العلم يدعو للإيمان

كريسى موريسون

العلم يدعو للإيمان قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة آل عمران) (إنَّ في خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأرض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولىِ الألْبَاب. الذيِنَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهمْ وَيَتفَكروُنَ فيِ خَلْقِ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ. رَبَّنا مَا خَلَقْت هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) . المترجم وقال تعالى: (سورة فاطر) : (إنَّما يَخشَى اللهَ مِن عِبَادِهِ العُلَماء) المترجم المشتركون في هذا الكتاب المؤلف 1. كريسى موريسون - هو الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيس المعهد الامريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، وزميل في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي، وعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني. 2. المترجم: محمود صالح الفلكي - حصل على بكالوريوس في الإقتصاد بمرتبة الشرف من جامعة كمبردج بانجلترا سنة 1924، وعلى درجة أستاذ من نفس الجامعة 1929. شغل عدة وظائف اقتصادية هامة بوزارة المالية والإقتصاد ثم وكيلا لنفس الوزارة سنة 1951. كما مثل الحكومة المصرية عدة مؤتمرات اقتصادية دولية. ومن سنة 1954 إلى آخر 1955 عين سفيراً لجمهورية مصر في باريس ثم عين عضوا بمجالس ادارة عدة بنوك وشركات من سنة 1955 حتى 1961. عين مندوبا مفوضا لبنك الاستيراد والتصدير المصري في مكان مجلس الادارة سنة 1961. في سنة 1955 انعم عليه السيد رئيس الجمهورية بوسام الاستحقاق من الطبقة الثانية. له عدة مؤلفات وبحوث اقتصادية منها: (بحوث في الشئون المالية والإقتصادية الدولية والقومية) ، و (التخطيط الاقتصادي) ، و (التنمية الإقتصادية وقواعدها الاساسية في الدول الناشئة) . مصححة الغلاف: الانسة اعتدال منيب.

هذا الكتاب

هذا الكتاب وضع العلامة الامريكي ا. كريسى موريسون هذا الكتاب للقارئ العادي، سواء أكان شابا ام شيخاً، رجلا ام امرأة، وبينما يعالج مسائل علمية جديدة، تراه يطلعك على غرائب في الكون ما كانت تخطر لك ببال. وهو كتاب علمي قبل كل شيء، إذ يعالج مسائل تختص بالفلك والجيولوجيا والطبيعة والكيمياء والطب وعلم الاحياء ونحوها. ولكنه بسط هذه المسائل العلمية لدرجة تقربها إلى ذهن كل قارئ. ومن عجب ان يستوعبا كلها في هذا الحيز الصغير، وان يعرضها بشكل جذاب. ان ما كشفه المؤلف في هذا الكتاب من حقائق جدير بان يثير خيال الانسان. غير ان النتائج التي انتهى اليها هي ثمرة (تكييف) الإنسان كي يلائم الطبيعة بشكل ظاهر، كما هي ثمرة تكييف الطبيعة لتلائم الإنسان بشكل خفي ادعى إلى الدهشة! ولا ريب ان هذا الكتاب سيكون موضع التقدير من جميع المفكرين الذين يروقهم ان يجمعوا التأمل والتفكير إلى وقد برهن المؤلف بالبراهين القاطعة على ان عجائب علاقات الإنسان بالطبيعة، ووجود الحياة نفسها، تتوقف كلها على وجود الخالق سبحانه وتعالى، وعلى وجود قصد من خلق الكون، ويتمثل هذا القصد في اعداد روح الإنسان للخلود. وهذه الغاية التي توخاها المؤلف هي غاية جليلة بلا ريب، ولا تعارض بينها وبين الأديان على اختلافها، بل انها على العكس تؤيدها، إذ تثبت الايمان بالله الذي هو اساس كل دين. ومن ثم يروق هذا الكتاب للعالم العصري، والعالم الديني، والواعظ، ويرضى المتدين كما يقنع الذي في نفسه شك. ولا ريب ان الموضوع الذي عالجه هذا الكتاب هو موضوع اليوم، فقد انتشرت فكرة الالحاد في كثير من البلدان، وزعم الملحدون انهم ينكرون الايمان على أساس من العلم. ولكن هاهو ذا عالم كبير يؤيد الإيمان ببراهين من أحد ث العلوم.

هذا والعلامة ا. كريسى موريسون هو الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك، ورئيس المعهد الامريكي لمدينة نيويورك، وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي بالولايات المتحدة، وزميل في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي، وعضو مدى الحياة للمعهد الملكي البريطاني. وقد قرظت هذا الكتاب صحف ومجلات امريكية عدة، ومن ذلك ما نشرته مجلة (هارتفورد كورانت) ضمن مقال طويل، إذ قالت: (ان المؤلف الذي هو رئيس سابق لأكاديمية العلوم في نيويورك، قد اشتق الوقائع من مختلف العلوم، وجمعها معا في هذا الكتاب الذي يفتح الاذهان ويضيئها بشكل يدعو إلى العجب. مثله في ذلك مثل صانع الساعة الدقيقة الجميلة، إذ يبحث عن عجلة صغيرة، أو ترس هنا، وعن جوهرة هناك، ويضم اداة دقيقة إلى مسمار الحياة، حتى يتم صنع تلك تلك الساعة. (وقد استعان المؤلف بامثلة من علم الفلك والجيولوجيا وعلم الحشرات وعلم النبات وعلم الاحياء وعلم الطبيعة وعلم النفس والفلسفة. وقد جمع هذه المادة بعناية بالغة. وعرضها بدقة وبراعة. (واشتق من هذه العلوم المختلفة المتشابكة، حقائق عجيبة مرتبطا بعضها ببعض في انسجام كامل على نحو يؤدي بالضرورة إلى ايمان كل إنسان مفكر سليم الفكر بوجود الله. ان بعض المؤمنين يؤمنون على أساس الشعور، والبعض الآخر على أساس تعاليم يحفظونها دون تفكير، ولا يصلح هذا الأساس ولا ذاك وإنما يصلح الايمان القائم على العقل لبقي الإنسان في هذا العصر الذري المدهش) .

كلمة المترجم

كلمة المترجم بسم الله الرحمن الرحيم قد يبدو غريبا ان رجلا درس العلوم الإقتصادية والمالية وشغل منصب وكيل وزارة المالية والاقتصاد، ومركز نائب المحافظ لصندوق النقد الدولي بواشنطن، ومنصب سفير مصر في باريس، يعمد إلى ترجمة كهذا الكتاب، يتكلم في الفلك والجيولوجيا والطبيعة والكيمياء والطب وعلم الوراثة، ومثل ذلك من العلوم التي لا تمت إلى عمل المترجم، ولا إلى دراسته، بسبب من الاسباب. ولكن الواقع اني حين قرأت هذا الكتاب ابان اقامتي في امريكا، ضمن ما قرأته من كتب في موضوعات شتى – اعجبتني الغاية السامية التي توخاها المؤلف الكبير من تأليفه، إلا وهي اثبات وجود الله ووحدانيته، بادلة من العلم المادي الحديث! وكان العهد بدعاة الإلحاد ان يحتجوا لدعوتهم بادلة يحسبونها علمية، حتى لقد ظن البعض ان العلم والايمان نقيضان لا يجتمعان، بل الف أحد العلماء الغربيين – وهو جوليان هكسلي – كتابا في ذلك سماه (الإنسان يقوم وحده) Man Stands Alone زعم فيه أن العلم ينكر وجود الله. ولكن ها هو ذا عالم من أكبر العلماء الامريكيي، وقد شغل حينا مركز رئيس المجمع العلمي في أمريكا، قد تصدى له ورد عليه وبين له وللناس جميعا، ان العلم الحديث يثبت وجود الله وينتهي إلى الايمان به وبوحدانية، بما لا يحتمل الشك أو الجدل. وقد سمى كتابه (الإنسان لا يقوم وحده Man Does Not Stand Alone اثبت فيه بمختلف العلوم ان الله بارئ الكون وهو خالق كل شيء. لذلك وحده عنيت بترجمة هذا الكتاب لعله ينتشر بني قراء العربية كما انتشر في أمريكا حيث كان له أثر كبير في صد موجة الالحاد وتثبيت قوة اليقين. وقد وجدت كثيرا من آيات القرآن الكريم تؤيد ما ذهب اليه المؤلف فوضعتها في مواضعها من فصول الكتاب. والله الهادي إلى اقوم سبيل محمود صالح الفلكي

تصدير بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري

تصدير بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ أحمد حسن الباقوري مدير جامعة الازهر البحث عن الله والتعرف إلى الخالق امر شغلت به الإنسانية منذ كان لها وجود في هذا العالم حتى لكأنما يدفعها اليه شعور خفي دافق، ويسوقها نحوه سائق عنيف من فطرة كامنة فيها. فالإنسان بفطرته طلعة لا يقنع من الحياة بمظاهر اشكالها وألوانها كما تنقلها اليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ اليها ببصرته ليعرف حقيقة كل شيء.. من اين جاء وكيف صار والام ينتهي. وهو في اشباع رغبته تلك لا يدخر وسعاً من ذكاء أو جهد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن اليه عقله وتستريح به نفسه. وكذلك كان شان الإنسان في بحثه عن الله، الحقيقة الكبرى التي هي مصدر وجود هذا العالم واليها مصائر اموره.. فلقد أكثر من التطلع اليها والبحث عنها حتى تفرقت به السبل واختلفت فيها مذاهبه، إذ لا شك ان هذه النظرات المتطلعة إلى تلك الحقيقة الكبرى قد اخذت ولا تزال تاخذ صورا واشكالا متعددة متباينة، تختلف باختلاف الناس واستعدادهم الفكري وما يحيط بهم من ظروف الحياة واحوالها، فلكل وجهته التي هو موليها، ولكل مبلغه من العلم وحظه من التوفيق: فبينا يصل اليها بعضهم عن طريق النظر في ملكوت السموات والأرض على اختلاف في مجال هذا النظر عمقا وامتداداً، إذ يصل اليها بعضهم الاخرين عن طريق العاطفة المجردة عن الادراك، الواقعة تحت تاثير الوراثة أو السماع والتي لا تكاد تلامس الفكر أو تثيره. وبين هؤلاء وهؤلاء طوائف وطوائف تقطع الطريق إلى تلك الحقيقة في مراحل متعددة تخلط بين العاطفة والفكر بنسب واقدار متباينة. ومن هنا نستطيع ان نقول ان لك إنسان تصورا خاصا لإلهه الذي يعبده والذي ينزل من نفسه المنزلة التي هداء اليها عقله أو قلبه، أحد هما أو كلاهما، وبالقدر الذي تكشف له من الحقيقة، وعلى الصورة التي تمثلت في خاطره. ولذا تعددت الآلهة وتفرقت بالناس مذاهب الرأي فيها، فكان لكل امة ربها، ولكل جماعة دينها (وَلَوْ شَاءَ رَبَّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفيِنَ إلا مَنْ رَحِمَ رَبّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)

ولا نريد هنا ان نبحث في تاريخ الأديان بعيدها وقربها، ولا أ، نستقصي تعدد المعبودات والبواعث التي دعت اليها، والصور والاشكال التي ظهرت فيها، ولا ان نتحدث عن فكرة التوحيد أو التعدد فذلك ما لا سبيل اليه في هذا المقام، وإنما نريد ان نقول ان صورة الإله أو الآلهة التي عبدها الناس منذ كانوا إنما كانت وليدة اقتناع وايمان ايا كان حظهما من العمق، ومدهما من الصدق. فعايد النار أو الحجر أو الحيوان أو الشمس أو القمر إنما عبد معبوداته تلك بعد ان ملكت عليه زمام نفسه، واخذت بمجامع قلبه، وتمثلت له قوة خارقة لا حد لها، اليها مصائر اموره، وعليها مدار ضره ونفعه، فآمن بها واستسلم لها ووجه اليها وجهه وقلبه وعقله. وسواء أكان هذا الإيمان منبعثا من أعماق النفس ام ملتقى اليها من طريق الايحاء والإغراء، فهو على اية حال ايمان ملك النفس وخالط المشاعر، وبغير هذا لا يكون إيمانا ولا يسمى ديناً، وانه إذا لم يبلغ هذا الحد فستظل نفس الإنسان فارغة خواء، وسيظل الإنسان قلقا مضطربا حتى يقع على الاله الذي يسكن اليه قلبه ويطمئن به وجدانه. وحين تصل العقول سبيلها إلى الخالق- وما أكثر ما تضل - وتنزل الانسانية إلى هذا الدرك من التفكير والسخف من النظر فتتخذ من الأحجار أربابا، ومن الحيوان آلهة تجثو تحت اقدامها تعبدها وتفني فيها، وتقدم لها النفس والولد على مذبح التضحية زلفى وقربانا، حين تصل الانسانية إلى هذا المدى من الإغراق في الضلال والسفه تجيء رسالة من السماء في ابانها لتخرج الناس من الظلمات إلى النور على يد رسل الله وانبيائه الكرام. وأول دعوة تهتف بها الأديان السماوية في آذان الناس الدعوة إلى وحدانية الله وتحرير العقول والقلوب من الشرك به ورفع البصر اليه خالصا من أوهام الزيغ والضلال، وبهذا تصح انسانية الانسان، ويرد اليه اعتباره، ويصبح اهلا ليكون خليفة الله في ارضه.

ومهما اختلفت طرق الأديان السماوية في أداء الدعوة إلى الله، وفي وسائل الاقناع بوحدانيته، فإنها جميعها تعتمد أول ما تعتمد على إثارة العاطفة وتحريك الوجدان أكثر من اعتمادها على اثارة قوى الإدراك والتفكير، ذلك ان حقيقة الإله الموحد أكبر من أن يحدها الفكر أو يحيط بها الإدراك – وإن كان لهما في آياتها الرائعة مسارح للنظر والتأمل، وفي آفاقها الرحيبة مجالات للبحث والتفكير يفيض بها الوجدان روعة وجلالا، ويمتلئ بها القلب طمأنينة وإيمانا،. انظر إلى النغم الموسيقي الرائع كم يثير في الاسماع من بهجة ورضا، وكم يحرك في النفس من عواطف وأحاسيس.. انك لو ذهبت تطلبه بفكرك في طبقات الاثير ترد كل ذبذبة فيه إلى ضوابط من الفن وقواعد من العلم لاعيتك مذاهبه لانتهى بك المطاف إلى غير طائل.. ثم انظر إلى البحر في سعته وامتداده.. كم تأخذ صفحته الرقراقة المتموجة من نفسك وكم تبلغ عظمته وروعته من قلبك حين تملأ عينيك منه وتردد النظر فيه، ثم انظر كيف بك إذا ألقيت بنفسك في عبابه ورميت بها في ثبجة.. من أنت؟ وما تكون؟ فكيف بهذا الخالق العظيم نرمي بعقولنا القاصرة وأفكارنا المحدودة في عوالم لا نهاية لها نريدها على ان تحيط به وتخضع حقيقته لما تخضع له حقائق الأشياء في عالمنا المحدود؟ لماذا لا نقف من هذا الخالق العظيم موقفنا من النغم الموسيقي نلتذ سماعه، أو البحر نتملى جماله؟ ولم نعدل عن هذا إلى مسابقة النغم في مسراه أو مطاولة البحر في عظمته؟ ذلك هو الضلال البعيد.

ان العقل مهما بلغ من القوة والذكاء ليس إلا حاسة من حواس التي تربطنا بعالمنا المحدود، فكما يكون للعين مدى تنتهي عنده مقدرتها على الابصار فلا تدرك ما وراء هذا المدى من مرئيات إلا اشباحا باهنة وصوراً شائهة لا تعني من الحق شيئا..وكذلك الشأن في كل حاسة من حواسنا لكل مجال تعمل فيه، وتؤدي وظيفتها كاملة في حدوده، فاذا اريد بها الخرود عن هذا المجال ضلت واضلت. وكذلك شأن العقل وهو حاسة الادراك له مجاله المحدود الذي يعمل فيه ويدرك حقائق الأشياء في محيطه، فان ان اتى إلا ان يركب متن الشطط ويستوي على ظهر الغرور، انزلق إلى ظلمات الضلال وتقطعت به إلى الحقيقة الأسباب. ولسنا نريد بهذا ان نمسك العقل عن التفكير والبحث في التعرف إلى الله، فهو الطريق الطبيعي اليه، وإنما نريد ان يهج العقل بهجا قاصدا في البحث عن الله فلا يندفع وراء الخيالات والفروض، ولا يشط في التطلع إلى ما فوق طاقته، وليتعرف بقصوره عن ادراك الحقيقة وعجزه عن تناولها، وليرجع إلى القلب يطلب عنده الاطمئنان والسكينة. ودعوة الاسلام صريحة في ان العقل لا يمكن ان يستقل بمعرفة الله، ولا ان يهتدي اليه إلا إذا صحبه في تطوافه إلى تلك الغاية قلب يتلقى عنه كل مدركاته فيجعلها عواطف وأحاسيس تشيع في النفس روعة وجلالا. ومن خلال هذا الشعور بالروعة والجلال يرى المرء خالقة الواحد الاحد المتفرد بالعظمة والجلال. ولهذا كان الإسلام دين الفطرة.. والفطرة ليست عقلا صرفا ولا عاطفة محضا، وإنما هي مزيج من العقل والعاطفة إذا التقيا فلم يطغ أحد هما على الآخر كانت الفطرة سليمة تنشد الله وتعرف سبيلها اليه من أقرب السبل.

وتلك الفطرة مركوزة في النفس البشرية تتحرى إلى اداء وظيفتها منذ تتفتح مشاعر المرء وتستيقظ مداركه، وعلى هذا الوجه من الفهم للفطرة أحب ان أفهم قوله تعالى: (وَإِذْ أخَذَ رَبّكَ مِنْ بَنيِ آدَمَ مِن ظُهُورهِمْ ذُرّيتَهُمْ، وَأشْهَدَهُم عَلَى أنْفُسِهِم ألستُ بربِكُمْ قالوُا بَلى شَهدنَا.. أنْ تَقولُوا يَومَ القيامَةِ إنّا كنّا عَن هذَا غَافليِن) . وكيف يغفل المرء عن الله وفيه هذه الغريزة المتطلعة إلى الله المتشوقة إلى الوصول اليه. والتعرف إلى الله عن طريق هذه الفطرة امر سهل ميسور لا يحتاج إلى علم غزير أو نظر فلسفي، وإنما تكفي فيه النظرة الخالصة في صفحات هذا الوجود، نظرة في الأرض أو السماء..في الليل أو في النهار.. في عالم الحياة أو الموت.. في النبتة الصغيرة أو الشجرة الباسقة.. نظرة واحد إلى أية صورة من صور هذا العالم وإلى أي لون من ألوانه ترىان العقل وشواهد ناطقة بقدرة الخالق العظيم، وتحمل إلى القلب شواهد ناطقة بقدرة الخالق العظيم، وتحمل إلى القلب فيضا من الإجلال والإكبار لهذا الصانع المبدع (الّذي خلَقَ سبْعَ سَموَاتٍ طِباقاً ما تَرى في خَلقِ الرّحمنِ منْ تَفاوتٍ فَارجعِ البَصرَ هلْ ترى مِنْ فُطورٍ، ثمّ ارجعِ البصَرَ كرّتينِ ينَقلبْ اليكَ البصرُ خاسِئاً وهوَ حَسيرُ) . فاذا يبلغ البصر من هذا المحيط العظيم الذي لا تضمه قيود ولا حدود؟ اولى له ثم أولى ان يقف عند حده وأن يرضى من النظرة الأولى بما يتكشف له من عجائب وأسرار. تلك هي طريقة الإسلام في معرض الهداية إلى الله والدعوة اليه.. انه يوقظ العقل اولا.. يوقظه في رفق ويسر حين يلفته إلى مظاهر الكون المحيط به، والواقعة تحت سمعه وبصره. يريده ان يلتفت اليها لفتة حالمة شاعرة، لا أن يغوص في أعماقها يطلب عللها وأسبابها ويلتمس عناصرها وأجزءها.

استمع إلى قوله تعالى: (قُل انظروا مَاذا فيِ السّموات الأرض) ثم استجب إلى هذه الدعوة.. فماذا ترى في نظرة طرية إلى هذا الملكوت الرحيب تنتعش بها النفس ويهتز لها لوجدان حين تطالع صفحة هذا الوجود في اجمال بعيد عن التفصيل والتعليل، ثم انظر إلى قوله تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرّكَ برَبّكَ الكريمِ الّذي خلَقَك فَسواكَ في أي صورةٍ ما شاءَ ركبك) . فأي إنسان تدق عن فهمه هذه الحقيقة الماثلة أمام عينيه.. حقيقة الإنسان على صورة تلك وما ركب فيها من أعضاء؟ (لا يُكلّفُ اللهُ نفساً إلا وسْعَها) وأضيق درجات السعة في النفس الانسانية على ان يستشف في معارض هذا الكون الدلائل الناطقة على قدرة الله ووحدانيته ولا على المرء بعد ذلك ان يفوته منها ما يقع عليه الفلاسفة والعلماء من حقائق واسرار، فان كل هذا إلى جانب الحقيقة الكبرى هباء وهراء (وما أوتيتُمْ منَ العِلمِ إلا قليلاً) ، وحتى في مقام الجدل في الله بين الجاحدين والمؤمنين.. لا يسلك الداعي إلى الله مسالك المنطق الجاف الذي يقوم على التصورات الذهنية التي تفتح للخصم ابواب الدعاء والمغالطة، بل يعدل عن هذا الأسلوب الفطري فيتناول المسائل من أبرز جوانبها وأوضحها حيث لا يختلف فيها نظر ولا يضل عنها فهم. ألمْ تَر إلى الذّي حاج إبراهيمَ في رَبّه أنْ آتاهُ الله المُلكَ إذ قالَ إبراهيمُ ربيَ الذي يُحي وَيُميت. قالَ: أنا أُحيي وَأميتُ! قالَ إبراهيمُ فإنّ الله يأتي بالشمسِ منَ المشرقِ فأتِ بها منَ المغربِ. فَبهتَ الذي كفر والله لا يَهدي القَوم الظالمينَ) ولو ذهب ابراهيم في الرد على هذا الكافر المعاند مذاهب الفلاسفة والمناطقة لكان له في الرد عليه مسالك غير التي سلك.. إنسان يدعى انه يحي ويميت.. وتلك دعوى عريضة لو تحداه إبراهيم بتحقيقها لاعجزه وكشف أمره..

ولكن من يدري لعل هذا الطاغية المتكبر تاخذه العزة بالإثم فيمضى في دعواه ويركب رأسه دفاعا عن كبريائه فيمثل الشهود صورا من قدرته على الإماتة والاحياء، وربما عمد إلى إنسان من رعيته ويقول: هذا قد احييته لأني اردت له الحياة! ثم يعمد إلى آخر فيضرب عنقه ويقول: هذا قد امته لأني قد أردت له الموت! ثم يرفع رأسه مزهوا منتصراً. … وما لإبراهيم يكلف نفسه دحض هذا الافتراء، وعقد المقارنة بين صور الاحياء والإماتة من جانب الله، وبين هذه الصورة الممسوخة من صور الإماتة والإحياء.. ما له يدخل في هذا الجدل الطويل واماه مثل آخر لقدرة الخالق لا يستطيع ان يقول فيه هذا الجاحد، يقول: (إنَّ الله إنّ بالشمسِ منَ المشرقِ فأتِ بها منَ المغربِ. فَبهتَ الذي كفر) . بهذه الصورة الفطرية الساذجة انقطعت حجة وبطل كيد (بلْ نقذفُ بالحقَّ على الباطلِ فيدْمَغهُ فإذا هو زاهقٌ) . ان الذين ضلوا السبيل إلى الله أحد رجلين: رجل حرم نعمة العقل ولم يؤت حظا من الفهم والإدراك فهو والسائمة سواء، لا يلفته جمال ولا يوقظ مشاعره مشرق صبح أو سدفة مساء (أولئك كالأنْعامِ بلْ هُم أضلُ سبيلاً) . ورجل خدعة ذكاؤه وغره وخيل اليه انه قادر على أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال فمدّ بصره إلى ما وراء الأفق البعيد وضرب في بيداء التيه والضلال فكان اشبه بالفراش.. غرق في النور فاحترق بالنار. وبعد، فهذا المؤلف ثمرة عقل كبير ناضج.. عقل وسع ثقافة العصر واحاط بالكثير من دقائقها، حتى صار صاحية رئيساً للمجمع العلمي بأمريكا.. وذلك منصب يرقى اليه إلا العباقرة الأفذاذ من العلماء.

وغاية المؤلف من هذا البحث الوصول إلى الله عن طريق العقل وما يتكشف له بالعلم والمعرفة من اسرار الكون وعجائبه.. فكلما تكشفت له حقيقة من الحقائق هتف من أعماقة: سبحان الخالق المبدع.. اعترافاً من بأن الإنسان وما سخر له العلم والمعرفة من وسائل القوة والاقتدار اضعف من أن يبلغ من أسرار هذا العالم شيئاً مذكوراً. (يا أيها النّاسُ ضرب مثلٌ فاستمعوا لهُ إنّ الذّينَ تدعونَ من دونِ الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا لهُ، وإن يسلُبْهُم الذباب شيئاً لا يستنفذوهُ منهُ – ضعفَ الطالبُ والمطلوبُ) لم يكن المؤلف عالما وحسب ولكنه كان أيضاً شاعراً، كلما تناول عقله حقيقة من الحقائق اشرق قلبه بها، فسرت في كيانه هزه الإكبار والاجلال لخالق الكون ومبدعه، وتلك هي دموة الفطرة السليمة إلى الله وطريقها اليه.. ومن هنا كان هذا البحث جديراً بأن ينظر فيه المسلم بعين الاعتبار، وان يجعل من مباحثه دروساً نافعة يرى من خلالها قدرة الله وعظمته، فيقوى يقينه ويزداد ايمانه. واذا حمدنا للمؤلف جهده الموفق في تصوير هذه الحقائق وعرضها، فانا نحمد السيد الأستاذ محمود الفلكي غيرته الدينية وحرصه على نقل هذا المؤلف إلى اللغة العربية لينتفع به المسلمون، كما نحمد له هذا الجهد الذي بذله في ترجمته واخراجه. احمد حسن الباقوري

مقدمة بقلم: الدكتور أحمد زكي

مقدمة بقلم: الدكتور أحمد زكي مدير جامعة القاهرة سابقا‍ً في الاشتغال بمطالب العيش، والاغتمار في غمرة الحياة، ينسى الناس ان يفكروا، فيتساءلون: ما الغاية من هذا الوجود؟ وما اشتغال بعيش، وما إغتمار حياة، وقد ينتبه الناس من غفلة، أو يستيقظون من نومة، إذا اصابهم مرض، أو اصابهم عجز، أو نابتهم نائبة. وشر النوائب عندهم الموت، ينزل بقريب، أو ينزل بحبيب، ففي هذه الفترات السوداء، البارقة في سوادها يتوقف الناس يستخبرون: من اين جئنا، والى أين المصير؟ ولكنها فترات لا تطول، فحوافز العيش تعود فتحفز ويشتد حفزها، والحياة تعود تهتف بحاجاتها ويشتد هتافها، والإنسان منا يلبي جبرا لا اختياراً، ويتركز على يومه، وينسى أمسه الذي كان، وينسى يومه الذي سوف يكون، إلا من حيث ما يطعم، ويلبس، ويلد، ومن حيث ينعم أو يشقى بالحياة. ولكن مع كل هذا، فمن تحت صخب النهار، ومن بين الاصوات الصارخة في معركة العيش، يحس الإنسان منا صوتا خافتا يحاول دائما ان يصل إلى الآذان. وهو يصل اليها عندما يتعب القائم فيحتاج إلى القعود، وعندما يجهد الجاهد فيتصبب عرقا فيأوى إلى ركن هادئ يخفف عن وجهه عرقه الصبيب. أو هو يصل اليه في هدأة ما الليل، وهو قاعد في العراء، يرعى أشياء هذه الأرض، ويرعى على الأكثر أشياء هذه السماء. وهو إذ يرعى السماء، يرعى أشياءها، يرعى نجومها، يزداد هذا الصوت الخافت في آذانه ثم يزداد، حتى يصير صراخا: هذه السماء ما هي؟ وهذه النجوم ما اعدادها، وما أبعادها؟ وما فتات من النور المبعثر في هذه القبة البلقاء بعثرة الرمال في الصحراء؟ وكيف تحور هذه القبة وكيف تدور؟ وما شروق لها وما غروب؟ وما نسق وأنساق تجري عليها، ومواعيد تضر بها فلا تخلف أبدا؟ ويأخذ ينعم النظر رافعا بصره، وهو إذ يملأ بالذي يراه عينا، يملا في فكرا، ويملأ به قلبا. وعندئذ يرى تلك الصور وفي تجري في أزمة يجمعها آخر الامر زمام واحد، ويرد تلك المعاني، وهي مختلفة كاختلاف الوان الطيف من أحمر وأصفر وأزرق، ثم تجتمع كما يجتمع الطيف فيكون منه لون أبيض واحد، ويرد كل هذه المعاني، ويرد كل هذه الصور، وكل هذه المباني، إلى يد صناع واحدة، تحركها ارادة عاقلة منسقة هادية واحدة. فتلك يد الله. وتلك ارادة الله. على هذا جرى الاقدمون واهتدوا إلى كشف حقيقة الله.

وما اعسره كشفا كان، عند قوم، لانه كشف خالق تستر وراء مخلوقاته، وما أيسره كشفا كان، عند أقوام، لانها مخلوقات عجيبة رائعة، ما أسرع ما رقت فنفذ اليها لفكر الانساني العاقل، فشفت عما وراءها. وكان الفكر أحد أعاجيبها. ثم جرى الزمن فجاء العلم. اشرق على الناس العلم الحديث منذ ثلاثة قرون. وهو بعد ما بلغ الضحى. وكشف العلم من عجيب ما صنع الصانع. كشفه في النبات، وهو صنوف لا عداد لها. وكشفه في الحيوان، وهو أجناس لا حصر لها. وكشفه في الإنسان، أسمى حيوان. وكشف عن أنساق واحدة في كل هذه الصنوف والأجناس جميعا. وكشف عن قوى في كلها تعمل واحدة، على اختلاف في درجات، ولكن على اتحاد في غاية. وهدى المنطق، وهدت الفطرة، إلى أن صاحب هذه الانساق لابد واحد، ومجرى هذه القوى لتعمل على هذه الاساليب الواحدة لا بد واحد. ونسق العلم ما بين الأرض الجامدة وما عليها من احياء. ونسق ما بين الارض، جامدها والحي، وبين هذه الشمس وذاك القمر، وأثبت ان المعدن واحد والاصل واحد، واثبت ان الذي صمم عين الانسان، بعدستها ومائها، وماوراء الماء من شبكة تلقى عليها الصور، هو لابد الذي صمم هذه الشمس واخرج منها تلك الاشعة ووجهتها إلى الارض. فهذه العين تكون عبثا لولا هذا الضياء. وجاء العلم، وجاء العلماء بالف ألف دليل على وحدة الأرض، وما عليها، ووحدة السماء. ومن هذه الوحدة درج الناس والعلماء إلى وحدة رب هذه الأرض ورب السماء. ومع هذا بقيت في العلماء بقية تقول بالخلق والتخلق طبعا، وتنكر وجود الله. ومن هذه البقية العالم الانجليزي، جوليان هكسلي JULIAN HUXLEY فكتب في ذلك كتابا اسماه، (الإنسان يقوم وحده MAN SIAND ALONE وهو في ذلك يسير على درب سار عليه جده من قديم. فجده توماس هكسلي THOMAS HUXLEY (1825 - 1895) ، صاحب دارون، وناصره في القرن الماضي.

وظهر هذا الكتاب لهذا العالم فانبري له عالم آخر، فيكتب كتابه هذا، الذي بين يدينا، وأسماه (ان الإنسان لا يقوم وحده MAN DOES NET STAND ALONE)) أراد بذلك ان يقول انه يقوم في هذه الدنيا ومعه الله. والكتاب يعدد، في ايجاز جميل، هذه الانساق التي تجمع بين الخلائق جميعاً، وبين الحي والحي، وبين الحي والجامد، وعبر حدود الارض، واتجه إلى السماء، يربط ما بينها وبين الحياة على هذه الارض. وهو يدلل من صفات هذا الشيء وهذا الشيء، على ان صانعها لابد واحد، فهما كالمفتاح وقفله اتساقاً، لا يمكن ان يكون ابتدعهما ودبرهما إلا عقل مبتدع مدبر واحد. فالكتاب عون على الايمان، الذي عماده الفكر والفطنة، كبير. ووقع على الكتاب صديقي، الأستاذ الجليل، محمود صالح الفلكي في ناحية من نواحي الارض، وهو في غربة موحشة يهرع فيها الغريب إلا الأنس بالله، فوجد في هذا الكتاب، فيما وجد، أنسه، وزاد من انسه به ايمان في قلبه مكين. وزاد من فهمه لحقائق العلم مزاج علمي جرى في دمه قديم، ورثه عن جده العالم المصري الفلكي العظيم. وصديق الفلكي، إلى جانب انه ذو ايمان، ذو قلم وذو بيان. واجتمع الاثنان فخرج منهما هذا الكتاب هدى للناس ورحمة. احمد زكي

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف بلغ العصر الذهبي للفلسفة الطبيعية ذروته فيما بين سنتي 1820 - 1850. وكانت تلك الفلسفة تبرهن على وجود خطة مرسومة في الخلق. بابداء عجائب الطبيعة وكان الفيلسوف الطبيعي يسترعى الانتباه إلى براءة تكوين العين البشرية بما تحويه من تنظيمات تلسكوبية ومكروسكوبية، وكان يذكر ما في مفاصل الإنسان من ليونة وتنظيم يدعوان إلى العجب. وكان يدهش لخفايا التكاثر، واحكام الوسائط التي يواصل الإنسان وكل كائن حي بها. وكان يبين العمليات الكيموية الفريدة التي تقوم بها الكائنات الحية، مثل هضم الطعام وتمثله، بعين فلسفته التقية، فيراها براهين قاطعة على وجود خطة وتدبير في الطبيعة، ومن ثم على وجود الخالق المدبر. وقد ضرب بإلى PALEY مثلا من تاثره من وجود ساعة يد في طريقه، وقال ان جهازها الدقيق أقل سبباً للعجب بمراحل، من دلائل عديدة على دقة التصميم في الطبيعة، ودعاه ذلك إلى أن استرعى الأنظار إلى ان مثل هذه الاداة تثبت لأكثر الناس شكا، ان هناك عملية ذهنية طبقت على الميكانيكا، ثم قال اننا لو فرضنا ان هذه الساعة قد منحت القدرة على إيجاد ساعات اخرى، فان ذلك لا يكون معجزة تفوق معجزة توالد الإنسان والحيوان! وبلغ من مدى هذا التعليل والاقتناع به ان افرد مبلغ 000ر48 دولار للجمعية الملكية البريطانية لتقوم ببحوث في مختلف ميادين العلم، لتثبت بها بشكل قاطع، وجود الله. وكانت النتيجة نحو اثني عشر مجلدا كتبها اعضاء تلك الجمعية وآخرون غيرهم. وقد بينت هذه الدراسات، بشكل حازم في الظاهر، وجود تصميم في الخلق، ودلت فلاسفة ذلك العهد على وجود الكائن الأعلى.

ولما ظهر داروين، طرقت فكر الإنسان نظرية جديدة، هي (بقاء الاصلح) وتطور الانسان. وكانت دراسة داروين الشاملة، والحقائق الكثيرة التي استشهد بها لتاييد نظريته تحمل الاقناع في طياتها. وكانت البراهين التي كدسها والحقائق التي جاء بها خلفاؤه، مؤيدة لنظرية التطور حتى اليوم، وقد وصلت بها إلى أبعد من تطبيقاته. والان انقضى أكثر من ثمانين عاما على نظرية داروين، وتقدم العلم تقدما كبيرا، وبينما تقف نظرية داروين كالصخرة الثابتة التي لا تتزحزح، قد تكشف العالم الفلسفة كثير من الحقائق التي يمكن ايضاحها، والتي تصل بنا إلى نتائج حاسمة أخرى في حيز الامكان. فعلم الوراثة الحديث يقيم اسئلة تصعب الاجابة عنها، والاكتشافات الأخرى تجعل من عمل داروين مجرد خطوة عظيمة في سير الفكرة الفلسفية إلى الامام. ودون انقاص من دقة استنتاجاته أو عظمة دراساته، لا يقدر الآن أحد ان يقول كما قال هيكل HAECKEL انه لو اعطى ماء، ومواد كيموية، ووقتا كافيا، لاستطاع ان يخلق انساناً. وقد وصل بعض اتباع داروين باستدلالاته إلى حد الالحاد المادي، وحيال ذلك، تطرف الاخرون، اولئك الذين الهموا الايمان بوجود (الخالق) وان هناك غاية في جميع المخلوقات، فانكروا نظرية التطور. كفاحهم للالحاد. والان لا محل لاتخاذ مثل هذا الموقف الضعيف، سواء لانصار فكرة التطور، أو لذوي العقلية الدينية، لان العلم قد اوضح الآن حقائق تصل إلى ازالة تلك الخلافات الظاهرية، وتنور الفريقين. ومن عجب ان الاكتشافات الحديثة، وفرص البحث المتسع، قد بعثت النتائج التي وصل اليها الفلاسفة الطبيعيون والتي قد كانت قد حجبتها تماما نظريات داروين، والحجج السليمة التي بنيت تنظيم الإنسان للطبيعة، يجب ان تتابع الآن ببحث جديد في دلائل تنظيم الطبيعة للانسان، وهو ما أغفل نسبيا من خلال الثمانين السنة الماضية.

وغرضي من تاليف هذا الكتاب هو ان استرعى انتباه المفكرين إلى الحقائق التي صار ممكنا اثباتها، والتي ترى ال تاييد الاعتقاد بذلك التنظيم، وتدل على الغاية منها. ان وجود الخالق – تدل عليه تنظيمات لا نهاية لها، تكون الحياة بدونها مستحيلة. وان وجود الإنسان على ظهر الارض، والمطاهر الفاخرة لذكائه، إنما هي جزء من برنامج ينفذه بارئ الكون. وانى لاورد قول اوسبورن OSBORN في هذا المجال: (بين جميع الأشياء التي لا يمكن ادراكها في الكون، يقف الإنسان في الطليعة. وبين الأشياء التي لا يمكن ادراكها في الانسان، تتركز الصعوبة الكبرى فيما له من مخ، وذكاء، وذاكرة وآمال، وقوة كشف وبحث، وقدرة على تذليل العقبات) . وانى لاعتقد ان من يقرأ هذا الموجز من الحقائق العلمية سوف ينتهي إلى ان الهوة السحقية التي بين الذهن البشري المدهش وبين جميع الكائنات الحية الاخرى، هي اقل تمنعا على الادراك مما فرض اوسبورن OSBORN حين كتب ما كتبه. ان الإنسان ليسكب مزيدا لا حد له من التقدم الحسابي في كل وحدة للعلم، غير ان تحطيم (¬1) ذرة التون – التي كانت تعد اصغر قالب في بناء الكون – إلى مجموعة نجوم مكونة من جرم مذنب والكترونات طائرة، قد فتح مجالاً لتبديل فكرتنا عن الكون والحقيقة، تبديلا جوهريا. ولم يعد التناسق الميت للذرات الجامدة يربط تصورنا بما هو مادي. وان المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لتدع مجالا لوجود مدبر جبار، وراء ظواهر الطبيعة. وهذا ضوء باقي على الخفاء الوسيع الذي يحيط الآن بما هو غير معروف لنا ظاهريا، وقد يقودنا هذا الضوء إلى الاعتراف بوجود عقل عام أسمى، أي إلى وجود الخالق. ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة السبأ) : (وقال الذين كفروا لاتأتينا الساعة، قل بل وربي لتاتينكم، عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. (المترجم)

الفصل الاول: عالمنا الفذ

الفصل الاول: عالمنا الفذ خذ عشرة بنسات، كلا منها على حدة، وضع عليها ارقامها مسلسلة من 1 إلى 10 ثم ضعها في جيبك وهزها هزا شديدا. ثم حاول ان تسحبها من جيبك حسب ترتيبها، من 1 إلى 10. ان فرصة سحب البنس رقم 1 هي بنسبة 1 إلى 10. وفرصة سحب رقم 1 ورقم 2 متتابعين، هي بنسبة 1 إلى 100، وفرصة سحب البنسات التي عليها ارقام 1و 2 و3 متتالية، هي بنسبة 1 إلى 1000. وفرصة سحب 1و 2و 3و 4 متوالية هي بنسبة 1 إلى 000ر10، هكذا، حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الاول، من 1 إلى 10، هي بنسبة 1 إلى 10 بلايين. والغرض من هذا المثل البسيط، هو ان نبين لك كيف نتكاثر الاعداد بشكل هائل ضد المصادفة، ولا بد للحياة فوق ارضنا هذه من شروط جوهرية عديدة، بحيث يصبح من المحال حسابيا ان تتوافر كلها بالروابط الواجبة، بمجرد المصادفة على أي أرض في أي وقت. لذلك لابد ان يكون في الطبيعة نوع من التوجيه السديد. وإذا كان هذا صحيحا فلابد ان يكون هناك هدف. والغرض من هذا الكتاب هو ان نبين بعض هذه التنظيمات العجيبة، وان نعرض الهدف الذي وراء وجود الانسان. والان لنبحث الحقائق المدهشة: ان بعض علماء الفلك يقولون لنا ان مصادفة مرور نجمين متقاربين لدرجة تكفى لاحداث مد خفاق هدام، هي في نطاق الملايين، وان مصادفة التصادم هي نادرة لدرجة وراء الحسيان. ومع ذلك، تقول إحدى نظريات الفلك، انه في وقت ما، ولنقل منذ بليوني سنة مضت، قد مر نجم بالفعل قريبا من شمسنا لدرجة كانت كافية لأن تحدث امدادا (جمع مد) مروعة، ولان تقذف في الفضاء تلك الكواكب السيارة التي تبدو لنا هائلة، ولكنها ضئيلة الأهمية من الوجهة الفلكية. ومن بين تلك الكتل التي اقتلعت، تلك الحزمة من الكون التي نسمها بالكرة الارضية. انها جسم لا أهمية له في نظر الفلك، ومع ذلك يمكن القول بانها أهم جسم نعرفه حتى الان.

ويجب ان نفرض ان الكرة الأرضية مكونة من بعض العناصر التي توجد في الشمس، لا في أي كوكب آخر. وهذه العناصر مقسمة على الكرة الارضية بنسب مئوية معينة قد امكن التحقق منها لدرجة مقبولة فيما يتعلق بالسطح. وقد حولت جملة الكرة الارضية إلى أقسام دائمة، وحدود حجمها وسرعتها في مدارها حول الشمس هي ثابتة للغاية. ودورانها على محورها قد حدد بالضبط، لدرجة ان اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن ان يقلب التقديرات الفلكية. ويصحب الكرة الأرضية كوكب نسمية بالقمر، وحركاته محددة، وسياق تغيراته يتكرر كل 18 سنة. ولو ان حجم الكرة الأرضية كان أكبر مما هو، أو أصغر، أو لو ان سرعتها كانت مختلفة عما هي عليه، لكانت ابعد أو أقرب من الشمس مما هي، ولكانت هذه الحالة ذات اثر هائل في الحياة من كل نوع، بما فيها حياة الانسان. وكان هذا الاثر يبلغ من القوة، بحيث ان الكرة الأرضية لو كانت اختلفت من هذه الناحية أو تلك، إلى أية درجة ملحوظة، لما أمكن وجود الحياة فوقها. ومن بين كل الكواكب السارة، نجد ان الكرة الأرضية فيما نعلم الآن، هي الكواكب الوحيد الذي كانت صلته بالشمس سببا في جعل نوع حياتنا ممكناً. اما عطارد فانه – بناء على القوانين الفلكية – لا يدير إلا وجهة واحدة منه نحو الشمس، ولا يدور حول محوره إلا مرة واحدة في خلال الدورة الكاملة للشمس (سنة عطارد) . وبناء على ذلك لابد ان جانبا من عطارد هو أتون صحراوي، والجانب الاخر متجمد. وكثافة وجاذبيته هما من القلة بحيث ان كل آثار للهواء فيه لا بد ان تكون قد تسلك. واذا كان قد بقي فيه أي هواء فلابد ان يكون في شكل رياح هو جاء تجتاح هذا الكوكب من جانب إلى آخر. أما كوكب الزهرة فهو لغز من الألغاز به بخار سميك يحل على محل الهواء، وقد ثبت انه لا يمكن ان يعيش فيه أي كائن حي.

وأما المريخ فهو الاستثناء الوحيد، وقد تقوم فيه حياة كحياتنا، سواء في بدايتها أو تكون على شفا الانتهاء. ولكن الحياة في المريخ لابد ان تعتمد على غازات أخرى غير الأوكسجين، وعلى الخصوص الهيدروجين. إذ يبدو ان هذين قد أفلتا منه. ولا يمكن ان توجد مياه في المريخ. ومعدل درجة الحرارة فيه أقل كثيرا من ان تسمح بنمو النبات كما نعرفه. والقمر أيضاً لا يمكن ان يحتوي هواء، وهو الآن غير مسكون اطلاقاً. وهو في أثناء ليلة يكون بارداً للغاية، وفي اثناء نهاره الطويل يكون رمادا شديد الحرارة. اما الكواكب السيارة الأخرى فانها بعيدة عن الشمس إلى حد لا يسمح بوجود الحياة فوقها، وهي لصعاب أخرى لا يمكن تذليلها، لا تستطيع ان تحتمل الحياة في أي شكل من الأشكال. والمتفق عليه الآن عموما، أن الحياة لم توجد قط، ولا يمكن ان توجد، في أي شكل معروف، على ان كوكب سيار غير الكرة الأرضية. لذلك لدينا في البداية الاولى، كوطن للمخلوقات البشرية، كوكب سيار صغير، قد اصبح بعد سلسلة تغيرات في مدى بليوني سنة أو اكثر، مكانا صالحاً لوجود الحياة الحيوانية والنباتية التي توجت بالانسان. وتدور الكرة الارضية حول محورها مرة في كل اربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، والآن افرض انها تدور بمعدل مائة ميل فقط في الساعة. ولم لا؟ عندئذ يكون نهارنا وليلنا أطول مما هو الآن عشر مرات، وفي هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار، وفي الليل قد يتجمد كل نبت في الارض.

ان الشمس، التي هي مصدر كل حياة، تبلغ درجة حرارة مسطحها 000ر12 درجة فهرنهايت، وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لان تمدنا هذه (النار الهائلة) بالدفء الكافين لا بأكثر منه. وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب، وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة، بحيث امكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو ان درجة الحرارة على الكرة الارضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة، فان كل نبت يموت، ويموت معه الإنسان حرقا أو تجمدا. والكرة الارضية تدور حول الشمس بمعدل ثمانية عشر ميلا في الثانية. ولو ان معدل دورانها كان مثلا، ستة اميال أو أربعين ميلا في الثانية، فان بعدنا عن الشمس او قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا. والنجوم كما نعلم تختلف في الحجم. وأحدها يبلغ من الضخامة حدا لو كان شمسنا لكان محور الكرة الأرضية داخلا في سطحه لمسافة ملايين الاميال. والنجوم كذلك تختلف في طراز اشعاعها. وكثير من اشعتها يميت كل نوع معروف من انواع الحياة. وتترواح كثافة هذا الاشعاع وحجمه بين ما هو اقل من اشعاع شمسنا وما هو أكثر منه عشرة الاف مرة، ولو ان شمسنا اعطت نصف اشعاعها الحإلى فقط، لكنا تجمدنا. ولو انها زادتها بمقدار النصف، لأصبحنا رماداً من زمن بعيد، هذا إذا كنا قد ولدنا بوصفنا شرارة بروتوبلازمية PROTOPLASMIC (خلية) للحياة. ومن ذلك نجد ان شمسنا هي الصالحة لحياتنا من بين ملايين الشموس غير الصالحة لهذه الحياة.

ثم ان الكرة الأرضية مائلة بزاوية قدرها 23 درجة. ولهذا دواع دعت اليه: فلو أن الكرة الأرضية لم تكن مائلة لكان القبطان في حالى غسق دائم، ولصار بخار الماء المنبعث من المحيطات يتحرك شمالا وجنوبا، مكدسا في طريقة قارات من الجليد، وربما ترك صحراء بين خط الاستواء والثلج. وفي هذه الحالة كانت تنبعث انهار من الجليد، وتتدفق خلال اودية إلى قاع المحيط المغطى بالملح، لتكون بركا مؤقتة من الملح الأجاج (ملاحات) . وكان ثقل الكتلة الهائلة من الجليد يضغط على القطبين. فيؤدي ذلك إلى فرطحة خط الاستواء أو فورانه، أو على الأقل كان يتطلب منطقة استوائية جديدة، كما ان انخفاض المحيط يعرض مساحات استوائية جديدة، كما ان انخفاض المحيط يعرض مساحات شاسعة جديدة من الأرض، ويقلل من هطول المطر في جميع ارجاء العالم، مما ينجم عن ذلك من عواقب مخيفة. اننا قل أن ندرك ان الحياة كلها محصورة في الفضاء الذي بين قمم الجبال وبين حرارة داخلية الأرض. واذا قورنت هذه الطبقة الضيقة بقطر الكرة الارضية، كانت نسبتها اليه كنسبة نصف كثافة ورقة الشجرة، والى كتاب مكون من ألف صفحة. وتاريخ جميع المخلوقات مكتوب على هذا السطح الذي هو في سمك النسيج. ولو ان الهواء اصبح سائلا لغطى الكرة الأرضية إلى عمق خمس وثلاثين قدما، أو ما يعادل جزءاً من سمائه الف جزء من المسافة إلى مركز الكرة الارضية. وهو تنظيم بالغ الدقة! ويبعد القمر عنا مسافة 000ر24 ميل، ويذكرنا المد الذي يحدث مرتين تذكيرا لطيفا بوجود القمر، والمد الذي يحدث بالمحيط قد يرتفع إلى ستين قدما في بعض الأماكن. بل ان قشرة الأرض تنحني مرتين نحو الخارج مسافة عدة بوصات بسبب جاذبية القمر. ويبدو لنا كل شيء منتظما لدرجة اننا لا ندرك القوة الهائلة التي ترفع مسافة المحيط كلها عدة؟؟؟ وتنحني قشرة الأرض التي تبدو لنا صلبة للغاية.

والمريخ له قمر، قمر صغير، لا يبعد عنه سوى ستة آلاف من الأميال. ولو كان قمرنا يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلا، بدلا من المسافة الشاسعة التي يبعد بها عنا فعلا، فان المد كان يبلغ من القوة بحيث ان جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح بقوته الجبال نفسها، وفي هذه الحالة ربما كانت لا توجد الآن قارة قد ارتفعت من الأعماق بالسرعة اللازمة. وكانت الكرة الأرضية تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي في الهواء يحدث أعاصير كل يوم. وإذا فرضنا ان القارات قد اكتسحت، فان معدل عمق الماء فوق الكرة الارضية كلها يكون نحو ميل ونصف ميل، وعندئذ ما كانت الحياة لتوجد إلا في اعماق المحيط السحيقة – على وجه الاحتمال – وهناك كانت تستنفد نفسها حتى تخمد. ويبدو ان العلم يؤيد النظرية القائلة بان هذه الحالة قد وجدت فعلا في خلال الفوضى العامة قبل ان تتماسك الأرض. وطبقا لقوانين معترف بها، صارت الأمداد (جمع مد) نفسها تدفع القمر بعيداً بعيداً، وفي الوقت نفسه جعلت دوران الأرض يبطئ، فبعد ان كان يتم في يوم مقداره يقل عن ست ساعات، صار يكمل في يوم مكون من أربع وعشرين ساعة. وهكذا اصبح القمر اللطيف مسرة العاشق وفي احسن تقويم، وهو ما يرجى منه الدوام والأمان لمدة بليون سنة قادمة أو نحو ذلك. ويعتقد الفلكيون انفسهم كذلك انه في المستقبل البعيد سوف يعود القمر إلى الكرة الأرضية بنفس تلك القوانين الفلكية، ثم ينفجر حين يقترب منها. للدرجة الكافية فيضفي بهاء على العالم الفاني بحلقات كتلك التي نحيط بزحل.

لقد جاء نظامنا الشمسي من خليط مضطرب للعناصر التي انفصلت عن الشمس عند درجة حرارة قدرها 000ر412 (؟) وتبعثرت في فضاء غير محدود، بعنف لا يتصوره العقل. وقد حل النظام محل الفوضى بدقة تجعلنا نستطيع ان نقدر بـ (الثانية) المكان الذي سيحتله أي جزء. وبلغ التوازن من الكمال إلى حد انه لم يعتوره أي تغيير في مدى بليون سنة، وأنه يدل على الدوام إلى الأبد. كل ذلك بحكم قانون. وبهذا القانون نفسه يتكرر هذا النظام الذي نراه في النظام الشمسي، في نواح اخرى. ------------- قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة النازعات) (أأنتمْ أشدُ خلقاً أمِ السماءَ بناهَا. رفعَ سمْكَها فسوّاها. وأغطشَ ليلَها وأخرجَ ضُحاها. والأرض بعدَ ذلكَ دحاهَا. أخرج منهاَ ماءَها ومرْعاهَا. والجِبْال أرْساها. متاعاً لكُمْ وَلأنْعامِكم) . (المترجم) قال الله تعالى: (سورة يس) (وآيةٌ لهمُ الأرض الْمَيتةُ أحييناها وأخرَجْنا منهاَ حبّا فمنهُ يأكلون. وَجَعلناَ فيها جنّات من نَخيل وأعنابٍ وَفجرّنا فيها منَ الْعُيونِ. ليأكُلُوا منْ ثمرهِ وما عَملتْهُ أيديهمْ أفلا يشكرونَ. سُبحانَ الذي خلقَ الأزواجَ كلّها مما تُنبتُ الأرض ومن أنْفُسهم ومما لا يعْلَمون. وآيةَ لهمُ الليلُ نسْلَخُ منهُ النّهار فإذا همْ مظلِمونَ، والشّمسُ تجري لمُستقرٍ لها ذلكَ تقديرُ العزيزِ الْعليم. والْقمرَ قدّرناهُ منازِلَ حتّى عادَ كالعُرجون القديمِ. لا الشّمسُ ينْبغي لها أن تُدركَ القَمرَ ولا اللّيلُ سابقُ النّهارِ وكلٌ في فلكِ يَسْبحون) . (المترجم)

الفصل الثاني: الهواء والمحيط

الفصل الثاني: الهواء والمحيط اذا فرضنا ان النتائج العلمية الحاضرة قد تكون خاطئة، وبذا قد تخضع لتغيير ما في المستقبل، فان الحقائق التي سنقدمها مقربة ببساطة لغرض الايضاح، هي مع ذلك متسقة مع المعارف الحاضرة، وليس من المحتمل ان أي تعديل علمي لها سيمس التنظيمات الأساسية التي سنشرحها فيما يلي: اذا كان صحيحا ان درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوإلى 000ر12 درجة، أو كانت تلك درجة حرارة سطح الشمس، فعندئذ كانت كل العناصر حرة، ولذا لم يكن في الامكان وجود أي تركيب كيموي ذي شأن. ولما اخذت الكرة الأرضية، أو الأجزاء المكونة لها، في ان تبرد تدريجيا، حدثت تركيبات وتكونت خلية العالم كما نعرفه. وما كان للأوكسجين والهيدروجين ان يتحدا إلا بعد ان هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فهرنهايت. وعند هذه النقطة اندفعت معا تلك العناصر وكونت الماء، الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الارضية، ولابد انه كان هائلا في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء، وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت، كانت غازات في الهواء. وبعد ان تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض، ولكنه لم يستطيع الوصول اليها، إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة الآف الأميال في خارجها، وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانياً في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء، فان الفيضانات التي كانت تحدث مع تقديم التبريد، كانت فوق الحسبان. وتمشى الجيشان مع التفتت، وسادت حال من الفوضى لا يمكن وصفها، ملايين من السنين. وفي هذا الاضطراب الذي لا يمكن ادراكه، كان الأوكسجين يتحد مع جميع مواد قشرة الأرض تقريباً. وقد اتحد أيضاً مع كل الهيدروجين الذي اتصل به، وبذا تكون المحيط. ولا بد ان مقادير هائلة من الهيدروجين قد فرت من جاذبية الأرض قبل ان تبرد هذه، ولولا ذلك لكانت كتلة الماء قد بلغت الآن من الضخامة بحيث كانت تغرق الأرض إلى عمق أميال. وربما هدأت الأشياء واستقرت منذ بليون سنة، وبذا كونت الأرض الصلبة والمحيطات، والجو – اي ذلك الراسب الذي نسميه بالهواء. وكان اتحاد العناصر كاملا لدرجة ان ما ترك، وهو الهواء المكون من الأوكسجين والنتروجين على الأخص، لايزيد على جزء من

مليون من كتلة الكرة الارضية. فلماذا لم يمتص كله، أو لماذا لم يكن بنسبة أكبر كثيرا من تلك النسبة؟ في كلتا الحالتين كان الانسان لا يمكن ان يوجد على ظهر الارض، واذا كان الوجود ممكنا تحت ضغط الاف الأرطال على البوصة المربعة الواحدة، فقد كان من المحال ان يتطور كإنسان. ودون تاكيد لهذه المسألة بعد ذلك، نرى انه مما يدعو إلى الدهشة على الأقل ان يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل بالغا هذه الدقة الفائقة. لأنه، لو كانت قشرة الأرض اسمك مما هي بمقدار بضع اقدام، لا متص ثاني اوكسيد الكربون والأوكسجين، ولما امكن وجود حياة النبات. وهناك احتمال بان قشرة الأرض والمحيطات السبعة قد امتصت كل الاوكسيجين، وان ظهور جميع الحيوانات التي تستنشق الأوكسجين قد تاخر انتظارا لنمو النباتات التي تلفظ الاوكسيجين، وان الحساب الدقيق قد يجعل هذا المصدر للأوكسيجين في حيز الامكان، ولكن مهما كان مصدره فان كميته هي بالضبط مطابقة لاحتياجاتنا. ولو كان الهواء ارفع كثيراً مما هو، فان بعض الشهب التي تحترق الآن كل يوم بالملايين في الهواء الخارجي، كانت تضرب في جميع اجزاء الكرة الارضية. وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية، وكان في امكانها ان تشعل كل شيء قابل للاحتراق. ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية، لارتطمت كلها بالأرض ولكانت العاقبة مروعة. اما الإنسان فان اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة، كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره. ان الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الاشعة ذات التأثير الكيموي التي يحتاج اليها الزرع والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات، دون ان تضر بالإنسان، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم. وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور، ومعظمها سام، فان الهواء باق دون تلوث في الواقع، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الانسان. وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء، اي المحيط الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل والنباتات، وأخيراً الإنسان نفسه. فدع الذي يدرك ذلك يقف في روعة أمام عظمته، ويقر بواجباته شاكراً! ------------------- قال الله تعالى في كتابه الكريم، (سورة الأنبياء) : (أوَ لمْ يرَ الَّذينَ كفروُا أنّ السّموات والأرض كانَتَا رَتقاً ففَتَقْناهُما وجَعلنا مِنَ الماءِ كلّ شيء حيٍ أفلا يُؤمِنونَ) (المترجم)

الفصل الثالث: الغازات التي نتنسمها

الفصل الثالث: الغازات التي نتنسمها لنتخذ منن الأوكسجين مثلا على التنظيم المحكم إلى غير حد: ان الهواء الذي فوق الأرض مكون من الأوكسجين والنتروجين والأرجون والنيون والكنسيون والكريبتون: وهو يحتوي بخار الماء، وكذا ثاني أوكسيد الكربون بنسبة 3-100 من 1%، أو نحو ثلاثة اجزاء من 000ر10. والغازات النادرة تظهر نفسها في شكل الألوان الحمراء والزرقاء والخضراء بلافتات الاعلان، اما الأرجون الذي يوجد في الهواء بنسبة 6-10 في 1% فانه يعطينا النور الساطع الباهر الذي تتقدم به المدينة حيث يستخدم. ويوجد النتروجين بنسبة 78% تقريبا في الهواء، في حين تحدد نسبة الأوكسجين عادة بـ 21% والهواء في جملته يضغط على الأرض بمعدل خمسة عشر رطلا تقريبا على البوصة المربعة من السطح بمستوى البحر. والأوكسجين الذي يوجد في الهواء هو جزء من هذا الضغط، وهو بمعدل نحو ثلاثة ارطال على البوصة المربعة. وكل الباقي من الأوكسجين محبوس في شكل مركبات في قشرة الأرض، وهو يكون 8-10 من جميع المياه في العالم. والأوكسجين هو نسمة الحياة لكل الحيوانات التي فوق الارض، وهو لا يمكن الحصول عليه لهذا الغرض إلا من الهواء.

ولنا الآن أن نسأل: كيف ان هذا العنصر ذا النشاط البالغ من الوجهة الكيموية، قد افلت من الاتحاد مع غيره وترك في الجو بنفس النسبة تقريبا، اللازمة لجميع الكائنات الحية؟ أو كان الأوكسجين بنسبة 50% مثلا أو أكثر من الهواء بدلا من 21%، فان جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لابد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر. ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10% أو أقل، فان الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور، ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي الفها الإنسان – كالنار مثلا – تتوافر له. واذا امتص الأوكسجين الطليق، ذلك الجزء الواحد من عدة ملايين من مادة الأرض فان كل حياة حيوانية تق على الفور.

ان العلاقة العجيبة التي بين الأوكسجين وثاني اوكسيد الكربون فيما يتعلق بالحياة الحيوانية، وعالم النباتات كله قد استرعت انظار كل العالم المفكر، غير أن أهمية ثاني اوكسيد الكربون لم تدرك بعد من الجميع. ويمكن ان نقول كلمة عابرة بان ثاني أوكسيد الكربون هو الغاز المألوف في تعبئة ماء الصودا. وهو غاز ثقيل، ولحسن الحظ يعلق بالأرض، ولا يتم فصله إلى أوكسيجين وكربون إلا بصعوبة كبيرة. وأنت إذا أشعلت نارا، فان الخشب الذي يتكون غالبا من الأوكسجين والكربون والهيدروجين يتحلل تحت تأثير الحرارة، ويتحد الكربون مع الأوكسجين بشدة، وينتج من ذلك ثاني اوكسيد الكربون. والهيدروجين الذي يطلق يتحد بمثل تلك الشدة مع الأوكسجين فنحصل على بخار الماء. ومعظم الدخان هو كربون غير متحد مع غيره. وحين يتنفس رجل، يستنشق الأوكسجين فيتلقاه الدم، ويوزع في خلال جسمه. وهذا الأوكسجين يحرق طعامه في كل خلية ببطء شديد عند درجة حرارة واطئة نسبياً، ولكن النتيجة هي ثاني أوكسيد الكربون وبخار الماء، ولذا فانه إذا وصف إنسان بأنه يتنهد كالاتون، ففي ذلك شيء من الحقيقة.. وثاني أوكسيد الكربون يتسلل إلى رئتيه، ويكون غير قابل لتنسمه التالية وهو يلفظ ثاني أوكسيد الكربون في الجو. وكل كائن حيواني حي يمتص هكذا الأوكسيجين، ويلفظ ثاني اوكسيد الكربون، ثم ان الأوكسجين ضروري للحياة لتأثيره في عناصر أخرى في الدم وفي اجزاء أخرى من الجسم، وبدونه تتوقف عمليات الحياة.

ومن جهة أخرى تعتمد حياة كل نبات، كما هو معروف، على المقادير التي تكاد تكون متناهية الصغر، من ثاني اوكسيد الكربون الموجودة في الهواء، والتي يمكن القول بانها يتنسمها ولكي نوضح هذا التفاعل الكيموي المركب المختص بالترتيب الضوئي …PHOTOSYNTHETIC، بابسط طريقة ممكنة، نقول ان اوراق الشجر هي رئات، وان لها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني اوكسيد الكربون العنيد إلى كربون واوكسيجين. وبتعبير آخر: يلفظ الأوكسجين ويحتفظ بالكربون متحداً مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره. وبكيميا سحرية، تصنع الطبيعة من هذه العناصر سكرا أو سيلولوزا ومواد كيموية أخرى عديدة وفواكه وأزهاراً. ويغذي النبات نفسه، وينتج فائضا يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض. وفي الوقت نفسه، يلفظ النبات الأوكسجين الذي نتنسمه، والذي والذي بدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق، فدعنا اذن نقدم احترامنا في تواضع، إلى النبات. وهكذا نجد ان جميع النباتات، والغابات والأعشاب، وكل قطعة من الطحلب، وكل ما يتعلق بحياة الزرع، تبني تكوينها من الكربون والماء على الاخص. والحيوانات تلفظ ثاني اوكسيد الكربون، بينما تلفظ النباتات الأوكسيجين، ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة، فان الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأوكسجين أو كل ثاني اوكسيد الكربون، تقريباً، ومتى انقلب التوازن تماماً ذوي النبات أو مات الانسان، فيلحق به الاخر وشيكا. وقد اكتشف أخيراً ان وجود ثاني اوكسيد الكربون بمقادير صغيرة، هو أيضاً ضروري لمعظم حياة الحيوان، كما اكتشف ان النباتات تستخدم بعض الاوكسيجين. ويجب ان يضاف الهيدروجين ايضا، وان كنا لا نتنسمه، فبدون الهيدروجين كان الماء لا يوجد. ونسبة الماء من المادة الحيوانية أو النباتية هي كبيرة لدرجة تدعو إلى الدهشة، ولا غنى عنه مطلقاً.

ان الأوكسجين والهيدروجين وثاني اوكسيد الكربون والكربون – سواء اكانت منعزلة ام على علاقاتها المختلفة – بعضها مع بعض – هي العناصر البيولوجية الرئيسية. وهي عين الاساس الذي تقوم عليه الحياة. غير انه لا توجد مصادفة من بين عدة ملايين، تقضي بان تكون كلها في وقت واحد وفي كوكب سيار واحد، بتلك النسب الصحيحة اللازم للحياة! وليس لدى العلم ايضاح لهذه الحقائق. اما القول بان ذلك نتيجة المصادفة فهو قول يتحدى العلوم الرياضية! -------------------- قال الله تعالى في كتابه الكريم، (سورة النحل) : (هوَ الّذي أنزلَ مِن السّماءِ ماء لكمْ منهُ شرابٌ ومنه شجرٌ فيه تسيمونَ. يُنبتُ لكم به الزرعَ والزيتونَ والنّخيلَ والأعنابَ ومنْ كل الثّمراتِ، إنّ في ذلك لآية لقومٍ يتفَكرونَ. وسخّر لكمُ اللّيل والنّهار والشمسَ والقمرَ والنّجومُ مسخّراتٌ بأمرهِ إن في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يعقلونَ. وما ذرأ لكم في الأرض مُختلفاً ألوانهُ إن في ذلك لآية لقومٍ يذّكرون. وهوَ الذّي سخّر البحرَ لتأكلوا منهُ لحماً طرياً وتستخرِجوا منهُ حليةً تلبِسونها وترى الفُلكَ مواخر فيه، ولِتبتغوا من فضلِه ولعلّكم تشكرون. وألقى في الأرض رواسيَ أن تميدَ بكمْ وأنهاراً وسبُلاً لعلّكم تهتدونَ. وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يَهتدونَ. أفمن يخلقُ كمنْ لا يخلقُ أفلا تذكرونَ. وإن تعدوا نعمةَ الله لا تُحصوها إن الله لغفورٌ رحيمٌ) . (المترجم)

الفصل الرابع: النتروجين: تنظيم مزدوج

الفصل الرابع: النتروجين: تنظيم مزدوج ان كون النتروجين غازاً جامداً – أو جامداً جزئيا كان يمكن القول – هو امر ذو اهمية بالغة. وهو يعمل كمخفف للأوكسيجين، ويخفضه إلى النسبة التي تلائم الإنسان والحيوان. وكما ذكرنا في حالة الاوكسيجين، لا يتوافر لنا من النتروجين ما يزيد على …حاجتنا أو ما ينقص عنها. قد يمكن القول بان الإنسان قد راض نفسه على نسبة الواحد والعشرين في المائة من الأوكسجين الموجودة في الهواء، وهذا صحيح، ولكن كون هذه الكمية الملائمة له بالضبط من وجوه جوهرية اخرى، هو امر يسترعى الانتباه حقاً ولهذا فان مما يدعو إلى العجب، ان النسبة المحددة للاوكسيجين ترجع إلى عاملين: (اولا) انه لم يمتص بالتمام، وبذا يصبح جزءا من قشرة الأرض أو من المحيط. و (ثانيا) ان الكمية التي تركت حرة هي بالضبط الكمية التي تخففها جملة مقادير النتروجين على الوجه الأكمل، ولو أن النتروجين توافر بمقادير أكثر أو اقل مما هو عليه، لما أمكن تطور الإنسان كعهدنا به. وأمامنا هنا تنظيم مزدوج يلفت النظر: فان النتروجين، بوصفه غازا جامداً، هو عديم النفع في الظاهر، وهذا يصح من الوجهة الكيموية على الحالة التي يوجد عليها في الهواء وهو بالطبع يكون 78 في المائة من كل نسيم يهب – وهو جزء من الهواء الوافي، وبدونه كانت تحدث عدة امور خطرة. ولكن النتروجين من كلتا الوجهتين، ليس الآن حيويا للإنسان والنبات مثل الأوكسيجين. بيد أن هناك سلسلة من المواد الكيموية التي يجد النتروجين جزءا منها، والتي يمكن ان يقال عنها بصفة عامة انها نتروجين مركب – أي النتروجين الذي يمكن ان تتلقاه النباتات، أو النتروجين الذي يتكون منه العنصر النتروجيني في أغذيتنا التي بدونها يموت الإنسان جوعا. وليس هناك سوى طريقتين يدخل بهما النتروجين القابل للذوبان في الأرض كمخصب لها (سماد) . وبدون النتروجين، في شكل ما، لا يمكن ان ينمو أي نبات من النباتات الغذائية.

واحدى الوسيلتين اللتين يدخل بهما النتروجين في التربة الزراعية هي عن طريق نشاط جراثيم (بكتريا) معينة، تسكن في جذور النباتات البقلية، مثل البرسيم والحمص والبسلة والفول وكثير غيرهما. وهذه الجراثيم تاخذ نتروجين الهواء وتحيله إلى نتروجين مركب. وحين يموت النبات يبقى بعض هذه النتروجين المركب في الأرض. وهناك طريقة أخرى يدخل بها النتروجين إلى الأرض، وذلك عن طريق عواصف الرعد، وكلما ومض برق خلال الهواء وحد بين قدر قليل من الأوكسجين وبين النتروجين فيسقطه المطر إلى الأرض كنتروجين مركب (¬1) . وقد كانت هاتان الطريقتان كلتاهما غير كافيتين، وهذا هو السبب في ان الحقول التي طال زرعها قد فقدت ما بها من نتروجين. وهذا أيضاً هو الذي يدعو الزراع إلى مناوبة المحصولات التي يزرعها. وقد تنبأ (مالثوس) منذ زمن بعيد، بانه مع تكاثر عدد سكان الكرة الارضية، واستغلال الأرض في زرع المحصولات دون انقطاع، سوف يستنفد العناصر المخصبة ولو كان حسابه بشأن تزايد عدد السكان صحيحا، لوصلنا إلى درجة الندرة في بداية القرن الحالي. وهذا يدلنا على اهمية الفضلة الدقيقة من النتروجين المتروكة في الهواء، والبالغة الصغر بالنسبة لضخامة الكرة الارضية. فبدون النتروجين كان مال الإنسان ومعظم الحيوانات هو الموت. ومن عجب انه حين وضح للناس ان الموت جوعا هو احتمال قد يقع في المستقبل، وذلك في خلال الاربعين السنة الاخيرة، اكتشفت طرق أمكن بها انتاج النتروجين المركب من الهواء، وقد ثبت اخيرا ان في الامكان انتاجه بهذه الطريقة بكميات هائلة. وهنا زال ذلك الخوف من حدوث مجاعة عالمية. ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة النحل) : (والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون) . (المترجم)

ومن الشائق ان نلاحظ ان احدى المحاولات لانتاج النتروجين المركب، كانت عبارة عن تقليد الطبيعة، في ظروف ملائمة، في انتاج عواصف كهربية مصطنعة. وقد استخدم نحو 000ر300 قوة حصائية لاحداث أنوار كهربية ساطعة في الهواء، ونتجت بالفعل فضلة من النتروجين المركب، كما ثبت قبل ذلك بزمن طويل. اما الآن فان افتنان الإنسان قد قطع خطوات ابعد. وبعد مضي عشرة آلاف سنة من وجوده التاريخي قد ارتقت الوسائل التي يحول بها غازا جامدا إلى مخصب (سماد) . وهذا يمكنه من ان ينتج عنصرا لازما في الطعام، بدونه يموت الإنسان جوعا. وما اعجبها مصادفة ان يكسب الإنسان في هذا الوقت بالضبط من تاريخ الأرض، تلك المقدرة على ابعاد شبح المجاعة العالمية. ان النتائج الحلقية التي تنجم عن الاضطرار إلى نقص عدد سكان الأرض كي يبقى بعضهم على قيد الحياة، هي أفظع من ان يتصورها الانسان. وقد امكن تفادي هذه المأساة في نفس اللحظة التي كان يمكن توقعها فيها!

الفصل الخامس: ما هي الحياة

الفصل الخامس: ما هي الحياة الحياة باقية، وقد استمرت بعد العصور الاولى، والعصور الجيولوجية، وظهرت قارات وغرقت اخرى، وان المحيطات العتيقة، والبحار الضحلة، لتزخر كلها بالحياة، وان الحياة لتسر غورها وتتخلل الامواج المتلاطمة، وتنفذ في رمال كل شاطئ. وقد مضيت الحياة قدما حيث تراجع كل عصر من عصور الجليد، وقاومت كل تقدم للمناطق الباردة، قوية مظفرة. وقد ارتفعت الجبال من الأرض ذات الغصون، وانشق السطح واهتز مع كل زلزال. وتفتتت قمم الجبال الشاهقة خلال ملايين السنين، وبان اثر ذلك في طبقات بعضها فوق بعض، وغمر ماء البحار قارات، وصار غرين (طمي) الأراضي القديمة يغطي قاع كل محيط وكأنه كفن ولكن استمرت الحياة بعد ذلك كله. والحياة تستخدم ذرات الارض، وتخلق عجائب جديدة طبقا لقوانين الكون، ولكنها في تقدمها تخلف وراءها كل صغيرة لمستها، وان (صخور دوفر البيضاء) ، المكونة من الطباشير والجير والحجر الصوان، لتقص علينا قصة الحيوانات الرخوة والنباتات المائية والمخلوقات البحرية التي لا عدد لها، في خلال الدهور، وان الغابات الحية، والفحم والزيت والغاز، لتدلنا على نشاط العلم القديم الذي تلقت فيه الحياة طاقة الشمس، واحالها الإنسان ناراً. وان هذه التركة لتفوق في قيمتها كل ثروة اخرى، لانها رفعت الإنسان عن مرتبة الحيوان. ومن بين أتون بدايات القشرة الارضية، حيث كانت كل مادة تستحيل جمرة أو رمادا، استخدمت الحياة طاقة الشمس، ومزقت ذرات الماء المتحدة، وفصلت الكربون البليد من الأوكسجين وحولته إلى ثاني اوكسيد الكربون، وخزنت في الأرض وفوق سطحها، الموارد الوحيدة النار. ومن النار قام المثوى وجميع أدوات المدنية، وكل ذلك لان الحياة تلقفت وحفظت كل القوى التي أطلقتها الشمس. وقد تغلبت الحياة على الظروف المتغايرة للماء والأرض والهواء، ولا تزال ماضية في طريقها في شكل نبات وحيوان. ومن الأميبا (¬1) صاعدا إلى السمك والحشرات وذوات الثدي وطيور الجو، أو نازلا إلى الجرثومة والميكروب والبكتريا وكذا النباتات التي لا حصر لها، وسواء في شكل خلية أو سمكة قرش، أو عنكبوت أو ديناصور، أو انسان، أو زرع - فان الحياة تهيمن على العناصر، وترغمها على حل تركيباتها، والاتحاد من جديد على اساس صلات اخرى، والحياة تاتي بمخلوقات في صور شتى من صور السلف، وتمنح هذه الصور القدرة على تكرار انفسها على مدى اجيال لا حد لها. ¬

_ (¬1) - الأميبا: Almeeba حيوان ميكروسكوبي ذو خلية واحدة يتوالد بالانقسام الذاتي. (المترجم)

والحياة شديدة الخصب في توالدها، حتى انها تعول نفسها، وتطعم من فائضها، ومع ذلك تضبط جميع الكائنات الحية، لتمنع أي مخلوق من مخلوقاتها، من ان يطغى على العالم، فالجراد مثلا لو بقى دون ضابط استطاع في بضع سنين ان يلتهم كل زرع اخضر، وعندئذ تنتهي حياة كل حيوان فوق الارض. والحياة مثالة، تشكل الكائنات الحية، وهي فنانة، تختط كل ورقة في كل شجرة، وتلون الازهار، والتفاح، والغابات، وريش عصافير الجنة. وهي موسيقية، علمت كل طير كيف يشدو بأغاني غرامه، وعلمت الحشرات كيف ينادي بعضها بعضا بموسيقى اصواتها المتعددة، وهذه الأصوات، سواء أكانت تفيق الضفدعة في الربيع، ام قرق الدجاجة بين صغارها، أم زئير الاسد في صولته، ام تبويق الفيل، تشمل كل (برج النغم) للاحاسيس، ولا يفوقها سوى صوت الإنسان في مرونته المدهشة. والحياة قد جعلت الإنسان وحده سيداً على تموجات الصوت مجتمعة وزودته بمادة انتاجها: فالمزمار والبوق، والقيتار، وكذا شعر الخيل، والشمع، الذي يمسح به قوس الكمان، ورجع الصدى من قيثارة الأوركسترا المصنوعة من الخشب، والصوت المنخفض المزدوج الذي هو كصوت الخنزير، وطرقة الجلد على الطبل، كل أولاء مدينة بالفضل للحياة! والحياة مهندسة، فهي التي وضعت تصميم سيقان الجندب (النطيط) والبرغوث، والعضلات والروافع، والمفاصل، والقلب الذي يخفق دون كلل، ونظام الاعصاب الكهربية لكل حيوان، والدورة الدموية الكاملة لكل كائن حي. وهي تصميم الهندباء البرية ثم تزخرف بذورها في (شرابات) يحملها كل نسيم. والحياة تشكل الازهار، وترغم الحشرات على ان تحمل اللقاح من عضو التذكير إلى عضو التأنيث. والحياة كيموية، فهي التي تهب المذاق للفواكه والتوابل وتهب العطر للورد والحياة تركب مواد جديدة لم تجهزها الطبيعة بعد، لموازنة عملياتها والقضاء على الحياة المغيرة.

والحياة تهب الضوء البارد (للذباب المنير) ليعاونه على بث غرامه ليلا.. وكيميا الحياة فائقة، لانها لا تقنع باستخدام اشعة الشمس لتحويل الماء وحامض الكربون إلى خشب وسكر، بل انها إذ تفعل ذلك تطلق الأوكسجين كي تتقسم الحيوانات نسيم الحياة. والحياة مؤرخة، فقد كتبت تاريخها صفحة صفحة، تاركة سجلها في الصخور، وهو تاريخ كتبته بنفسها ولا ينتظر إلا الترجمة. والحياة تمنح مخلوقاتها الفرح لكونها حية، فالحمل يرتع ويقفز، وهو لا يدري لماذا. والحياة تلون عيني الطفل وتمنحها بريقا، وتصبغ خديه، وتبعث بالضحك إلى شفتيه. اما المادة فلا تبتسم ابداً. والحياة تقي مخلوقاتها بوفرة الغذاء في البيض، وتعد كثيرا من صغارها للحياة الناشطة بعد الميلاد، أو انها تخزن الغذاء تأهبا لصغارها بوحي أمومة لا شعورية. والحياة تنتج الحياة، إذ تعطى اللبن لسد الحاجات العاجلة، متوقعة هذه الضرورة، ومتأهبة لما يجيء من حوادث. والحياة قد جاءت للعالم بحب الأم لولدها، وجاءت للإنسان بالمثوى والاسرة، وبحب الوطن الذي ينافح عنه حتى الموت. والحياة تحمي نفسها: بالحيطة في استخدام الالوان لمساعدة مخلوقاتها أو اخفائهم، وباعداد الساقين الجري، ومنح الاسلحة للدفاع، من القرون والاشداق والمخالب، وكذا السمع والبصر والشم، والاجنحة للتحليق في الجو، وهكذا تزود الحياة للدفاع والهجوم: وهي تهب قناعا خفيا ليعض الحشرات التي لا يحدث منها أي أذى، لكي تقيها كل هجوم. اما المادة فانها لم تفعل قط أكثر مما تمليه قوانينها. فالذرات إنما تطيع قواعد الالفة الكيموية وقوة الجاذبية وتاثيرات درجة الحرارة، والدوافع الكهربية. والمادة ليست مبتكرة، اما الحياة فانها تاتي إلى الوجود بتصميمات وتكوينات جديدة، رائعة. وبدون الحياة كان سطح الأرض يصير صحراء شاسعة مجدبة، وفضاء من ماء غير نافع.

وبدون الحياة تكون المادة جامدة، ومتى تركتها الحياة عادت مجرد مادة، ولكن تبقى لها القدرة على مواصلة حياة مخلوقات اخرى، وبذا تخلد الحياة في الكائنات الحية. واما ما هي الحياة، فذلك ما لم يدره إنسان بعد، فليس للحياة وزن ولا حجم (¬1) . والحياة ذات قوة، لان الجذر النامي يقدر ان يشق صخرة، والحياة تنشئ شجرة عظيمة وتحفظها من الجاذبية مدة ألف سنة أو تزيد. وهي ترفع اطنان الماء من الأرض كل يوم، وتنشئ ورق الشجر والفواكه. وأقدم كائن حي هو شجرة يرجع عهدها إلى خمسة آلاف سنة، وهي لا تعدو كونها لحظة في الأبدية. والحياة الفردية عابرة. والحياة هي المسئولة عن كل حركة لكل كائن حي. وكل هذه الطاقة تقريبا تاتي عن طريق الشمس. والحياة لا تقدر ان تستمر في المادة التي تكون، في حدود ضيقة، بالغة الحرارة أو البرودة، لان هاتين تقضيان على ظروف المادة التي تتوقف عليها الحياة. فان الحياة لم تظهر على هذه الأرض إلا حين كانت الظروف موائمة لها، وستقطع نشاطها حين يحدث تغيير ملحوظ في تلك الظروف (¬2) غير ان الظروف الحالية قد وجدت واستمرت منذ ثلثمائة مليون سنة على الاقل. والطبيعة لم تخلق الحياة، فان الصخور التي حرقتها النار، والبحار الحالية من الملح، لم تتوافر فيها الشروط اللازمة. وهل احتضنت الحياة هذه الأرض والكرات الارضية الأخرى في انتظار فرصة يزود فيها الكون بقوة الادراك؟ ان الجاذبية هي من خواص المادة. والكهرباء اصبحنا نعتقد انها المادة نفسها، وأشعة الشمس والنجوم يمكن انحرافها بالجاذبية، ويبدو انها وثيقة الصلة بها: ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة الإسراء) . (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي) (المترجم) (¬2) - قال تعالى (سورة الانفطار) : (واذا السماء انفطرت، واذا الكواكب انتثرت، واذا البحار فجرت، واذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت وأخرت) . (المترجم)

وقد اخذ الإنسان يدرس حدود الذرة، ويقيس قوتها المخزونة. غير ان الحياة نفسها خداعة، مثل الفضاء لماذا؟ والحياة منتظمة، على وتيرة واحدة، في بذل جهدها لاحياء المادة. وهي لا تعرف فرحا ولا حزنا، ولا تميز بين احد وأحد. ومع هذا فالحياة هي الاساس، وهي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها فهم المادة. والحياة هي المصدر الوحيد للوعي والشعور، وهي وحدها التي تجعلنا ندرك صنع الله ويبهرنا جماله، وان كانت أعيننا لا تزال فوقها غشاوة. ان الحياة ليست إلا أداة تخدم مقاصد الخالق سبحانه وعلى هذا فالحياة باقية كمشيئته تعالى! ----------------- قال الله تعالى في كتابه الكريم (سورة فاطر) : (والله خلَقكمْ منْ ترابٍ ثمّ من نُطفةٍ ثمّ من جعلكُمْ أزواجاً، وما تحملُ من أنثى ولا تَضعُ إلا بعلْمه، وما يُسّر من معمرٍ ولا ينقصُ من عمرِهِ إلا في كتابٍ إن ذلك على الله يسيرٌ. وما يستَوي البَحر ان هذا عَذبٌ فراتٌ سائغ شرابهُ وهذا ملحٌ أجاجٌ ومن كلّ تأكلوُنَ لحماً طريّا وتَستخرِجونَ حليةً تلبِسونها وترى الفُلك فيه مواخرَ، لتبتغوا من فضلهِ ولعلّكم تَشْكرونَ) . (المترجم)

الفصل السادس: كيف بدأت الحياة

الفصل السادس: كيف بدأت الحياة في لغز بداية الحياة نقطة يجب ان يقف العلماء أمامها لنقص الحجج. أجل هناك قرائن كثيرة يمكن اقرارها علمياً. غير ان بداية الحياة بلغت من العجب، والنتائج المترتبة عليها بلغت من التشعب، بحيث ان أكثر العلماء البيولوجيين علما لابد ان تتملكه الدهشة. فهو بوصفه عالما، لا يستطيع ان يؤمن بالمعجزات، ولكن بوصفه انسانا ذكيا يجد – نتيجة لبحثه وبحوث غيره – ان معظم الكائنات الحية الآن تتطور من خلية ميكروسكوبية فريدة، على اثر خروجها من طور الحياة تحت الميكروسكوب واقترابها من طور السدفة الذرية ويبدو ان تلك الخلية قد وهبت القدرة على التكاثر، ومواءمة نفسها على اشكال عديدة من الحياة، وانها أعدت لكي تعيش في كل ركن وشق على ظهر الارض. والعلم يقر بان الواقع لا يمكن ان يكون إلا كذلك. ويعتقد البعض ان هذا مصادفة من المواد الكيموية والماء والوقت. ويرى البعض الاخر النظام مائلا في كل جانب فسيح من الحياة إذ تمضي قدما من منبعها إلى هدفها، سواء أكانت ستصبح حيوانا رخوا ام انسانا – دون ان تعبر الفجوة مرة اخرى. والان لنعالج الموضوع بشعور من الاجلال، لاتحده الحدود الدقيقة التي تفرضها العقائد الدينية، أو الحقائق العلمية بشان سبب الحياة ومصدرها، ولنصور لانفسنا الوقائع المعترف بها. وبذا يمكننا ان نحكم، وأمامنا الموضوع كاملا. وبهذه الطريقة يمكننا ان نعلم ان كنت أنا أو أنت مجرد مجموعة عريضة من المادة، تولدت عن الكيمويات والماء والوقت، اولا. انظر إلى الشيء الهام الوحيد. انه أهم من الأرض نفسها ومن الكون كله. وأهم من كل شيء آخر – ما عدا الخالق المدبر الذي كان السبب في وجود ذلك الشيء: وأعني تلك النقطة من النقطة (البروتوبلازم) (¬1) ¬

_ (¬1) - البروتوبلازم Protoplasmهي المادة الزلالية الحية التي تتكون منها خلية الاجسام النباتية والحيوانية، وقد رأينا أن نترجمها بكلمة (النطفة) . (المترجم)

التي لا تكاد ترى، وهي شفافة لزجة (كالجيلاتين) ، قادرة على الحركة، تستمد نشاطها من الشمس. وهي بالفعل كفء لاستخدام ضوء الشمس في عزل ثاني اوكسيد الكربون من الهواء، مرغمة الذرات على الانفصال، قابضة على الهيدروجين من الماء، ومنتجة لهيدرونات الكربون، وبذا تعد غذاءها بنفسها من أحد المركبات الكيموية العنيدة للغاية. ان هذه الحلبة الفريدة، هذه النقطة الصغيرة الشفافة التي تشبه الطل، تحتوي في نفسها على جرثومة الحياة، وبها القدرة على توزيع هذه الحياة على كل كائن حي، كبيرا كان أو صغيرا، وعلى مطابقة كل مخلوق لبيئته حيثما يمكن وجود الحياة، من قاع المحيط إلى السماء. وقد صاغ الزمن والبيئة شكل كل كائن حي بحيث يتفق مع أنواع الظروف المتعددة. وعندما تكون هذه الكائنات الحية شخصيتها الفردية، فانها تكون قد ضحت ببعض مرونتها وقابليتها للتغير، واصبحت مخصصة وثابتة، وقد فقدت القدرة على العودة إلى الوراء ولكنها كسبت مزيدا من المواءمة مع الظروف التي وجدت فيها. ان قوى هذه النقطة الصغيرة من النقطة (البروتوبلازم) ومحتوياتها، كانت ولا تزال اعظم من الزرع الذي تخضر به الارض، وأعظم من كل الحيوانات التي تتنسم نسيم الحياة لانها مصدر كل حياة، وبدونها كان لا يمكن وجود شيء حي. والعلم يوافق على كل ما ذكرنا خطوة خطوة، ولكنه يتردد في ان يتخذ خطوة اخيرة، ويقول ان الانسان، خطر على هذه الأرض بوصفه طفلا لمنبع الحياة الكوني، سيدا بين الحيوانات، وذا تكوين مادي معقد التركيب للغاية، وصاحب عقل أعد عن قصد ليتلقى لمحة من القدرة الالهية التي نسميها بالروح.

وينبغي لنا ان نبدأ بالأرض كلها على انها صحراء، وليس ثمة من مواد غير ما ترك حين بردت الأرض. وقد ارتفعت الأر من المحيطات، وحدث في الصخور تاكل لا يمكن وصفه فمزقها اربا، وكون كثيرا من الصخور الثانوية والغرين والطحل. ولم يوجد سوى المواد غير العضوية في تركيبات كالبازلت والجرانيت وتلك الصخور الأخرى النارية والمتحولة، والغرين الذي سبق رواسب الوجود الحيواني، اما الرواسب من امثل حجر الكلس والمرجان والطباشير والحجر الصوان، فانها لم تكن موجودة. وليس لدينا سوى مواد قليلة لنعالجها، فلدينا الماء، وربما كان على درجة من الحرارة شديدة الثبات. ان لغز ظهور الحياة على الأرض قد يحل وقد لا يحل بحدوثة الذاتي. وقد افترض البعض ان الحياة قد جاءت من بعض الكواكب في شكل جرثومة انسلت دون ان يصيبها تلف، وبعد ان بقيت زمانا غير محدود في الفضاء، استقرت على الارض، ولكن كان من العسير على تلك الجرثومة ان تبقى حية في درجة حرارة الصفر المطلق في الفضاء، واذا استطاعت البقاء رغم ذلك فان الاشعاع الكثيف للموجة القصيرة كان يقتلها. فان كانت قد بقيت حبة رغم ذلك فلا بد انها وجدت لنفسها المكان الملائم، وربما كان المحيط، حيث ادى اتفاق مدهش في الظروف إلى توالدها وبداية الحياة على الارض. وفضلا عن ذلك يعود بنا هذا الفرض خطوة أخرى فيما نحن بصدده، لاننا يمكننا ان نسال: (وكيف بدات الحياة على أي كوكب من الكواكب؟) ان المتفق عليه عموما هو انه لا البيئة وحدها، ولا المادة مهما كانت موائمة للحياة، ولا أي اتفاق في الظروف الكيموية والطبيعية قد تخلقه المصادفة، يمكنها ان تاتي بالحياة إلى الوجود.

وبصرف النظر عن مسالة اصل الحياة التي هي بالطبع من الالغاز العلمية، قد افترض ان هنة ضئيلة من الحياة، بلغت من الضالة انها لا ترى أو تلمح بالميكروسكوب، قد اضافت اليها ذرات، وقبلت توازنها الوثيق، فانقسمت، وكررت الاجزاء المنفصلة هذه الدورة، وبذا اتخذت اشكال الحياة.. ولكن لم يزعم أحد انها اتخذت الحياة نفسها! ان الأميبا هي مخلوق ميكروسكوبي حي على درجة كبيرة من التطور، وهو مكون من ملايين لا حصر لها من الذرات في تنظيم مرتب. و (الأميبات) هي مخلوقات ذوات خلية واحدة، قد لا يزيد قطرها على جزء من مائة من البوصة، ونوجد في جميع مياه العالم. والاميبا تشعر بالجوع، وتبحث عن غذائها عن قصد وعمد. واية درجة من كبر الحجيم يجب ان يبلغها الحيوان حتى نعترف بان له رغبات وعزيمة؟ ولكن الحجم هو لا شيء في حسبان اللانهائية، لان الذرة لا تقل كمالا عن نظام المجموعة الشمسية. واذا اتخذنا الاميبا مثلا للايضاح – دون ان نزعم ان هذا المخلوق الحي ذا الخلية الواحدة هو المنبع الاصلي للحياة – فانه يمكن القول بان مخلوقا ما نطفيا (بروتوبلازميا) حيا، بعد ان ضاعف تكوينه الداخلي، قد انقسم وصار اثنين، ثم انقسم الاثنان وصارا اربعة، وهكذا إلى غير حد، كما تفعل الخلايا الآن في كل مخلوق حي. فكل خلية تحتوي في نفسها، في تقسيمها الباكر، القدرة على انتاج فرد كامل. والخلايا نفسها باقية إلا إذا وقع لها حادث أو صادفها تغير في الظروف لا قبل لها به. وهي تكون الخلايا البسيطة في جميع المخلوقات، من حيوانات أو نباتات في الوقت الحاضر، وبذا تكون صورا طبق الاصل من اسلافها. ونحن بوصفنا كائنات بشرية، إنما منتظمة من بلايين فوق بلايين من امثال تلك الخلايا، وكل خلية هي مواطن يؤدي نصيبه الكامل من الخدمة الخالصة في ذكاء. وهذا يختلف اختلافا بينا عن الجزئية المادية العاطلة من الحياة (¬1) ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة المؤمنون) . (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم انشأناه خلقا آخر، فتبارك الله احسن الخالقين) . (المترجم)

ولكن في الاستطاعة ان نشير إلى شيء حدث منذ زمن بعيد، عند بدء الحياة على الارض، وكان له شأن عظيم، ذلك ان خلية واحدة قد نمت عندها القدرة المدهشة على استخدام ضوء الشمس في حل مركب كيموي، واصطناع غذاء لها ولاخواتها من الخلايا. ولا بد أن لذات اخريات لخلية اصيلة أخرى قد عاشت على الغذاء الذي انتجته الخلية الاولى، وأصبحت حيوانا، في حين صارت الخلية الاولى نباتا، والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تغذى جميع الكائنات الحية الان، فهل يمكننا ان نعتقد ان كون خلية قد اصبحت حيوانا، وأخرى قد اصبحت نباتا، إنما حدث بطريق المصادفة (¬1) ؟ ان التوازن العجيب بين الزرع وحياة الحيوان إنما استقر بهذا التقسيم. واذا عدنا إلى قصة ثاني اوكسيد الكربون، وجدنا ان هذا التقسيم هو أساسي اطلاقا بوصفه احدى ضروريات الحياة نفسها. ولو كانت الحياة كلها حيوانية، لكانت الآن قد استنفدت الأوكسيجين، ولو كانت الحياة كلها نباتية، كانت قد استهلكت كل ثاني اوكسيد الكربون. وفي كلتا الحالتين كانت تنتهي هذه الحياة وتلك. ¬

_ (¬1) - قال تعالى (سورة الرعد) : (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل مسمى يدبر الأمر يفصل الايات لعلكم بلقاء ربكم توقنون. وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ينشي الليل في النهار ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون. وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون) . (المترجم)

وكما ذكرنا من قبل، من المفروض انه في التاريخ الباكر جدا للكرة الارضية لم يكن بالهواء اوكسيجين مطلق، إذ كان كل الأوكسجين مخزونا في قشرة الأرض وفي الماء وثاني اوكسيد الكربون. فاذا كان الامر كذلك، فان كل الأوكسجين الذي لدينا الان، قد جاء من الزرع. وقد ثبت ذلك بشكل مقبول، لان النباتات تستعمل ثاني اوكسيد الكربون، وتطلق الأوكسيجين. ولكن إذا كان هذا كله صحيحا، فان الحيوانات، التي لا غنى لها عن الأوكسجين لكي تعيش، لا بد قد جاءت إلى الوجود بعد زمن طويل من تطور النباتات في البحر والأرض، فهل كان ظهور الحياة على دفعتين؟ سنترك ذلك للمستقبل ليقرره. ومن عجب انه في كلتا الحياتين الحيوانية والنباتية، منذ ظهور الكائنات البروتوبلازمية الاولى، قد تطور الذكر والانثى بشكل جعل كل نوع يستمر بالاتحاد المتكرر مع الاحتفاظ بمميزاته العامة. وليس هذا مجال البحث في تفاصيل الاضطرابات والنتائج الطبيعية والكيموية التي ادت إلى التوزيع. ويكفي ان نجعل الامر مفهوما لاولئك الذين ليس لهم معرفة خاصة بالعلوم. ويمكن ايضاح الأمر على الوجه الآتي:

الظاهر ان مجموعات الخلايا كانت ادنى إلى البقاء حية حين كانت على صلات وثيقة معا، وبدا بدأت تتحد، ثنائية ورباعية ومئوية والفية ثم مليونية، ثم دعيت كل خلية لان تؤدي مهمة وكلت اليها. وتدريجا، مع تكليفها تلك المهام المختلفة اصبح في حيز الامكان ان يقوم المجموع بوجوه جديدة من النشاط، ففي الحيوانات، صار الحمل CILIA، (وهو عبارة عن تركيبات صغيرة تشبه ال؟؟؟ وصارت الزوائد والاقدام الكاذبة، تساعد على جمع الطعام الذي تنشط خلايا أخرى في هضمه. وبعض الاجزاء كانت مكونة من عدة حلايا. فهناك مجموعة منها صنعت غطاء وقائيا كثيفا، كقشر الشجرة، وأخرى كانت مشغولة بنقل الغذاء من مكان إلى اخر في المخلوق الحي. واخيرا نجدها مشغولة بتكوين الخشب في الجذوع، أو بتكوين العظام أو الاصداف لتدعم جرمها المجتمع النامي، وبعض الاصداف وضعت في الخارج، مثل اصداف اللزيق (سمك صدفي) . وهذه الحيوانات الرخوة من النوع الذي يغلق على نفسه. وبعض العظام قد كونت بالداخل، فالإنسان يحتاج إلى سلسلة فقرية. وجميع الأشياء التي تعيش تبدأ من خلية بسيطة وهذه الخلية ترغم كل نسلها على ان يؤدي الخدمات وان يتبع دون انحراف تصميم المخلوق الذي كان على الخلية الأصلية مضاعفته، سواء أكان سلحفاة ام أرنباً.

وقد يمكن السؤال عما إذا كان للخلايا فهم وادراك ام لا: وسواء اعتقدنا أن الطبيعة قد زودت الخلايا بالغريزة – مهما تكن هذه – أو بقوة التفكير، ام لم نعتقد ذلك، فلا مناص لنا من الاعتراف بان الخلايا ترغم على تغيير شكلها وطبيعتها كلها لكي تتمشى مع احتياجات الكائن الذي هي جزء منه. وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب ان تكيف نفسها لتكون جزءا من اللحم، او ان تضحي نفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى. وعليها ان تضع ميناء الأسنان وان تنتج السائل الشفاف في العين، أو ان تدخل في تكوين الانف أو الأذن. ثم على كل خلية ان تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتادية مهمتها. ومن العسير ان نتصور ان خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى، ولكن احدى الخلايا تصبح جزءا من الاذن اليمنى، بينما الأخرى تصبح جزءا من الأذن اليسرى. ان بعض البلورات المتشابهة كيمويا تحول اشعة الشمس نحو اليمين وبعضها الاخر نحو الشمال. ويبدو ان مثل هذا الميل موجود في الخلايا. ومتى وجدت في المكان الصحيح الذي تخصه. فانها تصبح جزءا من الاذن اليمنى أو الاذن الايسرى. وأذناك تواجه احداهما الأخرى في رأسك، وليستا في كوعيك كما هما عند الصرصور.. وتقوساتهما متضادة، وحين تكمل تكون الأذنان متماثلتين إلى حد يعصب عليك عنده ان تميز بنيهما. ان مئات الآلاف من الخلايا تبدو كانها مدفوعة لان تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب وفي المكان الصواب، والحق انها طائعة‍والحياة تدفع إلى الأمام، بانية، مصلحة متوسعة، وخالقة ما هو حديث وما هو افضل، بنشاط لا يفتر ولا مثيل له في الأشياء الجامدة. فهل هذا ناشئ عن ادراك؟ ام عن غريزة؟ ام انه أمر يحدث فحسب؟ يمكنك ان تجيب عن ذلك بنفسك. بيد انك قد تقول الآن ان كل ما ورد بهذا الفصل لا يفسر لنا كيف بدأت الحياة، أي كيف جاءت إلى هذه الارض. والكاتب لا يعرف كيف، ولكنه يؤمن بانها جاءت كتعبير عن القوة الالهية، وبانها ليست مادية.

الفصل السابع: اصل الانسان

الفصل السابع: اصل الانسان هناك طرق عدة البحث في اصل الانسان. وان متابعة هذه الطرق ليحدث اضطرابا لكثيرين من ذوي الاراء الجامدة، فمن الآراء ما يقول بان الإنسان قد جاء عن طريق عملية تطور من الشرارة الأصلية للحياة. وهذا هو الأساس الذي تقوم عليه فكرة التطور كلها. وهناك رأي آخر يقول بان الله في حكمته قد أودع الحياة على الارض، وخلق الإنسان كما هو أو كما كان، كاملا. وثمة راي يقول بأن العناية الالهية لا تقف، ولكنها انتجت الحياة بكل أطوارها بسلسلة من الخلق. على ان هناك رأيا اخر يقول بان الحياة التي انتهت إلى الإنسان كانت نتيجة سعيدة لمزيج حدث مصادفة من المواد الكيموية، بما فيها الماء.. ويمكن القول بانه مع الايمان بوجود الخالق، فانه قد شاءت ارادته ان يخلق من العناصر الاصلية للارض شيئا تكون له حياة، ويبلغ في النهاية إلى تطور في المخ يسمح بابداعه الذكاء. ويمكن القول بان الله تعالى قد شاء ان يمنح هذا الذكاء سيادة وسيطرة على جميع الكائنات الحية الأخرى وعلى كائنات أخرى كثيرة عاطلة من الحياة. وايا ما تختر لنفسك من هذه الاراء، فان من الواضح ان الإنسان لم يوجد كانسان. منذ بدأت الحياة ولكنه تطور فيما بعد إلى ما هو عليه الآن، وعلى أي حال لم يظهر كانسان، إلا بعد ان عجزت كل أشكال الحياة الكائنات الأخرى عن إيجاد جهاز بالغ التعقيد كالعقل البشري.

واذا فرضنا ان الإنسان بدأ مع ظهور الحياة الاولى، فان وجوده يرجع إلى 400 مليون سنة أو اكثر. اما إذا قبلنا النظرية الثانية، فانه يكون قد وجد بعد ذلك، أو في أي وقت نتيجة للمشيئة الالهية. اما إذا قبلنا الفرض الثالث، فاننا لا يمكننا ان نحدد تاريخا لاول وجوده كإنسان إلا بما يرجع لنا ملايين عدة من السنين. وقد أمكن تتبع تاريخ الإنسان كانسان، بالادلة الكافية لاقناع العلماء، لمدة مليون سنة مضت، ولكن هذا حد ادنى متفق عليه. اما قبل ذلك فان تطوره – مهما يكن الحيوان الذي تطور منه – يرجع إلى قدم لا يصل اليه حسبان البشر. ويوجد في المتحف الامريكي للتاريخ الطبيعي بنيويورك حصان اثري ذو ثلاث أصابع، وهو حيوان صغير كان لاريب سريع العدو. ولا شك انه كان حصاناً، غير ان تطوره إلى الحصان الجليل الحإلى الذي يجري على ما نسميه حافراً تطور من اصبع، قد تطلب ملايين السنين. فاذا اتخذنا من ذلك معلما للطريق، فلنقدر اذن الزمن الذي تطلبه الإنسان حتى تطورت يداه وعيناه وذهنه، وبذا صار حيواناً طفيفاً ورفعه ذلك إلى كيانه الحالي.

والان نعود فنقتبس التقلبات التي مر بها هذا المخلوق الصغير الاعزل من وسائل الدفاع، وان يكن حقا سريع الحركة فانه معرض للخطر من كل مخلوق ياكل اللحم، ومن كل زاحف سام، ومن كل جسم يحدث المرض. وكان عليه ان يعني بصغاره زمنا طويلا من عجزهم، فان اطفال الإنسان تولد عديمة الحول والحيلة، وهي تأتي تباعاً وبذا قد يصبح عدة اطفال عاجزين، في حاجة إلى الغذاء والوقاية في وقت واحد. وهذا يضاعف عجيبة بقاء الإنسان في خلال الدهور! فقد عاش خلال تغيرات كالعصر الثلجي وفي كل طور اخر من أطوار الحياة المحرومة الوقاية. وهذا ينطبق طبعا على جميع الحيوانات الاخرى. وانه لمن معجزات العناية الالهية ان استطاعت هذه المخلوقات ان تثبت امام تلك الظروف. ومن جهة أخرى فان أنواعاً لا عدد لها كانت قد ولدت ثم انقطعت عن الوجود. وليست عظام (الديناصورات) (¬1) الا دليلا واحدا يثبت به علماء الجيولوجيا (علم طبقات الارض) انه وجدت في الماضي حيوانات غريبة قدر لها الفشل فعفى عليها النسيان. وكان ذلك أيضاً مثال ملايين من الحشرات والاسماك والطيور وانواع أخرى عديدة من مخلوقات شتى. ولعل (الحمام المسافر) (¬2) كان في وقت ما أكثر عددا من البشر، ولكن آخر واحدة منه ماتت في عهدنا، وانقرضت سلالته الفاخرة كما انقرض (البطريق) العظيم و (الدودو) (¬3) . وتجد علماء الآثار في اظهارهم لتطور الانسان، يتخذون من سعة المخ في جمجمته مفتاحاً لتقدمه. وقد حلت اجناس ولا تزال تحل، محل اخرى، ويبدو ان الجنس الابيض هو في الذروة في الوقت الحاضر. أفيأتي الزمن بالإنسان الممتاز (السوبرمان) الذي ينسل ذرية من نوعه تملأ الأرض على رحبها؟ ان العظام في جمجمة الطفل يفرقها غضروف يتيح لمخه مزيدا من النمو، وقد يستمر ذلك في طور الشباب إذا كان ثمة حاجة إلى مثل هذا التوسع. ولكن الواقع اننا نصبح ذوي أدمغة صلبة. وقت باكر.. ويحسن بنا إلا نغلق عقولنا دون الحقيقة قبل الأوان!. ¬

_ (¬1) - الديناصورات جمع ديناصور، وهو الحيوان الهائل الذي وجد مدفونا تحت اطباق الثلوج، وانقرض من الحياة منذ زمن طويل. (المترجم) . (¬2) - نوع من الحمام كان موطنه امريكا الشمالية، وكان ذا رأس صغير ومنقار قصير وذيل طويل وجناحين طويلين مدببين. (المترجم) . (¬3) - الدودو: طائر منقرض من فصيلة الحمام.

الفصل الثامن: غرائز الحيوانات

الفصل الثامن: غرائز الحيوانات ان تقدم الإنسان قد بلغ من الوجهة الطبيعية مبلغا محمودا، ولا يبدو ان ثمة مجالا لنمو تكوين جسدي جديد به. ولكن ينبغي ان نتقدم صحته، وان يبلغ تقدمه الطبيعي درجة الكمال بفضل التغذية وعجائب الطب والجراحة، وتبعا لذلك يجب ان ترقى الاذهان بوجه عام. فهناك – على الأقل – متسع للعقلية الصالحة لكي تعبر عن نفسها، وبذا تتحسن احوال الإنسان المادية والخلقية والروحية، سواء من حيث الفرد أو الجنس. ان المدنية وقبول المقاييس الخلقية، تتحركان إلى الامام والى الخلف، ولكن هناك كسبا دائما، وقد كان تقدم الإنسان امرا ملحوظا بلاريب، ولكن عليه ان يقطع مراحل عدة. ويبدو لحسن الحظ انه ليس هناك حد لما يمكن ان يقع من تقدم جديد في الذهن البشري مع الوقت، اعني الوقت الكافي، بوصفه العامل الغالب..

ان الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن، فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف، ولكنه يعود إلى عشه القديم في الربيع التالي. وفي شهر سبتمبر تطير أسراب معظم طيورنا إلى الجنوب، وقد تقطع في الغالب نحو الف ميل فوق عرض البحار، ولكنها لا تضل طريقها. والحمام الزاجل إذا تحير من جراء اصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص، يحوم برهة ثم يقصد قدما إلى موطنه دون ان يضل.. والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح في هبوبها على الاعشاب والاشجار، كل ذلك دليل يرى. وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الانسان، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة. ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة، وعقولنا تسد هذه الحاجة ولا بد ان للحشرات الدقيقة عيونا ميكروسكوبية لا ندري مبلغها من الاحكام، وان للصقور بصرا تلسكوبيا وهنا أيضاً يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية. فهو بتلسكوبه يمكنه ان يبصر سديما بلغ من الضعف انه يحتاج إلى مضاعفة قوة ابصار مليوني مرة ليراه، وهو بميكروسكوبه الكهربي يستطيع ان يرى بكتريا كانت غير مرئية، (بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها) . وانت إذا تركت حصانك العجوز وحده، فان يازم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل. وهو يقدر ان يرى ولو في غير وضوح، ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه، بعينين تأثرتا قليلا بالاشعة تحت الحمراء التي للطريق. والبومة تستطيع ان تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل. ونحن نقلب الليل نهاراً باحداث اشعاع في تلك المجموعة التي نسميها بالضوء..

ان عمليات عينك تلقي صورة على الشبكية، فتنظم العضلات العدسات بطريقة الية إلى بؤرة محكمة، وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة، هي في مجموعها ليست اسمك من ورقة رفيعة. والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من اعواد ومخروطات، ويقال ان عدد الاولى ثلاثون مليون عود، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت هذه كلها في تناسب محكم، بعضها بالنسبة إلى بعض، وبالنسبة إلى العدسات، ولكن العجب انها تدير ظهورها للعدسات، وتنظر نحو الداخل لا نحو الخارج. واذا استطعت ان تنظر في خلال العدسات، فانك ترى عدوك مقلوب الوضع، والجانب الايمن منه هو الايسر. وهذا امر يربكك إذا حاولت ان تدافع عن نفسك، ولذا فان الطبيعة قد عرفت بطريقة ما ماذا سيحدث، ولذا اجرت ذلك التصميم قبل ان تقدر العين على الابصار، ورتبت اعادة تنظيم كاملة عن طريق ملايين من خويطات الاعصاب المؤدية إلى المخ. ثم رفعت مدى ادراكنا الحسي من الحرارة إلى اللضوء، وبذا جعلت العين حساسة بالنسبة للضوء. وهكذا نرى صورة ملونة للعالم من الجانب الايمن إلى فوق، وهو احتياط بصري سليم. وعدسة عينك تختلف في الكثافة، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة. ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة في جنس واحد كالزجاج مثلا. وكل هذه التنظيمات العجيبة العدسات والعيدان والمخروطات والاعصاب وغيرها. لابد انها حدثت في وقت واحد، لانه قبل ان تكمل كل واحدة منها، كان الابصار مستحيلا. فكيف استطاع كل عامل ان يعرف احتياجات العوامل الأخرى ويوائم بين نفسه وبينها؟

ان المحار العادي الذي تأكل عضله، له عيون عدة تشبه عيوننا كثيرا، وهي تلمع، لان كل عين منها لها عاكسات صغيرة لا تحصى، ويقال انها تساعدها على رؤية الأشياء من اليمين إلى فوق. وهذه العاكسات غير موجودة في العين البشرية. فهل رتبت المحار تلك العاكسات لانه لا يملك كالإنسان قوة ذهنية؟ ولما كان عدد العيون في الحيوانات يتراوح بين اثنتين وعدة الاف، وكلها مختلفة، فلا ريب ان الطبيعة كانت تلتقي مشقة كبيرة في احكام علم المرئيات، اللهم إلا إذا وجدت عونا من الخالق! ان نحلة العسل لا تجذبها الازهار الزاهية كما نراها، ولكنها تراها بالضوء فوق البنفسجي الذي يجعلها أكثر جمالا في نظرها. وفيما بين اشعة الاهتزازات البطيئة واللوحة الفوتوغرافية وما وراءها، عوالم من الجمال والبهجة والالهام، بدأنا نقدرها ونسيطر عليها. فلنأمل ان ياتي علينا يوم نستطيع فيه ان نستمتع بعالم الضوء عن طريق النبوغ في الابتكار. وها نحن اولاء قد اصبحنا قادرين على ان نكتشف اهتزازات الحرارة في كوكب بعيد، ونقيس طاقتها. ان العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الاحجام في المشط الذي يستخدم في التربية. وتعد الحجرات الصغيرات للعمال، والأكبر منها لليعاسيب (¬1) ، وتعد غرفة خاصةى للملكات الحوامل. والنحلة الملكة تضع بيضا غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكر، وبيضا مخصبا في الحجرات الصحية المعدة للعاملات الاناث والملكات المنتظرات. والعاملات اللائي هي اناث معدلات بعد ان انتظرن طويلا مجيء الجيل الجديد، تهيأن أيضاً لاعداد الغذاء النحل الصغيرة بمضغ العسل واللقح، ومقدمات هضمه، ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والاناث، ولا يغذين سوى العسل واللقح. والاناث اللائي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات. ¬

_ (¬1) - اليعسوب: هو الذكر من النحل.

أما الاناث اللائي في حجرات الملكة، فان التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر عندهن. وهؤلاء اللائي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورون إلى ملكات نحل، وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضا مخصبا، وعملية تكرار الانتاج هذه تتضمن حجرات خاصة، وبيضا خاصا، كما تتضمن الاثر العجيب الذي لتغيير الغذاء. وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف اثر الغذاء، وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة، وتبدو ضرورية لوجودها، ولابد ان المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية، وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة. وعلى ذلك فيبدو ان النحل قد فاق الإنسان معرفة تاثير الغذاء تحت ظروف معينة. والكلب بما أوتي من انف فضولي، يستطيع ان يحس الحيوان الذي مر. وليس ثمة أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه، ونحن لا نكاد ندري اين نبدا لنفحص امتدادها. ومع هذا فان حاسة الشم الخاصة بنا هي على ضعفها قد بلغت من الدقة انها يمكنها ان نتبين الذرات الميكروسكوبية البالغة الدقة. وكيف نعرف اننا نتأثر جميعا نفس التأثر من رائحة بعينها؟ الواقع اننا لا نتأثر تأثرا واحدا. كذلك حاسة الذوق تعطي كلا منا شعورا مختلفا عن شعور الاخر. والعجيب ان اختلافات الاحساس هذه هي ورائية! وكل الحيوانات تسمع الاصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا، وذلك بدقة تفوق كثيرا حاسة السمع المحدودة عندنا. وقد اصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله ان يسمع صوت ذبابة تطير على بعد اميال كما لو كانت فوق (طبلة) أذنه، ويستطيع بمثل تلك الأدوات ان يسجل وقع شعاع شمس.

ان جزءا من أذن الإنسان هو سلسلة من نحو اربعة آلاف حنية (قوس) دقيقة معقدة، متدرجة بنظام بالغ، في الحجم والشكل. ويمكن القول بان هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية، ويبدو انها معدة بحيث تلتقط، وتنقل إلى المخ، بشكل ما، كل وقع صوت أو ضجة، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الاوركسترا، ووحدتها المنسجمة، لو كان المراد عند تكوين الاذن ان تحسن خلاياها الأداء، كي يعيش الانسان، فلماذا لم يمتد مداها حتى تصل إلى ارهاف السمع؟ لعل (القوة) التي وراء نشاط هذه الخلايا قد توقعت حاجة الإنسان في المستقبل إلى الاستماع الذهني ام ان المصادفة قد شاءت تكوين الاذن خيرا من المقصود؟ ان احدى العناكب (جمع عنكبوت) المائية تصنع لنفسها عشا على شكل منطاد (بالون) من خيوط بيت العنكبوت وتعلقه بشيء ما تحت الماء، ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر تحت جسمها، وتحملها إلى الماء ثم تطلقها تحت العش ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش، وعندئذ تلد صغارها وتربيها، آمنة عليها من هبوب الهواء. فها هنا نجد طريقة النسج، بما يشعله من هندسة وتركيب وملاحة جوية. ربما كان ذلك كله مصادفة.. ولكن ذلك لا يفسر لنا عمل العنكبوت! وسمك (السلمون) الصغير يمضي سنوات في البحر، ثم يعو إلى نهره الخاص به، والأكثر من ذلك انه يصعد جانب النهر الذي يصب عنده النهر الذي ولد فيه. وقد تكون قوانين الولاية الأمريكية التي على أحد جانبي النهر صارمة وقوانين الولاية التي على الجانب الاخر غير صارمة، ولكن هذه القوانين إنما تسري على السمك الذي يمكن ان يقال عنه انه يخص جانبا دون الآخر.. فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد؟ ان سمكة (السلمون) التي تسبح في النهر صعدا، إذا نقلت إلى نهير آخر، ادركت توا انه ليس جدولها، فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر، ثم تحيد ضد التيار قاصدة إلى مصيرها.

وهناك لعز اصعب من ذلك، يتطلب الحل، وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا السلك، فان تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها، هاجرت من مختلف البرك والانهار، واذا كانت في أوروبا قطعت آلاف الأميال في المحيط، قاصدة كلها إلى الاعماق السحيقة جنوبي برمودا، وهنا تبيض وتموت. اما صغارها – تلك التي لا تملك الوسيلة نتعرف بها أي شيء سوى انها في مياه قفزة – فانها تعود ادراجها وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها، ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة، ولذا يظل كل جسم من الماء آهلا بثعابين البحار لقد قاومت التيارات القوية وثبتت للامداد والعواصف، وغالبت الامواج المتلاطمة على كل شاطئ، وهي الآن يتاح لها النمو، حتى إذا اكتمل نموها، دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد ان تتم المرحلة كلها. فمن أي ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك؟ لم يحدث قط ان صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الاوروبية، أو صيد ثعبان ماء اوروبي في المياه الامريكية. والطبيعة تبطئ في انماء ثعبان الماء الاوروبي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها. ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معا في ثعبان ماء، يكون لها حاسة التوجيه، وقوة الارادة اللازمة للتنفيذ؟ ويبدو ان الحيوانات لها القدرة على تبادل الشعور. ومن ذا الذي يرقب طائر الطيطوي (او زمار ال؟؟؟) ولم يعجب به، وهو يحلق في الجو، ويدور، حتى تطير كل وطيور ذوات الصدر الابيض في اشعة الشمس في وقت واحد؟ واذا حملت الريح فراشة انثى من خلال نافذة إلى علية بيتك، فانها لا تلبث ان ترسل اشارة خفية، وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة ولكنه يتلقى تلك الاشارات ويجاوبها مهما احدثت انت رائحة بمعملك لتضليلهما. ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة اذاعة، وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي فضلا عن السلك اللاقط للصوت (إيريال) ؟ أنراها تهز الاثير فهو يتلقى الاهتزاز؟

والجندية (النطيط) الامريكية KATYDID تحك ساقيها أو جناحيها معا، فيسمع صريرها هذا في الليلة الساكنة على مسافة نصف ميل. انها تهز بها سمائه طن من الهواء وتنادي رفيقها. والفراشة التي تعمل في عالم آخر من عوالم الطبيعة، وفي سكوت ظاهر، تنادي أيضاً مثل ذلك النداء المجاب! وقبل ان يكتشف الراديو، كان العلماء يقولون ان الرائحة هي التي تجذب الفراش الذكر إلى أنثاه، وسواء اكان هذا ام ذاك، فانها معجزة، لان لابد للرائحة ان تمضي في كل اتجاه، مع الريح أو بدونها، وفي هذه الحالة يكون على الفراش الذكر ان يتبين هباءة (ذرة) ، وان يعرف الاتجاه الذي جاءت منه. ونحن الآن نتخذ عدة هائلة لنكتسب مثل هذه القدرة على الاتصال معا، وسوف ياتي الويم الذي ينادي فيه الشاب حبيبته على بعد، دون أداة ميكانيكية، فتجاوبه، ولن يعوقهما حاحز أو رتاج. ان التليفون والراديو هما من العجائب الآلية، وهما يتيحان لنا الاتصال السريع، ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان. وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة، وليس لنا إلا ان نحسدها على ذلك، حتى تبتكر عقولنا راديو فردياً. وعندئذ نكتسب القدرة على (انتقال الفكر) من بعض الوجوه. والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم. كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى اخرى، والرياح، وكل شيء يطير أو يمشي ليوزع بذوره. واخيرا قد أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ، فقد حسن الطبيعة، وجازته بسخاء، غير انه شديد التكاثر حتى اصبح مقيدا بالمحراث. وعليه ان يبذر، ويحصد، ويخزن، وعليه ان يربي ويهجن، وان يشذب، ويطعم. واذا هو اغفل هذه الاعمال، كانت المجاعة نصيبه، وتدهورت المدنية، وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية.

والطيور التي تؤخذ صغيرة من أعشاشها، تصنع لنفسها حيت تكبر اعشاشا على نمط نوعها، وللعادات المتوارثة جذور عميقة في ظلمات القدم، فهل هذه الاعمال نتيجة المصادفة أو نتيجة اعداد حكيم؟ ان في هذا الكفاية لاظهار قوة العادة الوراثية التي نسميها بالغريزة. ومن بين جميع الكائنات الحية التي جابت نواحي الارض، لا نجد احدا منها حاز من قوة التعليل مثل ما حازه الانسان. فهناك بقاء في الحياة بفضل الضبط، وهناك فناء لان الضبط قد تخلى الحد اللازم. ولكن الإنسان وحده هو الذي نمى معرفته بالارقام. ولو ان احدى الحشرات عرفت عدد سيقانها، لما امكنها ان تعرف عدد سيقان اثنين من نوعها، فان ذلك يتطلب قوة تعليل. وكثير من الحيوانات هي مثل سرطان البحر LOBSTER الذي إذا فقد مخلبا، عرف ان جزءا من جسمه قد ضاع، وسارع إلى تعويضه باعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة ومتى تم ذلك كف الخلايا عن العمل، لانها تعرف بطريقة ما ان وقت الراحة قد حان. (وكثير الارجل) المائي إذا انقسم إلى قسمين: استطاع ان يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين، وأنت إذا قطعت رأس (دودة الطعم) تسارع إلى صنع راس بدلا منه. ونحن نستطيع ان ننشط التئام الجروح ولكن متى يتاح للجراحين ان يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعا جديدة، أو لحما، أو عظاما، أو أظافر، أو اعصابا – إذا كان ذلك حقا في حيز الامكان؟ وهناك حقيقة مدهشة تلقى بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد: فان الخلايا في المراحل الاولى من تطويرها إذا تفرقت، صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل. ومن ثم فانه إذا انقسمت الخلية الاولى إلى قسمين، وتفرقه هذان، تطور منهما فردان. وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين، ولكنه يدل على أكثر من ذلك، وهو ان كل خلية في البداية يمكن ان تكون فردا كاملا بالتفصيل، فليس هناك شك اذن في انك أنت، في كل خلية ونسيج.

وقد أشار المزمور 139 – 14 / 16 من مزامير داود في بساطة، إلى الطريقة العجيبة التي يمكن بها خلية أن تتطور إلى كائن مفرد، إذ ورد فيه ما يأتي: أحمدُكَ من أجلِ أني قد امتزتُ عجبا. عجيبةٌ هيَ أعمالك ونفسي تعرفُ ذلك يقيناً. لم تختفِ عنك عظامي حينما صُنعتْ في الخلفاء ورُقمت في أعماق الأرض. رأت عيناكَ أعضائي، وفي سفركَ كلّها كتبتْ يوم تصورتْ، إذ لم يسكن واحدٌ منها. وفي الامكان ان نملأ صفحات عدة بعجائب الاحساس التي لا تزال فوق ادراكنا، ولكن هذه الامثلة تكفي تماما لان تدلنا على أننا لا يزال امامنا الكثير لتعلمه، والى ان يتكون لدى الإنسان حواس جديدة، أو إلى ان يضاهى الحيوانات بالاجهزة التي يخترعها حتى يكتسب مثل كفاياتها الخاصة، فان أمامه طرقا طويلة للتطور. ان كل كفاية يملكها الحيوان ولا نملكها نحن، إنما هي تحد لذكائنا، ونحن لا تزال ناقصي العلم حتى نستطيع الاجابة عن ذلك التحدي. اننا حتى الآن لا نقدر ان نفهم الغريزة، ولا نقدر ان نضع قواعد عامة ونحن مطمئنون على اساس معرفة ناقصة، والى أن نملك كل حاسة كسبتها الكائنات الحية، فاننا سنبقى عاجزين عن ادراك الارتباط الحقيقي الذي بين قوانين الطبيعة، وسنظل نبحث في اللانهائية يفهم جزئي. ان التطور الروحي للإنسان هو الآن في البداية. والقبس الالهي قد بدأ يسيطر في بطء على عقله المادي. واخطاء الانسان، التي تصل به إلى هلاك نفسه بيده، إنما هي مآسي طفولته. وزماننا إذا قيس بالأزلية الماضية والأبدية المستقبلة لا يزيد على دقة الساعة، غير ان الروح التي بنا، هي ملك لهذه وتلك. ونحن إذا فكرنا في الفضاء الذي لا يفتأ يمتد أمامنا، وفي الزمن الذي لا بداية له ولا نهاية، وفي الطاقة المقيدة والمحبوسة في الذرة، وفي الكون الذي لا حد له بعوامله التي لا تحصى ونجومه التي لا تعد، وفي الاهتزازات التي نسمها بالضوء والحرارة والكهرباء والمغناطيسية، وفي النشاط المستمر للنجوم، وفي الجاذبية وسيطرة القوانين الطبيعية على العالم، إذا فكرنا في ذلك كله، أدركنا أننا لا نعرف في الحق إلا قليل. فالى أي حد يجب ان يتقدم الانسان حتى يدرك تماما وجود الخالق الاعلى، ويحاول ان يرتفع إلى اعلى ما يستطيع بلوغه من الفهم، دون ان يحاول تفسير حكمة الله ومقاصده أو بصف الصفات التي له تعالى؟

الفصل التاسع: تطور العقل

الفصل التاسع: تطور العقل مما يدعو إلى أشد العجب انه في أنواع الحياة الحيوانية التي لا تحصى – سواء أبقيت الحيوانات ام انقرضت – لسنا نجد عندها أي مظهر للعقل، ولكنا نجد الغرائز وحدها حتى نصل إلى الانسان، فتراه قد استأثر بالعقل وحده. ان أي حيوان لم يسجل لنفسه قدرة على تربيع حجر، أو العد لغاية عشرة، أو فهم معنى عشرة! في خليج الخلق، قد اتيح لكثير من المخلوقات ان تبدى درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري. فالزنبور مثلا يصيد الجندب (النطاط) ويحفر حفرة في الأرض، ويحز الجندب في الكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه، ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ. وانثى (الزنبور) تضع بيضا في المكان المناسب بالضبط، ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها ان تتغذى دون ان تقتل الحشرة التي هي غذاؤها فيكون ذلك خطرا على وجودها، ولا بد ان (الزنبور) قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما، والا ما بقيت زنابير على وجه الأرض. والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية، ولكنها مع ذلك لا يمكن ان تنسب إلى المصادفة!

ان أنثى (الزنبور) تغطي حفرة في الأرض، وترحل فرحا، ثم تموت. فلا هي ولا أسلافها قد فكرن في هذه العملية، ولا هي تعلم ماذا يحدث لصغارها، أو ان هناك شيئا يسمى صغارا.. بل انها لا تدري انها عاشت وعملت لحفظ نوعها. والنحل والنمل يبدو انها تدرك كيف تنظم وتحكم نفسها، فلها جنودها، وعمالها، وعبيدها، ويعاسيها (¬1) . ولكنك إذا التقطت قطعة كهرمان على شاطئ البلطيق، فقد تجد بها نملة محبوسة منذ دهور لا تعد. وستجدها نسخة طبق الاصل من النمل الموجود الان. فهل وقف التطور عن سيره حين طوبق بين النملة وبيئتها في الطبيعة؟ وهل كان ذهن النملة الصغيرة، اداة أشد ضالة من أن تضطلع بغرض أكبر، لا شك ان النملة بوصفها اصبحت حشرة اجتماعية، قد تعلمت الكثير، ويبدو انها تطبق النظرية العجيبة القائلة (أعظم خير لأكثر عدد) ، وانها تضل بها إلى نهايتها المنطقية، كما فعل بعض أهإلى الهند الشرقية من الجيل الأخير. ¬

_ (¬1) - قال الامام على كرم الله وجهه في وصف النملة (من كتاب نهج البلاغة) : (انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على ارضها وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتعدها في مستقر لها، تجمع في حرها لبردها، وفي ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في الصفا اليابس، والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها، في علوها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا.. فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطراته فاطر، ولم يعته في خلقها قادر) . (المترجم) .

وفي بعض أنواع النمل، ياتي العملة منه بحبوب صغيرة لاطعام غيرها من النمل من خلال فصل الشتاء. وينشئ النمل ما هو معروف (بمخزن الطحن) ، وفيه يقوم النمل الذي اوتي أفكاكا كبيرة معدة للطحن، باعداد الطعام للمستعمرة، وهذا هو شاغلها الوحيد. وحين ياتي الخريف، وتكون الحبوب كلها قد طحنت، فان (أعظم خير لأكبر عدد) يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام، وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان، فان جنود النمل ثقتل النمل الطاحن الموجود، ولعلها ترضى ضميرها الحشري بان ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي إذا كانت له الفرصة الاولى في الافادة من الغذاء اثناء طحنه. وهناك انواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير (واختر منها ما يحلو لك) ، إلى زرع اعشاش للطعام فيما يمكن تسمية (بحدائق الاعشاش) وتصيد انواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق (¬1) . فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها، ومنها ياخذ النمل افرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما لها. والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها. وبعض النمل حين يصنع أعشاشه، يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب، وبينما يضع بعض عملة النمل الاطراف في مكانها، تستخدم صغارها – التي وهي في الطور اليرقي تقدر ان تعزل الحرير – لحياكتها معا. وربما حرم طفل النمل فرصة عمل شرنقة لنفسه ولكنه قد خدم الجماعة. فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة، ان تقوم بهذه العمليات المعقدة؟ لا شك ان هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك. ¬

_ (¬1) - Aphid هي الأرقة وجمعها الأرق. وهي حشرات صغيرة آفة الندوة العسلية. (المترجم)

ان الإنسان وحده هو الذي أوتي عقلا بلغ من التطور انه يستطيع ان يفكر به تفكرا عاليا. والغريزة ليست إلا كنغمة واحدة من الناي. نغمة جميلة ولكنها محدودة. في حين ان العقل البشري يحتوي كل الانغام التي لكل الآلات الموسيقية في أوركسترا. والإنسان يمكنه ان يوفق بين تلك الأنغام جميعها، وان يقدم للعالم قطعا موسيقية متحدة النغم (سيمفونيات) تدنو من الاعجاز. إلى ان خلق الانسان، لم تخرج العناية الالهية كائنا حيا من بين الصخور الفطرية، وله عقل مرن كعقل الانسان. والان يمكننا ان نتصور امكان تلقي الإنسان قبسا من نور الله يجعله سيداً على الأرض، عجيبا في مقدرته، باقيا في مصيره ان التطور لابد له، طبقا لكل قانون من قوانين الطبيعة، والكيميا، من ان يقصر اقصى حدوده على أكثر ما يمكن من المطابقة البيئة. يقال ان جمال ريش أحد الطيور انما هو اظهار للجاذبية الجنسية، وبذا يمكن تفسيره، ولكن الرسم الجميل ليس ضرورياً لوجود الانسان، وان تكن المرأة الجميلة لازمة لهذا الوجود.. ان المادة، كالذرات والصخور والماء، قد تتحد، واذا نفخت فيها الحياة، فقد تتطور إلى انسان. ولكن ايمكن هذه العناصر، بعد إذ أتمت المطابقة الكاملة للبيئة الطبيعية، ان تقطع مرحلة اخرى، وتنتج رجلا موسيقيا يستطيع ان يكتب الأنغام الموسيقية (النوتات) على الورق، ويسجل تناسقها البديع، ويصنع بيانو، ويخلب الباب الجمهور المستمع، ويدع موسيقاه تسجل على أقراص من البلاستيك، وتذاع حول العالم عن طريق وسيط يسمى (الأثير) ولا تعرف الذرات شيئا عنه سوى انها توجد فيه أو بوساطته؟ ان بعض أنواع الحيوانات تتعاون في جهودها، فهي لاتصطاد إلا في جماعات، وهي تجمع غذاءها وتخزنه للمستقبل، وهي تضاعف جهودها الفردية بطرق شتى بفضل العمل المشترك، ولكنها لا يبدو انها تخطو خطوة واحدة بعد ذلك.

أما الإنسان فانه من جهة أخرى قد شيد الاهرام بمضاعفة القوة الفردية، ولكنه كذلك اكتشف الرافعة والطنبور، والعجلة، والنار. وقد جعل حيوانات الحمل مستأنسة، وأضاف اليها عجلته، وبذا أطال في ساقيه، وقوى من ظهره. وقد تغلب على قوة سقوط الماء، وتحكم في البخار والغاز، والكهربا، وحول العمل اليدوي إلى مجرد السيطرة على الاجهزة الميكانيكية التي هي من مستحدثات عقله. وهو في انتقاله من مكان إلى مكان، قد فاق الظبي في سرعته، وحين ركب اجنحة لعربته، قد سبق الطيور في طيرانها، فهل حدث ذلك كله عن طريق تفاعل في المادة وقع مصادفة؟ والجمال يبدو ملازماً للطبيعة، وجمال السحب، وقوس قزح، والسماء الزرقاء، والبهجة الرائعة التي تملا نفس الناظر إلى النجوم، والى القمر في طلوعه، والشمس في غروبها، والى روعة الظهر الفائقة، كل ذلك يهز مشاعر الإنسان ويسحره. وتحت الميكروسكوب تجد أصغر حيوان وأدق زهرة، تزينها خطوط من الجمال محكمة الصنع. والخطوط البلورية التي للعناصر والمركبات، من ندفة الثلج إلى الاشكال الأصغر منها، إلى ما لا نهاية، هي مصادفة لدرجة مدهشة، حتى ان الفنان ليس بوسعه إلا اني يقلدها أو يجمعها معا. وكل ورقة من أوراق كل شجرة سليمة مشكلة في أكمل شكل، وتخطيط كل نبات يعمل بصفة فردية، وبخطوط فن أصيل، والازهار مشكلة برشاقة وبتنظيمات كاملة، وتخطيطها وفق تصميمات صحيحة، والوانها موزعة بشكل مدهش، ومن النادر، ان لم يكن من المحال، ان تختلط معاً. والحيوان الكامل هو شيء جميل، وحركاته مملوءة بالسهولة والرشاقة. وحينما تطور مخلوق عن طريق المطابقة الضرورية البيئة والوقاية، وبدا غير متناسب الشكل، فانه يبدو فريدا في نوعه حتى ليحسبه الناظر اليه تعبيرا فنيا عن احدى المضاحك.

ان الوادي الاخضر، والنهر والاشجار الباسقة، والصخور، والجبال التي يجلل قممها الثلج – كل أولاء تحدث في النفس اثرا عميقاً. وان الإنسان ليستمد البهجة من رؤية كثبان الرمال الفسيحة الممتدة في الصحراء. وان التتابع الفاخر لأمواج المحيط، وتلاطمها على أرض الشاطئ، وتحليق الطيور في الجو. سواء فوق البحر أو على طول الشاطئ أو في الغابة مع ألوانها المكيفة، كل اولاء تتحدى من له عين يرى بها، وعقل يقدر به. وان حركات السمك، وتموجات حشائش البحر في نعومة تحت سطحه، لتملأ نفس الإنسان بشعور من الإنسجام يستجيب إلى تشوقه. والطبيعة إذا لم تنلها يد النشوية، تبدو كأنها أعدت لكي تستدر اسمى الشعور في نفوسنا، وتلهمنا الاعجاب بصنع الخالق الذي وهبنا نعمة الجمال، تلك التي لا يدركها بكل كمالها غير الانسان! والجمال هو الذي يرفع الإنسان وحده إلى مرتبة يكون فيها اقرب إلى الله. ويبدو ان (الغاية) جوهرية في جميع الأشياء، من القوانين التي تحكم الكون، إلى تركيبات الذرة التي تدهم حياتنا، واذا لم يكن التطور من غرض سوى اعداد أساس مادي لتلقي الروح، فان هذه غاية مدهشة في حد ذاتها. واذا كانت حقيقة الغاية مقبولة بالنسبة لكل الاشياء، واذا آمنا بان الإنسان هو أهم مظهر لتلك الغاية، فان الاعتقاد العلمي بان جسم الإنسان وجهاز مخه ماديان، قد يكون سليما. فان الذرات والهباءات في المخلوقات الحية تفعل افعالا مدهشة، وتبني اجهزة عجيبة، ولكن هذه الأدوات عديمة النفع ما لم يحركها العقل حركات ذات غرض. فهناك اذن خالق الكون لا يرقى اليه تفسير العلم، ولا يقدر ان ينسبه إلى المادة.

والسيتوبلازم (¬1) هي تلك التركيبات الكيموية العجيبة التي تحيط بالاثنتين. وتبلغ (الجينات) (وحدات الوراثة) من الدقة انها – وهي المسئولة عن المخلوقات البشرية جميعا التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية واحوالها النفسية وألوانها وأجناسها – لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد، لكان حجمها أقل من حجم (الكستبان) . وهذه الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتيح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات. و (الكستبان) الذي يسع الصفات الفردية لبليونين من البشر. هو بلا ريب مكان صغير الحجم. ومع ذلك فان هذه هي الحقيقة التي لا جدال فيها. فهل هذه الجينات والسيتوبلازمات تحبس كل الصفات المتوارثة العادية لجمع من الأسلاف، وتحتفظ بنفسية كل فرد منهم، في مثل تلك المساحة الضئيلة؟ وما هو المحبوس هناك؟ كتاب تعليمات؟ صف من الذرات؟ ¬

_ (¬1) - السيتوبلازم Cytoplasm هي المادة البروتوبلازمية التي حول نواة الخلية. (المترجم)

ان الجنين EMBRYO وهو يخلص في تطوير التدريجي من النطفة (البروتوبلازم) إلى الشبه الجنسي، انما يقص تارخا مسجلا، قد حفظ وعبر عنه بالتنظيم الذري في الجينات والسيتوبلازم، حتى ان الأم التي غذت الجنين منذ حملت به ليس لها كبير نفوذ، لأن الجينات هي التي تقرر: هل الطفل سيشبه أباه أو امه؟ وليس هناك دليل على ان هذا الشبه تقرره البيئة السابقة للولادة، والتطور يحتاج عادة إلى فترات طويلة من الزمن حتى يستقر كل تغيير. انما عملية يراد منها العمل على بقاء الجنس وتشابهه. وهو يصل إلى درجة الكمال بحلول الروح. والخالق عزوجل قد رتب ذلك ونظمه، فهو لا يسرع بهذه العملية لان الإنسان لا يفهمها أو لانه خلق عجولا. والتطورات الجديدة تتوقف على الخواص الموجودة وعلى وجود بيئة ملائمة. فالمصادفة والحادث اذن ليس لهما سوى قليل دخل في التطور، إلا من حيث الاختلافات التي بين الوالدين، التي تحد بالفوارق التي تورث وقتئذ.

وانت اذا بدأت بفراشة، فانك لم تحل على يسروع CATERPILLAR. واليسروع ياكل بنهم وينمو حتى ينضج، ثم يلف نفسه براحة في رداء بعضه من الحرير، ويصبح شرنقة. ومعظم انسجة الجسم تنحل إلى خلايا وتصبح مزيجا. ولم يكتشف أي شخص قام بتحليلها ان جزءا منها مختلف عن الاخر، كما انه لا يقدر ان يفرق بين هذا المزيج. وفي الوقت المناسب تبحث كل خلية في الشرنقة عن صلتها المناسبة، وتتحول الشرنقة إلى مخلوق جديد ذي حياة، وله كل الاعضاء الطبيعية اللازمة للوجود، وله القدرة على ان ينتج من جديد نصف الطبيعة المعقدة ليعسوب جديد، وفي الوقت المناسب تنفتح الشرنقة، فياتي إلى العالم مخلوق بديع يعرف باسم (الفراشة) ، وأجنحتها الرقيقة مصنوعة من انابيب تصب فيها دمها. وينتفخ الجناح ويصح أداة للطيران. وحين تطير الفراشة في الهواء لكل ألوانها الباهرة ترى بالميكروسكوب ان اجنحتها مغطاة بقشرة تشبه الريش وان كل بقعة حمراء أو سمراء أو خضراء، اوصفراء، هي في مثل المكان الذي كانت فيه على الفراشة الاصلية. وترقيطها بشبه ترقيط ابويها من كل الوجوه، إلى حد ميكروسكوبي تقريباً. فما هي قوة التوجيه هذه التي (للجينات) ؟ انها تتحكم في الخلايا، والخلايا تطيعها مثل طاعة الجند لرؤسائهم. والنتيجة تكون صحيحة من حيث التناسخ التفصيلي العام مثل حل مسألة حسابية. واللون يقال عنه انه ناشئ من كون مواد معينة تتشرب كل الاشعة من أطوال موجة معينة، تاركة الباقي لينعكس، وموجات الضوء هي كبيرة جدا نسبيا، لانها تجري من ثلاثة وثلاثين ألفا إلى ستة وثلاثين ألفا من البوصة الواحدة، في حين ان الموجات الأخرى أو الأشعة تجري من أميال للراديو إلى عشرة ملايين أو أكثر من البوصة للأشعة فوف البنفسجية.

ولا ندري ماذا نكتشف بعدئذ في المستقبل. وهناك فراشات معينة في المناطق الحارة اجنحتها مغطاة بقشر مكون بعضه من ألواح جد رقيقة من مادة شفافة. وينفذ الضوء وينعكس بلون أزرق جميل كما قد تراه أحيانا بين ألوان عين الهر (¬1) ولو حدث تغيير بمقدار جزء من عشرة آلاف جزء من البوصة، في سمك غشاء الجناح الذي للفراشة، لتغيير ذلك الضوء أو ذهب كلية. ان (الجينات) ترتب الامور، بحيث لا يحدث تغيير على مدى الف جيل! ويستطيع الإنسان ان يغير (الجينات) باستخدام الراديوم والاشعة الاخرى، وياتي ذلك بذباب عديم الاجنحة ونمل مشوه، وشواذ مدهشة عديدة، وقد يستطيع العلماء يوما ما ان يحسنوا من صنع الطبيعة، ولكنهم حتى يتم لهم ذلك، يكسبون معرفة قيمة، تؤدي إلى تقدم علوم الاحياء، والطب، والطبيعة. ومن المعروف الآن ان الحياة كلها تاتي من خلية واحدة، وليس ثمة من دليل يؤيد ايه نتيجة اخرى. ويلاحظ ان جميع طوائف الكائنات الحية منفصل بعضها عن بعض بهوات سحيقة لا يمكن عبورها. حتى ان الحيوانات المقاربة ينفصل بعضها عن بعض كذلك، وكثير منها لا تلبث ان تفقد القدرة على التهجين معا. فمثلا نسل الحمار والمهر هو بغل، ولكن لا يمكن ان توجد سلالة البغل. وكلما رجعنا إلى المنبع الاصلي للحياة نجد المواءمة مع البيئة أعم، حتى ليمكننا ان نتصور على الاقل، زمنا كانت فيه القدرة على مطابقة البيئة كاملة، وكانت الارض كما هي الآن لدرجة كبيرة، مأهولة بكائنات حية (كل منها من نوعه) .. ان السمك اللزيق CLAM والدول (الأخطبوط) OCTAPUS هما من الحيوانات الرخوة (الهلامية) ، ولكن انفصالهما بالمطابقة الموائمة هو إلى حد يصعب تصديقه. ¬

_ (¬1) - عين الهر أو الشمس Opal حجر كريم كثير الالوان. (المترجم)

ولما كانت هذه الانفصالات قد حدثت في بدايات الحياة فان كل مخلوق قد زاد مخصصه تدريجا، وفقد القدرة على العودة وعلى سرعة تكييف نفسه من جديد. ونظرا إلى ازدياد عدم المرونة، اصبح كثير من السلالات مندثراً، في حين بقيت الحياة بوجه عام ممكنة لغيرها. والإنسان حيوان من رتبة الطليعة، وتكوينه يشبه تكوين فصائل السيميا (¬1) . ولكن هذا الشبه الهيكلي ليس بالضرورة برهانا على اننا من نسل أسلاف سيميائية (من القرود) ، أو ان تلك القرود هي ذرية منحطة للانسان. ولا يستطيع أحد ان يزعم ان سمك القد COD قد تطور من سمك الحساس HADDOCK وان يكن كلاهما يسكن المياه نفسها، ويأكل الطعام نفسه، ولهما عظام تكاد تكون متشابهة. وانما يعني ذلك ببساطة انه في وقت ما عند بداية التكييف كانت هناك ضرورة متوازنة لتنظيم كل من النوعين. ان العلم يشير إلى ابهام يد الإنسان وقدرتها على الامساك بالعدد والاسلحة، ويعد ذلك أصلا لتقدم الانسان، وان ابهام القرد التي لا نفع لها، لهي برهان قاطع على ان ابهام الإنسان لا يمكن ان تكون قد جاءت من ابهام قرود (السيميا) التي تعيش على الاشجار، تلك الابهام المخصصة لهذه العيشة، ذلك لان الطبيعة لا تعيد أبدا تيسيرا قد فقد، والحصان الذي يجري الآن على اصبع شديدة التخصص، لا يمكنه ابدا ان يستعيد تلك الاصابع التي فقدها على كر الزمن. على اننا لا ينبغي لنا ان نشغل انفسنا بشكل جدي أكثر من اللازم، بما حدث لاسلافنا منذ مليوني جيل على الاقل. ومع هذا يبدو ان البحث عن (الحلقة المفقودة) سوف يتضح عبثه.. ¬

_ (¬1) - السيميا Simia فصائل الاورانجتان والغوريا والشمبانزى. (المترجم)

ان التهجين قد يبدو في الظاهر كخلق جديد قد تطور عن قصد، مثل الكلب السلوقي والكلب البكيني PEKINESE والكلب الصغير الافطس الأنف (بج PUG) ، وانها كلها كلاب، واذا ربيت بعناية تبقى على صفاتها المكتسبة، فانها ستظل كماهي الان. ولكنها لو عادت إلى حالة الطبيعة، فان هذه الكلاب التي عنى بتربيتها تعود في النهاية إلى فصيلتها الأصلية، وربما كان اصلها ذئبا، غير انها إذا كيفت تكييفا جيدا على البيئة التي وجدت فيها نفسها، ولم يتح لها التهجين، فانها قد تبقى كنوع جديد من الكلاب. وقد ربى الحمام بقصد احداث سلالات جديدة منه، وربما حدث ذلك منذ بدء التاريخ. فمنه الحمام الذي له ذيل كالمروحة FANTAILS، والحمام الهزاز، وهناك فلتات وربما شواذ، ولكن (الجينات) تنتظر كامنة في هدوء لتعيدها إلى طرازها الاول. ويمكنك ان تراها في طريق عودتها إلى اصلها. في أي شارع باحدى المدن، إذ تلحظ بها التخطيط المتشابه. والميل العام إلى الإنسجام النهائي في اللون. واننا نكره الهجين (اليزرمبط) بغرائزنا، ونشمئز من رؤية بقرة ذات خمس أرجل، أو ذات راسين، ولكنا نعجب بالرجل الوسيم، إلا إذا كانت تنقصه الاخلاق، وبالمرأة الجميلة، ولكن احب الناس الينا هي الام المتفانية في أبنائها.

ان (الجينات) جزء من خلايا الوراثة، غير ان خلايا الوراثة لا تشترك في التكوين العام للجسم، ولكنها منعزلة ولا تسهم في أي وجه من وجوه النشاط الأقل اهمية التي تقوم بها الكائنات الحية. ان هذه الخلايا تحفظ الشبه الكامل للنوع. ويبدو انها لا تتاثر بمسلك الوالدين، إلا ان سوء الخلق، أو المرض، أو الحوادث، قد تمدها بمواد جد فقيرة لتشتغل بها. ان الوالدين القويين، قد ينسلان اطفالا أقوياء، ولكن ذلك لانه كان كان هناك اسلاف أقوياء. ان الوالدين قد يمنحان طفلهما معبدا طبيعيا ليعيش فيه، أو قد يهانه (مباءة) لا تصلح مكانا لنفس خالدة، ان الابوة والامومة هما أعظم تبعة تقع على عاتق الانسان! والرجال لا تنمو لحاهم أقصل من قبل، لانهم يحلقونها، والقطط التي بلا ذيول في جزيرة (مان) لم تتطور هكذا هناك لان احدا قد قطع ذيل قطة، كلا، بل ان (جنية) ما GENE، خاصة بالذيل، قد فقدتها تلك القطط. ولكن على الرغم من هذه الكارثة، فان القطط اللاحقة قد نشأت صحيحة دون تلك (الجينة) . ان البيئة تحدث بالفعل تغييرات بطيئة في وجوه النشاط المناسبة (بالجينة) ، واذا كان التغيير لصالح، فان تلك التعديلات تستمر، والا فان المخلوق الذي اعتراه التغيير يبعد، لانه غير صالح لملاقاة الظروف. ان الكلب المكسيكي الحإلى من الشعر قد ينشأ صحيحاً في المنطقة المتجمدة، ولكن نسله سوف يموت من البرد. ان القائلين بنظرية التطور (النشوء والارتقاء) لم يكونوا يعلمون شيئا عن وحدات الوراثة (الجينات) ، وقد وقفوا في مكانهم حيث يبدأ التطور حقا، اعني عند الخلية، ذلك اليكان الذي يحتوي الجينات ويحملها.

لقد حل إلى الابد لغز ايهما جاء قبل الآخر: الدجاجة ام البيضة؟ انه لم يكن هذه ولا تلك بل جاءت قبلهما خلية اولية. والبيضة ليست إلا مجرد غذاء للجنين. وهي تحتوي تلك الخلية الفريدة التي لقيت عشيرها. وحين تتحد (الجنيات) التي بالخلايا، وتنقسم، فان هذه الجينات مع (السيتوبلازم) ترغم الآن على انتاج دجاجة تضع بيضة اخرى. والمادة على هذا الشكل، لا غاية لها، فليس لها غرض حتى في طاعتها الظاهرة للقانون، ولكن الحياة في كل مادة منظمة لها غرض محدود: هو تكوين شجرة، أو كرمة عنب أو فيل، أو انسان، في اتفاق تام مع خطة مرسومة محدودة بالجينات. والحياة ترغم على التناسل، لكي يبقى النوع، وهو دافع بلغ من القوة ان كل مخلوق يبذل اقصى تضحية في سبيل هذا الغرض: ففي بعض الانواع، كذباب مايو مثلا، تموت افراد كثيرة لفورها حين تتم هذه المهمة. وهذه القوة الالزامية لا توجد حيث لا توجد الحياة. فمن اين تنشأ هذه الدوافع القاهرة؟ ولماذا، بعد ان نشأت، تستمر ملايين السنين؟ انه قانون الطبيعة الحية، الذي يبلغ من القوة مبلغ تلك التركيبات الكيموية.. انه ياتي من ارادة الخالق.. ان الخلافات الجوهرية القائمة بين جميع المواد العنصرية التي لامنا الارض. وبين الكائنات ذات الحياة، هي انه بينما جميع العناصر قد تتحد، وتتبلور، وتتغير في المظهر، لا يوجد أي تغيير في الذرات، ولا علاقة محسوسة بينها. بل على العكس نجد الكائنات الحية تنظم كل العناصر في عدة تركيبات جديدة، لكل منها مجال للنشاط، وكلها تتنافس معا في جهودها لحفظ تلك الصلات الحية. وهذا التعاون الكامن الجاد يمتنع تماما إلا حيث توجد الحياة. وهو لم يقدر حق قدره مع انه قانون لا يقل عن قانون الجاذبية، ولا بد انه نبع من نفس المنبع. ان مثل هذه القوانين هو جزء من مشيئة الله تعالى، وليس انبعاثا من الفوضى!

لقد رأينا أن (الجينات) متفق على كونها تنظيمات اصغر من الميكروسكوبية للذرات، في خلايا الوراثة بجميع الكائنات الحية. وهي تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل شيء حي. وهي تتحكم تفصيلا في الجذر والجذع والورق والزهر والثمر، لكل نبات، تماما كما تقرر الشكل، والقشر، والشعر، والاجنحة لكل حيوان بما فيه الانسان. ان جوزة البلوط تسقط على الارض، فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة، وتندحرج في حفرة ما في الارض. وفي الربيع تستيقظ الجرثومة، فتنفجر القشرة، ويزود الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه (الجينات) : وهي تمد الجذور في الأرض، واذا بلت ترى فرخا أو شتلة (شجيرة) . وبعد سنوات شجرة! وان الجرثومة بما فيها من (جينات) قد تضاعفت ملايين الملايين. فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة، مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها. وفي خلال مئات السنين قد بقي في ثمار البلوط التي لا تحصى، نفس ترتيب الذرات تماماً الذي أنتج اول شجرة بلوط منذ ملايين السنين. لم تحمل شجرة بلوط قط قسطلا (أبافروة) ، ولم يلد أي حوت سمكة. وحقول القمح المتماوجة هي قمح في كل حبة من حبوبها. والحنطة هي الحنطة. والقانون يتحكم في التنظيم الذري (بالجينات) التي تقرر قطعا كل نوع من الحياة من البداية إلى النهاية. لقد قال هيكل HAECKEL (اعطني هواء ومواد كيموية ووقتا، وأنا أصنع أنساناً) (¬1) . ولكنه اغفل وحدات الوراثة (الجينات) ، وأغفل الحياة نفسها. لقد كان عليه – لو استطاع – ان يجد وينظم الذرات غير المرئية ووحدات الوراثة (الجينات) ويمنحها الحياة! وحتى في هذه الحالة كانت النتيجة، بنسبة ملايين إلى واحد، انه كان يأتي بوحش لا مثيل له. ولو انه نجح في ذلك لقال ان الامر لميكن مجرد مصادفة، ولكن ثمرة عقله!.. حقا ان الله يخلق معجزاته بأساليب تخفي على الاذهان! ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة الحج) (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، ان الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وان يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره ان الله لقوي عزيز) (المترجم)

الفصل الحادي عشر: أعظم معمل في العالم

الفصل الحادي عشر: أعظم معمل في العالم لقد القت كتب في فيزيولوجيا الهضم، ولكن كل عام ياتي باكتشافات جديدة، مدهشة في هذا الموضوع تجعله جديدا دائما، ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على انه عملية في معمل كيموي، والى الطعام الذي نأكله، على انه مواد غفل، فاننا ندرك توا أنه عملية عجيبة، إذ يهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها. فاولا نضع في هذا المعمل أنواعا من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه، أو تفكير في كيفية معالجة كيميا الهضم له! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب، والحنطة والسمك المقلي، وندفعها باي قدر من الماء، ثم نختمها بالخمر والخبر والفول. وقد نضيف إلى كل ذلك كبريتا وعسلا أسود، كدواء في الربيع.

ومن بين هذا الخليط، تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى اجزائه الكيموية، دون مراعاة للفضلات، وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة تصبح غذاء لمختلف الخلايا. وتختار اداة الهضم الجمر والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية وتعني بعدم ضياع الاجزاء الجوهرية، وبامكان انتاج الهرمونات، وبان تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة، ومستعدة لمواجهة كل ضرورة. وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الاخرى، للقاء كل حالة طارئة، مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله. اننا نصب هذه الانواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيموي، بصرف النظر كلية تقريباً عما تناوله، معتمدين على ما نحسبه علمية ذاتية (اوتوماتيكي) لابقائنا على الحياة. وحين تتحلل هذه الاطعمة، وتجهز من جديد، تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا، التي تبلغ من العدد اكثب من عدد الجنس البشري كله على وجه الارض. ويجب ان يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمراً، والا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج اليها تلك الخلية المعنية لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشر وعينين وأسنان كما تتلقاها الخلية المختصة.

فها هنا اذن معمل كيموي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتركه ذكاء الانسان، وها هنا نظام للتوريد اعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم، ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام! ومنذ الطفولة إلى سن الخمسين مثلا لا يخطئ هذا المعمل خطأ ذا بال، مع ان المواد نفسها التي يعالجها يمكن ان تكون بالفعل أكثر من مليون نوع في من الجزيئات MOLECULES، وكثير منها سام، وحين تصبح قنوات التوزيع متباطئة من طول الاستعمال، ينتابنا الضعف واخيرا يصيبنا الكبر!. ان الطعام الاصلي حين تستوعبه كل خلية، لا يزال مجرد طعام اصلي. ثم تصبح علمية كل خلية هي عملية احتراق وهي المسئولة عن حرارة الجسم كله. وانت لايمكنك أن تاتي احتراقا دون اشعال. بل يجب ان توقد اولا، ولذا تهيء الطبيعة تركيباً كيموياً صغيرا يشعل نارا مسيطرة عليها لاجل الأوكسجين والهيدروجين والكربون بكل طعام في كل خلية. وبذا تنتج الدفء اللازم، والنتيجة – كما هي في كل نار – هي بخار الماء وثاني اوكسيد الكربون والدم يحمل ثاني اوكسيد الكربون إلى الرئتين، وهو فيهما الشيء الوحيد الذي يجعلك تستنشق نسمات الحياة، والشخص ينتج نحو رطلين من ثاني اوكسيد الكربون في اليوم، ولكن هناك عمليات مدهشة تخلصه منه. وكل حيوان يهضم الطعام، ويجب ان ينال المواد الكيموية الخاصة التي يحتاج اليها بصفة فردية. وحتى في ادق التفاصيل تختلف المحتويات الكيموية في الدم، مثلا، بين كل نوع وآخر، ومن ثم توجد عملية تكوينية خاصة لكل نوع. وفي حالة العدوى بجراثيم معادية، يحتفظ الجهاز أيضاً بجيش قائم باستمرار ليلاقي الغزاة، وهو عادة يتغلب عليها ويحمي تكوين الإنسان من الموت المبكر. ومثل هذه المجموعة من المعجزات لايوجد، ولا يمكن ان يحدث باي حال، في غيبة الحياة. وكل ذلك يتم في نظام كامل، والنظام مضاد اطلاقا للمصادفة. اليس ذلك كله من صنع الخالق؟ اذن ذلك النظام هو قرين الحياة. ولكن ما هي الحياة؟

الفصل الثاني عشر: ضوابط وموازين

الفصل الثاني عشر: ضوابط وموازين ما اعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان، مهما يكن من وحشيته، أو ضخامته، أو مكره من السيطرة على العالم منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة غير ان الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر، وسرعان ما لقى جزاءه القاسي عن ذلك. ماثلا في تطورات آفات الحيوان والحشرات والنبات. والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الانسان: فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار CACTUS في استراليا، كسياج وقاتي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم اهإلى المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحان دون الزراعة. ولم يجد الأهإلى وسيلة لصده عن الانتشار وصارت استراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق! وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار وليس لها عدو يعوقها في استراليا. ما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار، ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الابد. وهكذا توافرت الضوابط والموزاين، وكانت دائما مجدية.

ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم، إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها، أو يكسبون مناعة منها؟ ومثل ذلك أيضاً يمكن ان يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك. كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة. ولماذا لم تتطور ذبابة (تسي تسي) حتى تستطيع ان تعيش ايضا في غير مناطقها الحارة، وتمحو الجنس البشري من الوجود؟ يكفي ان يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم تكن له منها وقاء حتى الامس القريب، وان يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية، ليعلم ان بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة! ان الاسماك والحشرات تبقى على قيد الحياة إذ يسري عليها قانون المصادفة، فان آلاف البيضات التي تضعها يفر بعضها من الموت الذي يكمن في كل مكان لمن لا وقاية له. وهذه الحقائق الغريبة التي للطبيعة تستحق الذكر، وان لم تكن بالضرورة ادلة حاسمة على وجود العناية الالهية. ولكن الإنسان قد بقى على قيد الحياة، وكذلك الحيوانات الرخوة، غير ان الإنسان كان أشد احتياجا إلى الترتيبات الوقائية، وقد زود بها‍‍. ان الحشرات ليست لها رئتان كما للانسان، ولكنها تتنفس عن طريق انابيب، وحين تنمو الحشرات وتكبر، لا تقدر تلك الأنابيت ان تجاريها في نسبة تزايد حجمها. ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا. وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها، لم يكن في الامكان وجود حشرة ضخمة. وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها، ومنعها من السيطرة على العالم. ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي، لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض. وتصور انسانا فطريا يلاقي زنبورا يضاهي الأسد في ضخامته، أو عنكبا (عنكبوتا) في مثل هذا الحجم.

ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات، والتي بدونها ما كان اي حيوان – بل كذلك اي نبات – يمكن ان يبقى في الوجود. غير ان هذه الحقائق قد بلغت من الاهمية العظمى بحيث يجب ذكرها. لقد تنبه العالم أخيرا إلى الحقيقة القائلة بان هناك أشياء تسمى بالفيتامينات. وامتناع هذه الفيتامينات يسبب أمراض البلاجرا والبري بري والاسقربوط. والأمراض المعروفة بأمراض نقص التغذية. ولا شك ان الإنسان قد عاش ملايين السنين دون ان يدري بوجود هذه المواد المراوغة الضرورية لبقائه على قيد الحياة. ولما كانت الأسفار البحرية الطويلة دون غذاء كاف تؤدي إلى مرض الاسقربوط، وقد وجد ان عصير الليمون ECUJ EMILIE هو علاج له، فقد كان ملاحو السفن الكبيرة في العهود الماضية يسمون (بعاصري الليمون) .. وكان اولئك الملاحون القدامى لا يعرفون سبب الاسقربوط. وانما اكتشف هذا الدواء البسيط الرحالة فاسكو دي جاما حين كان ملاحوه يموتون في مدغشقر. ولكن مضى قرن من الزمان أو أكثر حتى عرفت الصلة الوثيقة بين فواكه الموالح وانقطاع مرض الاسقربوط، وزال هذا المرض الفتاك من أعالي البحار. وانقضى كذلك قرن آخر أو أكثر ليدرك الإنسان قيمة الفيتامينات في فواكه الموالح، ولكنه لم يكن يعلم وقتئذ ما تحتويه هذه الفاكهة.

كذلك عاش الإنسان ملايين السنين قبل ان يعرف وظائف المعامل الكيموية الصغيرة المعروفو باسم الغدد الصماء، التي تمده بالتركيبات الكيموية الضرورية له ضرورة مطلقة، والتي تصنعها وتسيطر على وجوه نشاطه. وفضلا عن ذلك، فان تلك المواد التي بلغت من القوة ان جزءا من بليون منها يحدث آثارا بعيدة المدى، وهي مرتبة بحيث ينظم كل منها غيرها، ويضبطه ويوازنه. ومن المتفق عليه أنه إذا اختل توازن هذه الافرازات المعقدة تعقيدا مدهشا، فانها تحدث اختلالا ذهنيا وجسمانيا بالغ الخطر. ولوعمت هذه الكارثة لانتشرت المدينة وانحطت البشرية إلى حالة الحيوانات، هذا إذا بقيت على قيد الحياة. على اننا إذا اكدنا هذه الضوابط والموازين والقيود وحدها، التي بدونها تتوقف الحياة كما نعهدها، فان بقاء الإنسان على قيد الحياة يواجهنا بمسألة حسابية تستحق قدرا كبيرا من العناية عند انصار المصادفة.

والمياه المنحدرة من الانهار الجليدية في عصر الثلج قد خلقت طبقات من الصلصال تدل على كل سنة على حدة، وتنبئ بطريقة فجة عن مراتب درجات الحرارة التي كانت سائدة. كذلك الرواسب الكلسية المتدلية من سقوف الكهوف STALA??ES والأخرى التي تعلو ارضها باشكال مخروطية STALAGMITES تؤدي المهمة نفسها من مائة الف سنة أو تزيد، ولكنها لا تدر ي ماذا تفعل. والراديوم والرصاص يغيران نسبهما في الصخور الصلبة، ويدلان على بليون سنة من استقرار الارض، ناهيك بما قبل ذلك. والزمن بالنسبة لكل الكائنات الحية، هو شيء لا يدرك كنهه، لان الحياة لها مدادها، والفرد ينتهي وجوده، واي شيء حي في حالة طبيعية، لا يقيس الزمن في وعي منه، ولكن الزمن يقيس الكائنات الحية، ويسود اوجه نشاطها من ميلادها إلى نهايتها. وقد اتضح ان هناك شيئا يسمي الزمن البيولوجي (اي المختص بعلم الاحياء) . ويبدو ان الزمن يسير في بطء بالنسبة للاطفال، على حين يسير بسرعة فائقة بالنسبة لكبار السن. وهذه الظاهرة المعروفة قد وجد انها قائمة على دورة الحياة التي للخلايا، وقد يمكن التعبير عن ذلك بابسط طريقة بالقول بان خلايا كل مخلوق حي تتطور تطورا سريعا عند بدء الحياة، ثم تبطئ عند اقتراب نهايتها. واذا تكلمنا عن ذلك من الوجهة البيولوجية، قلنا ان كثرة حوادث الخلايا التي تحدث في الطفولة تشعر الطفل يطول الزم، في حين ان بطء نشاط الخلايا في الكبر، تشعر الإنسان بان الزمن يمر سريعا ويبدو ان دورات الحياة لا علاقة لها بالزمن المطلق الذي نقيسه بحركات الاجرام السماوية. ان الجرثومة (الميكروب) قد تتوالد في ساعة، والإنسان في عدة سنين، وذبابة (مايو) لا تستطيع قياس الزمن تحت الماء، ولكن كل جيل منها يعيش ساعة حياته السعيدة تحت الشمس. فهل يمكن ان يكون العلماء على صواب، واننا إذا وصلنا إلى الخلود، سنقيس الزمن بالحوادث، لا بالفلك؟

والاسماك في البحر لها وقتها لوضع بيضاتها، ولكنها انما تطيع قانون للطبيعة ولا تدري لماذا. والبذر والحصاد لهما اوقاتهما، وقد تنضج مساحات من القمح في يوم واحد تقريبا. والاشجار تنقضي عليها سنوات حتى تحمل الثمر وحلقاتها السنوية تسجل اعمارها. وقد وجد ان أنواعا معينة من الصراصير تصر كذا مرات في الدقيقة الواحدة طبقا لدرجة الحرارة، وقد احصى عدد مرات صريرها فوجد انها تسجل درجة الحرارة بالضبط مع فارق درجتين. وقد نظم وقت صرصور لمدة ثمانية عشر يوما فوجد انه يبدأ أغنية حبه أو فرحه قبل خمس دقائق من الساعة المحددة أصلا. وهناك انواع معينة من البط في قناة بأوربا كانت تاتي كل يوم بانتظام إلى قنطرة في ساعة معينة وتدق جرسا اعد لها. وللطيور وقتها المحدد للطيران نحو الجنوب، وكل فرد منها يقرر الانضمام إلى سربه، ثم تهاجر في يوم يكاد يكون معينا كل سنة. وذباب (مايو) يخرج من البحيرات ليطير طيران العرس، وتسقط ملايين منه في الشوارع في اليوم نفسه. والجراد البالغ من العمر سبع عشرة سنة في ولاية نيو انجلاند يغادر شقوقه تحت الأرض، حيث عاش في ظلام مع تغيير طفيف في درجة الحرارة، ويظهر بالملايين في شهر مايو في سنته السابعة عشرة. وقد يختلف بعض المتعثر عن رفاقه بالطبع، ولكن الكثرة الساحقة تنضج بعد سنوات الظلام تلك، وتضبط موعد ظهورها باليوم تقريبا، دون سابقة ترشدها. و (دودة البوص) (¬1) تدب بانتظام شديد من كل مكان إلى آخر، ولو استطاعت العد لأمكنها ان تقيس الوقت والمسافة بعدد قفزاتها، ولكنها ليست بحاجة إلى الحساب. فلا تضحكن من قفزتها، لاننا نحن البشر نقيس المسافات بالقدم. ان كل كائن حي بوجه عام يراعي الزمن ويسجله بالعمل ولكنه لا يبدي دليلا على توقيت واع منه. ¬

_ (¬1) - دودة البوصة werm inch؟؟ نوع من الدود تقفز مسافة بوصة في كل قفزة. (المترجم)

ويبدو ان الفصول، ودرجة الحرارة، والنهار والليل، والمد والجزر، كل اولاء تسطير على تتابع الحياة. وقد اوجد التطور عادات من قياس الوقت بغير وعي، ويبدو انها تعمل بطريقة ذاتية (أوتوماتيكية) مثل نبض القلب أو الهضم. وكثير من الناس الذين أعتادوا ان يستيقظوا في ساعة معينة، يمكنهم ذلك بدون (منبه) ، وبصرف النظر عن الموعد الذي ينامون فيه. ولقد اضاف الإنسان الزمن إلى المادة التي لا زمن لها. والزمن لايمكن وزنه ولا تحليله. وبالنسبة الينا يتعلق الزمن بهذه الكرة الارضية وحدها، ومقاييسنا للزمن قد لا تكون لها أية علاقة بالكون في مجموعة، ولكن الزمن يملي علينا بواعث غير واعية، بلغت من القوة انها تتحكم في كل شيء حي. والانسان، كحيوان، ليس له شعور خالص بالزمن، ولكنه يستطيع ان يضبط إلى حد ما أثر الزمن في بواعثه والإنسان الفطري لا يعرف عمره إلا بالمقارنة مع الحوادث والاعداد بالنسبة لها انما تعني قليلا أو كثيرا. والإنسان العصري ينسى أيام ذكرياته السنوية، ولكن زوجته لا تنساها، فهل المرأة أكثر ارتقاء من الرجل؟ ام تراها ترقب التقاويم خفية؟ لا هي ولا هو يستطيعان ان يختارا اليوم الرابع والعشرين من مايوم بعد سبع عشرة سنة في الظلام، كما يفعل الجراد؟ لقد كان الإنسان الفطري يحب الزمن كايقاع، كما في القرن الرتيب على طبل. وفد رفعه التوقيت في رقصة، فوق مستوى الغريزة. والإنسجام التام في الأنغام الموسيقية قد قادنا إلى الاستمتاع الرائع بالقطع الموسيقية الفائقة المتحدة الأنغام (هارمون) ، وابقاع الاوركسترا، على ان الاهتزازات التي تعتري وحدة النغم في فترات من الوقت، لاتعد موسيقى إلا عند الإنسان وحده، كما يبدو.

وقد ألزمت المدنية الإنسان زيادة الضبط والدقة في قياس الزمن وتسجيله. وادت الفصول المتعاقبة، والتي يحددها وقت بلوغ الشمس اقصى مداها شمالا، وأقصاه جنوبي خط الاستواء، وادت إلى تكوين دوائر درويد DRUID CIRCLES وتشييد الاهرام، وغير ذلك من علائم الوقت في نواحي العالم. وكان ظهور الشمس أو ظلها فوق هذه الأشياء عند علامة معينة – كانت في العادة علامة خفية – ينبئ الكاهن كم يوما يعد حتى يحين وقت الزرع أو يجيء وقت فيضان النيل. أما الآن فان التقاويم غير البالغة الكمال، تعلق في كل بيت، وبها نميز الأيام. وفضلا عن ذلك اصبحنا نسجل الساعات والدقائق والثواني، والجزء من الألف من الثانية. وكلما قربنا من ضبط الوقت تماما، زادت حاجتنا إلى الاستزادة من معرفتنا بالكيميا، والطبيعة، والمعادن، ودرجة الحرارة، والفلك والرياضة، وخصوصا الرياضة العالية لاندحة عنها. ونحن نحسب جدول زمن الكواكب والاقما والمذنبات، ونعتمد على معرفتنا بالوقت في تنبؤنا بحركاتها، وتحديد الساعة والدقيقة لكسوف الشمس وخسوف القمر، في الماضي والحاضر. ونحن نعرف سرعة الضوء بالثانية، ونسجل طبائع الاجرام السماوية، التي تصحح نفسها بالتتابع لدرجة الدقة الابدية كما يبدو. ان التطور قد وصل بالكائنات الحية إلى ما يقرب من المواءمة مع البيئة الموجودة، ولكنه من الناحية النظرية على الأقل لا يمكنه ان يمضي أبعد من ذلك، وان تقدم الإنسان فيما وراء ضروريات الحياة إلى ادراك الوقت ليخرج به عن الحدود التي يبدو ان التطور الطبيعي قد أقامها على حدة. والإنسان إذ يقترب من الادراك الكامل للزمن، يقترب في الوقت نفسه من ادراك بعض قوانين الكون الابدية، ومن معرفة الخالق سبحانه وتعالى. وما لم توجد حياة عقلية اخرى في بعض نواحي الكون، فان الإنسان ينفرد وحده بمعرفة الزمن، وسيطرته على الزمن تقترب به من شيء اعظم من المادة. فمن أين تأتي هذه القفزة العظيمة التي يقفزها الإنسان بعيدا عن الفوضى، وعن جميع تركيبات المادة وعن كل الكائنات الحية الاخرى؟ انها لابد ان تأتي من شيء أسمى من المصادفة.

الفصل الرابع عشر: قوة التصور

الفصل الرابع عشر: قوة التصور دعنا نترك العلم برهة، ونعمد إلى التصور! يمكن الافتراض بان جميع الحيوانات ترى الحقائق والحوادث، والأشياء المادية، كما هي، وان رد الفعل الذهني عندها مباشر. ورد الفعل مائل في محاولتها الاستيلاء على الغذاء. والفرار من العدو، والاختفاء امام الخطر، أو التماس الراحة في مكان مأمون. ومن الممكن ان بعض الحيوانات التي بلغت درجة عالية من التقدم، كالكلاب مثلا قد تحلم، والحلم بالطبع هو نوع من التصور، خارج عن السيطرة عليه. ان التصور هو من اعجب كفايات الانسان. فهو في تصوره قد يسافر على الفور إلى حيث يشاء. والخطيب قد ينتقل بسامعيه إلى حيث يريد. فهو إذا وصف في تصوه جزيرة مرجانية من جزر الهند الشرقية، فانه يرى بذهنه هذه الجزيرة، وسامعوه ايضا يرون باذهانهم سلسلة صخور مرجانية تحيط بها، ويرون الشاطئ المرجاني، وتغيرات لون المحيط، والسماء المطلة عليها، والنخيل التي تهزها الريح، وجزيرة في الوسط في حلة قشيبة من نباتات المناطق الحارة. وقد يصف الخطيب لهم ايضا البحيرة الرائقة، وهي زرقاء مثل صفحة السماء، صافية كالمرآة، واذا انتقل به الفكر إلى ابعد من ذلك، فقد يرى سامعوه اعماق تلك البحيرة. ومن هذا المنظر من مناظر المناطق الاستوائية، يستطيع الخطيب ان ينتقل بسامعيه توا إلى نهر جليدي بالوانه الزرقاء والخضراء والبيضاء، وبحركته البطيئة. ويلفت أنظارهم إلى الجبال التي يغطي قممها الجليد والتي تقع خلف ذلك النهر وهي تسطع في أشعة الشمس بلون وردي جميل!

ويمكنه كذلك ان يحلق به إلى نجم قصي حتى ليكاد يسمعك تصادم العناصر الطائرة، أو يكاد يشعرك بفيض الضوء والحرارة وهو مسرع إلى الكرة الارضية ليدفئها ويجيئها بالحياة، وليرى ساكنيها صورة بديعة للهلال وهو يضيء من خلال خضرة غابة معتمة. ويستطيع ان يصور لذهنك، لا ما يحيط بك فحسب، بل كذلك الصورة التي تتخيلها لزوجتك وأطفالك في تلك اللحظة. وهنا يخذلك التصور، إذ ينتابه النقص، وتكون الصورة الحقيقية غير تلك التي تخيلتها.. ان قوة التصور هذه هي للطفل مصدر سعادة. فهو يستخدمها في لعبة كما يحلو له. وما عليك إلا ان تطلع على ما يعتقده الاطفال في أنفسهم حين اللعب معا: ان الغلام الذي يحمل على كتفه بندقية من الخشب، قد يعتقد انه جندي بالفعل. والتعليم والتجربة والبيئة والمهارة، كل اولاء قد تحيل الخيال الرائع إلى قطعة فنية، سواء أكانت رواية تمثيلية ام قطعة موسيقية من نوع السيمفوني، ام لوحة رسم ام جهازا دقيقا. والأفكار انما هي بنات التصور، فهي اذن اسس العبقرية. واعظم نتاج العقل البشري – مثل الاختراعات والآلات الميكانيكية والرياضة العليا – انما هي التحقيق النهائي لآراء انبعثت عن التصور. غير ان التصور يلقى دائما عوائق من البيئة المادية، فهو لذلك لا يبلغ إلا درجة قريبة من الصواب، حتى تحققه الملاحظة أو التجربة أو الاستكشاف. ولكن في عقولنا المادية نفسها، لا يقيم التصور اعتبارا لفكرة الزمن أو المسافة. فهو يصل توا إلى مقصده، سواء أكان نجما ام طلفك! ولا تدحة لنا من ان نستنتج في النهاية، ان قوة التصور هي جد قريبة من القوة الروحانية. فاذا كان هناك خلود للروح، فهناك ايضا خلود للتصور.

وكلما أدرك الفلاسفة العظام ذلك العنصر الاسمي في طبيعة الانسان، ونعني نشاط الروح، واجهتهم صعاب لا تواجه من هم أقل منهم تفكيرا. فهم إذا قالوا بخلود الروح صعب عليهم ان يحددوا مكانا لهذه الروح الخالدة. والشخص العادي يفكر بالطبع في الجنة كمكان، ويتصور الطرق الذهبية والابواب المصنوعة من اللؤلؤ. واذا كان مال الروح بعد انطلاقها هو الجنة، فان الإنسان بالبداهة قد يسأل: (واين الجنة؟ وكم تبعد عنا؟) . اما الفيلسوف الذي له روح واعية، فانه لابد ان يخطر له ان الجنة ليست (مكانا) بالمعنى الذي يفهمه البشر، ولكنها اعجب كثيرا من ان تدركها عقولنا المحدودة، ومثل ذلك يقال عن الخلود واللانهائية. وفي الحق قد نضطر، حيال احتياجنا إلى تجرة بشرية تهدينا. إلى ان نظن ان الجنة قد تكون الفضاء نفسه! وبالطبع قد يكره كل إنسان أو يخاف، فكرة كونه ساكنا وحيدا للفضاء.. وقد يتنبه العالم إلى انه إذا ارادت روحه ان تصل إلى نقطة في الفضاء، سواء أكانت جزيرة مرجانية أو سديما بعيداً، فان المسافة التي تقطعها، قصيرة كانت أو طويلة، لابد ان تستغرق فترة من الزمن. واذا كانت الرحلة يمكن القيام بها على شعاع من الضوء، فقد تستغرق الف سنة ضوئية للوصول إلى شمس قريبة نسبيا. ومن ثم فان الإنسان المقيد تقييدا شديدا بصلاته المادية البشرية بالبوصات والأميال وسنوات الضوء والزمن، يبدو له ان من غير المعقول ان توجد سعادته في الفضاء الابيض الذي لا حدود له، ولا في الأبدية المجهولة.

وهنا يأتي ايجاء التصور الذي بلغ الكمال: اننا على ظهر الارض مرتبطون بما هو مادي، مقيدون بجميع تلك القياسات المادية التي اشرت اليها. ولكن يجب ان نذكر ان تصورنا – كما أسلفت القول – ينغلب فورا على المسافة، وينقلنا إلى كل مكان، ويأتي لنا بالهامات تقرب من الحقيقة وتفتح اذهاننا لضروب من الجمال تفوق الواقع. والوقائع التي تتولد عن الافكار يمكن ان تصبح حقائق مادية يراها الغير، كما قد يحلم المهندس المعماري ونضر مثلا على ذلك من الاهرام، و (تاج محل) (¬1) ، أو ناطحة سحاب حديثة. واذا صح ان روح الإنسان التي اصبحت خالدة، لا ترى إلا الحقيقة، فان الروح لفورها، عن طريق التصور الذي بلغ حد الكمال، تبصر الأشياء كما هي. والأفكار هي حقائق – حقائق روحية – خالدة، سواء اتحققت ماديا في شكل تمثال، ام نطق بها كحقيقة تحدث انقلاباً في الفكر البشري. والعالم الجيولوجي قد يتتبع، بتصوره الروحاني، طبقات الارض إلى مركزها المصهور. والذي يراه هو العلاقة المضبوطة التي لكل طبقة بقشرة الارض. وقد تقعد روح الإنسان هادئة فوق شاطئ جزيرة مرجانية، ويغني لها البحر المتلاطم. ويستطيع الإنسان بتصوره الكامل ان يرقب الغازات المتماوجه بالشمس البعيدة، وقد يجمل الزمن فيراها ابتداء من بدايتها السديمية، ويتتبع تطوراتها حتى بردت وأصبحت غير مرئية. ¬

_ (¬1) - (تاج محل) هو الضريح الجميل المشهور الذي بناه الامبراطور المسلم شاه جهان لزوجته بالهند.

واذا كانت الروح الخالدة تستطيع رؤية الأشياء كما هي فانها تقدر ان تكتسب جميع الحواس المختلفة الرقيقة التي لكل الكائنات الحية. وبذا نستطيع ان تدخل في ميادين جديدة عجيبة للمعرفة والتجربة والشعور. وسترى ايضا – إذا شاءت – الذرات وهي تكون نفسها جزئيات، والجزئيات وهي تقهر الجراثيم المغيرة. وربما تستمتع بموسيقى جديدة، تتولد عن اهتزازات الاثير غير المحدودة وعن آلاف اجوبة النغم. وهناك ألوان أزهتى من ان تتحملها عيون البشرية تنتظر تطور قدرتنا على الاحاطة بها. وهناك مسرات لا نهاية لها، ترتقب روح الإنسان بعد تحررها من الجسد! ولست ادري أي مدى تبلغه قوة التصور إذا اكتسبت في الحياة الاخرى. ولا يمكن ان نبحث هنا القيود التي سوف تحمي حقنا المقدس في العزلة الفردية.. وانما نعطي هنا مجرد فكرة. وكذلك لا نحاول ان نصف الجنة التي يتمناها كل فرد، ولكنا يمكننا على الأقل ان نزعم انه توجد اجوبة عن أمثال هذه الأسئلة التي يسألها البشر‍‍. ان الروح الخالدة، التي لا يعوقها الزمن، قد ترى أحباءها، وقد تضمهم إلى صدرها. ولما كان تصورها الذي كل قد أصبح حقيقة روحانية، فانها تقدر ان ترى الحقيقة الكبرى، اعني الخالق عزوجل، والجنة هي حيث يشاء ان تكون. فدعنا نعتقد ان تصورنا سيبلغ درجة الكمال، وان الصم سوف يسمعون بالفعل اصواتا جميلة تفوق ما يحلم به الانسان. وان البكم سوف يتكلمون بكل لغة، وان العمى سوف يبصرون كل عجيبة من عجائب خلق الله. واذا ترتفع روح الإنسان الخالدة صوب الله، كاسبة في طريقها سعة من الفهم، إذ ترقى نحو الملكوت الاسمى، فان جمال خلق الله في العالم العادي يتباعد عن النظر كما تضمحل قصص الطفولة من ذهن الإنسان حيث ينضج وهكذا تهبط الكرة الارضية حقا إلى درجة التفاهة، مع تأمل الكون. واذن في روعة الادراك الروحاني قد تصبح المادة مثل الظل الذي يبهت امام الشمس المشرقة، وتصبح كلا شيء. وهكذا يستطيع الإنسان بكفايته الروحانية ان يتصور القدرة الالهية، ومع تطور روحانيته سيكون اقرب إلى ادراك جلال الخالق وقدرته وعظمته.

الفصل الخامس عشر: استعراض

الفصل الخامس عشر: استعراض ان استعراض ما سبق قد يوضح للقارئ ان توكيد مواءمة الطبيعة للإنسان انما يبدو في كون انعدام تلك المواءمة يؤدي إلى امتناع الحياة. على ان المسائل الأخرى التي بحثت انما تؤكد تلك الحقائق البارزة في الطبيعة، والتي تدل على وجود برنامج بتقدم الانسان. وهناك براهين قوية على وجود هذا التوجيه المقصود وراء كل شيء. والهدف الذي يبدو اصوب من غيره هو إيجاد عقول ذكية. ان الحقيقة المدهشة المماثلة في كون الإنسان قد عاش رغم التقلبات التي مر بها في ملايين سني التطور، هذه الحقيقة تتحدث عن نفسها. وقد رأينا ان العالم في مكانه الصحيح وان قشرة الارض مرتبة إلى مدى عشرة أقدام، وان المحيط لو كان اعمق مما هو بضع اقدام، لما كان لدينا اوكسيجين ولا نباتات. وقد رأينا ان الأرض تدور كل اربع وعشرين ساعة، وان هذا الدوران لو تأخر، لما امكن وجود الحياة. واذا زادت سرعة الأرض حول الشمس أو نقصت ماديا، تغير تاريخ الحياة - ان وجدت – تغيرا تاما، وقد رأينا ان هذه الشمس هي الوحيدة بين آلاف، التي جعلت حياتنا على الأرض ممكنة، وان حجمها وكثافتها ودرجة حرارتها وطبيعة أشعتها يجب ان تكون لها صحيحة، وهي صحيحة فعلا. ورأينا ان الغازات التي بالهواء، منظم بعضها بالنسبة لبعض، وان أقل تغيير فيها يكون قتالا. وهذه كلها ليست سوى قليل من العوامل الطبيعية التي لفتا اليها نظر القارئ.

واذا نظرنا إلى حجم الكرة الارضية، ومكانها في الفضاء وبراعة التنظيمات، فان فرصة حصول بعض هذه التنظيمات مصادفة هي بنسبة واحد إلى مليون، وفرصة حدوثها كلها معا، لا يمكن حسبانها حتى بالنسبة للبلايين. وعلى ذلك فان وجود هذه الحقائق لا يمكن التوفيق بينه وبين اي قانون من قوانين المصادفة. فمن المحال اذن ان نهرب من القول بان مطابقات الطبيعة حتى توائم الإنسان هي اعجب كثيرا من مطابقات الإنسان ليلائم الطبيعة. وان استعراض عجائب الطبيعة ليدل دلالة قاطعة على ان هناك تصميما وقصدا في كل شيء، وان ثمة برنامجنا ينفذ بحذافيره طبقا لمشيئة الخالق جل وعز. وربما استطاع الإنسان ان يرى في هذا البرنامج سلسلة من الحوادث في تطور الكائنات الحية حتى انتهت إلى منح حيوان حياة، وتطوره إلى الإنسان ويبدو ان الإنسان كان في جميع العصور تحت العناية الربانية لنعتقد ايضا انه حت ارشاد رباني. وقد تطور البرنامج إلى بيئات قادرة على الاحتفاظ بمخلوق جسدي اهل لان يحمل ذهنا صالحاً. ومادامت عقولنا محدودة، فاننا لانقدر ان ندرك ما هو غير محدود. وعلى ذلك لانقدر إلا ان نؤمن بوجو الخالق المدبر، الذي خلق كل الاشياء، بما فيها تكوين الذرات والكواكب والشمس والدم (جمع سديم) . والزمن والفضاء هما عنصران في هذا الادراك. وان محاولة معرفة حقيقة الخالق لتحير اذكى الاذكياء. كذلك لا يمكننا ان نحسب ان الإنسان هو الغرض الوحيد أو النهائي، ولكنا يمكننا ان ننظر إلى الإنسان على انه اعجب مظهر لذلك الغرض. على أننا لسنا مضطرين لان نفهم ذلك كله حتى نتقدم كثيرا، وان زيادة العلم لتشير إلى هذه النهاية. اننا نقترب فعلا من عالم المجهول الشاسع، إذ ندرك ان المادة كلها قد اصبحت من الوجهة العلمية مجرد مظهر لوحدة عالمية هي في جوهرها كهربية. ولكن مما لا ريب فيه ان المصادفة لم يكن لها دخل في تكوين الكون، لان هذا العالم العظيم خاضع للقانون.

ان ارتقاء الإنسان الحيواني إلى درجة كائن مفكر شاعر بوجوده، هو خطوة اعظم من ان تتم عن طريق التطور المادي، ودون قصد ابتداعي. واذا قبلت واقعية القصد، فان الإنسان بوصفه هذا قد يكون جهازاً. ولكن ما الذي يدير هذا الجهاز؟ لانه بدون اي يدار، لا فائدة منه. والعلم لا يعلل من يتولى ادارته، وكذلك لا يزعم انه مادي. لقد بلغنا من التقدم درجة تكفي لانه نوقن بان الله قد منح الإنسان قبسا من نوره. ولايزال الإنسان في طور طفولته من وجهة الخلق، وقد بدأ يشعر بوجود ما يسميه (بالروح) . وهو يرقي في بطء ليدرك هذه الهبة، ويشعر بغريزته بانها خالدة. واذا صح هذا التعليل – ويبدو ان المنطق الذي يسنده لايمكن دحضه – فان هذه الكرة الارضية الصغيرة التي لنا، وربما غيرها كذلك، تكسب اهمية لم يحلم بها أحد من قبل. فعلى قدر ما نعلم، قد تولد عن عالمنا الصغير هذه اول جهاز مادي اضيف اليه قبس من نوره الله. وهذا يرفع الإنسان من مرتبة الغريزة الحيوانية إلى درجة القدرة على التفكير، التي لا يمكنه بها الآن ان يدرك عظمة الكون في اشتباكاته، ويشعر شعوراً غامضا بعظمة الله ماثلة في خلقة.

الفصل السادس عشر: المصادفة

الفصل السادس عشر: المصادفة ان المصادفة تبدو شاردة، غير منتظرة، وغير خاضعة لاية طريقة من طرق الحساب. ولكن إذا كنا تدهشنا مفاجآتها فانها مع ذلك خاضعة لقانون صارم نافذ. والبنس الذي يضرب به المثل قد يقلب فيه الرأس عشر مرات أثناه جريه، ولا تنتظر فرصة قلبه المرة الحادية عشرة، ولكنها لا تزال فرصة واحدة من اثنتين، اما فرصة جرى عشرة رؤوس فانها ضئيلة للغاية. ولتفرض ان معك كيسا يحتوي مائة قطعة رخام، تسع وتسعون منها سوداء وواحدة بيضاء. والان هز الكيس وخذ منه واحدة: ان فرصة سحب القطعة البيضاء هي بنسبة واحد إلى مائة. والان اعد قطع الرخام إلى الكيس، وابدا من جديد: ان فرصة سحب القطعة البيضاء لا تزال بنسبة واحد من مائة. غير ان فرصة سحب القطعة البيضاء مرتين متواليتين هي بنسبة واحد إلى عشرة آلاف (المائة مضاعفة مرة) . والان جرب مرة ثالثة: ان فرصة سحب تلك القطعة البيضاء ثلاث مرات متوالية هي بنسبة مائة مرة عشرة آلاف، اي بنسبة واحد من المليون. ثم جرب مرة اخرى أو مرتين، تصبح الارقام فلكية. ان نتائج المصادفة مقيدة بقانون تقييدا وثيقا، كما ان اثنين واثنين يساويان اربعة. افرض ان جماعة يلعبون الورق، وانه بعد ان خلط (فنط) اعطى أحد اللاعبين الآس البستوني، واعطى ثان آس القلوب، وثالث اسباتي، واعطى الموزع الديناري، ثم تبع ذلك: الاثنان فالثلاثة وهكذا، حتى صار لدى كل لاعب المجموعة كلها بالترتيب العددي. لو حدث ذلك لما صدق أحد قط ان الورق لم يرتب من قبل على هذا الشكل. ان الفرص ضد حدوث ذلك كبيرة لدرجة انه لم يحدث قط في جميع الالعاب منذ اخترعت لعبة الهويست، ولكن ربما يقال ان في الامكان ان يحدث ذلك فهل من المعقول ان يحدث! افرض ان طفلا صغيرا طلب اليه لاعب شطرنج ذو خبرة ان يحاول ان يغلبه بعد أربع وثلاثين حركة. وافرض ان الطفل بمجرد المصادفة قد أتى كل حركة كما ينبغي بالضبط ليقابل بها كل حركة من ذلك اللاعب! لا شك ان الاخير سيظن ان ذلك حلم أو انه قد فقد عقله! ولكن ربما يقال ان ذلك ممكن ان يحدث! فهل من المعقول ان يحدث.

وهنا أكرر القول بان قصدي من هذه المعالجة المصادفة هو ان أبين للقارئ بطريقة عملية واضحة، تلك الحدود الضيقة التي يمكن الحياة بينها ان توجد على الأرض، وان اثبت بالبرهان الواقعي ان جميع مقومات الحياة الحقيقية ما كان يمكن ان توجد على كوكب واحد في وقت واحد، بمحض المصادفة. ان حجم الكرة الارضية، وبعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس واشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني اوكسيد الكربون وحجم النتروجين، وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كل اولاء تدل على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدل على انه طبقا للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد، مرة في بليون مرة. (كان يمكن ان يحدث هكذا) ، ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد‍‍. وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة، وحين نعترف كما ينبغي لنا، بخواص عقولنا التي ليست مادية، فهل في الامكان ان نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم اننا وكل ما عدانا نتائج المصادفة؟ لقد رأينا ان هناك 999ر999ر999 فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بان جميع الامور تحدث مصادفة. والعلم لا ينكر الحقائق كما بيناها. وعلماء الحساب يقرون ان هذه الارقام صحيحة. والان تقابلنا مقاومة عنيدة من العقل البشري، الذي يكره النزول عن افكار مستقرة. لقد كان اليونان القدماء يعرفون ان الأرض كروية. ولكن مضى الفا سنة ليؤمن الناس بصدق هذه الحقيقة. ان الافكار الجديدة تلقى معارضة وسخرية وذما، ولكن الحقيقة تبقى وتثبت. لقد انتهت المناقشة. والقضية الآن معروضة عليكم انتم المحلفين، وسينتظر ما تحكمون به في ثقة وطمأنينة‍.

الفصل السابع عشر: خاتمه

الفصل السابع عشر: خاتمه ان اول فصل (سفر التكوين) يقص قصة خلق الكون، ومنذ كتب لم تتغير خلاصته بما كسبه الإنسان من علم. وقد يدعو هذا القول إلى ابتسامة ترتسم على وجه العالم اللطيف، والى نظرة ارتياب مع الرضا من المؤمن الصادق. وانما قامت الاختلافات على تفاصيل لا تستحق الجدل. والان هيا بنا نفحص الحقائق كما وردت في ذلك الفصل الاول من الكتاب المقدس: (في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية) . هذه هي الفوضى الاصلية التي كانت للارض قبل تكوينها. (على وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه) . كان معظم المحيطات في السماء كسحب لا يمكن اختراقها وكان الضوء لا يصل إلى الأرض. (وقال الله ليكن نور فكان نور) . لقد انقشعت السحب، وكان الأرض قد بردت، وادى دوران الأرض إلى الليل والنهار. (وقال الله ليكن جلد في وسط المياه) . ومن بين المياه التي كانت تغمر الأرض كلها، قامت القارات، وظهرت الأرض اليابسة، وظهر الهواء فوق الارض. (وقال الله لتنبت الأرض عشبا وبقلا يبزر بزرا) . ولا يفوتنك هنا ان النبات قد ذكر قبل الحياة الحيوانية (فعمل الله النورين العظيمين. و.. النجوم) . وأصبحت الشمس والقمر تريان من خلال السحب، ولما انقشعت السحب نهائيا، ظهرت النجوم (ايضا) . (وقال الله لتفض المياه زخافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض على وجه جلد السماء) . ان كل حياة متحركة بدأت في الماء، وجلد السماء هو الهواء. (وقال الله لتخرج الأرض ذوات انفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش ارض كأجناسها. وكان كذلك) . والحيوانات الآن على وجه الأرض بعد ان صارت البحار مسكونة. (وقال الله اني قد اعطيتكم كل بقل يبزر بزرا على وجه الأرض وكل شجر فيه ثمر يبزر بزرا لكم يكون طعاما) . وهذا القول قد ثبتت صحته حين اكتشف تركيب الكلوروفيل، وبين العلم ان كل نوع الحياة متوقف على النبات الاحضر (¬1) ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة البقرة) . (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فاحيا الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف للرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لايات لقوم يعقلون) . (المترجم) .

وحيال هذه الحقيقة البسيطة التي ذكرت على هذا الشكل، لا ينبغي لنا ان نختلف على التفاصيل الناتجة من الترجمة أو مما اقحمه الانسان، أو على السؤال عن كيفية خلق الله الكون أو الوقت الذي استغرقه خلقه. ان الحقائق التي ذكرت قد وردت خلال الدهور، وهي حقائق. اننا نستطيع ان نضع نظرية تبين كيف تطورت جميع الكائنات الحية من الخلية الاصلية، ولكن العلم يقف عند هذا الحد، ويمكننا اننتفق مع ذوي العقول الممتازة الذين ادت بحوثهم المضنية إلى اعطائنا فكرة حقيقية عن الوقائع الطبيعية التي للحياة المادية، ولكنا غير ملزمين بالوقوف حيث وقفوا، لانهم لم يتبين لهم صنع الخالق في كل ذلك. ان العلماء لا يقدرون ان يؤكدوا ولا ان ينفوا وجود الله، ولكن كل واحد منه في قرارة نفسه يشعر بقوة الاحساس والفكر والذاكرة والآراء التي تصدر كلها عن ذلك الكيان الذي نسميه بالروح. وهم جميعا يعلمون ان الالهام لا يأتي من المادة. وليس العلم حق في ان تكون له الكلمة الاخيرة بشأن وجود الخالق، حتى يقول تلك الكلمة بصفة نهائية والى الأبد. ان كون الإنسان في كل مكان ومنذ بدء الخليقة حتى الان، قد شعر بحافز يحفزه إلى ان يستنجد بمن هو اسمى منه واقوى واعظم، يدل على ان الدين فطري فيه، ويجب ان يقر العلم بذلك. وسواء أحاط الإنسان صورة محفورة بشعوره بان هناك قوة خارجية للخير أو الشر ام لم يفعل فان ذلك ليس هو الامر المهم. بل الحقيقة الواقعة هي اعترافه بوجود الله (¬1) ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة الحشر) : (هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا اله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) . (المترجم)

والذين اتيح لهم العلم بالعلم، لا يحق لهم ان ينظروا نظرة الازدراء إلى فجاجة اولئك الذين سبقوهم أو الذين لا يعرفون الآن الحق كما نراه. بل اننا على العكس يجب ان تاخذنا الروعة والدهشة والاجلال لاتفاق البشر في نواحي العالم على البحث عن الخالق والايمان بوجوده. أو ليست روح الإنسان هي التي تشعر باتصالها بالله؟ ام نخشى ان نقول بان الحافز الديني الذي لا يملكه إلا الإنسان هو جزء من الكائن الواعي كاية صفة اخرى من خصائصه؟ ان وجود الحافز هو برهان على قصد العناية الالهية ولا يقل شأنا عن عقل الإنسان المادي العجيب الذي يكمن فيه كونه الحساس. ان اية ذرة أو جزئ ATOM OR MOLECULE لم يكن له فكر قط، واي اتحاد العناصر لم يتولد عنه رأي أبدا. واي قانون طبيعي لم يستطع بناء كاتدرائية. ولكن كائنات حية معينة قد خلقت تبعا لحوافز معينة للحياة، وهذه الكائنات تنتظم شيئا تطيعه جزئيات المادة بدورها، ونتيجة هذا وذاك كل ما نراه من عجائب العالم. فما هو هذا الكائن الحي؟ هل هو عبارة عن ذرات وجزئيات؟ اجل. وماذا ايضا؟ شيء غير ملموس، اعلى كثيرا من المادة لدرجة انه يسيطر على كل شيء، ومختلف جدا عن كل ما هو مادي مما صنع منه العالم، لدرجة انه لا يمكن رؤيته ولا وزنه ولا قياسه. وهو فيما نعلم ليست له قوانين تحكمه. ان (روح الإنسان هي سيدة مصيره) ، ولكنها تشعر بصلتها بالمصدر الاعلى لوجودها. وقد اوجدت للإنسان قانونا للأخلاق لا يملكه اي حيوان آخر ولا يحتاج اليه، فاذا سمى أحد ذلك الكيان بانه فضلة لتكوينات المادة، لا لشيء سوى انه لا يعرف؟؟؟ بأنبوبة الاختبار، فهو انما يزعم زعما لايقوم عليه برهان. انه شيء موجود، يظهر نفسه باعماله، وبتضحياته، وبسيطرته على المادة، وعلى الاخص بقدرته على رفع الإنسان المادي من ضعف البشر وخطئهم إلى الإنسجام مع ارادة الله.

هذه هي خلاصة القصد الرباني. وفيها تفسير للاشتياق الكامن في نفس الانسان، للاتصال بأشياء اعلى من نفسه. وفيها كشف عن اساس حافزه الديني. هذا هو الدين. والعلم يعترف باشتياق الإنسان إلى أشياء اسمى منه، ويقر ذلك، غير انه لا ينظر نظرة جدية إلى مختلف العقائد والمذاهب، وان يكن يرى فيها طرقا تتجه إلى الله. والذي يراه العلم ويقدره جميع المفكرين، هو ان الاعتقاد العام بوجود الله له قيمة لا تقدر (¬1) . ان تقدم الإنسان من الوجهة الخلقية وشعوره بالواجب انما هما اثر من آثار الايمان بالله والاعتقاد بالخلود. وان غزارة التدين لتكشف عن روح الانسان، وترفعه خطوة خطوة، حتى يشعر بالاتصال بالله. وان دعاء الإنسان الغريزي لله بان يكون في عونه، هو أمر طبيعي، وان أبسط صلاة تسمو به إلى مقربة من خالقه. ان الوقار، والكرم، والنبل، والفضيلة، والالهام، وكل ما يسمى بالصفات الالهية، ولا تنبعث عن الالحاد أو الانكار الذي هو مظهر مدهش من مظاهر الفرد، يضع الإنسان في مكان الله. وبدون الايمان كانت المدنية تفلس، وكان النظام ينقلب فوضى، وكان كل ضابط وكل كبح يضيع، وكان الشر يسود العالم. فعلينا اذن ان نثبت على اعتقادنا بوجود الله، وعلى محبته، وعلى الاخوة الانسانية، فان ذلك يسمو بنا نحوه تعالى، إذ ننفذ مشيئته كما نعرفها، ونقبل تبعة اعتقادنا باننا بوصفنا خلقه، جديرون بعنايته الالهية. ان خميرة التقدم الأخلاقي تسير بالإنسان سيرا بطيئا ولكن مؤكدا نحو زيادة الادراك لعلاقاته باخوانه، وقد وضعت مثلا عليا سوف ترتبط بها الانسانية في النهاية. ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة آل عمران) . (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، إلا نعبد إلا الله ولانشرك به شيئا، ولا يعتد بعضنا بعضا اربابا من عرف الله. فان تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون) . (المترجم) .

ان وجود الإنسان على ظهر الأرض هو بالنسبة للانهائية وقت جد وجيز. ونقصه الحالي ليس إلا حادثا في تطوره من مجرد تكوين مادي إلى ما يمكن ان يكونه. النهاية - اي روح طاهرة. وان الخالق عز وجل سيمنحنا الوقت اللازم، واذ تتقدم إلى الامام ندعو الله اخلص دعاء قائلين (¬1) : ربنا قدنا في طريق مقصدك الاعظم، وأرفعنا إلى مستوى الإنسجام الروحاني بعضنا مع بعض. وهبنا القدرة على ان نصبح جزءا من التقدم نحو الكمال الروحي، وقدنا إلى حيث نكون في خدمتك، وبذا تجعلنا أدوات لتنفيذ مشيئتك. ان الإنسان لا يقوم وحده. ¬

_ (¬1) - قال الله تعالى في كتابه الكريم: (سورة آل عمران) . (ربنا اننا سمعنا مناديا ينادي للايمان ان آمنوا بربكم فامنا. ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الابرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة انك لا تخلف الميعاد) . (المترجم) .

§1/1