء الدولة وكبار أعيانها، كما كان خاله أبو القاسم الحسن بن أبي حفص الهوزني في مكانة رفيعة من المجتمع الأندلسي. غير أن هذين البيتين كانا على طرفي نقيض في مشربهما السياسي: فوالد ابن العربي من أولياء الدولة، المتمتعين بالمكانة والوجاهة عند ولي أمرها، وخاله من أهل التوثب والطموح، وله مشاركة التآمر على المعتمد لقتله والده أبا حفص الهوزني، فكان خال ابن العربي على اتصال بيوسف بن تاشفين صاحب المغرب يواصل تحريضه على ابن عباد " حتى أزال ملكه، ونثر سلكه، وسبب هلكه " كما يقول الشهاب المقري في (نفح الطيب) (¬1) . ¬

(¬1) ج 2، ص 13 طبعة سنة 1302. وقد قبض ابن تاشفين على المعتمد وسجنه بمدينة (أغمات) فبقي فيها سجينا إلى أن مات في شوال سنة 488. وكان هذا الانقلاب نكبة على بلاد دولته، ولا سيما أهل عاصمته، وأشد ما كان ذلك على حاشيته وذوي مودته.

في هذه البيئة الكريمة العزيزة بالعلم نشأ ابن العربي، ومنها أطل على الدنيا في السنوات الأولى من حياته. وعن هذين الرجلين -أبيه وخاله- تلقى ثقافته الأولى وأساليب تربيته، يساعدهما على ذلك أستاذه الخاص أبو عبد الله السرقسطي. وقد أعانت هؤلاء الثلاثة على مهمتهم في تكوين صفات المروءة فيه مواهب ممتازة من الذكاء وسعة المدارك ودماثة الخلق تحلى منها هذا الناشئ الممتاز بكل ما يهيئ له نضوج رجولته المبكرة، حتى قال هو عن نفسه (حذقت القرآن وأنا ابن تسع سنين، ثم ثلاثا لضبط القرآن والعربية والحساب، فبلغت ستة عشر سنة وقد قرأت من الأحرف -أي من القراءات- نحو من عشرة بما يتبعها من إظهار وإدغام ونحوه. وتمرنت في الغريب والشعر واللغة) . رحلته عن إشبيلية: ولما بلغ السابعة عشر قضى الله بسقوط دولة آل عباد في سنة 485، فخرج به أبوه من إشبيلية يوم الأحد مستهل ربيع الأول قاصدا شمال إفريقية فكان أول نزولهم في ثغر أنشئ من سنين قريبة على ساحل بلاد الجزائر، وهو ثغر (بجاية) الذي اكتشف مكانه محمد بن البعبع من رجال تميم بن المعز بن باديس، واتفق على إنشائه وتمصيره في سنة 457 مع الناصر بن علناس ابن عم تميم المنافس له، وجعلا هذا المرفأ ملتقى الطرق على البحر الأبيض بين الأندلس والمغرب والجزائر وتونس، فنزل ابن العربي مع والده وأسرته في ثغر بجاية ولبثوا فيه مدة تتلمذ فيها ابن العربي على كبير علماء هذا البلد أبي عبد الله الكلاعي، ثم ركبوا البحر مشرقين إلى ثغر (المهدية) ، وفيها أخذ فتانا عن عالمها أبي الحسن بن علي بن محمد بن ثابت الحداد الخولاني المقرئ، قال ابن العربي (فكنت أحضر عليه كتابه المسمى بالإشارة وشرحها وغيرهما من تآليفه، وكان في ذلك بالمهدية في شهور سنة 485) وفي المهدية أيضا أخذ عن الإمام أبي عبد الله محمد بن علي المازري التميمي (453 - 536) .

تعرض سفينته للغرق

[تعرض سفينته للغرق] تعرض سفينته للغرق: ولما أبحروا من المهدية قاصدين السواحل المصرية تجددت لهم النكبة بهياج البحر عليهم، فوقعوا من ذلك في حادث استحسنت أن يقف القارئ على وصفه من قلم ابن العربي نفسه عندما ألف تفسيره (قانون التأويل) (¬1) قال: " وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بِزَوْله (¬2) ويغرقنا في هوله. فخرجنا من البحر، خروج الميت من القبر. وانتهينا بعد خطب طويل- إلى بيوت بني كعب بن سُليم- ونحن من السغب، على عطب. ومن العري، في أقبح زي. وقد قذف البحر زقاق زيت مزقت الحجارة منيئتها (¬3) ودسَّمت الأدهان وبرها وجلدتها. فاحتزمناها أُزُرا، واشتملناها لُفعا (¬4) تمجنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار. فعطف أميرهم علينا، فأوينا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديه وسقانا وأكرم مثوانا، وكسانا بأمر (¬5) حقير ضعيف، وفن من العلم ظريف. وشرحه أنا لما وقفنا على بابه ألفيناه يدير أعواد الشاة (¬6) فعل السامد اللاه. فدنوت منه في تلك الأطمار، وسمح لي بياذقته (¬7) إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار. ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في خُلس بطالة، مع غلبة الصبوة والجهالة. فقلت للبياذقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرا، وعظمتُ في عيونهم بعد أن كنت نزرا. وتقدم إلى الأمير من نقل إليه الكلام. فاستدناني، فدنوت منه. وسألني: هل لي بما هم فيه بصر؟ فقلت: "لي فيه بعض نظر، سيبدو لك ¬

(¬1) نقل ذلك عن (قانون التأويل) العلامة ابن غازي في كتاب (التكميل) ، والرهوني في حاشيته على رسالة خليل، والشيخ مخلوف في طبقات المالكية (1: 137) ، والمقري في (نفح الطيب) 1: 337، و (أزهار الرياض) 3: 89 وغيرهم. (¬2) الزول: العجب. (¬3) جلدها. (¬4) جمع لفاع: ما يتلفع به، أي يلتحف به. (¬5) أي بسبب أمر. (¬6) أي يلعب بالشطرنج. (¬7) أتباعه وحراسه.

ويظهر. حرِّك تلك القطعة" ففعل، وعارضه صاحبه، فأمرته أن يحرك أخرى، وما زالت الحركات بينهم تترى، حتى هزمهم الأمير، وانقطع التدبير. فقالوا: ما أنت بصغير. وكان في أثناء تلك الحركات قد ترنم ابن عم الأمير منشدا: وأحلى الهوى ما شك في الوصل ربه ... وفي الهجر , فهو الدهر يرجو ويتقي فقال: لعن الله أبا الطيب، أويشكُّ الرب؟ ! فقلت له في الحال: ليس كما ظن صاحبك أيها الأمير، إنما أراد بالرب هنا الصاحب. يقول: ألذ الهوى ما كان المحب فيه من الوصال، وبلوغ الغرض من الآمال، على ريب. فهو في وقته كله على رجاء لما يؤمله، وتقاة لما يقطع به، كما قال: إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وأخذنا نضيف إلى ذلك من الأغراض، في طرفي الإبرام والانتقاض، ما حرَّك منهم إلى جهتي داعي الانتهاض. وأقبلوا يتعجبون مني، ويسألونني كم سني؟ ويكشفونني عني. فبقرت لهم حديثي، وذكرت لهم نجيثي (¬1) . وأعلمت الأمير بأن أبي معي، فاستدعاه، وقمنا الثلاثة إلى مثواه (¬2) . فخلع علينا خلعه، وأسبل علينا أدمعه. وجاء كل خوان، بأفنان الألوان. فانظر إلى هذا العلم الذي هو إلى الجهل أقرب (¬3) مع تلك الصبابة اليسيرة من الأدب، كيف أنقذانا من العطب. وهذا الذي يرشدكم- إن غفلتم- إلى الطلب. وسرنا، حتى انتهينا إلى ديار مصر. ¬

(¬1) نجيثي: أي سري الذي كنت أخفيه. (¬2) منزله الخاص. (¬3) يقول ابن العربي هذا من باب التواضع، وإلا فإن علمه كان أكبر من سنه.

مروره بالديار المصرية

وسترى عند كلامنا على مؤلفات ابن العربي أن منها كتابا كبيرا سماه "ترتيب الرحلة، للترغيب في الملة" ومما يؤسف له أن هذا الكتاب يعتبر الآن مفقودا، ولكن الذي اطلعنا عليه من نماذجه المنقولة عنه في تراجمه وغيرها من كتب العلماء يدل على أنه من الذخائر النفيسة التي تصف الكثير من أحوال المجتمع الإسلامي وعمران أوطانه في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وتنوه بدخائل أعلامه من العلماء والحكام بقدر ما اطلع عليه هذا العالم الرحالة الدقيق النظر الذكي الفطرة الحريص على الإلمام بجميع أبواب المعرفة، ولو وقع لنا كتاب رحلته، لانتفعنا منه كثيرا في تدوين ترجمته، ولا سيما في السنوات التسع (485 - 493) التي قضاها في خارج الأندلس، بين حادثة سقوط دولة آل عباد والوقت الذي شاء الله له أن يعود فيه إلى وطنه. [مروره بالديار المصرية] مروره بالديار المصرية: ومما لا شك فيه أن ابن العربي ووالده لم يطيلا اللبث في كرم مضيفهم أمير قبيلة بني كعب بن سُليم، فتوجها قاصدين ديار مصر التي كان طريقهم عليها أيضا عند انتهاء الرحلة. وكان الحكم في مصر عند وصولهما إليها آخر سنة 485 للمستنصر أبي تميم معد حفيد الحاكم، وكان علماء أهل السنة قليلي الظهور، حتى إن ابن العربي كان يذهب إلى القرافة الصغرى- قريبا من قبر الإمام محمد بن إدريس الشافعي - ليلقى فيها شيخه مسند مصر القاضي أبا الحسن علي بن الحسن بن الحسين بن محمد الخلعي الموصلي الأصل المصري المولد الشافعي (405 - 492) ولهذا العالم ترجمة في حرف العين من (وفيات الأعيان) وفي (طبقات الشافعية) لابن السبكي (3: 296) وفي (شذرات الذهب) لابن العماد الحنبلي (3: 398) . وممن لقيهم في مصر وأخذ عنهم أبو الحسن بن شرف، ومهدي الوراق، وأبو الحسن بن داود الفارسي.

وصوله إلى بيت المقدس

[وصوله إلى بيت المقدس] وصوله إلى بيت المقدس: وواصل ابن العربي رحلته مع أبيه إلى بيت المقدس، وكان فيها الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي الفهري (451-520) من كبار علماء المالكية الأندلسيين، وهو كابن العربي خرج من الأندلس إلى المشرق فذهب إلى العراق وجاء منها إلى دمشق وبيت المقدس، فلقيه فيها ابن العربي واستفاد منه كثيرا قبل مجيء الطرطوشي إلى الإسكندرية. ويقول ابن العربي فيما نقله عنه صاحب نفح الطيب (1: 341) : تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي حديث أبي ثعلبة (¬1) المرفوع: «إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم» . فقالوا: " منهم ". فقال: " بل منكم (أي من الصحابة) لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون عليه أعوانا ". وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، واقتحموا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح (¬2) وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها أحد ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها- من فروع الدين-يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضا انتهاؤه. . . حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف، وباع نفسه في ¬

(¬1) هو أبو ثعلبة الخشني، والحديث في باب الأمر والنهي من كتاب الملاحم في سنن أبي داود (ك 36 ب 17) وفي كتاب الفتن من سنن ابن ماجه (ك 36 ب 21) وفي كتاب التفسير من جامع الترمذي (ك 44 ب 18) . (¬2) أي في (كتاب النيرين، في الصحيحين) لابن العربي.

الدعاء إليه، كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاء إلى الله. . إلخ. وفي بيت المقدس أيضا لقي ابن الكازروني وقال عنه: إنه كان يأوي إلى المسجد الأقصى، ثم تمتعنا به ثلاث سنوات، ولقد كان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من الطور (¬1) فلا يقدر أحد أن يصنع شيئا دون قراءته إلا الإصغاء إليه. ونقل صاحب نفح الطيب (1-340) قوله: " شاهدت المائدة بطور زيتا مرارا وأكلت عليها ليلا ونهار وذكرت الله سبحانه فيها سرا وجهارا " (¬2) . . . . وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول، وكان الناس يقولون: مسخت صخرة والذي عندي أنها صخرة في الأصل وقطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من السماء وكل ما حولها حجارة مثلها. وكان ما حولها محفوفا بقصور نحتت في ذلك الحجر الصلد، بيوت أبوابها ومجالسها منها مقطوعة فيها (¬3) . وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس. . . . إلخ ¬

(¬1) نبهني صديقي الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين إلى أن مهد عيسى في داخل ساحة المسجد الأقصى بالقرب من السور المطل على مقبرة باب الرحمة، ويشرف عليه طور زيتا المعروف بالطور، وهو جبل يقع شرقي المسجد الأقصى وفيه قرية تعرف باسم الطور (انظر الأنس الجليل 1: 150 و226 و241 و262) . (¬2) كتب إلي فضيلة الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين يقول: وإلى هذا الزمان يوجد مكان في طور زيتا ملحق بمسجد الأسعدية بقرب الطور يقال له (مكان صعود المسيح عليه السلام) وهو بلاطة سوداء بركانية، وربما كانت هي المائدة المشار إليها في كلام القاضي ابن العربي. وقد رأيتها حين زيارتي لمسجد الأسعدية، وفي المسجد كهف فيه قبور بعض العلماء والصالحين. (¬3) قال الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين يصف الكهف الذي ذكره في التعليقة السابقة: أنه منقوش نقشا بديعا، وربما كان هذا الكهف بما احتوى عليه من فجوات ونقوش هو المكان الذي رآه ابن العربي بجانب مائدة عيسى، ولا أستبعد أن الكهف وما فيه من فجوات كان محلا لاعتكاف بعض الزاهدين، وربما كان هنالك أيضا بعض البيوت المنحوتة طمست بإقامة أبنية جديدة في مكانها.

مروره بدمشق

[مروره بدمشق] مروره بدمشق: وتقدم ابن العربي في رحلته إلى الديار الشامية، فأقام في دمشق وأخذ عن علمائها، ومنهم شيخ الشافعية الحافظ المتبتل أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (409-490) له ترجمة في حرف النون من تاريخ دمشق للحافظ ابن عساكر، وفي طبقات الشافعية (4-27) ، وشذرات الذهب (3-395-396) . وعن الحافظ أبي محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني الأنصاري الدمشقي (444-524) المترجم بحرف الهاء من تاريخ دمشق، وشذرات الذهب (4-73) وعن أبي الفضل أحمد بن علي بن الفرات المتوفى سنة 494 وهو من علماء الشيعة. ولقي في الديار الشامية من علمائها أبا سعيد الرهاوي وأبا القاسم بن أبي الحسن القدسي، وأبا سعيد الزنجاني. ومن عجائب ما ذكره عن عمران دمشق في زمنه وتقدمها في أسباب الرفاهة والصيانة والنعيم ما نقله عنه صاحب نفح الطيب (1-338) وهو أنه دعي لتناول الطعام في بيوت بعض الأكابر، فرأى نهرا جاريا إلى موضع جلوسهم ثم يعود إلى ناحية أخرى. قال " فلم أفهم معنى ذلك، حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين أيدينا. فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني وما معها في النهر الراجع، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم من تلك الناحية. فعلمت السر، وإن هذا لعجيب ". وصوله إلى بغداد واشتغاله بطلب العلم: ورحل مع أبيه من دمشق قاصدا دار الخلافة العباسية بغداد، وكان الخليفة في السنتين الأوليين من هذه الرحلة المقتدي بالله، وكان دينا خيرا قوي النفس عالي الهمة من نجباء بني العباس، وظهرت في أيامه خيرات كثيرة وآثار حسنة. ومن محاسنه أنه نفى المغنيات والخواطئ، وأمر بالمحافظة على حرم الناس وصيانتها، وكانت قواعد الخلافة باهرة وافرة الحرمة. ثم بويع بعده

للمستظهر بالله أحمد وكان مهذبا مثقفا ضليعا في الأدب بليغ التوقيعات (¬1) إلا أن زمنه كثر فيه الاضطراب. وفي ذلك الجو أخذ ابن العربي في توسيع ثقافته وتلقي العلوم عن أهلها، حتى برع في علوم السنة وتراجم الرواة وأصول الدين وأصول الفقه وعلوم العربية والآداب. وممن تتلمذ لهم: أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي المعروف بابن الطيوري (411 - 500) المحدث الصحيح الأصول الواسع العلم. وأبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أيوب البزاز (410 - 492) . وأبو المعالي ثابت بن بندار البقال المقرئ (المتوفى 498) . والقاضي أبو البركات طلحة بن أحمد بن طلحة العاقولي الحنبلي (432 - 512) وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين بن عمر الشاشي الشافعي (429 - 507) وكان يسمى " الجنيد " لورعه ودينه، وإليه انتهت رياسة الشافعية في بغداد فأنشد في أحد دروسه: خلت الديار فسدتُ غير مسود ... ومن العناء تفرُّدي بالسؤدد ثم وضع المنديل على عينيه وجعل يبكي. وتحدث ابن العربي عن إمام الشافعية هذا فذكر من محاسنه أنه سمعه ينتصر لمذهب أبي حنيفة في مجلس النظر ويقول: "يقال في اللغة لا تقرب كذا (بفتح الراء) أي لا تتلبس بالفعل. وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن من الموضع". قلت وهذا من دلائل صحة العلم وسعة الأفق، فإن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية ويجنح إلى الحق والخير حيثما كانا، ومن كان الحق غرضه تحراه واحتج له وكان معه في كل حال. أما التعصب للطائفية والمذهب وبنيات الطريق، وتمحل الحجج الواهية لذلك، فمن دلائل صغر النفس وزغل العلم والأنس بالباطل. ومن الذين أخذ عنهم ابن العربي في بغداد الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجا الميورقي العبدري المتوفى سنة 524 وكان من فقهاء مذهب ¬

(¬1) التوقيعات: ما يكتبه الحكام على العرائض من الأوامر الرسمية.

داود الظاهري، قال القاضي ابن العربي: وهو أنبل من لقيته. وأخذ عن أبي الحسين أحمد بن عبد القادر اليوسفي (411-492) ، وعن شيخ بغداد في الأدب أبي ذكريا يحيى بن علي التبريزي (421-502) ، وأبي محمد جعفر بن أحمد بن حسين السراج الحنبلي (416-500) مؤلف كتاب مصارع العشاق. وعن أبي بكر محمد بن طرخان التركي الشافعي (446-513) تلميذ إمام الشافعية أبي إسحاق الشيرازي صاحب التنبيه والمهذب. وأخذ عن مسند العراق نقيب النقباء أبي الفوارس طراد بن محمد بن علي العباس الزينبي (¬1) (398-491) وكان أعلى الناس منزلة عند الخليفة. وكان يتردد على مجالس العلم العامة التي تعقد في دار وزير الخليفة عميد الدولة أبي منصور محمد بن فخر الدولة محمد بن محمد بن جهير المتوفى سنة 493 وسماه (الوزير العادل) . قال ابن العربي: كنت بمجلس الوزير، فقرأ القارئ: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء بن عقيل إمام الحنابلة بمدينة السلام (431-513) وكان (مع إمامته في مذهب الإمام أحمد) معتزلي الأصول (¬2) فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري: هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة، فإن العرب لا تقول (لقيت فلانا) إلا إذا رأته. فصرف أبو الوفاء وجهه مسرعا إلينا وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله لا يرى في الآخرة " فقد قال الله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة " قال ابن العربي: وقد شرحنا وجه الآية في (كتاب المشكلين) . ويقول ابن سعيد أحد مترجمي ابن العربي أن ابن العربي أخذ عن ابن ¬

(¬1) نسبة إلى جدته الكبرى زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس. (¬2) تأثر بالاعتزال من شيخيه أبي علي محمد بن أحمد بن الوليد الكرخي، وأبي القاسم بن التبان. ولكن شيوخه من أئمة الحنابلة استتابوه بعد ذلك وصرفوه عن كثير مما تأثر به. وأبو الوفاء بن عقيل من كبار أئمة الإسلام. ومن مؤلفاته كتاب الفنون زاد على أربعمائة مجلد.

اتصاله بأبي حامد الغزالي

الأنماطي في الإسكندرية. والمعرفون بابن الأنماطي من العلماء كثيرون في مصر والعراق من أيام المزني تلميذ الشافعي في القرن الثالث إلى أواخر القرن السابع، لكني لم أهتد إلى واحد منهم في الإسكندرية زمن ابن العربي. والعالم المعاصر له من بني الأنماطي هو مفيد بغداد أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي الحنبلي (462-538) من كبار شيوخ الحافظ أبي الفرج بن الجوزي فلعله هو الذي أخذ عنه ابن العربي في بغداد والتبس الأمر على مترجميه المغاربة فظنوه من بني الأنماطي المصريين (¬1) . وفي بغداد لقي ابن العربي محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي (المتوفى سنة524) الذي ادعى بعد ذلك المهدوية والنسب العلوي وقام بالتوطئة لعبد المؤمن بن علي (490-558) وكان المؤسس الأول لدولة الموحدين. ويقول مترجمو ابن العربي: إنه صحب ابن تومرت بالمشرق، فأوصى عليه عبد المؤمن، (¬2) ولابد أن تكون هذه الوصاة بعد عودتهما إلى المغرب بزمن طويل، ولا شك عندنا أنه لم ينتفع بها، ولم يكن لها أثر في مجرى حياته. ولعل ذلك من نعم الله عليه، وفي آخر حياة ابن العربي أوذي بجيئته من الأندلس إلى مراكش دار سلطنة عبد المؤمن كما سترى في آخر هذا الفصل. [اتصاله بأبي حامد الغزالي] اتصاله بأبي حامد الغزالي: وقد لقي ابن العربي حجة الإسلام أبا حامد محمد الغزالي (450-505) في بغداد. وفي صحاري الشام بعد ذلك، والذي يظهر لي أنه عند وصول ابن العربي إلى بغداد في بداية رحلته -وكان الغزالي يدرس في النظامية وفي مجالسه العامة -اكتفى ابن العربي بالسماع منه في غمار الناس: ثم حج الغزالي ورحل في سنة 488 إلى دمشق متزهدا وألف فيها كتابه ¬

(¬1) الأنماطي: بائع الأنماط، وهي المفروشات المنزلية، وما يسمى الآن (الموبيليات) . (¬2) نفح الطيب 1: 335.

الإحياء (¬1) وعاد إلى بغداد فنزل برباط أبي سعد بإزاء النظامية، وحينئذ اتصل به ابن العربي ولازمه. وبعد أن حج ابن العربي -كما سنذكره في الفقرة التالية - وعاد من العراق إلى الشام في طريقه إلى وطنه لقي الغزالي في صحاري الشام وهو في طور آخر. وعندنا النصوص التالية عن ابن العربي فيما يتعلق بالغزالي: النص الأول: نقله المقري في نفح الطيب (2-338) وفي أزهار الرياض (3-91) عن (قانون التأويل) لابن العربي قال (ورد علينا دانشمند-يعني الغزالي - فنزل برباط ابن سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا، مقبلا على الله تعالى. فمشينا إليه، وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد، وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة. . . . . إلخ) . والنص الثاني: في نفح الطيب (1-343) عن ابن العربي أنه قال (وكان يقرأ معنا برباط أبي سعد على الإمام دانشمند من بلاد المغرب خنثى له لحية ¬

(¬1) نقل ابن العماد في شذرات الذهب (4: 11) قول الأسنوي في طبقات الشافعية وهو يترجم الغزالي " وأقبل على العبادة والسياحة فخرج إلى الحجاز سنة 488 فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة دمشق، وصنف فيها كتبا يقال إن (الأحياء) منها ثم سار إلى القدس والإسكندرية ثم عاد إلى وطنه طوس " ونبهني الأستاذ الشيخ محمد صبري عابدين إلى أن في ترجمة الغزالي بكتاب الأنس الجليل (1: 265) ما نصه: " وأخذ في التصانيف المشهورة ببيت المقدس، فيقال إنه صنف في القدس (إحياء علوم الدين) وأقام بالزاوية التي على باب الرحمة المعروفة قبل ذلك بالناصرية شرقي بيت المقدس، فسميت بالغزالية نسبة إليه ". وقد أصاب الجمال الأسنوي في تحديد سنة مجيء الغزالي إلى دمشق، ويوافقه في ذلك ابن العماد في الشذرات (3: 383) ، غير أن الأسنوي وهم في تقديره إقامة الغزالي بعشر سنين، والغالب أنه قام سنتين ثم حج وعاد إلى بغداد في المدة التي لازمه فيها ابن العربي في رباط أبي سعد. ثم بدا له أن يكسر مغزله ويعود إلى دمشق وبيت المقدس سائحا فيما بينهما وبين الإسكندرية إن صح تردده إليها، وبعد هذا الطور انقلب إلى طوس ودعي منها إلى نظامية نيسابور فلم يستقم له الحال فيها فرجع إلى طوس ومات فيها سنة 505.

وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته حاله) . والنص الثالث: في شذرات الذهب (4-13) قال: وذكر الشيخ علاء الدين علي بن الصيرفي في كتابه زاد السالكين: أن القاضي أبا بكر بن العربي قال: رأيت الغزالي في البرية وبيده عكازة وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام أليس تدريس العلم ببغداد خيرا من هذا؟ فنظر إلي شزرا وقال: لما طلع بدر السعادة، في فلك الإرادة (أو قال: في سماء الإرادة) وجنحت شمس الوصول. في مغارب الأصول: تركت هوى ليلى وسعدى بمنزلي ... وعدت إلى تصحيح أول منزل ونادت بي الأشواق: مهلا فهذه ... منازل من تهوى , رويدك فانزل غزلت لهم غزلا دقيقا , فلم أجد ... لغزلي نساجا , فكسرت مغزلي ومن شيوخ ابن العربي في بغداد دانشمند آخر كانوا يسمونه (دانشمند الأكبر) وهو إسماعيل الطوسي، ويقولون للغزالي (دانشمند الأصغر) نقله المقري في أزهار الرياض (3-91) عن أبي عبد الله محمد بن غازي من المغرب. ومعنى دانشمند بالفارسية (العارف) . ذهابه إلى الحج، وعودته إلى بغداد: وذهب ابن العربي مع أبيه من بغداد إلى الحرمين الشريفين في موسم سنة 489 فحج بيت الله الحرام، وأخذ في مكة عن محدثها ومفتيها أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين الطبري الشافعي (418-498) . ومما تحدث به ابن العربي عن مكة قوله (كنت بمكة مقيما في ذي الحجة سنة 489، وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرا، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان، ففتح الله لي

العودة بطريق دمشق وفلسطين والإسكندرية

ببركته في المقدار الذي يسره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل، ويا ليتني شربته لهما حتى يفتح الله لي فيهما، ولم يقدر فكان صغوي للعلم أكثر منه للعمل، وأسأل الله تعالى الحفظ والتوفيق برحمته) . وعاد ابن العربي إلى بغداد مع أبيه، فلبث فيها قريبا من سنتين قضاهما في صحبة الغزالي وهو في طوره الأوسط، بين حالة الظهور الأولى وحالة العزلة والسياحة في النهاية. [العودة بطريق دمشق وفلسطين والإسكندرية] العودة بطريق دمشق وفلسطين والإسكندرية: وفي سنة 492 كان والد ابن العربي قد أثرت فيه الشيخوخة، فخرجا من بغداد متوجهين إلى الشام وفلسطين، فجدد ابن العربي العهد - في دمشق وبيت المقدس وكثير من المدن الشامية - مع من كان عرفهم وأخذ عنهم من شيوخ هذه البلاد، وتعرف بآخرين غيرهم. ثم جاء إلى الإسكندرية، وكانت فيها منية أبيه في أوائل سنة 493 فدفن في الثغر الإسكندري. وكان الإمام أبو بكر الطرطوشي في تلك المدة قد نزل الإسكندرية واستوطنها وكثر فيها تلاميذه ومريدوه من أهل السنة حتى بلغوا المئات لما وجدوا فيه من العزم على إحياء طريق أهل السنة بعد أن اعتراها الوهن وأصيبت بالإهمال تحت حكم العبيديين، فأقلق نشاط الطرطوشي ولاة الأمور العبيديين في القاهرة، وكانت رئاستهم قد آلت من سنة 487 إلى المستعلي أحمد بن المستنصر أبي تميم معد، وأخذ نجمهم بالأفول في الشام باستيلاء الأتراك على بعض البلاد، والإفرنج على البعض الآخر. ولم يكن للمستعلي حل ولا ربط مع وزيره الأفضل، فاضطهد الأفضل أبا بكر الطرطوشي فيما بعد بسبب كثرة أتباعه مما لا محل لذكره هنا. فلما توفي والد ابن العربي بالإسكندرية رحل عنه عائدا إلى وطنه في سنة 493، ويقول الحافظ ابن عساكر: إن ابن العربي ابتدأ بتأليف كتابه (عارضة الأحوذي) عندما غرب من الإسكندرية فكان أول مؤلفاته على ما نعلم.

وصوله إلى إشبيلية

[وصوله إلى إشبيلية] وصوله إلى إشبيلية: ولما وصل ابن العربي إلى وطنه إشبيلية كان الحكم فيها لا يزال ليوسف بن تاشفين، واستمر على ذلك إلى أن مات سنة 500. فاستقبل العلماء ورجال الثقافة والأدب في إشبيلية وما جاورها من عواصم الأندلس هذا الغائب القادم بعلوم المشرق استقبالا لا نظير له، وقصده طلاب العلم وأذكياء الأندلس من كل حدب وصوب، وتحول منزله إلى جامعة، وعقدت له حلقات الدرس في الجوامع، وكان ممن أخذ عنه وتلقى عليه طائفة من كبار علماء الإسلام: منهم قاضي المغرب وحافظه القاضي عياض بن موسى اليحصبي مؤلف (الشفا) و (مشارق الأنوار) ، وابنه القاضي محمد بن عياض، والحافظ المؤرخ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال، والإمام الزاهد العابد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مجاهد الإشبيلي، وأبو جعفر بن الباذش، وأبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم الخزرجي، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله بن خليل القيسي، وأبو الحسن بن النعمة، وأبو بكر محمد بن خير الأموي الإشبيلي، وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن حبيش، والإمام عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي شارح السيرة، وأبو العباس أحمد بن عبد الرحمن الصقر الأنصاري، وأبو الحسن علي بن عتيق القرطبي، وأبو القاسم أحمد بن محمد بن خلف الحوفي، وأبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الخراط، وأبو بكر محمد بن محمد اللخمي البلنقي، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الغاسل الغرناطي، وأبو الحسن عبد الرحمن بن أحمد بن بقي، وأبو العباس أحمد بن أبي الوليد بن رشد، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن سعيد العبدري شارح صحيح مسلم، وأبو المحاسن يوسف بن عبد الله بن عياد، والحافظ أبو الحجاج يوسف بن إبراهيم العبدري، والقاضي أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء اللخمي وأبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن قرقول شارح مشارق الأنوار، وعالم لا يحصى

من نمط هؤلاء الأجلاء منهم من ذكر مترجمو ابن العربي أسماءهم ومنهم من لم يسموهم لكثرتهم أو لأنهم من تلاميذه المتأخرين في الزمن عندما بلغ هذا الأمام سن الشيخوخة. ولعل من هؤلاء راوي كتابه (العواصم من القواصم) صالح بن عبد الملك بن سعيد الذي ذكر في أول الكتاب أنه قرأه على ابن العربي. وقد قلنا إن أبا بكر بن العربي كان بعد عودته من المشرق إلى الأندلس جامعة يصدر عنها العلم إلى كل معاصر له ممن يستطيع لقاءه، فهو مربي الجيل الذي عاش معه في تلك الديار. قال مترجموه: بقي ابن العربي يفتي ويدرس أربعين سنة، وقبل أن يتولى القضاء صدر له التقليد من السلطات الرسمية بأن يتولى منصب المشاور للقضاء، وهو منصب رفيع يصدر به ما يسمى الآن في الديار المصرية (مرسوما) وما يسمى في المغرب (ظهيرا) ومن نماذج مرسوم هذا المنصب ما تراه في هامش ص89 من كتاب (غابر الأندلس وحاضرها) للأستاذ محمد كرد علي وفي هامش (01، 162) من (شجرة النور الزكية) لمخلوف. وكان لا يباح للعالم في الأندلس أن يفتي إلا إذا استظهر (الموطأ) و (المدونة) أو عشرة آلاف حديث، ويتميز حينئذ بلبس القلنسوة ويقال له المقلس. ولما كنت حلقة ابن العربي تخرج علماء الجيل، كانت مملكة على بن يوسف بن تاشفين تزداد اتساعا واستفحالا بما كان يستحلفه من بلاد ملوك الطوائف، وبما استرده أو فتحه من الأسبانيين. وكان الوالي على شرق الأندلس وجنوبها لعلي بن يوسف بن تاشفين أخوه تميم بن يوسف، وفي سنة 513 انتعش الأسبانيون وأخذوا في إزعاج البلاد الإسلامية فجاز علي بن يوسف بن تاشفين من المغرب إلى الأندلس وقاتلهم وانتصر عليهم وعاد سنة 515، فاستمرت الحال على ذلك إلى أن توفي تميم بن يوسف سنة 520، فولى علي بن يوسف بن تاشفين على الأندلس ابنه تاشفين بن علي، وفي هذا الدور كان ابن العربي قد بلغ القمة في مكانته العلمية بما ظهر من مؤلفاته العظيمة، وما

انتشر في ربوع الأندلس والمغرب من تلاميذه ومريديه، فدعي في رجب سنة 528 لتولي القضاء في إشبيلية. وقد أجمعت كلمة الذين تحدثوا عنه- كالقاضي عياض، وابن بشكوال، وابن سعيد وجميع مؤرخي الأندلس-على أنه كان مثال العدل والاستقامة وحسن القيام بأمر القضاء، قال القاضي عياض: فنفع الله به أهل إشبيلية لصرامته وشدته ونفوذ أحكامه، وكانت له في الظالمين سورة مرهقة، مع الرفق بالمساكين، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستمر في هذه المدة على إلقاء دروسه مع القيام بأمر القضاء ومواصلة التأليف. إلا أن وقته أصبح ضيقا حتى اضطر تلميذه الإمام الزاهد العابد أبو عبد الله الإشبيلي إلى أن ينقطع عن درسه. فقيل له في ذلك، فقال: (كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان) . إن المكانة التي وصل إليها ابن العربي في العلم وعزته وسيادته على القلوب-قبل ولايته القضاء-كانت مثار الحسد له والإحنة عليه من العلماء الرسميين الذين يتجرون بقشور العلم ليبنوا بها دنياهم، فلما ازدادت مكانته رفعة بالقضاء مضى فيه مجاهدا في سبيل العدل والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلها من سبيل الله، يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة، ولين الكنف، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود. فازداد غيظ حاسديه، واشتد ضغن صغار النفوس عليه، ولا سيما أهل الجور والظلم والغصب الذين كان شديد الأحكام عليهم والأخذ منهم للمظلومين، منضما إليهم أهل المجون والفسقة الذين تناولهم ابن العربي بطريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما كان أكثر أهل المجون يومئذ في إشبيلية. يدلك على ذلك حوار عن إشبيلية وقرطبة دار في مجلس منصور بن عبد المؤمن بين أبي الوليد بن رشد وأبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر: ما أدري ما نقول، غير أنه إذا مات عالم في إشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.

وشعر ابن العربي في مدة قضائه بأن سور إشبيلية لا يقاوم أحداث الدهر إذا ألمت بالبلد ملمة، فعزم على ترميمه، وسد بعض الثلم الواقعة فيه. واتفق وقوع ذلك في زمن انصرفت فيه الحكومة عن مثل هذا الأمر. أو أن المال اللازم لذلك لم يكن متوافرا لديها، فخرج ابن العربي عن كل ما تحت يده من ماله الخاص ورصده لتحقيق هذا الواجب الملي العام، ودعا الأمة إلى البذل فيه، وأقبلت في خلال ذلك الأيام الأولى من شهر ذي الحجة، فكان ابن العربي أول من خطر على باله الاستفادة من جلود الأضاحي في المصالح العامة، فحض الناس على أن يتبرعوا بجلود أضاحيهم لبناء هذا السور، فكان في ذلك موفقا، إلا أن أعداءه ومبغضي طريقته أثاروا العامة عليه بأساليبهم الخبيثة حتى نابه بداره في أحد الأيام مثل الذي ناب أمير المؤمنين عثمان بن عفان لما تألب البغاة عليه وهاجموه في داره. ولا شك أن هذه الحادثة وقعت له في آخر ولايته للقضاء، وقد أشار إليها في كتابنا هذا (العواصم من القواصم) الذي ألفه في سنة 536 فهي إذن وقعت بعد سنة 530 وقبل سنة 536 وقد قال في كتابنا هذا ص137-138 يصفها (ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك في الأرض منكر. واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب فتألبوا وألبوا وثاروا إلي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي، ولولا ما سبق من حسن المقدار، لكنت قتيل الدار. وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي صلى الله عليه وسلم (أي بالكف عن القتال في الفتنة) . الثاني الاقتداء بعثمان. والثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي (¬1) . ¬

(¬1) أي لما أراد عمر بن الخطاب أن يقتل ابن سلول عند عودة النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق لقول ابن سلول " إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأزل " فمنع النبي صلى الله عليه وسلم عمر من قتله وقال " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ".

فنكب ابن العربي في هذه الثورة ونهبت كتبه كلها. وانصرف أو صرف عن القضاء، وتحول مؤقتا إلى قرطبة. وكان له فيها تلاميذ ومريدون، فازداد بهذه الرحلة تلاميذه من أذكيائها ومريدوه. وكان من حكمة الله في هذه النازلة أن تفرغ ابن العربي للعلم، وواصل إكمال مؤلفاته الكبيرة، وقد آن لنا أن نشير إلى تراثه العلمي. فمن مؤلفاته: 1 -أنوار الفجر في تفسير القرآن: ألفه في عشرين سنة وبلغ ثمانين ألف ورقة (أي مائة ألف وستين ألف صفحة) ورآه يوسف الحزام المغربي في القرن الثامن في خزانة أمير المسلمين السلطان أبي عنان فارس بمدينة مراكش (وكان يخدم السلطان في حزم كتبه ورفعها) فعد أسفاره فبلغت ثمانين سفرا، وقال بعض مترجمي ابن العربي إنه في تسعين مجلدا، وكان الناس يتداولون هذا التفسير أثناء تأليفه، فكلما انتهى من تأليف مقدار منه تناسخه الناس وتناقلوه. 2 -قانون التأويل في تفسير القرآن: كتاب كبير، كان موجودا ومنتشرا إلى القرن الحادي عشر الهجري، ونقل عنه المقري في نفح الطيب، ونقلنا عنه شيئا منه في هذه الترجمة. 3 -أحكام القرآن: كتاب نفيس طبعه سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ في إحدى المطابع المصرية. 4 -الأحكام الصغرى، منه مخطوط بمكتبة عبد الحي الكتاني بالمغرب. 5 -الناسخ والمنسوخ في القرآن: توجد منه مخطوطة بخزانة القرويين. 6 -كتاب المشكلين: مشكل الكتاب ومشكل السنة. 7 -كتاب النيرين: في الصحيحين. 8 -القبس: في شرح موطأ مالك بن أنس. وهو من أواخر مؤلفاته. ذكر فيه تفسيره (أنوار الفجر) وفي مكتبة الكتاني بالمغرب مخطوطة من القبس وفي مكتبة الجلاوي بمراكش مخطوطة.

9 -ترتيب المسالك في شرح موطأ مالك: في مكتبة طلعت (793 حديث) . 10 -عارضة الأحوذي، شرح جامع الترمذي: وهو من أول مؤلفاته، ويقول الحافظ ابن عساكر: إنه بدأ بتأليفه في منقلبه إلى المغرب عائدا من رحلته الكبرى. وقد اطلعنا على مخطوطة منه في مكتبة جمعية الهداية الإسلامية جاء بها من تونس صديقنا العلامة الجليل السيد محمد الخضر حسين. ثم طبع هذا الكتاب في مصر سنة 1350 مع جامع الترمذي في 14 جزءا. 11 -شرح حديث جابر في الشفاعة. 12 - حديث الإفك. 13 - العواصم من القواصم. 14 -شرح حديث أم زرع. 15 -الكلام على مشكل حديث السبحات والحجاب. 16 -السباعيات. 17 - المسلسلات. 18 -الأمد الأقصى بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا. 19 -تفصيل التفضيل، بين التحميد والتهليل. 20 -التوسط في معرفة صحة الاعتقاد، والرد على من خالف السنة وذوي البدع والإلحاد في مجموع مخطوط بمكتبة عبد الحي الكتاني في المغرب (عقيدة ابن العربي) . 21 -المحصول في علم الأصول. 22 -الإنصاف، في مسائل الخلاف: عشرون مجلدا. 23 - شرح غريب الرسالة لابن أبي زيد القيرواني. 24 -كتاب ستر العورة. 25 -الخلافيات. 26 - مراقي الزلف. 27 - سراج المريدين (وهو ينقل عنه ويشير إليه في العواصم من القواصم) ومنه مخطوطة بمكتبة عبد الحي الكتاني وبأولها خط المؤلف. 28 - نواهي الدواهي.

29 - العقل الأكبر للقلب الأصغر. 30 - الكافي في أن لا دليل على النافي. 31 -سراج المهتدين. 32 - تبيين الصحيح، في تعيين الذبيح. 33 - ملجأة المتفقهين، إلى معرفة غوامض النحويين. 34 -أعيان الأعيان. 35 -تخليص التلخيص. 36 - ترتيب الرحلة للترغيب في الملة: منه مخطوطة ناقصة في مكتبة عبد الحي الكتاني بالمغرب. وفى خلال اشتغال ابن العربي بالتدريس والتأليف في العشر الأواخر من سني حياته، كان يتردد على الأدباء، ويساجلهم الأدب والشعر بقريحة وقادة، وبيان جزل، ولا يتسع هذا المقام لوصف مقامه الأدبي، ونكتفي بإيراد المثل الآتي لهذه الناحية: دخل عليه الأديب ابن صارة الشنتريني وبين يدي القاضي أبي بكر نار علاها رماد فقال لابن صارة: قل في هذه. فقال: شابت نواصي النار بعد سوادها ... وتسترت عنا بثوب رماد ثم قال لابن العربي: أجز. فقال: شابت كما شبنا وزال شبابنا ... فكأنما كنا على ميعاد ونختم هذه الترجمة قبل ذكر وفاته، بفصل عقده وصاف أدب أدباء الأندلس الوزير أبو نصر الفتح بن خاقان القيسي في كتابه (المطمح) فقال يصف الفقيه الأجل الحافظ أبا بكر بن العربي: (علم الأعلام الطاهر الأثواب، الباهر الألباب، الذي أنسى ذكاء إياس. وترك التقليد للقياس، وانتجع الفرع من الأصل، وغدا في يد الإسلام أمضى من النصل، سقى الله به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف، ومد عليها من الظل الوارف. فكساها رونق نبله، وسقاها ريق وبله، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها. وصدرا في مجلس ملكها. واصطفاه معتمد

بني عباد، اصطفاء المأمون لابن أبي داود وولاه الولايات الشريفة وبوأه المراتب المنيفة. فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت (¬1) وألقتهم منها وتخلت. رحل به إلى المشرق، وحل فيه محل الخائف الفرق. فجال في أكنافه، وأجال قداح الرجاء في استقبال العز واستئنافه. فلم يسترد ذاهبا، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا فعاد إلى الرواية والسماع. وما استفاد من إجالة تلك الأطماع. وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوَّح، وفي روض الشباب زهر ما صوَّح، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا، ولازمه سائقا إليها وحاديا، حتى استقرت به مجالسه، واطردت له مقايسه. فجد في طلبه، واستجد به أبوه منخرق أربه ثم أدركه حمامه ووارته هناك رجامه. وبقي أبو بكر متفردا، وللطلب متجردا، حتى أصبح في العلم وحيدا، ولم تجد عنه الرياسة محيدا، فكر إلى الأندلس فحلها والنفوس إليه متطلعة، ولأنبائه متسمعة، فناهيك من حظوة لقي، ومن عزة سقي، ومن رفعة سما إليها ورقي، وحسبك من مفاخر قلدها، ومن محاسن أنس أنبتها فيها وخلدها. وفي السنوات الأخيرة من حياة ابن العربي مات علي بن يوسف بن تاشفين صاحب المغرب والأندلس، فقام بعده (سنة537) ابنه تاشفين الذي كان واليا لأبيه على الأندلس. وفي زمنه استفحلت دعوة الموحدين التي كان دعا إليها ابن تومرت مدعي المهدوية فتولاها بعده صنيعته عبد المؤمن بن علي، وتغلب عبد المؤمن على المعز تاشفين وشرده إلى وهران في غرب الجزائر، ثم قتله في وهران في رمضان سنة 539، وحاصر أخاه إسحاق بن علي بن يوسف ¬

(¬1) كانت إشبيلية في زمن الفتح الإسلامي منزل الفاتحين من أبناء " حمص " إحدى المدن الشامية، فسموا إشبيلية باسم بلدهم، ولذلك يقول فيها ابن عبدون: هل تذكر العهد الذي لم أنسه ... ومودتي مخدومة بصفاء ومبيتنا في أرض حمص والحجى ... قد حل عقد صباه بالصهباء ودموع طل الليل يخلق أعينا ... ترنو إلينا من عيون الماء

بن تاشفين في مراكش سنة 540 مدة تسعة أشهر واستولى عليه وعليها في شوال سنة 541، فانقرضت دولة المرابطين أو الملثمين بعد أن حكمت 141 سنة. وهكذا شهد ابن العربي سقوط دولة آل عباد على يد يوسف بن تاشفين في أول شبابه. ثم شاهد سقوط دولة بني تاشفين على يد عبد المؤمن بن علي صاحب دولة الموحدين في أواخر شيخوخته. وعقب ذلك أخذت وفود مدائن الأندلس تفد على مراكش طالبة من عبد المؤمن الاستيلاء على بلادهم من بقايا المرابطين. وحضر في سنة 542 وفد (إشبيلية) برئاسة عظيمها وكبير علمائها الإمام أبي بكر بن العربي. ولسبب غامض لا نعرفه إلى الآن حبس عبد المؤمن هذا الوفد في مراكش نحو عام، ثم سرحوا، فأدركته منيته منصرفه من مراكش في موضع يسمي (أغلان) على مسيرة يوم من فاس غربا منها، فاحتمل ميتا إلى فاس في اليوم الثاني من موته، وصلى عليه صاحبه أبو الحكم بن حجاج، ودفن في يوم الأحد 7 ربيع الأول سنة 543 خارج المحروق أعلى مدينة فاس بتربة القائد مظفر. رحمه الله وأعلى مقامه في دار الخلود.

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدول

[أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدول] بتعديل الله ورسوله لهم ولا ينتقص أحدا منهم إلا زنديق عقد الإمام الحافظ المحدث أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (392-463) فصلا نفيسا في كتابه (الكفاية) الذي طبعه صاحب السمو نظام حيدر أباد الدكن بالهند سنة 1357 (ص46-49) واعتمده شيخ الإسلام الإمام الحافظ قاضي قضاة مصر شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني (773-852) في مقدمة كتابه (الإصابة) الذي طبعه في مصر سلطان المغرب مولاي عبد الحفيظ سنة 1328 (ج1ص10-11) ونحن نقتطف منه ما يلي: عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن. فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ - أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ - فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12] وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 8 - 9]

ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم. فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعنى: حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق أيمانهم شهادتهم، ويشهدون قبل أن يستشهدوا» ورواه أبو هريرة وعمران بن حصين أيضا. وحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» . وحديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه. فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة» . وحديث سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي: يا محمد، إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء: بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى» . وحديث الإمام الشافعي بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله اختارني واختار أصحابي فجعلهم أصهاري وجعلهم أنصاري. وإنه سيجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم، ألا فلا

تناكحوهم، ألا فلا تنكحوا إليهم، ألا فلا تصلوا معهم، ألا فلا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة» . قال الحافظ الكبير أبو بكر بن الخطيب البغدادي: والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم. فلا يحتاج أحد منهم - مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق له. . . . على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها - من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين - القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين. أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسي الهمذاني، حدثنا صالح بن أحمد الحافظ قال: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبدل يقول: سمعت أحمد بن محمد بن سليمان التستري يقول: سمعت أبا زرعة يقول: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة) . وأبو زرعة الذي أعلن زندقة من ينتقص أحدا من الصحابة، هو عبيد الله بن عبد الكريم الرازي، من موالي بني مخزوم، كان أحد أعلام الأئمة. قال عنه الإمام أحمد: ما جاز الجسر أحفظ من أبي زرعة. وقال الإمام أبو حاتم: إن أبا زرعة ما خلف بعده مثله. توفي سنة 264.

خطبة المؤلف

[خطبة المؤلف] العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله قال صالح بن عبد الملك بن سعيد: قرأت على الإمام محمد أبي بكر بن العربي رضي الله عنه قال: الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم إنا نستمد بك المنحة، كما نستدفع بك المحنة، ونسألك العصمة، كما نستوهب منك الرحمة. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويسر لنا العمل كما علمتنا، وأوزعنا شكر ما آتيتنا، وانهج لنا سبيلا يهدي إليك وافتح بيننا وبينك بابا نفد منه عليك، لك مقاليد السماوات والأرض وأنت على كل شيء قدير (¬1) . ¬

(¬1) بهذا التحميد والدعاء السديد، افتتح الإمام ابن العربي الجزء الأول من كتابه (العواصم من القواصم) . فافتتحنا به هذا القسم من جزئه الثاني (من ص 98 إلى ص 193 من مطبوعة الجزائر سنة 1347) وهو ما اخترنا إفراده بهذا السفر خاصا بتحقيق مواقف الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أشرنا إلى ذلك في تصدير الكتاب.

قاصمة الظهر

[قاصمة الظهر] [وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ووقعها في نفوس الصحابة] قاصمة الظهر بعد أن استأثر الله بنبيه صلى الله عليه وسلم ـ وقد أكمل له ولنا دينه، وأتم عليه وعلينا نعمته، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وما من شيء في الدنيا يكمل إلا وجاءه النقصان، ليكون الكمال الذي يراد به وجه الله خاصة، وذلك العمل الصالح والدار الآخرة، فهي دار الله الكاملة. قال أنس: " ما نفضنا أيدينا من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا " (¬1) . واضطربت الحال، ثم تدارك الله الإسلام ببيعة أبي بكر، فكان موت النبي صلى الله عليه وسلم (قاصمة الظهر) ومصيبة العمر: [استخفاء علي وإهجار عمر] فأما علي فاستخفى في بيته مع فاطمة (¬2) . ¬

(¬1) في مطبوعة الجزائر " نفوسنا " والمروي في الحديث " قلوبنا" من وجوه متعددة أشار إليها الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 273 ـ 274) أحدها للإمام أحمد عن أنس: (لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء: قال: وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا) وهكذا رواه الترمذي، وابن ماجه. وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. قال ابن كثير: وإسناده صحيح على شرط الصحيحين. (¬2) لأن فاطمة وجدت على أبي بكر لما أصر على العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا نورث، ما تركناه صدقة) وسيأتي تفصيل ذلك في ص 48 ـ 50، فعاشت فاطمة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر معتزلة في بيتها ومعها علي كرم الله وجهه قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6: 333) : فلما مرضت جاءها الصديق فدخل عليها فجعل يترضاها فرضيت. رواه البيهقي من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ثم قال. وهذا مرسل حسن بإسناد صحيح. وقال البخاري (ك 64 ب 38 ج 5 ص 82 - 83) من حديث عروة عن عائشة: " فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجه في حياة فاطمة فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته. . . إلخ ". وبيعة علي هذه هي الثانية بعد بيعته الأولى في سقيفة بني ساعدة. وأضاف الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 249) أن عليا لم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلف الصديق، وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة. ويحتمل أن يكون مراد المؤلف باستخفاء علي ما كان منه ومن الزبير قبيل الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى ذلك في خطبته الكبرى التي خطبها في المدينة في عقب ذي الحجة بعد آخر حجة حجها عمر، وهذه الخطبة في مسند الإمام أحمد (1: 55 الطبعة الأولى - ج 1 رقم 391 الطبعة الثانية) من حديث ابن عباس.

وأما عثمان فسكت. وأما عمر فأهجر وقال: " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما واعده الله كما واعد موسى (¬1) وليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ¬

(¬1) إشارة إلى قول الله عز وجل في سورة البقرة: 51 وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وقوله سبحانه في سورة الأعراف: 142 وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.

حوار العباس وعلي في مرضه صلى الله عليه وسلم

فليقطعن أيدي أناس وأرجلهم " (¬1) . [حوار العباس وعلي في مرضه صلى الله عليه وسلم] وتعلق بال العباس وعلي بأمر أنفسهما في مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال العباس لعلي: " إني أرى الموت في وجوه بني عبد المطلب، ¬

(¬1) في مسند أحمد (3: 196 الطبعة الأولى) حديث أنس بن مالك عن يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: " ثم أرخى الستر، فقبض في يومه ذاك. فقام عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن ربه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى، فمكث عن قومه أربعين ليلة. وإني لأرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون (أو قال: يقولون) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات ". وفي كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 5) عن عائشة: (. . . فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم) . ونقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5-242) ما رواه البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: قام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال " مات " بالقتل والقطع، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشية لو قد قام قتل وقطع. وفي (5: 241) من البداية والنهاية من حديث عائشة وهي تذكر الساعة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما. . ثم قاما، فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر: كذبت، بل أنت رجل تحوسك (أي تخالطك) فتنة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر. . . وخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ومعنى أهجر: خلط في كلامه وهذى، وأكثر الكلام فيما لا ينبغي. وذلك من هول ما وقع في نفس عمر من هذا الحدث العظيم، فهو لا يكاد يصدقه.

اضطراب أمر الأنصار واجتماع سقيفة بني ساعدة

فتعال حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الأمر فينا علمناه (¬1) . وتعلق بال العباس وعلي بميراثهما فيما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من فدك وبني النضير وخيبر (¬2) . [اضطراب أمر الأنصار واجتماع سقيفة بني ساعدة] واضطرب أمر الأنصار يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين (¬3) . ¬

(¬1) فأجابه علي كرم الله وجهه: (إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك 64 ب 83 ج 5 ص 140 - 141) . ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (5: 227 و251) من حديث الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس. ورواه الإمام أحمد في مسنده (1: 263 و325 الطبعة الأولى وج 4 رقم 2374 وج5 رقم 2999 الطبعة الثانية) . (¬2) سيأتي تفصيله في ص 48 عند الكلام على حديث (لا نورث، ما تركناه صدقة) . (¬3) فاجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وبين ظهرانيهم سعد بن عبادة، وهم يرون أن الأمر لهم، لأن البلد بلدهم وهم أنصار الله وكتيبة الإسلام، أما قريش فإن دافة منهم دفت، فلا ينبغي أن تختزل الأمر من دون الأنصار. وقال خطيب منهم - وهو الحباب بن المنذر - (أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير) . (وجذيلها المحكك: هو أصل شجرتها الذي تتحكك به الإبل. وعذيقها المرجب: نخلتها التي دعمت ببناء أو خشب لكثرة حملها) . ومع ذلك فقد كان رجل من الأنصار - وهو بشير بن سعد الخزرجي والد النعمان بن بشير - يسابق عمر إلى مبايعة أبي بكر. وقبيل ذلك كان في السقيفة الرجلان الصالحان عويم بن ساعدة الأوسي ومعن بن عدي حليف الأنصار ولم تعجبهما هذه النزعة من الأنصار فخرجا وهما يريان أن يقضي المهاجرون أمرهم غير ملتفتين إلى أحد، لكن حكمة أبي بكر ونور الإيمان الذي ملأ قلبه كانا أبعد مدى وأحكم تدبيرا لهذه الملة في أعظم نوازلها.

عاصمة

وانقطعت قلوب الجيش الذي كان قد برز مع أسامة بن زيد بالجرف (¬1) . [عاصمة] [تدارك الله الإسلام والأنام بأبي بكر الصديق] عاصمة فتدارك الله الإسلام والأنام ـ وانجابت [الغمة] انجياب الغمام، ونفذ وعد الله باستئثار رسول الله (¬2) وإقامة دينه على التمام، وإن كان قد أصاب ما أصاب من الرزية الإسلام ـ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه (¬3) . ¬

(¬1) كان هذا الجيش سبعمائة، والأمير عليهم إسامة بن زيد، وكان قد ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسير إلى تخوم البلقاء (شرق الأردن) حيث قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة. ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أشار كثير من الصحابة - ومنهم عمر - ألا ينفذ الصديق هذا الجيش لما وقع من الاضطراب في الناس ولا سيما في القبائل. نقل ابن كثير في البداية والنهاية (6: 304 - 305) حديث القاسم بن محمد بن أبي بكر وعمرة بنت سعيد الأنصارية عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة وأشربت النفاق، والله لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كأنهم معزى مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة. فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وفصلها. (¬2) استأثر الله فلانا، وبفلان، إذا مات. (¬3) أي فتدارك الله الإسلام والأنام بأبي بكر.

رباط جأش أبي بكر في اليوم الرهيب

[رباط جأش أبي بكر في اليوم الرهيب] وكان ـ إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ غائبا في ماله بالسنح (¬1) فجاء إلى منزل ابنته عائشة رضي الله عنها ـ وفيه مات النبي صلى الله عليه وسلم ـ فكشف عن وجهه، وأكب عليه يقبله وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طبت حيا وميتا ـ والله لا يجمع الله عليك الموتتين، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها، ثم خرج إلى المسجد ـ والناس فيه، وعمر يأتي بهجر من القول كما قدمنا ـ فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ـ ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ". ثم قرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] (آل عمران: 144) ¬

(¬1) في البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5: 244) : كان الصديق قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح، وكان إذا ذاك قد أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع، وكشف سترة الحجرة ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبي بكر، فأعجبه ذلك وتبسم صلى الله عليه وسلم حتى هم المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، وحتى أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف، فأشار إليهم صلى الله عليه وسلم أن يمكثوا كما هم، وأرخى الستارة، وكان آخر العهد به صلى الله عليه وسلم. فلما انصرف أبو بكر من الصلاة دخل عليه وقال لعائشة ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة - يعني إحدى زوجتيه وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة - فركب على فرس وذهب إلى منزله، وتوفي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى. . . فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق فأعلمه بموت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الصديق حين بلغه الخبر، وكان منه ما سيذكره المؤلف. والسنح منازل بني الحارس بن الخزرج في عوالي المدينة، بينها وبين مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ميل واحد.

موقفه في سقيفة بني ساعدة

فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل إلا ذلك اليوم (¬1) . [موقفه في سقيفة بني ساعدة] واجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتشاورون، ولا يدرون ما يفعلون، [وبلغ ذلك المهاجرين] فقالوا: نرسل إليهم يأتوننا، فقال أبو بكر: بل نمشي إليهم، فسار إليهم المهاجرون، منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فتراجعوا الكلام، فقال بعض الأنصار: منا أمير ومنكم أمير (¬2) . فقال أبو بكر كلاما كثيرا مصيبا، يكثر ويصيب، منه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأئمة من قريش» (¬3) وقال: «أوصيكم بالأنصار خيرا: أن تقبلوا من محسنهم، وتتجاوزوا عن ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 194) من حديث عائشة. وفي سنن الدارقطني (3: 406) والبداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5: 242) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد أعلام المسلمين، عن عائشة أم المؤمنين التي وقعت هذه الحوادث في بيتها وفي المسجد النبوي الذي يطل بيتها عليه. وجميع دواوين السنة سجلت هذا الموقف العظيم للصديق الأكبر بأصح الأحاديث. وألفاظها قريب بعضها من بعض. (¬2) الذي قال ذلك من خطباء الأنصار الحباب بن المنذر، وقد تقدم في هامش 3 ص 40. (¬3) الحديث في مسند الطيالسي برقم 926 عن أبي برزة، وبرقم 2133 منه عن أنس. وفي كتاب الأحكام من صحيح البخاري ك 93 ب 2 - ج8 ص104 - 105) عن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبة الله على وجهه ما أقاموا الدين " وعن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " وفي مسند الإمام أحمد (3: 129 الطبعة الأولى) عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب البيت ونحن فيه فقال " الأئمة من قريش. إن لهم عليكم حقا. . . إلخ " ورواه الإمام أحمد أيضا في المسند (3: 183 الطبعة الأولى) عن أنس قال: كنا في بيت رجل من الأنصار فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف فأخذ بعضادة الباب فقال " الأئمة من قريش، ولهم عليكم حق، ولكم مثل ذلك. . . إلخ " ورواه الإمام أحمد كذلك (4: 421 الطبعة الأولى) عن أبي برزة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأئمة من قريش: إذا استرحموا رحموا، وإذا عاهدوا وفوا، وإذا حكموا عدلوا. فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ".

مسيئهم» (¬1) إن الله سمانا (الصادقين) (¬2) وسماكم (المفلحين) (¬3) وقد أمركم أن تكونوا معنا حيثما كنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (التوبة: 119) إلى غير ذلك من الأقوال المصيبة ¬

(¬1) في كتاب مناقب الأنصار من صحيح البخاري (ك 63 ب 11) من حديث هشام بن زيد بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار يبكون (والظاهر أن ذلك كان في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات به) فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك. قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد. قال فصعد المنبر - ولم يصعده بعد ذلك اليوم - فحمد الله وأسنى عليه ثم قال: " أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقى الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم ". وبعده في صحيح البخاري حديث لعكرمة عن ابن عباس، وحديث لقتادة عن أنس بمعنى ذلك. وقريب من ذلك في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، وفي سنن الترمذي عن ابن عباس. (¬2) في سورة الحشر: 8 - 9 لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (¬3) في سورة الحشر: 8 - 9 لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.

والأدلة القوية، فتذكرت الأنصار ذلك وانقادت إليه، وبايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه (¬1) . وقال أبو بكر لأسامة: انفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: كيف ترسل هذا الجيش والعرب قد اضطربت عليك! ؟ فقال: لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء المدينة، ما رددت جيش أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬2) . ¬

(¬1) نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 247) من حديث الأمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (ابن أخت أمير المؤمنين عثمان) خطبة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة، ومنها قوله: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا سلكت وادي الأنصار " ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: " قريش ولاة هذا الأمر: فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "، فقال له سعد: " صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء ". (¬2) نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6: 305) عن الحافظ أبي بكر البيهقي حديث محمد بن يوسف الفريابي الحافظ (قال البخاري: كان أفضل أهل زمانه) ، عن عياد بن كثير الرملي أحد شيوخه (قال ابن المديني: كان ثقة لا بأس به) عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (أحد التابعين، توفي بالإسكندرية) عن أبي هريرة قال: " والله الذي لا إله إلا هو، لولا أبو بكر استخلف ما عبد الله " ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة. فقيل له: مه يا أبا هريرة. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه إسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب حول المدينة. فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر، رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ ! فقال: " والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله، ولا حللت لواء عقده رسول الله ". فوجه إسامة، فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.

موقفه من مانعي الزكاة

[موقفه من مانعي الزكاة] وقال له عمر وغيره: إذا منعك العرب الزكاة فاصبر عليهم. فقال: " والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. والله لأقاتلن من فرق بين الزكاة والصلاة " (¬1) . ¬

(¬1) لما مضى جيش إسامة في طريقه إلى شرق الأردن جعلت وفود القبائل تقدم المدينة، يقرون بالصلاة ويمتنعون عن أداء الزكاة. قال ابن كثير (6: 311) : ومنهم من احتج بقوله تعالى (التوبة: 103) : خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ. قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا. وقد تكلم الصحابة مع الصديق في أن يتركهم وما هم عليه من منع الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان في قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق من ذلك وأباه. وقد روى الجماعة في كتبهم - سوى ابن ماجه - عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: علام تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " فقال أبو بكر: والله لو منعوني عناقا (وفي رواية: عقالا) كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعها. إن الزكاة حق المال، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق. وهذا الحديث في مسند أحمد (1: 11، 19، 35- 36 الطبعة الأولى - ج 1 رقم 67 و117 و239 الطبعة الثانية) من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة. وفي البداية والنهاية (6: 312) قال القاسم بن محمد (ابن أبي بكر الصديق، وهو أحد الفقهاء السبعة) : اجتمعت أسد وغطفان وطيئ على طليحة الأسدي، وبعثوا وفودا إلى المدينة فنزلوا على وجوه الناس، فأنزلوهم إلا العباس، فحملوهم إلى أبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة، فعزم الله لأبي بكر على الحق وقال " لو منعوني عقالا لجاهدتهم ".

تنظيمه جيش الخلافة

قيل: ومع من تقاتلهم؟ قال: " وحدي، حتى تنفرد سالِفَتي " (¬1) . [تنظيمه جيش الخلافة] وقدَّم الأمراء على الأجناد والعمال في البلاد مختارا لهم، مرتئيا فيهم، فكان ذلك من أسد عمله، وأفضل ما قدمه للإسلام (¬2) . ¬

(¬1) السالفة: صفحة العنق، وهما سالفتان من جانبيه، ولا تنفرد إحداهما عما يليها إلا بالموت. (¬2) وفي طليعة هؤلاء القواد: أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وعمرو بن العاص السهمي، وخالد بن الوليد المخزومي وخالد بن سعيد بن العاص الأموي، ويزيد بن أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، والمهاجر بن أبي أمية شقيق أم المؤمنين أم سلمة، وشرحبيل بن حسنة، ومعاوية بن أبي سفيان، وسهيل بن عمرو العامري خطيب قريش، والقعقاع بن عمرو التميمي، وعرفجة بن هرثمة البارقي، والعلاء بن الحضرمي حليف بني أمية، والمثنى بن حارثة الشيباني، وحذيفة بن محصن الغطفاني. وفي طليعة ولاته: عتاب بن أسيد الأموي، وعثمان بن العاص الثقفي، وزياد بن لبيد الأنصاري، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، ويعلى بن منية، وجرير بن عبد الله البجلي، وعياض بن غنم، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعبد الله بن ثور أحد بني غوث، وسويد بن مقرن المزني.

حديث لا نورث ما تركناه صدقة

[حديث لا نورث ما تركناه صدقة] وقال لفاطمة وعلي والعباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث ما تركناه صدقة» . فذكر الصحابة ذلك (¬1) . ¬

(¬1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (62 ب 12 - ج 4 ص 209 ـ 210) حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تطلب صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث، ما تركنا فهو صدقة. إنما يأكل آل محمد من هذا المال - يعني مال الله - ليس لهم أن يزيدوا على المأكل " وإني والله لا أغير شيئا من صدقات النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت عليها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فتشهد علي ثم قال: إنا عرفنا يا أبا بكر فضيلتك (وذكر قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقهم) فتكلم أبو بكر فقال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي. وأوسع منه في كتاب المغازي بباب غزوة خيبر من صحيح البخاري (ك 64 ب 28 - ج 5 ص 82) . وفي كتاب الوصايا من صحيح البخاري (ك 55 ب 32 - ج 3 ص 197) وكتاب فرض الخمس (ك 57 ب 3 ـ ج 4 ص 45) حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤونة عاملي فهو صدقة ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مناهج السنة (2: 158) : قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا نورث، ما تركنا صدقة " رواه عنه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن عوف، والعباس بن عبد المطلب، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد. وقال قبل ذلك (2: 167) : إن الله تعالى صان الأنبياء أن يورثوا دنيا، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم. ثم إن من ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه ومنهن عائشة بنت أبي بكر وقد حرمت نصيبها بهذا الحديث النبوي، ولو جرى أبو بكر مع ميله الفطري لأحب أن ترث ابنته. وفي كتاب فرض الخمس من صحيح البخاري (ك 57 ب 1ـ ج 4 ص 42) حديث ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين أخبرت أن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث، ما تركنا صدقة ". . . فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: " لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به. فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ ". وفي الباب نفسه من صحيح البخاري (ج 4 ص 42 - 44) من حديث الإمام مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري أنه قال: بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار، إذا رسول عمر بن الخطاب، فقال: أجب أمير المؤمنين فانطلقت معه. فبين أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص يستأذنون؟ قال: نعم. فأذن لهم. . . ثم جلس يرفأ يسيرا ثم قال: هل لك في علي وعباس؟ قال: نعم. فأذن لهما فدخلا فسلما فجلسا فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا - وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من بني النضير - فقال الرهط، عثمان وأصحابه: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. قال عمر: تيدكم. أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث، ما تركنا صدقة " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه؟ قال الرهط: قد قال ذلك. فأقبل عمر على علي وعباس فقال: أنشدكما الله، أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك. (وبعد أن ذكر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله سنتهم من هذا المال ثم يجعل ما بقي مال الله، واستشهد على ذلك فشهدوا، قال) : ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها، فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق. ثم توفى الله أبا بكر، فكنت أنا ولي أبي بكر، فقبضتها سنتين من إمارتي، أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عمل فيها أبو بكر والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق. ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا - يريد عليا - يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث، ما تركنا صدقة ". فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما عمل فيه أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها. فقلتما: ادفعها إلينا: فبذلك دفعتها إليكما فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم. ثم أقبل على علي وعباس فقال: أنشدكما بالله، هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم. قال: أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك! فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها قضاء غير ذلك، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فإني أكفيكماها. وأورد البخاري حديث مالك بن أوس هذا في كتاب المغازي من صحيحه (ك 64 ب 14 - ج 5 ص 23 - 24) من حديث شعيب عن الزهري عن مالك بن أوس وفي كتاب النفقات من صحيحه (ك 69 ب 3 ـ ج 6 ص 190 ـ 192) ، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه (ك 96 ب 5 ج 8 ص 146 ـ 147) . وانظر كتاب الفرائض من صحيح البخاري (ك 85 ب 3 - ج 8 ص3 ـ 5) . ومسند الإمام أحمد (1: 13 الطبعة الأولى - ورقم 77 و78 الطبعة الثانية) . وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مناهج السنة (3: 230) إلى أن أبا بكر وعمر أعطيا من مال الله أضعاف هذا الميراث للذين كانوا سيرثونه قال: وإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة، لم يأخذ منهم مدينة ولا قرية عظيمة. ثم قال (3 - 231) وقد تولى علي بعد ذلك، وصارت فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعطي لأولاد فاطمة ولا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس شيئا من ميراثه. . . إلخ.

حديث لا يدفن نبي إلا حيث يموت

[حديث لا يدفن نبي إلا حيث يموت] وقال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدفن نبي إلا حيث يموت» (¬1) . وهو في ذلك كله رابط الجأش، ثابت العلم والقدم في الدين. ثم استخلف عمر، فظهرت بركة الإسلام، ونفذ الوعد الصادق في الخليفتين (¬2) . ¬

(¬1) في كتاب الجنائز من موطأ مالك (ك16 ج27 ـ ص231) أن مالكا بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء. وصلى الناس أفذاذا لا يؤمهم أحد. فقال ناس: يدفن عند المنبر. وقال آخرون: يدفن بالبقيع. فجاء أبو بكر الصديق فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه " قال الحافظ ابن عبد البر: صحيح من وجوه مختلفة وأحاديث شتى جمعها مالك وفي كتاب الجنائز من جامع الترمذي (ك8 ب33) حديث عائشة: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ما نسيته: ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه. ادفنوه في موضع فراشه. وفي كتاب الجنائز من سنن ابن ماجه (ك 6 ب 65) عن ابن عباس: لقد اختلف المسلمون في المكان الذي يحفر له فقال قائلون: يدفن في مسجده وقال قائلون: يدفن مع أصحابه فقال أبو بكر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض. ورواه ابن إسحاق (في السيرة لابن هاشم 3: 103 بولاق) من حديث عكرمة عن ابن عباس. وانظر البداية والنهاية للحافظ ابن كثير (5: 266 ـ 268) . (¬2) وهو وعد الله عز وجل في سورة النور: 55 وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ولقد كان المجتمع الإسلامي ـ بتوجيه هذين الخليفتين ـ أسعد مجتمع إنساني عرفه التاريخ، لأن الناس ـ من ولاة ورعية، كانوا يتعاملون بالإيثار، وكان الواحد منهم يكتفي بما يفي بحاجته، ويبذل من ذات نفسه أقصى ما يستطيع أن يستخرج منها من جهد لإقامة الحق في الأرض وتعميم الخير بين الناس. ويلقى الرجل الخير منهم رجلا لا تزال تنزع به نزعات الشر، فلا يزال به حتى يخدر عناصر الشر المتوثبة في نفسه، ويوقظ ما كمن فيها من عناصر الخير إلى أن يكون من أهل الخير المنتسبين إلى الإسلام، ولا تزال حتى يومنا هذا طوائف امتلأت قلوبهم بالضغن حتى على أبي بكر وعمر، فضلا عمن استعان بهم أبو بكر وعمر من أهل الفضل والإحسان، فصنعوا لهم من الأخبار الكاذبة شخصيات أخرى غير شخصياتهم التي كانوا عليها في نفس الأمر، ليقنعوا أنفسهم بأنهم إنما أبغضوا أناسا يستحقون منهم هذه البغضاء. ولهذا امتلأ التاريخ الإسلامي بالأكاذيب، ولن تتجدد للمسلمين نهضة إلا إذا عرفوا سلفهم على حقيقته واتخذوا منه قدوة لهم ولن يعرفوا سلفهم على حقيقته إلا بتطهير التاريخ الإسلامي مما لصق به.

جعل عمر شورى في اختيار الخليفة بعده

[جعل عمر شورى في اختيار الخليفة بعده] ثم جعلها عمر شورى، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الأمر حتى ينظر ويتحرى فيمن يقدم (¬1) فقدم عثمان، فكان عند الظن به: ما ¬

(¬1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك62 ب8 ـ ج4 ص204 ـ 207) حديث عمرو بن ميمون أحد تلاميذ معاذ وابن مسعود ومن شيوخ الشعبي وسعيد بن جبير وطبقتهما، وقد اشتمل هذا الحديث على خبر مقتل أمير المؤمنين عمر، وكيف جعل عمر الخلافة شورى بين الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وكيف أخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه منها. ثم انتهى إلى تقديم عثمان. وهذا الحديث من أصح ما ثبت في هذا الموضوع وأجوده. واقرأ بعد ذلك ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية عن موقف عمر في جعله الأمر شورى في كتاب منهاج السنة (3: 168 ـ 172) ، وفيه إرشاد دقيق إلى ما كان عليه بنو هاشم وبنو أمية من الاتفاق والمحبة والتعاون في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأن عثمان وعليا كان أحدهما أقرب إلى صاحبه من سائر الأربعة إليهما. ونقل ابن تيمية (في 3: 233ـ 234) قول الإمام أحمد: لم يتفق الناس على بيعة كما اتفقوا على بيعة عثمان: ولاه المسلمون بعد تشاورهم ثلاثة أيام، وهم مؤتلفون متفقون متحابون متوادون معتصمون بحبل الله جميعا. وقد أظهرهم الله، وأظهر بهم ما بعث به نبيه من الهدى ودين الحق، ونصرهم على الكفار ففتح بهم بلاد الشام والعراق وبعض خراسان. . . إلخ.

خالف له عهدا، ولا نكث عقدا، ولا اقتحم مكروها ولا خالف سنة (¬1) . ¬

(¬1) وكيف لا يكون عثمان عند الظن به وقد شهد له بطهارة السيرة وحسن الخاتمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي. قال الحافظ ابن حجر في ترجمة عثمان من (الإصابة) : جاء من أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر عثمان بالجنة، وعده من أهل الجنة، وشهد له بالشهادة. والحديث الذي يتواتر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه ولا يجنح إلى غير مدلوله إلا الذي يرضى لنفسه بأن يقتحم أبواب الجحيم. وروى الترمذي من طريق الحارث بن عبد الرحمن، عن طلحة أحد العشرة المبشرين بالجنة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لكل نبي رفيق، ورفيقي بالجنة عثمان ". وقال الحافظ ابن عبد البر في ترجمته عثمان من كتاب (الاستيعاب) ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سألت ربي عز وجل أن لا يدخل النار أحدا صاهر إلي أو صاهرت إليه ". وشهادة أخرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الإنسان الأفضل يتمنى مثلها أبو بكر وعمر وعلي. فقد روى الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه (ك 44 ب 26 ـ ج 7 ص 116 ـ 117) عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عثمان: " ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟ " وفي صحيح البخاري (ك 62 ب 7 - ج 4 ص 203) عن نافع، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر، ثم عثمان. ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم. وقيل للمهلب بن أبي صفرة: لم قيل لعثمان ذا النورين؟ قال: لأنه لم يعلم أن أحدا أرسل سترا على ابنتي نبي غيره. وروى خيثمة في فضائل الصحابة عن النزال بن سبرة العامري (أحد الذين أخذوا عن أبي بكر وعثمان وعلي، وهو من شيوخ الشعبي والضحاك وطبقتهما) قال: قلنا لعلي حدثنا عن عثمان، فقال: "ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين". وقال ابن مسعود حين بويع عثمان بالخلافة: "بايعنا خيرنا ولم نأل". ووصفه علي بن أبي طالب بعد انقضاء أجله فقال: " كان عثمان أوصلنا للرحم، وكان من الذين آمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب المحسنين ". وروى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال: " لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه ". وعبد الله بن عمر كان شاهد عيان لخلافة عثمان من أولها إلى آخرها، وكان أشد الناس في التزام السنة المحمدية، ومع ذلك فإنه يشهد لعثمان بأن كل ما عتبوا به عليه كان يحتمل أن يكون من عمر ـ وهو أبوه ـ ولو كان ذلك من عمر لما عتب أحد به عليه. وقال مبارك بن فضالة مولى زيد بن الخطاب سمعت عثمان يخطب وهو يقول " يا أيها الناس ما تنقمون علي، وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرا ". وقال الحسن البصري: شهدت منادى عثمان ينادي: يا أيها الناس اغدوا على أعطياتكم، فيغدون ويأخذونها وافية. يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم فيغدون ويأخذونها وافية. حتى ـ والله ـ سمعته أذناي يقول: اغدوا على كسوتكم. فيأخذون الحلل. واغدوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارة، وخير كثير، وذات بين حسن. ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلا يوده وينصره ويألفه. فلو صبر الأنصار على الأثرة لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق ولكنهم لم يصبروا وسلوا السيف مع من سل، فصار عن الكفار مغمدا، وعلى المسلمين مسلولا (روى ذلك عنه الحافظ ابن عبد البر) وقال ابن سيرين ـ صنو الحسن البصري وزميله وهو أيضا كان معاصرا لعثمان ـ: " كثر المال في زمان عثمان حتى بيعت جارية بوزنها، وفرس بمائة ألف درهم، ونخلة بألف درهم ". وسئل عبد الله بن عمر بن الخطاب عن علي وعثمان. فقال للسائل: (قبحك الله! تسألني عن رجلين ـ كلاهما خير مني ـ تريد أن أغض من أحدهما وأرفع من الآخر؟ !) .

سجايا عثمان وصفاته الممتازة

[سجايا عثمان وصفاته الممتازة] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن عمر شهيد، وبأن عثمان شهيد، وبأن له الجنة على بلوى تصيبه (¬1) . ¬

(¬1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 7 ـ ج 4 ص 202) حديث أبي موسى الأشعري قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا (أي بستانا) وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال صلى الله عليه وسلم: " ائذن له وبشره بالجنة " فإذا أبو بكر. ثم جاء آخر يستأذن، فقال: " ائذن له وبشره بالجنة " فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن، فسكت هنيهة ثم قال: " ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه " فإذا عثمان بن عفان. (وانظر صحيح البخاري ك 62 ب 5 و6 ـ ج 4 ص 195 ـ 197 و201 ـ 202) ومثله في كتاب فضل الصحابة من صحيح مسلم (ك 44 ح 28 و29 ـ ج 7 ص 117 ـ 119) من حديث أبي موسى الأشعري أيضا. وروى ابن ماجه في الباب 11 رقم 111 من مقدمة السنن (ج 1 ص 41 بتحقيق الأستاذ فؤاد عبد الباقي) عن محمد بن سيرين من أئمة التابعين، عن كعب بن عجرة البلوي حليف الأنصار وأحد الذين شهدوا عمرة الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت فيه آية الفدية 195 من سورة البقرة، قال كعب بن عجرة: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها، فمر رجل مقنع رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا يومئذ على الهدى " فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا؟ قال: هذا. ومن مسند أحمد (1: 58 الطبعة الأولى ـ رقم 407 الطبعة الثانية) عن أبي سهلة مولى عثمان ـ وهو تابعي ثقة ـ أن عثمان قال يوم الدار حين حصر: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا، فأنا صابر عليه " والحديث عند الترمذي (4: 324) من طريق وكيع. وقال حديث حسن صحيح. وعند ابن ماجه (1: 41، 42 رقم 112، 113) حديثان أحدهما لأبي سهلة مولى عثمان والآخر لعائشة. وأوردهما الحاكم في المستدرك على الصحيحين (1: 99) عن عائشة.

وهو وزوجه رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مهاجر بعد إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، دخل به في باب " أول من. . (¬1) " وهو علم كبير جمعه الناس. ولما صحت إمامته قتل مظلوما (¬2) وليقضي الله أمرا كان مفعولا. ¬

(¬1) للجلال السيوطي وغيره من العلماء قبله وبعده كتب ألفوها في تسمية الأشخاص الذين سبقوا غيرهم إلى شيء من الأعمال المحمودة وغيرها، فيقولون (مثلا) : كان عثمان أول من هاجر في سبيل الله الهجرة الأولى إلى الحبشة. (¬2) روى الإمام أحمد في مسنده (2: 115 الطبعة الأولى ـ ج 8 رقم 5953 الطبعة الثانية) عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل، فقال صلى الله عليه وسلم: " يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما " قال (عبد الله بن عمر) : فنظرت، فإذا هو عثمان بن عفان. قال الشيخ أحمد شاكر: والحديث رواه الترمذي (4: 323) ونقل شارحه عن الحافظ ابن حجر أنه قال إسناده صحيح. وروى الحاكم في المستدرك (3: 102) نحوه من حديث مرة بن كعب وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

ما نصب حربا (¬1) ولا جيش عسكرا (¬2) ولا سعى إلى فتنة (¬3) ولا دعا إلى بيعة (¬4) ولا حاربه ولا نازعه من هو من أضرابه ولا أشكاله (¬5) ولا كان يرجوها لنفسه، ولا خلاف أنه ليس لأحد أن يفعل ذلك في غير ¬

(¬1) أي لقتال أهل القبلة. أما حروبه لإعلاء كلمة الله ونشر دعوة الحق فكانت من أنشط ما عرفه التاريخ الإسلامي. (¬2) أي للدفاع عن نفسه، وكبح جماح البغاة عليه. (¬3) بل كان أشد خلق الله كرها لها وحرصا على تضييق دائرتها، حقنا لدماء المسلمين، ولو أدى ذلك به إلى أن يكون هو ضحية لغيره. (¬4) وإنما أتته منقادة على غير تشوف منه إليها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 164) : إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره. ثم قال في الصفحة التالية: ولا ريب أن الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ـ أي الذين عينهم عمر ـ لا يوجد أفضل منهم، وإن كان في كل منهم ما كرهه فإن غيرهم يكون فيه من المكروه أعظم، ولهذا لم يتول بعد عثمان خير منه ولا أحسن سيرة. (¬5) أضراب أمير المؤمنين عثمان وأشكاله هم إخوانه الذين أشركهم أمير المؤمنين عمر في الشورى، أما الذين استطاع عبد الله بن سبأ وتلاميذه أن يوقعوهم في حبائل الفتنة فبينهم وبين مستوى أهل الشورى أبعد مما بين الحضيض والقمة، بل أبعد مما بين الشر والخير. وإن الشر الذي أقحموه على تاريخ الإسلام بحماقاتهم وقصر أنظارهم لو لم يكن من نتائجه إلا وقوف حركة الجهاد الإسلامي فيما وراء حدود الإسلام سنين طويلة لكفى به إثما وجناية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 186) : إن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان. لا قتل، ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن. وكان علي رضي الله عنه يقول " اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل ".

وصف إجمالي لدعاة الفتنة

عثمان، فكيف بعثمان رضي الله عنه! . [وصف إجمالي لدعاة الفتنة] وقد سموا من قام عليه، فوجدناهم أهل أغراض سوء حيل بينهم وبينها (¬1) فوعظوا وزجروا (¬2) وأقاموا عند عبد الرحمن بن خالد ¬

(¬1) الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب: فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين، فأكبروا الهنات، وارتكبوا في إنكارها الموبقات. وفيهم الذين ينزعون إلى عصبية يمنية على شيوخ الصحابة من قريش، ولم تكن لهم في الإسلام سابقة. فحسدوا أهل السابقة من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء جهادهم وفتوحهم، فأرادوا أن يكون لهم مثلها بلا سابقة ولا جهاد. وفيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم، فاضطغنوا في قلوبهم الإحنة والغل لأجلها. وفيهم الحمقى الذين استغل السبئيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى الفتنة والفساد والعقائد الضالة. وفيهم من أثقل كاهله خير عثمان ومعروفه نحوه، فكفر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة والتقدم بسبب نشأته في أحضانه. وفيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان، ولو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين. وفيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغترارا بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة، فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانه. وبالإجمال، فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثير فيه، وأرادوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم. ولعلي إذا اتسع لي الوقت أتفرغ لدراسة نفسيات هؤلاء الخوارج على عثمان، وتنظيم المعلومات الصحيحة التي بقيت لنا عنهم، ليكون من ذلك درس عبرة لطلاب التاريخ الإسلامي. (¬2) وقد وعظهم وزجرهم أهل العافية والحكمة والرضا من أعيان أمصارهم وعلمائها في الكوفة والبصرة والفسطاط، ثم وعظهم وزجرهم معاوية في مجالس له معهم عندما سيرهم عثمان إلى الشام كما سيجيء عند كلام المؤلف على سطوهم على المدينة - بحجة الحج - فحولوا حجهم الكاذب إلى البغي على خليفتهم وسفك دمه الحرام في الشهر الحرام بجوار قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام.

ابن الوليد (¬1) وتوعدهم حتى تابوا (¬2) فأرسل بهم إلى عثمان فتابوا (¬3) . وخيرهم فاختاروا التفرق في البلاد، فأرسلهم: فلما سار كل إلى ما اختار أنشأوا الفتنة، وألبوا الجماعة، وجاءوا إليه (¬4) بجملتهم، فاطلع عليهم من حائط داره ووعظهم، وذكرهم، وورعهم عن دمه (¬5) وخرج طلحة يبكي ويورع الناس، وأرسل علي ولديه (¬6) وقال الناس لهم (¬7) إنكم أرسلتم إلينا " أقبلوا إلى من غير سنة الله (¬8) "، فلما جئنا قعد هذا في بيته - يعنون عليا - ¬

(¬1) وكان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد واليا لمعاوية على حمص وما يليها من شمال الشام إلى أطراف جزيرة ابن عمر، وسيأتي الحديث عن أحوالهم عندما قبض عليهم هذا الشبل المخزومي بمثل مخالب أبيه. (¬2) بل تظاهروا بأنهم تابوا، " وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ". (¬3) خيرهم عبد الرحمن بن خالد في أن يذهبوا إلى عثمان، فذهب كبيرهم الأشتر النخعي، وله قصة نذكرها في موضعها من هذا الكتاب. (¬4) أي إلى أمير المؤمنين عثمان. (¬5) ورعهم عن الشيء: كفهم ومنعهم بالحجة والحق المنير. (¬6) ليكونا في حراسة أمير المؤمنين عثمان، ويدافعا عنه. (¬7) أي قال البغاة يخاطبون عليا وطلحة والزبير. (¬8) زعم البغاة أنهم تلقوا من علي وطلحة والزبير كتبا يدعونهم بها للثورة على عثمان بدعوى أنه غير سنة الله. وسيأتي إنكار علي وطلحة والزبير أنهم كتبوا بذلك، والظاهر أن الفريقين صادقان، أن منظمي الفتنة من السبئيين زوروا الرسائل التي ذكرها البغاة الثائرون.

وخرجت أنت (¬1) تفيض عينيك. والله لا برحنا حتى نريق دمه. وهذا قهر عظيم، وافتئات على الصحابة، وكذب في وجوههم وبهت لهم، ولو أراد عثمان لكان مستنصرا بالصحابة، ولنصروه في لحظة (¬2) وإنما جاء القوم مستجيرين متظلمين (¬3) . فوعظهم، فاستشاطوا. فأراد الصحابة ألَّهُمْ (¬4) فأوعز إليهم عثمان ألا يقاتل أحد بسببه أبدا، فاستسلم، وأسلموه برضاه. وهي مسألة من الفقه كبيرة: هل يجوز للرجل أن يستسلم، أم يجب عليه أن يدافع عن نفسه؟ وإذا استسلم وحرَّم على أحد أن يدافع عنه بالقتل، هل يجوز لغيره أن يدافع عنه ولا يلتفت إلى رضاه؟ اختلف العلماء فيها. فلم يأت عثمان منكرا لا في أول الأمر، ولا في آخره، ولا جاء الصحابة بمنكر. وكل ما سمعت من خبر باطل إياكَ أن تلتفت إليه (¬5) . ¬

(¬1) الخطاب لطلحة بن عبيد الله. (¬2) ولقد راودوه في ذلك مرارا، وعرض عليه معاوية أن ينقل دار الخلافة إلى الشام، أو يمده بجند من الشام لا يعرف له التاريخ إلا التقدم والظفر. (¬3) أي أن البغاة ظهروا بمظهر المتظلم وهو يدعي أمورا يشكوها، فكان عثمان يرى لهم حقا عليه أن يبين لهم وللناس حجته فيما ادعوا، ووجهة نظره في الأمور التي زعموا أنهم جاءوا يتظلمون منها. (¬4) ألَّهُ: طعنه بالألَّة، وهي الحربة العريضة النصل. (¬5) ومعيار الأخبار في تاريخ كل أمة الوثوق من مصادرها، والنظر في ملاءمتها لسجايا الأشخاص المنسوبة إليهم. وأخبار التاريخ الإسلامي نقلت عن شهود عيان ذكروها لمن جاءوا بعدهم. وهؤلاء رووها لمن بعدهم وقد اندس في هؤلاء الرواة أناس من أصحاب الأغراض زوروا أخبارا على لسان آخرين وروجوها في الكتب، إما تقربا لبعض أهل الدنيا، أو تعصبا لنزعة يحسبونها من الدين. ومن مزايا التاريخ الإسلامي - تبعا لما جرى عليه علماء الحديث - أنه قد تخصص فريق من العلماء في نقض الرواية والرواة، وتمييز الصادقين منهم عن الكذبة، حتى صار ذلك علما محترما له قواعد، وألفت فيه الكتب، ونظمت للرواة معاجم حافلة بالتراجم، فيها التنبيه على مبلغ كل راو من الصدق والتثبت والأمانة في النقل، وإذا كان لبعضهم نزعات حزبية أو مذهبية قد يجنح معها على الهوى ذكروا ذلك في ترجمته ليكون دارس أخبارهم ملما بنواحي القوة والضعف من هذه الأخبار. والذين يتهجمون على الكتابة في تاريخ الإسلام وتصنيف الكتب فيه قبل أن يستكملوا العدة لذلك - ولا سيما في نقد الرواة ومعرفة ما حققه العلماء في عدالتهم أو تجريحهم - يقعون في أخطاء كان في إمكانهم أن لا يقعوا فيها لو أنهم استكملوا وسائل العلم بهذه النواحي.

قاصمة

[قاصمة] [المظالم والمناكير] قاصمة قالوا متعدين، متعلقين برواية كذابين: جاء عثمان في ولايته بمظالم ومناكير، منها: 1 - ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه. 2 - ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه. 3 - وابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف. 4 - وحمى الحمى. 5 - وأجلى أبا ذر إلى الربذة.

6 - وأخرج من الشام أبا الدرداء. 7 - ورد الحكم بعد أن نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 8 - وأبطل سنة القصر في الصلوات في السفر. 9 - 12 - وولى معاوية، [وعبد الله بن عامر بن كريز] (¬1) ومروان. وولى الوليد بن عقبة وهو فاسق ليس من أهل الولاية. 13 - وأعطى مروان خمس أفريقية. 14 - وكان عمر يضرب بالدرة وضرب هو بالعصا (¬2) . 15 - وعلا على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انحط عنها أبو بكر وعمر. 16 - ولم يحضر بدرا، وانهزم يوم أحد، وغاب عن بيعة الرضوان. 17 - ولم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان (الذي أعطى السكين إلى أبي لؤلؤة، وحرضه على عمر حتى قتله) . 18 - وكتب مع عبده على جمله كتابا إلى ابن أبي سرح في قتل من ذكر فيه. ¬

(¬1) سقط اسم ابن كريز من الأصل سهوا من الناسخ أو من الطابع في مطبوعة الجزائر، مع أنه ذكر في الدفاع الآتي بعد. ومطبوعة الجزائر طبعت على أصل سقيم بخط ناسخ غير متمكن. وقد وقع تقديم وتأخير في ترتيب التهم وأجوبتها، ويلوح لنا أن مجلد الأصل المخطوط الذي طبعت عليهم مطبوعة الجزائر وضع بعض الورق في غير مواضعه عند التجليد، فأعدنا ترتيب التهم وأجوبتها على نسق، ولم نزد عن الأصل كلمة ولم ننقص منه كلمة، وبذلك تلافينا الاضطراب الذي كان باديا للقارئ في المطبوعة الجزائرية. (¬2) الدرة: عصا صغيرة يحملها السلطان يزع بها.

عاصمة

[عاصمة] [موقف عثمان من عبد الله بن مسعود وعمار] عاصمة هذا كله باطل سندا ومتنا، أما قولهم " جاء عثمان بمظالم ومناكير " فباطل (¬1) . 1 - 2 - وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور (¬2) وضربه ¬

(¬1) كما ترى من الأدلة التي سيوردها المؤلف في نقض هذه التهم واحدة بعد واحدة حتى يأتي على آخرها. (¬2) تقدم في هامش ص 54 قول عبد الله بن مسعود لما بويع عثمان: (بايعنا خيرنا ولم نأل) ويروى (ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل) وعند ولاية عثمان كان ابن مسعود واليا لعمر على أموال الكوفة، وسعد بن أبي وقاص واليا على صلاتها وحربها، فاختلف سعد وابن مسعود على قرض استقرضه سعد - كما سيأتي - فعزل عثمان سعدا وأبقى ابن مسعود. وإلى هنا لا يوجد بين ابن مسعود وخليفته إلا الصفو. فلما عزم عثمان على تعميم مصحف واحد في العالم الإسلامي يجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه هو المصحف الكامل الموافق لآخر عرضة عرض بها كتاب الله - عز وجل - على رسوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، كان ابن مسعود يود لو أن كتابة المصحف نيطت به، وكان يود أيضا لو يبقى مصحفه الذي كان يكتبه لنفسه فيما مضى. فجاء عمل عثمان على خلاف ما كان يوده ابن مسعود في الحالتين: أما في اختيار عثمان زيد بن ثابت لكتابة المصحف الموحد فلأن أبا بكر وعمر اختاراه قبل ذلك لهذا العمل في خلافة أبي بكر، بل إن أبا بكر وعمر اختارا زيد بن ثابت في البداية لأنه هو الذي حفظ العرضة الأخيرة لكتاب الله على الرسول صلوات الله عليه قبيل وفاته، فكان عثمان على حق في هذا، وهو يعلم - كما يعلم سائر الصحابة - مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه. ثم إن عثمان كان على حق أيضا في غسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف ابن مسعود، لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان في استطاعة البشر هو من أعظم أعمال عثمان بإجماع الصحابة، وكان جمهور الصحابة في كل ذلك مع عثمان على ابن مسعود (انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 3: 191 - 192) . وعلى كل حال فإن عثمان لم يضرب ابن مسعود ولم يمنعه عطاءه، وبقي يعرف له قدره كما بقي ابن مسعود على طاعته لإمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة.

لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا (¬1) . ¬

(¬1) روى الطبري (5: 99) عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب. قلت: وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده، وكم فعل عمر مثل ذلك بأمثال عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين. ولما نظم السبئيون حركة الإشاعات، وصاروا يرسلون الكتب من كل مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة فأشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالا ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال، تناسى عثمان ما كان من عمار، وأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها. فأبطأ عمار في مصر، والتف به السبئيون ليستميلوه إليهم، فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر، وجيء بعمار إلى المدينة مكرما. وعاتبه لما قدم عليه فقال له - على ما رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (7: 429) -: " يا أبا اليقظان قذفت ابن أبي لهب أن قذفك. . . وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه. اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة، اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي. اخرج عني يا عمار " فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه بذلك أظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 192 - 193) : وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، هو أفضل من ابن مسعود، وعمار، وأبي ذر، ومن غيرهم من وجوه كثيرة كما ثبت ذلك بالدلائل، فليس جعل كلام المفضول قادحا في الفاضل بأولى من العكس. وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان، وقول الحسن فيه (أي في عمار) . نقل أن عمارا قال: لقد كفر عثمان كفرة صلعاء. فأنكر الحسن بن علي ذلك عليه، وكذلك علي وقال له: يا عمار، أتكفر برب آمن به عثمان؟ قال ابن تيمية: وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي لله، ويكون مخطئا في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته. كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: إنك منافق تجادل عن المنافقين. وكما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال صلى الله عليه وسلم: " إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ". فعمر أفضل من عمار، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة، وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار، ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال؟ مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمار قال ذلك. . . ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة، فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن مسعود أو عمارا فهذا لا يقدح في أحد منهم. فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين. وإن ولي الله قد يصدر عنه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية، فكيف بالتعزير. وقد ضرب عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه وقال: " هذا ذلة للتابع وفتنة للمتبوع " فإن كان عثمان أدب هؤلاء. فإما أن يكون عثمان مصيبا في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك، ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه وكفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك. وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقا. فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة، فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة. . . . إلخ.

وقد اعتذر عن ذلك العلماءُ بوجوه لا ينبغي أن يُشتَغل بها لأنها مبنية

جمعه للقرآن

على باطل (¬1) ولا يُبنى حق على باطل، ولا نُذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له. [جمعه للقرآن] 3 - وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصْلتُه الكبرى، وإن كان وَجدها كاملة، لكنه أظهرها وردَّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف فيها. وكان نفوذُ وعد الله بحفظ القرآن على يديه حسبما بيناه في كتب القرآن وغيرها (¬2) . روى الأئمة بأجمعهم (¬3) أن زيد بن ثابت قال: أرسل إليّ أبو بكر ¬

(¬1) أي على ادعاء الكاذبين أعداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمير المؤمنين عثمان ضرب عمارا حتى فتق أمعاءه، وضرب ابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه! . (¬2) أي في مؤلفات ابن العربي المتعلقة بعلوم القرآن، وقد ذكرنا في ترجمته (ص27 - 28) أن منها (أنوار الفجر) في ثمانين أو تسعين مجلدا، و (قانون التأويل) من مؤلفاته الكبرى، و (أحكام القرآن) المطبوع في مصر، و (كتاب المشكلين) و (الناسخ والمنسوخ) . (¬3) وفي مقدمتهم الإمام أحمد في مسنده (1: 13 الطبعة الأولى - رقم 76 الطبعة الثانية. و 5: 188 - 189 الطبعة الأولى) . والإمام البخاري في صحيحه (كتاب التفسير ك 65 السورة 9 ب 20 ج 5 ص 210 - 211. وكتاب فضائل القرآن ك 66 ب3 و 4 ج 6 ص 88 - 99، وكتاب الأحكام ك 93 ب 37 ج8 ص118 - 119. وكتاب التوحيد ك 97 ب22 ج8 ص176 - 177) .

مقتل أهل اليمامة (¬1) فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: " إن عمر أتانا فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتلُ بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تجمع القرآن. قلتُ لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله ¬

(¬1) وذلك لما ارتدت بنو حنيفة برئاسة مسيلمة الكذاب وبتحريض عدو الله الرَّجال بن عنفوة بن نهشل الحنفي. وكانت قيادة المسلمين لسيف الله خالد بن الوليد، واستشهد في هذه الملحمة زيد بن الخطاب أخو عمر. وكان حفظة القرآن من الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم. وتحنط خطيب الأنصار وحامل لوائهم ثابت بن قيس ولبس كفنه وحفر لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه ولم يزل يقاتل وهو ثابت بالراية في موضعه حتى استشهد. وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن نؤتى من قبلك؟ فأجاب: بئس حامل القرآن أنا إذن. وقاتل حتى استشهد. وقال أبو حذيفة: زينوا القرآن بالفعال، وما زال يقاتل حتى أصيب، وممن استشهد يومئذ حزن بن أبي وهب المخزومي جد سعيد بن المسيب، وكان شعار الصحابة يومئذ: وامحمداه! وصبروا يومئذ صبرا لم يعهد مثله حتى ألجأوا المرتدين إلى حديقة الموت فاعتصم فيها مسيلمة ورجاله. فقال البراء بن مالك: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في داخل الحديقة أفتح لكم بابها. فاحتملوه فوق الجحف ورفعوه بالرماح وألقوه في الحديقة من فوق سورها، فما زال يقاتل المرتدين دون بابها حتى فتحه ودخل المسلمون وكان النصر، وممن اقتحم الحديقة أبو دجانة من مجاهدي بدر حتى وصل إلى مسيلمة وعلاه بالسيف فقتله، وكسرت رجله - رضي الله عنه - في تلك الوقعة ثم نال الشهادة. وفي البداية والنهاية (6: 334 - 340) أسماء كثيرين من شهداء هذا اليوم العظيم في الإسلام، ومنهم حفظة كتاب الله. والشيعة يذمون موقف الصحابة من مسيلمة وقومه ويدافعون عن المرتدين. انظر (المنتقى من منهاج الاعتدال) ص270 - 272.

رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيتُ في ذلك الذي رأى عمر ". قال زيد: قال أبو بكر: " إنك رجل شاب عاقل لا نتّهِمُك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فتتبَّع القرآن فاجمعه ". فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمروني به من جمع القرآن. قلتُ: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: " هذا والله خير ". فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعتُ القرآنَ أجمعهُ من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال (¬1) حتى وجدتُ آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة. فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر. حتى قدم حُذيفة بن اليمان على عثمان (¬2) وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذْرِبَيجان مع أهل العراق، فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى: فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ¬

(¬1) العسب (جمع عسيب) أي جريدة النخل، وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص. واللخاف (جمع لخفة) وهي حجارة بيض رقاق. كانوا يكتبون عليها إذا تعذر الورق. (¬2) وحديثه عن ذلك في صحيح البخاري (ك 66 ب 3 - ج6 ص99) عن ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك.

ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف (¬1) . ¬

(¬1) العناية التي بذلها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر، وأتمها أخوهما وصنوهما ذو النورين عثمان في جمع القرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، كان لهم بها أعظم المنة على المسلمين، وبها حقق الله وعده في قوله سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. وقد تولى الخلافة بعد هؤلاء الشيوخ الثلاثة أمير المؤمنين علي فأمضى عملهم وأقر مصحف عثمان برسومه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته، وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به أبو بكر وعمر وعثمان هو أعظم حسناتهم، بل نقل بعض علماء الشيعة هذا الإجماع على لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. جاء في كتاب تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني (ص46) من شيعة عصرنا أن علي بن موسى المعروف بابن طاوس (589 - 664) وهو من علمائهم نقل في كتابه (سعد السعود) عن الشهرستاني في مقدمة تفسيره عن سويد بن غفلة [هو أبو أمية الجعفي الكوفي. قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفنه صلى الله عليه وسلم وشهد اليرموك. يروي عن أبي بكر وعمر وعلي وعثمان. ويروي عنه النخعي والشعبي وعبدة بن أبي لبابة. ثقة. مات سنة 80 وقيل 81 عن مائة وثلاثين سنة.] قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: " أيها الناس، الله، الله، إياكم والغلو في أمر عثمان وقولكم حرّاق المصاحف، فوالله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جمعنا وقال: ما تقولون في هذه القراءة التي اختلف الناس فيها. يلقى الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءتك. وهذا يجر إلى الكفر؟ فقلنا: ما الرأي؟ قال: أريد أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. فقلنا: نِعم ما رأيت ". ومما لا ريب فيه أن البغاة أنفسهم كانوا في خلافة علي - رضي الله عنه - يقرءون في مصاحف عثمان التي أجمع عليها الصحابة وعلي فيهم. ولكن نجم لهم أذناب في العصور التالية فضحوا أنفسهم بسخفهم وكفرهم، كشيطان الطاق محمد بن جعفر الرافضي فيما رواه الإمام ابن حزم في (الفِصَل) 4: 181 عن الجاحظ قال: أخبرني أبو إسحاق إبراهيم النظام وبشر بن خالد أنهما قالا لمحمد بن جعفر الرافضي المعروف بشيطان الطاق: ويحك، أما استحييت من الله أن تقول في كتابك في الإمامة: إن الله تعالى لم يقل قط في القرآن (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) ؟ قالا: فضحك والله شيطان الطاق ضحكا طويلا حتى كأنا نحن الذين أذنبنا. وشيطان الطاق هذا أكبر دعاة الشيعة في زمن الإمامين زيد وابن أخيه جعفر الصادق، وهو الذي ابتدع أكذوبة أن الإمامة معهود بها إلى أشخاص بأعيانهم، ولم يكن أحد يقول بذلك قبل شيطان الطاق هذا. وأنكرها عليه الإمام زيد في مجلس جعفر. ودعوى الرافضة بتبديل القرآن، مع تصريح علي بإجماع الصحابة على ما قام به عثمان، صارت مادة دسمة لدعاة النصارى يحتجون بها، فقال لهم الإمام ابن حزم في الفصل (2: 78) : " إن الروافض ليسوا من المسلمين. . . وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ". قلت: وآخر من افتضح منهم بهذا الأمر وفضح به الشيعة جميعا حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي بكتابه الذي اقترفه في المشهد المنسوب لأمير المؤمنين علي في النجف سنة 1292 وطبع في إيران سنة 1298 وعندي نسخة منه. وإن من طبيعة التحزب والتعصب والتشيع أن يذهب بعقول أصحابه وأخلاقهم ثم يذهب بحيائهم ودينهم، كما برهن على ذلك علماء علم النفس الاجتماعي وفي مقدمتهم الدكتور غوستاف لبون.

وقال عثمان للرهط القُرشيين الثلاثة: " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم " ففعلوا. حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمانُ الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يُحرق.

قال ابن شهاب (¬1) " وأخبرني خارجةُ بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: " فقدتُ آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنتُ أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها من المصحف ". وأما ما روي أنه حرّقها أو خرّقها - بالحاء المهملة أو الخاء المعجمة، وكلاهما جائز - إذا كان في بقائها فساد، أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما نسخ منه، أو على غير نظمه، فقد سلّم في ذلك الصحابة كلهم: إلا أنه روي عن ابن مسعود أنه خطب بالكوفة فقال: " أما بعد، فإن الله قال {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] وإني غالٌّ مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل ". وأراد ابن مسعود أن يؤخذ بمصحفه، وأن يثبت ما يعلم فيه. فلما لم يُفعل ذلك له قال ما قال، فأكرهه عثمان على رفع مصحفه، ومحا رسومه فلم تثبت له قراءة أبدا، ونصر الله عثمان والحق بمحوها من الأرض (¬2) . ¬

(¬1) فيما رواه عن الإمام البخاري في صحيحه (ك 56 ب12 ج3 ص205 - 206، وك 64 ب 17 ج 5 ص 31، وك 65 السورة 9 ب 20 والسورة 33 ب3، وك 66 ب3 و4، وك 93 ب27، وك 97 ب22) . (¬2) عبد الله بن مسعود من كبار علماء الصحابة ومن أجودهم قراءة لكتاب الله، وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة على حسن تلاوة ابن مسعود للقرآن، فتسارع أبو بكر وعمر ليوصلا إليه البشرى بهذا الثناء النبوي: (انظر مسند أحمد 1: 25 - 26 الطبعة الأولى - رقم 175 الطبعة الثانية) . إلا أن ابن مسعود كان يكتب ما يوحى من القرآن في مصحفه كلما بلغه نزول آيات منه، فهو يختلف في ترتيب هذه الآيات عما امتازت به مصاحف عثمان من الترتيب بحسب العرض الأخير على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر ما أدى إليه اجتهاد الصحابة المؤيد بإجماعهم. ويحتمل أن يكون ابن مسعود فاته في مصحفه بعض ما استقصاه زيد بن ثابت وزملاؤه من الآيات التي كانت عند آخرين من قراء الصحابة. زد على ذلك أن ابن مسعود كانت تغلب عليه لهجة قومه من هذيل، والنبي صلى الله عليه وسلم رخص لمثل ابن مسعود أن يقرءوا بلهجاتهم، ولكن ليس لابن مسعود أن يحمل الأمة في زمنه والأزمان بعده على لهجته الخاصة، فكان من الخير توحيد الأمة على قراءة كتاب ربها باللهجة المضرية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ما أوخذ به عثمان من حماية الحمى لإبل الصدقة

[ما أوخذ به عثمان من حماية الحمى لإبل الصدقة] 4 - وأما الحِمى، فكان قديما (¬1) فيقال إن عثمان زاد فيه لما ¬

(¬1) كان الشريف في الجاهلية إذا نزل أرضا في حيه استعوى كلبا. فحمى لخيله وإبله وسوائمه مدى عواء الكلب لا يشركه فيه غيره. فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واختص الحمى بإبل الزكاة المرصدة للجهاد والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا حمى إلا لله ورسوله " رواه البخاري من حديث الصعب بن جثامة في كتاب المساقاة (ك 42 ب 11) وكتاب الجهاد (ك56 ب146) من صحيحه. ورواه الإمام أحمد في مسنده (4: 71 و73 الطبعة الأولى) من حديث الصعب بن جثامة أيضا. وقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا يسمى (النقيع) وهو " نقيع الخضمات " كما في مسند الإمام أحمد (2: 91 و155 و157 الطبعة الأولى - رقم 5655 و6438 و6464 الطبعة الثانية) من حديث أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع للخيل قال حماد بن خالد راوي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري: يا أبا عبد الرحمن خيله؟ قال: خيل المسلمين (أي المرصودة للجهاد، أو ما يملكه بيت المال) . والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخا منها ومساحته ميل في ثمانية أميال كما في موطأ مالك برواية ابن وهب. ومعلوم أن الحال استمر في خلافة أبي بكر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن أبا بكر لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأن حالة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل. وفي زمن عمر اتسع الحمى فشمل (سرف) و (الربذة) ، وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنيا، وفي كتاب الجهاد من صحيح البخاري (ك56 ب180) من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية أمير المؤمنين عمر لعامله هذا على الحمى بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما. وكما اتسع عمر في الحمى عما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه، اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع الدولة وازدياد الفتوح. فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى على مثله أبو بكر وعمر، يجوز مثله لبيت المال في زمن عثمان، ويكون الاعتراض عليه اعتراضا على أمر داخل في التشريع الإسلامي. ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحدا. . . وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيرا وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه. وسأل من يعرف ذلك من الصحابة: أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.

أبو ذر ومسيره إلى الربذة

زادت الرعية. وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة. [أبو ذر ومسيره إلى الربذة] 5 - وأما نفيُه أبا ذرّ إلى الرَّبذة فلم يفعل (¬1) كان أبو ذر زاهدا، وكان يقرّع عمال عثمان، ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ¬

(¬1) وإنما اختار أبو ذر أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان على ذلك كما صح في حديث عبد الله بن الصامت عند ابن حبان (1549: موارد الظمآن) ، وصح في ص76، فأكرمه عثمان وجهزه بما فيه راحته.

، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم، وهو غير لازم. قال ابن عمر وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز (¬1) فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام (¬2) فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: " لو اعتزلتَ ". معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطا وللعزلة مثلها (¬3) ومن كان على طريقة أبي ذرّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلِّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدا فاضلا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال ¬

(¬1) انظر البيان الفقهي والتفصيل الشرعي لهذه المسألة في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (3: 198 - 199) ومقالتنا في مجلة الأزهر (شوال 1374) . (¬2) نقل الطبري (5: 66) وأكثر المصادر الإسلامية أنه لما ورد ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب إلى معاوية يقول: " المال مال الله، ألا إن كل شيء لله " كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين " مال الله "؟ قال معاوية: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق والأمر أمره؟ قال أبو ذر: فلا تقله. قال معاوية: فإني لا أقول أنه ليس لله، ولكن سأقول " مال المسلمين ": وأتى ابن السوداء (عبد الله بن سبأ) أبا الدرداء، فقال له (أبو الدرداء) : من أنت أظنك والله يهوديا. فأتى (ابن سبأ) عبادة بن الصامت، فتعلق به (ابن الصامت) فأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر. (¬3) وقد أحسن الكلام على ذلك أبو سليمان الخطابي في كتاب (العزلة) .

أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا (¬1) فسبحان مرتب المنازل. ومن العجب أن يُؤخد عليه في أمر فعله عمر، فقد رُوي أن عمر ¬

(¬1) الذي تحصل عندي من تتبع نصوص الشريعة في أمر المال، ومراقبتي لتطبيق هذه النصوص في سيرة السلف وعملهم بها، أن المسلم له في نفسه وذويه من المال الذي يملكه ما يكفيه ويكفيهم بالمعروف كأمثاله وأمثالهم من أهل العفة والقناعة والدين، وما زاد عن ذلك فعليه أولا أن يؤدي زكاته الشرعية مباشرة بحسب اجتهاده إن لم يكن أداها للحكومة الإسلامية العاملة بأحكام الشرع وبعد أداء زكاته يكون صاحب المال في امتحان من الله كيف يحسن التصرف فيه بما يرضي الله ويزيد المسلمين قوة وسعادة وعزا، فإن كان تاجرا فمن طريق التجارة أو مزارعا فمن طريق الزراعة، أو صاحب مصنع فمن طريق الصناعة. والإسلام في دور قيامه استفاد من ثروة أغنياء الصحابة عونا ويسرا وقوة. وتجارة التاجر المسلم إذا أغنت المسلمين عن متاجر أعدائهم تعتبر قوة لهم بقدر ما يصدق صاحبها في هذه النية، وكذلك مصنع الصانع المسلم، وزراعة الزارع المسلم. والنية في هذه الأمور أمرها عظيم، وميزانها العمل عندما تمس الحاجة إليه. وبالجملة فإن للمسلم أن يكون غنيا بلا تحديد. بشرط أن يكون ذلك من حله، وأن يكتفي منه بما يكفيه بالمعروف، محاولا دائما أن يحرر نفسه من العبودية والانقياد للكماليات فضلا عن توافه الحضارة وسفاسفها. وبعد أن يؤدي زكاة ما يملك يعتبر ما زاد عن حاجته كالأمانة لله تحت يده. فيتصرف فيها بما يزيد المسلمين ثروة وقوة ويسرا وعزا وسعادة، أما طريقة أبي ذر في أن لا يبيت المسلم وعنده مال فليست الآن من مصلحة المسلمين، وطريقة أغنياء المسلمين الآن - في أن يعيشوا لأنفسهم ومتعهم غير مبالين بعزة الإسلام وقوة دولته وحاجة أهله - فليست من الإسلام، والإسلام لا يعرف الذين لا يعرفونه. انظر مقالتنا (المال في نظام الإسلام) في أول جزء شوال 1374 من مجلة الأزهر.

بن الخطاب - رضي الله عنه - سجن ابن مسعود في نفر من الصحابة سنة بالمدينة حتى استُشهد، فأطلقهم عثمان، وكان سجنهم لأن القوم أكثروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن يقوله في زمان عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي من العامة أن تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان - كما قدمنا - أن يَقدم المدينة، فلما قدم اجتمع إليه الناس، فقال لعثمان: أريد الربذة. فقال له: افعل. فاعتزل. ولم يكن يصلح له إلا ذلك لطريقته (¬2) . ¬

(¬1) في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (2: 139) خبر مرسل رواه شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه (إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف) قال: قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذر " ما هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قال: وأحسبه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات. وقد نبه ابن حزم على أن هذا الخبر مرسل ولا يجوز الاحتجاج به، وعلق عليه الشيخ أحمد شاكر بأن البيهقي وافق ابن حزم على أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (المتوفى سة 66 أو 65 عن 75 سنة) لم يسمع من عمر. ولست أدري هل اعتمد ابن العربي في هذه الفقرة على هذا الخبر المرسل أم على خبر آخر لم نطلع عليه. وليس في الخبر - على ضعفه - ذكر السجن. (¬2) وقد صح من حديث عبد الله بن الصامت عند ابن حبان (برقم: 1549 موارد الظمآن) أن أبا ذر هو الذي استأذن عند عثمان أن يقيم في الربذة. وذكر القاضي ولي الدين بن خلدون في العبر (بقية 2: 139) أن أبا ذر استأذن عثمان في الخروج من المدينة وقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعا " فأذن له، ونزل الربذة وبنى بها مسجدا، وأقطعه عثمان صرمة من الإبل، وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقا. وكان يتعاهد المدينة. وبين المدينة والربذة ثلاثة أميال، قال ياقوت: وكانت من أحسن منزل في طريق مكة.

عثمان وأبو الدرداء

[عثمان وأبو الدرداء] 6 - ووقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهدا فاضلا قاضيا لهم (¬1) فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزلوه (¬2) فخرج إلى المدينة. وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سببا فهو كله باطل. [رد الحكم] 7 - وأما ردّ الحكم فلم يصحّ (¬3) . وقال علماؤنا في جوابه: قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال [أي عثمان] لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده، وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه، ولا لينقض حكمه (¬4) . ¬

(¬1) أي في دمشق. (¬2) بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة عمر، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (8: 131) عن محمد بن سعد قال: حدثنا عارم، حدثنا حماد بن يزيد، عن معمر، عن الزهري " أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم إنه بعُد عن ذلك ". وقد يظن من لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ. فللبيئة من التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة. وهذا من معاني قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) الرعد 11. (¬3) أي لم يصح زعم البغاة على عثمان أن عثمان خالف بذلك ما يقتضيه الشرع. (¬4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 196) : " وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه (أي في نفي النبي صلى الله عليه وسلم الحكم) وقالوا: " ذهب باختياره. وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها " ثم قال: " لم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة، فإن كان طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة. وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه كما تقدم وقالوا: هو ذهب باختياره. . . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما. . . وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم، وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك. ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان. والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه. فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته. . . إلخ " وانظر أيضا 3: 235 - 236 من منهاج السنة. ونقل الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب (الإمامة والمفاضلة) المدرج في الجزء الرابع من كتابه " الفِصَل " ص 154 قول من احتج لعثمان على من أنكروا ذلك عليه: " ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حدا واجبا، ولا شريعة على التأبيد، وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي، والتوبة مبسوطة، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام، وصارت الأرض كلها مباحة ". ونقل مجتهد الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير اليمني (المتوفى سنة 840) في كتابه الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (1: 141 - 142) قول الحاكم المحسن بن كرامة المعتزلي المتشيع في كتابه سرح العيون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك لعثمان. قال ابن الوزير: إن المعتزلة والشيعة من الزيدية يلزمهم قبول هذا الحديث وترك الاعتراض على عثمان بذلك، لأن راوي الحديث عندهم من المشاهير بالثقة والعلم وصحة العقيدة. ثم بسط ابن الوزير الكلام على هذا الموضوع بحجج واستدلالات - استغرقت ثلاث صفحات - دفاعا عن أمير المؤمنين عثمان في رده الحكم. وهذه الحجج من أئمة الزيدية ومجتهديهم - بعد روايته ذلك الحديث عن الإمام المعتزلي المتشيع - لها دلالتها الخاصة، مع الذي سمعته من إمامي أهل السنة شيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي ابن العربي، ومن إمام أهل الظاهر أبي محمد بن حزم.

ترك القصر

[ترك القصر] 8 - وأما ترك القصر فاجتهاد، إذ سمع أن الناس افتتنوا بالقصر،

وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السُّنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها خوف الذريعة (¬1) . مع أن جماعة من العلماء قالوا: إن المسافر ¬

(¬1) كان ذلك في منى في موسم الحج سنة 29. وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان، وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين: ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف: وقد اتخذت بمكة أهلا (أي أنه صار في حكم المقيم، لا المسافر) ، فرأيت أن أصلي أربعا لخوف ما أخاف على الناس. ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عند عثمان فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك فقال ابن مسعود: " الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي أربعا ". فقال عبد الرحمن بن عوف: " قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين. وأما الآن فسوف يكون الذي تقول " يعني: نصلي معه أربعا (الطبري 5: 56 - 57) .

معاوية ومكانته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان

مخيّر بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة (¬1) . [معاوية ومكانته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان] 9 - وأما معاوية فعمر ولاه، وجمع له الشامات كلها، وأقرّه عثمان بل ¬

(¬1) نقل محمد بن يحيى الأشعري المالكي المعروف بابن بكر (674 - 741) في كتابه (التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان) وهو من مخطوطات دار الكتب المصرية (برقم 23 تاريخ) أنه روى عن جماعة من الصحابة إتمام الصلاة في السفر، منهم عائشة وسلمان وأربعة عشر من الصحابة. وفي أبواب التقصير من صحيح البخاري (ك18 ب5 - ج2 ص36) حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت: " الصلاة أول ما فرضت ركعتان - فأقرّت صلاة السفر - وأتمت صلاة الحضر " قال الزهري فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان. وفي مسند أحمد (4: 94) عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية حاجا قدمنا معه مكة؛ فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة. وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة. فلما صلى بنا (أي معاوية) الظهر ركعتين نهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته، قال لهما: وما ذاك؟ فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة (فذكر لهما أنه صلاهما مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر) قالا: فإن ابن عمك كان أتمها (والظاهر أن معاوية رأى أن القصر رخصة، وأن المسافر على التخيير، فصلى العصر أربعا) .

إنما ولاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، لأنه ولى أخاه يزيد، واستخلفه يزيد، فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتعلق عثمان بعمر وأقرّه. فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها (¬1) . . . ولن يأتي أحد مثلها أبدا بعدها (¬2) . ¬

(¬1) هنا في الأصل كلمة " وأقدر " وبياض لكلمة أخرى، ولا يختل المعنى بسقوطهما. (¬2) إنما بلغت دولة الإسلام في خلافة أبي بكر وعمر الذروة في العزة، وكانت مضرب الأمثال في الفلاح الإنساني وسعادة المجتمع، لأن أبا بكر وعمر كانا يكتشفان بنور الله عز وجل كوامن السجايا في أهلها وعناصر الرجولة في الرجال، فيوليانهم القيادة، ويبوّئانهم مقاعد السيادة، ويأتمنانهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما يعلمان أنهما مسئولان عن ذلك بين يدي الله عز وجل. وقد رأيت في هامش ص47 أن يزيد بن أبي سفيان وأخاه معاوية كانا من رجال دولة أبي بكر الصديق الذين اختارهم لحمل أعباء الأمة في حربها وسلمها فأحسن بذلك كل الإحسان. ولما ولي يزيد قيادة أحد جيوشه خرج معه أبو بكر يشيعه ماشيا (الطبري 4: 30) . ومعاوية مذكور في التاريخ بعد أخيه يزيد لأنه أصغر منه سنا، لا لأنه أقل منه في استكمال صفات القيادة والسيادة. وقبل أن يكون معاوية من رجال الدولتين البكرية والعمرية كان أحد الذين استعملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعان بهم، وكان يدعوه لذلك في بعض الأحيان - ومعاوية يأكل - ويلح في دعوته ويرسل إليه المرة بعد المرة يستعجله المجيء إليه. فالنبي صلى الله عليه وسلم ولى معاوية شيئا من عمله قبل أن يوليه أبو بكر وعمر، وولى يزيد بن أبي سفيان أيضا كما في فتوح البلدان للبلاذري (ص 48 طبع مصر سنة 1350) . والذين يضطغنون البغضاء والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا سيما بني أمية منهم - لم يستطيعوا أن ينكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل معاوية في الكتابة له فقالوا إنه كان يكتب له ولكنه لم يكن يكتب الوحي. وهم يقولون هذا بوحي أوحي إليهم من الشيطان، وليس في يدهم نص تاريخي أو دليل شرعي يرجعون إليه، فميزوا بين أمور لا حجة لهم في التمييز بينها. والنبي صلى الله عليه وسلم لو كان يميز بين كتبته في أمور دون أمور لتواتر ذلك عنه ولنقله الناقلون كما وقع فيما هو أقل من هذا شأنا. سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال: ما تقول في معاوية؟ فقلت له: ومن أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره. نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (8: 133) عن الليث بن سعد (وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها المتوفى سنة 175) قال: حدثنا بكير (وهو ابن عبد الله الأشج المدني ثم المصري المتوفى سنة 127 قال عنه الإمام النسائي: ثقة ثبت) عن بُسر بن سعيد المدني (المتوفى سنة 100 قال عنه ابن معين: ثقة، وقال عنه الليث بن سعد: كان من العباد المنقطعين أهل الزهد في الدنيا والورع) أن سعد بن أبي وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة) قال: " ما رأيت أحدا بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب " يعني معاوية. وروى ابن كثير أيضا (8: 135) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ (وكان ينسب إلى التشيع) ، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم اليمني وكان أحد الأعلام، عن همام بن منبه الصنعاني وكان ثقة قال: سمعت ابن عباس يقول: " ما رأيت رجلا أخلق بالملك من معاوية ". وهل يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون عادلا حكيما، يحسن الدفاع عن ملكه، ويستعين الله في نشر دعوة الله في الممالك الأخرى، ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها؟ والذي يكون أخلق الناس بالملك هل يلام عثمان على توليته؟ ويا عجبا كيف يلام عثمان على توليته وقد ولاه من قبله عمر، وتولى لأبي بكر من قبل عمر، وتولى بعض عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تصير الخلافة إلى أبي بكر وعمر وعثمان. إن المخ الذي يعبث به الشيطان فيسوّل له مثل هذه الوساوس لا شك أنه مخ فاسد، يفسد على الناس عقولهم ومنطقهم قبل أن يفسد عليهم دينهم وتاريخهم، فمن الواجب على محبي الحق والخير أن يتحاموا كل من يحمل في رأسه مثل هذا المخ كما يتحامون المجذوم. روى الإمام الترمذي عن أبي إدريس الخولاني من كبار علماء التابعين - وأعلم أهل الشام بعد أبي الدرداء - أن عمر بن الخطاب لما عزل عمير بن سعد الأنصاري الأوسي عن حمص وولى معاوية. قال الناس: عزل عميرا وولى معاوية قال البغوي في معجم الصحابة: وكان عمير يقال له (نسيج وحده) . قال ابن سيرين (إن عمر كان يسميه بذلك لإعجابه به. وكان عمير من الزهاد) فقال عمير: لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم اهد به ". ويروى أن الذي شهد هذه الشهادة لمعاوية أمير المؤمنين عمر، فإن كان هو الذي شهدها له وروى دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بأن يهدي الله به فذلك أمر عظيم لعظم مكانة عمر. وإن كان الذي شهد بذلك عمير بن سعد الأنصاري - مع أنه هو المعزول بمعاوية عن ولاية حمص - فإن ذلك لا يقل عظمة عما لو كانت الشهادة لمعاوية من عمر، وقد علمت أن عميرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه من زهاد الأنصار. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 189) : وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ". ولم يتسع المقام هنا لأكثر من هذا، وسنكمل الصورة الحقيقية لمعاوية عند ذكر خلافته، لتعلم إلى أي حد كنا مخدوعين بأكاذيب أعداء الصدر الأول للإسلام.

تولية عثمان عبد الله بن عامر بن كريز

[تولية عثمان عبد الله بن عامر بن كريز] 10 - وأما عبد الله بن [عامر بن] كُريز فولاه - كما قال -

لأنه كريم العمّات والخالات (¬1) . ¬

(¬1) هو عبشمي الآباء، هاشمي الخئولة. فإن. . . أروى بنت كريز أمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما ولد أتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لبني عبد شمس: " هذا أشبه بنا منه بكم " ثم تفل في فيه فازدرده، فقال صلى الله عليه وسلم: " أرجو أن يكون مسقيا " فكان لا يعالج أرضا إلا ظهر منها الماء ونشأ سخيا كريما شجاعا ميمون النقيبة كثير المناقب. افتتح خراسان كلها، وأطراف فارس، وسجستان، وكرمان حتى بلغ أعمال غزنة، وقضى على يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس. ويعتقد الإيرانيون أن سلسلة ملوكهم بدأت بآدمهم الذي يسمونه (جيومرث) فلم يزل ملك أولاده منتظما على سياق إلى أن كان القضاء الأخير عليه بسلطان الإسلام في خلافة أمير المؤمنين عثمان بجهاد هذا العبشمي الآباء الهاشمي الخئولة عبد الله بن عامر بن كريز. وهي حرقة في قلوب أهل النزعة المجوسية على الإسلام، وعلى عثمان، وابن كريز، فهم يحقدون على هؤلاء ويحاربونهم إلى اليوم بسلاح الكذب، والبغض والدسائس، وسيستمر ذلك إلى يوم القيامة. أما صادقو الإسلام ممن أنجبت إيران أيام كانت شافعية المذهب، ولما كان ينبغ منها علماء السنة المحمدية قبل ذلك، وفيهم كبار الأئمة والمحدثون والفقهاء، فقد نزهوا قلوبهم عن أن يكون فيها غل للذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله الأقطار على أيديهم، وهدى الأمم بسببهم، فهم يحبونهم ويجلونهم على أقدارهم. ونحن لا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتوقع الخطأ من كل إنسان، صحابيا كان أو من التابعين أو الذين يتبعونهم بإحسان. ولكن الذين ملأوا الدنيا بالحسنات كأنها كالجبال، فإن الذي يعمى عنها، ويدس أنفه في مرمى القاذورات ليستخرج منها ما يذم العظماء به، وإن لم يجد يختلق ويكذب، فإن من كرامة المسلم على نفسه أن يترفع عن الإصغاء لأمثال هؤلاء والانخداع لهم. ودع عنك فتوح عبد الله بن عامر بن كريز التي وصلت إلى أقصى المشارق، وتقويضه آخر أمل للإمبراطورية المجوسية، فإن حسناته الإنسانية أيضا جديرة بالتسجيل، قال ابن كثير في البداية والنهاية (8: 88) : إنه " أول من اتخذ الحياض بعرفة لحجاج بيت الله الحرام وأجرى إليها الماء المعين ". وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 189 - 190) : " إن له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر ". ومثل هؤلاء الرجال لو كانوا من سلف الإنكليز أو الفرنيسين لخلدوا عظمتهم في كتب الدراسة والثقافة والتهذيب، فتهافتت وزارات معارفنا على نقل ذلك من كتبهم إلى كتبنا المدرسية، ليؤمن جيلنا بعظمة أسلاف المستعمرين. أما عظمة أسلافنا نحن فقد سلط الشيطان عليها قلوبا فاسدة تفيض بالسوء، وصدَّق أكاذيبها الأكثرون منا، فأمسينا كالأمة التي لا مجد لها، بينما هي نائمة على تراث من المجد لا تحلم الإنسانية بمثله.

تولية عثمان الوليد بن عقبة

[تولية عثمان الوليد بن عقبة] 11 - وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس - على فساد النيات - أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات. فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به. قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي (¬1) وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه. وسيأتي بيانه إن شاء الله (¬2) . ¬

(¬1) هو أخوه لأمه أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم. (¬2) قد يظن من لا يعرف صدر هذه الأمة أن أمير المؤمنين عثمان جاء بالوليد بن عقبة من عرض الطريق فولاه الكوفة. أما الذين أنعم الله عليهم بنعمة الأنس بأحوال ذلك العصر وأهله فيعلمون أن دولة الإسلام الأولى في خلافة أبي بكر تلقفت هذا الشاب الماضي العزيمة الرضيّ الخلق الصادق الإيمان فاستعملت مواهبه في سبيل الله إلى أن توفي أبو بكر، وأول عمل له في خلافة أبي بكر أنه كان موضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12 (الطبري 4: 7) ، ثم وجهه مددا إلى قائده عياض بن غنم الفهري (الطبري 4: 22) . وفي سنة 13 كان الوليد يلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة، فكتب إلى عمرو بن العاص وإلى الوليد بن عقبة يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد، فسار ابن العاص بلواء الإسلام نحو فلسطين، وسار الوليد بن عقبة قائدا إلى شرق الأردن (الطبري 4: 29 - 30) ، ثم رأينا الوليد في سنة 15 أميرا على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة (الطبري 4: 155) يحمي ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم، فكانت تحت قيادته ربيعة وتنوخ مسلمهم وكافرهم. وانتهز الوليد بن عقبة فرصة ولايته وقيادته على هذه الجهة التي كانت لا تزال مليئة بنصارى القبائل العربية فكان - مع جهاده الحربي وعمله الإداري - داعيا إلى الله يستعمل جميع أساليب الحكمة والموعظة الحسنة لحمل نصارى إياد وتغلب على أن يكونوا مسلمين كسائر العرب. وهربت منه إياد إلى الأنضول وهو تحت حكم البيزنطيين، فحمل الوليدُ خليفته عمرَ على كتابة كتاب تهديد إلى قيصر القسطنطينية بأن يردهم إلى حدود الدولة الإسلامية، حاولت تغلب أن تتمرد على الوليد في نشره الدعوة الإسلامية بين شبانها وأطفالها، فغضب غضبته المضرية المؤيدة بالإيمان الإسلامي، وقال فيهم كلمته المشهورة: إذا ما عصبتُ الرأسَ مني بمشوذ ... فغيّكِ مني تغلب ابنة وائل وبلغت هذه الكلمة عمر، فخاف أن يبطش قائده الشاب بنصارى تغلب فيفلت من يده زمامهم في الوقت الذي يحاربون فيه مع المسلمين حمية للعروبة، فكف عنهم يد الوليد ونحاه عن منطقتهم. وبهذا الماضي المجيد جاء الوليد في خلافة عثمان فتولى الكوفة له، وكان من خير ولاتها عدلا ورفقا وإحسانا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة على ما سنذكره فيما بعد.

والولايةُ اجتهاد (¬1) وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل ¬

(¬1) للمؤلف في أواخر هذا الكتاب ص 243 فصل عنوانه (نكتة) أشار فيه إلى المعاني والحقائق التي يلاحظها ولي الأمر عند " اجتهاده " في تولية الولاة وعزلهم، وذلك لفقه عظيم ومعارف بديعة بينها أئمة الإسلام وعلماؤه في الفصول التي عقدوها للإمامة وسياسة الدولة وفي كتبهم المصنفة في أصول الدين. وقد زعم طاغية الشيعة ومدلسهم الحسن بن المطهر الحلي في كتابه منهاج الكرامة أن عثمان ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية، فأجابه شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة 3: 173 - 176 والمنتقى منه للذهبي 382 - 383) أن عليا - رضي الله عنه - ولى زياد بن أبي سفيان وولى الأشتر النخعي وولى محمد بن أبي بكر وأمثال هؤلاء، ولا يشك عاقل أن معاوية بن أبي سفيان كان خيرا من هؤلاء كلهم. قال: ومن العجب أن الشيعة ينكرون على عثمان أنه ولى أقاربه من بني أمية، ومعلوم أن عليا ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه، فولى عبيد الله بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف وقيل ثمامة بن العباس، وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره (لأنه تزوج أمه بعد وفاة أبي بكر وكان محمد صغيرا) . ثم إن الإمامية تدعي أن عليا نص على أولاده في الخلافة - أو على ولده، وولده على ولده الآخر وهلم جرا - ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكرا، فتولية الخلافة العظمى أولى من إمارة بعض الأعمال. . . وإذا قال القائل: لعليّ حجة فيما فعله، قيل له: وحجة عثمان فيما فعله أعظم. وإذا ادعى لعلي العصمة ونحوها مما يقطع عنه ألسنة الطاعنين، كان ما يدعى لعثمان من " الاجتهاد " الذي يقطع ألسنة الطاعنين أقرب إلى المعقول والمنقول. . . ثم قال: إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته، واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم: أبو بكر وعمر، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين، وكان فيهم شرف وسؤدد، فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في عزة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذحج وعلى صنعاء واليمن حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعمل عثمان بن سعيد بن العاص على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا ثم استعمله على البحرين فلم يزل عليها بعد العلاء الحضرمي (حليف بني أمية) حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول عثمان: أنا لم أستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده. . . فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل، وذلك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل (وانظر أيضا منهاج السنة 3: 236 - 237) . والذي يستعرض حياة عمال عثمان وجهادهم وفضائلهم يراهم في الذروة العليا من رجال الدولة، ولا يتردد في أنهم من بناة الأساس الأقوم من مجد الإسلام الإداري والعسكري، ولهم ثواب نتائجه في الفتوح وانتشار دعوة الإسلام بما يعده التاريخ من معجزاته الخارقة للعادات.

عدالة مروان

منه درجة (¬1) . [عدالة مروان] 12 - وأما قول القائلين في مروان والوليد فشديد عليهم، وحكمهم ¬

(¬1) كان ذلك سنة 21، والذين تولوا بعد سعد: عبد الله بن عبد الله بن عتبان (وفي زمانه كانت وقعة نهاوند) ثم زياد بن حنظلة (وألح في الاستعفاء فأعفي) وولي بعدهما عمار بن ياسر (الطبري 4: 246 وما قبلها) .

عليهما بالفسق فسقٌ منهم. مروان رجل عدل، من كبار الأمة عند الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه (¬1) . وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين (¬2) . وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته، ¬

(¬1) وروايته عنه في صحيح البخاري وغيره. (¬2) وفي طليعة من روى عنه من كبار التابعين زين العابدين بن علي بن الحسين السبط، نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 123) ، والحافظ ابن حجر في الإصابة، وترى تفصيله في طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي في ترجمة اللغوي الشهير أبي منصور محمد بن أحمد بن الأزهر صاحب تهذيب اللغة (282 - 370) . وممن نص الحافظ ابن حجر على روايتهم عن مروان: سعيد بن المسيب رأس علماء التابعين، وإخوانه من الفقهاء السبعة أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، وأضرابهم كعراك بن مالك الغفاري المدني فقيه أهل دهلك وكان يصوم الدهر، وكعبد الله بن شداد بن الهاد أحد الرواة عن عمر وعلي ومعاذ. وإن رواية عروة بن الزبير عن مروان في كتاب الوكالة من صحيح البخاري (ك 40 ب7 - ج3 ص 62) وفي مسند الإمام أحمد (الطبعة الأولى 4: 321 و323 و326 و328 و5: 189) . ورواية عراك عن مروان نقلها إمام أهل مصر الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب في مسند أحمد (4: 328) ورواية عبد الله بن شداد بن الهاد عن مروان في مسند أحمد (7: 317 و323) . والذي يتأمل الأحاديث المروية عن مروان يجد جملتها من الأئمة الثقات تتسلسل روايتهم عنه مدة جيلين وأكثر وكلهم أعلى مرتبة في الإسلام من الذين يبردون الغل الذي في قلوبهم بالطعن في مروان ومن هو خير من مروان، بل في رواة أحاديث مروان عبد الرزاق إمام أهل اليمن وكانت فيه نزعة تشيع. وفي مسند أحمد (6: 212) حديث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه كان رسول مروان إلى أم المؤمنين أم سلمة في تحقيق بعض الأحكام الشرعية وفي 6: 299 من مسند أحمد نموذج لعظيم عناية مروان بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى ما يمكن أن يصدر عن أئمة المسلمين وأمرائهم.

والتلفت إلى فتواه، والانقياد إلى روايته وأما السفهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم. وأما الوليد فقد روى بعض المفسرين أن الله سماه فاسقا في قوله {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] فإنها - في قولهم - نزلت فيه، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصطلق، فأخبر عنهم أنهم ارتدوا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم خالد بن الوليد فتثبت في أمرهم فبين بطلان قوله. وقد اختُلف فيه، فقيل: نزلت في ذلك (¬1) وقيل: في علي والوليد في قصة أخرى، وقيل: إن الوليد سبق يوم الفتح في جملة الصبيان ¬

(¬1) كنت فيما مضى أعجب كيف تكون هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة ويسميه الله فاسقا، ثم تبقى له في نفس خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر وعمر المكانة التي سجلها له التاريخ وأوردنا الأمثلة عليها في هامش ص86 عند استعراضنا ماضيه في بضعة عشر عاما قبل أن يوليه عثمان الكوفة، إن هذا التناقض - بين ثقة أبي بكر وعمر بالوليد بن عقبة، وبين ما كان ينبغي أن يعامل به لو أن الله سماه فاسقا - حملني على الشك في أن تكون الآية نزلت فيه، لا استبعادا لوقوع أمر من الوليد يعد به فاسقا، ولكن استبعادا لأن يكون الموصوم بالفسق في صريح القرآن محل الثقة من رجلين لا نعرف في أولياء الله عز وجل بعد رسوله صلى الله عليه وسلم من هو أقرب إلى الله منهما. وبعد أن ساورني هذا الشك أعدت النظر في الأخبار التي وردت عن سبب نزول الآية " إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ. . . "، فلما عكفت على دراستها وجدتها موقوفة على مجاهد، أو قتادة أو ابن أبي ليلى، أو يزيد بن رومان، ولم يذكر أحد منهم أسماء رواة هذه الأخبار في مدة مائة سنة أو أكثر مرت بين أيامهم وزمن الحادث، وهذه المائة من السنين حافلة بالرواة من مشارب مختلفة، وإن الذين لهم هوى في تسويء سمعة مثل الوليد ومن هم أعظم مقاما من الوليد قد ملأوا الدنيا أخبارا مريبة ليس لها قيمة علمية. وما دام رواة تلك الأخبار في سبب نزول الآية مجهولين من علماء الجرح والتعديل بعد الرجال الموقوفة هذه الأخبار عليهم، وعلماء الجرح والتعديل لا يعرفون من أمرهم حتى ولا أسمائهم، فمن غير الجائز شرعا وتاريخا الحكم بصحة هذه الأخبار المنقطعة التي لا نسب لها وترتيب الأحكام عليها. وهنالك خبران موصولان أحدهما عن أم سلمة زعم موسى بن عبيدة أنه سمعه من ثابت مولى أم سلمة. وموسى بن عبيدة ضعفه النسائي وابن المديني وابن عدي وجماعة. وثابت المزعوم أنه مولى أم سلمة ليس له ذكر في كل ما رجعت إليه من كتب العلم، فلم يذكر في تهذيب التهذيب ولا في تقريب التهذيب ولا في خلاصة تذهيب الكمال، بل لم أجده ولا في قفصي الاتهام أعني (ميزان الاعتدال) و (لسان الميزان) . وذهبت إلى مجموعة أحاديث أم سلمة في مسند الإمام أحمد فقرأتها واحدا واحدا فلم أجد فيها هذا الخبر، بل لم أجد لأم سلمة أي خبر ذكر فيه اسم مولى لها يدعى ثابتا، زد على كل هذا أن أم سلمة لم تقل في هذا الخبر - إن صح عنها، ولا سبيل إلى أن يصح عنها -: إن الآية نزلت في الوليد، بل قالت - أي قيل على لسانها -: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم (رجلا) في صدقات بني المصطلق ". والخبر الثاني الموصول رواه الطبري في التفسير عن ابن سعد عن أبيه عن عمه عن أبيه عن أبيه عن ابن عباس: والطبري لم يلق ابن سعد ولم يأخذ عنه، لأن ابن سعد لما توفي ببغداد سنة 230 كان الطبري طفلا في نحو السادسة من عمره ولم يخرج إلى ذلك الحين من بلد آمل في طبرستان لا إلى بغداد ولا لغيرها. وابن سعد وإن كان في نفسه من أهل العدالة في الدين والجلالة في العلم، إلا أن هذه السلسلة من سلفه يجهل علماء الجرح والتعديل أسماء أكثرهم فضلا عن أن يعرفوا شيئا من أحوالهم (وبعد كتابة ما تقدم للطبعة الأولى من كتابنا تبين لي أن ابن سعد الذي روى عنه الطبري هو محمد بن سعد العوفي. وقد وصف الشيخ أحمد شاكر سنده بأنه " سند مسلسل بالضعفاء من أسرة واحدة ". انظر تفسير الطبري طبعة دار المعارف 1: 263 - 264) . فكل هذه الأخبار من أولها إلى آخرها لا يجوز أن يؤاخذ بها مُجاهِدٌ كان موضع ثقة أبي بكر وعمر، وقام بخدمات للإسلام يرجى له بها أعظم المثوبة إن شاء الله. أضف إلى كل ما تقدم أنه في الوقت الذي حدثت فيه لبني المصطلق الحادثة التي نزلت فيها الآية كان الوليد صغير السن كما سيأتي في الفقرة التالية.

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رؤوسهم وبرك عليهم، إلا هو فقال: إنه كان على رأسي خَلُوق، فامتنع صلى الله عليه وسلم من مسه.

فمن يكون في مثل هذه السن يُرسل مصدقا؟ ! (¬1) . وبهذا الاختلاف يسقط ¬

(¬1) هذا الخبر عن سن الوليد بن عقبة يوم فتح مكة رواه الإمام أحمد في مسنده (4: 32 الطبعة الأولى) عن شيخ له هو فياض بن محمد الرقي عن جعفر بن برقان الرقي عن ثابت بن الحجاج الكلابي الرقي عن عبد الله الهمداني وهو (عبد الله بن مالك بن الحارث) عن الوليد بن عقبة، والظاهر أن الوليد بن عقبة تحدث بهذا الحديث عندما اعتزل الناس في السنين الأخيرة من حياته واختار الإقامة في قرية له من أعمال الرقة، فتسلسلت رواية الخبر في الرواة الرقيين وأخذه الإمام أحمد عن شيخ له منهم. وعبد الله الهمداني ثقة، لكن التبس اسمه في غير هذه الرواية بهمداني آخر يكنى أبا موسى واسمه مالك بن الحارث (أي على اسم والد عبد الله الهمداني) وهو مجهول عند أهل الجرح والتعديل، أما عبد الله الهمداني الذي ينتهي إليه الخبر في رواية الإمام أحمد فمعروف وموثوق به، وعلى روايته وأمثالها اعتمد القاضي ابن العربي في الحكم على سن الوليد بن عقبة بأنه كان صبيا عند فتح مكة وأن الذي نزلت فيه آية " إََِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ " هو شخص آخر. ومن عجيب أمر الذين كان لهم هوى في تشويه هذا الصحابي الشاب المجاهد الطيب النفس الحسن السيرة في الناس أنهم حاولوا إدحاض حجة صغر سنه في ذلك الوقت بخبر آخر روي عن قدومه مع أخيه عمارة إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة ليطلبا من النبي صلى الله عليه وسلم رد أختهما أم كلثوم إلى مكة. وأصل هذا الخبر - إن صح - مقدّم فيه اسم عمارة على اسم الوليد، وهذا مما يستأنس به في أن عمارة هو الأصل في هذه الرحلة وأن الوليد جاء في صحبته، وأي مانع يمنع قدوم الوليد صبيا بصحبة أخيه الكبير كما يقع مثل ذلك في كل زمان ومكان؟ فقول الوليد إنه كان في سنة الفتح صبيا ليس في خبر قدومه مع أخيه الكبير إلى المدينة في السنة السابعة ما يمنعه أو يناقضه. فإذا تقرر عندك أن جميع الأخبار الواردة بشأن الوليد بن عقبة في سبب نزول آية " إََِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ " لا يجوز علميا أن يبنى عليها حكم شرعي أو تاريخي، وإذا أضفت إلى ذلك حديث مسند الإمام أحمد عن سن الوليد في سنة الفتح، يتبين لك بعد ذلك حكمة استعمال أبي بكر وعمر للوليد وثقتهما به واعتمادهما عليه مع أنه كان لا يزال في صدر شبابه.

العلماء الأحاديث القوية. وكيف يفسق رجل بمثل هذا الكلام؟ فكيف برجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ ! . وأما حده في الخمر، فقد حد عمر قدامة بن مظعون على الخمر وهو أمير وعزله، وقيل إنه صالحه (¬1) . ¬

(¬1) قدامة بن مظعون الجمحي أحد السابقين الأولين، هاجر الهجرتين وشهد بدرا، وكان صهر أمير المؤمنين عمر على أخته، وقيل بل هو خال أم المؤمنين حفصة بنت عمر وأخيها عبيد الله. وفي إمارة قدامة على البحرين في خلافة عمر قدم الجارود سيد بني عبد القيس على عمر من البحرين وادعى أن قدامة شرب فسكر. فقال له عمر: من يشهد معك؟ قال: أبو هريرة. فاستشهد أبا هريرة فقال: لم أره شرب، ولكني رأيته سكران يقيء فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة. واستقدم قدامة من البحرين، فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ فقال: شهيد. فقال عمر: قد أديت شهادتك. فصمت الجارود. ثم غدا على عمر فقال: أقم على هذا حد الله. فقال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك. فقال: يا عمر، ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني. ثم جيء بزوجة لقدامة فأقامت الشهادة على زوجها. وأراد عمر أن يقيم عليه الحد. فقال له الصحابة: لا نرى أن تحده ما دام مريضا، ثم عاوده فقالوا له كما قالوا من قبل فقال عمر: لأن يلقى الله تحت السياط أحب إلي من أن ألقاه وهو في عنقي، وجلده. فغاضبه قدامة. وعند قفولهما من الحج جيء به إلى عمر فكلمه عمر واستغفر له. ومن حسن حظ قدامة بن مظعون أنه قرشي من بني جمح. ولو أنه كان قرشيا من بني عبد شمس لانطلقت ألسنة السوء بالبذاءة عليه واختراع الأكاذيب فيه ما دام في الدنيا كذب.

وليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة (¬1) . ¬

(¬1) هذا حق، ولكن في مثل ما تقدم عن قدامة بن مظعون، وفي مثل ما هو مشهور عند الناس عن أبي محجن الثقفي الشاعر الفارس الذي كان له يوم أغر في حرب القادسية. أما الوليد بن عقبة المجاهد الفاتح العادل المظلوم (الذي كان منه لأمته كل ما استطاعه من عمل طيب، ثم رأى بعينه كيف يبغي المبطلون على الصالحين وينفذ باطلهم فيهم، فاعتزل الناس بعد مقتل عثمان في ضيعة له منقطعة عن صخب المجتمع، وهي تبعد خمسة عشر ميلا عن بلدة الرقة من أرض الجزيرة التي كان يجاهد فيها ويدعو نصاراها إلى الإسلام في خلافة عمر) فقد آن لدسائس الكذابين فيه أن ينكشف عنها عوارها. ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرنا، فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه. أراد الوليد بن عقبة - منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان - أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامه للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته، الناشرين لرسالته. وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره - إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة - ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أو لا يعرف، فكان يغشاها كل من شاء، متى شاء، من ليل أو نهار، ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس: فالستر دون الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة، وأدخل على الناس خيرا حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم. وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه. إلا أن فريقا من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد، فوقفوا حياتهم على ترصد الأذى له. ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي، وآخر يسمى أبا مورع، وثالث اسمه جندب أبو زهير، قبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا بها على ابن الحيسمان داره وقتلوه، وكان نازلا بجواره رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل السابقة في الإسلام وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش خزاعة يوم فتح مكة فجاء هو وابنه من المدينة على الكوفة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو الشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين، فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم. وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته، وكان بيته مفتوحا دائما. وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانيا في أخواله من تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد، فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانيا لا بد أن يكون ممن يشرب الخمر ولعل الوليد أن يكرمه بذلك فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد، ولم يكن لداره باب، فلما فوجئ بهم نحى شيئا أدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك الشيء من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب، وإنما نحاه الوليد استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلا تفاريق عنب، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم. وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر. ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب. وذهب بعض الذين كانوا عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة. وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح، فخرج بقية القوم، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا. فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه، فسأل عنه زوجتيه - وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر - فقالتا: إن آخر من بقى في الدار رجلان، وذكرتا صفتهما وحليتهما للوليد، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيّتاها، فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة، وكانا قد سافرا توا إلى المدينة، وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر (وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مظعون في خلافة عمر) فقالا كنا من غاشيته، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال عثمان: ما يقيء الخمر إلا شاربها. فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: " نقيم الحدود. ويبوء شاهد الزور بالنار ". هذه قصة اتهام الوليد بالخمر كما في حوادث سنة 30 من تاريخ الطبري، وليس فيها - على تعدد مصادرها القديمة - شيء غير ذلك. وعناصر الخبر عند الطبري أن الشهود على الوليد اثنان من الموتورين الذين تعددت شواهد غلهم عليه، ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلا عن أن تكون اثنتين أو أربعا. وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب، فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر (أحد أتباع علي) أنه كان مع علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه (كتاب الحدود ب8 ح38 - ج5 ص126) بلفظ " شهدتُ عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح (ركعتين) ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ ". فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم، بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ. أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين، ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف. ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مرويا عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند أحمد بمواضعه الثلاثة، فالموضعان الأول والثاني (ج1 ص82 و140 الطبعة الأولى - ج2 رقم 642 و1184 الطبعة الثانية) ليس فيهما ذكر للصلاة عن لسان حضين فضلا عن غيره، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد. وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد (ج1 ص144 - 145 الطبعة الأولى - ج2 رقم 1229) فقد جاء على لسان حضين " أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعا " وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم، ففي إحدى الروايتين تحريف، الله أعلم بسببه. وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عن أنه من كلام حضين وحضين ليس بشاهد، ولم يرو عن شاهد، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه، وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه، أزيدك علما بأمر حمران، وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة. فجاء الكوفة يعيث فيها فسادا، ودخل على العابد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام. وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم به عليهم بما يشاء، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام أبي بكر وعمر وعثمان. وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم والقسوة عليهم لئلا يقول السفهاء إن له هوى في ذوي قرابته. وقد رأينا الذين يتسلون بأعراض الناس يتفكهون بأبيات ستة منسوبة إلى ماجن خسيس النفس وردت في ص85 من ديوانه، ولا تحملهم سليقة النقد على الشعور بما في هذه الأبيات من التضارب والتعارض، فأين مدحه فيها للوليد بقوله: ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر فنزعتَ مكذوبا عليك ولم ... تردد إلى عوز ولا فقر من بقية الأبيات التي فيها: نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيدكم ثملا وما يدري فالذي يقول البيت الأخير لا يعقل أن يقول معه البيتين الأولين فيكون مادحا وذاما في قطعة واحدة لا تزيد على ستة أبيات. وقد كانت لي مقالة مطولة عن (التخليط في الشعر) ضربت فيها الأمثلة على دس أبيات غريبة في قصائد من وزنها ورويها لغير ناظمها. وعلى كل حال فالشهود الذين شهدوا بين يدي عثمان لم يدّعوا حكاية الصلاة، مع أنهم لم يكونوا ممن يخاف الله واليوم الآخر. والآن أقولها لوجه الله صريحة مدوية: إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة لعدّوه قديسا، لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته، ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام، والعجب لأمة تسيء إلى أبطالها، وتشوه جمال تاريخها، وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق.

وقد قيل لعثمان: إنك وليت الوليد لأنه أخوك لأمك أروى بنت كُريز

بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فقال: بل لأنه ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حكيم البيضاء، وجدة عثمان وجدة الوليد لأمهما أروى المذكورة أم حكيم توأمة عبد الله أبي رسول الله صلى الله عليه

وسلم. وأي حرج على المرء أن يولّي أخاه أو قريبه؟ (¬1) . ¬

(¬1) وقد تقدم في هامش ص87 أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب جعل الأمراء في مدة خلافته على أكثر أمصار حكمه من ذوي قرابته. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولى رجال بني أمية وشبابهم. وكذلك فعل أبو بكر وعمر، فلم يفعل عثمان إلا الذي سبقه إليه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه بل إن عثمان لما أقام الحد على أخيه لأمه فعل ما لا نظن أحدا يفعله بشهادة الشهود المغرضين الذين لم يريدوا الله بشهاداتهم. وإذا كان الشهود على الوليد من هذه الطبقة المغرضة، فقد شهد له بظهر الغيب قاض من أعظم قضاة الإسلام في التاريخ علما وفضلا وإنصافا وهو الإمام عامر بن شراحيل الشعبي، روى الطبري (5: 60) أن الشعبي سمع في أوائل بطولة مسلمة بن عبد الملك حفيدا للوليد بن عقبة يتحدث عن جهاد مسلمة، فقال الشعبي: " كيف لو أدركتم الوليد غزوه وإمارته؟ إن كان ليغزو فينتهي إلى كذا وكذا. . . ما قصر، ولا انتقض عليه أحد. حتى عزل عن عمله وعلى الباب (أي الدربند، وراء بحر الخزر في روسيا، وكان من أمنع معاقل الدنيا) عبد الرحمن الباهلي (وهو من أعظم قواد الوليد) وإن كان مما زاد عثمان الناس على يده (أي على يد الوليد) أن رد على كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة في كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم ". فهذه الشهادة من الإمام الشعبي للوليد في جهاده الحربي الظافر، وفي إحسانه لرعيته في معايشهم، تفقأ عيون المبطلين، وتقر أعين الصالحين، وصدق أمير المؤمنين عثمان يوم طيب قلب أخيه المظلوم بقوله: " نقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار ". " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ".

إعطاؤه خمس إفريقية لواحد

[إعطاؤه خمس إفريقية لواحد] 13 - وأما إعطاؤه خُمس إفريقية لواحد فلم يصح (¬1) على أنه ¬

(¬1) والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاء جهاده المشكور، ثم عاد فاسترده منه. جاء في حوادث سنة 27 من تاريخ الطبري (5: 49 مصر، 1: 2814 - 2815 طبع أوربا) أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: " إن فتحَ الله عليك غدا إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا ". فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها سهلها وجبلها، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ خمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري. فشكا وفد ممن معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله بن سعد، فقال لهم عثمان: أنا أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد. قالوا: إنا نسخطه. فأمر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده فرده. ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية. وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكافأة سلمة بن الأكوع في إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح النبي صلى الله عليه وسلم (انظر المنتقى للمجد ابن تيمية 4314 وفي غزوات أخرى 4319، 4320، 4321) .

قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى رأيه في الخمس، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده، وأن إعطاءه لواحد جائز، وقد بينا ذلك في مواضعه (¬1) . ¬

(¬1) أي في مؤلفاته الأخرى عند بسطه هذه المسألة من أحكام الفقه الإسلامي قال الإمام عامر بن شراحيل الشعبي: " إنما القطائع على وجه النفل من خمس ما أفاء الله " قال: " وأقطع عمر طلحة وجرير بن عبد الله والربيِّل بن عمرو. وأقطع (أي عمر) أبا مفزِّر دار الفيل ". وممن أقطعهم عمر بن الخطاب نافع أخو زياد وأبي بكرة لأمهما، أقطعه أرضا في البصرة لخيله وإبله مساحتها عشرة أجربة (انظر ترجمة نافع في الإصابة) قال القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج (ص61) وقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتألف على الإسلام أقواما، وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا أن في إقطاعه صلاحا (وضرب أبو يوسف الأمثلة على ذلك) . وانظر باب القطائع في ص77 - 78 من كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي طبع السلفية. وذكر الإمام الشعبي بعض الذين أقطعهم عثمان فقال: " وأقطع الزبير، وخباب، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن هبّار أزمان عثمان، فإن يكن عثمان أخطأ فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا " (الطبري 4: 148) . وأقطع علي بن أبي طالب كردوس بن هانئ الكردوسية، وأقطع سويد بن غفلة أرضا لداذويه. فكيف ينكرون على عثمان ويسكتون عن عمر وعلي. وللقاضي أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب الخراج (ص60 - 62 السلفية سنة 1352) ، وما زعمه الزاعمون من أن عثمان كان يود ذوي قرابته ويعطيهم، فمودته ذوي قرابته من فضائله، وعلي أثنى على عثمان بأنه أوصل الصحابة للرحم، وعثمان أجاب عن موقفه هذا بقوله: " وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم. فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتت علي أسنان أهل بيتي وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا! ؟ " قال الطبري (5: 103) : وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب. بل تمادى شيخ الإسلام ابن تيمية مع أوسع الاحتمالات فذكر في منهاج السنة (3: 187 - 188) أن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قاله الحسن أبو ثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية. . . وقيل هو لمن ولي الأمر بعده. . . قال: وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية أو بمال. ثم قال (في 3: 237) : " إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها أنه عامل عليه، والعامل يستحق مع الغنى. الثاني أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام. الثالث أنهم (أي ذوو قربى عثمان) كانوا قبيلة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم. وهذا مما نقل عن عثمان الاحتجاج به ".

عثمان لم يضرب أحدا بالعصا

[عثمان لم يضرب أحدا بالعصا] 14 - وأما قولهم إنه ضرب بالعصا، فما سمعته ممن أطاع أو عصى، وإنما

علوه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

هو باطل يُحكى، وزُور يُنثى (¬1) فيا لله وللنهى. [علوه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم] 15 - وأما علوه على درجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما سمعته ممن فيه تقية. وإنما هي إشاعة منكر، ليُروى ويُذكر، فيتغيّر قلب من يتغير، قال علماؤنا: ولو صح ذلك فما في هذا ما يُحل دمه. ولا يخلو أن يكون ذلك حقا فلم تنكره الصحابة عليه، إذ رأت جوازه ابتداء أو لسبب اقتضى ذلك. وإن كان لم يكن فقد انقطع الكلام (¬2) . [انهزامه يوم حنين وفراره يوم أحد] 16 - وأما انهزامه يوم حنين، وفراره يوم أحد، ومغيبه عن بدر وبيعة الرضوان، فقد بين عبد الله بن عمر وجه الحكم في شأن البيعة وبدر وأحد. وأما يوم حنين فلم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما هي أقوال: منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقُثَم، فناهيك بهذا الاختلاف، وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة، وقد عفا الله ¬

(¬1) نثى الخبر والحديث: أذاعه وأظهره، والنثا مثل الثناء، إلا أنه في الخير والشر، والثناء في الخير خاصة. (¬2) كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيق المساحة في عصر النبوة وخلافة أبي بكر، وكان من مناقب عثمان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم عندما زاد عدد الصحابة أن اشترى من ماله مساحة من الأرض وسع بها المسجد النبوي، ثم وسعه أمير المؤمنين عمر فأدخل فيه دار العباس بن عبد المطلب. ثم ازداد عدد المصلين بازدياد عدد سكان المدينة وقاصديها فوسعه أمير المؤمنين عثمان مرة أخرى وجعل طوله ستين ومائة ذراع وعرضه خمسين ومائة ذراع وجدد بناءه. فاتساع المسجد وازدياد غاشيته وبعد أمكنة بعضهم عن منبر الخطابة يجوز أن يكون من ضرورات ارتفاع الخطيب ليراهم ويروه ويسمعوه.

عنه ورسوله، فلا يحل ذكرُ ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون، أخرج البخاري (¬1) جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر عن محاسن عمله وقال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: نعم. قال: فأرغم الله بأنفك! ثم سأله عن علي، فذكر محاسن عمله وقال: هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: لعل ذلك يسوؤك؟ قال: أجل. قال: فأرغم الله بأنفك! انطلق فاجهد عليّ جهدَك. وقد تقدم في حديث: «بُني الإسلام على خمس» زيادة فيه للبخاري في علي وعثمان (¬2) . وقد أخرج البخاري أيضا (¬3) من حديث عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر يريد حج البيت، فرأى قوما جلوسا، فقال: من هؤلاء القوم؟ قالوا: هؤلاء قريش. قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر. قال: يا ابن عمر، إني سائلك عن شيء فحدثني عنه. هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد: قال؟ نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: الله أكبر! قال ابن عمر، تعال أبين لك. أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله ¬

(¬1) في كتاب فضائل الصحابة (ك62 ب9 - ج4 ص208) من حديث سعد بن عبيدة. (¬2) لعل المؤلف يشير إلى حديث ابن عمر في كتاب التفسير من صحيح البخاري (ك65 ب2 تفسير البقرة الحديث30 ج5 ص157) . (¬3) في كتاب فضائل الصحابة (ك 62 ب7 - ج4 ص203 - 204) .

عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه (¬1) . وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان (¬2) وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة (¬3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ¬

(¬1) وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ببشرى النصر في بدر مع زيد بن حارثة إلى عثمان في المدينة. قال أسامة بن زيد - فيما رواه الطبري2: 286 -: " فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان " ثم في ربيع الأول من السنة التالية لغزوة بدر تزوج عثمان أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدخلت عليه في جمادى الآخرة. (¬2) وقبل أن يبعث عثمان دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال عمر: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس في مكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني. ولكني أدلك على رجل هو أعز مني فيها: عثمان بن عفان. فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش. ويوم تدوّن الدول الإسلامية تاريخ السفارات في الإسلام، سيكون اسم عثمان أول سفراء الإسلام في التاريخ. (¬3) لأن عثمان لما أدى رسالته في السفارة التي بعث بها احتبس أياما. فلم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الموعد الذي كان يقدر له أن يعود فيه، فوصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن سفيره قتل، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إلى بيعة الرضوان، انتصارا لعثمان، على نية أن يذهب بالصحابة إلى مكة فيناجز المشركين لما بلغه عن قتلهم عثمان. فبيعة الرضوان كانت رمزا من رموز الشرف لعثمان، وأي شرف أعظم من اجتماع قوى الإسلام بقيادة الرسول الأعظم للأخذ بثأر هذا الرجل الحبيب إلى المسلمين، والرفيع المنزلة عند سيد الأولين والآخرين؟ ثم لما علم النبي صلى الله عليه وسلم - في اللحظة الأخيرة التي اجتمع فيها الصحابة لعقد البيعة - أن عثمان حي، مضى في إتمام البيعة على سنته صلى الله عليه وسلم في أنه إذا بدأ بخير يمضي في إكماله ولو زال سببه. وحينئذ كان لعثمان الشرف المضاعف بأن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم نابت عن يده في عقد البيعة عنه. فبيعة الرضوان كانت انتصارا لعثمان، وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم إلا عثمان فإن أشرف يد بالوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته. ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا هذا لكفاه.

مؤاخذتهم عثمان بأنه لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان

اليمنى: " هذه يد عثمان " فضرب بها على يده فقال: " هذه لعثمان ". ثم قال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك (¬1) . [مؤاخذتهم عثمان بأنه لم يقتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان] 17 - وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل (¬2) . فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون، والأمر في ¬

(¬1) لو أن أمير المؤمنين عثمان كان من حواري المسيح عليه السلام، وكانت له من سيدنا عيسى ابن مريم مثل هذه المنقبة التي كرمه الله بها من نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، لعبدته النصارى لأجلها. فالعجب لأمة يكون فيها جهلة يعيبون على عثمان - في زمانه - غيبته عن بيعة الرضوان، ويكون فيهم من يستشعر الشجاعة في نفسه عند الإقدام على سفك دم هذا الخليفة الرحيم لأمور هذا منها، ثم يحمل مثل هذا الجهل في دماغه رجل جاء يعبد الله بأداء فريضة الحج فيواجه به جماعة الصحابة من قريش ورئيسهم عبد الله بن عمر. ثم تمس الحاجة إلى التعرض لبيان هذه الحقائق في عصر القاضي أبي بكر بن العربي، ثم يشعر أمثالنا في عصرنا بأن عثمان لا يزال من بعض أمته في موقف يحتاج فيه إلى إنصافه ودفع قالة السوء عنه. حقا إننا أمة مسكينة. . . ولأمر ما بلغ بنا الحال بين الأمم إلى ما كنا فيه، وإلى ما لا نزال غارقين فيه " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ". (¬2) بشهادة ابنه القماذبان. روى الطبري (5: 43 - 44 مصر و1: 2801 طبعة أوروبا) عن سيف بن عمر بسنده إلى أبي منصور قال: سمعت القماذبان يحدث عن قتل أبيه. . . قال: " فلما ولي عثمان دعاني فأمكنني منه " (أي من عبيد الله بن عمر بن الخطاب) ثم قال: " يا بني هذا قاتل أبيك، وأنت أولى به منا، فاذهب، فاقتله ". فخرجت به وما في الأرض أحد إلا معي، إلا أنهم يطلبون إلي فيه. فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم. وسبوا عبيد الله. فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قالوا: لا. وسبوه. فتركته لله ولهم. فاحتملوني. فوالله ما بلغت المنزل إلا على رءوس الرجال وأكفهم ". هذا كلام ابن الهرمزان وإن كل منصف يعتقد (ولعل ابن الهرمزان أيضا كان يعتقد) أن دم أمير المؤمنين عمر في عنق الهرمزان، وأن أبا لؤلؤة لم يكن إلا آلة في يد هذا السياسي الفارسي. وإن موقف عثمان وإخوانه أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم من هذا الحادث لا نظير له في تاريخ العدالة الإنسانية.

أوله (¬1) وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر، وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه (¬2) وكان قتل عبيد الله له وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان ¬

(¬1) وقد تصرف عثمان في هذا الأمر بعد أن ذاكر الصحابة فيه. قال الطبري (5: 41) جلس عثمان في جانب المسجد ودعا عبيد الله وكان محبوسا في دار سعد بن أبي وقاص، وهو الذي نزع السيف من يده. . . فقال عثمان لجماعة من المهاجرين والأنصار: أشيروا علي في هذا الذي فتق في الإسلام ما فتق. فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس، ويقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن الله أعفاك أن يكون هذا الحدث كان ولك على المسلمين سلطان، إنما كان هذا الحدث ولا سلطان لك. قال عثمان: أنا وليهم، وقد جعلتها دية، واحتملتها في مالي. (¬2) وفي تاريخ الطبري: (5: 42) حديث سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال غداة طعن عمر: " مررت على أبي لؤلؤة عشي أمس، ومعه جفينة (وكان نصرانيا من أهل الحيرة ظئرا لسعد بن أبي وقاص) والهرمزان، وهم نجي، فلما رهقتهم ثاروا، وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه. فانظروا بأي شيء قتل " وخرج في طلبه رجل من بني تميم، فرجع إليهم التميمي وقد كان ألظ بأبي لؤلؤة منصرفه عن عمر حتى أخذه. وجاء بالخنجر الذي وصف عبد الرحمن بن أبي بكر. فسمع بذلك عبيد الله بن عمر، فأمسك حتى مات عمر، ثم اشتمل على السيف فأتى الهرمزان فقتله.

كان لا يرى على عبيد الله حقا، لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله (¬1) وأيضا فإن أحدا لم يقم بطلبه. وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح؟ . ¬

(¬1) وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس رأى جواز قتل علوج الفرس الذين في المدينة بلا استثناء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 200) : وقد قال عبد الله بن عباس لما طعن عمر - وقال له عمر: كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة - فقال (أي ابن عباس) : " إن شئت أن نقتلهم " فقال عمر: " كذبت، أفبعد أن تكلموا بلسانكم، وصلوا إلى قبلتكم؟ ". قال ابن تيمية: فهذا ابن عباس - وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير - يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا بالمدينة، لما اتهموهم بالفساد، اعتقد جواز مثل هذا. . . وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب قتله لذلك. ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله، لكن كان القاتل متأولا ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة، صار ذلك شبهة تدرأ عن القاتل (يعني عن عبيد الله بن عمر) قلت: وإلى هذا ذهب عثمان في اكتفائه بالدية واحتملها من ماله الخاص. ولو أن حادث مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - بجميع ظروفه - وقع مثله في أي بلد آخر مهما بلغ في ذروة الحضارة لما كان منهم مثل الذي كان من الصحابة في تسامحهم إلى حد المطالبة حتى بقتل ابن أمير المؤمنين المقتول بيد الغدر والنذالة والبغي الذميم.

تحقيق علمي عن الكتاب المنسوب لعثمان

[تحقيق علمي عن الكتاب المنسوب لعثمان] 18 - وأما تعلقهم بأن الكتاب وجد مع راكب، أو مع غلامه - ولم يقل أحد قط إنه كان غلامه (¬1) - إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح يأمره بقتل ¬

(¬1) وإنما قالوا إنه غلام الصدقة، أي أحد رعاة إبل الصدقة. وإبل الصدقة ألوف كثيرة لها مئات من الرعاة. وإن صح أنه من رعاة إبل الصدقة فهؤلاء لكثرتهم وتبدلهم دائما بغيرهم لا يكاد يعرفهم رؤساؤهم فضلا عن أن يعرفهم أمير المؤمنين وكبار عماله وأعوانه. ومع افتراض أنه من رعاة إبل الصدقة فما أيسر أن يستأجره هؤلاء البغاة لغرض من أغراضهم، وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه. وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة. وكم لهم من حيل أكثر التواء من استئجار راع يرعى إبل الصدقة. بل لقد ذكروا عن محمد بن أبي حذيفة ربيب عثمان الآبق من نعمته أنه كان في نفس ذلك الوقت موجودا في مصر يؤلب الناس على أمير المؤمنين ويزور الكتب على لسان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ الرواحل فيضمرها ويجعل رجالا على ظهور البيوت في الفسطاط ووجوههم إلى وجه الشمس لتلوح وجوههم تلويح المسافر ثم يأمرهم أن يخرجوا إلى طريق الحجاز بمصر ثم يرسلوا رسلا يخبرون عنهم الناس ليستقبلوهم. . . فإذا لقوهم قالوا إنهم يحملون كتبا من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الشكوى من حكم عثمان، وتتلى هذه الكتب في جامع عمرو بالفسطاط على ملأ الناس وهي مكذوبة مزورة وحملتها كانوا في مصر ولم يذهبوا إلى الحجاز (انظر كتاب الأستاذ المحقق الشيخ صادق عرجون عن " عثمان بن عفان " ص122 - 133) فتزوير الكتب في مأساة البغي على أمير المؤمنين عثمان كان من أسلحة البغاة استعملوه من كل وجه وفي كل الأحوال وقد تقدم المثال على ذلك في صفحة 59، وسيأتي طرف منه فيما بعد.

حامليه (¬1) فقد قال لهم عثمان: إما أن تقيموا شاهدين على ذلك، وإلا فيميني أني ما كتبت ولا أمرت (¬2) . وقد يكتب على لسان الرجل، ويضرب على خطه، وينقش على خاتمه (¬3) . فقالوا لتسلم لنا مروان. فقال: لا أفعل. ولو سلمه لكان ظالما (¬4) ¬

(¬1) وكيف يكتب إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وقد أذن له بالمجيء إلى المدينة ويعلم أنه خرج من مصر (الطبري5: 122) وكان المتسلط على الحكم في الفسطاط محمد بن أبي حذيفة رئيس البغاة وعميدهم في هذه الجهة. ومضمون الكتاب المزور قد اضطرب رواة أخباره في تعيين مضمونه. وسيأتي الكلام على ذلك كله فيما بعد. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 188) : كل ذي علم بحال عثمان يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل أحدا من هذا الضرب. وقد سعوا في قتله (أي في قتل أمير المؤمنين عثمان) ودخل عليه محمد فيمن دخل، وهو لا يأمر بقتالهم دفعا عن نفسه، فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم. (¬3) وقد حدث مثل ذلك في زمن عمر، كما رواه البلاذري في فتوح البلدان (ص448 طبع سنة 1350) والحافظ ابن حجر في الإصابة (3: 528 طبع سنة 1328) . (¬4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 189) بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان. لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله. وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد. وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر، ولا هو (أي ابن أبي بكر) أشهر بالعلم والدين منه (أي من مروان) . بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان، وله قول مع أهل الفتيا، واختلف في صحبته. ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة عند الناس. . . ومروان من أقران ابن الزبير. . . الخ.

قول علي إن الخارجين على عثمان حساد طلاب دنيا

وإنما عليهم أن يطلبوا حقهم عنده على مروان وسواه، فما ثبت كان هو منفذه وآخذه والممكن لمن يأخذه بالحق. ومع سابقته وفضيلته ومكانته لم يثبت عليه ما يوجب خلعه فضلا عن قتله. [قول علي إن الخارجين على عثمان حساد طلاب دنيا] وأمثل ما روي في قصته أنه - بالقضاء السابق - تألب عليه قوم لأحقاد اعتقدوها: ممن طلب أمرا فلم يصل إليه، وحسد حسادة أظهر داءها، وحمله على ذلك قلة دين وضعف يقين، وإيثار العاجلة على الآجلة (¬1) . وإذا نظرت إليهم دلك صريح ذكرهم على دناءة قلوبهم وبطلان أمرهم (¬2) . ¬

(¬1) بمثل هذه الأوصاف وصفهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في الخطبة التي خطبها على الغرائر في معسكره بالكوفة عندما كان الصحابي الفارس المجاهد القعقاع بن عمرو التميمي يسعى بإتمام المهمة التي جاءت عائشة وطلحة والزبير لإتمامها، فروى الطبري (5: 194) أن عليا ذكر إنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه. وقال على مسمع من قتلة عثمان: " ثم حدث هذا الحادث الذي جره على الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاء الله عليه على الفضيلة، وأرادوا رد الأشياء على أدبارها " ثم ذكر أنه راحل غدا إلى البصرة ليجتمع بأم المؤمنين وأخويه طلحة والزبير وقال: " ألا ولا يرتحلن غدا أحد أعان على عثمان - رضي الله عنه - بشيء في شيء من أمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم ". (¬2) أجملنا في هامش ص 58 أوصاف البارزين ممن خرج على عثمان. أول من اكتشف سريرتهم، ونظر إلى وجوههم بنور الله فتشاءم منهم، رجل الإسلام المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صاحب الفراسة التي لا تخطئ. روى الطبري (4: 86) أن عمر لما استعرض الجيوش للجهاد سنة 14 مرت أمامه قبائل السكون اليمنية مع أول كندة يتقدمهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد ولاتها، فاعترضهم عمر، فإذا فيهم فتية دلم سباط، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض، حتى قيل له: ما لك ولهؤلاء؟ فقال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إلي منهم. فكان منهم سودان بن حمران وخالد بن ملجم وكلاهما من البغاة على عثمان.

التعريف بالغافقي المصري وكنانة بن بشر وسودان بن حمران

[التعريف بالغافقي المصري وكنانة بن بشر وسودان بن حمران] كان الغافقي المصري أمير القوم (¬1) وكنانة بن بشر التجيبي (¬2) ¬

(¬1) هو الغافقي بن حرب العكي من أبناء وجوه القبائل اليمنية التي نزلت مصر عند الفتح. فلما تظاهر ابن سبأ بالتشيع لعلي. ولم يجد مرتفعا لفساده في الحجاز ولا في الشام، اكتفى باصطناع بعض الأعوان في البصرة والكوفة، واختار الإقامة في الفسطاط، فكان الغافقي هذا من قنائصه، وقد استمالوه من ناحية تهافته على الرئاسة والجاه. وكان محمد بن أبي حذيفة بن عتبة الأموي ربيب الآبق من نعمته هو اليد اليمنى لتنفيذ خطط السبئيين في مصر، والغافقي للتصدر والظهور. وفي شوال سنة 35 أعدوا عدتهم للزحف من مصر على المدينة بأربع فرق مجموع رجالها نحو ستمائة، وعلى كل فرقة رئيس ورئيسهم العام الغافقي هذا. وتظاهروا بأنهم يقصدون الحج، وفي المدينة تطورت حركاتهم إلى أن استفحل الأمر ومنعوا عثمان من الصلاة بالناس في المسجد النبوي فصار الغافقي هو الذي يصلي بالناس (الطبري5: 107) . ثم لما أقنعهم الشيطان بالجرأة على الجناية الكبرى كان الغافقي أحد المجترئين عليه وضربه بحديدة معه وضرب المصحف برجله فاستدار (الطبري5: 130) وبعد قتل عثمان بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب. (الطبري 5: 155) . (¬2) وهذا أيضا من قنائص ابن سبأ في مصر. ولما أرسل عثمان عمارا إلى مصر ليكتشف له أمر الإشاعات وحقيقة الحال، استماله السبئيون، وكان كنانة بن بشر هذا واحدا منهم (الطبري 5: 99) . وعندما جمعوا أوشاب القبائل للزحف على المدينة بحيلة الحج في شوال سنة 35 انقسموا في مصر إلى أربع فرق على كل فرقة أمير، وكان كنانة بن بشر أميرا على إحدى هذه الفرق (الطبري 5: 103) ثم كان في طليعة من اقتحم الدار على عثمان وبيده شعلة من نار تنضح بالنفط، فدخل من دار عمرو بن حزم ودخلت الشعل على أثره (الطبري 5: 123) . ووصل كنانة التجيبي إلى عثمان فأشعره مشقصا (أي نصلا طويلا عريضا) فانتضح الدم على آية فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، (الطبري 5: 126) وقطع يد نائلة زوجة عثمان، واتكأ بالسيف على صدر عثمان وقتله (الطبري 5: 131) ، قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد المدني، عن عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم المخزومي المدني المتوفى سنة 43 قال: الذي قتل أمير المؤمنين عثمان هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي (الطبري 5: 123) . وفيه يقول الوليد بن عقبة بن أبي معيط: ألا إن خير الخلق بعد ثلاثة ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر وكانت عاقبة كنانة هذا وقوعه قتيلا في الحرب التي نشبت سنة 38 في مصر بين محمد بن أبي بكر الصديق نائب علي وبين عمرو بن العاص ومن معه من جيش معاوية بن حديج السكوني (الطبري 6: 58 - 59 و 60) .

وسودان بن حمران (¬1) ¬

(¬1) السكوني، من قبائل مراد اليمنية النازلة في مصر، وقد تقدم في هامش ص112 أنه كان - في سنة 14 - أحد الذين قدموا في خلافة عمر للجهاد مع جيوش اليمن بقيادة حصين بن نمير ومعاوية بن حديج، فلما استعرضهم أمير المؤمنين عمر وقع نظره على سودان بن حمران هذا وعلى زميله خالد بن ملجم فتشاءم منهما وكرههما. ولما أرسل أمير المؤمنين عثمان عمارا إلى مصر ليكتشف له مصدر الإشاعات الكاذبة وحقيقة الحال التف السبئيون بعمار وكان سودان بن حمران منهم (الطبري 5: 99) . ولما سير السبئيون متطوعة الفتنة من أوشاب القبائل اليمنية التي في مصر في شوال سنة 35 نحو المدينة وجعلوهم أربع فرق كان سودان قائد إحدى هذه الفرق (الطبري 5: 103) ، ولما وصل متطوعة الفتنة إلى المدينة وخرج لهم محمد بن مسلمة ليعظم لهم حق عثمان وما في رقابهم من البيعة له رآهم ينقادون لأربعة هذا واحد منهم (الطبري 5: 118) . وفي 5: 131 من تاريخ الطبري في وصف تسوّر سودان ومعه آخرون من دار عمرو بن حزم إلى دار عثمان. وفي 5: 130 بعض تفاصيل ما وقع من سودان عند ارتكابهم الجناية العظمى. ولما انتهوا من قتل أمير المؤمنين خرج سودان من الدار وهو ينادي: قد قتلنا عثمان بن عفان (الطبري 5: 123) .

التعريف بعبد الله بن بديل وحكيم بن جبلة والأشتر

[التعريف بعبد الله بن بديل وحكيم بن جبلة والأشتر] وعبد الله بن بُديل بن وَرقاء الخُزاعي (¬1) ¬

(¬1) كان أبوه رجلا مسنا من مسلمة الفتح. وورد ذكر عبد الله بن بديل في الفتنة العظمى على أمير المؤمنين عثمان، فذكر الطبري (5: 124 - 125) أن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة خرج هو وعبد الله بن الزبير ومروان وغيرهم يدافعون عن أمير المؤمنين على باب الدار، فحمل عبد الله بن بديل على الأخنس بن شريق وقتله. ونقل الحافظ ابن حجر في ترجمته في الإصابة (2: 280) عن ابن الكلبي أن عبد الله بن بديل وأخاه عبد الرحمن شهدا صفين مع علي وقتلا بها. والظاهر أن أخاه قتل قبله، فقد نقل ابن حجر (في الإصابة 2: 281) عن ابن إسحاق في كتاب الفردوس أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قدم الكوفة - أي مع جيش أهل الشام - لقي عبد الله بن بديل، فنصح له ابن بديل بأن لا يهرق دمه في هذه الفتنة، فاعتذر عبيد الله بن عمر بأنه يطلب بدم أمير المؤمنين عثمان الذي قتل ظلما. واعتذر ابن بديل بأنه يطلب بدم أخيه الذي قتل ظلما. وكيف يكون أخوه قتل ظلما وقد قتل في فتنة تطوع للمساهمة فيها مختارا، بينما عثمان وهو أمير المؤمنين الذي له حق الولاية عليهم كان مبغيا عليه من ابن بديل وأمثاله ومن هم أقل منه شأنا، ومع ذلك لم يقاتل أحدا، ولم يدافع عن نفسه، ونهى الناس أن يدافعوا عنه أوباشا قدموا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف البلاد ليرتكبوا الشر والإثم. وأين عثمان الذي ملأت حسناته الأرض وتعطرت بأريجها السماء من عبد الرحمن بن بديل الذي لا يكاد يعرف له التاريخ عملا.

وحُكيْم بن جبلة من أهل البصرة (¬1) ¬

(¬1) حُكيم بن جبلة العبدي من قبائل عبد القيس، أصلهم من عُمان وسواحل الخليج الفارسي، وتوطن بالبصرة بعد تمصيرها. وكان حكيم هذا شابا جريئا، وكانت الجيوش الإسلامية التي تزحف نحو الشرق لنشر الدعوة والفتوح تصدر عن البصرة والكوفة، فكان حكيم بن جبلة يرافق هذه الجيوش، ويجازف في بعض حملات الخطر، كما تفعل كتائب (الكوماندوس) في هذا العصر. وقد استعملته جيوش أمير المؤمنين عثمان في إحدى هذه المهمات عند محاولتها استكشاف الهند كما نوهتُ بذلك في مقالة (طلائع الإسلام في الهند) . ويؤكد شيوخ سيف بن عمر التميمي (وهو أعرف المؤرخين بتاريخ العراق) على ما نقله عنه الطبري (5: 90) أن حكيم بن جبلة كان إذا قفلت الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم ويفسد في الأرض ويصيب ما شاء ثم يرجع. فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر أن احبسه ومن كان مثله فلا يخرجن من البصرة حتى تأنسوا منه رشدا، فحبسه (أي منعه من مبارحة البصرة) . فلما قدم عبد الله بن سبأ البصرة نزل على حكيم بن جبلة، واجتمع إليه نفر، فنفث فيهم سمومه. فأخرج ابن عامر عبد الله بن سبأ من البصرة، فأتى الكوفة فأخرج منها، ومن هناك رحل ابن سبأ إلى الفسطاط ولبث فيه وجعل يكاتبهم ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم. وذكر الطبري (5: 104) أن السبئية لما قرروا الزحف من الأمصار على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم كان عدد من خرج منهم من البصرة كعدد من خرج من مصر، وهم مقسمون كذلك إلى أربع فرق، والأمير على إحدى هذه الفرق حكيم بن جبلة، ونزلوا في المدينة في مكان يسمى ذا خشب. ولما حصبوا أمير المؤمنين عثمان وهو يخطب على المنبر النبوي كان حكيم بن جبلة واحدا منهم (الطبري 5: 106) ولما رحل الثوار عن المدينة في المرة الأولى بعد مناقشتهم لعثمان وسماعهم دفاعه واقتناعهم، تخلف في المدينة الأشتر وحكيم بن جبلة (الطبري 5: 120) وفي ذلك شبهة قوية بأن لهم دخلا في افتعال الكتاب المزور على أمير المؤمنين. ولما جاءت عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة وأوشكوا أن يتفاهموا مع أمير المؤمنين عليّ على رد الأمور إلى نصابها كان حكيم بن جبلة هو الذي أنشب القتال لئلا يتم التفاهم والاتفاق (الطبري 5: 176 وما بعدها) . وارتكب دناءة قتل امرأة من قومه سمعته يشتم أم المؤمنين عائشة فقالت له: يا ابن الخبيثة أنت أولى بذلك. فطعنها فقتلها (الطبري 5: 176) ، وحينئذ تخلى قومه عن نصرته إلا الأغمار منهم، وما زال يقاتل حتى قطعت رجله، ثم قتل وقتل معه كل من كان في الوقعة من البغاة على عثمان، ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة: " ألا من كان فيكم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم " فجيء بهم كما يجاء بالكلاب فقتلوا. فما أفلت منهم إلا حرقوص بن زهير السعدي من بني تميم (الطبري 5: 180) . روى عامر بن حفص عن أشياخه قال: ضرب عنق حكيم رجل من الحدَّان يقال له ضخيم فمال رأسه فتعلق بجلده فصار وجهه في قفاه، الطبري (5: 182) .

ومالك بن الحارث الأشتر (¬1) في طائفة هؤلاء رؤوسهم، فناهيك بغيرهم . . . . . . . . . . ¬

(¬1) من النخَع، وهي قبيلة يمنية من قبائل مَذْحج، بطل شجاع من أبطال العرب، كان أول مشاهده الحربية في اليرموك، وفيها فقد إحدى عينيه، ثم شاء الله أن يكون سيفه مسلولا على إخوانه المسلمين في مواقف الفتنة. ولو أنه لم يكن ممن ألب على أمير المؤمنين عثمان، وكتب الله أن تكون وقائعه الحربية في نشر دعوة الإسلام وتوسيع الفتوح، لكان له في التاريخ شأن آخر. والذي دفعه في هذا الطريق غلوه في الدين وحبه للرئاسة والجاه، ولست أدري كيف اجتمعتا فيه. والأشتر أحد الذين اتخذوا الكوفة دار إقامة لهم، فلما كانت إمارة الوليد بن عقبة على الكوفة كان الأشتر يشعر في نفسه بأنه أهل للولاية والرئاسة، فانزلق مع العائبين على الدولة ورجالها، من الخليفة الأعلى في المدينة إلى عامله على الكوفة الوليد بن عقبة. ولما سرق أبو زينب وأبو مورع خاتم الوليد من منزله وذهبا به إلى المدينة فشهدا على الوليد بشرب الخمر كما تقدم في ص96 أسرع الأشتر وآخرون معه بالذهاب إلى المدينة لتوسيع دائرة الفتنة، حتى إذا عزل عثمان الوليد بسعيد بن العاص عاد الأشتر مع سعيد إلى الكوفة، (الطبري 5: 63) . وكان عثمان قد سن نظام مبادلة الأراضي، فمن كانت له أرض من الفيء في مكان بعيد عنه يبادل عليها بأرض قريبة منه بالتراضي بين المتبادلين. وبهذه الطريقة تخلى طلحة بن عبيد الله عن أسهمه في خيبر واشترى بها من فيء أهل المدينة بالعراق أرضا يقال لها النشاستج (الطبري 5: 64) . وبينما كان سعيد بن العاص في دار الإمارة بالكوفة والناس عنده أثنى رجل على طلحة بن عبيد الله بالجود، فقال سعيد بن العاص: لو كان لي مثل أرض النشاستج لأعاشكم الله عيشا رغدا. فقال له عبد الرحمن بن خنيس الأسدي: وودت لو كان هذا الملطاط لك. والملطاط أرض على جانب الفرات كانت لآل كسرى. فغضب الأشتر وأصحابه وقالوا للأسدي: تتمنى له من سوادنا؟ فقال والده: ويتمنى لكم أضعافه. فثار الأشتر وصحبه على الأسدي وأبيه وضربوهما في مجلس الإمارة حتى غشي عليهما. وسمعت بذلك بنو أسد فجاءوا وأحاطوا بالقصر ليدافعوا عن رجليهما، فتلافى سعيد بن العاص هذه الفتنة بحكمته، ورد بني أسد عن الأشتر وجماعته. وكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان في إخراج هؤلاء المشاغبين من بلدهم، فأرسلهم إلى معاوية في الشام (الطبري 5: 85 - 86) ثم أخرجهم معاوية فنزلوا جزيرة ابن عمر تحت حكم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، إلى أن تظاهروا بالتوبة، فذهب الأشتر إلى المدينة ليرفع إلى عثمان توبتهم، فرضي عنه عثمان وأباح له الذهاب حيث شاء، فاختار العودة إلى زملائه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد في الجزيرة (الطبري 5: 87 - 88) . وفي الوقت الذي كان فيه الأشتر يعرض على عثمان توبته وتوبة زملائه وذلك في سنة 34 كان السبئيون في مصر يكاتبون أشياعهم في الكوفة والبصرة بأن يثوروا على أمرائهم واتعدوا يوما، فلم يستقم ذلك إلا لجماعة الكوفة، فثار بهم يزيد بن قيس الأرحبي (الطبري 5: 101) . ولما وصل الأشتر من المدينة إلى إخوانه الذين عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وجد بين أيديهم كتابا من يزيد بن قيس الأرحبي يقول لهم فيه: لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا. فتشاءموا من هذه الدعوة وآثروا البقاء، وخالفهم الأشتر فرجع عاصيا بعد توبته، والتحق بثوار الكوفة وقد نزلوا في الجرعة - مكان مشرف على القادسية - وهناك تلقوا سعيد بن العاص أميرا على الكوفة وهو عائد من المدينة فردوه، ولقي الأشتر مولى لسعيد بن العاص فضرب الأشتر عنقه. وبلغ عثمان أنهم يريدون إقالة سعيد بأبي موسى الأشعري فأجابهم إلى ما طلبوا (الطبري 5: 93 - 94) . ولما فشل موعد سنة 34 واقتصرت الفتنة على ما كان في الجرعة، اتعد السبئيون للسنة التي بعدها (سنة 35) ورتبوا أمرهم على التوجه إلى المدينة مع الحجاج كالحجاج، وكان الأشتر مع خوارج الكوفة رئيسا على فرقة من فرقهم الأربع (الطبري 5: 104) . وبعد وصولهم إلى المدينة ناقشهم أمير المؤمنين عثمان وبين لهم حجته في كل ما كانوا يظنونه فيه، فاقتنع جمهورهم بذلك وحملوا رؤساء الفتنة على الرضا بأجوبة عثمان وارتحلوا من المدينة للمرة الأولى. إلا أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة ولم يرتحلا معهم (الطبري 5: 120) . ولما وصل المصريون إلى مكان يسمى البويب اعترضهم راكب مثل لهم دور حامل الكتاب المزعوم، وسيأتي الحديث عن ذلك في ص 126. ونقل الطبري (5: 194) أن الأشتر كان في مؤتمر السبئيين الذي عقدوه قبيل ارتحال علي من الكوفة إلى البصرة للتفاهم مع طلحة والزبير وعائشة. فقرر السبئيون في مؤتمرهم هذا أن ينشبوا الحرب بين الفريقين قبل أن يصطلحا عليهم. وفي وقعة الجمل اصطرع عبد الله بن الزبير والأشتر واختلفا ضربتين وقال عبد الله بن الزبير كلمته المشهورة: " اقتلوني ومالكا " فأفلت منه مالك الأشتر، روى الطبري (5: 217) عن الشعبي أن الناس كانوا لا يعرفون الأشتر باسم مالك، ولو قال ابن الزبير " اقتلوني والأشتر " وكان للأشتر ألف ألف نفس ما نجا منها شيء، وما زال يضطرب في يدي ابن الزبير حتى أفلت. وروى الطبري (5: 194) أن عليا لما فرغ من البيعة بعد وقعة الجمل واستعمل عبد الله بن عباس على البصرة بلغ الأشتر الخبر باستعمال علي ابن عباس فغضب وقال: " علام قتلنا الشيخ إذن؟ ! اليمن لعبيد الله، والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي! " ثم دعا بدابته فركب راجعا. وبلغ ذلك عليا فنادى: الرحيل! ثم أجد السير فلحق به فلم يره أنه بلغه عنه وقال: " ما هذا السير؟ سبقتنا! ". وخشي إن تُرك والخروج أن يوقع في نفس الناس شرا. ثم اشترك الأشتر في حرب صفين. وولاه علي إمارة مصر بعد صرف قيس بن سعد بن عبادة عنها. فلما وصل القلزم (السويس) شرب شربة عسل فمات، فقيل إنها كانت مسمومة، وكان ذلك سنة 38 (الإصابة 3: 482) .

تسيير عثمان مثيري الفتنة إلى معاوية بالشام

[تسيير عثمان مثيري الفتنة إلى معاوية بالشام] وقد كانوا أثاروا فتنة، فأخرجهم عثمان بالاجتهاد، وصاروا في

جماعتهم عند معاوية (¬1) فذكرهم بالله وبالتقوى لفساد الحال وهتك حرمة ¬

(¬1) أثاروا الفتنة يوم ضربوا عبد الرحمن بن خنيس الأسدي وأباه وهم في دار الإمارة بالكوفة، فكتب أشراف الكوفة وصلحاؤها إلى عثمان بإخراجهم إلى بلد آخر، فسيرهم إلى معاوية في الشام. والذين سيروا إلى معاوية: هم الأشتر النخعي، وابن الكواء اليشكري، وصعصعة بن صوحان العبدي، وأخوه زيد، وكميل بن زياد النخعي، وجندب بن زهير الغامدي. وجندب بن كعب الأزدي، وثابت بت قيس بن منقع، وعروة بن الجعد البارقي، وعمرو بن الحمق الخزاعي.

الأمة (¬1) حتى قال له زيد صوحان - فيما يُروى (¬2) " كما تكثر علينا بالإمرة وبقريش، فما زالت العرب تأكل من قوائم سيوفها وقريش تجار " (¬3) . فقال له معاوية: " لا أم لك. أذكرك بالإسلام وتذكرني بالجاهلية! قبح الله من كثر على أمير المؤمنين بكم، فما أنتم ممن ينفع أو يضر. اخرجوا عني (¬4) . ¬

(¬1) نص كلام معاوية كما رواه الطبري (5: 86) : " إنكم قوم من العرب، لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم، حويتم مراتبهم ومواريثهم. وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، وإن قريشا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم. إن أئمتكم لكم إلى اليوم جنة، فلا تسدوا عن جنتكم. وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم ثم لا يحمدكم على الصبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم ". (¬2) بل القائل أخوه صعصعة. (¬3) وقال أيضا لمعاوية: " وأما ما ذكرت من الجنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا " أي إذا قتلنا ولاتنا صارت الولاية إلينا. ولو أن هذه الكلمة قالها ثائر وهو في قبضة حاكمه - منذ بدأت الحكومات إلى أن تقوم الساعة - ما وجد من حاكمه حلما وسعة صدر كالذي وجده صعصعة من معاوية مع قدرته عليه. (¬4) وجواب معاوية على كلام صعصعة في وصف قريش ومكانتها طويل ونفيس، وقد أورده الطبري (5: 86) .

انتقال مثيري الفتنة إلى منطقة عبد الرحمن بن خالد ومعاملته لهم بالحزم

[انتقال مثيري الفتنة إلى منطقة عبد الرحمن بن خالد ومعاملته لهم بالحزم] وأخبره ابن الكواء بأهل الفتنة في كل بلد ومؤامرتهم (¬1) فكتب إلى عثمان يخبره بذلك، فأرسل إليه بإشخاصهم إليه. فأخرجهم معاوية (¬2) فمروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد (¬3) فحبسهم، ووبخهم، وقال لهم: " اذكروا ما كنتم تذكرون لمعاوية " (¬4) . وحصرهم، وأمشاهم بين يديه ¬

(¬1) قال ابن الكواء فيما نقله الحافظ ابن عساكر في ترجمته من تاريخ دمشق (7: 299) وأبو جعفر الطبري في تاريخه (5: 92) يصف لمعاوية أهل الأحداث من أهل الأمصار: " أما أهل الأحداث من أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر، وأعجزهم عنه. وأما أهل الأحداث من أهل الكوفة فإنهم أنظر الناس في صغير، وأركبه لكبير. وأما أهل الأحداث من أهل البصرة فإنهم يردون جميعا ويصدرون شتى. وأما أهل الأحداث من أهل مصر فهم أوفى الناس بشر، وأسرعه ندامة. وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاه لمغويهم ". (¬2) وكتب فيهم إلى عثمان: " إنه قدم على أقوام ليست لهم عقول ولا أديان. أثقلهم الإسلام، وأضجرهم العدل. لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة. إنما همهم الفتنة، وأموال أهل الذمة. والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم. وليسوا بالذين ينكون أحدا إلا مع غيرهم. فانه سعيدا ومن قبله عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب أو نكير " (الطبري 5: 87) . (¬3) وكان يلي حمص لمعاوية. ويتبعه منطقة الجزيرة - حران والرقة -. (¬4) وذلك بعد قوله لهم: " يا ألة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهل. وقد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد نشاط. خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم حتى يحسركم. يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم، لكي لا تقولوا لي ما يبلغني أنكم تقولون لمعاوية. أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة. والله لئن بلغني يا صعصعة بن ذل أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى " (الطبري 5: 87) .

أذلاء حتى تابوا بعد حول (¬1) . وكتب إلى عثمان بخبرهم، فكتب إليه أن سرحهم إلي. فلما مثلوا بين يديه جددوا التوبة، وحلفوا على صدقهم، وتبرأوا مما نسب إليهم (¬2) وخيرهم حيث يسيرون، فاختار كل واحد ما أراد من البلاد: كوفة، وبصرة، ومصر، فأخرجهم. فما استقروا في حيث ما ساروا حتى ثاروا وألبوا، حتى انضاف إليهم جمع (¬3) ¬

(¬1) كان كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به (صعصعة) قال: يا ابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ ما لك لا تقول كما كان بلغني أنك تقول لسعيد ومعاوية؟ فيقول، ويقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله (الطبري 5: 87 - 88) . (¬2) الذي قدم إلى أمير المؤمنين عثمان في المدينة هو الأشتر النخعي وحده، وهو الذي ناب عن ابني صوحان وابن الكواء والآخرين في تجديد التوبة التي أعلنوها من قبل لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد: غير أن الفتنة لم تكن مقتصرة على هؤلاء، بل كانت جرثومتها في يد ابن سبأ الذي اختار الإقامة في الفسطاط، وكان لها جناح في البصرة، وللأشتر وإخوانه بقية في الكوفة. وبينما كان الأشتر يجدد توبته وتوبة إخوانه في المدينة كان أعوان ابن سبأ يكاتبون البصرة والكوفة في موعد يثبون فيه على ولاتهم، فما رجع الأشتر بتوبته إلى إخوانه الذين كانوا عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد حتى وجد عندهم كتابا من إخوانهم في الكوفة يدعونهم للاشتراك فيما اتعدوا له، فلم يبتهج بهذه الدعوة إلى الفتنة والشر إلا الأشتر الذي لم يكن قد نسي توبته بعد، فأسرع إلى الكوفة وانضم إلى الفتنة التي تسمى في التاريخ (يوم الجرعة) وكان ذلك سنة 34. (¬3) لما أخفق السبئيون في الوثوب على ولاتهم سنة 34 في الموعد الذي وقعت فيه.

مسير فرق الثوار إلى المدينة

[مسير فرق الثوار إلى المدينة] وساروا إليه (¬1) على أهل مصر عبد الرحمن بن عديس البلوي (¬2) ¬

(¬1) أي إلى أمير المؤمنين عثمان في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. (¬2) فارس شاعر، نزل مصر مع جيش الفتح، ولم يعرف له في سيرته شيء انفراد بالامتياز به غير اشتراكه في هذه الفتنة، مع دعواه أنه كان من الذين بايعوا تحت الشجرة. وأظنه لم يكن من الرءوس المدبرين للفتنة، ولكن مدبريها استغلوا ميله إلى الرئاسة، فاستفادوا من سنه ووجاهته بين فرسان القبائل العربية بمصر، وولوه القيادة على إحدى الفرق الأربع التي خرجت من مصر إلى المدينة (وقادة الفرق الثلاث الأخرى: كنانة بن بشر التجيبي، وسودان بن حمران السكوني، وقتيرة السكوني. ورئيسهم الأعلى الغافقي بن حرب العكي) . وكان عبد الرحمن بن عديس في مدة الحصار شديد الوطأة على أمير المؤمنين عثمان وأهل بيته. ثم كانت عاقبته القتل في جبل الجليل بالقرب من حمص، لقيه أحد الأعراب، فلما اعترف له أنه من قتلة عثمان بادر بقتله (معجم البلدان لياقوت: الجليل) . وأخطأ من نسب ابن عديس إلى تجيب، فإنه بلوي من قضاعة. أما تجيب بنت ثوبان المذحجية فلا ينسب إليها إلا بنو ولديها سعد وعدي بن أشرس بن شبيب بن السكون من كندة، وأين كندة من قضاعة! .

وعلى أهل البصرة حكيم بن جبلة (¬1) وعلى أهل الكوفة الأشتر مالك بن الحارث النخعي (¬2) . فدخلوا المدينة هلال ذي القعدة سنة خمس وثلاثين (¬3) . فاستقبلهم عثمان. فقالوا: ادع بالمصحف. فدعا به، فقالوا: افتح التاسعة (¬4) - يعني يونس - فقالوا: اقرأ. فقرأ حتى انتهى إلى قوله: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] قالوا له: قف. قالوا له: أرأيت ما حميت من الحمى، أذن الله لك أم على الله افتريت؟ قال: امضِهْ، إنما نزلت في كذا. وقد حمى عمر، وزادت الإبل فزدت (¬5) . ¬

(¬1) تقدم التعريف به في ص115ـ 116. وهو أمير إحدى الفرق الأربع البصرية (والثلاثة الآخرون: ذريح بن عباد العبدي، وبشر بن شريح "الحطم"، وابن المحرش الحنفي. ورئيسهم الأعلى حرقوص بن زهير السعدي) . (¬2) تقدم التعريف به في ص116ـ 119. وهو أمير إحدى الفرق الأربع الكوفية (والثلاثة الآخرون: زيد بن صوحان العبدي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد الله بن الأصم. ورئيسهم الأعلى عمرو بن الأصم) . (¬3) نزلوا خارج المدينة على ثلاث مراحل منها، ثم تقدم ثوار البصرة فنزلوا في ذي خشب، ونزل ثوار الكوفة الأعوص، ونزل عامتهم بذي المروة. (¬4) كذا في المطبوعة الجزائرية (2: 117) ولعله خطأ صوابه "السابعة" كما في تاريخ الطبري (5: 107) ، ويقال: إن ذلك ترتيب سورة يونس في مصحف ابن مسعود على ما في الفهرست لابن النديم ص39 طبع مصر. (¬5) تقدم الكلام على الحمى في ص72 ـ 73 بقدر ما يحتمل هذا المختصر.

فجعلوا يتبعونه هكذا، وهو ظاهر عليهم. حتى قال لهم: ماذا تريدون؟ فأخذوا ميثاقه، وكتبوا عليه ستا أو خمسا (¬1) أن المنفي يعاد والمحروم يعطى، ويوفر الفيء، ويعدل في القسم، ويستعمل ذوو الأمانة والقوة. فكتبوا ذلك في كتاب. وأخذ عليهم ألا يشقوا عصًا ولا يفرقوا جماعة. ثم رجعوا راضين (¬2) . وقيل أرسل إليهم عليًّا فاتفقوا على الخمس المذكورة، ورجعوا راضين. فبينما هم كذلك (¬3) إذا راكب ¬

(¬1) أي اشترطوا عليه ستة شروط أو خمسة في المعاني الآتية. (¬2) كان الزاحفون من أمصارهم على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فريقين: رؤساء خادعين على درجات متفاوتة، ومرءوسين مخدوعين، وهم الكثرة التي بثت فيها دعايات مغرضة حتى ظنت أن هنالك منفيين مظلومين ومحرومين سلبوا حقهم. . . الخ. وقد رأيت في ص54ـ 55 شهادة أصدق شاهدين في العراق حينئذ وهما الحسن البصري وصنوه ابن سيرين عن وفرة الأعطيات والأرزاق وأنواع الخيرات. حتى كان منادي عثمان ينادي بدعوة الناس لها فلا يمنع عنها أحد. ورأيت في ص100 شهادة الإمام الشعبي عن تعميم الرزق والخير حتى إلى الإماء والعبيد. ولما أصغى عامة الثائرين إلى أجوبة عثمان وعرفوا الحقيقة اقتنعوا ورجعوا، وكان رجوعهم من طريقين مختلفين باختلاف اتجاه أمصارهم فالمصريين اتجهوا شمالا لغرب ليسايروا ساحل البحر الأحمر إلى السويس ومصر، والعراقيون من بصريين وكوفيين اتجهوا شمالا لشرق منجدين ليبلغوا البصرة والكوفة من أرض العراق. (¬3) أي فبينما العراقيون من بصريين وكوفيين في طريقهم نحو الشرق إلى الشمال، والمصريون في طريقهم نحو الغرب إلى الشمال، وبين الفريقين مراحل بعيدة؛ لأنهما تقدما في السير والمسافة تزداد بعدا بينهما.

يتعرض لهم (¬1) . ثم يفارقهم، مرارًا (¬2) قالوا: ما لك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر (¬3) . ففتشوه، فإذا هم بالكتاب على لسان عثمان عليه خاتمه إلى عامل مصر أن يصلبهم ويقطع أيديهم وأرجلهم (¬4) . ¬

(¬1) أي للمصرين وحدهم. (¬2) ولا يتعرض لهم ثم يفارقهم ويكرر ذلك إلا ليلفت أنظارهم إليه. ويثير شكوكهم فيه. وهذا ما أرداه مستأجرو هذا الرجل لتمثيل هذا الدور، ومدبرو هذه المكيدة لتجديد الفتنة بعد أن صرفها الله وأراح المسلمين من شرورها. ولا يعقل أن يكون تدبير هذا الدور التمثيلي صادرا عن عثمان أو مروان أو أي إنسان يتصل بهما، لأنه لا مصلحة لهما في تجديد الفتنة بعد أن صرفها الله، وإنما المصلحة في ذلك للدعاة الأولين إلى إحداث هذا الشغب، ومنهم الأشتر وحكيم بن جبلة اللذان لم يسافرا مع جماعتهما إلى بلديهما، بل تخلفا في المدينة (الطبري 5: 120) ولم يكن لهما أي عمل يتخلفان في المدينة لأجله إلا مثل هذه الخطط والتدابير التي لا يفكران يومئذ في غيرها. (¬3) وقد صرحوا بأنه عبد الله بن سعد بن أبي سرح (الطبري 5: 120) ولا يعقل أن يكتب إليه عثمان أو مروان؛ لأنه كان عقب حركة الثوار من مصر متوجهين إلى المدينة كتب إلى عثمان يستأذنه بالقدوم عليه (الطبري 5: 122) ، وخرج بالفعل من مصر نحو العريش وفلسطين وأيلة (العقبة) وتغلب محمد بن أبي حذيفة على الحكم في مصر، وهو عدو الله ورسوله، وخارج على خليفة المسلمين. فكيف يكتب عثمان أو مروان إلى عبد الله بن سعد وعندهما كتابه الذي يستأذن به في القدوم إلى المدينة؟ . (¬4) الأخبار التي جاء فيها أن الراكب غلام عثمان، وأن الجمل جمل الصدقة، وأن عثمان اعترف بذلك، كلها أخبار مرسلة لا يعرف قائلها. أو مكذوبة أذاعها رواة مطعون في صدقهم وأمانتهم. ومضمون الكتاب اضطربت الروايات فيه، ففي بعض الروايات: "إذا قدم عليك عبد الرحمن بن عديس فاجلده مائة واحلق رأسه ولحيته وأطل حبسه حتى يأتيك أمري. وعمرو بن الحمق فافعل به مثل ذلك. وسودان بن حمران مثل ذلك، وعروة بن التباع الليثي مثل ذلك". وفي رواية: "إذا أتاك محمد بن أبي بكر الصديق ـ وفلان وفلان ـ فاقتلهم وأبطل كتابهم وقر على عملك حتى يأتيك رأيي". وفي رواية ثالثة أن مضمون الكتاب أمر عامله بالقتل والقطع والصلب على هؤلاء الثوار. وهذا الاختلاف في مضمون كتاب واحد مما يزيد الريبة في أمره.

فأقبلوا حتى قدموا المدينة (¬1) فأتوا عليًّا فقالوا له: ألم تر إلى عدو الله. ¬

(¬1) وأعجب العجب أن قوافل الثوار العراقيين التي كانت متباعدة في الشرق عن قوافل الثوار المصريين في الغرب عادتا معًا إلى المدينة في آن واحد، أي أن قوافل العراقيين التي كانت بعيدة مراحل متعددة عن قوافل المصريين ولا علم لها بالرواية المسرحية التي مثلت في البويب رجعت إلى المدينة من الشرق وقت رجوع المصريين من الغرب ووصلتا إلى المدينة معًا كأنما كانوا على ميعاد! ومعنى هذا أن اللذين استأجروا الراكب ليمثل دور حامل الكتاب أمام قوافل المصريين استأجروا راكبًا آخر خرج من المدينة معه قاصدًا قوافل العراقيين ليخبرهم بأن المصريين اكتشفوا كتابًا بعث به عثمان إلى عبد الله بن سعد في مصر بقتل محمد بن أبي بكر. قال الطبري (5: 105) : فقال لهم علي: ((كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة!)) (يشير كرم الله وجهه إلى تخلف الأشتر وحكيم في المدينة، وأنهما هما اللذان دبرا هذه المسرحية. قال الثوار العراقيون بلسان رؤسائهم: ((فضعوه على ما شئتم. لا حاجة لنا إلى هذا الرجل. ليعتزلنا)) وهذا تسليم منهم بأن قصة الكتاب مفتعلة، وأن الغرض الأول والأخير هو خلع أمير المؤمنين عثمان وسفك دمه الذي عصمه الله بشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

كتب فينا بكذا؟ وقد أحل الله دمه، قالوا له: فقم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال: والله ما كتبت إليكم، فنظر بعضهم إلى بعض (¬1) وخرج علي من المدينة. ¬

(¬1) الطبري (5: 108) . وهذا الحوار بين علي والثوار مجمع عليه في كل الروايات وهو نص قاطع على أن اليد التي زورت الكتاب على عثمان وبعثت إلى العراقيين تخبرهم بذلك وتطلب منهم أن يعودوا إلى المدينة، هي اليد التي زورت على علي كتابًا إلى الثوار العراقيين بأن يعودوا. وقد قلنا في ص 125 أن الثوار فريقان - خادع ومخدوع - فالذين نظر بعضهم إلى بعض عندما حلف علي بأنه لم يكتب إليهم هم من الفريق المخدوع يتعجب كيف لم يكتب علي إليهم وقد جاءهم كتابه. ومن ذا الذي يكون قد كتب الكتاب على لسانه إذا لم يكن هو الذي كتبه؟ وسيأتي في ص 136 أن مسروق بن الأجدع الهمداني - وهو من الأئمة الأعلام المقتدى بهم - عاتب أم المؤمنين عائشة بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان، فأقسمت له بالذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون أنها ما كتبت إليهم سوادًا في بياض. قال سليمان بن مهران الأعمش - أحد الأئمة الأعلام الحفاظ -: ((فكانوا يرون أنه كتب على لسانها)) . أيها المسلمون في هذا العصر وفي كل عصر، إن الأيدي المجرمة التي زورت الرسائل الكاذبة على لسان عائشة وعلي وطلحة والزبير هي التي رتبت هذا الفساد كله، وهي التي طبخت الفتنة من أولها إلى آخرها، وهي التي زورت الرسالة المزعومة على لسان أمير المؤمنين عثمان إلى عامله في مصر في الوقت الذي كان يعلم فيه أنه لم يكن له عامل في مصر، وقد زورت هذه الرسالة على لسان عثمان بالقلم الذي زورت به رسالة أخرى على لسان علي، كل ذلك ليرتد الثوار إلى المدينة بعد أن اقتنعوا بسلامة موقف خليفتهم، وأن ما كان قد أشيع عنه كذب كله، وأنه كان يتصرف في كل أمر بما كان يراه حقًا وخيرًا. ولم يكن صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشر منه بالشهادة والجنة هو المجني عليه وحده بهذه المؤامرة السبئية الفاجرة، بل الإسلام نفسه كان مجنيًا عليه قبل ذلك. والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخ ماضيها الطاهر الناصع مشوهًا ومحرفًا هي كذلك ممن جنى عليهم ذلك اليهودي الخبيث، والمنقادون له بخطام الأهواء والشهوات.

وقائع ومحاورات بين عثمان والبغاة عليه

فانطلقوا إلى عثمان فقالوا له: كتبت فينا كذا. قال لهم إما أن تقيموا اثنين من المسلمين، أو يميني - كما تقدم ذكره - فلم يقبلوا ذلك منه (¬1) . ونقضوا عهده (¬2) وحصروه. [وقائع ومحاورات بين عثمان والبغاة عليه] وقد روي أن عثمان جيء إليه بالأشتر، فقال له: يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك، أو تقص منها، أو يقتلوك! فقال: أما خلعي فلا أترك أمة محمد بعضها على بعض. وأما القصاص، فصاحباي قبلي لم يقصا من أنفسهما، ولا يحتمل ذلك بدني (¬3) . وروي أن رجلًا قال له: نذرت دمك. قال: خذ جبتي. فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه دمه، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين (¬4) . ¬

(¬1) لأنهم ما جاءوا ليقبلوا حقًا أو يرجعوا إلى شرع، وإنما جاءوا ليخلعوه أو يسفكوه دمه. (¬2) الذي تقدم في ص 125 أنهم قطعوه على أنفسهم بأن لا يشقوا عصًا ولا يفرقوا جماعة. (¬3) هذا الخبر في تاريخ الطبري (5: 117 - 118) ، وفي البداية والنهاية (7: 184) ، وفي أنساب الأشراف للبلاذري (5: 92) . (¬4) هذا الخبر في كتاب (التمهيد) للإمام أبي بكر الباقلاني ص 216. وأعجب من ذلك ما رواه الطبري (5: 137 - 138) أن عمير بن ضابئ البرجمي وكميل بن زياد النخعي حضرا إلى المدينة ليغتالا عثمان تنفيذا لقرار اتخذوه في الكوفة مع بقية عصابتهم، فلما وصلا إلى المدينة نكل عمير، وترصد كميل للخليفة حتى مر به، فلما التقيا ارتاب منه عثمان، ووجأ وجهه فوقع على استه، فقال لعثمان: أوجعتنى يا أمير المؤمنين، قال عثمان: أولست بفاتك؟! قال: لا والله الذي لا إله إلا هو. فاجتمع الناس وقالوا: نفتشه يا أمير المؤمنين فقال: لا. قد رزق الله العافية، ولا أشتهي أن أطلع منه على غير ما قال. ثم قال لكميل: ((إن كان كما قلت فاقتد مني (وجثَا) فوالله ما حسبتك إلا تريدني)) وقال: ((إن كنت صادقًا فأجزل الله، وإن كنت كاذبًا فأذل الله)) وقعد له على قدميه وقال ((دونك!)) فقال كميل: ((تركت)) . أيها القارئ الكريم، إن هذا الموقف ليس موقف خليفة فضلًا عمن دونه، بل هو موقف المتخلقين بأخلاق الأنبياء. على أن الله يمهل ولا يهمل. فقد جاء الحجاج بعد أربعين سنة فقتل ضابئًا وقتل كميلا بما أراداه في هذا الحادث من الفتك برجل خلق قلبه من رحمة الله، و (إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته) .

فتوى ابن عمر لعثمان بألا يخلع نفسه لئلا تتخذ عادة

[فتوى ابن عمر لعثمان بألا يخلع نفسه لئلا تتخذ عادة] ولقد دخل عليه ابن عمر، فقال [له عثمان] : انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك، قال له [ابن عمر] : أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا، قال: هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عنك، فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه (¬1) . ¬

(¬1) أورد البلاذري هذا الخبر في أنساب الأشراف (5: 76) من حديث نافع عن ابن عمر. وقبل أن يفتي ابن عمر لخليفته بذلك ويدعوه إلى هذه التضحية النبيلة كان عثمان على بينة من ذلك ونور من الله، فقد أخرج ابن ماجه في مقدمة سننه (رقم 112 الباب 11 ج ص 41) من حديث النعمان بن بشير عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: ((يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يومًا فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه)) يقول ذلك ثلاث مرات. وفي مسند الإمام أحمد (ج 6 الطبعة الأولى: ص 75 و 86 و 114 و 149) حديث عائشة هذا بألفاظ مختلفة يرويه عنها ابن أختها عروة بن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهما.

إشراف عثمان على الناس واستشهاده إياهم بسوابقه

[إشراف عثمان على الناس واستشهاده إياهم بسوابقه] وقد أشرف عليهم عثمان، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين رجف بهم أحد. وأقروا له به في أشياء ذكرها (¬1) . وقد ثبت أن عثمان أشرف عليهم وقال: أفيكم ابنا محدوج؟ أنشدكما الله ألستما تعلمان أن عمر قال: إن ربيعة فاجر أو غادر وإني والله لا أجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر، وإنما مهر أحدهم عند طبيبه. وإني زدتهم في غزاة واحد خمسمائة، حتى ألحقتهم بهم؟ قالوا: بلى. قال: أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما، إن كندة أكلة رأس، وإن ربيعة هي الرأس، وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه واستعملتكما؟ قالا: بلى. قال، اللهم إنهم كفروا معروفي، وبدلوا نعمتي، فلا ترضهم عن ¬

(¬1) انظر في مسند الإمام أحمد (1: 59 الطبعة الأولى رقم 420 الطبعة الثانية) حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن. وسنن النسائي (2: 124 - 125) وجامع الترمذي (4: 319 - 320) * وفي مسند أحمد (1: 70 الطبعة الأولى رقم 511 الطبعة الثانية من حديث الأحنف بن قيس التميمي. وسنن النسائي مطولًا ومختصرًا (2: 65 - 66 و 123 - 124) * وفي تاريخ الطبري (5: 225) من حديث أبي سعيد مولى أبي سيد الأنصاري.

موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار

إمامهم ولا ترض إمامًا عنهم. [موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار] وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه (¬1) . ثم قال: قم يا ابن عمر - وعلى ابن عمر سيفه متقلدًا - فأخبر به الناس (¬2) . ¬

(¬1) الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين. إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة. وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته، فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم (الطبري 5: 101) . وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه. فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافًا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف. والأخبار بذلك مستفيضة في مصدر أوليائه وشانئيه. على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه البغاة، وتضع حدًا لغطرستهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدًا. (¬2) في البداية والنهاية (7: 182) عن (مغازي ابن عقبة) أن ابن عمر لم يلبس سلاحه إلا يوم الدار في خلافة عثمان، ويوم أراد نجدة الحروري أن يدخل المدينة مع الخوارج أيام عبد الله بن الزبير.

اعتزام الأنصار الدفاع عن عثمان

فخرج ابن عمر و [الحسن بن] علي. ودخلوا فقتلوه (¬1) . [اعتزام الأنصار الدفاع عن عثمان] وجاء زيد بن ثابت فقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله [مرتين] . قال [عثمان] لا حاجة بي في ذلك، كفوا (¬2) . ¬

(¬1) في تاريخ الطبري (5: 129) : كان آخر من خرج عبد الله بن الزبير أمره عثمان أن يصير إلى أبيه بوصيته التي كتبها استعدادًا للموت، أمره أن يأتي أهل الدار (أي المدافعين عنه في ساحة القصر) فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم. فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم، فما زال يدعى بها ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه، وإنما أوصى عثمان إلى الزبير لأن الزبير كان محل الثقة من كبار الصحابة. روى الحافظ ابن عساكر (5: 362) أن سبعة من الصحابة أوصوا به: عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، والمقداد، ومطيع بن الأسود، وأبو العاص بن الربيع، فكان ينفق على أيتامهم من ماله، ويحفظ لهم أموالهم. (¬2) أورده البلاذري في أنساب الأشراف (5: 73) من حديث ابن سيرين، وأخرج الحافظ ابن عساكر عن مؤرخ الصدر الأول موسى بن عقبة الأسدي (الذي قال فيه الإمام مالك: عليكم بمغازي ابن عقبة، فإنه ثقة، وهي أصح المغازي) أن أبا حبيبة الطائي (وهو ممن يروي عنهم أبو داود والنسائي والترمذي) قال: لما حصر عثمان جاء بنو عمرو بن عوف إلى الزبير فقالوا يا أبا عبد الله نحن نأتيك ثم نصير إلى ما تأمرنا به (أي من الدفاع عن أمير المؤمنين) قال أبو حبيبة: فأرسلنى الزبير إلى عثمان فقال: أقرئه السلام وقل ((يقول لك أخوك: إن بني عمرو بن عوف جاءوني ووعدوني أن يأتوني ثم يصيروا إلى ما أمرتهم به. فإن شئت أن آتيك فأكون رجلًا من أهل الدار يصيبني ما يصيب أحدهم، فعلت. وإن شئت انتظرت ميعاد بني عمرو فأدفع بهم عنك فعلت)) قال أبو حبيبة: فدخلت عليه - أي على عثمان - فوجدته على كرسي ذي ظهر ووجدت رياطًا مطروحة ومراكن مغلوة، ووجدت في الدار الحسن بن علي، وابن عمر وأبا هريرة، وسعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، فأبلغت عثمان رسالة الزبير، فقال: ((الله أكبر، الحمد لله الذي عصم أخي. قل له: إنك إن تأت الدار تكن رجلًا من المهاجرين، حرمتك حرمة رجل، وغناؤك غناء رجل. ولكن انتظر ميعاد بني عمرو بن عوف فعسى الله أن يدفع بك)) . قال: فقام أبو هريرة فقال: أيها الناس، لقد سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((تكون بعدي فتن وأحداث)) فقلت: وأين النجاء منها يا رسول الله؟ قال: ((الأمير وحزبه)) وأشار إلى عثمان. فقال القوم: ائذن لنا فلنقاتل، فقد أمكنتنا البصائر. فقال [عثمان] : ((عزمت على أحد كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل)) . قال: فبادر - أي سبق - الذين قتلوا عثمان ميعاد بني عمرو بن عوف فقتلوه (وانظر الخبر مختصرًا في كتاب ((نسب قريش)) للزبيري ص 103) . وبنو عمرو بن عوف قبيلة كبيرة من الخزرج، أحد فرعي الأنصار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرًا من مكة نزل ضيفًا عليهم ثلاثة أيام ثم انتقل إلى بني النجار.

وقال له أبو هريرة: اليوم طاب الضرب معك. قال: عزمت عليك لتخرجن (¬1) . وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم، ولزوم بيوتهم. فقال له ابن الزبير ومروان: نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح. ففتح ¬

(¬1) هذا الخبر في تاريخ الطبري (5: 129) .

عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال (¬1) . فقتله المرء الأسود (¬2) . وقيل: أخذ ابن أبي بكر بلحيته، وذبحه كنانة (¬3) وقيل: رجل من أهل مصر يقال له حمار (¬4) فسقطت قطرة من دمه على المصحف ¬

(¬1) أصل هذا الخبر في تاريخ الطبري (5: 128) عن سيف بن عمر التميمي عن أشياخه. (¬2) كذا في مطبوعة الجزائر. والذي في تاريخ الطبري (5: 125) ((الموت الأسود)) ، والأصول التي طبع عليها تاريخ الطبري أصح من الأصول التي طبع عليها كتابنا في الجزائر، ومن الثابت أن ابن سبأ كان من ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة (الطبري 5: 103 - 104) وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار، فلعل ((الموت الأسود)) اسم مستعار له أراد أن يرمز به ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام. (¬3) هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي قائد إحدى الفرق المصرية الأربع وكان قبل ذلك أحد الذين التفوا بعمار بن ياسر في الفسطاط ليجعلوه سبئيًا، وهو أول داخل إلى دار عثمان بالشعلة من النفط ليحرق باب الدار، وهو الذي اخترط السيف ليضعه في بطن أمير المؤمنين، فوقته زوجته نائلة فقطع يدها واتكأ بالسيف عليه في صدره، وكانت عاقبة التجيبي القتل مخذولًا في المعركة التي نشبت في مصر بين محمد بن أبي بكر وعمرو بن العاص سنة 38. وقد تحرف ((كنانة)) في مطبوعة الجزائر برسم ((رومان)) ومطبوعة الجزائر كثيرة التحريف. (¬4) لم أر هذا الاسم فيمن اجترءوا على ارتكاب الجريمة العظمى، ولعل النساخ حرفوا اسم سودان بن ((حمران)) ، أو اسم عمرو بن ((الحمق)) .

تزويرهم الكتب على لسان عائشة

على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ} [البقرة: 137] فإنها ما حكت إلى الآن. [تزويرهم الكتب على لسان عائشة] وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت: ((غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف!؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى، ومصتموه موص الإناء، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم قتلتموه (¬1) . قال مسروق (¬2) فقلت لها: ((عملك، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه)) . فقالت عائشة: ((والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوادًا في بياض)) . قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها (¬3) . وقد روي أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر. قال القاضي أبو بكر (رحمه الله) : فهذا أشبه ما روي في الباب وبه يتبين - وأصل المسألة سلوك سبيل الحق - أن أحدًا من الصحابة لم يسع عليه، ولا قعد عنه. ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ¬

(¬1) قالت ذلك أول مرة عند وصولها إلى المدينة عائدة من الحج، فاجتمع إليها الناس وخطبت فيهم خطبة بليغة وردت هذه الجملة في آخرها (الطبري 5: 165 -166) . والموص: الغسل بالأصابع. والقند: عسل قصب السكر إذا جمد. (¬2) هو من أئمة التابعين المقتدى بهم، توفي سنة 63. وهو الذي قال لعمار بالكوفة قبل يوم الجمل: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. فقال مسروق: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيرًا للصابرين (الطبري 5: 187) . (¬3) كما كتب على لسان علي ولسان عثمان.

الحكم الفقهي في موقف عثمان من الدفاع عنه أو الاستسلام

ألفًا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة (¬1) . [الحكم الفقهي في موقف عثمان من الدفاع عنه أو الاستسلام] وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها: هل يلقي بيده، أو يستنصر (¬2) ؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقي بيده اقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الفتنة (¬3) . قال القاضي أبو بكر (رحمه الله) : ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر، واشتد الخطب على أهل الغصب، وعظم على الفسقة الكرب، ¬

(¬1) لأنه اختار بذلك أهون الشرين فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين، وعثمان افتدى دماء أمته بدمه مختارًا فما أحسن الكثيرون منا جزاءه، وإن أوربا وأمريكا تعبدان بشرًا بزعم الفداء ولم يكن فيه مختارًا. (¬2) من سياسة الإسلام أن يختار المرء في كل حالة أقلها شرًا وأخفها ضررًا، فإذا كانت للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته فالإسلام يهدي إلى قمع الشر بقوة الخير بلا تردد. وإن لم يكن للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته - كما كانت الحال في موقف أمير المؤمنين عثمان من البغاة عليه - فمصلحة الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان أعلى الله مقامه في دار الخلود. (¬3) وهو قوله صلى الله عليه وسلم على ما رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب (ك 61 ب 25 - ج 4 ص 177) وفي كتاب الفتن (ك 92 ب 9 - ج 8 ص 92) من صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. ومن يشرف لها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذًا فليعذ به)) . وأعلن أبو موسى الأشعري في الكوفة قبل وقعة الجمل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطبري 5: 188) .

اقتداء المؤلف بعثمان في مثل موقفه

فتألبوا وألبوا، وثاروا إلي، فاستسلمت لأمر الله، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي، وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار (¬1) . [اقتداء المؤلف بعثمان في مثل موقفه] وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور: أحدها وصاية النبي صلى الله عليه وسلم المتقدمة (¬2) والثاني الاقتداء بعثمان، الثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي (¬3) . فإن من غاب عني، بل من حضر من الحسدة معي، خفت أن يقول: إن الناس مشوا إليه مستغيثين به فأراق دماءهم. وأمر عثمان كله سنة ماضية، وسيرة راضية. فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك، وأنه بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأنه شهيد (¬4) . وروي أنه قال له في المنام: إن شئت نصرتك، أو تفطر عندنا الليلة (¬5) . ¬

(¬1) أشرنا إلى ظروف هذا الحادث في ترجمة المؤلف أول هذا الكتاب (ص 26) . (¬2) وقد نقلناها آنفًا من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري، ومن حديث أبي موسى في الكوفة قبل وقعة الجمل. (¬3) وذلك لما قال ابن سلول في غزوة بني المصطلق ((إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)) ، فأراد عمر أن يقتله فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) . (¬4) تقدم بيان ذلك في ص 55 و 56. (¬5) هذه الرواية لابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سلام في البداية والنهاية (7: 182 - 183) ، ومن طريق آخر عنه في أنساب الأشراف للبلاذري (5: 82) وفي مسند أحمد (1: 72 الطبعة الأولى، رقم 526 الثانية) من حديث مسلم أبي سعيد مولى عثمان قال: إن عثمان أعتق عشرين مملوكًا، ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام ورأيت أبا بكر وعمر، إنهم قالوا لي: ((اصبر، فإنك تفطر عندنا القابلة)) . ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه، فقتل وهو بين يديه. وروى الإمام أحمد هذا الحديث عن نائلة زوجة عثمان (1: 73 رقم 536) بقريب من هذا. وفي البداية والنهاية (7: 182) من حديث أيوب السختياني عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومن طرق أخرى متعددة. وانظر تاريخ الطبري (5: 125) .

تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار

[تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار] وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبًا مؤلبًا، وبما جرى عليه راضيًا. واخترعوا كتابًا فيه فصاحة وأمثال كتب عثمان به مستصرخًا إلى علي. وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين (¬1) . قال القاضي أبو بكر: فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم، ¬

(¬1) هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها أسفار الأخبار وكتب الأدب. ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان: أحدهما طريق أهل الحديث في ألا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم ثم يستعرضون أحوال هؤلاء الأشخاص فيقبلون من صادقهم، ويضربون وجه الكذاب بكذبه. والطريق الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل خبر على سجيا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته، وهل هو ممن ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا. وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معا يقوم بهما علماء راسخون فيهما.

تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار

محجوج بغير حجة (¬1) . وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له رايه في إسلام نفسه. [تشويه أخبار الصحابة وطريقتا المحدثين والمؤرخين في نقد الأخبار] ولقد ثبت - زائدًا إلى ما تقدم عنهم - أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان: إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم. فأذن لنا. فقال: أذكر الله رجلًا أراق لي دمه (أو قال دمًا) (¬2) . وقال سليط بن أبى سليط: نهانا عثمان عن قتالهم، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن أقطارها (¬3) . ¬

(¬1) كما تبين في هذا الكتاب بأسانيده القاطعة وانظر كتاب (التمهيد) للإمام أبي بكر الباقلاني (ص 220 - 227) . (¬2) ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى المدينة كان أول المسرعين منهم المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي، فأدرك عثمان قبل أن يقتل، وشهد المناوشة على باب دار عثمان، فجلس على الباب من داخل وقال: ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت. وكان أول من برز للبغاة المهاجمين وقاتل حتى قتل. وخرج معه لقتالهم الحسن بن علي بن أبي طالب وهو يقول في تسفيه عمل البغاة: لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام أي: إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه. وخرج معهما محمد بن طلحة بن عبيد الله - وكان يعرف بالسجاد لكثرة عبادته - وهو يقول: أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزابا على رغم معد انظر تاريخ الطبري (5: 128 - 129) . (¬3) رواه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (2: 118 - 119 هامش الإصابة) من حديث ابن سيرين عن سليط. وأورده الحافظ ابن حجر مختصرًا في الإصابة (2: 72) .

وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: كنت مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعًا وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم غناءً من كف يده وسلاحه (¬1) . وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان: أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم (¬2) . ¬

(¬1) وفي تاريخ الطبري (5: 127) أن عثمان دعا عبد الله بن عباس فقال له: اذهب فأنت على الموسم (أي على إمارة الحج) فقال ابن عباس: "والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج". فأقسم عليه لينطلقن، فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة. (¬2) وفي البداية والنهاية (7: 181) : كان الحصار مستمرًا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة. فلما كان قبل ذلك بيوم، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبًا من سبعمائة، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم لمنعوه -: ((أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله)) قال لرقيقه ((من أغمد سيفه فهو حر)) ، فبرد القتال من داخل، وحمي من خارج. حتى كانت الساعة التي تم فيها للشيطان ما سعى له وتمناه فانتدب للخليفة رجل من البغاة فدخل عليه البيت فقال: اخلعها وندعك، فقال: ((ويحك)) والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت، ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست خالعًا قميصًا كسانيه الله عز وجل. وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء (الطبري 5: 130) . ويكفي لبيان ما كان لهذه الفاجعة الكبرى من الأثر في النفوس ما نقله البلاذري في أنساب الأشراف (5: 103) عن المدائني عن سلمة بن عثمان عن علي بن زيد عن الحسن قال: دخل علي يومًا على بناته وهن يمسحن عيونهن فقال: ما لكن تبكين؟ قلن: نبكي على عثمان. فبكى وقال: ابكين. . . . .

المدينة في حكم الإرهابيين خمسة أيام بلا خليفة ثم بويع علي

[المدينة في حكم الإرهابيين خمسة أيام بلا خليفة ثم بويع عليّ] فلما قضى الله من أمره ما قضى، ومضى في قدره ما مضى، علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه. ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرًا وعلمًا وتقى ودينًا، فانعقدت له البيعة. ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه. ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار، ورأى ذلك فرضًا عليه، فانقاد إليه (¬1) . ¬

(¬1) في تاريخ الطبري (5: 155) عن سيف بن عمر التميمي عن أشياخه قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه: يأتي المصريون عليًّا فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة (أي يختبئ في بساتينها) فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة. ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه. فأرسلوا إليه حيث هو رسلا فباعدهم وتبرأ من مقالتهم. . . فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع. فأقدم نبايعك. فبعث إليهم: وإني وابن عمر خرجنا منها، فلا حاجة لي فيها. ثم إنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر. فقال: إن لهذا الأمر انتقامًا، والله لا أتعرض له فالتمسوا غيري. وأخرج الطبري (5: 156) عن الشعبي قال: أتى الناس عليًّا وهو في سوق المدينة وقالوا له: ابسط يدك نبايعك. قال: لا تعجلوا، فإن عمر كان رجلًا مباركًا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون. فارتد الناس عن علي. ثم قال بعضهم: إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة. فعادوا إلى علي، فأخذ الأشتر بيده، فقبضها علي. فقال: أبعد ثلاثة؟ أما والله لئن تركتها لتعصرن عينيك عليها حينًا. فبايعته العامة. وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه الأشتر. وروى سيف عن أبي حارثة محرز العبشمي وعن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني قالا: لما كان يوم الخميس -على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان- جمعوا أهل المدينة، فوجدوا سعدا والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له. . . فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأمة، فانظروا رجلًا تنصبونه ونحن لكم تبع. فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون. . . فقال علي: دعوني والتمسوا غيري. . . فقالوا: ننشدك الله، ألا ترى الفتنة، ألا تخاف الله؟ فقال: إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني، فإنما أنا كأحدكم، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد (أي يوم الجمعة) : فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد، جاء علي حتى صعد المنبر فقال: ((يا أيها الناس عن ملأ وأذن. إن هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق إلا أن أمرتم. وقد افترقنا بالأمس على أمر. فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد)) فقالوا ((نحن على ما فارقناك عليه بالأمس)) . وهذه الوقائع على بساطتها تدل على أن بيعة علي كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدرها وفي إبانها، وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها، لا من وصية سابقة مزعومة، أو رموز خيالية موهومة.

قولهم في بيعة طلحة يد شلاء وفي طلحة والزبير بايعا مكرهين

[قولهم في بيعة طلحة يد شلاء وفي طلحة والزبير بايعا مكرهين] وعقد له البيعة طلحة، فقال الناس: بايع عليًّا يد شلاء، والله لا يتم هذا الأمر (¬1) . فإن قيل: بايعا مكرهين (¬2) . قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن ¬

(¬1) قائل هذه الكلمة حبيب بن ذؤيب. رواه الطبري (5: 153) عن أبي المليح الهذلي. (¬2) يعني طلحة والزبير.

بايعهما. ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحدًا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعًا. ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام (¬1) . وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع، ولم يكن كذلك (¬2) . فإن قيل: فقد قال طلحة: ((بايعت واللج على قفي)) (¬3) . قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في ((القفا)) لغة ((قفي)) كما يجعل في ((الهوى)) : ((هوي)) وتلك لغة هذيل لا قريش (¬4) فكانت كذبة لم تدبر. وأما قولهم ((يد شلاء)) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل ¬

(¬1) القاضي ابن العربي يقرر هنا الحكم الشرعي في عقد البيعة، لا على أنه رأي له. وللإمام أبي بكر الباقلاني كلام سديد في (التمهيد) ص 231. وانظر ص 167 - 169 من كتاب (الإمامة والمفاضلة) لابن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتابه (الفصل) . (¬2) وقد علمت أن أهل الكوفة يقولون إن الأشتر كان أول من بايع. ولو كانت يد طلحة هي الأولى في البيعة لكانت أعظم بركة، لأنها يد دافعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويد الأشتر لا تزال رطبة من دم إمامه الشهيد المبشر بالجنة. (¬3) أي: والسيف على قفاي، لحالة الإرهاب التي كانت سائدة على المدينة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان. (¬4) بل هي أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل، فقد قال ابن الأثير في النهاية (مادة لجج) أنها لغة طائية، يشددون ياء المتكلم.

مكروه (¬1) . وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه. فإن قيل: بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان. قلنا: هذا لا يصح في ¬

(¬1) كان طلحة من العصابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت يوم أحد حين انهزم المسلمون، فصبروا ولزموا. ورمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان لا يخطئ رميه - فاتقاه طلحة بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك سبب الشلل في يده من خنصره. وأقبل رجل من بني عامر يجر رمحًا على فرس كميت أغر مدججًا من الحديد يصيح: أنا أبو ذات الودع دلوني على محمد. فضرب طلحة عرقوب فرسه، فاكتسعت. ثم تناول رمحه فلم يخطئ به عن حدقته، فخار كما يخور الثور، فما برح طلحة واضعًا رجله على خده حتى مات. قالت بنتاه - عائشة وأم إسحاق -: جرح أبونا يوم أحد أربعًا وعشرين جراحة في جميع جسده، وقد غلبه الغشي، وهو مع ذلك محتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسرت رباعيتاه يرجع به القهقرى، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى طلحة: ((من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)) رواه أبو نعيم الأصبهاني. وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كان يوم طلحة. وسمع علي بن أبي طالب رجلًا يقول بعد يوم الجمل: ومن طلحة؟ فزبره علي وقال: إنك لم تشهد يوم أحد، لقد رأيته وإنه ليحترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن السيوف لتغشاه وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرج الحافظ ابن عساكر (7: 78) من طريق ابن مندة عن طلحة قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد (طلحة الخير) ، وفي غزوة العسرة (طلحة الفياض) ويوم حنين (طلحة الجود) .

شرط البيعة، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب، وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة، ويقع الحكم. فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق، أو فعل غير محقق، أو سماع كلام، فليس ذلك في دين الإسلام (¬1) . قالت العثمانية: تخلف عنه من الصحابة جماعة، منهم سعد بن أبي ¬

(¬1) وانظر (التمهيد) للباقلاني ص 231 و 235 و 236: وحقيقة موقف علي من قتلة عثمان عند البيعة له كانوا هم المسئولين على زمام الأمر في المدينة وفي حالة الإرهاب التي كانت سائدة يومئذ لم يكن في استطاعة علي ولا غيره أن يقف منهم مثل موقف الصحابة من عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان. مع الفارق العظيم بين دم أمير المؤمنين الخليفة الراشد، والأسير الحربي المجوسي الذي قال إنه أسلم بعد وقوعه في الأسر. ولما انتقل علي من المدينة إلى العراق ليكون على مقربة من الشام انتقل معه قتلة عثمان ولا سيما أهل البصرة والكوفة منهم، فلما صاروا في بصرتهم وكوفتهم في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم، ولا شك أن عليًّا أعلن البراءة منهم وأراد أن يتفق مع أصحاب الجمل على ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الشأن، فأنشب قتلة عثمان القتال بين معسكر علي ومعسكر أصحاب الجمل، وتمكن أصحاب الجمل من قتل البصريين من قتلة عثمان إلا واحدا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم حمته قبيلته، فلما اتسعت الأمور وسفكت الدماء كان علي في موقف يحتاج فيه إلى بأس هؤلاء المعروفين بأنهم من قتلة عثمان وفي مقدمتهم الأشتر وأمثاله، وأن كثيرين منهم انقلبوا على علي بعد ذلك وخرجوا عليه معتقدين كفره. ويقول علماء السنة والمؤرخون: إن الله كان بالمرصاد لقتلة عثمان، فانتقم منهم بالقتل والنكال واحدًا بعد واحد، حتى الذين طال بهم العمر إلى زمن الحجاج كانت عاقبتهم سفك دمائهم جزاء بما قدمت أيديهم والله أعدل الحاكمين.

قاصمة

وقاص، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم. قلنا: أما بيعته فلم يتخلف عنها. وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم، لأنها كانت مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره (¬1) . [قاصمة] [اجتماع أصحاب الجمل بمكة وخروجهم إلى البصرة] قاصمة روى قوم أن البيعة لما تمت لعلي استأذن طلحة والزبير عليًّا في الخروج إلى مكة (¬2) . فقال لهما علي: لعلكما تريدان البصرة والشام. فأقسما ألا يفعلا (¬3) . وكانت عائشة بمكة (¬4) . ¬

(¬1) وانظر (التمهيد) للباقلاني ص 233 - 234. (¬2) وممن استأذنه في الخروج إلى مكة عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسبب ذلك أن عليًّا لما تمت له البيعة عزم على قتال أهل الشام. وندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه، فطلب عبد الله بن عمر وحرضه على الخروج معه فقال: إنما أنا رجل من أهل المدينة إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، لكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة (ابن كثير 7: 230) وكان الحسن بن علي مخالفًا لأبيه في أمر الخروج لمقاتلة أهل الشام ومفارقته المدينة كما ترى فيما بعد. (¬3) قول علي لهما وقسمهما له من زيادات مرتكبي (القاصمة) ورواتها. (¬4) ذهبت إليها وأمهات المؤمنين لما قطع البغاة الماء عن أمير المؤمنين عثمان وأخذ يستسقي الناس، فجاءته أم حبيبة بالماء فأهانوها، وضربوا وجه بغلتها، وقطعوا حبل البغلة بالسيف (الطبري 5: 127) ، فتجهز أمهات المؤمنين إلى الحج فرارًا من الفتنة (ابن كثير 7: 229) .

خرافة الحوأب وشهادة الزور

وهرب عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة إلى مكة، ويعلى بن أمية عامل عثمان على اليمن. فاجتمعوا بمكة كلهم، ومعهم مروان بن الحكم. واجتمعت بنو أمية، وحرضوا على دم عثمان، وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة ألف درهم، وأعطى لعائشة ((عسكرًا)) جملًا اشتراه باليمن بمائتي دينار. فأرادوا الشام، فصدهم ابن عامر وقال: لا ميعاد لكم بمعاوية، ولي بالبصرة صنائع، ولكن إليها. [خرافة الحوأب وشهادة الزور] فجاءوا إلى ماء الحوأب (¬1) ونبحت كلابه، فسألت عائشة فقيل لها: هذا ماء الحوأب. فردت خطامها عنه، وذلك لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيتكن صاحبة الجمل الأدبب (¬2) التي تنبحها كلاب الحوأب؟» فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب، وخمسون رجلًا إليهما (¬3) وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام (¬4) . ¬

(¬1) الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة. قاله أبو الفتوح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري فيما نقله عنه ياقوت في معجم البلدان. وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: ماء قريب من البصرة، على طريق مكة إليها. سمي بالحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية. (¬2) الأدبب: الأدب (أظهر الإدغام لأجل السجعة) ، والأدب: كثير وبر الوجه. قاله ابن الأثير في النهاية. (¬3) لم يشهدوا، ولم تقل عائشة، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم. وسنبين ذلك في موضعه من (العاصمة) ص 161 - 162. (¬4) شهادة الزور تصدر عن رعاع لا يخافون الله كأبي زينب وأبي المورع كما تقدم في ص 96 - 97، وتصدر عمن يزعم لنفسه أنه قادر على خلق شخصية لم يخلقها الله كالذي اخترع اسم ثابت مولى أم سلمة كما تقدم في ص 91، وأما طلحة والزبير - المشهور لهما بالجنة من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى - فكانا أسمى أخلاقًا وأكرم على أنفسهما وعلى الله من أن يشهدا الزور. وهذه الفرية عليهما من مبغضي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست أول فرية لهم في الإسلام، ولا آخر ما يفترونه من الكذب عليه وعلى أهله.

خروج علي إلى الكوفة وما وقع في العراق قبل وصوله

[خروج علي إلى الكوفة وما وقع في العراق قبل وصوله] وخرج علي إلى الكوفة (¬1) وتعسكر الفريقان والتقوا (¬2) وقال عمار - وقد دنا من هودج عائشة -: ما تطلبون؟ قالوا: نطلب دم عثمان. ¬

(¬1) خرج من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة 36، ليكون على مقربة من الشام. وكان ابنه الحسن يود لو بقي والده بالمدينة فيتخذها دار خلافته كإخوانه الثلاثة قبله فلا يبرحها (الطبري 5: 171 وانظر 5: 163) وقد سلك علي من المدينة إلى العراق طريق الربذة وفيد والثعلبية والأساود وذي قار. ومن الربذة أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فرجعا إليه وهو في ذي قار بأن أبا موسى وأهل الحجى من الكوفيين يرون القعود، فأرسل الأشتر وابن عباس، ثم أرسل ابنه الحسن وعمارًا لاستمالة القوم إليه. وبينما هو في الطريق أنشب عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة القتال مع أصحاب الجمل. وفي الأساود جاءه خبر مصرع حكيم بن جبلة وقتلة عثمان. ثم جاء عثمان بن حنيف إلى علي وهو في الثعلبية منتوف اللحية ومغلوبًا على أمره. وفي ذي قار أقام على معسكره، ثم سار بمن معه إلى البصرة وفيها أصحاب الجمل. (¬2) بعد وصول علي إلى ذي قار وقيام القعقاع بن عمرو بمساعي التفاهم تقدم علي بمن معه إلى البصرة فأسرع قتلة عثمان إلى إحباط مساعي الإصلاح بإنشاب القتال.

عاصمة

قال: قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق (¬1) . والتقى علي والزبير، فقال له علي: أتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك تقاتلني» ؟ فتركه ورجع. وراجعه ولده، فلم يقبل. وأتبعه الأحنف من قتله (¬2) . ونادى علي طلحة من بعد: ما تطلب؟ قال: دم عثمان. قال: قاتل الله أولانا بدم عثمان. ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» وأنت أول من بايعني ونكث (¬3) . [عاصمة] [مجيء أصحاب الجمل إلى البصرة] عاصمة أما خروجهم إلى البصرة فصحيح لا إشكال فيه. ولكن لأي شيء خرجوا؟ لم يصح فيه نقل، ولا يوثق فيه بأحد لأن الثقة لم ينقله، وكلام المتعصب لا يسمع. وقد دخل على المتعصب من ¬

(¬1) كان الفريقان يطلبان التفاهم وجمع الكلمة، أما الباغي فهم قتلة عثمان، وقد قتلهم الله جميعا إلا واحدا منهم، وسيأتي بيانه. (¬2) الذي قتل الزبير عمير بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع التميمي. والأحنف أتقى لله من أن يأمرهم بقتله، بل سمعوه يتذمر من قتال المسلمين بعضهم مع بعض فلحقوا بالزبير فقتلوه (الطبري 5: 198) . (¬3) كان طلحة أصدق إيمانا وأسمى أخلاقا من أن يبايع وينكث. وإنما كان يريد جمع الكلمة للنظر في أمر قتلة عثمان، استجاب علي لهذه الدعوة كما سيأتي ص 156، ولكن الذين جنوا على الإسلام أول مرة بالبغي على عثمان كانوا أعداء الله مرة أخرى بإنشاب القتال بين هذين الفريقين من المسلمين.

يريد الطعن في الإسلام واستنقاض الصحابة. فيحتمل أنهم خرجوا خلعًا لعلي لأمر ظهر لهم (¬1) وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة، وقاموا يطلبون الحق. ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان (¬2) . ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين، وضم نشرهم، وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا. وهذا هو الصحيح، لا شيء سواه، وبذلك وردت صحاح الأخبار. فأما الأقسام الأولى فكلها باطلة وضعيفة: أما بيعتهم كرهًا فباطل قد بيناه (¬3) . وأما خلعهم فباطل؛ لأن الخلع لا يكون إلا بنظر من الجميع، فيمكن أن يولى واحد أو اثنان، ولا يكون الخلع إلا بعد الإثبات والبيان (¬4) . ¬

(¬1) وهذا الاحتمال بعيد عن هؤلاء الأفاضل الصالحين، ولم يقع منهم ما يدل عليه، بل الحوادث كلها دلت علي نزاهتهم عنه. وإلى هذا ذهب الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13 - 41: 42) فنقل عن كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة قول المهلب: "إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة ". (¬2) وهذا ما كانوا يذكرونه، إلا أنهم يريدون أن يتفقوا مع علي على الطريقة التي يتوصلون بها إلي ذلك. وهذا ما كان يسعى به الصحابي المجاهد القعقاع بن عمرو، ورضي به الطرفان كما سيأتي. (¬3) في ص 143 - 144. (¬4) انظر (التمهيد) للباقلاني ص 211 - 212 وص 232 في موضوع الخلع.

وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة، ويمكن أن يجتمع الأمران (¬1) . ويروى أن في تغيبهم (¬2) قطع الشغب بين الناس. فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم فيرعوا حرمة نبيهم. واحتجوا عليها (¬3) بقول الله تعالي: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] (النساء: 114) . وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح وأرسل فيه. فرجت المثوبة، واغتنمت القصة، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها. وأحس بهم أهل البصرة، فحرض من كان بها من المتألبين على عثمان الناس، وقالوا: اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه. فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن جبلة (¬4) فلقي طلحة والزبير ¬

(¬1) واجتماع الأمرين هو الذي كاد يقع، لولا أن السبئيين أحبطوه. فأصحاب الجمل جاءوا في قتلة عثمان، ولم يجيئوا إلا لذلك. إلا أنهم أرادوا أن يتفاهموا عليه مع علي؛ لأن التفاهم معه أول الوسائل للوصول إلي ما جاءوا له. (¬2) أي تغيب طلحة والزبير وعائشة عن المدينة. (¬3) لما أقنعوها بالخروج إلى البصرة. (¬4) عثمان بن حنيف أنصاري من الأوس، كان عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحد الشبان الأوسيين الخمسة عشر الذين انضموا إلي عبد عمرو بن صيفي عند خروجه إلى مكة مغاضبا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عبد عمرو يسمى في الجاهلية الراهب فسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق (الطبري 3: 16) . والظاهر أن عثمان بن حنيف عاد من مكة وأسلم قبل وقعة أحد لأنها أول مشاهده (الإصابة 2: 459) وتزعم الشيعة أنه شاغب على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق في أول خلافته (تنقيح المقال للمامقاني 1: 198) وأعتقد أن هذا من كذبهم عليه، وقد تولى لعمر مساحة أرض العراق وضرب الجزية والخراج على أهلها، فلو صح ما زعموه من شغبه على أبي بكر لتنافى هذا مع استعمال عمر له، إلا أن يكون تاب. ولما بويع لعلي آخر سنة 35 واختار ولاته في بداية سنة 36 ولى عثمان بن حنيف على البصرة (الطبري 5: 161) . ولما وصل أصحاب الجمل إلى الخفير على أربعة أميال من البصرة أرسل إليهم عثمان بن حنيف عمران بن حصين الخزاعي صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم على خزاعة يوم الفتح ليعلم له علمهم، فلما عاد إليه وذكر له حديثه مع أصحاب الجمل قال له عثمان بن حنيف: أشر علي يا عمران. فقال له: إني قاعد فاقعد. فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين علي، وأشار عليه هشام بن عامر الأنصاري - أحد الصحابة المجاهدين الفاتحين - بأن يسالمهم حتى يأتي أمر علي، فأبى عثمان بن حنيف ونادى في الناس، فلبسوا السلاح، وأقبل عثمان على الكيد (الطبري 5: 174 - 175) ، وكانت العاقبة فشله وخروج الأمر من يده إلي أيدي أصحاب الجمل. ووقع ابن حنيف في أسر الجماهير فنتفت لحيته، ثم أنقذه أصحاب الجمل منهم فانسحب إلى معسكر علي في الثعلبية ثم في ذي قار. هذا هو عثمان بن حنيف وموقفه من أصحاب الجمل. أما حكيم بن جبلة فالقارئ يعلم أنه من قتلة أمير المؤمنين عثمان، وقد تقدم التعريف به في (ص 115 - 116) .

بالزابوقة، فقتل حكيم (¬1) ولو خرج مسلما مستسلما لا مدافعا لما (¬2) ¬

(¬1) الزابوقة: موضع قريب من البصرة كانت فيه وقعة الجمل في دورها الأول بعد أن خطب طلحة والزبير وعائشة في المربد. أما مصرع حكيم بن جبلة فكان بعد المعارك الأولى التي انتهت بغلبة أصحاب الجمل واستيلائهم على الحكم في البصرة، فتمرد حكيم بن جبلة على هذه الحالة الجديدة وقاتل مع ثلاثمائة من أعوانه حتى قتل. (¬2) أي مقاتلا.

أصابه شيء. وأي خير كان له في المدافعة، وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة، وإنما جاءوا ساعين في الصلح، راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم، كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد. فلما واصلوا إلى البصرة تلقاهم الناس بأعلى المربد مجتمعين (¬1) حتى لو رمي حجر ما وقع إلا على رأس إنسان. فتكلم طلحة (وتكلم الزبير) وتكلمت عائشة رضي الله عنهم (¬2) . وكثر اللغط (¬3) وطلحة يقول ((أنصتوا!)) فجعلوا يركبونه ولا يتصنتون، ¬

(¬1) مربد البصرة: موضع كانت تقام فيه سوق الإبل خارج البلد، ثم صارت تكون فيه مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء. ثم اتسع عمران البصرة فدخل المربد في العمران فكان من أجل شوارعها، وسوقه من أجل أسواقها، وصار محلة عظيمة سكنها الناس. ولما انحطت منزلة البصرة وهرم عمرانها تضاءلت فأمسى المربد بائنًا عنها حتى كان بينه وبين البصرة في زمن ياقوت ثلاثة أميال، والمربد خراب. كالبلدة المفردة في وسط البرية. وكان موضع البصرة يومئذ قريبًا من موضع ضاحيتها الزبير في أيامنا هذه. (¬2) كان أصحاب الجمل في ميمنة المربد، وعثمان بن حنيف ومن معه في ميسرته، وقد لخص الطبري (5: 175) خطب طلحة والزبير وعائشة راويًا ذلك عن سيف بن عمر التميمي عن شيوخه، وهم أعرف الإخباريين بحوادث العراق. (¬3) لأن الذين في الميسرة كانوا يقولون تعليقًا على خطبتي طلحة والزبير: فجرا وغدرا، وقالا الباطل، وأمرا به. قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان. والذين كانوا في الميمنة يقولون: صدقا، وبرا، وقالا الحق، وأمرا بالحق، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا. إلا أنه لما انتهت عائشة من خطبتها ثبت الذين مع أصحاب الجمل على موالاتهم لهم، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين فقالت فرقة: صدقت والله وبرت وجاءت بالمعروف، وقال الآخرون: كذبتم ما نعرف ما تقولون. فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا.

فقال ((أُف، أُف. فراش نار، وذباب طمع)) . وانقلبوا على غير بيان (¬1) . وانحدروا إلى بني نهد، فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل (¬2) والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف - عامل علي على البصرة - وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال، ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا، ولا يعرض بعضهم لبعض ¬

(¬1) لما رأت عائشة ما يفعل أنصار عثمان بن حنيف انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقتين لابن حنيف حتى وقفوا في موضع آخر. ومال بعض الذين كانوا مع ابن حنيف إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان بن حنيف (الطبري 5: 175) . (¬2) حفظ لنا الطبري (5: 176 - 177) وصفًا دقيقًا نقله سيف بن عمر التميمي عن شيخيه محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة وطلحة بن الأعلم الحنفي عن الموقف السلمي لأصحاب الجمل في هذه الوقعة، وإسراف حكيم بن جبلة في إنشاب القتال. قالا: وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن ثم حجز الليل بين الفريقين. وفي اليوم التالي انتقل أصحاب الجمل إلى جهة دار الرزق، وأصبح عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة فجددا القتال، وكان حكيم يطيل لسانه بسب أم المؤمنين، ويقتل من يلومه على ذلك من نساء ورجال، ومنادي عائشة يدعو الناس إلى الكف عن القتال فيأبون، حتى إذا مسهم الشر وعضهم نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح.

نقض حكيم بن جبلة لكتاب الصلح ومصرعه

حتى يقدم علي (¬1) . [نقض حكيم بن جبلة لكتاب الصلح ومصرعه] وروي أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ. فقتل بعد الصلح (¬2) وقدم علي البصرة (¬3) وتدانوا ليتراءوا (¬4) فلم يتركهم أصحاب الأهواء، ¬

(¬1) ونص كتاب الصلح في تاريخ الطبري (5: 177) ولما بلغ عليًّا ما وقع كتب إلى عثمان بن حنيف يصفه بالعجز. وجمع طلحة والزبير الناس وقصدوا المسجد وانتظروا عثمان بن حنيف فأبطأ ولم يحضر، ووقعت فتنة في المسجد من رعاع البصرة أتباع حكيم بن جبلة، وكان لها رد فعل من أناس ذهبوا إلى عثمان بن حنيف ليحضروه فتوطأه الناس وانتفوا شعر وجهه، أمرهم بذلك مجاشع بن مسعود السلمي زعيم هوازن وبني سليم والأعجاز من قبائل البصرة (الطبري 5: 178) . (¬2) وبيان ذلك في تاريخ الطبري (5: 179 - 182) وانظر كتابنا هذا ص 116. (¬3) فنزل مكانًا منها يسمى الزاوية. وكان أصحاب الجمل نازلين مكانًا منها يسمى الفرضة. (¬4) عند موضع قصر عبيد الله بن زياد، وكان ذلك يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 (الطبري 5: 199) . وكان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة، فاستجاب له أصحاب الجمل وأذعن علي لذلك، وبعث علي إلى طلحة والزبير يقول: ((إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر)) ، فأرسلا إليه: ((إنا على ما فارق عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس)) . قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7: 239) : فاطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم، وبعثوا محمد بن طلحة السجاد إلى علي وعولوا جميعًا على الصلح، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية. وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط، قد أشرفوا على الهلكة. وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر. فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم، وانسلوا إلى ذلك الأمر انسلالًا (وانظر مع ذلك الموضع من تاريخ ابن كثير تاريخ الطبري 5: 202 - 203 ومنهاج السنة 2: 185 و 3: 225 و 341 والمنتقى منه للذهبي 223 و 404) . وهكذا أنشبوا الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة، فظن أصحاب الجمل أن عليًّا غدر بهم وظن علي أن إخوانه غدروا به، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية، فكيف بعد أن بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن.

مصرع طلحة بن عبيد الله وكعب بن سور قاضي البصرة

وبادروا بإراقة الدماء. واشتجر الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء. كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان. وإن واحدًا في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف؟! . [مصرع طلحة بن عبيد الله وكعب بن سور قاضي البصرة] وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال: لا نطلب أثرًا بعد عين، ورماه بسهم فقتله (¬1) . ومن يعلم هذا إلا علام ¬

(¬1) آفة الأخبار رواتها. وفي العلوم الإسلامية علاج آفة الكذب الخبيثة، فإن كل راوي خبر يطالبه الإسلام بأن يعين مصدره على قاعدة "من أين لك هذا؟ ". ولا تعرف أمة مثل هذه الدقة في المطالبة بمصادر الأخبار كما عرفه المسلمون، ولا سيما أهل السنة منهم. وقد أشاد بهذه المزية لعلماء السنة الدكتور أسد رستم في كتابه (مصطلح التاريخ) . وهذا الخبر عن طلحة ومروان "لقيط" لا يعرف أبيه ولا صاحبه. وما دام لم ينقله ثبت بسند معروف عن رجال ثقات فإن للقاضي ابن العربي أن يقول بملء فيه. ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب؟! .

الغيوب، ولم ينقله ثبت. وقد روي [أنه] أصابه سهم بأمر مروان، لا أنه رماه (¬1) . وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن يريقوا دماءهم (¬2) فأصابه سهم غربٍ فقتله (¬3) ولعل طلحة مثله، ومعلوم أنه عند الفتنة وفي ملحمة القتال يتمكن أولو الإحن والحقود، من حل العرى ¬

(¬1) وهذا الزعم كالزعم السابق في ص150 عن الزبير أن الأحنف هو الآمر بقتله. (¬2) كعب بن سور الأزدي أول قضاة المسلمين على البصرة، ولاه أمير المؤمنين عمر. قال الحافظ ابن عبد البر: كان مسلما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لم يره. (¬3) قال الحافظ ابن عساكر (7: 85) في ترجمة طلحة: وقالت عائشة لكعب بن سور الأزدري: "خل يا كعب عن البعير، وتقدم بكتاب الله فادعهم إليه، ودفعت إليه مصحفا وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح، فاستقبله كعب بالمصحف، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلا إقداما. فلما دعاهم كعب رشقوه رشقا واحدا فقتلوه ثم راموا أم المؤمنين. . . فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: "يا أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم" وأقبلت تدعو، وضج أهل البصرة بالدعاء. وسمع علي الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعوا ويدعوا الناس معها على قتلة عثمان وأشياعهم. فأقبل علي يدعوا وهو يقول: "اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم" قلت: وهكذا اشترك صالحو الفريقين في لعن قتلة أمير المؤمنين الشهيد المظلوم في الساعة التي كان فيها قتلة عثمان ينشبون القتال بين صالحي المسلمين.

حديث هذه ثم لزوم الحصر والكلام في صحة خروج عائشة

ونقض العهود. وكانت آجالا حضرت، ومواعيد انتجزت (¬1) . [حديث هذه ثم لزوم الحصر والكلام في صحة خروج عائشة] فإن قيل: لم خرجت عائشة رضي الله عنها وقد قال صلى الله عليه ¬

(¬1) نقل الحافظ ابن عساكر (7: 86-87) قول الشعبي: رأى علي بن أبي طالب طلحة ملقى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه ثم قال: "عزيزي علي أبا محمد أن أراك مجدلا في الأودية وتحت نجوم السماء. إلى الله أشكى عجري وبجري" (قال الأصمعي: أي سرائري وأحزاني التي تجول في جوفي) . وقالت: "ليتني مت قبل هذا الموت بعشرين سنة". وقال أبو حبيبة مولى طلحة: دخلت أنا وعمران بن طلحة على علي بعد الجمل، فرحب بعمران وأدناه وقال: "إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال فيهم (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) ، وكان الحارث الأعور (*) جالسا في ناحية فقال: "الله أعدل من أن نقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة"، فقال له علي: "قم إلى أبعد أرض الله وأسحقها، فمن هو ذا إن لم أكن أنا وطلحة في الجنة؟ " وذكر محمد بن عبد الله أن عليا تناول دواة فحذف بها يريده بها فأخطأه. وقال له ابن الكواء (**) "الله أعدل من ذلك" فقام إليه علي بدرة فضربه وقال له "أنت- لا أم لك- وأصحابك تنكرون هذا؟! ". (*) هو الحارث بن عبد الله الهمداني الحوثي أبو زهير الكوفي الأعور أحد كبار الشيعة. قال عنه الشعبي وابن المديني: كذاب. قلت وإنما كان يدفعه إلى الكذاب تحزبه وتشيعه، فالحزبية والتشيع والتصعيب المذهبي من مدارج الباطل، والإسلام دين الاعتدال والإنصاف والصدق وأن تقول بالحق ولو على نفسك. (**) ابن الكواء: عبد الله بن أبي أوفى الشكري أحد القائمين بالفتنة على عثمان وبعد صفين والتحكيم كان على رأس الخوارج على علي. فلما حاجهم علي وابن عباس رجع إلى علي قبل وقعة النهروان.

وسلم لهن في حجة الوداع «هذه ثم ظهور الحصر» (¬1) . قلنا: حدث حديثين امرأة، فإن أبت فأربعة. يا عقول النسوان ألم أعهد إليكم ألا ترووا أحاديث البهتان، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان (¬2) فلم تقولون ما لا تعلمون؟ وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون؟ ¬

(¬1) في مسند أحمد (2: 446 الطبعة الأولى) من حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج بنسائه قال ((إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر)) . وفيه (5: 218 الطبعة الأولى) من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته ((هذه ثم ظهور الحصر)) ، وحديث أبي واقد في باب فرض الحج من كتاب المناسك بسنن أبي داود (ك 11 ب 1) . والحصر جمع حصير، أي لزوم المنزل. ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 215) على أنه إشارة نبوية إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينعى لهن نفسه، وأن هذه آخر حجة له صلى الله عليه وسلم، وليس فيه أمر منه بأن لا يزيلن الحصر إلى حج أو مصلحة أو إصلاح بين الناس. فاستشهاد أعداء الصحابة بهذا الحديث على المنع مطلقًا عده القاضي ابن العربي من البهتان، لأنه استشهاد به لغير ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) روى الإمام ابن حزم في بحث ((وجوه الفضل والمفاضلة)) من كتاب (الإمامة والمفاضلة) المدرج في الجزء الرابع من (الفصل) ص 134 عن شيخه أحمد بن محمد الخوزي عن أحمد بن الفضل الدينوري عن محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة، فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد، فخطبهم عمار، وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم: ((إني أقول لكم، ووالله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هي زوجته في الدنيا، ولكن الله ابتلاكم بها لتطعيوها أو لتطيعوه)) فقال له مسروق (ابن الأجدع الهمداني) أو أبو الأسود (الدؤلي) : ((يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له)) فسكت عمار! .

عود إلى ذكر الحوأب ونقض الأسطورة عنه

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] [عود إلى ذكر الحوأب ونقض الأسطورة عنه] وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب (¬1) . ما كان قط شيء كما ذكرتم، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث، ولا جرى ذلك الكلام، ولا شهد أحد بشهادتهم، وقد كتبت شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون (¬2) . ¬

(¬1) الحوب: الإثم. (¬2) تقدم في ص 148 بيان موضع الحوأب. وأن الكلام الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وزعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة. وقد رأينا خبره عند الطبري (5: 170) فرأيناه يرويه عن إسماعيل بن موسى الفزاري (وهو رجل قال فيه ابن عدي: أنكروا منه الغلو في التشيع) ، ويرويه هذا الشيعي عن علي بن عابس الأزرق (قال عنه النسائي: ضعيف) وهو يرويه عن أبي الخطاب الهجري (قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: مجهول) وهذا الهجري المجهول يرويه عن صفوان بن قبيصة الأحمسي (قال عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: مجهول) . هذا هو خبر الحوأب. وقد بني على أعرابي زعموا أنهم لقوه في طريق الصحراء ومعه جمل أعجبهم فأرادوا أن يكون هو جمل عائشة فاشتروه منه وسار الرجل معهم حتى وصلوا إلى الحوأب فسمع هذا الكلام ورواه، مع أنه هو نفسه - أي الأعرابي صاحب الجمل - مجهول الاسم ولا نعرف عنه إن كان من الكذابين أو الصادقين. ويظهر لي أنه ليس من الكذابين ولا من الصادقين، لأنه من أصله - كالثاني عشر - موهوم لم يخلق، ولأن جمل عائشة واسمه ((عسكر)) جاء به يعلى بن أمية من اليمن وركبته عائشة من مكة إلى العراق، ولم تكن ماشية على رجليها حتى اشتروا لها جملًا من هذا الأعرابي الذي زعموا أنهم قابلوه في الصحراء، وركبوا على لسانه هذه الحكاية السخيفة ليقولوا إن طلحة والزبير - المشهود لهما بالجنة ممن لا ينطق عن الهوى - قد شهدا الزور. ولو كنا نستجيز نقل الأخبار الواهية لنقلنا في معارضة هذا الخبر خبرًا آخر نقله ياقوت في معجم البلدان (مادة حوأب) عن سيف بن عمر التميمي أن المنبوحة من كلاب الحوأب هي أم زمل سلمى بنت مالك الفزارية التي قادت المرتدين ما بين ظفر والحوأب فسباها المسلمون ووهبت لعائشة فأعتقتها، فقيلت فيها هذه الكلمة. وهذا الخبر ضعيف والخبر الذي أورده عن عائشة أضعف منه. وما برح الكذب بضاعة يتجر بها الذين لا يخافون الله.

قاصمة

[قاصمة] [حرب صفين ودعوى الفريقين وما اخترع في ذلك من أكاذيب] قاصمة ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق (¬1) هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام، وهؤلاء يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون: لا نبايع من يؤوي القتلة (¬2) . ¬

(¬1) في موضع يسمى (صفين) بقرب الرقة على شاطئ الفرات آخر تخوم العراق وأول أرض الشام. سار إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36. (¬2) لمّا انتهى علي من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الاثنين 12 من رجب، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته. فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام واستشارهم فيما يطلب علي، فقالوا: لا نبايعه حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلمهم إلينا. فرجع جرير إلى علي بذلك، فاستخلف علي على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر وخرج منها فعسكر بالنخيلة أول طريق الشام من العراق، وقد أشار عليه ناس بأن يبقى في الكوفة ويبعث غيره إلى الشام فأبى. وبلغ معاوية أن عليا تجهز وخرج بنفسه لقتاله فأشار عليه رجاله أن يخرج هو أيضا بنفسه، فخرج الشاميون نحو الفرات من ناحية صفين، وتقدم علي بجيوشه إلى تلك الجهة. وكان جيش علي في مائة وعشرين ألفا وجيش معاوية في تسعين ألفا، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشات ومبارزات، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37 واستؤنف القتال بعده، وقتل في هذه الحرب سبعون ألفا، وكانت الوقائع 90 وقعة في 110 أيام، وامتازت هذه الحرب بنبل الشجاعة في القتال، ونبل التعامل والاتصال عند التهادن والراحة. ثم كتب التحكيم يوم 13 صفر سنة 37 على أن يعلن الحكمان حكمهما في رمضان بدومة الجندل بمكان منها يسمى أذرح.

وعلي يقول لا أمكن طالبًا من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم. ومعاوية يقول: لا نبايع متهمًا أو قاتلًا له، وهو أحد من يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه، وهو خليفة عدا وتسور. وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال رسائل (¬1) واستخراج أقوال، وإنشاء أشعار، وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف، يقرها الخَلْف وينبذها الخَلَف (¬2) . ¬

(¬1) أي انتحالها زورا ولا أصل لها. وأكثر ما تجد ذلك فيما يرويه أخباريو الشيعة عن رواة مجهولين أو كذابين. وأخفهم وطأة أبو مخنف لوط بن يحيى، قال عنه الحافظ الذهبي: " أبو مخنف أخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره". وقال فيه ابن عدي: "شيعي محترق صاحب أخبارهم" ثم جاء بعده آخرون منهم كانوا شرا على تاريخ الإسلام من لوط هذا. فأفسدوا على الأمة معرفتها بماضيها. (¬2) الخَلْف (بفتح الخاء وسكون اللام) : الطالح. وفي التنزيل (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) . والخَلَف (بفتح الخاء واللام) : الصالح. ومنه الحديث "يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ".

عاصمة عود إلى موقف علي من قتلة عثمان

[عاصمة عود إلى موقف علي من قتلة عثمان] عاصمة أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعًا، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعًا، وأما الصواب فيه فمع علي، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه، بل يطلب [الحق] عنده، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر، فكم من حق يحكم الله فيه. وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه، فيقوم له عذر في الدنيا (¬1) . ¬

(¬1) وجود قتلة عثمان في معسكر علي حقيقة لا يماري أحد فيها، بل إن الأشتر وهو من رءوس البغاة على عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين في معسكر علي والذين في معسكر معاوية. ولما طالب علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه احتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا منه أن يقيم حد الله عليهم أو أن يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم حد الله. وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي في هامش ص146 بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم، فكان علي يرى- بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه بابا لا يستطيع سده بعد ذلك. وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة والزبير فأذعنوا له وعذروا عليا ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم إلى الخروج من هذه الفتنة، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين. فالمطالبون بإقامة حد الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق، سواء كانوا من أصحاب الجمل، أو من أهل الشام. وتقصير علي في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة. ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين. وكان سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي كارها خروج أبيه من المدينة إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل الشام، وهم جبهة الإسلام العسكرية في الجهاد والفتوح. ولو أن عليا لم يتحرك من الكوفة استعدادا لهذا القتال لما حرك معاوية ساكنا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 219) : "لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء" وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال 249 و251 و262. ومع ذلك فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين. وإن كثيرا من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة.

ولئن اتهم علي بقتل عثمان فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو متهم به، أو قل معلوم قطعًا أنه قتله لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفًا (¬1) . ¬

(¬1) ليس في أهل السنة رجل واحد يتهم عليا بقتل عثمان، لا في زماننا ولا في زمانه. وقد مضى الكلام على ذلك في هذا الكتاب. وكل ما في الأمر وجود قتلة عثمان مع علي، وموقف علي منهم، وعذره بينه وبين الله في موقفه هذا. فنحن جميعا على رأي القعقاع بن عمرو بأن موقف علي موقف ضرورة. غير أن الحمقى من إخباري الشيعة دسوا على علي أخبارا تشعر بغير ما كان في قلبه من المحبة والرضا والموالاة والتأييد لعثمان أثناء محنته، فأساءوا بذلك إلى علي من حيث يريدون الإساءة إلى عثمان. أما معاوية وفريقه فلم يذكروا عليا في أمر البغي على عثمان إلا لمناسبة انضواء قتلة عثمان إليه واستعانته بهم. فقتلة عثمان هم الذين أساءوا إلى الإسلام وإلى عثمان وإلى علي أيضا. فالله حسيبهم. ولو أن كل المسلمين كانوا كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حزمه- قبل أن تستفحل الفتنة ويفلت الزمام من أيدي العقلاء- لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.

وهبك أن عليًّا وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته؟ ولا يخلو أن يكون لأنهم رأوا أولئك طلبوا حقًا وفعلوا حقًا، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام. وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين، وأنهم لم يكن لهم رأي في الحال، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال، فهي ردة ليست معصية. لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا حد عثمان وإشارته فأي ذنب لهم فيه؟ وأي حجة لمروان - وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح - والطالبون ينظرون؟ ولو كان لهم بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحدًا أن يراه منهم ولا يداخله، وإنما كانوا نظارة، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ما جسروا، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي. ولكن عثمان سلم نفسه، فترك ورأيه. وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا (¬1) . ¬

(¬1) في ص 137، وانظر هامش ص 132.

وأي كلام كان يكون لعلي - لما تمت له البيعة - لو حضر عنده ولي عثمان وقال له: إن الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه، وهم معلومون. ماذا كان يقول إلا: اثبت، وخذ، وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقًا للقتل (¬1) . وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبدًا، وكان يكون الوقت أمكن للطالب، وأرفق في الحال، أيسر وصولًا إلى المطلوب (¬2) . ¬

(¬1) المؤلف معترف بأن الإثبات كان في متناول اليد، لأن الجريمة مشهودة والمجرمون أعلنوا فيها فجورهم فلم يتكتموا. ولكن كيف يكون التنفيذ، ومن الذي يقوم به ومدينة الرسول مستكينة تحت وطأة الإرهاب؟ ومن ذا الذي يضمن لعلي حياته إذا أصدر هذا الحكم؟ أليس هؤلاء هم الذين تداولوا في قتله لما عقدوا مؤتمرهم في ذي قار بعد خطبة علي التي ألقاها على الغرائر قبيل مصيره إلى البصرة (الطبري 5: 165) ألم يسخط الأشتر على أمير المؤمنين علي بعد وقعة الجمل لأنه ولى ابن عمه عبد الله بن عباس على البصرة ولم يولها الأشتر، ففارقه غاضبًا، ولحق به علي فتلافى ما يكون منه من الشر (الطبري 5: 194) ، وانظر هامش 119 من هذا الكتاب) . والخوارج على علي ألم ينبتوا من هذه النواة؟ ولما قتل علي ألم يقتل بمثل السلاح الذي قتل به عثمان؟ . (¬2) كان يكون الوقت أمكن للطالب لو وجدت في المدينة القوة التي كان يتمناها عثمان. ويقال إن قوة من جند الشام كانت خرجت من دمشق قاصدة المدينة، فلما جاءها خبر شهادة أمير المؤمنين عثمان رجعت من الطريق، فبقيت المدينة خاضعة لقتلة عثمان حتى بعد البيعة لعلي، وهم إن نزلوا على أحكام هذه البيعة فيما لا ضرر منه عليهم لا ريب أنهم ينقلبون وحوشًا ضارية لو صدرت عليهم أحكام الله بإقامة الحدود فيما ارتكبوا من جرم شنيع.

والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحدًا إلا بحكم، إلا من قتل في حرب بتأويل، أو دس عليه فيما يقال (¬1) . حتى انتهى الأمر إلى زمن الحجاج، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة (¬2) . فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أصبحوا له يطلبون. والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الفتن وأشار وبين، وأنذر بالخوارج وقال: «تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» (¬3) فبين أن كل طائفة [منهما] تتعلق بالحق، ولكن طائفة علي أدنى إليه (¬4) . وقال تعالى: ¬

(¬1) إن سطوة الله وعدله الأعلى نزلا بأكثر قتلة عثمان فلم يبق منهم في ولاية معاوية إلا المشرد الخائف الباحث عن حجر يختبئ فيه، وبزوال سطوتهم وتقليص شرهم فلم يبق بمعاوية حاجة إلى تتبعهم. (¬2) يشير المؤلف إلى حادثة عمير بن ضابئ وكميل النخعي، وقد تقدم خبرهما في (ص 129 - 130) . (¬3) في صحيح مسلم (ك 12 ج 150 - ج 3 ص 113) من حديث أبي سعيد الخدري: ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)) . (¬4) أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن عليًّا ومعاوية، ومن معها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعًا من أهل الحق، وكانوا مخلصين في ذلك. والذي اختلفوا فيه إنما اختلفوا عن اجتهاد، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه. وهم - لإخلاصهم في اجتهادهم - مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ، وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطئ، وليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر معصوم عن أن يخطئ وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى، وكذلك الآخرون. أما من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان فلا يعد من إحدى الطائفتين اللتين على الحق وإن قاتل معها والتحق بها، لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان - كائنًا من كانوا - استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع. وفي حالة عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي - كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها - يعد إصرارًا منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك، فإذا قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين، ونرى أن عليًّا المبشر بالجنة أعلى مقامًا عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب رسول رب العالمين، وكلاهما من أهل الخير. وإذا اندس فيهم طوائف من أهل الشر فإن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره. نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7: 277) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني قاضي إفريقية المتوفى سنة 56 كان رجلًا صالحًا من الآمرين بالمعروف - وذكر أهل صفين - فقال: ((كانوا عربًا يعرف بعضهم بعضًا في الجاهلية، فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا، واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم)) ، قال الشعبي: ((هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضًا، فلم يفر أحد من أحد)) .

{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] فلم يخرجهم عن ((الإيمان)) بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم ((الأخوة))

بقوله بعده {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقال صلى الله عليه وسلم في عمار: «تقتله الفئة الباغية» (¬1) . وقال في الحسن: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» ، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه (¬2) . ¬

(¬1) قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما كانوا يبنون المسجد، فكان الناس ينقلون لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه هذه الكلمة على ما رواه أبو سعيد الخدري لعكرمة مولى ابن عباس ولعلي بن عبد الله بن عباس. والخبر في كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (ك 56 ب 17 - ج 3 ص 207) . وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين، لأنه لم يردها، ولم يبتدئها، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج علي من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى الشام كما تقدم في ص 162 - 163، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية ((إنما قتله من أخرجه)) وفي اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين بأيدي المسلمين منذ قتل عثمان فإنما إثمه على قتلة عثمان لأنهم فتحوا باب الفتنة. ولأنهم واصلوا تسعير نارها، لأنهم الذين أوغروا صدور المسلمين بعضهم على بعض، فكما كانوا قتلة عثمان فإنهم كانوا القاتلين لكل من قتل بعده، ومنهم عمار ومن هم أفضل من عمار كطلحة والزبير، إلى أن انتهت فتتهم، بقتلهم عليًّا نفسه وقد كانوا من جنده وفي الطائفة التي كان قائمًا عليها. فالحديث من أعلام النبوة، والطائفتان المتقاتلتان في صفين كانتا من المؤمنين. وعلي أفضل من معاوية. وعلي ومعاوية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن دعائم دولة الإسلام، وكل ما وقع من الفتن فإثمه على مؤرثي نارها لأنهم السبب الأول فيها، فهم الفئة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما تفرع عنهما. (¬2) سيأتي الكلام على هذا عند الكلام على الصلح بين الحسن ومعاوية.

وكذلك يروى أنه أذن - في الرؤيا - لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة (¬1) . فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرًا واحدًا (¬2) . ¬

(¬1) مضى الكلام على ذلك في ص 138 - 139. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 219 - 220) : ((ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء، بل كان من أشد الناس حرصًا على ألا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه. وقتال صفين للناس فيه أقوال: فمنهم من يقول كلاهما كان مجتهدًا مصيبًا، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول: كل مجتهد مصيب، ويقول: كانا مجتهدين. وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم، وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، وتقول الكرامية: كلاهما إمام مصيب، ويجوز نصب إمامين للحاجة. ومنهم من يقول: بل المصيب أحدهما لا بعينه، وهذا قول طائفة منهم. ومنهم من يقول: علي هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطئ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة. وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من أصحاب الإمام أحمد وغيره. ومنهم من يقول: كان الصواب ألا يكون قتال، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين، فليس في الاقتتال صواب، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية، والقتال قتال فتنة، ليس بواجب ولا مستحب، وكان ترك القتال خيرًا للطائفتين مع أن عليًّا كان أولى بالحق، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو قول عمران بن حصين رضي الله عنه وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال ويقول: هو بيع السلاح في الفتنة. وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم. ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد ثبت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومحبتهم)) .

قاصمة التحكيم

وما وقع من روايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا - فلا تلتفتوا إلى حرف منها، فإنها كلها باطلة. [قاصمة التحكيم] قاصمة التحكيم وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله. وإذا لحظتموه بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين. والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط (¬1) والدارقطني (¬2) أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين ¬

(¬1) هو الإمام الحافظ أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري، أحد أوعية العلم، ومن شيوخ الإمام البخاري. قال عنه ابن عدي: هو صدق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة. توفي سنة 240. (¬2) هو الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (306 - 385) كان مع جلالته في الحديث من أئمة فقهاء الشافعية، وله تقدم في الأدب ورواية الشعر. وجاء من بغداد إلى مصر ليساعد ابن خنزابة وزير كافور على تأليف مسنده فبالغ الوزير في إجلاله. قال الحافظ عبد الغني بن سعيد ((أحسن الناس كلامًا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون القيسي في وقته. والدارقطني في وقته)) .

أو تسعين ألفا ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم - وهو الثلاثاء - على الماء فغلب أهل العراق عليه (¬1) . ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [سبع وثلاثين] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت (¬2) ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا إلى الصلح، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي أبو موسى (¬3) ومن جهة معاوية عمرو بن العاص. ¬

(¬1) لم يكن القتال على الماء جديا، وقد قال عمرو بن العاص يومئذ: "ليس من النصف أن نكون ريانين وهم عطاش". والذين تظاهروا في الجيش الشامي بمنع العراقيين عن الماء أرادوا أن يذكروهم بمنع الماء عن أمير المؤمنين عثمان في عاصمة خلافته وهو الذي اشترى بئر رومة من ماله ليستقي منه إخوانه المسلمون وبعد اشتراكهم في الماء تناوشوا شهر ذي الحجة من سنة 36 ثم تهادنوا شهر المحرم من سنه 37، ووقعت وقائع شهر صفر التي سيشير إليها المؤلف. (¬2) وكانت تسمى ((ليلة الهرير)) اقتتل الناس فيها حتى الصباح. (¬3) وكان آخر العهد بأبي موسى عندما كان واليًا على الكوفة، وجاء دعاة علي يحرضون الكوفيين على لبس السلاح والالتحاق بجيش علي استعدادًا لما يريدونه من قتال مع أصحاب الجمل في البصرة، ثم مع أنصار معاوية في الشام. فكان أبو موسى يشفق على دماء المسلمين أن تسفك بتحريض الغلاة، ويذكر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقول نبيهم في الفتنة ((القاعد فيها خير من القائم)) فتركه الأشتر يحدث الناس في المسجد بالحديث النبوي، وأسرع إلى دار الإمارة فاحتلها. فلما عاد إليها أبو موسى منعه الأشتر من الدخول وقال له: اعتزل إمارتنا. فاعتزلهم أبو موسى واختار الإقامة في قرية يقال لها عُرْض بعيدًا عن الفتن وسفك الدماء. فلما شبع الناس من سفك الدماء واقتنعوا بأن أبا موسى كان ناصحًا في نهيهم عن القتال طلبوا من علي أن يكون أبو موسى هو ممثل العراق في أمر التحكيم، لأن الحالة التي كان يدعو إليها هي التي فيها الصلاح فأرسلوا إلى أبي موسى وجاءوا به من عزلته.

وكان أبو موسى رجلًا تقيًّا فقيهًا عالمًا حسبما بيناه في كتاب (سراج المريدين) ، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ، وقدمه عمرو وأثنى عليه بالفهم (¬1) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدًا لما أرادت من الفساد، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا وصنفوا فيه حكايات. وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى، وإنما بنوا على أن عمرًا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر. وقالوا: إنما لما اجتمع بأذرح من دومة الجندل (¬2) وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين (¬3) . فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم ¬

(¬1) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وآدابه وقواعده. (¬2) أذرح: قرية من أعمال الشراة تقع في منطقة بين أراضي شرقي الأردن والمملكة السعودية في الأطراف الجنوبية من بادية الشام. (¬3) من الحقائق ما إذا أسيء التعبير عنه وشابته شوائب المغالطة يوهم غير الحقيقة فينشأ عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه. ومن ذلك حادثة التحكيم وقول المغالطين إن أبا موسى وعمرًا اتفقا على خلع الرجلين، فخلعهما أبو موسى، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية. وأصل المغالطة من تجاهل المغالطين أن معاوية لم يكن خليفة، ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه. بل إن أبا موسى وعمرًا اتفقا على أن يعهدا بأمر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة من أعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم. واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول معاوية لأنه لم يكن خليفة ولم يقاتل على الخلافة وإنما كان يطالب بإقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان. فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم تناول التحكيم شيئًا واحدًا هو الإمامة. أما التصرف العملي في إرادة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين فبقي كما كان: علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة. وكان يكون محلا للمكر أو الغفلة لو أن عمرًا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولى معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين، وهذا ما لم يعلنه عمرو، ولا ادعاه معاوية، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنًا الماضية. وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين. فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه، لأنه لم يعط معاوية شيئًا جديدًا، ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى. ولم يخرج عما اتفقا عليه معًا، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعهما تحت يد من كانت تحت يده من قبل، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها، وأي ذنب لعمرو في أي شيء مما وقع؟ إن البلاهة لم تكن من أبي موسى، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه. فليفهمها كل من شاء كما يشاء. أما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي.

فقال: إني نظرت فخلعت عليًّا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا من عنقي - أو من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه

في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر (¬1) كما أثبت سيفي هذا في عاتقي. وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف. ¬

(¬1) أي أمر؟ إن كان الاستمرار في إدارة البلاد التي تحت يده، فإن هذا الأمر ماض على معاوية وعلي معًا، فكل منهما باق في الحكم على ما تحت يده. وإن كان المراد بالأمر أمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إمامًا - أي خليفة - حتى يثبته عمرو كما كان. وقد أوضحنا هذه الحقيقة في الفقرة السابقة. وهذه هي نقطة المغالطة التي هزأ بها مؤرخو الإفك المفترى فسخروا بجميع قرائهم وأوهموهم بأن هناك خليفتين أو أميرين للمؤمنين، وأن الاتفاق بين الحكمين كان على خلعهما معًا، وأن أبا موسى خلع الخليفتين تنفيذًا للاتفاق، وأن عمرًا خلع أحدهما وأبقى الآخر خليفة خلافًا للاتفاق، وهذا كله كذب وإفك وبهتان. والذي فعله عمرو وهو نفس الذي فعله أبو موسى لا يفترق عنه قط في نقير ولا قطمير وبقي أمر الإمامة والخلافة أو غمارة المؤمنين معلقًا على نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا. وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من أبي موسى ولا من عمرو، فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معًا بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها، ولا أبديا رأيًا فيها. ولو كان موقف أبي موسى في هذا الحادث التاريخي العظيم موقف بلاهة وفشل لكان ذلك سبة عليه في التاريخ. وإن الأجيال التي بعده فهمت موقفه على أنه من مفاخره التي كتب الله له بها النجاح والسداد، حتى قال ذو الرمة الشاعر يخاطب حفيده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى: أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر فشد إصار الدين أيام أذرح ... ورد حروبا قد لقحن إلى عقر.

عاصمة

[عاصمة] عاصمة قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع (¬1) . ¬

(¬1) إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بني أمية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله. فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف: طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه. وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم، ولا يكون التقرب إلى الله، إلا بتشويه سمعة أبي كبر وعمر وعثمان وبني عبد شمس جميعا. وطائفة ثالثة من الإنصاف والدين- كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير- رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب- كلوط بن يحيى الشيعي المحترق، وسيف بن عمر العراقي المعتدل- ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها. وقد أثبت أكثر هؤلاء أسماء رواة الأخبار التي أوردها ليكون الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث عن حال راويه. وقد وصلنا إلى هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا، وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع، مكتفيا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها. وإن الرجوع إلى كتب السنة، وملاحظات أئمة الأمة. مما يسهل هذه المهمة. وقد آن لنا أن نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء، وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بني أمية العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعماني في انتقاده لكتاب جرجي زيدان، ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق، فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة، ولا يبعد- إذا استمر هذا الجهاد في سبيل الحق- أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ويدركوا أسرار ما وقع في ماضيهم من معجزات.

وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر - في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه - عزل عمرو معاوية (¬1) . ذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر (¬2) لما عزل عمرو معاوية جاء [أي حضين بن المنذر] فضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا [أي عن عمرو] كذا وكذا (¬3) فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه، فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا (¬4) ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستغن عنكما ¬

(¬1) أي بتقريره مع أبي موسى أن إمامة المسلمين يترك النظر فيها إلى أعيان الصحابة. (¬2) قال الدارقطني: حدثنا إبراهيم بن همام، حدثنا أبو يوسف الفلوسي وهو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير، حدثنا الأسود بن شيبان، عن عبد الله بن مضارب عن حضين بن المنذر (وحضين من خواص علي الذين حاربوا معه) . (¬3) أي عزله عليا ومعاوية، وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة. (¬4) أي أنهما لم يعزلا، لم يوليا، ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة.

فطالما استغنى أمر الله عنكما قال: فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه: فأتيته فأخبرته [أي فأتى حضين معاوية فأخبره] أن الذي بلغه عنه كما بلغه. فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني (¬1) فبعثه في خيله، فخرج يركض فرسه ويقول: أين عدو الله أين هذا الفاسق؟ . قال أبو يوسف (¬2) أظنه قال ((إنما يريد حوباء نفسه)) فخرج [عمرو] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عريانًا، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول ((إن الضجور قد تحتلب العلبة، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة (¬3)) ) فقال معاوية ((أجل، وتربذ الحالب فتدق أنفه، وتكفأ إناءه (¬4)) ) . ¬

(¬1) هو أبو الأعور السلمي (وذكوان قبيلة من سليم) واسمه عمرو بن سفيان، كان من كبار قواد معاوية. وفي حرب صفين طلب الأشتر أن يبارزه فترفع أبو الأعور السلمي عن ذلك لأنه لم ير الأشتر من أنداده. انظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص264. (¬2) أي الفلوسي راوي هذا الخبر عن الأسود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حضين. (¬3) الضجور: الناقة التي ترغو وتعربد عند الحلب. و"قد تحلب الضجور العلبة" مثل، ومعناه: إن الناقة التي ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة، وهي قدح ضخم يحلب فيه اللبن. يضربونه للسيئ الخلق قد يصاب منه الرفق واللين، وللبخيل قد يستخرج منه المال. (¬4) ربذت يده بالقداح أي خفت: والربذ خفة القوائم في المشي، وخفة الأصابع في العمل. وفلان ذو ربذات: أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه.

قال الدارقطني - وذكر سند عدلًا (¬1) ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال: ((والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما. وايم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي. ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا. وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا (¬2)) ) . فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه. فأعرضوا عن الغاوين، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين. وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين. وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد هلك من كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه. ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى. وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقادًا وعملًا. ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملًا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. ورحم الله الربيع بن خثيم (¬3) فإنه لما قيل له: قتل الحسين! قال: أقتلوه؟ قالوا: نعم. فقال: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] (الزمر: 46) . ¬

(¬1) قال حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ودعلج بن أحمد قالا: حدثنا محمد بن أحمد بن النضر، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، عن عبد الله بن عمر، عن ربعي. . . إلخ وربعي هو ابن حراش العبسي أبو مريم الكوفي. (¬2) أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه وتذكيرها بسيرة السلف. (¬3) هو من تلاميذ عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون، وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو بردة. قال له ابن مسعود: لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك. توفي سنة 64.

قاصمة

ولم يزد على هذا أبدًا. فهذا العقل والدين، والكف عن أحوال المسلمين، والتسليم لرب العالمين. [قاصمة] قاصمة فإن قيل: إنما يكون ذلك في المعاني التي تشكل، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بعده فقال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (¬1) [وقال] : «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله» (¬2) فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند. ¬

(¬1) في كتاب المغازي من صحيح البخاري (ك 64 ب 78 - ج 5 ص 129) وفي فضائل الصحابة من صحيح مسلم (ك 44 ح 31 - ج 7 ص 120 من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًّا فقال علي: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)) . وانظر المناقشة في هذا الحديث بين السيد عبد الله بن الحسين السويدي سنة 1156 وبين الملاباشي علي أكبر شيخ علماء الشيعة ومجتهديهم في زمن نادر شاه في كتاب (مؤتمر النجف) ص 25 - 27 طبع السلفية. (¬2) في مسند أحمد (1: 84، 88، 118، 119، 152 الطبعة الأولى رقم 641، 670، 950، 961، 1310. وفي 4: 281، 368، 370، 372 الطبعة الأولى و 5: 347، 366، 370، 419 الطبعة الأولى) . وانظر تفسير الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب لهذا الحديث في ص 185 - 186، وسيأتي كلام المؤلف على الحدثين في ص 192.

فتعدى عليه أبو بكر واقتعد في غير موضعه. ثم خلفه في التعدي عمر. ثم رجي أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق، فأبهم الحال، وجعلها شورى قصرًا للخلاف، للذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم. ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان. ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة، وصار الأمر إلى علي بالحق الإلهي النبوي، فنازعه من عاقده، وخالف عليه من بايعه، ونقض عهده من شده. وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين، بل الكفر (¬1) . ¬

(¬1) كل هذه الفقرات من هذيان مرتكبي ((القاصمة)) وشيعتهم. وقد أجاب المؤلف في ((العاصمة)) التالية مدحضًا سخافاتهم، ولكن اتسع عليه ميدان القول ففاقه الكلام عن موقف أهل الشام من هذه الفتن التي وقعت في الإسلام. وقد رأيت في ص 121 قول ابن الكواء أحد زعماء الفتنة وهو يصف أشباهه في الأمصار الكبرى: ((وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاهم لمغويهم)) . وإذا كان أهل الأحداث في الشام هكذا على ما شهد به زعيم من زعماء الفتنة، فإن أهل العافية والإيمان منهم قد شهد لهم أمير المؤمنين علي فيما نقله ابن كثير في البداية والنهاية (8: 20) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ، عن شيخه معمر بن راشد البصري وهو أيضًا من الأعلام، عن الزهري مدون السنة وشيخ الأئمة، أن عبد الله بن صفوان الجمحي قال: قال رجل من صفين ((اللهم العن أهل الشام)) فقال له علي: ((لا تسب أهل الشام)) فإن بها الأبدال، فإنها بها الأبدال، فإن بها الأبدال)) وروي هذا الحديث من وجه آخر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أبو إدريس الخولاني وهو من أعلام حملة السنة والشريعة ومن شيوخ الحسن البصري وابن سيرين ومكحول وأضرابهم أن أبا الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعه بصري فعمد به إلى الشام. وإن الإيمان - حين تقع الفتنة - بالشام)) . وروى هذا الحديث من الصحابة - غير أبي الدرداء - أبو أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص. وللمقارنة بين أهل الشام والذين كانوا يحاربون ننقل عن ابن كثير (7: 325) خبر الأعمش بن عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي يوم جمعة فقال، نبئت أن بسرًا قد طلع اليمن، وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم، وبخيانتكم وأمانتهم وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم. وقد بعثت فلانًا فخان وغدر وبعثت فلانًا فخان وغدر وبعث المال إلى معاوية. لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته. اللهم سئمتهم وسئموني، وكرهتهم وكرهوني. اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم. بهذا وصف علي جيشه وشيعته وبعكسه في الفضائل وصف أهل الشام الذين اضطروا إلى أن يقفوا من طائفته موقف المحارب. وليس بعد وصف علي لأهل الشام بالطاعة والأمانة والإصلاح، إلا الضرب بهذه القنبلة في وجوه واصفيهم بالكفر والفسوق في الدين.

وهذه حقيقة مذهبهم (¬1) أن الكل عندهم كفرة (¬2) لأن من مذهبهم ¬

(¬1) أي حقيقة مذهب الشيعة وأعداء الصحابة. (¬2) يستثنون منهم - بعد علي وبعض آله - سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبا الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبا أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبا سعيد الخدري. وبعض الشيعة يرى أن الطيبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عددًا من هؤلاء.

عاصمة

التكفير بالذنوب (¬1) . وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر (¬2) على رسم القدرية (¬3) ولا أعصى من الخلفاء المذكورين (¬4) ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حمية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة (¬5) . [عاصمة] [مقارنة موقفهم من الصحابة بموقف اليهود والنصارى من أصحاب موسى وعيسى] عاصمة قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا - لا ننقص منها يومًا ولا نزيد يومًا - وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟ . ¬

(¬1) ومن مذهبهم أن عليًّا وأحد عشر من آله معصومون عن الخطأ، وأنهم مصدر تشريع. ويقبلون التشريع الذي ينسبه إليهم رواة يشترط فيهم التشيع والموالاة، وإن عرفهم الناس بما ينافي الصدق أو يناقض ما هو معلوم من الدين بالضرورة. (¬2) ومدلول الكبيرة عندهم غير مدلولها عند المسلمين. (¬3) أي الذين ينكرون القدر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 24) : ((كان قدماء الشيعة متفقين في دولة بني بويه)) . ثم فجروا وجعلوا (الغلو) من ضروريات مذهبهم من زمن الدولة الصفوية إلى الآن. (¬4) وهم أبو بكر وعمر وعثمان. (¬5) ومع ذلك يوجد فيمن ينتمي إلى الأزهر، وإلى السنة، من يوالي دار التقريب بين المذاهب التي تأسست في القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية، ويتسلى بصرف بقية عمره في الاختلاف إليها وتبادل التقية مع القائمين عليها.

ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل (¬1) . فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] (النور: 55) (¬2) وهذا قول صدق، ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة. وقد أجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نص على أحد يكون من بعده (¬3) . وقد قال العباس لعلي - فيما روى عنه عبد الله ¬

(¬1) أخرج الحافظ ابن عساكر (4: 165) أن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة. ((والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم، ثم لا نقبل منكم توبة)) . فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟ قال: نحن أعلم بهؤلاء منكم. إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في (التقية) . ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله، وليست باب فضل، إنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق. وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله)) . . . (¬2) انظر ص 51 - 53. (¬3) نقل الحافظ ابن عساكر (4: 166) عن الحافظ البيهقي حديث فضيل بن مرزوق أن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب سئل فقيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) ؟ فقال: ((بلى: ولكن والله لم يعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان. ولو أراد ذلك لفصح لهم به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين. ولو كان الأمر كما قيل لقال: يا أيها الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا. والله لئن كان الله ورسوله اختار عليًّا لهذا الأمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله، لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله)) . ورواه البيهقي من طرق متعددة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان والمعنى واحد.

ابنه - قال عبد الله بن عباس: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا حسن، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا. فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا. وإني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى من وجعه هذا. إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت. اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله: فيمن يكون هذا الأمر بعده، فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا. فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) . قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : رأي العباس عندي أصح، ¬

(¬1) رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك 64 ب 83 - ج 5 ص 140 - 141) . ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (5: 227 و 251) من حديث الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس. ورواه الإمام أحمد في مسنده (1: 263 و 325 و 2374 و 2999) .

الأحاديث الصحيحة في أبي بكر وعمر ومكانتهما العليا

وأقرب إلى الآخرة، والتصريح بالتحقيق. وهذا يبطل قول مدعي الإشارة باستخلاف علي، فكيف أن يُدَّعَى فيه نص؟ ! . [الأحاديث الصحيحة في أبي بكر وعمر ومكانتهما العليا] فأما أبو بكر، فقد «جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه. قالت له: فإن لم أجدك - كأنها تعني الموت - قال: تجدين أبا بكر» (¬1) . «وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر وقد وقع بينه [أي بين عمر] وبين أبي بكر كلام، فتعمر وجه النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) حتى أشفق من ذلك أبو بكر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل أنتم تاركو لي صاحبي (مرتين) . إني بعثت إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته» (¬3) ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذًا في الإسلام خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلا. ولكن أخي، وصاحبي» (¬4) ". وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا. لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة ¬

(¬1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 191) من حديث جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت - قال صلى الله عليه وسلم: " إن لم تجديني فأتي أبا بكر ". (¬2) تمعر وجهه: تغير، وذهب ما كان فيه من النضارة، وإشراق اللون. (¬3) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 192) عن أبي الدرداء مطولا. (¬4) في الباب المذكور من كتاب مناقب الصحابة في صحيح البخاري (ج 4 ص 191) من حديث عكرمة عن ابن عباس.

أبي بكر (¬1) . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيتني على قليب (¬2) عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين (¬3) وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غربًا (¬4) فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقريًا من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن» (¬5) . وقد ثبت أن «النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحُدا وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف بهم: فقال: " اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان» (¬6) . وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يُكَلَّمُون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي ¬

(¬1) في هذه الجملة اضطراب ونقص. وانظر لهذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري في ذلك الموضع من صحيح البخاري (ج 4 ص 190 - 191) ، وحديث ابن عباس في مسند أحمد (1: 270 رقم 2432) ، والبداية والنهاية (5: 229 و230) . (¬2) القليب: البئر غير المطوية. (¬3) الذنوب: الدلو العظيمة إذا ملئت ماء. وابن أبي قحافة هو أبو بكر. (¬4) أي ثم عظمت فصارت كالدلو الواسعة التي تتخذ من جلد الثور لكبرها. (¬5) أي حتى اتخذ الناس حولها مبركا لإبلهم لغزارة مائها، والحديث في ذلك الموضوع من صحيح البخاري (ج 4 ص 193) من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. (¬6) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح مسلم (ك 62 ب 5 - ج 4 ص 197) من حديث قتادة عن أنس بن مالك.

منهم أحد فعمر» (¬1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في مرضه: «ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» (¬2) . وقال ابن عباس: «إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، وإني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون بأيديهم، فالمستكثر والمستقل. وأرى سببًا واصلًا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت، [ثم أخذ به رجل آخر فعلا به، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به] ، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع، ثم وصل له فعلا» (وذكر الحديث) . ثم عبرها أبو بكر فقال: وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه، فأخذته فيعليك الله. ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به (¬3) . ¬

(¬1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 6 - ج 4 ص 200) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة. (¬2) في مسند أحمد (6: 144 الطبعة الأولى) من حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة، وانظر المسند أيضا (6: 47 و106) وطبقات ابن سعد 3 (1: 127) ومسند أبي داود الطيالسي: الحديث 1508. (¬3) في كتاب التعبير من صحيح البخاري (ك 91 ب 47 - ج 8 ص 83 - 84) من حديث عبد الله بن عباس، وفي كتاب الرؤيا من صحيح مسلم (ك 47 ح 17 - ج 7 ص 55 - 56) من حديث ابن عباس، وفي مسند أحمد (1: 236 الطبعة الأولى رقم 2113) من حديث ابن عباس.

وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «من رأى منكم رؤيا فقال رجل: أنا رأيت، كأن ميزانًا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر فَرَجَحْت. ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر. ووزن عمر وعثمان فرجح عمر. ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم» (¬1) . وهذه الأحاديث جبال في البيان، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله. ولو لم يكن معكم - أيها السنية - إلا قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] (التوبة من الآية 40) فجعلها (¬2) في نصيف، وجعل أبا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة. وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصًا وعمومًا. وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55] (سورة النور: من الآية 55) . وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ؟ وإذا لم يكن فيهم ¬

(¬1) في كتاب السنة من سنن أبي داود (ك 39 ب 8 ح 4634) من حديث أبي بكرة. وفي كتاب الرؤيا من جامع الترمذي (الباب 10) من حديث أبي بكرة أيضا. وانظر في مسند أحمد (5: 259) الطبعة الأولى حديث أبي أمامة عن رجحان كفة أبي بكر بكفة فيها جميع الأمة. . . إلخ. (¬2) أي الأمة.

مراتب الصحابة ومن بعدهم وأصناف أئمة الدين ومنازلهم

فبمن يكون؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم يتقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا، ومن بعد مختلف فيه، وأولئك مقطوع بهم، متيقن إمامتهم، ثابت نفوذ وعد الله لهم، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين، وقاموا بسياسة الدين. قال علماؤنا: ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم أركان الملة، ودعائم الشريعة، الناصحون لعباد الله، الهادون من استرشد إلى الله. فأما من كان من الولاة الظلمة فضرره مقصور على الدنيا وأحكامها. [مراتب الصحابة ومن بعدهم وأصناف أئمة الدين ومنازلهم] وأما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله، وهم أربعة أصناف: الصنف الأول: حفظوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش. الصنف الثاني: علماء الأصول: ذبوا عن دين الله أهل العناد وأصحاب البدع، فهم شجعان الإسلام، وأبطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال (¬1) . الصنف الثالث: قوم ضبطوا أصول العبادات، وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات، وأحكموا الخراج والديات، وبينوا معاني الأيمان والنذور، وفصلوا الأحكام في الدعاوى، فهم - في الدين - بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال. الصنف الرابع: تجردوا للخدمة، ودأبوا على العبادة، واعتزلوا الخلق. وهم - في الآخرة - كخواص الملك في الدنيا. وقد أوضحنا في كتاب (سراج المريدين) في القسم الرابع من علوم القرآن أي المنازل أفضل من هؤلاء الأصناف، وترتيب درجاتهم. ¬

(¬1) المداعسة: المطاعنة، والمدافعة.

قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : وهذه كلها إشارات أو تصريحات أو دلالات أو تنبيهات. ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى، وتحقيق ما كان من العقلاء. ونقول - بعد هذا البيان - على مقام آخر: لو كان هنالك نص على أبي بكر أو على علي، لم يكن بد من احتجاج علي به، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار. فأما حديث غدير خم (¬1) فلا حجة فيه، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته - عند سفره للمناجاة - على بني إسرائيل. وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة؟ . وأما قوله «اللهم وال من والاه» فكلام صحيح، ودعوة مجابة وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة، فإنهم أنزلوه في غير منزلته، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته. والزيادة في الحد نقصان من المحدود. ولو تعدى عليها أبو بكر ما كان المتعدِّي وحده، بل جميع الصحابة - كما قلنا - لأنهم ساعدوه على الباطل. ولا تستغربوا هذا من قولهم، فإنهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مداريًا لهم، معنيا بهم على نفاق وتقية. وأين أنت من قول النبي صلى الله عليه وسلم «حين سمع قول عائشة رضي الله عنها: مروا عمر فليصل بالناس " إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس» (¬2) ". ¬

(¬1) الذي مضى في القاصمة ص 181، وانظر في ص 185 - 186 تفسير الحسن المثنى لهذا الحديث. (¬2) صحيح البخاري (ك 10 ب 39 و46 و67 و70 - ج 1 ص 161 - 162 و165، و174 - 176) من حديث عائشة وأبي موسى الأشعري.

إصابة عمر في جعل الإمامة شورى ودقة ابن عوف في تخير عثمان

وما قدمنا من تلك الأحاديث (¬1) . [إصابة عمر في جعل الإمامة شورى ودقة ابن عوف في تخير عثمان] لقد اقتحموا عظيمًا، ولقد افتروا كبيرًا. وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر، إذ قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف (¬2) " فما رد هذه الكلمات أحد. وقال: " أجعلها شورى في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض (¬3) . وقد رضي الله عن أكثر منهم، ولكنهم كانوا خيار الرضا، وشهد لهم بالأهلية للخلافة. وأما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه (¬4) . وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول، فالحول والقوة لله. وقد علم كل أحد أنه ¬

(¬1) في ص 187 - 190. (¬2) في كتاب الإمارة من صحيح مسلم (ك 33 ح 11 و12 - ج 6 ص 4 - 5) من حديث عروة بن الزبير عن ابن عمر، ومن حديث سالم عن ابن عمر. وفي مسند أحمد (1: 43 رقم 299) عن عروة عن ابن عمر، و (1: 46 رقم 322) عن حميد بن عبد الرحمن عن ابن عباس، و (1: 47 رقم 332) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر. (¬3) من حديث عمرو بن ميمون المطول في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 8 ج 4 ص 204 - 207) ، وانظر كتابنا هذا ص 52 - 53. (¬4) بل إلى الله. وإن الله هو الموفق لابن عوف وسائر إخوانه الصحابة حتى كانوا في ذلك الموقف على ما أراده الله لهم من صفاء النية وإخلاص القصد والعمل لله وحده. فكان من اختيار خليفة عمر في حادث الشورى مثلا أعلى للنفس الإنسانية عندما تكون في أعلى مراتب النبل، والتجرد عن جميع خواطر الهوى.

لم يكن بعد عثمان أولى بها من علي فجاءته على قدر

لا يليها إلا واحد، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر - بعد أن أخرج نفسه - على أن يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد، فكان كما فعل، وولاها من استحقها، ولم يكن غيره أولى منه بها، حسبما بينا في مراتب الخلافة من (أنوار الفجر) (¬1) وفي غيره من [كتب] الحديث. [لم يكن بعد عثمان أولى بها من علي فجاءته على قدر] وقتل عثمان، فلم يبق على الأرض أحق بها من علي، فجاءته على قدر، في وقتها ومحلها. وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله أن يبين. وقد قال عمر: " لولا علي لهلك عمر " (¬2) وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة - من استدعائهم ومناظرتهم، وترك مبادرتهم، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه: لا نبدأ بالحرب. ولا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا تهاج امرأة، ولا نغنم لهم مالا - وأمره بقبول شهادتهم، والصلاة خلفهم، حتى قال أهل العلم: لولا ما جرى ما عرفنا قتال أهل البغي. وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه (¬3) . وأما تكفيرهم للخلق، فهم الكفار، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التي ليس منها سب في غير ما كتاب، وشرحناها في كل باب. ¬

(¬1) هو التفسير الكبير لابن العربي في ثمانين مجلدا. تكلمنا عليه في ص 27. (¬2) هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه " أول من يصافحه الحق عمر "، وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به " وقوله صلى الله عليه وسلم " لو كان من بعدي نبي لكان عمر ". (¬3) وأنه كان خروجا للتفاهم والتعاون على إقامة الحدود الشرعية في مقتل أمير المؤمنين عثمان، انظر ص 150 - 152.

فإن قيل: فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعليًّا اختصما عند عمر في شأن أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال العباس لعمر: يا أمير المؤمنين، أقض بيني وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر (¬1) . فقال الرهط لعمر: يا أمير المؤمنين، اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر. فقال عمر: أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث، ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه؟ قالوا: قد قال ذلك. فأقبل على العباس وعلي فقال: أنشدكما الله، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك؟ قالا: نعم. قال عمر: إن الله خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدًا غيره، فعمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته، ثم توفي، فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

(¬1) تقدم في ص 49 - 50 ذكر هذه التقاضي بين العباس وعلي عند أمير المؤمنين عمر من حديث مالك بن أوس بن الحدثان النصري في صحيح البخاري. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ك 57 ب 1 - ج 6 ص 125) : زاد شعيب ويونس: " فاستب علي وعباس " وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض: " اقض بيني وبين هذا الظالم. استبا " وفي رواية جويرية " وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن " وقال الحافظ: ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء، بخلاف ما يفهم من قوله في رواية عقيل " استبا ". واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال: لعل الرواة وهم فيها وإن كانت محفوظة، فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي، لأنه كان عنده بمنزلة الولد، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه.

وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن (¬1) والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق. . . وذكر الحديث. قلنا: أما قول العباس لعلي فقول الأب للابن، وذلك على الرأي محمول، وفي سبيل المغفرة مبذول، وبين الكبار والصغار - فكيف الآباء والأبناء - مغفور موصول، وأما قول عمر أنهما اعتقدا أن أبا بكر ظالم خائن غادر، فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا، ولم ير العباس وعلي ذلك. ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه. وأما المحكوم عليه فرأى أنه قد وهم، ولكن سكت وسلم. فإن قيل: إنما يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر - إذ كان الحكم باجتهاد، وأما [بعد أن] أدى هذا الحكم إلى منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث ما تركناه صدقة» وعلمه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشرة وشهدوا به، فبطل ما قلتموه (¬2) . قلنا: يحتمل أن يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر بعد - فرأيا أن خبر الواحد في معارضة القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر، فلما تقرر سلما وانقادا، بدليل ما قدمنا من ¬

(¬1) قال الحافظ ابن حجر (6: 125) : وكان الزهري يحدث به تارة فيصرح، وتارة فيكني، وكذلك مالك، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عند الإسماعيلي وغيره، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي. . . إلخ. (¬2) انظر ص 48 - 51.

قاصمة بيعة الحسن وصلحه مع معاوية

الحديث الصحيح إلى آخره، فلينظر فيه. وهذا أيضًا ليس بنص في المسالة، لأن قوله: «لا نورث، ما تركناه صدقة» يحتمل أن يكون: لا يصح ميراثنا، ولا أنا أهل له، لأنه ليس لي ملك، ولا تلبست بشيء من الدنيا فينتقل إلى غيري عني. ويحتمل " لا نورث " حكم، وقوله " ما تركناه صدقة " حكم آخر معين أخبر به أنه قد أنفذ ذلك مخصوصًا بما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، وكان له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة. ويحتمل أن يكون " صدقة " منصوبًا على أن يكون حالًا من المتروك. إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة، وهو ضعيف، وقد بيناه في موضعه. بيد أنه يأتيك في هذا أن المسألة مجرى الخلاف، ومحل الاجتهاد، أنها ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله أعلم. [قاصمة بيعة الحسن وصلحه مع معاوية] قاصمة ثم قتل علي. قالت الرافضة: فعهد إلى الحسن، فسلمها الحسن إلى معاوية، فقيل له " مُسَوِّدُ وجوه المؤمنين (¬1) " وفسقته جماعة من الرافضة، ¬

(¬1) من عناصر إيمان الرافضة - بل العنصر الأول في إيمانهم - اعتقادهم بعصمة الحسن وأبيه وأخيه، وتسعة من ذرية أخيه. ومن مقتضى عصمتهم - وفي طليعتهم الحسن بعد أبيه - أنهم لا يخطئون، وأن كل ما صدر عنهم فهو حق، والحق لا يتناقض. وأهم ما صدر عن الحسن بن علي بيعته لأمير المؤمنين معاوية، وكان ينبغي لهم أن يدخلوا في هذه البيعة، وأن يؤمنوا بأنها الحق لأنها من عمل المعصوم عندهم. لكن المشاهد من حالهم أنهم كافرون بها. ومخالفون فيها لإمامهم المعصوم. ولا يخلو هذا من أحد وجهين: فإما أنهم كاذبون في دعوى العصمة لأئمتهم الاثني عشر فينهار دينهم من أساسه، لأن عقيدة العصمة لهم هي أساسه، ولا أساس له غيرها. وإما أن يكونوا معتقدين عصمة الحسن، وأن بيعته لمعاوية هي من عمل المعصوم، لكنهم خارجون على الدين، ومخالفون للمعصوم فيما جنح إليه وأراد أن يلقى الله به. ويتواصون بهذا الخروج على الدين جيلا بعد جيل، وطبقة بعد طبقة، ليكون ثباتهم على مخالفة الإمام المعصوم عن إصرار وعناد ومكابرة وكفر. ولا ندري أي الوجهين يطوح بهم في مهاوي الهلكة أكثر مما يطوح بهم الوجه الآخر، ولا ثالث لهما. فالذين قالوا منهم إن الحسن " مسود وجوه المؤمنين " لا يحمل كلامهم إلا على أنه " مسود وجوه المؤمنين بالطاغوت " أما المؤمنون بنبوة جد الحسن صلى الله عليه وسلم فيرون صلحه مع معاوية وبيعته له من أعلام النبوة، لأنها حققت ما تنبأ به صلى الله عليه وسلم في سبطه سيد شباب أهل الجنة من أنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين كما سيأتي بيانه. وكل الذين استبشروا بهذه النبوة وبهذا الصلح يعدون الحسن " مبيض وجوه المؤمنين ".

عاصمة

وكفرته طائفة لأجل ذلك. [عاصمة] [علي لم يعهد إلى الحسن لكن البيعة للحسن منعقدة] عاصمة قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : أما قول الرافضة أنه عهد إلى الحسن فباطل. ما عهد إلى أحد (¬1) . ولكن البيعة للحسن منعقدة، ¬

(¬1) روى الأمام أحمد في مسنده (1: 1078) عن وكيع عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن سبع قال: سمعت عليا يقول (وذكر أنه سيقتل) قالوا: فاستخلف علينا. قال: " لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته؟ " قال: " أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم ". روى أحمد مثله (1: 156 برقم 1339) عن أسود بن عامر عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عبد الله بن سبع. والخبران إسناد كل منهما صحيح. ونقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5: 250 - 251) عن الإمام البيهقي من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الإمام الشعبي عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي أحد سادة التابعين أنه قيل لعلي: ألا تستخلف علينا؟ قال: " ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم " وهذا الحديث جيد الإسناد. ونقل ابن كثير أيضا (7: 323) عن الإمام البيهقي حديث حبيب بن أبي الكاهلي الكوفي عن ثعلبة بن يزيد الحماني (وهو من شيعة الكوفة وثقه النسائي) أنه قيل لعلي: ألا تستخلف؟ فقال " لا، ولكن أترككم كما ترككم رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وانظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 149.

وهو أحق من معاوية ومن كثير من غيره، وكان خروجه لمثل ما خرج إليه أبوه من دعاء الفئة الباغية إلى الانقياد للحق والدخول في الطاعة، فآلت الوساطة إلى أن تخلى عن الأمر صيانة لحقن دماء الأمة (¬1) وتصديقًا لقول ¬

(¬1) حكاية الوساطة بين الحسن ومعاوية وصلحهما رواها الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه (ك 53 ب 9 ج 3 ص 169) عن الإمام الحسن البصري قال: استقبل - والله - الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال. فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها. فقال له معاوية - وكان والله خير الرجلين -: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس - عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز - فقال: اذهبا إلى هذا الرجل (أي الحسن بن علي) فاعرضا عليه (أي ما يشاء) ، وقولا له (أي ما يرضيه) ، واطلبا إليه (أي ما تريان فيه المصلحة، فأنتما مفوضان) . فأتياه، فدخلا عليه، فتكلما، وقالا له، وطلبا إليه. فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها (أي فيحتاج إرضاؤها في دمائها إلى مال كثير) قال: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك، ويسألك. قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فما سألهما شيئا إلا قال: نحن لك به. فصالحه.

حديث الخلافة ثلاثون سنة ينقضه حديث اثنا عشر خليفة

نبي الملحمة حيث قال على المنبر: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬1) فنفذ الميعاد، وصحت البيعة لمعاوية، وذلك لتحقيق رجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فمعاوية خليفة، وليس بملك (¬2) . [حديث الخلافة ثلاثون سنة ينقضه حديث اثنا عشر خليفة] فإن قيل: فقد روي عن سفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخلافة ثلاثون سنة، ثم تعود ملكًا» فإذا عددنا من ولاية أبي بكر إلى تسليم الحسن كانت ثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص يومًا، قلنا: خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ ... فِي طَلْعَةِ الْبَدْرِ مَا يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ ¬

(¬1) رواه البخاري مع الحديث السابق عن الحسن البصري أنه سمعه من أبي بكرة وأن أبا بكرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه فقال ذلك، ورواه البخاري أيضا في مناقب الحسن والحسين من كتاب فضائل الصحابة من صحيحه (ك 62 ب 22 - ج 4 ص 216) ، وانظر البداية والنهاية (8: 17 - 19) وابن عساكر (4: 211 212) . (¬2) سيأتي الكلام على هذا الموضوع في ص 207 - 210.

هذا الحديث (¬1) في ذكر الحسن بالبشارة له والثناء عليه، لجريان الصلح بين يديه، وتسليم الأمر لمعاوية، عقد منه له (¬2) . وهذا (¬3) حديث لا يصح (¬4) . ولو صح فهو معارض لهذا الصلح ¬

(¬1) أي حديث " إن ابني هذا سيد " الذي رواه البخاري عن الحسن البصري عن أبي بكرة. (¬2) أي عقد بيعة من الحسن لمعاوية. وكان ذلك في موضع يقال له " مسكن " على نهر دجيل في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين، فسمي ذلك العام " عام الجماعة " لاجتماع المسلمين بعد الفرقة، وتفرغهم للحروب الخارجية والفتوح ونشر دعوة الإسلام بعد أن عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا فيها أمجادا لا يستطيع غيرهم مثلها في خمسة قرون. ولله في كل شيء حكمة. (¬3) أي حديث سفينة. (¬4) لأن راويه عن سفينة سعيد بن جهمان، وقد اختلفوا فيه: قال بعضهم: لا بأس به، ووثقه بعضهم، وقال فيه الإمام أبو حاتم " شيخ لا يحتج به ". وفي مسنده حشرج بن نباتة الواسطي وثقه بعضهم، وقال فيه النسائي: " ليس بالقوي ". وعبد الله بن أحمد بن حنبل يروي هذا الخبر عن سويد الطحان قال فيه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: " لين الحديث ". وهذا الحديث المهلهل يعارضه ذلك الحديث الصحيح الصريح الفصيح في كتاب الإمارة من صحيح مسلم (ك 33 ح 5، 6، 7، 8، 9، 10 - ج 6 ص 3 - 4) عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: " إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة " قال: ثم تكلم بكلام خفي علي، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: " كلهم من قريش ". وانظره في كتاب الأحكام من صحيح البخاري (ك 93 ب 51 - ج 8 ص 125 - 127) وفي فتح الباري (13: 162 وما بعدها) وفي سنن أبي داود (ك 35 ح 1) وفي جامع الترمذي (ك 31 ب 46) وفي مسند الإمام أحمد (1: 398 و406 برقم 3781 و3859) من حديث الشعبي عن مسروق بن الأجدع الهمداني الإمام القدوة قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله بن مسعود: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك. ثم قال: نعم، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل ". والحديث في مجمع الزوائد (5: 90) . وفي مسند أحمد (5: 86، 87 بثلاث روايات و88، 89، 90 بثلاث روايات و92 بثلاث روايات و93 بروايتين و94 و95 و96 بروايتين و97 بروايتين و98 بثلاث روايات و99 بثلاث روايات و100، 101 بروايتين و106 بروايتين و107 بروايتين و108) وفي مسند أبي داود الطيالسي (ح 967 و1278) .

مزايا معاوية وسيرته الممتازة التي أهلته لحمل أعباء الإسلام

المتفق عليه، فوجب الرجوع إليه (¬1) . فإن قيل: ألم يكن في الصحابة أقعد بالأمر من معاوية؟ قلنا: كثير (¬2) . [مزايا معاوية وسيرته الممتازة التي أهلته لحمل أعباء الإسلام] ولكن معاوية اجتمعت فيه خصال: وهي أن عمر جمع ¬

(¬1) أي إلى العقد من الحسن لمعاوية، فهو متفق عليه، وتناولته البشرى النبوية بالثناء والرضا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 242) : وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحا يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم بترك واجب أو مستحب. . . إلخ. (¬2) كسعد بن أبي وقاص المجاهد الفاتح أحد العشرة المبشرين بالجنة، وعبد الله بن عمر بن الخطاب عالم الصحابة الثابت على قدم المصطفى صلى الله عليه وسلم في جليل الأمور ودقيقها، وغيرهما من هذه الطبقة وقريب منها، وهؤلاء هم الذين ترك لهم الحكمان - أبو موسى وعمرو - أمر الإمامة بعد حرب صفين ليروا فيها رأيهم، فلما رأوا اجتماع الأمة كلها على معاوية دخلوا كلهم في إمامته وبايعوه. بعد أن كانوا معتزلين الفتنة من بعد عثمان (انظر فتح الباري 13: 50) . ومعاوية نفسه يعرف للناس أقدارهم. فقد جاء في البداية والنهاية (8: 134) عن ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي أن معاوية خطب فقال: " يا أيها الناس، ما أنا بخيركم، وإن منكم لمن هو خير مني: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو وغيرهما من الأفاضل. ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدرَّكم حلبا ". ورواه ابن سعد عن محمد بن مصعب عن أبي بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى معاوية أنه سمع معاوية يقول ذلك.

له الشامات كلها وأفرده بها (¬1) لما رأى من حسن سيرته (¬2) وقيامه ¬

(¬1) فأصبحت تحت قيادته وبحسن سياسته أقوى قوة في الإسلام، وهي في طليعة جيوش الجهاد والفتوح الظافرة الداعية إلى الله بأخلاقها وسيرتها وحكمة قادتها وصدق إسلامهم. (¬2) تقدم في ص 82 حديث الليث بن سعد إمام أهل مصر بسنده الوثيق إلى سعد بن أبي وقاص فاتح العراق وإيران ومبيد دولة كسرى أنه ما رأى بعد عثمان أقضى بالحق من معاوية. وحديث عبد الرزاق الصنعاني بسنده إلى حبر الأمة ابن عباس أنه ما رأى رجلا أخلق بالملك من معاوية. وفي ص 83 قول شيخ الإسلام ابن تيمية، كانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه، وقد ثبت في صحيح مسلم (ك 33 ح 65 و66) قول النبي صلى الله عليه وسلم " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ". وفي الطبري (6: 188) رواية مجالد عن الشعبي أن قبيصة بن جابر الأسدي قال: ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلا أفقه فقها ولا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلا أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلا أحب رفيقا ولا أشبه سريرة بعلانية منه.

بحماية البيضة وسد الثغور (¬1) وإصلاح الجند والظهور على العدو (¬2) ¬

(¬1) وقد بلغ من همته وعظيم عنايته بذلك أن أرسل يهدد ملك الروم - وهو في معمعة القتال مع علي في صفين - وقد بلغه أن ملك الروم اقترب من الحدود في جنود عظيمة فكتب إليه يقول " والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت " فخاف ملك الروم وانكف (البداية والنهاية 8: 119) . (¬2) في البر والبحر، فكانت رايات الإسلام تخترق الآفاق بأيدي جنده ممثلة العزة التي أرادها الله لدينه ورسالة رسوله وللمؤمنين بها. وكما أن فتح مصر ودخولها في الإسلام والعروبة من عمل عمرو بن العاص وحده. فإن تأسيس الأسطول الإسلامي والفتوح البحرية الأولى من عمل معاوية وحده. مما ينبغي للمشتغل بتاريخ العروبة والإسلام أن يعلمه أن معاوية مفطور على سجية السيادة والقيادة وصناعة الحكم، أخرج ابن كثير في التاريخ (8: 135) عن هشيم عن العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " ما رأيت أحدا أسود من معاوية ". قال جبلة بن سحيم. قلت ولا عمر؟ قال " كان عمر خيرا منه، وكان معاوية أسود منه " ورووا مثل هذه الكلمة في معاوية عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. وتقدم قول عبد الله بن العباس " ما رأيت رجلا كان أخلق بالملك من معاوية ".

وسياسة الخلق (¬1) . وقد شهد له في صحيح الحديث بالفقه (¬2) وشهد بخلافته ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة 3: 185) : لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى من بعده. وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل. وقد روى أبو بكر الأثرم -ورواه ابن بطة من طريقه- حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا محمد بن مروان، عن يونس، عن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي. وروى ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي. وروى الأثرم: حدثنا أحمد بن جوّاس، حدثنا أبو هريرة المكتب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: أخبرنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة الثقفي، عن أبي إسحاق السبيعي أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم: كان المهدي. وهذه الشهادة من هؤلاء الأئمة الأعلام لأمير المؤمنين معاوية صدى استجابة الله عز وجل دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم لهذا الخليفة الصالح يوم قال صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعله هاديا، مهديا واهد به " وهو من أعلام النبوة. (¬2) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري (ك 62 ب 28 ج 4 ص 219) حديث أبي مليكة أن ابن عباس قيل له: " هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة. فقال: إنه فقيه ". وفي كتاب المناقب من جامع الترمذي (ك 46 ب 47) حديث عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمعاوية: " اللهم اجعله هاديا مهديا واهد به " ورواه الطبراني من طريق سعيد بن عبد العزيز التنوخي - وكان لأهل الشام كالإمام مالك لأهل المدينة - عن ربيعة بن يزيد الإيادي أحد الأئمة الأعلام عن عبد الرحمن بن أبي عميرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: " اللهم علمه الكتاب والحساب وَقِهِ العذاب ". وأخرجه الإمام البخاري في التاريخ قال: قال لي أبو مسهر (وذكره بالعنعنة) . وتقدم في ص 83 حديث عزل عمير بن سعد الأنصاري عن ولاية حمص في خلافة عمر وتوليته معاوية والشهادة له بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بأن يهدي الله به. ورواه الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي. ورواه ابن جرير من حديث ابن مهدي، ورواه أسد بن موسى وبشر بن السري وعبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح بإسناده. وزاد في رواية بشر بن السري " وأدخله الجنة ". ورواه ابن عدي وغيره عن ابن عباس. ورواه محمد بن سعد بسنده إلى مسلمة بن مخلد أحد فاتحي مصر وولاتها. ورواة هذا الدعاء النبوي لمعاوية من الصحابة أكثر من أن يحصوا. (وانظر البداية والنهاية 8: 120 - 121. وانظر ترجمة معاوية في حرف الميم من تاريخ دمشق لابن عساكر) . ومن لم يصدق هذا الحديث فهو منكر لكل ما ثبت في السنة من شريعة الإسلام. وفي الشيعة المبغضين لمعاوية اللاعنين له من يزعمون أنهم منتسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهل تراهم يحقدون على جدهم صلى الله عليه وسلم لرضاه على معاوية واستعانته به ودعائه له؟ " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". وروى الحافظ ابن عساكر عن الإمام أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية. فقال له: ولم: قال: لأنه قاتل عليا. فقال له أبو زرعة: " ويحك، إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فأيش دخولك أنت بينهما، رضي الله عنهما؟ ".

في حديث أم حرام أن ناسًا من أمته يركبون ثبج البحر الأخضر ملوكًا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة، وكان ذلك في

ولايته (¬1) . ويحتمل أن تكون مراتب في الولاية: خلافة، ثم ملك. فتكون ولاية الخلافة للأربعة، وتكون ولاية الملك لابتداء معاوية (¬2) . وقد قال الله في ¬

(¬1) أم حرام بنت ملحان صحابية من الأنصار من أهل قباء، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء استراح عندها، وهي خالة خادمه أنس بن مالك. روى البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه (ك 56 ب 3 - ج 3 ص 201) ومسلم في كتاب الإمارة (ك 33 ح 160) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها القيلولة ثم استيقظ وهو يضحك لأنه رأى ناسا من أمته غزاة في سبيل الله يركبون ثبج البحر - أي وسطه ومعظمه - ملوكا على الأسرة. ثم وضع رأسه فنام واستيقظ وقد رأى مثل الرؤيا الأولى. فقالت له أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال لها " أنت من الأولين ". قال الحافظ ابن كثير (8: 229) : يعني جيش معاوية حين غزا قبرس ففتحها سنة 27 أيام عثمان بن عفان (بقيادة معاوية عقب إنشائه الأسطول الإسلامي الأول في التاريخ) . وكانت معهم أم حرام في صحبة زوجها عبادة بن الصامت. ومعهم من الصحابة أبو الدرداء وأبو ذر وغيرهما. وماتت أم حرام في سبيل الله وقبرها بقبرس إلى اليوم. قال ابن كثير: ثم كان أمير الجيش الثاني يزيد بن معاوية في غزوة القسطنطينية. قال: وهذا من أعظم دلائل النبوة. (¬2) الخلافة والملك والإمارة عناوين اصطلاحية تتكيف في التاريخ باعتبار مدلولها العملي، والعبرة دائما بسيرة المرء وعمله. ومعاوية قد ولي الشام للخلافة الراشدة مدة عشرين سنة، ثم اضطلع بمهمة الإسلام كلها عشرين سنة أخرى في الوطن الإسلامي الأكبر بعد بيعة الحسن بن علي له، فكان في الحالتين قَوَّاما بالعدل، محسنا إلى الناس من كل الطبقات، يكرم أهل المواهب ويساعدهم على تنمية مواهبهم، ويسع بحلمه جهل الجاهلين فيعالج بذلك نقائصهم، ويلتزم في الجميع أحكام الشريعة المحمدية بحزم ورفق ومثابرة وإيمان. يؤمهم في صلواتهم ويوجههم في مجتمعهم ومرافقهم ويقودهم في حروبهم. وفي منهاج السنة 3: 185 والمنتقى منه ص 389 قول الصحابي الجليل أبي الدرداء لأهل الشام " ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هذا " يعني معاوية. وقد رأيت في ص 205 قول الأعمش للذين ذكروا عنده عمر بن عبد العزيز وعدله. " كيف لو أدركتم معاوية؟ " قالوا في حلمه؟ قال: " لا والله، بل في عدله ". وقد بلغ من استقامته على جادة الإسلام أن قال فيه أمثال قتادة ومجاهد وأبي إسحاق السبيعي - وكلهم من الأئمة الأعلام -: كان معاوية هو المهدي (انظر ص 205) . والذي يتتبع سيرة معاوية في حكمه يرى أن حكومته في الشام كانت حكومة مثالية في العدل والتراحم والتآسي، لم يخير بين الطيب والأطيب إلا اختار الأطيب على الطيب. فإذا كان هذا المسلك في أربعين سنة يؤهل الأمير المسلم للخلافة على المسلمين وقد ارتضوه لذلك واغتبطوا به فهو خليفة، ومن سماه ملكا لا يستطيع أن يكابر في أنه من أرحم ملوك الإسلام وأصلحهم، كنا أيام طلب العلم في القسطنطينية في مجلس للطلبة يتناقشون فيه موضوع سيرة معاوية وخلافته. وكان ذلك في أيام السلطان عبد الحميد. فوقف صديقي الشهيد السعيد عبد الكريم قاسم الخليل - وكان شيعيا - فقال: " أنتم تسمون سلطاننا خليفة، وأنا أخوكم الشيعي أعلن أن يزيد بن معاوية كان بسيرته الطيبة أحق بالخلافة وأصدق عملا بالشرع المحمدي من خليفتنا، فكيف بأبيه معاوية ". على أن معاوية كان يقول عن نفسه - فيما رواه خيثمة عن هارون بن معروف عن ضمرة عن ابن شوذب -: " أنا أول الملوك وآخر خليفة ". وتقدم في ص 77 حديث معمر عن الزهري " أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ". وقد أشرنا هناك إلى اختلاف البيئة وتأثيره في أنظمة الحكم، بل إن معاوية نفسه ذكر ذلك لعمر لما قدم عمر الشام وتلقاه معاوية في موكب عظيم، فاستنكر عمر ذلك، واعتذر له معاوية بقوله: إنا بأرض جواسيس العدو فيها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما يكون فيه عز للإسلام وأهله ونرهبهم به ". فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر: " ما أحسن ما صدر عما أوردته فيه يا أمير المؤمنين "، فقال عمر: من أجل ذلك جشمناه ما جشمناه " (البداية والنهاية 8: 124 - 125) ، وسيرة عمر التي حاول معاوية أن يسير عليها سنتين كانت المثل الأعلى في بيته، وكان يزيد يحدث نفسه بالتزامها. روى ابن أبي الدنيا عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني الحافظ عن رشدين المصري عن عمرو بن الحارث الأنصاري المصري عن بكير بن الأشج المخزومي المدني ثم المصري أن معاوية قال ليزيد: كيف تراك فاعلا إن وليت؟ قال: كنت والله يا أبة عاملا فيهم عمل عمر بن الخطاب. فقال معاوية: سبحان الله يا بني، والله لقد جهدت على سيرة عثمان فما أطقتها، فكيف بك وسيرة عمر (ابن كثير 8: 229) . والذين لا يعرفون سيرة معاوية يستغربون إذا قلت لهم: إنه كان من الزاهدين والصفوة الصالحين. روى الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص 172 طبع مكة) عن أبي شبل محمد بن هارون عن حسن بن واقع عن ضمرة بن ربيعة القرشي عن علي بن أبي حملة عن أبيه قال: رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه ثوب مرقوع. وأخرج ابن كثير (8: 134) عن يونس بن ميسر الحميري الزاهد (وهو من شيوخ الإمام الأوزاعي) قال: رأيت معاوية في سوق دمشق، وهو مردف وراءه وصيفا وعليه قميص مرقوع الجيب، يسير في أسواق دمشق، وكان قواد معاوية وكبار أصحابه يستهدونه ملابسه للتبرك بها، فكان إذا حضر أحدهم إلى المدينة وعليه هذه الملابس يعرفونها ويتغالون في اقتنائها. روى الدارقطني عن محمد بن يحيي بن غسان أن القائد الشهير الضحاك بن قيس الفهري قدم المدينة، فأتى المسجد فصلى بين القبر والمنبر، وعليه برد مرقع قد ارتدى به من كسوة معاوية، فرآه أبو الحسن البراد فعرف أنه برد معاوية فساومه عليه وهو يظنه أعرابيا من عامة الناس، حتى رضي أبو الحسن البراد أن يدفع له ثلاثمائة دينار. فانطلق به الضحاك بن قيس إلي بيت حويطب بن عبد العزى فلبس رداء آخر وأعطى أبا الحسن البراد ذلك البرد بلا ثمن وقال له " قبيح بالرجل أن يبيع عطافه، فخذه فالبسه " فأخذه أبو الحسن فباعه فكان أول ما أصابه (ابن عساكر 7: ص 6) وقد أوردنا هذه الأمثلة ليعلم الناس أن الصورة الحقيقية لمعاوية تخالف الصورة الكاذبة التي كان أعداؤه وأعداء الإسلام يصورونه بها، فمن شاء بعد هذا أن يسمي معاوية خليفة وأميرا للمؤمنين، فإن سليمان بن مهران الأعمش - وهو من الأئمة الأعلام الحفاظ، وكان يسمى " المصحف " لصدقه - كاد يفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز حتى في عدله. ومن لم يملأ معاوية عينه وأراد أن يضن عليه بهذا اللقب، فإن معاوية مضى إلى الله عز وجل بعدله وحلمه وجهاده وصالح عمله، وكان وهو في دنيانا لا يبالي أن يلقب بالخليفة أو الملك، وإنه في آخرته لأكثر زهدا بما كان يزهد به في دنياه.

داود - وهو خير من كل معاوية (¬1) -: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251] (البقرة: من الآية 251) فجعل النبوة ملكًا. فلا تلتفتوا إلى أحاديث ضعف سندها ومتنها (¬2) . ولو اقتضت الحال النظر في الأمور لكان - والله أعلم - رأي آخر للجمهور، ولكن انعقدت البيعة لمعاوية بالصفة التي شاءها الله، على ¬

(¬1) إن داود في نبوته - كما يعرفها المسلمون في دينهم - تجعله خيرا من كل معاوية. وأما داود اليهود - كما يعرفه الناس من توراتهم الموجودة الآن في الأيدي - فإن معاوية خير منه. ومن شقاء اليهود ألا يعرفوا للقرآن والإسلام فضلهما عليهم في تنزيه أنبياء بني إسرائيل عما وصموا به في كتبهم. (¬2) يشير إلى حديث سفينة، وقد مضى الكلام عليه في ص 201.

إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه

الوجه الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا له، راضيًا عنه راجيًا هدنة الحال فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (¬1) . [إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه] وقد تكلم العلماء في إمامة المفضول مع وجود من هو أفضل منه، فليست المسألة في الحد الذي يجعلها فيه العامة، وقد بيناها في موضعها (¬2) . فإن قيل: قتل حجر بن عدي - وهو من الصحابة مشهور بالخير - صبرًا أسيرًا، يقول زياد: وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله، قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول قتله ظلمًا، وقائل ¬

(¬1) تقدم الكلام على هذا الحديث في ص 200. (¬2) أي من مؤلفاته الأخرى. وهذه المسألة من مسائل الفقه الإسلامي الممحصة، المبنية أحكامها على النصوص والسنن والأسس الشرعية التي قام الدين على مثلها في باب جلب المصالح ودرء المفاسد وتقدير الضرورات بأقدارها. والقاضي أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية (ص 5) لم يذكر مخالفا في جواز إمامة المفضول إلا الجاحظ، وماذا يضر أئمة الدين إذا خالفهم، وهل العباسيون الذين عرف الجاحظ بالتقرب إليهم في حياتهم كانوا أفضل معاصريهم؟ أما جمهور الفقهاء والمتكلمين فقالوا تجوز إمامة المفضول وصحت بيعته، ولا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن شروط الإمامة، كما يجوز - في ولاية القضاء - تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار وليست معتبرة في شروط الاستحقاق، ونحيل القارئ على كتاب " الإمامة والمفاضلة " لأبي محمد بن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتاب " الفِصَل " ولا سيما الفصل المعقود لإمامة المفضول (ص 163 - 167 من طبعة مصر سنة 1320) .

يقول قتله حقًا (¬1) . فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله: قلنا: ¬

(¬1) حجر بن عدي الكندي عده البخاري وآخرون من التابعين. وعده البعض الآخر من الصحابة. وكان من شيعة علي في الجمل وصفين. وروى ابن سيرين أن زيادا - وهو أمير الكوفة - خطب خطبة أطال فيها، فنادى حجر بن عدي " الصلاة! " فمضى زياد في خطبته، فحصبه حجر وحصبه آخرون معه. فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله، وعد ذلك من الفساد في الأرض. فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إلي. . . فلما جيء به إلى معاوية أمر بقتله. فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه. ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب. وكما كانت عائشة تود لو أن معاوية شمل حجرا بسعة صدره، فإن عبد الله بن عمر كان يتمنى مثل ذلك. والواقع أن معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه، إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جر إليه تمادي الذين اجترأوا عليه.

فساد ما تقوله الشيعة في وفاة الحسن أهلية يزيد للولاية

الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل. ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لعن فيه معاوية. وهذه مدينة السلام دار خلافة بني العباس - وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس - مكتوب على أبواب مساجدها: " خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم (¬1) . ولكن حجرًا - فيما يقال - رأى من زياد أمورا منكرة (¬2) فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادًا. وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وما أنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فما لكم لا تسمعون؟ [فساد ما تقوله الشيعة في وفاة الحسن أهلية يزيد للولاية] فإن قيل: قد دس على الحسن من سمه. ¬

(¬1) المؤلف أقام في بغداد زمن الدولة العباسية كما ذكرنا في ترجمته، فهو يعرف مساجدها معرفة مشاهدة وعيان. ومعاوية خال المؤمنين لأنه أخو أم المؤمنين رملة بنت أبي سفيان المشتهرة بكنيتها (أم حبيبة) . (¬2) كان زياد في خلافة علي واليا من ولاته، وكان حجر بن عدي من أولياء زياد وأنصاره يومئذ. ولم يكن ينكر عليه شيئا. فلما صار من ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعا بعاطفة التحزب والتشيع. وكان حجر يفعل مثل ذلك مع من تولى الكوفة لمعاوية قبل زياد، فلمعاوية عذر إذا رأى أن حجرا ممن سعى في الأرض فسادا.

نقد ثلاثة أخبار ملفقة على وهب بن جرير في تمهيد معاوية لولاية يزيد

قلنا: هذا محال من وجهين: أحدهما أنه ما كان ليتقي من الحسن بأسًا وقد سلم الأمر. الثاني أنه أمر مغيب لا يعلمه إلا الله فكيف تحملونه - بغير بينة - على أحد من خلقه في زمان متباعد لم نثق فيه بنقل ناقل، بين أيدي قوم ذوي أهواء، وفي حال فتنة وعصبية، ينسب كل واحد إلى صاحبه ما لا ينبغي، فلا يقبل منها إلا الصافي، ولا يسمع فيها إلا من العدل المصمم (¬1) . [نقد ثلاثة أخبار ملفقة على وهب بن جرير في تمهيد معاوية لولاية يزيد] فإن قيل: فقد عهد إلى يزيد وليس بأهل (¬2) . وجرى بينه وبين عبد الله ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 225) فيما تزعمه الشيعة من أن معاوية سم الحسن: (لم يثبت ذلك ببينة شرعية، ولا إقرار معتبر، ولا نقل يجزم به. وهذا مما لا يمكن العلم به، فالقول به قول بلا علم) . قال: " وقد رأينا في زماننا من يقال عنه سم ومات مسموما من الأتراك وغيرهم. ويختلف الناس في ذلك حتى في نفس الموضع الذي مات فيه والقلعة التي مات فيها، فتجد كلا منهم يحدث بالشيء بخلاف ما يحدث به الآخر ". وبعد أن ذكر ابن تيمية أن الحسن مات بالمدينة وأن معاوية كان بالشام، ذكر للخبر احتمالات - على فرض صحته - منها أن الحسن كان مطلاقا لا يدوم مع امرأة. . . إلخ (وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص 266) . (¬2) إن كان مقياس الأهلية لذلك أن يبلغ مبلغ أبي بكر وعمر في مجموع سجاياهما، فهذا ما لا يبلغه خليفة في تاريخ الإسلام، ولا عمر بن عبد العزيز. وإن طمعنا بالمستحيل وقدرنا إمكان ظهور أبي بكر آخر وعمر آخر فلن تتاح له بيئة كالبيئة التي أتاحها الله لأبي بكر وعمر. وإن كان مقياس الأهلية الاستقامة في السيرة، والقيام بحرمة الشريعة، والعمل بأحكامها، والعدل في الناس، والنظر في مصالحهم، والجهاد في عدوهم، وتوسيع الآفاق لدعوتهم، والرفق بأفرادهم وجماعاتهم، فإن يزيد يوم تمحص أخباره، ويقف الناس على حقيقة حاله كما كان في حياته، يتبين من ذلك أنه لم يكن دون كثيرين ممن تغنى التاريخ بمحامدهم، وأجزل الثناء عليهم.

بن عمر وابن الزبير والحسن ما قصه [المؤرخون] عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه وعن غيره: لما أجمع معاوية أن يبايع لابنه يزيد حج، فقدم مكة في نحو ألف رجل. فلما دنا من المدينة خرج ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر فلما قدم معاوية المدينة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر ابنه يزيد فقال: من أحق بهذا الأمر منه (¬1) . ثم ¬

(¬1) شباب قريش المعاصرون ليزيد - ممن يحدثون أنفسهم بولاية الأمر لبعض الاعتبارات التي يعرفونها لأنفسهم - كثيرون جدا حتى سعيد بن عثمان بن عفان ومن هم دون سعيد كانوا يطمعون بولاية الأمر بعد معاوية. ومبدأ الشورى في انتخاب الخليفة أفضل بكثير من مبدأ ولاية العهد. لكن معاوية كان يتعلم بينه وبين نفسه أن فتح باب الشورى في انتخاب من يخلفه سيحدث في الأمة الإسلامية مجزرة لا ترقأ فيها الدماء إلا بفناء كل ذي أهلية في قريش لولاية شيء من أمور هذه الأمة. ومعاوية أحصف من أن يخفى عليه أن المزايا موزعة بين هؤلاء الشباب القرشيين، فإذا امتاز أحدهم بشيء منها على أضرابه ولداته، فإن فيهم من يمتاز عليه بشيء آخر منها. غير أن يزيد - مع مشاركته لبعضهم في بعض ما يمتازون به - يمتاز عليهم بأعظم ما تحتاج إليه الدولة، أعني القوة العسكرية التي تؤيده إذا تولى الخلافة، فتكون قوة للإسلام. كما تؤيده إذا أوقع الشيطان الفتنة على هذا الكرسي بين المتزاحمين عليه، فيكون ما لا يحب كل مسلم أن يكون. ولو لم يكن ليزيد إلا أخواله من قضاعة وأحلافهم من قبائل اليمن، لكان منهم ما لا يجوز لبعيد النظر أن يسقطه من قائمة الحساب عندما يفكر في هذه الأمور. أضف هذا إلى ما قرره ابن خلدون عند كلامه على مسير الحسن إلى العراق للخروج على يزيد حيث إن في فصل " ولاية العهد " من مقدمة تاريخه: " وأما الشوكة، فغلط يرحمه الله فيها، لأن عصبية مضر كانت في قريش، وعصبية قريش في عبد مناف. وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه، وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي. . . حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد. فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم ".

ارتحل، فقدم مكة فقضى طوافه، ودخل منزله، فبعث إلى ابن عمر، فتشهد وقال: " أما بعد يا ابن عمر، فقد كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك أمير. وإني أحذرك أن تشق عصا المسلمين، وأن تسعى في فساد ذات بينهم ". فلما سكت تكلم ابن عمر فحمد الله واثنى عليه ثم قال: " أما بعد فإنه قد كانت قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير منهم، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، ولكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار. وإنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين، ولم أكن لأفعل، وإنما أنا رجل من المسلمين، فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا واحد منهم ". فخرج ابن عمر (¬1) . وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فتشهد ثم أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه، فقال: " إنك والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى ¬

(¬1) هذا الخبر معارض بما في كتاب المغازي من صحيح البخاري (ك 64 ب 29 - ج 5 ص 48) عن ابن عمر أن أخته أم المؤمنين حفصة نصحت له بأن يسرع بالذهاب للبيعة وقالت: " الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة "، وانظر ص 223.

الله، وإنا والله لا نفعل. والله لَتَرُدَّنَّ هذا الأمر شورى في المسلمين أو لتفرنها عليك جذعة (¬1) " ثم وثب فقام. فقال معاوية: " اللهم اكففه بما شئت ". ثم قال: " على رسلك أيها الرجل، لا تشرفن لأهل الشام، فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك، حتى أخبر العشية أنك قد بايعت، ثم كن بعد ذلك على ما بدا لك من أمرك ". ثم أرسل إلى ابن الزبير فقال: " يا ابن الزبير، إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخر، وإنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما. فقال ابن الزبير: إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلها، وهلم ابنك فلنبايعه. أرأيت إذا بايعت ابنك معك لأيكما نسمع، لأيكما نطيع؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدا " (¬2) . ثم قام. فخرج معاوية فصعد المنبر فقال: إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار. وزعموا أن ابن عمر وابن الزبير وابن أبي بكر لم يبايعوا ليزيد قد سمعوا وأطاعوا وبايعوا له. فقال أهل الشام: لا والله: لا نرضى حتى يبايعوا على رءوس الأشهاد، وإلا ضربنا أعناقهم. ¬

(¬1) أي لتنكشفن عليك الفتنة في أشد حالاتها. ويلاحظ أن الذين انتحلوا هذه الأقوال في الاستطالة على معاوية لم يطعنوا في كفاءة يزيد وأهليته لأنها آخر ما يرتابون فيه. (¬2) ابن الزبير أذكى من أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معا في حياة معاوية. والذين اخترعوا هذه الأخبار وأضافوها إلى وهب بن جرير بن حازم يكذبون كذبا مفضوحا.

فقال: " مه، سبحان الله، وما أسرع الناس إلى قريش بالشر. لا أسمع هذه المقالة من أحد بعد اليوم ". ثم نزل. فقال الناس: بايعوا. ويقولون هم: لم نبايع. ويقول الناس: قد بايعتم. وروى وهب من طريق آخر قال: خطب معاوية فذكر ابن عمر فقال: " والله ليبايعن أو لأقتلنه ". فخرج عبد الله بن عبد الله بن عمر إلى أبيه وسار إلى مكة ثلاثًا وأخبره (¬1) فبكى ابن عمر. فبلغ الخبر إلى عبد الله بن صفوان، فدخل على ابن عمر فقال: أخطب هذا بكذا؟ قال: نعم. قال فما تريد، أتريد قتاله؟ قال: يا ابن صفوان، الصبر خير من ذلك. فقال ابن صفوان: والله لو أراد ذلك لأُقَاتِلَنَّهُ (¬2) . فقدم معاوية مكة فنزل ذا طوى، وخرج إليه عبد الله بن صفوان فقال: أنت تزعم أنك تقتل ¬

(¬1) هذا الخبر عن وهب بن جرير بن حازم يشعر بأن معاوية خطب هذه الخطبة وهو في المدينة قادما إليها من دمشق قبل أن يصل إلى مكة، وأن ابن عمر كان يومئذ في مكة فركب إليه ابنه حتى لقيه بمكة وأخبره بهذه الخطبة. وفي الخبر الذي قبل هذا - وهو مروي عن وهب بن جرير بن حازم أيضا - التصريح بأن ابن عمر كان بالمدينة عند وصول معاوية إليها من دمشق، وأنه كان مع الأعيان الذين خرجوا لاستقباله. فالخبران متناقضان يكذب أحدهما الآخر مع أنهما عن راوٍ واحد. ولا أدري من أين جاء بهما المؤلف؟ ولم ينقلهما الطبري مع أنه يعتني بأخبار وهب بن جرير لأنه ثقة، ووهب مات سنة 206 وأبوه سنة 170 بعد أن اختلط، فبينهما وبين هذه الحوادث رواة آخرون، وبينهما وبين الطبري وغيره من المؤرخين رواة كثيرون. وأعتقد أن هذه الأخبار غير صحيحة لتناقضها، ولو عرفنا رواتها إلى وهب وبعد وهب لعرفنا من أين جاء الكذب. (¬2) عبد الله بن صفوان حفيد أمية بن خلف الجمحي. قتل مع ابن الزبير سنة 73.

ابن عمر إن لم يبايع لابنك؟ قال: أنا أقتل ابن عمر؟ إني والله لا أقتله. وروى وهب من طريق ثالث (¬1) قال: إن معاوية لما راح عن بطن مُرّ قاصدا إلى مكة قال لصاحب حرسه: لا تدع أحدًا يسير معي إلا من حملته. فخرج يسير وحده، حتى إذا كان وسط الأراك لقيه الحسين بن علي، فوقف وقال: مرحبًا وأهلًا بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد شباب المسلمين. دابة لأبي عبد الله يركبها. فأتي ببرْذوْن، فتحول عليه. ثم طلع عبد الرحمن بن أبي بكر (¬2) فقال: مرحبا بابن شيخ قريش وسيدهم وابن صديق هذه الأمة. دابة لأبي محمد يركبها. فأتي ببرذون فركبه. ثم طلع ابن عمر فقال: مرحبًا وأهلًا بصاحب رسول الله وابن الفاروق وسيد المسلمين، ودعا له بدابة فركبها. ثم طلع ابن الزبير فقال: مرحبا وأهلًا بابن حواري رسول الله وابن الصديق وابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بدابة فركبها، ثم أقبل يسير بينهم لا يسايره غيرهم حتى دخل مكة، ثم كانوا أول داخل وآخر خارج ليس في الأرض صباح إلا لهم فيه حباء وكرامة، لا يعرض لهم بذكر شيء مما هو فيه حتى قضى نسكه وترحلت أثقاله وقرب مسيره إلى الشام ¬

(¬1) وهذا الخبر أيضا ليس عند الطبري. وأظنه مصنوعا في المصنع الذي خرج منه الخبران السابقان. (¬2) نحن نعلم من الخبر الأول عن وهب أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان في المدينة، وكان مع الذين استقبلوا معاوية عند وصوله إليها من دمشق، فما الذي طار به إلى مكة حتى صار في مستقبلي معاوية عند وصوله إليها؟ حقا إن الذين يكذبون على معاوية أغبياء لا يجيدون صناعة الكذب.

وأنيخت رواحله، فأقبل بعض القوم على بعض فقالوا: أيها القوم لا تخدعوا إنه والله ما صنع هذا لحبكم ولا لكرامتكم ولا صنعه إلا لما يريد، فأعدوا له جوابًا، أقبلوا على الحسين فقالوا: أنت يا أبا عبد الله. قال: وفيكم شيخ قريش وسيدها؟ هذا أحق بالكلام. فقالوا: أنت يا أبا محمد - لعبد الرحمن بن أبي بكر - فقال. لست هناك، وفيكم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن سيد المسلمين - يعني ابن عمر - فقالوا لابن عمر: أنت! فقال: لست بصاحبكم، ولكن أولوا الكلام ابن الزبير يكفكم. قالوا: أنت يا ابن الزبير. قال: نعم، إن أعطيتموني عهودكم ومواثيقكم أن لا تخالفوني كفيتكم الرجل. فقالوا: فلك ذلك. فخرج الإذن، فأذن لهم. فدخلوا. فتكلم معاوية فحمد الله واثنى عليه ثم قال: لقد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وصفحي عنكم، وحلمي لما يكون منكم، ويزيد ابن أمير المؤمنين أخوكم وابن عمكم وأحسن الناس لكم رأيًا. وإنما أردت أن تقدموه باسم الخلافة وتكونوا أنتم الذين تنزعون وتؤمّرون وتجبون وتقسمون لا يدخل عليكم في شيء من ذلك. فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكت القوم. فقال: ألا تجيبوني؟ فسكتوا: فأقبل على ابن الزبير فقال: هات يا ابن الزبير، فإنك لعمري صاحب خطبة القوم، فقال: نعم يا أمير المؤمنين أخيرك بين ثلاث خصال أيها أخذت فهي لك رغبة: قال: لله أبوك، اعرضهن: قال: إن شئت صنعت ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت صنعت ما صنع أبو بكر فهو خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن شئت صنعت ما صنع عمر

فهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر: قال: لله أبوك، ما صنعوا؟ قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستخلف أحدًا، فارتضى المسلمون أبا بكر، فإن شئت أن تدع أمر هذه الأمة حتى يقضي الله فيه قضاءه فيختار المسلمون لأنفسهم. فقال: إيه ليس فيكم اليوم مثل أبي بكر، وإني لا آمن عليكم الاختلاف. قال: فاصنع كما صنع أبو بكر، عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه. قال: لله أبوك. الثالثة؟ قال: تصنع ما صنع عمر، جعل الأمر شورى في ستة نفر من قريش ليس أحد منهم من ولد أبيه. قال: عندك غير هذا؟ قال: لا. قال: فأنتم؟ قالوا: ونحن أيضًا. قال. أما لا، فإني أحببت أن أتقدم إليكم، إنه قد أعذر من أنذر، وإن كان يقوم القائم منكم إلي فيكذبني على رءوس الأشهاد فأحتمل له ذلك. وإني قائم بمقالة، فإن صدقت فلي صدقي وإن كذبت فعلي كذبي. وإني أقسم بالله لكم لئن رد علي إنسان منكم لا ترجع إليه كلمته حتى يسبق إلي رأسه. ثم دعا بصاحب حرسه فقال: أقم على كل رجل من هؤلاء رجلين من حرسك فإن ذهب رجل يرد علي كلمة بصدق أو كذب فليضرباه بسيفهما (¬1) ثم خرج وخرجوا معه، حتى رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم، لا نستبد بأمر دونهم، ولا نقضي أمرًا إلا عن مشورتهم. وإنهم ارتضوا وبايعوا ليزيد ابن أمير المؤمنين من بعده، فبايعوا باسم الله. فضربوا على يده، ثم جلس على راحلته وانصرف. ¬

(¬1) أورد المؤلف هذه الأخبار المفضوح كذبها ليعارضها في ص 224 بحديث البخاري عن الموقف السليم لابن عمر في هذا الحادث، حتى يعلم الناس أن الحق في واد وهؤلاء الرواة الكاذبون في واد غيره.

فلقيهم الناس فقالوا: زعمتم وزعمتم، فلما أرضيتم وحبيتم فعلتم قالوا: إنا والله ما فعلنا. قالوا: فما منعكم أن تردوا على الرجل إذ كذب؟ ثم بايع أهل المدينة والناس، ثم خرج إلى الشام. قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : لسنا ننكر، ولا بلغت بنا الجهالة، ولا لنا في الحق حمية جاهلية، ولا ننطوي على غل لأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل نقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] إلا أن نقول، إن معاوية ترك الأفضل في أن يجعلها شورى، وألا يخص بها أحدًا من قرابته فكيف ولدًا، وأن يقتدي بما أشار به عبد الله بن الزبير في الترك أو الفعل (¬1) فعدل إلى ولاية ابنه وعقد له البيعة وبايعه الناس، وتخلف عنها من تخلف (¬2) فانعقدت البيعة شرعًا، لأنها تنعقد بواحد وقيل باثنين (¬3) . فإن قيل: لمن فيه شروط الإمامة، قلنا: ليس السن من شروطها ولم يثبت أنه يقصر يزيد عنها. [فإن] قيل: كان منها العدالة والعلم، ولم يكن يزيد عدلًا ولا ¬

(¬1) كان معاوية أعرف بابن الزبير من ابن الزبير نفسه، روى البلاذري في أنساب الأشراف (4 " 2 ": 53 - 54) عن المدائني عن مسلمة بن علقمة عن خالد عن أبي قلابة أن معاوية قال لابن الزبير: " إن الشح والحرص لن يدعاك حتى يدخلاك مدخلا ضيقا، فوددت أني حينئذ عندك فأستنقذك ". فلما حصر ابن الزبير قال: " هذا ما قال لي معاوية، وددت أنه كان حيا ". (¬2) عدل عن الوجه الأفضل لما كان يتوجس من الفتن والمجازر إذا جعلها شورى، وقد رأى القوة والطاعة والنظام والاستقرار في الجانب الذي فيه ابنه. (¬3) انظر ص 144، والفصل لابن حزم 4: 167 - 169.

عالمًا. قلنا: وبأي شيء نعلم عدم علمه، أو عدم عدالته (¬1) ؟ ولو كان مسلوبهما لذكر ذلك الثلاثة الفضلاء الذين أشاروا عليه بأن لا يفعل، وإنما رموا إلى الأمر بعيب التحكيم، وأرادوا أن تكون شورى. فإن قيل: كان هنالك من هو أحق منه عدالة وعلمًا، منهم مائة وربما ألف. قلنا: إمامة المفضول - كما قدمنا (¬2) - مسألة خلاف بين العلماء، كما ذكر العلماء في موضعه. وقد حسم البخاري الباب، ونهج جادة الصواب، فروى في صحيحه ما يبطل جميع هذا المتقدم، وهو أن معاوية خطب وابن عمر حاضر في خطبته، فيما روى البخاري (¬3) عن عكرمة بن خالد أن ابن عمر قال: دخلت على حفصة ونوساتها تنطف (¬4) . قلت: قد كان في الأمر ما ترين، فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت: " الحق، فإنهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة ". فلم تدعه حتى ذهب. ¬

(¬1) أما عن العدالة فقد شهد له محمد بن علي بن أبي طالب في مناقشته لابن مطيع عند قيام الثورة على يزيد في المدينة فقال عن يزيد: " ما رأيت منه ما تذكرون. وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة، متحريا للخير، يسأل عنه الفقه، ملازما للسنة " (ابن كثير 8: 233) . وأما عن العلم فالذي يلزم منه لمثله في مثل مركزه كان فيه موضع الرضا وفوق الرضا: روى المدائني أن ابن عباس وفد إلى معاوية بعد وفاة الحسن بن علي، فدخل يزيد على ابن عباس وجلس منه مجلس المعزي، فلما نهض يزيد من عنده قال ابن عباس: إذا ذهب بنو حرب ذهب علماء الناس (ابن كثير 8: 228) . (¬2) في ص 211. (¬3) ك 64 ب 29 - ج 5 ص 48. (¬4) أي وذوائبها تقطر ماء، سمى الذوائب " نوسات " لأنها تنوس، أي تتحرك.

ابن عمر يعلن في الثورة على يزيد أن في عنقه البيعة الشرعية له

فلما تفرق الناس خطب معاوية فقال: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة (¬1) فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان. فقال حبيب: حُفظت وعُصمت. [ابن عمر يعلن في الثورة على يزيد أن في عنقه البيعة الشرعية له] وروى البخاري (¬2) أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة» وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله (¬3) وإني لا أعلم غدرًا أعظم من أن نبايع رجلًا على ¬

(¬1) حبيب بن مسلمة الفهري مكي كان عند وفاة النبي صلي الله عليه وسلم صبيا، ثم التحق بالشام للجهاد فاشتهرت بطولته، ويعد فاتح أرمينية، ويقال إنه كان قائد النجدة التي خرجت من الشام لإنقاذ عثمان من أيدي البغاة عليه، فجاءه الخبر بشهادته وهي في الطريق فعادت. (¬2) في كتاب الفتن من صحيحه (ك 92 ب 21 - ج 8 ص 99) . (¬3) وهذا الخبر المنير الذي يرويه البخاري في صحيحه يفضح الذين زوروا على وهب بن جرير تلك الأخبار المتناقضة بأن ابن عمر وغيره لم يبايعوا ليزيد، وأن معاوية أقام على رءوسهم من يقطعها إذا كذبوه فيما افتراه عليهم من أنهم بايعوا لابنه. فتبين الآن أنه لم يفتر عليهم، وهذا ابن عمر يعلن في أحرج المواقف - أي في ثورة أهل المدينة على يزيد بتحريض ابن الزبير وداعيته ابن مطيع - أن في عنقه ما في أعناقهم بيعة شرعية لإمامهم على بيع الله ورسوله، وأن من أعظم الغدر أن تبايع الأمة إمامها ثم تنصب له القتال. ولم يكتف ابن عمر بذلك في تلك الثورة على يزيد بل روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه (ك 32 ح 58 - ج 6 ص 22) أن ابن عمر جاء إلى ابن مطيع داعية ابن الزبير ومثير هذه الثورة فقال ابن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال ابن عمر: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: " من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ". وكان لمحمد بن علي بن أبي طالب (المعروف بابن الحنفية) مثل هذا الموقف من داعية الثورة ابن مطيع سيراه القارئ في ص 227 - 228 عند الكلام على سيرة يزيد.

بيع الله ورسوله ثم ننصب له القتال، وإني لا أعلم أحدًا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه (¬1) . فانظروا معشر المسلمين إلى ما روى البخاري في الصحيح، وإلى ما سبق ذكرنا له في رواية بعضهم أن عبد الله بن عمر لم يبايع، وأن معاوية كذب وقال قد بايع. وتقدم إلى حرسه بأمره بضرب عنقه إن كذبه. وهو قد قال في رواية البخاري: " وقد بايعناه على بيع الله ورسوله " وما بينهما من التعارض، وخذوا لأنفسكم بالأرجح في طلب السلامة، والخلاص بين الصحابة والتابعين. فلا تكونوا - ولم تشاهدوهم، وقد عصمكم الله من فتنتهم - ممن دخل بلسانه في دمائهم، فيلغ فيها ولوغ الكلب بقية الدم على الأرض بعد رفع الفريسة بلحمها، لم يلحق الكلب منها إلا بقية دم سقط على الأرض. وروى الثبت العدل عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: قال ابن عمر حين بويع يزيد " إن كان ¬

(¬1) انظر لوقعة الحرة ص 292 - 294 من (المنتقى من منهاج الاعتدال) .

خيرًا رضينا، وإن كان شرًا صبرنا ". وثبت عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: تقولون إن يزيد بن معاوية ليس بخير أمة محمد، لا أفقهها فقهًا ولا أعظمها فيها شرفًا. وأنا أقول ذلك. ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق. أرأيتم بابًا دخل فيه أمة محمد ووسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو كان دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يأتيك من الحياء إلا خير» . فهذه الأخبار الصحاح كلها تعطيك أن ابن عمر كان مسلمًا في أمر يزيد، وأنه بايع وعقد له والتزم ما التزم الناس، ودخل فيما دخل فيه المسلمون، وحرم على نفسه ومن إليه بعد ذلك أن يخرج على هذا أو ينقضه. وظهر لك أن من قال: إن معاوية كذب في قوله بايع ابن عمر ولم يبايع، وأن ابن عمر وأصحابه سئلوا فقالوا " لم نبايع " فقد كذب. وقد صدق البخاري في روايته قول معاوية في المنبر " إن ابن عمر قد بايع " بإقرار ابن عمر بذلك (¬1) وتسليمه له وتماديه عليه. فأي الفريقين أحق بالصدق إن كنتم تعلمون؟ الفريق الذي فيه البخاري، أم الذي فيه غيره؟ ¬

(¬1) في ثورة المدينة على يزيد، وفي المناسبات الأخرى. انظر ص 224.

الشهادة ليزيد له بالاستقامة والصلاح

فخذوا لأنفسكم بالأحزم، والأصح، أو اسكتوا عن الكل، والله يتولى توفيقكم وحفظكم. و" الصاحب " الذي كنى عنه حميد بن عبد الرحمن هو ابن عمر، والله أعلم. وإن كان غيره فقد أجمع رجلان عظيمان على هذه المقالة، وهي تعضد ما أصَّلناه لكم من أن ولاية المفضول نافذة وإن كان هنالك من هو أفضل منه إذ عقدت له. ولما في حلها - أو طلب الفضل - من استباحة ما لا يباح، وتشتيت الكلمة، وتفريق أمر الأمة. [الشهادة ليزيد له بالاستقامة والصلاح] فإن قيل. كان يزيد خمارًا. قلنا: لا يحل إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه (¬1) بل شهد العدل بعدالته. فروى يحيى بن بكير، عن ¬

(¬1) أن معاوية - مع شديد حبه ليزيد، لألمعيته واكتمال مواهبه - آثر أن ينشأ ابنه بعيدا عنه في أحضان الفطرة، وخشونة البداوة وشهامتها، ليستكمل الصفات اللائقة بالمهمة التي تنتظر أمثاله، فبعث به إلى أخبية البادية عند أخواله من قضاعة، ليكون على مذهب أمه ميسون بنت بحدل يوم قالت: لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلى من قصر منيف وفي ذلك الوسط أمضى يزيد زمن صباه وصدر شبابه، وما لبث أن انتقل أبوه إلى رحمة الله حتى تولى المركز الذي أراده الله له. فلما خلا الجو لابن الزبير - بموت معاوية - صار دعاته يذيعون في الحجاز الأكاذيب على يزيد، وينسبون إليه ما لا يحل لهم، نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (8: 233) أن عبد الله بن مطيع (داعية ابن الزبير) مشى في المدينة هو وأصحابه إلى محمد بن علي بن أبي طالب (المعروف بابن الحنفية) فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته، وأقمت عنده، فرأيته مواظبا على الصلاة، متحريا للخير، يسأل عن الفقه، ملازما للسنة. قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلى الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه. فقال لهم أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (الزخرف: 86) ، ولست من أمركم في شيء. قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعا ولا متبوعا. قالوا؟ فقد قاتلت مع أبيك؟ قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه. فقالوا: فمر ابنيك؟ أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا. قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاما يحض الناس فيه على القتال. قال: سبحان الله. آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه؟ إذن ما نصحت لله في عباده. قالوا: إذن نكرهك. قال: إذن آمر الناس بتقوى الله، وألا يرضوا المخلوق بسخط الخالق (وخرج إلى مكة) .

الحسين بين الذين نهوه عن الخروج والذين حرضوه عليه

الليث بن سعد، قال الليث: " توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا " فسماه الليث " أمير المؤمنين " بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا " توفي يزيد ". [الحسين بين الذين نهوه عن الخروج والذين حرضوه عليه] فإن قيل: ولو لم يكن ليزيد إلا قتله للحسين بن علي. قلنا: يا أسفا على المصائب مرة، ويا أسفا على مصيبة الحسين ألف مرة. وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ودمه يراق على البوغاء ولا يحقن (¬1) يا لله ويا للمسلمين. وإن أمثل ما روي فيه أن يزيد كتب إلى الوليد بن عتبة ينعي له ¬

(¬1) البوغاء: التراب الناعم.

معاوية ويأمره أن يأخذ له البيعة على أهل المدينة - وقد كانت تقدمت - فدعا مروان فأخبره فقال له: أرسل إلى الحسين بن علي وابن الزبير، فإن بايعوا وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله، نقتل الحسين بن علي وابن الزبير؟ قال: هو ما أقوله لك. فأرسل إليهما، فأتاه ابن الزبير، فنعى إليه معاوية وسأله البيعة، فقال: ومثلي يبايع هنا؟ ارق المنبر، وأنا [أبايع] مع الناس علانية. فوثب مروان وقال: اضرب عنقه، فإنه صاحب فتنة وشر. فقال [ابن الزبير] : فإنك لهنالك يا ابن الزرقاء؟ (واستبّا) . فقال الوليد: اخرجا عني، وأرسل إلى الحسين ولم يكلمه بكلمة في شيء، وخرجا من عنده. وجعل الوليد عليهما الرصد. فلما دنا الصبح خرجا مسرعين إلى مكة فالتقيا بها فقال له ابن الزبير: ما يمنعك من شيعتك وشيعة أبيك؟ فوالله لو أن لي مثلهم لذهبت إليهم. فهذا ما صح. وذكر المؤرخون أن كتب أهل الكوفة وردت على الحسين (¬1) ¬

(¬1) أول من كتب إليه من شيوخ شيعته - على ما رواه مؤرخهم لوط بن يحيى - سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر، وأرسلوا كتابهم مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، فبلغا حسينا بمكة في عاشر رمضان سنة 60، وبعد يومين سرحوا إليه قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة السلولي بثلاث وخمسين صحيفة، وبعد يومين آخرين سرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي (وفي الطبري 6: 197 نصوص بعض رسائلهم وأسماء بعض أصحابها) وهي تدور على أنهم لا يجتمعون مع أميرهم النعمان بن بشير في جمعة، ويدعون الحسين إليهم حتى إذا أقبل طردوا أميرهم وألحقوه بالشام، ويقولون في بعضها: " أينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند " فأرسل الحسين إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليرى إن كانوا مستوثقين مجتمعين ليقدم هو عليهم بعد ذلك. وضل مسلم بن عقيل في الطريق ومات من معه من العطش، فكتب إلى الحسين يستعفيه من هذه المهمة، فأجابه: خشيت ألا يكون حملك على الاستعفاء إلا الجبن. فمضى مسلم حتى بلغ الكوفة، وأعطاه البيعة للحسين اثنا عشر ألفا منهم، وشعر أمير الكوفة النعمان بن بشير بحركاتهم فخطب فيهم ينهاهم عن الفتنة والفرقة، وقال لهم: إني لا أقاتل إلا من قاتلني، ولا آخذ بالظنة والتهمة، فإن أبديتم لي صفحتكم ونكثتم بيعتكم لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي. وعلم يزيد أن النعمان بن بشير حليم ناسك لا يصلح في مقاومة مثل هذه الحركة، فكتب إلى عبيد الله بن زياد عامله على البصرة أنه قد ضم إليه الكوفة أيضا، وأمره أن يأتي الكوفة وأن يطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى يثقفه فيوثقه فيقتله أو ينفيه. فاستخلف عبيد الله أخاه على البصرة، وأقبل إلى الكوفة فاتصل برؤسائها وقبض على أزمة الحال، فما لبث مسلم بن عقيل أن رأى مبايعيه الاثني عشر ألفا كالهباء، ورأى نفسه وحيدا طريدا، ثم قبض عليه وقتل. وكان الحسين قد جاءته قبل ذلك رسائل مسلم بن عقيل بأن اثني عشر ألفا بايعوه على الموت، فخرج عقب موسم الحج يريد الكوفة، ولم يشجعه على الخروج إلا ابن الزبير لأنه عرف أن أهل الحجاز لا يتابعونه ما دام الحسين معهم، فصار الحسين أثقل خلق الله على ابن الزبير (الطبري 6: 196 - 197 وانظر 6: 216 و217) . أما المشفقون على الحسين من هذا الخروج المشئوم فهم جميع أحبائه وذوي قرابته والناصحين له والمتحرين سنة الإسلام في مثل هذا الموقف، كل هؤلاء نهوه عن مسيره، وحذروه من عواقبه، وفي طليعتهم أخوه محمد بن الحنفية (الطبري 6: 190 - 191) ، (وابن عم أبيه حبر الأمة عبد الله بن العباس الطبري 6: 216 - 217) وابن عمه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب (2: 219) ، وقد بلغ الأمر بعبد الله بن جعفر أن حمل والي يزيد على مكة - وهو عمر بن سعيد بن العاص - على أن يكتب للحسين كتاب الأمان ويمنيه فيه البر والصلة ويسأله الرجوع، فأجابه والي مكة إلى كل ما طلب وقال له: اكتب ما تشاء وأنا أختم على الكتاب، فكتبه وختمه الوالي، وبعث به إلى الحسين مع أخيه يحيى بن سعيد بن العاص، وذهب عبد الله بن جعفر مع يحيى، وجهدا بالحسين أن يثنياه عن السفر فأبى (وصورة كتاب الوالي في تاريخ الطبري 6: 219 - 220) ، وليس فوق هؤلاء الناصحين أحد في عقلهم وعلمهم ومكانتهم وإخلاصهم، بل إن عبد الله بن مطيع داعية ابن الزبير كان من ناصحيه بعقل وإخلاص (الطبري 6: 196) وعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي كان على هذا الرأي (الطبري 6: 215 - 216) والحارث بن خالد بن العاص بن هشام لم يأله نصحا (6: 216) وحتى الفرزدق الشاعر قال له: قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية. (الطبري 6: 218) فلم يفد شيء من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذي كان مشئوما عليه، وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة، وكل هذا بجناية شيعته الذين حرضوه بجهل وغرور، رغبةً في الفتنة والفرقة والشر، ثم خذلوه بجبن ونذالة وخيانة وغدر. ولم يكتف ورثتهم بما فعل أسلافهم فعكفوا على تشويه التاريخ وتحريف الحقائق ورد الأمور على أدبارها.

وأنه أرسل مسلم بن عقيل - ابن عمه - إليهم ليأخذ عليهم البيعة وينظر

هو في اتِّباعه، فنهاه ابن عباس وأعلمه أنهم خذلوا أباه وأخاه، وأشار عليه ابن الزبير بالخروج فخرج، فلم يبلغ الكوفة إلا ومسلم بن عقيل قد قتل وأسلمه من كان استدعاه! ويكفيك بهذا عظة لمن اتعظ. فتمادى واستمر غضبًا للدين وقيامًا بالحق. ولكنه - رضي الله عنه - لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر (¬1) وطلب ¬

(¬1) في إيثاره العافية، وحرصه على وحدة المسلمين وتفرغهم لنشر الدعوة والفتوح.

الابتداء في الانتهاء، والاستقامة في الاعوجاج، ونضارة الشبيبة في هشيم المشيخة. ليس حوله مثله ولا له من الأنصار من يرعى حقه، ولا من يبذل نفسه دونه، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد (¬1) فأرقنا دم الحسين، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر. وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال، المحذر من الدخول في الفتن. وأقواله في ذلك كثيرة: منها قوله صلى الله عليه وسلم (¬2) «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان» . فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله. ولو أن عظيمها وابن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين وسعه بيته أو ضيعته أو إبله - ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق، وفي جملتهم ابن عباس وابن عمر - لم يلتفت إليهم، وحضره ما أنذر به النبي صلى الله عليه وسلم وما قال في أخيه (¬3) ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه، فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة، وكبار الصحابة ينهونه وينأون عنه؟ ما أدرى في هذا إلا التسليم لقضاء الله، والحزن على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية الدهر. ولولا معرفة أشياخ وأعيان الأمة بأنه أمر صرفه الله عن أهل البيت، وحال من الفتنة لا ينبغي لأحد أن يدخلها، ما أسلموه أبدا. وهذا أحمد بن حنبل - على تقشفه وعظيم منزلته في الدين وورعه - ¬

(¬1) أي يزعم مثيرو الفتنة الذين يشهدون بغير ما علموا. (¬2) من حديث عرفجة في كتاب الإمارة من صحيح مسلم: باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع (ك 33 ح 59 - ج 6 ص 22) . (¬3) " ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ".

قد أدخل عن يزيد بن معاوية في (كتاب الزهد) أنه كان يقول في خطبته: " إذا مرض أحدكم مرضًا فأُشفي ثم تماثل، فلينظر إلى أفضل عمل عنده فليلزمه ولينظر إلى أسوأ عمل عنده فليدعه " وهذا يدل على عظيم منزلته عنده حتى يدخله في جملة الزهاد من الصحابة والتابعين الذين يُقْتَدَى بقولهم ويُرْعَوَى من وعظهم، ونعم. وما أدخله إلا في جملة الصحابة، قبل أن يخرج إلى ذكر التابعين. فأين هذا من ذكر المؤرخين له في الخمر وأنواع الفجور، ألا تستحيون؟ ! وإذ سلبهم الله المروءة والحياء، ألا ترعوون أنتم وتزدجرون، وتقتدون بالأحبار والرهبان من فضلاء الأمة، وترفضون الملحدة والمجان من المنتمين إلى الملة: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138] والحمد لله رب العالمين. وانظر إلى ابن الزبير بعد ذلك وما دخل فيه من البيعة له بمكة، والأرض كلها عليه. وانظروا إلى ابن عباس وعقله وإقباله على نفسه. وانظروا إلى ابن عمر وسنه وتسليمه للدنيا ونبذه لها. ولو كان للقيام وجه لكان أولى بذلك ابن عباس، فإن ولدي أخيه عبيد الله قد ذكر أنهما قتلا ظلمًا (¬1) . ولكن رأى بعقله أن دم عثمان لم يخلص إليه، فكيف بدم ولدي عبيد الله! وإن الأمر راهق (¬2) قد خرجا عنه حفظًا للأصل، وهو اجتماع أمر الأمة وحقن دمائها وائتلاف كلمتها. ودع الأمر يتولاه أسود مجدع ¬

(¬1) كان ذلك سنة 40 في اليمن آخر ولاية عبيد الله بن عباس عليهما لعلي، فأرسل معاوية إلى الحجاز واليمن بسر بن أبي أرطاة فأخذ له البيعة على أهل الحجاز، ثم توجه بسر إلى اليمن، فلما علم عبيد الله بمجيئه هرب إلى الكوفة وترك ابنيه في اليمن فقتلهما بسر فيما يقال. (¬2) أي تداخل حقه في باطله.

نكتة النبي صلى الله عليه وسلم أول من عقد الولاية لبني أمية

حسبما أمر به صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه (¬1) . وكل منهم عظيم القدر مجتهد، وفيما دخل فيه مصيب مأجور، ولله فيه حكم قد أنفذه، وحكم في الآخرة قد أحكمه وفرغ منه. فاقدروا هذه الأمور مقاديرها، وانظروا بما قابلها ابن عباس وابن عمر فقابلوها، ولا تكونوا من السفهاء الذين يرسلون ألسنتهم وأقلامهم بما لا فائدة لهم فيه، ولا يغني من الله ولا من دنياهم شيئًا عنهم. وانظروا إلى الأئمة الأخيار وفقهاء الأمصار، هل أقبلوا على هذه الخرافات وتكلموا في مثل هذه الحماقات؟ بل علموا أنها عصبيات جاهلية وحمية باطلة، ولا تفيد إلا قطع الحبل بين الخلق، وتشتيت الشمل واختلاف الأهواء - وقد كان ما كان، وقال الإخباريون ما قالوا فإما سكوت، وإما اقتداء بأهل العلم وطرح لسخافات المؤرخين والأدباء. والله يكمل علينا وعليكم النعماء برحمته. [نكتة النبي صلى الله عليه وسلم أول من عقد الولاية لبني أمية] نكتة وعجبًا لاستكبار الناس ولاية بني أمية، وأول من عقد لهم الولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ولى يوم الفتح عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية مكة - حرم الله وخير بلاده - وهو فَتِيُّ السن قد أبقل أو لم يبقل. واستكتب معاوية بن أبي سفيان أمينًا على وحيه، ثم ولى أبو بكر يزيدَ بن أبي سفيان - أخاه - الشام. وما زالوا بعد ذلك يتوقلون في سبيل المجد، ويترقون في درج العز، حتى أنهتهم الأيام إلى منازل الكرام. ¬

(¬1) في كتاب الإمارة من صحيح مسلم من حديث أبي ذر (ك 33 ح 36 - ج 6 ص 14) .

مسألة استلحاق معاوية لزياد

وقد روى الناس أحاديث فيهم لا أصل لها، منها حديث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره كالقردة، فعز عليه، فأعطي ليلة القدر خيراً من ألف شهر يملكها بنو أمية. ولو كان هذا صحيحاً ما استفتح الحال بولايتهم، ولا مكن لهم في الأرض بأفضل بقاعها وهي مكة. وهذا أصل يجب أن تشد عليه اليد. [مسألة استلحاق معاوية لزياد] فإن قيل: أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل، والقضاء بما لا يحل من استلحاق زياد. قلنا: قد بينا في غير موضع أن استلحاق زياد إنما كان لأشياء صحيحة، وعمل مستقيم نبينه بعد ذكر ما ادعى فيه المدعون من الانحراف عن الاستقامة، إذ لا سبيل إلى تحصيل باطلهم، لأن خرق الباطل لا يرقع، ولسانه أعظم منه فكيف به لا يقطع؟ ! . قالوا: كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفي من سمية جارية الحارث بن كلدة (¬1) واشترى [زياد] عبيدا - أباه - بألف درهم فأعتقه (¬2) . ¬

(¬1) روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة زياد من تاريخ دمشق (5: 409) عن عوانة بن الحكم الكلبي (أكبر شيوخ المدائني) أن سمية أم زياد كانت لدهقان من دهاقين الفرس، فاشتكى وجع البطن وخاف أن يكون أصيب بداء الاستسقاء، فدعا الحارث بن كلدة الثقفي طبيب العرب، - وقد كان قدم على كسرى - فعالج الدهقان فبرأ، فوهب له سمية، فولدت له أبا بكرة واسمه مسروح أو نفيع فلم يقر به. ثم ولدت نافعا فلم يقر به، فلما نزل أبو بكرة إلى النبي صلي الله عليه وسلم قال الحارث بن كلدة لنافع: إن أخاك مسروحا عبد وأنت ابني: فأقر به يومئذ، وزوجها الحارث غلاما له يقال له عبيد فولدت زيادا على فراشه، وكان أبو سفيان سار إلى الطائف فنزل على رجل يقال له أبو مريم السلولي (قال: فأتاه أبو مريم بسمية فوقع بها فولدت زيادا) . (¬2) في ترجمة زياد من تاريخ ابن عساكر (5: 406-407) خبر يرويه زهرة بن معبد ومحمد بن عمرو عن وفادة زياد وهو فتى على أمير المؤمنين عمر من قبل أبي موسى الأشعري في يوم جلولاء قالا: فلما نظر إليه عمر رأى له هيئة حسنة وعليه ثياب بيض من كتان قال له: ما هذه الثياب؟ فأخبره. فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير، وصدقه. فقال له: كم عطاؤك؟ فقال: ألفان. فقال: ما صنعت في أول عطاء خرج؟ فقال: اشتريت به والدتي فأعتقتها، واشتريت بالثاني ربيبي عبيدا فأعتقته. فقال عمر: وفقت. وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده عالما بالقرآن وأحكامه وفرائضه. فرده إلى أبي موسى، وأمر أمراء البصرة أن يتبعوا رأيه.

قال أبو عثمان النهدي: فكنا نغبطه. واستعمله عمر على بعض صدقات البصرة، وقيل بل كتب لأبي موسى (¬1) فلما لم يقطع الشهادة مع الشهود على المغيرة جلدهم وعزله وقال له: ما عزلتك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك. ورووا أن عمر أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد، فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها، فقال عمرو بن العاص: " أما والله لو كان هذا الغلام قرشياً لساق الناس بعصاه "، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه، فقال له علي: ومن؟ قال: أنا. قال مهلا يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان أبياتاً من الشعر: أما والله لولا خوف شخص (¬2) ... يراني يا علي من الأعادي لأظهر أمره صخر بن حرب ... ولم تكن المقالة عن زياد ¬

(¬1) نقل الحافظ ابن عساكر عن الحافظ أبي نعيم أن زيادا كتب لأبي موسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر بن كريز، ثم للمغيرة بن شعبة، ثم لعبد الله بن عباس - كتب لهؤلاء كلهم على البصرة. وكان أمير المؤمنين علي أراده أن يوليه البصرة فأشار زياد عليه أن يوليها عبد الله بن عباس، ووعده بأن يشير عليه ويعينه. (¬2) يعني عمر.

وقد طالت مخاتلتي ثقيفاً ... وتركي فيهم ثمر الفؤاد فذلك الذي حمل معاوية. واستعمله علي على فارس، وحمى، وجبى، وفتح، وأصلح. وكاتبه معاوية يروم إفساده، فوجه [زياد] بكتابه إلى علي بشعر، فكتب إليه علي: " إني وليتك ما وليتك وأنت أهل لذلك عندي. ولن يدرك ما تريد بما أنت فيه إلا بالصبر واليقين. وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر، لا تستحق بها نسباً ولا ميراثاً. وإن معاوية يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه ". فلما قرأ زياد الكتاب قال: " شهد لي أبو حسن ورب الكعبة ". فذلك الذي جرأ زيادا ومعاوية بما صنعا. ثم ادعاه معاوية سنة أربع وأربعين، وزوج معاوية ابنته من ابنه محمد. وبلغ الخبر أبا بكرة - أخاه لأمه - فآلى يميناً ألا يكلمه أبداً، وقال " هذا زَنَّى أمه، وانتفى من أبيه. والله ما رأت سمية أبا سفيان قط، وكيف يفعل بأم حبيبة (¬1) أيراها فيهتك حرمة رسول الله، وإن حجبته فضحته ". فقال زياد: جزى الله أبا بكرة خيراً، فإنه لم يدع النصيحة في حال. وتكلم فيه الشعراء، ورووا عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد. قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : قد بينا في غير موضع هذا الخبر، وتكلمنا عليه بما يغني عن إعادته، ولكن لا بد في هذه الحالة من بيان المقصود منه فنقول: ¬

(¬1) هي أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان وأخت معاوية.

كل ما ذكرتم لا ننفيه ولا نثبته لأنه لا يحتاج إليه. والذي ندريه حقاً ونقطع عليه علما أن زياداً من الصحابة بالمولد والرؤية (¬1) لا بالتفقه والمعرفة. وأما أبوه فما علمنا له أبا قبل دعوى معاوية على التحقيق (¬2) وإنما هي أقوال غائرة من المؤرخين. وأما شراؤه له فمراعاة للحضانة، فإنه حضنه عنده إذ دخل عليه، فله نسب بالحضانة إليه إن كان ذلك. وأما قولهم إن أبا عثمان [النهدي] غبطه بذلك، فهو بعيد على أبي عثمان، فإنه ليس في أن يبتاع أحد حاضنه أو أباه فيعتقه من المزية بحيث يغبطه عليه أبو عثمان وأمثاله، لأن هذه مرتبة يدركها الغني والفقير والشريف والوضيع، ولو بذل من المال ما يعظم قدره، فيدرأ به قدر مروءته في إهانة الكثير العظيم، في صلة الولي الحميم، وإنما ساقوا هذه الحكاية ليجعلوا له أبا، ويكون بمنزلة من انتفى من أبيه. وأما استعمال عمر له فصحيح، وناهيك بذلك تزكية وشرفاً ودينا. وأما قولهم إن عمر عزله لأنه لم يشهد بباطل، بل روي أنه لما شهد أصحابه الثلاثة (¬3) وعمر يقول للمغيرة: ذهب ربعك، ذهب نصفك، ¬

(¬1) ترجم له الحافظ ابن حجر في (الإصابة) والحافظ أبو عمر بن عبد البر في (الاستيعاب) ونقل في مولده أنه ولد عام الفتح، وقيل عام الهجرة، وقيل يوم بدر. قال ابن حجر: وجزم ابن عساكر بأنه أدرك النبي صلي الله عليه وسلم ولم يره. (¬2) من الثابت أن الحارث بن كلدة اعترف بأبوته لنافع أخي زياد لأمه فصار يقال له نافع بن الحارث بن كلدة. ولا يعرف التاريخ أن عبيدا الثقفي أو الحارث بن كلدة اعترفا بزياد. (¬3) أصحابه الثلاثة في الشهادة على المغيرة أخواه لأمه: نفيع، ونافع الذي ينسب إلي الحارث بن كلدة، والثالث شبل بن معبد.

ذهب ثلاثة أرباعك، فلما جاء زياد قال له: إني أراك صبيح الوجه، وإني لأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلاً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأما خطبته التى ذكروا أنه عجب منها عمرو، فما كان عنده فضل علم ولا فصاحة يفوق بها عمراً فمن فوقه أو دونه. وقد أدخل له الشيخ المفتري (¬1) . خطباً ليست في الحد المذكور. وأما قولهم إن أبا سفيان اعترف به، وقال شعرا فيه، فلا يرتاب ذو تحصيل في أن أبا سفيان لو اعترف به في حياة عمر لم يخف شيئاً، لأن الحال لم يكن يخلو من أحد قسمين: إما أن يرى عمر إلاطته به (¬2) كما روي عنه في غيره فيمضي ذلك، أو يرد ذلك فلا يلزم أبا سفيان شيء باقتراف ما كان في الجاهلية. فذكرهم هذه الحكاية المخترعة الباردة المتهافتة الخارجة عن حد الدين والتحصيل لا معنى له. وأما تولية علي له فتزكية. وأما بعث معاوية إليه ليكون معه فصحيح في الجملة. وأما تفصيل ما كتب معاوية، أو كتب زياد به إلى علي، أو جاوب به علي زياداً، فهذا كله مصنوع. وأما قول علي " إنما كانت من أبي سفيان فلتة [زمن عمر] لا تستحق بها نسبا " فلو صح لكان ذلك شهادة، كما روي عن زياد، ولم يكن ذلك بمبطل لما فعله معاوية، لأنها مسألة اجتهاد بين العلماء: فرأى علي شيئاً، ورأى معاوية وغيره غيره. ¬

(¬1) لعله يريد الجاحظ، وأعظم خطب زياد التي أوردها له في (البيان والتبيين) خطبته التي تسمى (البتراء) وهي في أوائل الجزء الثاني. (¬2) أي إلحاقه وإلصاقه.

الفرق بين واقعتي استلحاق زياد وابن وليدة زمعة

[الفرق بين واقعتي استلحاق زياد وابن وليدة زمعة] وأما (نكتة الكلام) وهو القول في استلحاق معاوية زياداً وأخذ الناس عليه في ذلك، فأي إخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأي عار على أبي سفيان في أن يليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية. فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سفيان، كما لم تكن وليدة زمعة لعتبة، لكن كان لعتبة منازع تعين القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد. اللهم إن هاهنا نكتة اختلف العلماء فيها، وهي أن الأخ إذا استلحق أخا يقول هو ابن أبي ولم يكن له منازع بل كان وحده، فقال مالك: يرث ولا يثبت النسب. وقال الشافعي - في أحد القولين - يثبت النسب ويأخذ المال، هذا إذا كان المقر به غير معروف النسب. واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر» فقضى بكونه للفراش وبإثبات النسب. قلنا هذا جهل عظيم، وذلك أن قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بكونه للفراش صحيح، وأما قوله بثبوت النسب فباطل، لأن عبداً ادعى سببين: أحدهما الأخوة والثاني ولادة الفراش. فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو أخوك، الولد للفراش. لكان إثباتاً للحكم، وذكراً للعلة. بيد أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها، وأعرض عن النسب ولم يصرح به، وإنما في الصحيح في لفظ «هو أخوك» ، وفي آخر «هو لك» ، معناه فأنت أعلم به. وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف (¬1) . فالحارث بن كلدة لم يدع زياداً ولا كان إليه منسوباً، وإنما كان ابن أمته ولد على فراشه - أي في داره - فكل من ادعاه فهو له، إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز، بل ¬

(¬1) للمؤلف كتاب (الإنصاف في مسائل الخلاف) 20 مجلدا.

فعل فيه الحق على مذهب مالك. فإن قيل: فلم أنكر عليه الصحابة؟ . قلنا: لأنها مسألة اجتهاد، فمن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك وعظمه. فإن قيل: ولم لعنوه، وكانوا يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ملعون من انتسب لغير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه» ؟ . قلنا: إنما لعنه من لعنه لوجهين: أحدهما لأنه أثبت نسبه من هذا الطريق، ومن لم ير لعنه لهذا لعنه لغيره. وكان زياد أهلا أن يلعن - عندهم - لما أحدث بعد استلحاق معاوية (¬1) . فإن قيل: جعل النبي صلى الله عليه وسلم للزنا حرمة، ورتب عليها حكماً حين قال: «احتجبي منه يا سودة» (¬2) وهذا يدل على أن الزنا ¬

(¬1) وأهم ذلك - عندهم- تسببه في قتل حجر بن عدي، وقد مضى الكلام عليه في ص211-213. (¬2) في كتاب الأقضية من (موطأ مالك) ب21 ص740 عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني [وليدة زمعة: جاريته.] ، فاقبضه إليك. قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال: ابن أخي، قد كان عهد إلي فيه. فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فتساوقا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقال سعد: يا رسول الله، ابن أخي، قد كان عهد إلي فيه. وقال عبد بن زمعة: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم " هو لك يا عبد بن زمعة ". ثم قال صلي الله عليه وسلم " الولد للفراش، وللعاهر الحجر ". ثم قال لسودة بنت زمعة " احتجبي منه " لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص. قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل. وأخرجه البخاري (ك34 ب3) ومسلم (ك17 ب10 ح36) .

يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح. هكذا قال الكوفيون. ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم على المسألة ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه، وقد بيناها في كتاب النكاح. وقال الشافعي: العذر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبه من زمعة وصحة أخوته لها بدعوى عبد أن ذلك تعظيم لحرمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن لم يكن كأحد من النساء في شرفهن وفضلهن. قلنا: لو كان أخاها بنسب ثابت صحيح كما قلتم، ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» تحقيقاً للنسب، لما منع النبي صلى الله عليه وسلم سودة منه، كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت: هو أخي من الرضاعة، وإنما قال: «انظرن من إخوانكن» . وأما ما روي عن سعيد بن المسيب، فأخبر عن مذهبه في أن هذا الاستلحاق ليس بصحيح، وكذلك رأى غيره من الصحابة والتابعين. وقد صارت المسألة إلى الخلاف بين الأمة وفقهاء الأمصار، فخرجت من حد الانتقاد إلى حد الاعتقاد. وقد صرح مالك في كتاب الإسلام وهو (الموطأ) بنسبه فقال في دولة بني العباس " زياد بن أبي سفيان "، ولم يقل كما يقول المجادل " زياد بن أبيه " هذا على أنه لا يرى النسب يثبت بقول واحد. ولكن في ذلك فقه بديع لم يفطن له أحد، وهو أنها لما كانت مسألة خلاف، ونفذ الحكم فيها بأحد الوجهين، لم يكن لها رجوع، فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها ويرفع الخلاف فيها. والله أعلم. وأما روايتهم أن عمر قال " كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس " فهذه زيادة ليس لها أصل، من ناقص عقل، وأي عقل كان لزياد يزيد على

نكتة الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس

الناس في أيام عمر (¬1) وكل واحد من الصحابة كان أعقل من زياد وأعلم منه ولهذا كل من كمل عقله أكثر من الآخر فهو أولى أن يختلط مع الناس. ويقولون: كان داهية، وهي كلمة واهية. الدهاء والأرب هو المعرفة بالمعاني، والاستدلال علي العواقب بالمبادي وكل أحد من الصحابة والتابعين فوق زياد وتلك الروايات التي يروي المؤرخون - من كذبهم - في حيل الحرب والفتك بالناس، كل أحد اليوم يقدر على مثلها وأكثر منها، والحيلة إنما تكون بديعة وتنثى وتروى إذا وافقت الدين، وأما كل حكاية تخالف الدين فليس في روايتها خير ولا عقل. وكل الناس كما قدمنا - وخذ من ولاة بني أمية خاصة - أعقل من زياد وأفصح منه. فلا تلتفتوا إلي ما روي من الأباطيل. [نكتة الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس] نكتة الولايات والعزلات لها معان وحقائق لا يعلمها كثير من الناس. لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات عن زهاء اثني عشر ألفا من الصحابة معلومين. منهم ألفان أو نحوهما مشاهير في الجلالة، ولى منهم أبو بكر سعدا وأبا عبيدة ويزيد وخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل ونفرا غيرهم فوقهم، وولى أنس بن مالك ابن عشرين سنة علي البحرين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في عتاب (¬2) . ومتى كان استوفى المشيخة حتى يأخذ الشبان. وولى عمر أيضا كذلك، وبادر بعزل خالد. وذلك كله لفقه عظيم ومعارف بديعة بيانها في موضعها من كتب الإمامة ¬

(¬1) لأنه كان لما دخل على عمر في السابعة عشرة من عمره على ما نقله البخاري في تاريخه الأوسط عن يونس بن حبيب عن آل زياد. (¬2) عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية (انظر ص 234) .

والسياسة من الأصول، فخذوا في غير هذا، فليس هذا الباب مما تلوكه أشداق أهل الآداب. وأما ما روي عن معاوية أنه استدعى شهوداً فشهد السلولي وسواه (¬1) فسل من ألحق ما روي عن السلولي، فإنه لم يكن قط. واسعد بإسقاط ما روي في القصة، سعيد أو سعد. وأما كلام أبي بكرة - أخيه لأمه - فيه فغير ضائر له، لأن ذلك رأي أبي بكرة واجتهاده. وأما قولهم فيها عن أبي بكرة أنه زنى أمه، فلو كان ذلك صحيحاً لم يضر أمه ما جرى في الجاهلية في الدين، فإن الله عفا عن أهل الجاهلية كلها بالإسلام. وأسقط الإثم والعار منه، فلا يذكره إلا جاهل به. قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : والناس إذا لم يجدوا عيباً لأحد وغلبهم الحسد عليه وعداوتهم له أحدثوا له عيوباً. فاقبلوا الوصية، ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار، واجتنبوا - كما ذكرت لكم - أهل التواريخ، فإنهم ذكروا عن السلف أخباراً صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل، فيقذفوا - كما قدمنا - في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى، وليحتقروا السلف ويهونوا الدين، وهو أعز من ذلك، وهم أكرم ¬

(¬1) السلولي مالك بن ربيعة أبو مريم، وكان ذلك سنة 44، وكان معه في الشهادة زياد بن أسماء الحرمازي والمنذر بن الزبير - فيما ذكر المدائني بأسانيده - وجويرية بنت أبي سفيان والمسور بن قدامة الباهلي وابن أبي نصر الثقفي وزيد بن نفيل الأزدي وشعبة بن العلقم المازني ورجل من بني عمرو بن شيبان ورجل من بني المصطلق، شهدوا كلهم على أبي سفيان أن زيادا ابنه، إلا المنذر فشهد أنه سمع عليا يقول: أشهد أن أبا سفيان قال ذلك. فخطب معاوية فاستلحق زيادا، وتكلم زياد فقال: إن كان ما شهد به الشهود حقا فالحمد لله، وإن كان باطلا فقد جعلتهم بيني وبين الله.

قاصمة

منا، فرضي الله عن جميعهم. ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التى يختلقها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء، وهذا زياد لما أحس المنية استخلف سمرة بن جندب من كبار الصحابة فقبل خلافته، وكيف يظن به - على منزلته - أنه يقبل ولاية ظالم لغير رشدة، وهو على ما هو عليه من الصحبة، وذلك من غير إكراه ولا تقية؟ إن هذا لهو الدليل المبين. فمع من تحبون أن تكونوا: مع سمرة بن جندب، أو مع المسعودي والمبرد وابن قتيبة ونظرائهم (¬1) ؟ وهذا غاية في البيان. [قاصمة] [اجتماع العرب بالإسلام] قاصمة كانت الجاهلية مبنية على العصبية، متعاملة بينها بالحمية فلما جاء الإسلام بالحق، وأظهر الله منته على الخلق، قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] وقال لنبيه: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63] فكانت بركة النبي صلى الله عليه وسلم تجمعهم، وتجمع شملهم، وتصلح قلوبهم، وتمحو ضغائنهم. ¬

(¬1) حكم القاضي أبو بكر على ابن قتيبة هذا الحكم القاسي وهو يظن أن كتاب (الإمامة والسياسة) من تأليفه كما سيأتي. وكتاب الإمامة والسياسة ذكرت فيه أمور وقعت بعد موت ابن قتيبة، فدل ذلك على أنه مدسوس عليه من خبيث صاحب هوى. ولو وقف المؤلف على هذه الحقيقة لوضع الجاحظ ومن هم دون الجاحظ في موضع ابن قتيبة.

ظهور الأحزاب البكرية والعمرية والعثمانية والعلوية والعباسية

واستأثر الله برسوله صلى الله عليه وسلم، ونفرت النفوس، وتماسكت الظواهر منجرة ما دام الميزان قائماً. [ظهور الأحزاب البكرية والعمرية والعثمانية والعلوية والعباسية] فلما رفع الميزان - كما تقدم ذكره (¬1) في الحديث - أخذ الله القلوب عن الألفة، ونشر جناحاً من التقاطع، حتى سوى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق، واتصل الهرج إلى يوم المساق. وصارت الخلائق عزين (¬2) في كل واد من العصبية يهيمون: فمنهم بكرية، وعمرية، وعثمانية، وعلوية، وعباسية - كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب، ولا فيه مقالة، وإنما هي حماقات وجهالات، أو دسائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة، وتهزأ الملحدة من الملة، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم في غير مسير ولا مذهب. قالت البكرية: أبو بكر نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ورضيته الأمة للدنيا، وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المنزلة العليا، والمحبة الخالصة. وولي فعدل، واختار فأجاد، إلا أنه أوهم في عمر فإنه أمره غليظ: وفظاظته غلبت. وذكروا معايب، وأما عثمان فلم يخف ما عمل. وكذلك علي. وأما العباس فغير مذكور. وقالت العمرية: أما أبو بكر ففاضل ضعيف. وعمر إمام عدل قوي بمدح النبي صلى الله عليه وسلم له في حديث الرؤيا والدلو والعبقري كما تقدم (¬3) . وأما عثمان فخارج عن الطريق: ما اختار واليا، ولا وفى أحداً حقاً، ولا كف أقاربه، ولا اتبع سنن من كان قبله. وأما علي فجريء على الدماء. لقد سمعت في مجالس أن ابن جريج (¬4) . كان يقدم ¬

(¬1) في ص 190. (¬2) جمع عزة: العصبة من الناس. (¬3) في ص 188. (¬4) عبد الملك بن عبد العزيز المكي أحد الأعلام توفي سنة 150.

عاصمة

عمر على أبي بكر. وسمعت الطرطوشي (¬1) يقول: لو قال أحد بتقديم عمر لتبعته. وقالت العثمانية: عثمان له السوابق المتقدمة، والفضائل والفواضل في الذات والمال، وقتل مظلوماً. وقالت العلوية: علي ابن عمه وصهره وأبو سبطي النبي صلى الله عليه وسلم وولد النبي صلى الله عليه وسلم حضانة. وقالت العباسية: هو أبو النبي صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالتقديم بعده. وطولوا في ذلك من الكلام ما لا معنى لذكره لدناءته (¬2) ورووا أحاديث لا يحل لنا أن نذكرها لعظيم الافتراء فيها ودناءة رواتها. وأكثر الملحدة على التعلق بأهل البيت (¬3) وتقدمة علي على جميع الخلق (¬4) حتى إن الرافضة أنقسمت إلى عشرين فرقة أعظمهم بأسا من يقول إن عليا هو الله. والغرابية يقولون إنه رسول الله لكن جبريل عدل بالرسالة عنه إلى محمد حمية منه معه. . . في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف، فأما دفء المناظرة فلا يؤثر فيه. [عاصمة] [تحذير المسلمين من أهواء المفسرين والمؤرخين وأهل الآداب] عاصمة إنما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق، وخاصة من المفسرين، ¬

(¬1) من شيوخ المؤلف، انظر ترجمة ابن العربي في أول الكتاب. (¬2) وكان أكثر ذلك في زمن دولتهم. (¬3) يتخذونهم ذريعة، ويطعنون في كثير من أفاضلهم، ويعرضون بمثل الإمام زيد، بل يجحدون أخوات فاطمة. ثم إنهم يخالفون صريح شريعة جد أهل البيت بدعوى العصمة والتأليه الفعلي لبعض أفرادهم. (¬4) حتى الأنبياء، ويغطون على جريمتهم باستثناء نبينا صلي الله عليه وسلم.

والمؤرخين، وأهل الآداب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري (¬1) وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر. فإنهم ينشئون أحاديث فيها استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى. فإذا قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل. ولم تطووا كشحا على هذه الغوائل ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة، فلم يبق ولم يذر للصحابة رسما في كتاب (الإمامة والسياسة) إن صح عنه جميع ما فيه (¬2) ¬

(¬1) ومع ذلك فالطبري ذكر مصادر أخباره وسمى رواتها لنكون من أمرهم على بينة، وقال في آخر مقدمة كتابه: فما يكن في كتابي هذا من خبر يستنكره قارئه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا (انظر مجلة الأزهر: صفر 1372ص 210- 215) . (¬2) لم يصح عنه شيء مما فيه. ولو صحت نسبة هذا الكتاب للإمام الحجة الثبت أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (213 - 276) لكان كما قال عنه ابن العربي، لأن كتاب الإمامة والسياسة مشحون بالجهل والغباوة والركة والكذب والتزوير. ولما نشرت لابن قتيبة كتاب (الميسر والقداح) قبل أكثر من ربع قرن، وصدرته بترجمة حافلة له، وسميت مؤلفاته، ذكرت (في ص26 - 27) مآخذ العلماء على كتاب الإمامة والسياسة، وبراهينهم على أنه ليس لابن قتيبة، وأزيد الآن على ما ذكرته في (الميسر والقداح) أن مؤلف الإمامة والسياسة يروي كثيرا عن اثنين من كبار علماء مصر، وابن قتيبة لم يدخل مصر ولا أخذ عن هذين العالمين، فدل ذلك كله على أن الكتاب مدسوس عليه.

وكالمبرد في كتابه الأدبى (¬1) . وأين عقله من عقل ثعلب الإمام المتقدم في أماليه، فإنه ساقها بطريقة أدبية سالمة من الطعن على أفاضل الأمة. وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه (¬2) . فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة مما ينسب إليه ما لا يليق ويذكر [عنه] ما لا يجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين. فهذا مالك رضي الله عنه قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطئه وأبرزه في جملة قواعد الشريعة (¬3) . ¬

(¬1) المبرد ينزع إلى شيء من رأي الخوارج، وله فيهم هوى. وإن إمامته في اللغة والأدب لا تغطي على ضعفه في علم الرواية والإسناد. وإذا كان أبو حامد الغزالي على جلالته في العلوم الشرعية والعقلية لم يتجاوز له العلماء عن ضعفه في علوم الإسناد فأحرى ألا يتجاوزوا عن مثل ذلك للمبرد. وعلى كل حال فكل خبر مما مضى أو سيأتي - في أمتنا أو في أي أمة غيرها - يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت صدقه أو كذبه على محك الاختبار وبالبحث العلمي. (¬2) علي بن الحسين المسعودي يعده الشيعة من شيوخهم وكبارهم، ويذكر له المامقاني في تنقيح المقال (2: 282 -283) مؤلفات في الوصاية وعصمة الإمام وغير ذلك مما يكشف عن عصبيته والتزامه غير سبيل أهل السنه المحمدية. ومن طبيعة التشيع والتحزب والتعصب البعد بصاحبه عن الاعتدال والإنصاف. (¬3) من ذلك ما جاء في (باب المستكرهة من النساء) بكتاب الأقضية من الموطأ (ص734) : حدثني مالك عن ابن شهاب أن عبد الملك بن مروان قضى في امرأة أصيبت مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها. وفي كتاب المكاتب من الموطأ (ص788) قضاء آخر لعبد الملك، وفي كتاب العقول من الموطأ (ص 872) قضاء له أيضا. أما أبوه مروان بن الحكم فأقضيته وفتاواه كثيرة في الموطأ وغيره من كتب السنة المتداولة في أيدي أئمة المسلمين يعملون بها من أيام الخير إلى الآن. وانظر لورع مروان وابنه عبد الملك حديث مالك عن ابن أبي عبلة في كتاب النكاح من الموطأ (ص 540) .

وقال في روايته: " عن زياد بن أبي سفيان ". فنسبه إليه وقد علم قصته، ولو كان عنده ما يقول العوام حقا لما رضي أن ينسبه ولا ذكره في كتابه الذي أسسه للإسلام (¬1) وقد جمع ذلك كله في أيام بني العباس والدولة لهم والحكم بأيديهم فما غيروا عليه ولا أنكروا ذلك منه لفضل علومهم ومعرفتهم بأن مسألة زياد مسألة قد اختلف الناس فيها فمنهم من جوزها ومنهم من منعها، فلم يكن لاعتراضهم إليها سبيل. وكذلك أعجبهم - حين قرأ الخليفة على مالك الموطأ - ذكر عبد الملك بن مروان فيه وإذكاره بقضائه، لأنه إذا احتج العلماء بقضائه فسيحتج بقضائه أيضا مثله، وإذا طعن فيه طعن فيه بمثله (¬2) . ¬

(¬1) وعامر بن شراحيل الشعبي كان من أئمة المسلمين كذلك، بل إن مالكا كان يراه إماما له. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة زياد من تاريخ دمشق (5: 406) أن الشعبي قال: أتت زيادا قضية في رجل مات وترك عمة وخالة فقال " لأقضين بينكم بقضاء سمعته من عمر بن الخطاب " وذلك أنه جعل العمة بمنزلة الأخ والخالة بمنزلة الأخت. (¬2) وممن روى عن عبد الملك بن مروان البخاري في كتابه (الأدب المفرد) وروى عن عبد الملك الإمام الزهري، وعروة بن الزبير، وخالد بن معدان من فقهاء التابعين وعبادهم، ورجاء بن حيوة أحد الأعلام. قال نافع مولى ابن عمر: لقد رأيت المدينة وما فيها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان. وروى الأعمش عن أبي الزناد أن فقهاء المدينة كانوا أربعة: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيصة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان قبل أن يدخل الإمارة. وقال الشعبي: ما جالست أحدا إلا وجدت لي الفضل عليه، إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني منه، ولا شعرا إلا زادني فيه (البداية والنهاية 9: 62-63) .

ما نسب إلى الأمويين أهون من قول المأمون بخلق القرآن وسماح العباسيين

وأخرج البخاري (¬1) عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: " إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك ". [ما نسب إلى الأمويين أهون من قول المأمون بخلق القرآن وسماح العباسيين] بقراءة وهذا المأمون كان يقول بخلق القرآن، وكذلك الواثق، وأظهروا بدعتهم، وصارت مسألة معلومة إذا ابتدع القاضي أو الإمام هل تصح ولايته وتنفذ أحكامه أم هي مردودة؟ وهي مسألة معروفة. وهذا أشد من برودات أصحاب التواريخ من أن فلاناً الخليفة شرب الخمر أو غنى أو فسق أو زنى، فإن هذا القول في القرآن بدعة أو كفر - على اختلاف العلماء فيه - قد اشتهروا به، وهذه المعاصي لم يتظاهروا بها إن كانوا فعلوها، فكيف يثبت ذلك عليهم بأقوال المغنين والبراد من المؤرخين [الذين] قصدوا بذكر ذلك عنهم تسهيل المعاصي على الناس وليقولوا إذا كان خلفاؤنا يفعلون هذا فما يستبعد ذلك منا. وساعدهم الرؤساء على إشاعة هذه الكتب وقراءتها لرغبتهم في مثل أفعالهم حتى صار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وحتى سمحوا للجاحظ أن ¬

(¬1) في كتاب الأحكام من صحيحه (ك93 ب43 - ج8 ص122) . وانظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 147.

تقرأ كتبه في المساجد وفيها من الباطل والكذب والمناكير ونسبة الأنبياء إلى أنهم ولدوا لغير رشدة كما قال في إسحاق صلى الله عليه وسلم في كتاب الضلال والتضلال، وكما مكنوا من قراءة كتب الفلاسفة في إنكار الصانع وإبطال الشرائع لما لوزرائهم وخواصهم في ذلك من الأغراض الفاسدة والمقاصد الباطلة، فإن زل فقيه أو أساء العبارة عالم: يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (¬1) وبالوقوف على هذه الفضول تحسن نياتكم، وتسلم عن التغير قلوبكم على من سبق. وقد بينت لكم أنكم لا تقبلون على أنفسكم في دينار، بل في درهم، إلا عدلا بريئا من التهم، سليما من الشهوة. فكيف تقبلون في أحوال السلف وما جرى بين الأوائل ممن ليس له مرتبة في الدين، فكيف في العدالة! ورحم الله عمر بن عبد العزيز حيث قال وقد تكلموا في الذي جرى بين الصحابة: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ¬

(¬1) كبكب: جبل خلف عرفات مشرف عليها، كان لبني سامة بن لؤي قبل أن يجلوا إلى عمان. والشعر للأعشى، وتمامه: ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلوم مجرا ومسحبا وتدفن منه الصالحات، وإن يسئ ... يكن ما أساء النار في رأس كبكبا

بعض المراجع

[بعض المراجع] لكتابة تعليقات الكتاب، وترجمة القاضي ابن العربي ديوان ذي الرمة غيلان بن عقبة (77- 117) - مخطوطتنا الخاصة - موطأ مالك بن أنس (93 - 179) بتعليقات الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي 1370 كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف (113 - 182) . طبع السلفية كتاب الخراج ليحيى بن آدم (وفاته 203) بشرح الشيخ أحمد شاكر. السلفية 1384 طبقات ابن سعد (168 - 230) طبع ليدن 1321 نسب قريش لمصعب بن عبد الله الزبيري (156 - 236) مسند أحمد (164 - 241) . الطبعة الأولى بمصر 1313 مسند أحمد بتحقيق الشيخ أحمد شاكر. (صدر منه 9 أجزاء) كتاب الزهد للإمام أحمد. طبع مكة سنة 1357 صحيح البخاري (194- 256) الطبعة السلطانية بالقسطنطينية 1315 صحيح مسلم (206 - 261) الطبعة السلطانية بالقسطنطينية 1329 سنن أبي داود (202 - 275) طبع دهلي 1272 سنن ابن ماجه (209 - 273) . بتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. مصر 1373 جامع الترمذي (209 - 279) وشرحه عارضة الأحوذي لابن العربي. مصر 1350 سنن النسائي (215 - 303) . مصر 1312 البيان والتبيين للجاحظ (المتوفى سنة 255) . مصر 1332 ديوان الحطيئة بشرح أبي سعيد السكري (212 - 275) . مصر الميسر والقداح لابن قتيبة (213 - 276) . طبع السلفية 1385 فتوح البلدان للبلاذري (المتوفى سنة 279) . مصر 1350 أنساب الأشراف للبلاذري. القدس 36 - 1938 تاريخ الطبري (224 - 310) . مصر 1321

تفسير الطبري: طبع بولاق 1323 كتاب العزلة لأبي سليمان الخطابي (317 - 388) . مصر 1352 المستدرك على الصحيحين للحاكم بن البيع (321 - 405) . حيدر أباد الدكن 35 - 1342 الأحكام السلطانية للماوردي (366 - 450) . مصر 1327 التمهيد لأبي بكر الباقلاني (وفاته 403) . بتحقيق الأستاذ الخضيري 1366 الاستيعاب لابن عبد البر (368 - 463) بهامش الإصابة. مصر 1328 الفصل في الملل والنحل لابن حزم (384 - 457) . مصر 17 - 1321 الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم. مصر 45 - 1348 السنن الكبرى للبيهقي (384- 458) . حيدر أباد الدكن 44 - 1355 الكفاية للخطيب البغدادي (392 - 463) حيدر أباد 1357 معجم ما استعجم للبكري (وفاته 487) بتحقيق الأستاذ مصطفى السقا 65 - 1371 مطمح الأنفس للفتح بن خاقان القيسي (وفاته 535) . طبع الجوائب 1302 تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (499 - 571) . دمشق 29 - 1351 النهاية في غريب الحديث للمجد ابن الأثير (544 - 606) . مصر 1311 معجم البلدان لياقوت (574 - 626) . طبعة وستنفلد. لايبسيك 1870 المنتقى من أحاديث الأحكام لمجد الدين عبد السلام بن تيمية (490 - 652) وفيات الأعيان لابن خلكان (608 - 681) . مصر 1299 لسان العرب لابن منظور (630 - 711) . طبع بولاق 130 - 1308 منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728) . بولاق 1321 المنتقى من منهاج الاعتدال مختصر منهاج السنة للذهبي (673- 748) طبع السلفية لسان الميزان للحافظ الذهبي (673 - 748) . مصر 1325 تذكرة الحفاظ للذهبي. طبعة حيدر أباد الدكن 33 - 1334 التمهيد والبيان في مقتل عثمان لابن بكر الأشعري (674 - 741) مخطوطة دار الكتب البداية والنهاية لابن كثير (701- 774) . طبع مصر المراقبة العليا للنباهي (المولود سنة 713) بتحقيق بروفنسال 1367 طبقات الشافعية لابن السبكي (728 - 771) . مصر 1324 الديباج المذهب لابن فرحون (المتوفى سنة 799) . مصر 1329 العبر لولي الدين ابن خلدون (732 - 806) بولاق 1284

الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير (775 - 840) المنيرية 1346 الإصابة للحافظ ابن حجر (773 - 852) . مصر 1328 فتح الباري للحافظ ابن حجر. السلفية 1380 لسان الميزان لابن حجر. حيدر أباد الدكن 30 - 1331 تهذيب التهذيب لابن حجر. لكنو بالهند 1321 الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل لمجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي المقدسي (860 - 927) . طبعة مصر 1283 خلاصة تذهيب الكمال للصفي الخزرجي (ألفها سنة 922) . طبع مصر 1323 شذرات الذهب لابن العماد (1032 - 1089) . مصر 50 - 1351 تاج العروس للمرتضى الحسيني (1145 - 1205) . مصر 67 - 1307 فصل الخطاب لعدو الله حسين النوري الطبرسي. إيران 1298 تنقيح المقال للمامقاني (1290 - 1351) طبع النجف 1352 شجرة النور الزكية لمخلوف. طبع السلفية 49 - 1350 تاريخ القرآن والمصاحف لأبي عبد الله الزنجاني. مصر 1354 عثمان بن عفان للشيخ صادق عرجون. مصر 1366 مجلة الأزهر مصطلح التاريخ للدكتور أسد رستم

§1/1