العلمانية المفهوم والمظاهر والأسباب

مصطفى باحُّو

الطبعة الأولى: رمضان 1432 - غشت 2011 الناشر: جريدة السبيل. سلا. المغرب. الإيداع القانوني: 2011 MO2240

تمهيد

تمهيد بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. وبعد، فهذه سلسلة متتابعة حول العلمانية أبدؤها بهذه الرسالة، التي جعلتها طليعة لباقي السلسلة، أي: بمثابة المقدمة العامة لها، تمهيدا لبحوثها وتأسيسا لمواضعها، ولهذا تمحورت حول مفهوم العلمانية وأسبابها ومظاهرها وتاريخها وتطورها وآثارها وغير ذلك. وستتلوها إن شاء الله سلسلة تضم أبحاثا عديدة نَجَز بعضها، وبعضها في الطريق إلى الإنجاز. منها: 1. الإسلام في نظر العلمانيين. وهو تحت الطبع بحمد الله. 2. موقف القرآن من العلمانية. وقد فرغت منه. 3. موقف السنة من العلمانية. 4. ماذا تريد العلمانية؟. وقد فرغت منه. 5. ماذا يعني تطبيق الشريعة؟ 6. العلمانية والمذهب المالكي. 7. المذهب المالكي والقوانين المغربية. 8. النصوص الواردة في الفقه السياسي الإسلامي. 9. الأخبار الواردة في جمع المصحف وتدوينه. دراسة حديثية نقدية. 10. الأخبار الواردة في الحنفاء: دراسة حديثية نقدية. 11. الأخبار الواردة في الخلافة الراشدة. دراسة حديثية نقدية. 12. المعتزلة والصوفية، والتوظيف العلماني.

وستصدر تباعا إن شاء الله، وقد يحصل فيها تقديم وتأخير. هذا وتبقى بحوث كثيرة في حاجة إلى من يتصدى لها، لأنها تعتبر أحد أهم ركائز المشروع العلماني منها: 1 - دراسة تاريخ الأديان، وبيان أن الأديان سماوية، وليست مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري، ودحض جميع الشبهات التي تثار حول الموضوع. وعلم تاريخ الأديان علم غربي، نشأ في وسط إلحادي ينكر الأديان، ويبحث لها عن مبررات وجودها، ولهذا اصطبغ بصبغة إيديولوجية أكثر منها علمية معرفية. فأغلب الباحثين الغربيين فيه وقبل كتابة بحوثهم لا يرون في الدين إلا خرافة نسجها العقل البشري، فكيف نتحدث عن نزاهة البحث العلمي وحياديته؟ هنا يكون البحث العلمي محكوما بآراء مسبقة يصعب تجاهلها (¬1). 2 - دراسة علوم قراءة النص كالسميولوجيا، والهرمنيوطيقا، والألسنية، والأسلوبية، وعلم السرد، وبيان ما لها وما عليها وإبراز اختلاف اجتهادات رموزها، وأن ما فيها من مناهج صحيحة لقراءة النص لا يمكن أن تؤدي إلا إلى قراءة صحيحة للنص الديني، وأن الآفة من القارئ لا من المنهج، الذي يريد أن يقرأ ما يريد هو في النص لا ما يريد أن يقوله النص. ¬

_ (¬1) وقد اعترف حسن حنفي بأن تاريخ علم الأديان فيه اجتهادات عديدة، وكلها آراء ظنية. الأسطورة والتراث (283).

وطالما تبجح أركون ونصر أبو زيد بهذه الآليات، وأن اعتمادها كاف لتجاوز النص الديني برمته. وطوال عصور الإسلام الخالدة بما فيها عصور الضعف والانحطاط والوهن كان لا يسمع في أرجاء العالم الإسلامي إلا القرآن والسنة وأحكامهما وما تفرع عنهما من فقه واستنباط. ولم يكن يُرفع صوت فوق صوت القرآن والسنة، وأن أحكامهما فوق كل حكم وكل تشريع وكل قانون. وهكذا صار الحال في المغرب، فكان إلى فقهاء المالكية المفزع والمرجع في كل شيء، منهم القضاة والحكام، ولا نعرف في تاريخ المغرب خروجا عن أحكام المذهب المالكي لا في البيوع ولا في قضاء الأسرة، ولا في الحدود ولا غيرها. وهذه تواريخ المغرب مدونة ومنشورة. وهذه كتب النوازل والأحكام للونشريسي والعلمي والوزاني والبرزلي وغيرها، يظهر فيها جليا أن الشريعة الإسلامية هي الحكم في كل شيء. وهذه كتب الوثائق وأحكام القضاء مدونة معروفة كتبصرة ابن فرحون والمتيطية وغيرها، بل حتى حكام المغرب إلى ما قبل الاستعمار لم يعرف في تاريخهم الطويل تحكيم غير الشريعة الإسلامية، ممثلة في المذهب المالكي، ولم يعرف عن واحد منهم أنه ألغى أحكام الشريعة واستبدلها بقوانين أخرى مناقضة لها ومعارضة لأحكامها. إلى أن جاء الاستعمار فأحكم سيطرته، وفرض أحكامه، وألغى حكم الشريعة واستبدلها بقوانينه الوضعية، ثم بعد الاستقلال الصوري بقي الحال على ما هو عليه، وإلى الله المشتكى وحده لا شريك له. وخلف الاستعمار خلفه فلولا من العلمانيين يسهرون على تنفيذ خططه والإجهاز على ما تبقى من أحكام الشريعة «مدونة الأسرة»، ثم لا زالت شوكة

العلمانيين تشتد مع مرور الوقت إلى أن جاهروا بعقائدهم وآرائهم، فدافعوا على علمانية الدولة وفصلوا الشريعة التي حكمت المغرب لقرون عديدة عن الحياة العامة. لهذه الأسباب شرعت في إصدار هذه السلسة التي ستستمر {حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. ولا يفوتني التنبيه هنا إلى ضرورة إنشاء مركز لدراسة العلمانية، من كافة جوانبها، ودراسة تطبيق الشريعة الإسلامية ومعوقاته ومشاكله وحلوله، ودراسة مناهج النقد الغربية المعاصرة والمذاهب الفلسفية التي لها علاقة بموضوع العلمانية، ومذاهب قراءة النص، ومذاهب المستشرقين. فهذه ثلاثة محاور رئيسة مترابطة فيما بينها: - العلمانية. - تطبيق الشريعة. - المذاهب الفلسفية والنقدية الغربية. وإن كان الموضوع الأول كُتِبت فيه بحوث عديدة، فإن المبحث الثاني أقل عناية، والمبحث الثالث تقل فيه البحوث أكثر. وإنما قلت مترابطة، لأن العلمانية تقف على أسس فلسفية غربية، كما سيأتي، وهدفها تنحية الشريعة من الوجود الفعلي وإقصاؤها. ولبلوغ هذا الإقصاء يتم استدعاء جملة من المناهج النقدية التفكيكية. ويقوم المشروع العلماني في نقده للإسلام على ثلاث ركائز:

1 - النصوص الدينية ومفاهيمها القروسطية (¬1) متناقضة ومختلة، وهذا دور الاستشراق وأذنابه العرب. 2 - المناهج الإسلامية لقراءة النص الديني (أصول الفقه وعلوم اللغة وعلوم القرآن) أصبحت متجاوزة وغير علمية. بينما المناهج النقدية الغربية لقراءة النصوص فهي علمية وعلى درجة كبيرة من الاحترافية والمصداقية. 3 - تطبيق النصوص الدينية عبر التاريخ لم يجلب للبشرية إلا الشر والخراب والدمار (¬2). تحليل هذه المسائل ودراستها دراسة معمقة أكاديمية يمثل نقطة البدء في مواجهة المشروع العلماني وتفكيك خطابه من أجل تجاوزه وتهميشه. وأنا أرى أن تأسيس مركز علمي أكاديمي راق لكشف حقيقة العلمانية وبيان خطرها على الإسلام والمسلمين أفضل عند الله من إفطار مليون مسلم، وخير من 1000 محاضرة. لأن ذاك واجب، وهذا مستحب. ¬

_ (¬1) هذا المصطلح يستعمله عدد من العلمانيين اختصارا للقرون الوسطى. (¬2) ويرى علمانيون كأركون أن الإسلام لم يطبق طوال عهوده، وبالتالي فالمناداة بالدولة الإسلامية حلم لا غير. قضايا في نقد العقل الديني (127). وهذا يحتاج إلى رصد تاريخي لمسألة تطبيق الشريعة الإسلامية عبر العصور المختلفة، وأنها طبقت بنسب متفاوتة، وأنها كانت حاضرة بقوة في كل المجالات الحيوية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وظل الإسلام هو المرجع الوحيد للخلفاء والتجار والحرفيين والصناع والعلماء وكافة طبقات المجتمع. وأن الأمر ليس قاصرا على الأحوال الشخصية كما زعم خليل عبد الكريم في أعماله (225 - 363) وأركون في الإسلام الأخلاق والسياسة وغيرهم.

ولابد من حشد الطاقات العلمية اللازمة لهذا المركز منها مثلا: - متخصصون في اللغة والترجمة التي لها علاقة بهذا الموضوع كالفرنسية والإنجليزية والألمانية. - متخصصون في العلوم الإنسانية المعاصرة. - متخصصون في الفلسفة وخاصة الغربية. - متخصصون في العلمانية. - متخصصون في التاريخ. - متخصصون في الاستشراق. - متخصصون في علوم الشريعة المختلفة. ولابد من وضع خطة متكاملة للعمل، ووضع استراتيجية شاملة للمشروع. ولابد من ضمان التمويل الضروري بعيدا عن الحكومات حتى لا يبقى المركز تحت سيطرة أحد أو لخدمة أجندة خاصة. ولابد من توفير مكتبة متكالمة لهذه المهمة. يكون المركز تحت إشراف هيئة رفيعة المستوى يرأسها مدير وتحته لجان متعددة متخصصة. ويجب أن يكون كل العاملين في المركز متفرغين. والله أسأل التوفيق والسداد في هذه البحوث، عسى -إن لم أُوَفق للتمام فيها- أن أقاربه وأدانيه. وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين.

مقدمة

مقدمة بعد سقوط الشيوعية تحول الإسلام إلى عدو استراتيجي للغرب باعتراف نصر حامد أبي زيد (¬1) ومحمد أركون (¬2). فلم يجد سلاحا أمضى من سلاح العلمانية لإزاحة الإسلام وزعزعته من المجتمعات الإسلامية والحد من هيمنته على الحياة العامة للمسلمين، وتحجيم دوره وتهميشه داخل جدران المساجد والزوايا، وتحويله في النهاية إلى نوع من الفولكلور أو التراث الشعبي. فجُندت وحشدت جحافل من العلمانيين العرب للقيام بدور الطليعة الأولى والنيابة عن الغرب في نشر المشروع الحضاري الغربي. ولا تعدو العلمانية في تقديري أن تكون واجهة للرجل الأبيض المتفوق، ومقدمة لهيمنة الحضارة الغالبة وتركيع باقي الحضارات. وقد بين العلماني تركي علي الربيعو كيف سعى الخطاب الغربي عموما إلى إبراز تفوق الرجل الأبيض أو قل تبرير التمركز الأوربي عن طريق تبرير المعجزة الأوربية الحالية بأنها تستند إلى معجزة عريقة في تاريخ البشرية ألا وهي المعجزة الإغريقية، وبالتالي تبرير العرقية والعنصرية (¬3). ¬

_ (¬1) دوائر الخوف (55). (¬2) قضايا في نقد العقل الديني (202). (¬3) أزمة الخطاب التقدمي (160).

من هنا جاء تبرير الاستعمار، وأن الرجل الأبيض المتفوق حضاريا يسعى إلى تحضير وتحديث الشعوب المتخلفة ونقلها إلى جنته. وقد ظل الفكر الحداثي «هو الفكر الذي أُوكل إليه أو أوكل إلى نفسه مهمة إعادة تركيب النسيج الثقافي الاجتماعي العربي والإسلامي وفقا لنموذج أرقى، النموذج الغربي المكتمل للتاريخ للثقافة للمجتمع للعلمنة للدولة الأمة» (¬1). وحاولت جوقة العلمانيين العرب القفز على هذه الحقائق وتسويق علمانيتهم كفهم تنويري تجديدي للإسلام، مرفقة ذلك بهجمة شرسة على الإسلام وأصوله وأحكامه، وتصوير مخالفيهم من العلماء الرسميين والإسلاميين بمثابة قطيع أو حثالة من الناس دوغمائيين متحجرين متزمتين لا عقلانيين متعطشين للدماء، خارج التاريخ وفوق الواقع. والنقد في الخطاب العلماني دائما يتوجه إلى «الأنا» أي: إلى ذلك الموروث الثقيل الخرافي المكبل للحركة وللتقدم. وينسى أو يتناسى ذاك «الآخر» الغربي المترصد الباحث عن الهيمنة والسيطرة والإلحاق الحضاري. فالتراث هو الشيطان الأكبر، بل والوحيد، وهو الظلام الدامس الغارق في كل أصناف الرجعية والتخلف. والنور الوحيد والأمل الوحيد هو ذاك الغرب بفكره التنويري الحداثي، ولا يهم أنه هو الذي احتل أرضنا ونهب ثرواتنا وقسم بلادنا ولازال يعرقل حركتنا ويساند عدونا ويتآمر على مصالحنا. والعلمانية ليست فصل الدين عن الدولة فقط كما يروج عدد من العلمانيين تسترا وتزييفا، بل هي كما سيأتي مفصلا فلسفة عامة للوجود، لها رؤية ¬

_ (¬1) الخطاب العربي المعاصر (14).

للكون وللإنسان، تعتبر فيه الإنسان مركزا رئيسا ووحيدا لهذا الكون، ولا مكان فيها للماورائيات والغيبيات والأساطير الدينية. والتي تتحول إلى شيء فردي وشخصي شأنه شأن الأكل والشرب واللباس. «الأمر الذي تبدو فيه قضية السياسة مجرد جزئية في المشروع العلماني، الذي يقوم أساسا على تهميش المقدس كحد أدنى، أو إلغائه وإنكاره تماما كحد أقصى. إن شئت الدقة فقل: إن الدين في ظل ذلك المشروع: إما محال إلى التقاعد، وإما مفصول من الخدمة» (¬1). «ولا ريب أن موجة العلمنة التي شهدت نوعا من الصعود منذ بدايات القرن الماضي تتجه اليوم نحو مزيد من الضمور والانكماش، وخصوصا في أوساط المثقفين والقطاعات الشبابية الحديثة، ولعل هذا ما يفسر حرص بعض القوى العلمانية الجذرية على الاستنجاد بأدوات الدولة للتعويض عن انكماش قاعدتها الاجتماعية في محاولة لفرض نمط من العلمنة الفوقية والقسرية عبر المؤسسات الرسمية» (¬2). فيما سعى آخرون إلى الاستنجاد بالدين نفسه وبعلومه ورموزه وتاريخه، حتى زعم حسن حنفي أن الإسلام في جوهره علماني (¬3). بينما فضل علماني آخر القول بأن العلمنة بدأت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وزعم آخر أنها بدأت بمجيء الدولة الأموية. ¬

_ (¬1) المفترون (246). (¬2) في العلمانية والدين والديمقراطية (125). (¬3) حوار المشرق والمغرب مواقف (58) (ص 80 - 90). واعتبر الجابري هذا قفزا على مسألة العلمانية وأنه طرح لا يحل المشكل.

وزعم آخرون أن التاريخ الإسلامي عرف نماذج علمانية فقط كالمعتزلة والفلاسفة وابن مسكويه وابن خلدون وابن عربي وآخرين (¬1). وهذا رأي محمد أركون وغيره. وأكد كثيرون أن العلمانية لم تعرفها البلدان الإسلامية إلا مع الاستعمار، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله. و «بذريعة مواجهة التطرف ظهرت في العقدين الأخيرين «ميلشيات» ضمت نفرا من المثقفين كانت مهمتهم ومازالت محاولة قطع الطريق على تقدم المسيرة الإسلامية بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وبشكل أساسي فإن الذين انخرطوا في تلك الميلشيات كانوا خليطا من غلاة العلمانيين والماركسيين وغيرهم من الذين نجحت حملات التعبئة في تخويفهم من الإسلام والمسلمين، أو الذين استقرت في أعماقهم كراهية الاثنين، ووجدوا أن مكانهم الطبيعي هو في معسكر «الضد» الرافض لكل ما هو إسلامي» (¬2). وقد نجح الخطاب الرسمي في استقطاب أعداد هائلة من العلمانيين وجيشهم في صفه، مستثمرا موجة العداء للإرهاب، وبث في روعهم أن الخطر الداهم هو خطر الإسلاميين، ولذلك أصبحت ترى كيف أن المثقف التقدمي الماركسي الذي كان بالأمس يزعم مناصرة الطبقة الكادحة والمستضعفة كيف تحول إلى بوق من أبواق مَنْ هُم في نظره قوى رجعية تعادي التقدم. ¬

_ (¬1) وإذا استثنينا الفلاسفة أو بعضهم لا تسلم لأركون ومن معه تلك المزاعم. وللعلمانيين تعلق شديد بالمعتزلة ظنا منهم أن كل الصيد في جوف الفرا، كما يقول المثل، لقلة خبرتهم بمذاهب الاعتزال. (¬2) المفترون (6).

فغدت حرية التعبير وتأسيس الأحزاب والجمعيات حكرا على الطائفة العلمانية، أما الإسلامي فهو الخطر الداهم. إنها الديمقراطية الانتقائية أو ديمقراطية الاستثناءات. لقد اختار كثير من العلمانيين الماركسيين الانحياز إلى الأنظمة المستبدة واختاروا أن يدعموها بتبرير سياستها تجاه الإسلاميين وابتلاع خطاياها وتحسين صورتها. لأنه بعد فشل مشروعهم وجدوا أن التعلق بأهداب الأنظمة الحاكمة بذريعة الدفاع عنها ضد الخطر الأصولي باب يكسبهم بعض الشرعية ودور يفتعل لهم قضية (¬1). ولهذا لم تكن العلمانية يوما ما خيارا شعبيا ولا تتمتع برضى جماهيري، بل هي قرينة التسلط السياسي وانعكاس لمصالح بعض الفئات العلمانية النخبوية المتسلحة بمخالب الدولة، ثم بحماية القوى الخارجية (¬2). وغالبا ما غازل الساسة العرب التيار العلماني لتشاركهم في مصالح فئوية ونخبوية ضيقة، وكره متطرف للآخر الإسلامي. كان أغلب العلمانيين التونسيين يمثلون الطابور الخامس لحكم الطاغية ابن علي الذي أطاح به الشعب التونسي. فعبد المجيد الشرفي ومحمد الشرفي وعبد الوهاب المؤدب والعفيف الأخضر وغيرهم من التونسيين لم يجدوا أمامهم من يستحق النقد والتجريح إلا ¬

_ (¬1) المفترون. (¬2) في العلمانية والدين والديمقراطية.

القرآن والسنة وعلوم المسلمين وأحكام الشريعة وصحابة رسول الله وعلماء الأمة على مر التاريخ. ولم يسلم من عضاتهم ونهشاتهم إلا الطاغية ابن علي وزبانيته. بل كان الثاني منهم وزيرا في حكومته. وقد انكشف للعالم الآن بعد الثورة التونسية حجم الفساد والطغيان والقهر والظلم والتسلط التي كان يتمتع بها النظام التونسي الديكتاتوري الذي روج له الإعلام العلماني العالمي والمغربي بمثابة النظام العلماني الناجح، بل دعا كتَّاب الأحداث المغربية والاتحاد الاشتراكي عندنا في المغرب إلى استيراد النموذج التونسي وتعميمه. ولذلك فأنا دائما أنبه إلى أن حراس الهيكل العلماني وسدنته غالبا ما يغطي بعضهم على بعض ويسكت بعضهم عن جرائم بعض، مهما قمع وقتل وسفك، ما دام يذب عن الهيكل. والطغمة العلمانية الفاسدة سياسيا وماليا واجتماعيا تساندها وتبارك خطواتها مليشيات علمانية فاسدة فكريا وسياسيا ودينيا. وأكثر العلمانيين في تناولهم للإسلام محكومون بسلف وبرؤية حاقدة مسبقة. كما سيأتي. ويغلب على كتابات كثير منهم طابع التشنج والتصميم الإيديولوجي القبلي والجاهز، الرافض للآخر والمصمم على إقصائه وتهميشه، بل تصويره كحثالة من الذباب الهائج، كما سيأتي تفصيله في محله.

ولنؤجل الكلام عن سيد القمامة القمني الآن فهو فارس هذا الميدان بلا منازع، ولنختر علمانيا جزائريا يُسَوق له العلمانيون على أنه مؤرخ الفكر الإسلامي، إنه محمد أركون. يظهر جليا لمتتبع كتبه وأبحاثه أنه محكوم برؤية استشراقية مغلفة بغلاف النقد التاريخي العلمي. فهو كغيره من العلمانيين يكن عداءا عميقا وجذريا للإسلاميين، بل ولرجال الدين والعلماء والفقهاء على مر العصور، لكن هو أكثر عدائية مع الإسلاميين. وعامة كتبه وخاصة «قضايا في نقد العقل الديني» مليء بالتهجمات الرخيصة، وطافح بأطنان من التهم البئيسة والاتهامات المجانية الخسيسة، ولا يفرق بين إسلامي وآخر، فالكل متطرفون دوغمائيون دمويون. بينما نراه إذا ذكر أستاذه بلاشير ونحوه من الغربيين والمستشرقين انْحَلَّت حُبْوَتُه وانطلق لسانه كالسيل الجارف تمجيدا وتبجيلا. بل الأكثر من هذا كتب في الكتاب (229) مقالا مطولا حول التسامح واللاتسامح. وفي نفس الكتاب كان نصيب الإسلام قرآنا وسنة وفقهاء: اللاتسامح. وكال لهم مختلف أنواع الاتهامات من مثل: إن الإسلام عنيف ويؤصل للعنف من خلال مصدره الرئيسي القرآن، وخاصة سورة التوبة. فهو من جهة يؤصل لثقافة التسامح مع الآخر، ويعاتب القرآن والسنة لإشاعتها ثقافة اللاتسامح. ومن جهة يمارس اللاتسامح مع دينه وقرآنه وسنته تحت ستار النقد التاريخي.

فهو ليس معنيا بالتسامح مع غرمائه التقليديين، وإنما عليهم هم أن يتسامحوا معه ومع اليهود المحاربين والغاصبين وسندهم الدائم النصراني. ثم أين التسامح في الفكر العلماني الحداثي عموما، ولا منهج له في دولنا إلا الاستئصال والنبذ والإقصاء؟ وأين التسامح في العلمانية الفرنسية مع أبناء بلده الجزائر لما كان تحت الاحتلال؟ وأين التسامح فيما يجري في العراق وأفغانستان وفلسطين؟ أليست العلمانية هناك هي القاتلة الناهبة المستعمرة؟ أين التسامح لما كانت الشيوعية تبيد الملايين، وتحول المساجد إلى اصطبلات؟ أليست فرنسا العلمانية داعما مركزيا للصهيونية العنصرية؟ كان العلمانيون يهدفون إلى توجيه ضربات موجعة للإسلام وعقائده وعلومه ورموزه عبر ترسانة ضخمة من المفاهيم والآليات النقدية الغربية. لكن أثبتت التجارب والملاحظات فشل هذا المشروع التغريبي، وثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه كلما زادت جرعات العلمنة في المجتمع زادت قوة التدين، وأن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه (¬1). مما يؤكد ما قاله جماعة من الغربيين إن الإسلام يشكل استثناء في قبول العلمنة. ¬

_ (¬1) قال فرانسوا بورجا في كتابه الإسلام السياسي: إن مقدار ضغط الغرب على المسلمين هو نفسه مقدار صحوة المسلمين مرة أخرى. الجديد في المخطط الغربي تجاه المسلمين (38).

مشكلة التيار العلماني أنه مصمم لرؤية واحدة ذات هدف واحد. يجعل من ديننا مشكلة، فلا يرى فيه إلا ظلامية وتطرفا وعنفا وتخلفا ورجعية، بينما يتغاضى عن جرائم أولياء نعمته. فالعسكر الذي يتحكم في الجزائر، ومن خلفه فرنسا، التي تتحكم في مصائر شعوب إفريقية عديدة، وتتدخل فيها تدخلا سافرا وتحول دون تقدمها ونهضتها وتدعم الديكتاتوريات فيها التي تحتاج إلى ترسانة أركون الجزائري الضخمة من المناهج لسبر أغوارها وتفكيكها وفضحها. علما أن دينه المعشوق «العلمانية» هي السبب في جميع تلك الجرائم. ألم تكن فرنسا لما احتلت الجزائر وقتلت وشردت ونهبت علمانية إلى النخاع؟. قتل ونهب ودعم للظلم والطغيان والاستبداد، كل ذلك في صحيفة العلمانية التي احتضنت أغلب العلمانيين وربتهم على عينها ودججتهم بالأسلحة الفلسفية والمعرفية، وجَيَّشت معهم مُطَّوعين للإجهاز على ما تبقى من القوة الحضارية للمسلمين المتمثلة في هذا الدين العظيم (¬1). ¬

_ (¬1) وبهذه المناسبة أدعو الباحثين الإسلاميين إلى تأسيس علم جديد اسمه علم الاستلاب الفكري، يهدف هذا العلم إلى دراسة الاستلاب الغربي للعقول العربية والإسلامية وتدجينها لخدمة مشروعه الحضاري التغريبي، والبحث في مناهجه وأساليبه وطرقه وأهدافه ومخططاته وتاريخه، بدءا من زعيم التغريب رفاعة الطهطاوي ومرورا بطه حسين وقاسم أمين وانتهاء بأبناء السربون أركون وحنفي وغيرهم ..

وقد دلت الشواهد التاريخية العديدة والوثائق المنشورة أن العلمانية سلاح غربي للهيمنة ومقدمة للغزو الفكري والإلحاق الحضاري والتبعية الثقافية وذوبان الهوية، أو لنقل بعبارة أدق كما سماها بعض الكتاب: العمالة الحضارية. وإن التجديد الذي يزعم العلمانيون أنهم يمارسونه للدين ليس أكثر من عملية نقل أو سطو على ما هو شائع في الثقافة الغربية الوضعية، وعرضه في الساحة الثقافية العربية والإسلامية على أنه إبداع أصيل (¬1). الأمر الذي جعل العلمانيين يتحولون إلى أسرى للغزو الفكري، ينظرون بنظارات غربية سميكة لا ترى في ديننا وحضارتنا وتاريخنا إلا صورا كربونية للحضارة الغربية ودينها وتاريخها (¬2). ولو أزالوا تلك النظارات من أعينهم لتبين لهم أن الشريعة الإسلامية تمثل الطاقة المحركة للأمة نحو التحرر الوطني والعزة الوطنية والقومية، وصمام الأمان نحو التمايز الثقافي والحضاري، الذي يكرس التنوع والتعدد، لا الذوبان والتبعية والإلحاق الحضاري للحضارة الغربية (¬3). والعلمانية هي الرمز لاستسلام الأمة الإسلامية لخيار التبعية للغرب الاستعماري والذوبان في الحضارة الغربية الوضعية المادية (¬4). ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن (637). (¬2) الغزو الفكري وهم أم حقيقة (87). (¬3) الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (8). (¬4) نفس المرجع.

وقد عبر العلماني اللبناني علي حرب عن هذه الحقيقة بقوله عن منجزات الفكر الغربي: لأننا نتغذى منه، بل نحن ثمرة من ثمراته. الممنوع والممتنع (231). فالنموذج الغربي المحتذى يسكن في تلافيف دماغ المثقف العربي يمنعه من رؤية واقعه ويدفعه للتفكير وفق النموذج المحتذى (¬1). وسيأتي مزيد بسط في محله لهذه المسألة إن شاء الله. ولكن لننقل الآن ثلاثة نقول هامة في هذا الصدد: الأول: قال المستشرق جب في كتابه «حيثما يتجه الإسلام»: إن جعل العالم الإسلامي غربيا، أو حمله على حضارة الغرب لا يتوقف على المظاهر الخارجية للتقليد والاقتباس، بل يجب علينا أن نبحث عن الآراء الجريئة والحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثر (¬2) بالأساليب الغربية، وينتهي إلى ضرورة خضوع العالم الإسلامي لقيم الغرب وعاداته. ويقول: المدارس والمعاهد ليست إلا خطوة في الطريق (¬3). والثاني: قال السيناتور الأمريكي جوزيف ليبرمان المرشح الديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات الأمريكية سنة 2000م: إنه لا حل مع الدول العربية والإسلامية إلا أن تفرض عليها أمريكا القيم والنظم والسياسات ¬

_ (¬1) الحركات الإسلامية (124). (¬2) في المطبوع: التأثير. ولعل الصواب ما أثبت. (¬3) تهافت العلمانية (17).

التي نراها ضرورية. فالشعارات التي أعلنتها أمريكا عند استقلالها لا تنتهي عند الحدود الأمريكية بل تتعداها إلى الدول الأخرى (¬1). والثالث: في كتاب الأقليات بين العروبة والإسلام لمحمد السماك (ص 57 - 59) أن فلاسفة الاستعمار الفرنسي ومنظروه أعلنوا أن الأسلحة الفرنسية هي التي فتحت البلاد العربية، وهذا يخولنا اختيار التشريع الذي يجب تطبيقه في هذه البلاد!. . ويجب فصل الدين الإسلامي عن القانون المدني. . وحصر الإسلام في الاعتقاد وحده. . والحيلولة دون اندماج العادات والأعراف في الشرع الإسلامي، ليتيسر دمجها في القانون الفرنسي بدلا من القانون الإسلامي (¬2). ومن ناحية أكد جمع من الكتاب الغربيين والعرب العلمانيين أن الإسلام يمثل استثناء فريدا في الممانعة ضد العلمنة، وأنه رغم الهجمة الاستعمارية الشرسة والحملات التغريبية المتعددة والدعم اللامشروط للمليشيات العلمانية، ظل الإسلام عصيا على أي اختراق علماني باعتراف العلمانيين كما سيأتي بيانه في فصل خاص إن شاء الله. مما أوقع العلمانية في أزمة ومأزق حقيقي حتى صارت مرادفة للكفر والإلحاد عند جماهير الناس، وشاع في الإعلام والجرائد والمجلات ومراكز البحوث والأوساط السياسية مقابلة الإسلام بالعلمانية والإسلاميين بالعلمانيين. ولهذا سارع عدد منهم إلى محاولة التمظهر بالتدين وأن هدفهم فقط هو إبعاد الدين عن أي استغلال سياسي. ¬

_ (¬1) الغرب والإسلام (84) نقلا عن صحيفة الأهرام في 16/ 01/2002. (¬2) الغرب والإسلام (73).

في حين فضل آخرون تجاوز هذا المصطلح لما ارتبط به من حمولة إلحادية معادية للدين. وأبرز من مثل هذا التيار هو الجابري، الذي فضل مصطلح الديمقراطية والعقلانية بدل العلمانية (¬1). لكن لا تعدو المسألة أن تكون مناورة مكشوفة من الجابري. وقد بين العلماني اللبناني علي حرب في نقد النص (126) أن مراد الجابري عدم إثارة حفيظة الإسلاميين وحسب. وفضَّل عبد العلي بنعمور استعمال مصطلح الزمنية بدل العلمانية، لأن العلمانية تحمل فكرة عقائدية مادية بارزة (¬2). واقترح سعد الدين إبراهيم إبدال مصطلح «علماني» إلى «مدني»، و «إسلامي» إلى «ديني» (¬3). وكذا نقل نصر أبو زيد عن إخوانه تفضيل مصطلح «التنوير» و «الليبرالية» وغيرها على مصطلح العلمانية (¬4). واستحسن عبد الله العروي مصطلح «دنيوي» أو «معاملاتي» أو «سلطاني» بدل علماني (¬5). ¬

_ (¬1) في نقد الحاجة إلى الإصلاح له (83)، ومواقف (34) (ص 17 - 85 - 103 - ) ومجلة اليوم السابع، باريس عدد 22 آب 1988. (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (244) وقدر العلمانية في العالم العربي (58). (¬3) الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (31). (¬4) التفكير في زمن التكفير (34). (¬5) السنة والإصلاح (211).

ولم تثمر هذه المحاولات شيئا يذكر، بل ظلت العلمانية مصطلحا ذا حمولة سلبية، زيادة على ذلك تحولت إلى مفهوم متحجر مغلق ونهائي، وتصلبت وتخشبت مفاهيمها حتى تحولت إلى أصنام وأوثان هامدة كما سيأتي بيانه في محله. وهكذا كل فكر متسلط عبر التاريخ، فقد كانت الماركسية تزعم أنها الحقيقة العلمية الوحيدة، وأنها أرقى ما وصل إليه العقل البشري، وما عداها أفكار رجعية متخلفة. وهكذا يرى جمع من العلمانيين أن العلمانية حتمية غير قابلة للنقاش (¬1)، فوق تاريخية ومطلقة، فإما العلمانية وإما الجحيم (¬2). وهذا ما تنعاه العلمانية على الأديان. ولهذا أحس جمع من العلمانيين بالمأزق الذي وصلته علمانيتهم فتحدثوا عن أزمة العلمانية أو ما بعد العلمانية، أو ما بعد الحداثة. وكالعادة جاء النقد من الغرب، فما كان على المقلِّدين إلا الإتباع. ومن أكثر العلمانيين نقدا لمأزق العلمانية العربية علي حرب وتركي علي الربيعو، وقليلا كمال عبد اللطيف، وقد عبر الأخير في كتابه التفكير في العلمانية (5) عن الالتباس الكبير في مفهوم العلمانية، ووصفه بأنه من أكثر مفاهيم الفكر السياسي العربي التباسا، سواء على مستوى اللفظ والرسم والجذر اللغوي، أو ¬

_ (¬1) اعتبر أركون العلمانية حتمية وإجبارية لأنها مسألة تخص المعرفة. العلمنة والدين (10). ولفؤاد زكريا مقالة بعنوان: العلمانية ضرورة حضارة، في مجلة قضايا فكرية ع 8/ 1989. (¬2) لما سئل نصر أبو زيد: هل العلمانية ضرورية للمجتمعات العربية؟ قال: هي أو الموت. قدر العلمانية في العالم العربي (53).

على مستوى الدلالة المباشرة أو الدلالات المختزنة ضمن تلافيف طبقات معانيه العديدة المترسبة بفعل الزمان. وقبل أن نختم هذه المقدمة لابد من التأكيد على الحقائق التالية: الأولى: إذا كانت العلمانية حلا لمشاكل المجتمعات الغربية فإنها لما قطعت عن سياقها وشروطها أصبحت هي نفسها جزءا من المشكلة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هي المشكلة ذاتها، لأن الظروف غير الظروف والشروط غير الشروط والذهنيات مختلفة والحضارة مختلفة. فلم نجن منها إلا البطالة والفقر والظلم والاستبداد ولم تنجح العلمانية في إخراجنا من تخلفنا، بل زادته عمقا وتعقيدا. ولطالما سوق الإعلام الغربي والعربي والمغربي نموذج تونس باعتباره نموذجا علمانيا ناجحا واعدا. فجاءت الثورة البوعزيزية لتكشف الغطاء عن التضليل الإعلامي والضلال العلماني: دولة استبدادية قمعية بوليسية وتدهور اجتماعي وفساد إداري، والقائمة طويلة. وطالما هتف العلمانيون بنموذج تركيا، التي لم تحس بنعمة الرفاهية والتقدم إلا في ظل حكم العدالة والتنمية الإسلامي. قال أركون عن التجربة العلمانية التونسية: إنها تستحق أن تُستعار وتُقلد وتُعمم وتُرسَّخ في مجمل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط (¬1). ¬

_ (¬1) نحو نقد العقل الإسلامي (186).

وماذا عن حقوق الإنسان يا ابن السربون؟ أليس النظام الذي تريد أن تعممه علينا نظاما بوليسيا قمعيا استبداديا باعتراف المنظمات الفرنسية التي توجد بين أظهرها وتكتب في كل وقت عنه؟. انظر كيف يتغاضى العلمانيون بعضهم عن بعض، فالهم الإيديولوجي فوق حقوق الإنسان والحريات العامة، أو لنقل إن العلمانية مقدسة وفوق كل الاعتبارات، وما دامت ستطبق فلا يهم بأية وسيلة، ولا بأس أن تكون على أشلاء الناس وجثثهم فضلا عن حقوقهم وآدميتهم. وكانت العلمانية الفرنسية وعلى رأسها ساركوزي أكبر داعم للطاغية ابن علي، طوال 23 عاما. ولزمت الصمت طوال 23 يوما من القتل والقمع إبان الثورة. وقد أدان مجموعة من السياسيين والحقوقيين الفرنسيين هرم السلطة السياسية الفرنسية العلمانية تواطؤهم مع الطاغية. ولأن العلمانيين لا أيمان لهم، رفض ساركوزي استقبال صديقه الجلاد ابن علي، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} الحشر16 (¬1). والثانية: إذا كانت محاكمة العلماء في محاكم التفتيش من أهم الأسباب التي أفرزت العلمنة في الغرب، فإنه لم يحاكم عالم لبحوثه العلمية في التاريخ الإسلامي باعتراف العلماني محمد أركون في تاريخية الفكر العربي (25). ¬

_ (¬1) كتبت هذا قبل ثورة تونس، ثم جاءت ثورة تونس وأسقطت الطاغية وأعوانه إلى الأبد، وتحررت المساجد من قمع نظامه، وتصاعدت الحركات الإسلامية، وعادت البلاد إلى أهلها.

وقد شجع الإسلام العلم وطلبه، ولم يعرف تاريخه معارضة البحث العلمي الجاد. وقد نَعِم العلماء المسلمون بحرية مطلقة في بحوثهم خلال القرون السالفة في ميادين البحث المختلفة. أما الكنيسة فكانت ترى أن الجهالة أم التقوى. وإذا كانت الاكتشافات العلمية مضادة للتعاليم المسيحية المحرفة التي لا تمثل عقائد عيسى عليه السلام. فديننا بخلاف ذلك، فقد عضدت الاكتشافات العلمية ما دل عليه القرآن والسنة من حديث حول نشأة الأرض والكواكب والسحاب والأجنة وغيرها، كما هو معروف، حتى نشأ علم جديد يسمى علم الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وله رجاله ومؤلفاته ومؤتمراته، يشارك فيها المسلمون وغيرهم. ولقد رماه العلمانيون عن قوس واحدة، وسخروا منه واستهزؤوا من رموزه، لأنه يهدم أصلا أصيلا من أصولهم، ألا هو تاريخية النص الديني. كما سيأتي تفصيله في الجزء الثاني عند حديثنا عن موقف العلمانيين من القرآن الكريم إن شاء الله تعالى. وقد تواطأ العلمانيون على إدانته والتنقيص من قيمته، فأركون مثلا في تاريخية الفكر العربي (199) اعتبره من الأدبيات الإسلامية التبريرية التبجيلية، وقال: إن هذا خطأ يجب أن يدان فورا. أما خليل عبد الكريم فأزعجه كثيرا وجود هذا العلم (¬1). ¬

_ (¬1) الأعمال الكاملة (195).

ولهذا لم ير بأسا هو والقمني (¬1) في اختراع المغالطات حوله، فزعما أن علماءه يدعون أن في النصوص المقدسة سائر النظريات العلمية التجريبية والإنسانية التي ظهرت وتظهر وسوف تظهر إلى يوم القيامة (¬2). وليس في المسلمين من يقول هذا، ولكن هذه سِلْعة المُفْلس. والقوم لا هَمَّ لهم بشيء اسمه كذب وافتراء، لأن علمانيتهم لا تهتم بهذه الأمور الإيمانية. وكلنا نعلم أن هذه الفرية من بنات أفكارهم ومما عملت أيديهم. ولا يوجد عالم واحد يقول إن كل النظريات المكتشفة في القرآن والسنة، ولكن يقولون: إن الله أودع في كتابه إشارات لبعض الحقائق العلمية من باب الحجة ومن باب إقامة البراهين المناسبة لهذا العصر لإظهار كون هذا الكتاب من عند الله وأنه حق. فكل ما في الأمر أن القرآن والسنة اشتملا على حقائق علمية معينة إظهارا لإعجازه المستمر إلى يوم القيامة وتثبيتا لإيمان أهله. والعجيب أن علماء غربيين في شتى التخصصات اعترفوا للقرآن والسنة بذلك، وشارك عدد منهم في مؤتمرات هذا العلم. ولكن الطابور الخامس يشكك ويهمز ويلمز. وقال خليل عبد الكريم بعد أن ذكر أن عرب الحجاز كانوا في الدرك الأسفل من السلم الحضاري وأن محصولهم من الطب والفلك وغيرها كانت مجرد معارف، وإن تلك البيئة من المستحيل عقلا أن تنبثق عنها نصوص تحمل نظريات علمية، لأن فاقد الشيء لا يعطيه (¬3). ¬

_ (¬1) انتكاسة المسلمين (26 - 35). (¬2) الأعمال الكاملة (218) والإسلام بين الدولة الدينية (8 - 9 - 10). (¬3) الأعمال الكاملة (195).

كان علماء السنة قديما يقولون عن الجهمية: إنهم يدورون على أنه لا يوجد إله في السماء. وهكذا العلمانيون في تقديري، يتحدث خليل عبد الكريم عن القرآن والسنة بمثابتهما إفرازا ثقافيا لعرب الحجاز في القرن السابع، لا أن إلها في السماء يعلم السر وأخفى هو الذي أنزله. وهذه هي حقيقة «تاريخية النص» كما سيأتي تفصيله في الجزء الثاني. وهذا عادل الجندي يقول: بل إن هناك من أدعياء الدين ممن يقومون بدور المشعوذ والساحر بصورة بارعة (راجع ما يقوم به خبراء الإعجاز العلمي في القرآن) (¬1). وقال أشرف عبد القادر: وأتعجب من جريدة الأهرام المصرية كيف تسمح للمشعوذ زغلول النجار أن ينشر أكاذيبه وهذياناته عن الإعجاز العلمي في القرآن الذي هو كذب وقح على القرآن والعلم معا (¬2). وجزم أبو زيد بأن النصوص الدينية ليست نصوصا مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت في إطارها بأي حال من الأحوال (¬3). من هنا يستحيل عند أبي زيد الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن، لأنه ما دام نصا لغويا فيجب بحثه داخل إطار الثقافة التي تشكل فيها لا ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (320) وقدر العلمانية في العالم العربي (133). (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (10). (¬3) النص والسلطة (92) وانظر (145) منه.

خارجها، قال: وأي حديث عن الكلام الإلهي خارج اللغة من شأنه أن يجذبنا شئنا ذلك أم أبينا إلى دائرة الخرافة والأسطورة (¬1). يتظاهر هنا أبو زيد بمثابة الناصح الأمين الحريص على عدم تحويل القرآن إلى خرافة وأساطير، مع أنه هو وإخوانه هم الذين طالما اتهموا القرآن بتضمنه الخرافات والأساطير. لكن ما يسكت عنه أبو زيد ويضمره هو أن الإعجاز العلمي في القرآن سيقضي على مفهوم تاريخية القرآن التي يدور عليها مشروعه ومشروع إخوانه. لأن القرآن إذا كان أخبر عن نظريات علمية لم تكن في عصر إنتاجه وتشكله حسب عبارة أبي زيد، إذا فالقرآن بهذا الاعتبار يلغي تماما الحديث عن تاريخيته، وبالتالي فهو نص مفارق فوق بشري. وهذا يهدم الصرح العلماني بأسره. وأما سيد القمامة فقد سخر في معظم كتبه من الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، منها: انتكاسة المسلمين (25 - 26)، وحجة القمني أمران: 1 - إن القرآن كتاب إيمان وليس كتاب تكنولوجيا ورياضيات وبيولوجيا. 2 - لماذا لم يكتشف المسلمون أيا من هذه النظريات اعتمادا على القرآن والسنة (¬2). ¬

_ (¬1) نفس المرجع. (¬2) انتكاسة المسلمين (26).

وليس من همنا الآن بيان تهافت هذا الطرح. ونؤجل ذلك إلى بحوث قادمة إن شاء الله. والثالثة: نَعَم للحداثة التقنية ولا للحداثة الفكرية الفلسفية. الحداثة التقنية لها ارتباط بالترفيه المادي والتحديث الآلي، وليست لها أبعاد أيديولوجية ولا فلسفة حياتية، ولا أفكار مسبقة. بينما الحداثة الفكرية مرتبطة تمام الارتباط بنظرة وجودية وفلسفة للحياة وموقف من الآخر سواء كان هذا الآخر دينا أو مذهبا أو حضارة أو شخصا أو غيره. والحداثة التقنية يتفق عليها كل الناس. وهي جوهر الرقي والتقدم والازدهار. ولهذا فاليابان مثلا لها حداثة تقنية هائلة مع حفاظها على هويتها وأديانها المعروفة. ويحاول العلمانيون خلط الحداثة التقنية بالحداثة الفكرية الفلسفية، وإيهام الجماهير بأن كل معارض للحداثة فهو ضد التحضر والتقدم. مع أن الفرق واضح بين الأمرين. والحداثة التقنية والعلمية شيء، والحداثة الفكرية الفلسفية التي تعني في الأصل إقصاء الدين من المجتمع وإبعاده عن المشاركة شيء آخر. والحداثة الأولى مرحب بها من قبل الجميع، والثانية مقبولة كنيسيا وغربيا، ومرفوضة إسلاميا. فمن الممكن كما قال رفيق عبد السلام في كتابه «في العلمانية والدين والديمقراطية» (125) الخروج من دائرة الروابط التقليدية الموروثة مثل رابطة القبيلة والطائفة والمذهب لصالح الانتماء الحديث، والانتقال من نمط الإنتاج

التقليدي إلى النمط الحديث، والتحول من عالم الريف والبادية إلى المدينة المفتوحة، دون أن يكون ذلك مشفوعا بالضرورة بانتقال نحو ثقافة العلمنة أو القطع مع التصورات والمسلكيات الدينية على نحو ما تدعي نظريات العلمنة غالبا. وقد اعترف محمد أركون في نحو نقد العقل الإسلامي (270) بالفرق بين الحداثة الفكرية والثقافية، والحداثة المادية والتكنولوجية والمعلوماتية وأن الأولى تثير اشتباه رجال الدين، والثانية تثير شهيتهم. ورغم وضوح هذه الحقيقة للأعمى والبصير، فإن علمانيا مثل القمني (¬1) اعتبر أن العلمانية أنتجت العلوم التقنية والطب الحديث والسيارات الفاخرة والطائرة، وقضت على الكوليرا والسل وغيره. بينما الأديان لم تفعل شيئا من ذلك رغم طِبِّها النبوي وغيره (¬2). بهذه البساطة، بل الضحالة يكتب، مع وضوح الفرق بين العلم الذي لا علاقة له لا بدين ولا مذهب ولا شيء. وبين العلمانية كموقف سياسي واجتماعي واقتصادي مناهض للدين. ومن أَلِف القمامة واعتاد عليها ليس من السهل عليه التفريق بين الإنتاج العلمي الذي يقوم به المتدين وغيره وبين الموقف الفلسفي. ولكن لا بأس أن نسوق له خبرا هاما كتبه علماني مثله يلقمه أحجارا لا حجرا واحدا: ¬

_ (¬1) الذي لم أر في العلمانيين أكثر احتقارا للشريعة وسخرية من أهلها وحملتها منذ الصحابة إلى هذه العصور منه. (¬2) انتكاسة المسلمين إلى الوثنية له (282 - 283).

قال محمد الشيخ في «ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟» (14 - 15): وبعد هذا، هذان رجلا دين كانا وراء أعظم ثورتين حداثيتين في مضمار العلم: القس النمساوي جريجور يوهان ماندل (1822 - 1884) الذي يقف وراء الثورة الجينية الحديثة، وذلك بوسمه واضع قواعد التوارث وضوابطه، والقس البلجيكي جورج هنري لوميتر (1894 - 1966) الذي يقف وراء الثورة الكوسمولوجية الحديثة، وذلك بوصفه أول من قال بنظرية الانفجار الأعظم، وعانى ما عاناه من زراية خصومه به، بما فيهم العالم الكبير ألبير اينشتاين بعد أن اتهموه بأنه استملى نظريته من عقيدته الدينية استملاء، مستندا إلى القول التوراتي: في البدء كان النور ... ثم زاد وقال (15): فقد ثبت لدى المحققين من أهل النظر إمكان أن يكون الدين مفهوما الفهم الدقيق العميق ملهم الحداثة، وذلك بحسب ما بينه العلامة الاجتماعي الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير عن البروتستانتية وروح الرأسمالية. انتهى. أقول هذا وأنا أعلم أن القمامي يصعب عليه فهم ما هو خارج دائرة التقمم. لكنه عبرة لغيره. والحاصل أن التقدم العلمي والتقني والرفاهية والتحضر شيء، ورفض الدين أو قبوله شيء آخر. فقد يحصل التقدم العلمي التكنولوجي في ظل مجتمع علماني، وقد يحصل في ظل مجتمع متدين وخاصة الإسلامي لعدم معارضته للبحث العلمي.

حقيقة العلمانية

حقيقة العلمانية العلمانية لغة (¬1): العلمانية لفظ مترجم عن ( Secularism) بالإنجليزية أو ( Secularite) بالفرنسية. وهي مشتقة من كلمة ( Saeculum سيكولوم)، وتعني العالم أو الدنيا. هناك من ينطق العلمانية بكسر العين، نسبة إلى العلم نسبة خاطئة. لأن ( Science) العلم النسبة إليه بالإنجليزية: ( Scientific)، وبالفرنسية: Scientifique. وهناك من ينطقها بالفتح، نسبة إلى العَلْم، بمعنى العالم أي: الدنيا. في المعجم الوسيط (2/ 624): العَلماني: نسبة إلى العَلْم بمعنى العَالَم وهو خلاف الديني أو الكهنوتي. انتهى. لكن ضبط العَلْم بالفتح فالسكون بمعنى العالم فيه نظر، فقد استند من قال به للقاموس المحيط ونقلوه هكذا: والعَلْمُ والعالَمُ: الخَلْقُ كُلُّهُ. والذي في القاموس المحيط (1472): ومَعْلَمُ الشيءِ كمَقْعَدِ: مَظِنَّتُه وما يُسْتَدَلُّ به كالعُلاَّمَةِ كرُمَّانَةٍ والعَلْمِ. والعالَمُ: الخَلْقُ كُلُّهُ. انتهى. «والعَلْمِ» معطوف على العُلامة، لا أنه مبتدأ معطوف عليه. فكأنه قال: ومَعْلَمُ الشيءِ: مَظِنَّتُه كالعُلاَّمَةِ والعَلْمِ. ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن الكريم (239) والتيار العلماني الحديث (42) والعلمانية مفاهيم ملتبسة (170 - 171) والعلمانية لسفر الحوالي (21) والعلمانية تحت المجهر والمفترون (251) والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (17) وغيرها.

وعليه فالأصوب أن العَلْمانية منسوبة إلى العَالَم، لأن النسبة له: عَالَماني، فحذفت الألف الأولى تخفيفا وانتقلت حركتها للحرف بعدها فقيل: عَلْمَاني. كما يقال: طلقاني، نسبة لطالقان. والألف والنون فيها للدلالة على المبالغة في الإيمان بهذا العالم المحسوس دون سواه (¬1). قال عدنان الخطيب في قصة دخول العلمانية في المعجم العربي (166): إن ضبط كلمة علماني بكسر العين لا سند له من لغة أو تاريخ، بل هو مجرد إقرار لخطأ شاع بين طوائف من المثقفين غير المبالين بسلامة نطق الكلمة ... وكذا نبه عبد الصبور شاهين في العلمانية تاريخ الكلمة وصيغتها (124) إلى أن كلمة العلمانية لا علاقة لها بكلمة العلم بالكسر، لا من حيث الضبط ولا من حيث الدلالة، وأن الصواب نطقها بالفتح (¬2). وبالنظر في السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي الذي نشأت فيه العلمانية يؤكد على عدم ربط المصطلح بالعلم، وإنما بالعالم المحسوس المادي المقابل للعالم الغيبي الميتافيزيقي الذي ما قامت العلمانية إلا لتجاوزه. ¬

_ (¬1) عَلماني وعَلمانية تأصيل معجمي (143). (¬2) وعليه مشى المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية في طبعة سنة 1960 والطبعة الثانية سنة 1979. غير أنه كسرها في الطبعة الثالثة سنة 1985. والقرضاوي في الإسلام والعلمانية وجها لوجه (45).

العلمانية اصطلاحا

العلمانية اصطلاحا (¬1): لابد من النظر إلى العلمانية عند إرادة تعريفها نظرة شمولية من خلال كافة الإفرازات الثقافية لروادها، ولابد من التعامل مع الظواهر الاجتماعية والثقافية المختلفة وغيرها التي خلفتها، ولابد من الأخذ بعين الاعتبار للأسس الفلسفية التي خرجت من رحمها، ولابد كذلك من فهم السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي العام الذي وجدت فيه. وقد غفل عن كل هذا أو بعضه كثير ممن تصدوا للتعريف بالعلمانية. فعرفها بعضهم بأنها فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة. وهو تعريف ساذج قاصر لا يغطي حقيقة العلمانية الغربية، ونسختها العربية المستوردة. واختزالها إلى هذا نوع من التبسيط المخل، باعتراف جمع من العلمانيين. فليست العلمانية قاصرة على السياسة، بل هي شاملة للاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفن وفلسفة الحياة وغيرها. بل من الباحثين من يرى أن التعريف السابق تعريف سطحي ومضلل، إذ جذور العلمانية أعمق من ذلك بكثير، وفصل الدين عن السياسة يمثل إحدى الثمار البدائية التي يمكن اقتطافها من هذه الشجرة. وهي تمتد إلى جميع أبعاد شؤون الحياة البشرية، ومنها الحياة السياسية (¬2). ¬

_ (¬1) - وقد أسهب عبد الوهاب المسيري في «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» و «العلمانية تحت المجهر» في تحليل مفهوم العلماني، وكشف التطور المفاهيمي لهذا المصطلح، كما أسهب الطعان في العلمانيون والقرآن الكريم في تتبع أغلب التعريفات لهذا المصطلح. (¬2) التراث والعلمانية (80).

ولهذا عرفها آخرون بأنها فصل الدين عن الحياة (¬1). وهو تعريف قاصر كذلك، لأن العلمانية بمفهومها الشامل لا تقف عند مجرد الفصل، بل لها موقف سلبي من الدين من جهة، ومن جهة أخرى لها مفهوم فلسفي حسب د. ج. ويل، حيث قال: الفكرة العلمانية تنطوي على مفهوم فلسفي يتعلق باستقلال العقل في قدرته. وعند كلود جفراي: إلغاء كل مرجع ديني (¬2). وعرفها كورنليس فان بيرسن بأنها تعني: تحرر الإنسان من السيطرة الدينية أولا، ثم الميتافيزقية ثانيا على عقله ولغته. وقال: إنها تعني تحرر العالم من الفهم الديني وشبه الديني، إنها نبذ لجميع الرؤى الكونية المغلقة وتحطيم لكل الأساطير الخارقة وللرموز المقدسة ... إنها تعني أن يدير الإنسان ظهره لعالم ما وراء الطبيعة (¬3). وعرفها فتحي القاسمي العلماني: بأنها نزعة استقلالية بشرية انبنت على انسلاخ عن سيطرة المفاهيم الدينية على الإنسان (¬4). وعرفها المؤتمر العام الدائم للتيار العلماني في لبنان: نظرة شاملة للعالم أي للإنسانية جمعاء، والكون كله تؤكد استقلالية العالم بكل مقوماته وأبعاده وقيمه، ¬

_ (¬1) العلمانية لسفر الحوالي (24) والتطرف العلماني في مواجهة الإسلام (15 - 16). (¬2) العلمانية وانتشارها شرقا وغربا لفتحي القاسمي (48)، بواسطة العلمانيون والقرآن (130). (¬3) مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية للعطاس (42)، نقلا عن العلمانيون والقرآن (129 - 130). (¬4) العلمانية وانتشارها شرقا وغربا لفتحي القاسمي (47) نقلا عن العلمانيون والقرآن (244).

تجاه الدين ومقوماته وقيمه، والاستقلالية تعني أن هناك قيما ذاتية فعلية للعالم غير مستمدة من الدين وغير خاضعة له (¬1). وهذا تعريف شامل للعلمانية. إنها باختصار إقصاء للدين من جميع المجالات. وهو نفس ما عبر عنه عبد السلام سيد أحمد، فالعلمانية عنده تقوم على إحلال منظومة متكاملة من القيم والأخلاق والعلائق الإنسانية أو الإنسية مقابل الدينية (¬2). وعرفها معجم أكسفورد (785): العلمانية تعني: أ- دنيوي أو مادي، ليس دينيا ولا روحيا، مثل التربية اللادينية، الفن، الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية أو الحكومة المناقضة للكنيسة. ب- الرأي الذي يقول: إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسا للأخلاق والتربية (¬3). وعرفتها دائرة المعارف البريطانية (9/ 19) تحت مادة ( Secularism): هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها. وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت ( Secularism) تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، ¬

_ (¬1) من الفكر الحر إلى العلمنة (122). نقلا عن العلمانيون والقرآن (245). (¬2) العلمانية تحت المجهر (72). (¬3) التيار العلماني الحديث (44).

حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامعهم في هذه الدنيا القريبة، وظل هذا الاتجاه يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله، باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية (¬1). وفي معجم ويبستر Webster عرفها بـ: فهي رؤية للحياة، أو في أي أمر معين يعتمد أساسا على أنه يجب استبعاد الدين وكل الاعتبارات الدينية وتجاهلها، ومن ثم فهي نظام أخلاقي يعتمد على قانون يقول: بأن المستويات الأخلاقية والسلوكيات الاجتماعية يجب أن تحدد من خلال الرجوع إلى الحياة المعيشية والرفاهية الاجتماعية دونما الرجوع إلى الدين (¬2). وفي معجم المورد عرفها بـ (827): عدم المبالاة بالدين أو بالاعتبارات الدينية (¬3). والملتزم بالعلمانية عند عبد الصبور شاهين هو: الإنسان الرافض للدين، المبعد له عن حياته، المحارب لرسالته في المجتمع، الحريص على أن يلتزم الناس بقيم مدنية ولا دينية عالمية (¬4). وهي عند فهمي هويدي: منظومة فكرية متكاملة، وأساس متميز لرؤية الواقع والعالم، وأنها رؤية للكون وفلسفة في الحياة (¬5). ¬

_ (¬1) نفس المصدر (43). (¬2) علماني وعلمانية تأصيل معجمي لأحمد فرج (136 - 137). (¬3) تهافت العلمانية (229). (¬4) العلمانية تاريخ الكلمة وصيغتها (117). (¬5) المفترون (264 - 265) بتصرف.

وهو ما أكده جماعة من العلمانيين: فاعتبر عادل ضاهر أن العلمانية غير منحصرة في فصل الدين عن الدولة، وقال: هي موقف شامل ومتماسك من طبيعة الدين وطبيعة العقل وطبيعة القيم وطبيعة السياسة (¬1). واعتبر كذلك أن التعريف السائد للعلمانية (أي: فصل الدين عن الدولة) تعريف سطحي جدا (¬2)، إنها عنده في المقام الأول موقف من الإنسان والقيم والدين والمعرفة (ص9). وقال في مكان آخر (ص54) معرفا العلمانية: تعني بالضرورة رفض مبدأ العودة إلى الدين بوصفه المرجع الأخير والسلطة الأخيرة في كل الشؤون. واختار العلماني المصري شريف حتاتة أن العلمانية دعوة شاملة وليست قاصرة على فصل الدين عن الدولة (¬3). وزاد مؤكدا قبل هذا (102) أن القوانين والنظم والتعليم والإعلام ومختلف الأنشطة التي تقوم بها الدولة مفروض ألا تبقى لها أية علاقة بالأفكار الدينية بأي نوع من الأنواع. وعند لكحل: إن العلمانية منظومة فكرية وسياسية وقانونية (¬4). ¬

_ (¬1) الأسس الفلسفية للعلمانية (6). (¬2) وعنده (38) هذا الفهم السائد للعلمانية هو تعريف لها باعتبار أغراضها، لا باعتبار الأسس التي تقوم عليها. (¬3) العلمانية مفاهيم ملتبسة (111). (¬4) العلمانية مفاهيم ملتبسة (281).

وقالت ماجدة رفاعة الطهطاوي: فالعلمانية لا تنحصر في الفصل بين الدين والدولة، وإنما هي تمثل قطيعة معرفية مع الماضي أي: الانتقال من هيمنة الفكر الميتافيزيقي (المطلق) التي اتسمت به العصور الوسطى إلى الأزمنة الحديثة التي اهتمت بالحقائق النسبية والجزئية، وأعطت الأولوية للعقل وحرية التفكير (¬1). ولا زلنا مع هذه النصوص التي نريد من تنويعها وتكثيرها البرهنة على أن العلمانية فلسفة عامة للحياة، وليست فصل الدين عن السياسة كما يوهم بعض العلمانيين تمويها وتعمية. وهذه شهادة غاية في الصراحة: قال محمود إسماعيل بعد تأكيده أن تعريف العلمانية بفصل الدين عن الدولة تعريف قاصر، وزاد: إذ نعتقد أنه يشمل إلى جانب ذلك نمطا في التفكير يتعلق برؤية عامة للكون والحياة، ولا يقتصر على تصور للحكم فقط، إنه مشتق من العالم كبديل للرؤية اللاهوتية التي ترى أن هذا العالم محكوم بقوة غيبية مفارقة لهذا العالم، تقدر مصائره وتتحكم في أقداره. من هنا كانت العلمانية رؤية تذهب إلى أن القوانين الموضوعية لحركة التاريخ تنبثق من العالم نفسه، وليست قدرا مهيمنا عليه من خارجه (¬2). وزاد: فالعلمانية كما أوضحنا سلفا رؤية شاملة وفلسفة حياة (¬3). ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (326 - 327). ويكفي عنوان كتابهم هذا دليلا على حيرتهم وتخطبهم واضطرابهم وشعورهم باليأس، فعلمانيتهم ذات مفاهيم ملتبسة مختلة متناقضة، فليست تنويرية ولا تقدمية ولا عقلانية، بل هي مفاهيم ملتبسة، والحمد لله رب العالمين، وكفى الله المؤمنين القتال. (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (90). (¬3) نفس المصدر (98).

وعند أركون الحداثة في الفكر الفرنسي والألماني تعني أولا وقبل كل شيء الموقف الفلسفي من الوجود (¬1). وقال كمال عبد اللطيف في التفكير في العلمانية (37) بعد تأكيده على أن العلمانية تعني رفض هيمنة المقدس (أي: الدين) على الحياة، وهي بديل عنه، قال: وقد ارتكز المفهوم في سياق تطوره الفكري إلى قاعدة فلسفية كبيرة، هي قاعدة المعتقد الليبرالي، هذه القاعدة التي تسلم بأولوية الإنسان الفرد في الوجود، كما تسلم بالقيمة المطلقة للحرية، وتعتقد بالأهمية اللانهائية لقدرات العقل الإنساني. وعرفها عاطف أحمد بقوله: موقف معرفي يتسم بالتعامل مع أمور الواقع البشري والطبيعي بعقل مستقل يستمد معطياته من خبرتنا بالواقع ذاته خارج أية هيمنة لأية سلطة معرفية أخرى تعتبر نفسها فوق بشرية. الإسلام والعلمنة (15). أي بعبارة أوضح: إقصاء الدين من أي تدخل في شؤون الحياة وإحلال العقل محله. وعرفها بعضهم بأنها التخلي عن كل سند ديني أو غيبي أو ميتافيزيقي، وجعل الإنسان يعتمد على نفسه (¬2). ¬

_ (¬1) قضايا في نقد العقل الديني (99). وانظر العلمانية مفاهيم ملتبسة (76 - 265). (¬2) العلمانية تحت المجهر (66).

وعرفها هبة رؤوف عزت في المرأة والدين والأخلاق (170 - 172) بأنها نزع القداسة عن كل ما هو مقدس وإخراج المطلق من المنظومة المعرفية وسيادة النسبية (¬1). وعرفها توماس فورد هلت في معجم علم الاجتماع المعاصر بأنها منظومة متكاملة تحتوي على ميتافيزيقا واضحة ورؤية شاملة للكون (¬2). وفي المعجم نقلا عن للاري ساينر أن للعلمانية استخدامات: 1 - انحسار الدين وتراجعه (الرموز والعقائد والمؤسسات تفقد هيمنتها ونفوذها). 2 - الفصل بين المجتمع والدين. 3 - التركيز على الحياة المادية في الوقت الراهن بدلا من مستقبل روحي. 4 - اضطلاع منظمات غير دينية بالوظائف الدينية. 5 - اختفاء فكرة المقدس. 6 - إحلال المجتمع العلماني محل المجتمع المقدس (¬3). وجعل الطعان بعد تحليل طويل في كتابه العلمانيون والقرآن الكريم (130) العلمانية في المنظور الغربي: هي التحرر من الأديان عبر السيرورة التاريخية، واعتبار الأديان مرحلة بدائية لأنها تشتمل على عناصر خرافية ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن (274). وعند مراد وهبة في ملاك الحقيقة (29): التفكير في النسبي بما هو نسبي وليس بما هو مطلق. (¬2) العلمانية تحت المجهر للمسيري (62). (¬3) العلمانية تحت المجهر (62 - 63).

كالماورائيات والغيبيات، ولا يتم الخلاص من هذه الأعباء إلا عن طريق تحقيق النضج العقلي الذي تحققه العلمنة عبر آلياتها الثقافية والفكرية والفلسفية. وعرفها كذلك (281) بأنها أنسنة الإلهي وتأليه الإنساني. وعرفها محمود أمين العالم العلماني المصري بأنها ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، وإنما هي رؤية وسلوك ومنهج. وهي عند علماني آخر هو جلال أمين منظومة شاملة ورؤية للكون (الطبيعة والإنسان) تستند إلى ميتافيزيقا مسبقة، تطرح إجابات عن الأسئلة النهائية الكبرى، والعلمانية رؤية للكون تضم إيديولوجيات مختلفة (¬1). إذن فالعلمانية حسب جلال أمين رؤية للكون تضم إيديولوجيات مختلفة (¬2). بينما جعل المسيري (¬3) للعلمانية مفهومين: 1 - العلمانية الجزئية: وهي المعبر عنها بفصل الدين عن الدولة، أي فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد، وربما بعض الجوانب الأخرى ¬

_ (¬1) العلمانية تحت المجهر (109)، وزاد: ولكن هذا المسار يتجه في واقع الأمر نحو الغرب، فالنموذج الغربي في التنمية هو المثل الأعلى المطلوب احتذاؤه ... كل هذا يعني في واقع الأمر أن العلمنة هي شكل من أشكال التحديث والتغريب (التحديث في الإطار الغربي المادي) وكل هذا يتم تحت شعار العالمية والحياد والموضوعية. (¬2) تزعم العلمانية متمثلة في أهم نزعاتها، اللبرالية والماركسية أن آراءها هي ثمرة تقدم العقل البشري وأنها النتاج العلمي والطبيعي أو الاجتماعي للعالم، وهو نتاج عالمي محايد، مجرد عن الأحكام القيمية والميتافيزيقية، لا يحمل بصمات ثقافية أو حضارة بعينها. العلمانية تحت المجهر (109). (¬3) العلمانية تحت المجهر (121). والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (197 - 220).

من الحياة العامة، وهي تلزم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة، ولا تنكر وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية، وربما دينية. 2 - العلمانية الشاملة، وهي رؤية شاملة للعالم ذات بعد معرفي (كلي ونهائي). وهي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مكون من مادة واحدة، ليست لها قداسة ولا تحوي أية أسرار. وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت. فلا يوجد فيها مجال لسوى حيز واحد هو الحيز الطبيعي/ المادي، ويتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية، الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة ... ويتفرع عنها: - رؤية أخلاقية: المعرفة المادية هي المصدر الوحيد للأخلاق، وبما أن المادة في حالة حركة دائمة، لا يوجد أية قيم أخلاقية ثابتة. - ورؤية تاريخية: فالتاريخ يتبع مسارا واحدا، وإن اتبع مسارات مختلفة، فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى النقطة النهائية نفسها. - ورؤية للإنسان: فالإنسان جزء لا يتجزأ من طبيعة المادة، ليس له حدود مستقلة تفصله عنها، وهو كائن ليس له وعي مستقل خاضع للحتميات المادية المختلفة، غير

قادر على التجاوز والاختيار الأخلاقي الحر، أي أنه يتم تفكيكه وتسويته بالكائنات الأخرى. فمرجعيته النهائية مادية كامنة، وهو إنسان يتم اختزاله إلى بعد واحد (البعد المادي). والحاصل كما يرى المسيري أن العلمانية الشاملة ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، أو عما يسمى الحياة العامة، وإنما هي فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية (المتجاوزة لقوانين الحركة المادية والحواس) عن العالم، أي عن كل الإنسان (في حياته العامة والخاصة) بحيث يصبح العالم مادة نسبية لا قداسة لها. وعرف المسيري في ندوة لندن حول سقوط العلمانية والتحدي الإسلامي (يونيو 1994) بأنها فصل كل المطلقات الأخلاقية والمعرفية والإنسانية عن الدنيا، بحيث تصبح كل الأمور نسبية، والتعبير الفلسفي لذلك هو: إن العلمانية تعني أن العالم مكتف بذاته، وأنه يحوي داخله كل ماهو ضروري لإدراكه والإفادة منه، وأن عقل الإنسان قادر على فهم كامل للطبيعة وعلى تحقيق السيطرة التامة عليها، وهو قادر وحده على إدارة العالم وتأسيس نظمه المعرفية والأخلاقية، وليس بحاجة إلى أي شيء آخر خارج النظام الطبيعي المادي وفي هذه الحالة تصبح مرجعية الإنسان كامنة في ذاته (¬1). من هنا ذهب المسيري إلى أن العلمانية الشاملة والامبريالية صنوان، لأسباب ذكرها في كتابه (¬2). وأهم تلك الأسباب: ¬

_ (¬1) المفترون (251). (¬2) العلمانية تحت المجهر (124).

1 - الإنسان الغربي بدأ مشروعه التحديثي بالنزعة الإنسانية التي همشت الإله ووضعت الإنسان في مركز الكون، إلا أنها شأنها شأن أية فلسفة مادية ترى أن الإنسان هو إنسان طبيعي/ مادي، يضرب بجذوره في الطبيعة/ المادة، لا يعرف حدودا أو قيودا، ولا يلتزم بأية قيمة معرفية أو أخلاقية، فهو مرجعية ذاته، ولكنه في الوقت نفسه يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم سواه، ولا يمكن تجاوزه. 2 - إنه بدلا من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض، وبدلا من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض. وبدلا من ثنائية الإنسان الطبيعية/ المادة، وتأكيد أسبقية الأول على الثاني، تظهر ثنائية الإنسان الأبيض في مقابل الطبيعة/ المادة وبقية البشر الآخرين، وتأكيد أسبقيته وأفضليته عليهم، وبدلا من الاحتكام للقيم الإنسانية تستخدم القوة ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها (¬1) وتوظيفها لحسابه واستغلالها. كل هذا دفع المسيري إلى القول بأن العلمانية الشاملة هي النظرية، والامبريالية هي الممارسة. وقد تابعه على هذا الرأي الطعان في دراسته. ويؤكد ذلك أن العلمانية لما هيمنت على الحياة والمجتمعات والدول في القرن التاسع عشر سال لعابها على قهر المجتمعات والدول الضعيفة، فاكتسح العلمانيون والحداثيون دول أوروبا وآسيا وعاثوا فيها فسادا ونهبا وقتلا وتشريدا وتجويعا وإبادة جماعية. فالثورة الفرنسية مثلا التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة هي التي أرسلت جيوشها الاستعمارية لقهر الآخر وإذلاله واستعباده. إذن العلمانية فلسفة لها نظرة معينة للكون والإنسان والمستقبل. لهذا وصف المفكر الأمريكي اليهودي العلمانية بأنها رؤية دينية، لأنها تحتوي على مقولات عن وضع الإنسان في الكون وعن مستقبله لا يمكن تسميتها علمية، ذلك لأنها مقولات ميتافيزيقية لاهوتية. وفي هذا الدين (العلماني) يصنع الإنسان نفسه أو يخلقها (تأليه الإنسان) كما أن العالم ليس له معنى يتجاوز حدوده، وبوسع الإنسان أن يفهم الظواهر الطبيعية وأن يتحكم فيها وأن يوظفها بشكل رشيد لتحسين الوضع الإنساني (¬2). وقد قارب فهمي هويدي تقسيم المسيري العلمانية إلى جزئية وشاملة، فقسمها إلى معتدلة ومتطرفة (¬3). وعند هويدي العلمانيون المتطرفون ليسوا ضد الشريعة فحسب، بل ضد العقيدة أيضا، ولذا فهم يعتبرون الإسلام مشكلة يجب حلها بالانتهاء منها وتجفيف ينابيعها لاستئصالها. وزعم أن المعتدلين ليس لديهم مشكلة مع العقيدة، فهم يعتبرون أن الدين الإسلامي حالة يمكن التعايش معها. ¬

_ (¬1) أي: جعلها وسيلة. (¬2) العلمانية تحت المجهر (244). (¬3) المفترون (6 - 267 - 269 - 270) والعلمانية تحت المجهر والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (122). وقد أنكر عدد من العلمانيين وجود علمانية متطرفة، منهم أحمد عصيد. قدر العلمانية في العالم العربي (171).

ويرى هويدي ضرورة القبول بشرعية التيار المعتدل المتصالح مع الدين. وادعى هويدي والمسيري أن التيار المعتدل قابل للتعايش والحوار بخلاف الآخر. ولي وقفة تصحيحية مع هذا الرأي فيما بعد إن شاء الله، وإن تحمس له المسيري وحكاه المسيري عن القرضاوي والعوا وطه جابر العلواني وجماعة سماهم التيار الإسلامي الأساسي (¬1). لكني أشير إشارة إلى ما يلي: هذه الدعوة التي أطلقها هويدي وآخرون لا تعدو أن تكون شعارا لإبداء حسن النوايا فقط، أو بالأحرى للتظاهر بمظهر الاعتدال والوسطية، أو طلب ود التيار العلماني ومغازلته، لسبب بسيط هو عدم وجود ما أسماه التيار المعتدل داخل العلمانية باعترافهم هم. وإلا فليخبرنا مَنْ مِن رموز العلمانيين الكبار هو معتدل؟ هل القمني الذي يقول بتضمن القرآن للأساطير والخرافات ويسخر من أحكام الشريعة؟ أم أبو زيد الذي يقول بأن القرآن منتج ثقافي؟ أم حسن حنفي الذي هدم أصول الإسلام كلها باسم التجديد؟ أم أركون المشكك في القرآن والسنة؟ أم طيب تيزيني؟ أم فرج فودة؟ أم فؤاد زكريا؟ أم غيرهم؟ ثم على فرض وجود معتدل، فالجميع يقف في صف واحد وفي خندق واحد في السراء والضراء، ويناصر بعضهم بعضا. وكم من عرائض كتبها مختلف العلمانيين دفاعا عن القمني وأبي زيد وعشرات غيرهم. وزعم عمارة أن الخلاف مع من سماهم تيار العلمانيين الوطنيين والقوميين خلاف في الفروع لا في الأصول، وبين أنهم من يرفضون تبني الدولة للإسلام (¬2). ¬

_ (¬1) لا ندري ماذا يقصد بالأساسي؟ يعني هو ومن معه الأساسي وغيرهم من الإسلاميين ثانوي!. (¬2) الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (14 - 15).

وزاد أن العلمانيين لابد أن يساهموا في نهضة الأمة (¬1). وفي اعتقادي أن العلمانية المعتدلة أو الجزئية هي قنطرة العلمانية المتطرفة أو الشاملة (¬2). وقد مرت العلمانية الغربية بهذا المسار. وثانيا: لا توجد حدود فاصلة بين هذه وتلك، ونسأل هنا فهمي هويدي: وماذا إذا أنكرت العلمانية عقيدة واحدة لا العقيدة جملة، هل هي معتدلة تقبل التعايش أم متطرفة لا سبيل معها إلى التعايش معها. وثالثا: الذي يعترض على كل أحكام الشريعة مثله من يعترض على قسم منها. فما سموه بالتيار العلماني المعتدل لا يرى تحكيم الشريعة في السياسة ولا في الاقتصاد، وأي فرق بين هذا وبين من يلغي الشريعة جملة وتفصيلا. وهذا علماني يؤكد على أنه لا توجد علمانية معتدلة وأخرى راديكالية وأن العلمانية شيء واحد، إما أن تؤخذ كاملة أو تترك كاملة، إنه شاكر النابلسي (¬3). الخلاصة: نخلص بعد هذا إلى استنتاج الأسس التي تقوم عليها العلمانية: 1 - الرؤية المادية، وإنكار كل ما وراء المادة. ¬

_ (¬1) نفس المرجع (18). (¬2) وقد مر مفهوم العلمانية بتطور مفاهيمي. انظر العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (232). (¬3) العلمانية مفاهيم ملتبسة (145).

2 - تنحية الغيب والميتافيزيقا. 3 - نزع القداسة عن المقدس. 4 - العقلانية المطلقة. 5 - النسبية المطلقة. 6 - فصل الدين عن الحياة، وإلغاؤه تماما من المنظومة المعرفية أو السلوكية (¬1). من هنا يتضح أن العلمانية مذهب إلحادي. ولهذا فدائرة المعارف البريطانية لما ذكرت الإلحاد قسمته إلى قسمين: 1 - إلحاد نظري. 2 - وإلحاد عملي. وذكرت الفلسفة العلمانية ضمن الإلحاد العملي (¬2). ولما ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الحادية عشر بالمنامة في مملكة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ، الموافق 14 - 19 تشرين الأول (نوفمبر) 1998م. أصدر قرارا رقم: 99 (2/ 11) في قضية العلمانية جعلها مذهبا إلحاديا. ومما جاء فيه: إن العلمانية نظام وضعي يقوم على أساس من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدعوات الإباحية والهدامة، لهذا فهي مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون. انتهى. ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن (275). (¬2) انظر العلمانية في الإسلام (14).

نعم قد يوجد من العلمانيين من ليس ملحدا نظريا، لكنه يقصي الدين والمفاهيم الدينية عن كل مجالات الحياة. لأن الدين في نظره كان تعبيرا زمنيا عن أوضاع اجتماعية معينة قبل تمكن العقل البشري من فهم آليات الكون وتفاعلاته المختلفة. واتضح من خلال كل ما تقدم أن العلمانية ليست مجرد تحكيم العقل كما يدعي بعض العلمانيين (¬1)، بل هي منظومة فلسفية، لها رؤية للكون والمستقبل، ولهذا سمى أتباع روبرت أدين العلمانية بالدين العقلاني (¬2). فالعلمانية كما قال بعض الباحثين لا تكتفي بتحرير الدولة أو الفضاء السياسي عامة من سيطرة الدين بقدر ما تعمل على إحلال دين علماني وثوقي محل الديانات القائمة، أي: فرض رؤية دهرية وغرس قيم وسلوكيات علمانية صلبة تحل محل التصورات والقيم الدينية بقوة الدولة وأجهزتها الإيديولوجية العنيفة. وهي حسب المسيري: رؤية عقلانية مادية ترى العالم في إطار مرجعية مادية كامنة فيه، فالعالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره، والعقل قادر على ¬

_ (¬1) الإلحاد في الغرب لرمسيس عوض (251). نقلا عن العلمانيون والقرآن الكريم (128). لكن المشكلة لا تكمن في استخدام العقل أو عدم استخدامه، وإنما في نوع العقل الذي يستخدم (عقل مادي أداتي أم عقل قادر على تجاوز المادة؟) وفي الإطار الكلي الذي يتحرك فيه هذا العقل والمرجعية النهائية التي تصدر عنه كما قال المسيري في العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (287). (¬2) في العلمانية والدين والديمقراطية (43 - 44).

استخلاص القوانين التي تلزمه لإدارة حياته (¬1). فليس في حاجة إلى قوى غيبية لإرشاده وهدايته. وليست -كما يرى عزيز العظمة- واقعا تاريخيا موضوعيا وعالميا في آن (¬2). يريد أن يجعلها حتمية موضوعية وينفي تاريختها. وفي ختام هذا المبحث هذا تعريف شامل حسب تصوري للعلمانية: هي رؤية عقلانية مادية شاملة للإنسان والكون وفلسفة عامة للحياة تؤمن بقدرة العقل البشري المطلقة على فهم الطبيعة والسيطرة عليها، وتقوم على فصل كل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية عن القيم الدينية والأخلاقية، وإنكار كل ما وراء المادة وتنحية الغيب والميتافيزيقا ونزع القداسة عن المقدس. ¬

_ (¬1) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (197). (¬2) العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (94).

مظاهر العلمانية

مظاهر العلمانية قدمت أن العلمانية فلسفة للوجود بكل مكوناته وتنوعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية وغيرها، وليست محصورة في فصل الدين عن السياسة. فالعلمنة السياسية «ليست إلا جزءا لا يتجزأ من علمنة حقول أخرى كثيرة تراهن على إدخالها حركة العلمنة، بما في ذلك حقول الاقتصاد والثقافة العامة والتشريع إلى جانب مجالات التعبير الجمالي والفني، فالرهان العلماني يتجاوز في نهاية المطاف الجانب الحصري الذي يخص علاقة الدولة بالجهاز الديني ليطال مجالات أوسع وأشمل» (¬1). ومن مظاهر العلمنة في مجالات الحياة المختلفة: 1 - في المعرفة والفكر والفلسفة. تؤمن العلمانية بالمادة، ولا شيء وراء المادة (¬2). وأما الدين فلا مكان له هنا لأنه يعتمد في أصوله على مقومات غيبية وخرافية، ولا يوجد شيء مقدس إلا ما دلت عليه التجربة. وما عداه محض خرافات. وليس من هم العلمانية التطلع للآخرة، لأنها غيبيات أسطورية، بل ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (133) بتصرف. (¬2) تحدث عزيز العظمة في العلمانية تحت المجهر (162) عن علمانية المعرفة، لاستنادها إلى الطبيعة والتاريخ لا الكتب المقدسة. وتحدث في مكان آخر (91) عنها بوصفها تقوم على نفي الأسباب الخارقة عن الظواهر الطبيعية والتاريخية، أي: الاكتفاء بالأسباب المحسوسة المادية وقوانين الحركة.

2 - العلمانية في السياسة

محورها المركزي والوحيد هو هذه الحياة الدنيا. ولهذا السبب عرف بعضهم العلمانية بالدنيوية (¬1). 2 - العلمانية في السياسة: فصل الدين عن السياسة واعتماد القوانين الوضعية والتشريعات الإنسانية، وإبعاد كل اعتبار ديني. فليس من شرط الرئيس أو الأمير أو الحاكم أو من دونه أن يكون عدلا تقيا، بل ولا مسلما. لأن هذه اعتبارات دينية. وليس من شرط الدولة الدفاع عن الإسلام ولا إقامة الشعائر ولا الدفاع عن الهوية الإسلامية. بل الدين في نظر العلمانية شيء شخصي، متعلق بالضمير من أحب أن يكون مسلما أو نصرانيا أو يهوديا فله ذلك. 3 - العلمانية في الاقتصاد: تسن القوانين والتشريعات والضوابط الاقتصادية بعيدا عن الدين. ولا مكان في العلمانية للحديث عن تحريم الربا والاحتكار والميسر وغير ذلك، ولا مكان لإيجاب الزكاة، لأنها معاملات ذات صبغة دينية، والدين لا دخل له في شؤون الدولة حسب المعتقد العلماني. ويدور الاقتصاد العلماني على الربح والمنفعة، ولا يَهُم بما تحقق سواء بخمور أو ربا أو ميسر أو أفلام إباحية، أو دور دعارة، أو حتى أسلحة للعصابات المسلحة، ولا اعتبار لأية كوابح دينية. ¬

_ (¬1) في معجم علم الاجتماع المعاصر: العلماني معناه: الدنيوي أو غير الروحي، أو غير الديني. العلمانية تحت المجهر (60).

4 - العلمانية في المواطنة

بل حتى الشواذ إذا أدوا الضرائب المفروضة فلا مانع من فتح دور للدعارة خاصة بهم، والدين لا دخل له في كل هذه التشريعات. 4 - العلمانية في المواطنة: الوطن القومي في العلمانية هو معيار المواطنة بغض النظر عن الدين. ويجب إبعاد مفهوم الأمة الإسلامية (¬1) أو الوحدة الإسلامية لقيامها على أسس دينية، وهو ما لا ترضاه العلمانية. لأن أساس الولاء هو الوطن، والدين أَيُّ دين مسألة شخصية (¬2). 5 - العلمانية في التربية والأخلاق: تقوم فلسفة العلمانية بخصوص الأخلاق على إبعاد الدين والمقدسات عن مجالاتها، واعتبار الأخلاق انعكاسا للأوضاع الفكرية والاقتصادية العامة، فلكل عصر أخلاقه وفنونه. فليس هناك قيم مطلقة لا تاريخية. فما كان ممنوعا بالأمس ليس بالضرورة أن يكون ممنوعا الآن. فالشذوذ الجنسي أو زنا المحارم لا ترى العلمانية به بأسا إذا كان بالتراضي، لأنه ممارسة للحرية المطلقة التي ما جاءت العلمانية إلا لتحقيقها. ونظام الإرث نظام إقطاعي استغلالي للمرأة يجب تجاوزه. ¬

_ (¬1) لا ينبغي الحديث عن أمة إسلامية ونحوها عند عادل الجندي. قدر العلمانية في العالم العربي (126). (¬2) جعل عزيز العظمة في العلمانية تحت المجهر (162) علمانية المكان باعتبار قومي للمكان وللوطن.

6 - العلمانية في الاجتماع

وكل القيود والأحكام الشرعية المتعلقة بالمحرمات كالصور الخليعة والأفلام الجنسية الماجنة، وتبرج المرأة والخلوة بها اعتداء على الحرية الشخصية للأفراد في نظر العلمانية. وبالجملة تربط الأخلاق بالتاريخ والزمن لا بالثوابت كما سنبسط هذا في فصل خاص في الكتاب الثاني إن شاء الله. 6 - العلمانية في الاجتماع: النظم الاجتماعية تستمد من الفلسفات والبحوث في علم الاجتماع لا من الدين، بمعنى أن نُظم الأسرة والزواج والطلاق في شكلها الديني لا مكان لها في العلمانية، ويجب سن مفاهيم حديثة لا ترتبط بنظام الأسرة التقليدي القائم على سيطرة الأب، قال مورو بيرجر في «العالم العربي اليوم»: يجب أن يوضع في الحسبان نقطتان رئيستان: الأولى: أن يعمل على تقليل سلطة الأب على أولاده ليمكن أن تحمل الأسرة العربية كل طبيعة الحياة الغربية. النقطة الثاني: ضرورة تأسيس حكومات عسكرية في البلاد العربية للقيام بالإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتطبيق علم الاجتماع بنظرياته (¬1). 7 - العلمانية في الإعلام: للإعلام الحرية المطلقة في عمله ولا خطوط حمراء له، سواء تعرض للمقدسات أو الأديان أو الرموز الدينية. ولا ضير في إجراء تحقيق مع الشواذ والعاهرات والإشادة بهم، وعقد جلسات حوارية معهم، وفسح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم، ولا ضير في عرض الأفلام الإباحية أو رجل يقبل امرأة أو ¬

_ (¬1) تهافت العلمانية (31).

8 - العلمانية في الرياضة

يجامعها، فالتقزز من هذه المناظر إنما هو من رواسب المؤثرات الدينية، أما في دين العلمانية فتلك ممارسة للحرية الشخصية وإبداع فني لا علاقة له بالدين. ولا مانع من إظهار الساقطين خلقيا كرموز وطنية وقادة وقدوة للجماهير. ولا مانع كذلك من نقد الأحكام الشرعية، بل نقد القرآن والسنة والأنبياء، وربما الاستهزاء بهم، لأن كل هذا لا يعدو ممارسة للحرية الشخصية، والدين مكانه المسجد، وحرية التعبير مكفولة للجميع. 8 - العلمانية في الرياضة: ترى العلمانية أنه يجب إقصاء الدين من تحجيم حرية الرياضيين أو تعكير صفاء مزاجهم، كالحديث عن العري والفضيلة والحشمة والرذيلة، فكل هذه عقائد دينية لا دخل لها في الرياضة، فلا ضير على الشابة في السباحة، أو لاعبة كرة المضرب أو ألعاب القوى من لبس ثوب صغير، يبدي العورة أو لا يبديها لا يهم، فالعورة وأحكام سترها من مخلفات سيطرة الدين على المجتمعات. 9 - العلمانية في الفن: لا دخل للدين في الفن، فمشاركة المرأة في فلم شبه عارية يضاجعها رجل في الفراش ويقبلها لا تعدو أن تكون عروضا فنية من جهة، ومن جهة أخرى فالحرية الشخصية مكفولة للجميع. والحديث عن أن هذا حرام أو تفسخ أخلاقي أو أفلام إباحية فحديث ديني بال، يعود للقرون الوسطى.

10 - العلمانية في القانون

10 - العلمانية في القانون: تسن القوانين الضرورية لإدارة الحياة المدنية والجنائية والدستورية من قبل مجلس منتخب، وإبعاد أي صلة للدين بهذه القوانين. ولا يهم وافقت هذه القوانين الشريعة الإسلامية أم خالفتها. وأما أحكام الشريعة فيجب تجاوزها وتخطيها وإلغاؤها لتاريخيتها وكونها كانت تعبيرا عن أوضاع معينة كما يرى أركون ونصر أبو زيد والقمني وعبد المجيد الشرفي والعشماوي وغيرهم. وزاد العشماوي فاختزل الإسلام في مجموعة من الوصايا الأخلاقية التي يمكن أن تحل محلها وصايا الإنجيل (¬1). وسيأتي معنا لاحقا كلام أبي زيد في تاريخية القرآن، وكونه منتجا ثقافيا أفرزته ثقافة الواقع العربي، وبالتالي كان صالحا لتاريخ نزول هذه الأحكام. ولا يظن أن العلمانية لا تمانع من أن يحتكم الناس للدين في الأحوال الشخصية، بدليل أن العلمانية الغربية التي هي أم العلمانيات لا دخل للدين في الأحوال الشخصية عندها، من زواج وطلاق وميراث. بل حتى تركيا لا تسمح للإسلام بإدارة الأحوال الشخصية، وتقرب منها تونس، وحاول العلمانيون في المغرب تحقيق هذا الهدف عبر حملتهم المسعورة: إدماج المرأة في التنمية، فرد الله كيدهم في نحرهم. ومن سمح بذلك من العلمانيين فهو إما جاهل بحقيقة العلمانية أو لبقايا إيمانية في قلبه، أو مجاملة وقتية، لأن أصل العلمانية يمنع الدين من التدخل في ¬

_ (¬1) وانظر الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (57 - 58).

11 - العلمانية في التعليم

الحياة العامة وحياة الأفراد الشخصية، والتحليل والتحريم من خصائص الشعب ومؤسساته الديمقراطية كما يقولون. 11 - العلمانية في التعليم: ترى العلمانية أن التعليم يجب أن يبتعد عن كل المؤثرات والضوابط الدينية، فلا يلقن الطفل أي عقيدة دينية، كوجود الله والقرآن والرسل والآخرة ونحو ذلك، ولا يسمح للدين بالتدخل في التعليم، لا من حيث المواد التي تدرس، ولا من حيث منهج التعليم، ولا من حيث آلياته، وحتى مادة التربية الإسلامية فيجب أن تقتصر على المبادئ العامة التي تناسب العلمانية كالمساواة والتسامح والرحمة والتعاون والحرية وما أشبه ذلك، وأما الموقف من الآخر الكافر، وتفاصيل العقيدة الإسلامية والفقه الإسلامي فكانت ملائمة لأوضاع اجتماعية واقتصادية معينة. ومن هنا سعى العلمانيون لإظهار رجل الدين في قالب السكوني المنغلق المتطرف، ورجل التعليم المدني في قالب المتحرر والمتنور والواعي. في المغرب مثلا قتل التعليم الأصيل قتلا، ولم يسمح لخريجي القرويين بأي شهادة أكاديمية معترف بها تمكنه من الحصول على وظيفة وعلى مكانة اجتماعية مرموقة، ولم يعط لها الاعتبار الجزئي إلا حديثا بعد أن فقد التعليم الأصيل مشروعيته واستطالت العلمانية على البلاد والعباد. وطبعا كان هذا المخطط فرنسيا بامتياز تولى تنفيذه من دربهم في سربونه وعلمهم في معاهده. ورد في توجيهات وزارة التعليم الفرنسية في إطار قانون تعميم التعليم الصادر يوم 28 مارس سنة 1882 ما يلي: يجب ألا نذكر للطفل البالغ من العمر

علمانية حسب الطلب

سبع سنوات شيئا عن الله، ليشعر هذا الطفل من تلقاء نفسه على امتداد ساعات الست التي يتلقاها يوميا أن الله غير موجود أصلا، أو أننا في أحسن الأحوال لم نعد بحاجة إليه (¬1). علمانية حسب الطلب. أختم هذا الفصل بهذه المهزلة: اعترف محمد الشرفي في الإسلام والحرية (207) باستحالة العلمانية في البلدان الإسلامية، ولم يتردد في الاعتراف باستحالة العلمانية على النمط الغربي، قال: ولذا لا يتسنى في البلاد الإسلامية كما رأينا تبني اللائكية حسب النمط الغربي لأنه لا وجود فيها لكنيسة ولا لكهنوت (¬2). ولذلك فهو يريدها علمانية من نوع خاص. ولهذا اقترح علمانية على مقاسه ومزاجه، فجاءت علمانيته على النحو التالي: - إحداث سلطة دينية مستقلة عن باقي السلط. - مهمتها البحث في إدارة المساجد فقط. - المساجد أماكن عبادة وخشوع وتأمل فقط. - لا يدعو الأئمة للحكام ولا عليهم. - لا ينتقد الأئمة عمل السلطات العمومية ولا اتخاذ أي موقف من التيارات السياسية. ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (186). (¬2) الإسلام والحرية (207).

- ينتخب الناس في إسلام محمد الشرفي الجديد إمام المسجد، وينتخب أئمة المساجد بدورهم مفتيا بكل جهة، ثم تقوم هذه الهيئة المنتخبة بانتخاب مجلس إسلامي أعلى ومفتيا أكبر على الصعيد الوطني. وطبعا سيفتي فيما يتعلق بالصلاة في المساجد فقط. هذا هو كهنوت الشرفي، بل مهزلته، إنها كنيسة إسلامية إن صح التعبير. ومع اعترافه بأن لا كهنوت في الإسلام، فهو يريد أن يصنعه بأحلامه الغزيرة واقتراحاته الدالة على فقدان الدين والعقل معا.

أسباب العلمانية

أسباب العلمانية أقصد بالأسباب الشروط التاريخية التي تسببت في إفرازها ووجودها في العالم الغربي أولا، وفي نسختها الكربونية العربية، من أجل فهم منطقي ومعمق لحقيقتها ومدلولها المفاهيمي، ومن ثم موقف الإسلام منها. فلابد من تتبع السياق التاريخي الذي ولدت فيه العلمانية في الغرب، ويتعين تقصي الملابسات التاريخية لنشأتها في إطار الحضارة الغربية المسيحية بجذورها الإغريقية الفلسفية، وتراثها الروماني القانوني، ودينها المسيحي. وقد بحث هذا المبحث كثيرا في شقيه الغربي والعربي ولذلك فستكون مقاربتنا هنا ملخصا جامعا لتلك المطارحات، مع إضافات ملتقطة من هنا وهناك. والمتفق عليه بين جل الباحثين بما فيهم كثير من العلمانيين أن العلمانية إفراز ثقافي فلسفي في ظل شروط تاريخية واجتماعية ودينية غربية مخالفة للسياق الذي وجدت-أو بالأحرى- أُوجدت فيه في العالم العربي. فالعلمانية ظاهرة غربية محضة تاريخا وموطنا وأسبابا، لها شروط سياسية ودينية واجتماعية ولدتها وساهمت في تشكيلها وبررت وجودها، وجعلت من أوروبا حاضنا رسميا لها. بل الأكثر من هذا فالمسيحية بحد ذاتها لإقرارها بترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله هي العامل المركزي الذي ساهم في بروز العلمانية. فمن رحم المسيحية المحرفة مذهبا وتاريخا خرجت العلمانية.

1 - الطغيان الكنيسي

ويمكن إجمال الأسباب التي ساهمت في تشكلها في الغرب فيما يلي (¬1): 1 - الطغيان الكنيسي: يظهر هذا الطغيان من خلال العناصر التالية: أولا: الطغيان الديني: انفردت الكنيسة بادعاء الحق في التكلم باسم الله وحاربت كل فرق المسيحية المخالفة لها. وكان رجال الدين المسيحيون في القرن السابع عشر الميلادي يدعون أنهم يحكمون بناء على أوامر ونواهي إلهية، وأن عندهم تفويضا إلهيا بذلك، وأن لهم اتصالا مباشرا مع الله، فسيطروا على الدولة وأصبحت تحت رحمتهم. وهذه هي الحكومة الدينية أو الحكومة التيوقراطية (¬2). ¬

_ (¬1) أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي (62) والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (17) والعلمانية بين التحريف والتخريب (12) والعلمانيون والقرآن (51) والعلمانية لسفر الحوالي. وقد استفدت منها جميعا وخصوصا من كتاب سفر، وزدت عليه أشياء من المصادر التي ذكرت هنا، ومن مصادر أخرى سيأتي الإشارة إليها في حينه. (¬2) ويوهم عدد من العلمانيين أن الإسلاميين يدعون إلى حكومة دينية شبيهة بما فعلت الكنيسة. ولهذا يركزون على مصطلح الدولة الدينية بدل الدولة الإسلامية، والحكم الديني أو الإلهي بدل الحكم الإسلامي. وقد تفطن جل الكتاب المحايدين والنزيهين إلى ذلك، وأن تشبيه رجال الكنيسة المتسلطين بعلماء الإسلام محاولة مكشوفة ومغالطة مفضوحة ..

وزاد رجال الكنيسة فادعوا لأنفسهم حقوقا لا يملكها إلا الله، مثل حق الغفران. فأصدروا صكوكا بذلك. ثم أعقب ذلك محاكم التفتيش التي راح ضحيتها الملايين، والتي كانت مخصصة لكل مخالفي الكنيسة، بدأت أولا بالمسلمين الأندلسيين، ثم بباقي أتباع المسيحية المخالفين للكنيسة، ثم بالعلماء التجريبيين المخالفين لآراء الكنيسة. وكان للكنيسة سجون تحت الأرض، بها غرف خاصة للتعذيب وآلات لتكسير العظام وسحق الجسم البشري. وكان الزبانية يبدؤون بسحق عظام الرجلين ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجيا حتى يهشم الجسم كله. في ظل هذه الأوضاع عاش الناس تحت الرعب والاضطهاد، ترتعد قلوبهم وترتجف أوصالهم عند ذكر الكنيسة. ثانيا: الطغيان السياسي: كان رجال الكنيسة يدعون أنهم الأحق بالسلطة السياسية، لأنها نظام إلهي يمثل الخلافة عن الله. ولذلك كان البابوات هم الذين يتولون تنصيب الملوك وبإمكانهم خلعهم، ومن حق الكنيسة أن تعلن الحرب الصليبية. وكان الملوك الأوروبيون يهابون البابا ويطلبون مرضاته (¬1). ثالثا: الطغيان المالي: ¬

_ (¬1) وقد اعترف العلماني عادل الجندي بأن العلمانية كانت نتيجة صراع مؤسستي الحكم والدين في أوروبا. العلمانية مفاهيم ملتبسة (318).

2 - السبب الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم

كانت الكنيسة تحث أتباعها على القناعة والزهد والصوم والبعد عن الدنيا. في حين كان أساقفتها يملكون الإقطاعات الضخمة والأملاك الكثيرة والقصور الفارهة التي تصرف غالبها في شهواتهم وترفهم. وزاد رجال الكنيسة ففرضوا عشورا على كل أتباعها، هذا فضلا عن الهبات والعطايا التي كانت تصلها من الأثرياء الإقطاعيين للتملق لها وضمان سكوتها. زيادة على ما كانت تجنيه من مواسمها ومهرجاناتها من أموال ضخمة. إضافة إلى إرغام الكنيسة لأتباعها على العمل المجاني داخل أملاك الكنيسة وإقطاعاتها. وهكذا تحولت الكنيسة بتحالفها مع قوى الإقطاع الظالمة إلى هيئة إقطاعية تحتها آلاف الهكتارات والثروات الهائلة، وأصبح هَمُّ رجال الدين الأساسي هو الثروة وتوسيع دائرة نفوذهم وتسلطهم على الشعوب. 2 - السبب الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم. ترجع أسباب هذا الصراع إلى عدة أمور منها: - تعصب رجال الكنيسة الذين اعتبروا أنفسهم المصدر الوحيد للمعرفة. فتدخلوا فيما ليس من اختصاصهم كالعلوم التجريبية البحتة وعلوم الفلك ونحوها. إدخال رجال الكنيسة للمفاهيم الدينية نظريات مغلوطة عن الكون والطبيعة مستمدة من نظريات فلسفية قديمة أو من أقوال القديسين القدامى، كنظرية بطليموس التي تجعل الأرض مركز الكون وأن باقي الأجرام تدور حولها.

كما كانت تعتبر نفسها المصدر الوحيد للمعلومات الطبية والفلكية وغيرها. فلما جاء القرن السابع عشر بدأ الباحثون الأوروبيون في الجهر ببعض النظريات التي تخالف ما عليه الكنيسة، وكانت أول النظريات ظهورا نظرية كوبرنيك الفلكية في كتابه «حركات الأجرام السماوية» التي بين فيها أن الأرض تدور كما تدور باقي الكواكب. فحرمت الكنيسة كتابه ومنعت تداوله. ثم جاء بعده برونو فأكد نفس النظرية فقبضت عليه محكمة التفتيش وسجنته ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة 1600 وذرت رماده في الهواء. وبعده جاء جليلو فأكد نفس النظرية فقبض عليه وسجن حتى تراجع خوفا وهو راكع، ومما قال في تراجعه أمام المحكمة: أنا جليلو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي الخاطئ بدوران الأرض (¬1). وأي إلحاد في دوران الأرض أو عدمه؟ ولكن هكذا رأت الكنيسة، وهكذا أسست لنهايتها. وحبست الكنيسة دي روفنيس لإثباته أن قوس قزح إنما هو انعكاس لضوء الشمس في نقط الماء، وليس قوسا حربيا بيد الله ينتقم به من عباده إذا أراد كما تقول الكنيسة. وضربت برنيلي لأنه قال: إن النجوم لا تقع. وسجنت هارفي لبرهنته أن الدم يجري في الجسم (¬2). ¬

_ (¬1) العلمانية للحوالي (151) وملاك الحقيقة لمراد وهبة (24). (¬2) العلمانية في الإسلام (30).

ومع انتشار البحث العلمي في أوروبا بدأت تهتز مكانة الكنيسة في النفوس، وبدأت مصداقيتها تتلاشى، وكثرت المناهج الفلسفية الداعية إلى المنهج العقلي التجريبي بدل أساطير الكنيسة. وهكذا تتابعت أبحاث ديكارت وسبينوزا وجون لوك وغيرهم. وكذلك قابلت نظرية نيوتن في الجاذبية التي بينت إمكان تفسير الظواهر الطبيعية اعتمادا على ربط بعضها ببعض دون حاجة إلى تدخل خارجي. فحاربتها الكنيسة واعتبرت أن الأشياء لا تعمل بذاتها، ولكن عناية الله هي التي تسيرها. ولم تفهم الكنيسة أنه لا منافاة بين كون الله فاعلا من جهة، وبين كون الأشياء لها أسباب طبيعية تؤثر فيها كما هو رأي أهل السنة والحديث، خلافا للجبرية والقدرية. كل هذه الظروف وغيرها جعلت من الكنيسة عائقا كبيرا أمام التقدم والبحث العلمي والتطور. لذلك كان واجبا الحد من نشاط الكنيسة ومجال عملها، وفصلها التام عن مجمل الحياة العامة وأصبح جميع الأوروبيين مقتنعين بضرورة الحد من هيمنة الكنيسة وحبسها داخل جدرانها وإفساح المجال للبحث العلمي بالتحرر السياسي. من رحم هذه الأوضاع جاءت فلسفة الأنوار العلمانية. «جاء التنوير الأوربي فلسفة رافضة لتجاوز الكنيسة حدودها التي رسمها الإنجيل: خلاص الروح ومملكة السماء، ومدافعة عن النزعة الدنيوية [العلمانية] للفلسفة الأوربية وداعية إلى العقل الذي استبعدته الكنيسة والرأي

3 - السبب الثالث: طبيعة الدين المسيحي

الذي قهره اللاهوت، ومنادية بالتحرر من سلطة التقاليد الكنسية التي كانت سوقا تجارية راجت فيها مفاسد القساوسة والبابوات» (¬1). لما اشتعلت الثورة الفرنسية وانتصرت على الإقطاعيين وحلفائهم، هنا تلقت الكنيسة الضربة القاضية. فحلت الجمعيات الدينية وسرح الرهبان وصودرت أملاكهم، فكان نهاية هذا العهد البئيس. 3 - السبب الثالث: طبيعة الدين المسيحي: ألا غضاضة عند المسيحيين بما فيهم رجال الدين من الفصل بين الدين وشؤون الحياة، كما هو واضح من خلال ما جاء في الإنجيل المحرف عن عيسى عليه السلام: أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فالعلمانية في نشأتها تتلاءم مع الديانة المسيحية، ولم تكن خارجة عنها أو منكرة لحقيقتها، بل هي من أركان الديانة المسيحية، حتى قال بولس: إن من يقاوم السلطة يقاوم إرادة الله ويستحق إدانة الكنيسة (¬2). فالديانة المسيحية في حد ذاتها تحمل بذورا علمانية، ولهذا دعا البابا الحالي يوم 10/ 10/ 2010 في اجتماع له مع قساوسة الشرق الأوسط إلى تطبيق ما سماه: العلمانية الإيجابية، كما أذيع في حينه في القنوات الإخبارية، منها الجزيرة. وإذا كانت المسيحية ممثلة في كنيستها والدولة ممثلة في الرئيس أو الملك في الغرب، فإن الفصل بين الدين المسيحي والدولة شيء منطقي وممكن، على اعتبار وجود كيانين منفصلين لكل منهما. ¬

_ (¬1) الإسلام بين التنوير والتزوير (21). (¬2) الإسلام لا العلمانية (10 - 11) وتهافت العلمانية (209).

أما في الإسلام حيث لا كهنوت ولا طبقة دينية خاصة بالدين، فالفصل إذن بين الدين والدولة يعني الفصل بين الدولة واللاشيء حسب محمد الشرفي (¬1). وحيث إن الإسلام متغلغل في كل المستويات داخل الدولة اجتماعيا واقتصاديا وشعبيا وسياسيا، فالفصل يعني الفصل بين الدولة والدولة. ب ليس في المسيحية تشريعات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وغيرها. تدور الأناجيل على مبادئ أخلاقية عامة ومواعظ. بخلاف الشريعة الإسلامية الصالحة والمُصلحة لكل زمان ومكان، ففيها تشريعات سياسية واقتصادية واجتماعية، ونظم لشؤون الأسرة وتحديد لكل من الرجل والمرأة حقوقهما وواجباتهما، وضبط المعاملات التجارية والبيع والشراء، ووضع للعقوبات حدودا معلومة وغير ذلك. ولكي يكون الرجل مسيحيا فهو ملزم باعتقاد عقيدة المسيحية وبالذهاب يوم الأحد للكنيسة إن شاء وأن يحتفل بعيد الميلاد. بينما في الإسلام فهو أمام منظومة متكاملة من التشريعات والأوامر والنواهي التي تحكم حياته كلها، منذ استيقاظه إلى نومه، تحكم اعتقاداته وأفعاله وبيعه وشرائه وعلاقاته وغير ذلك. وقد اعترف أحد أعتى العلمانيين تطرفا وهو القمني في أهل الدين والديمقراطية (256) بأن المسيحية ليست لها شريعة سماوية إلا في معاني المحبة والسلام والتراحم الإنساني بخلاف الإسلام. ¬

_ (¬1) الإسلام والحرية (206).

4 - السبب الرابع: الفصل بين الدين والدولة من سمات المسيحية حتى قبل انتشار العلمانية

4 - السبب الرابع: الفصل بين الدين والدولة من سمات المسيحية حتى قبل انتشار العلمانية. فقد كانت في أوروبا سلطتان: سلطة سياسية يمثلها الرئيس أو الملك وأعوانه، وسلطة دينية يترأسها البابا ويساعده الرهبان والراهبات والقساوسة والكردنالات وغيرهم من رجال الإكليروس. وكانت لها ميزانيتها وإقطاعها وثرواتها (¬1). وحتى بعد العلمانية لا زالت هذه السلطة على حالها إلى عصرنا، فللفاتكان حكومة خاصة غير الحكومة السياسية، فالمسيحية منذ نشأتها ظلت دينا لا دولة، وشريعة محبة، لا تقدم للمجتمع مرجعية قانونية ولا نظاما للحكم، ورسالة مكرسة لخلاص الروح، تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وظلت رسالة كنيستها خاصة بمملكة السماء، لا شأن لها بسلطان الأرض وقوانين تنظيم الاجتماع البشري في السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلومها ومعارفها، كما قال عمارة (¬2). وزاد: «فلما حدث وتجاوزت الكنيسة حدود رسالة الروح ومملكة السماء فاغتصبت السلطة الزمنية أيضا، أضفت على الدنيا قداسة الدين، وثبتت متغيرات الاجتماع الإنساني ثبات الدين، فدخلت بالمجتمعات الأوروبية مرحلة الجمود والانحطاط وعصورها المظلمة .. » (¬3). ¬

_ (¬1) الإسلام والعلمانية وجها لوجه (49). (¬2) الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (18). (¬3) نفس المرجع (19).

5 - السبب الخامس: الحروب الدينية

هنا تفجرت فلسفة الأنوار العلمانية كحركة تصحيحية للدين المسيحي وإرجاعه لطبيعته الأولى الذي أخرجته الكنيسة منها بجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله. «الأمر الذي جعل سجن الدين في الكنيسة وفي الضمير الفردي ثورة تصحيح ديني، وليس عدوانا على الدين» (¬1). أما في تاريخنا الإسلامي فكانت هناك سلطة سياسية واحدة تستمد مشروعيتها من بيعة العلماء والفقهاء والكتاب والوجهاء. وكان العلماء والقضاة جزءا من الشعب ومرجعا له في القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها في تناغم وتجانس تام. ولم يعرف تاريخ الإسلام سلطة دينية من جهة وأخرى سياسية. وعليه «من هذا يتضح لنا أن نظام لا دينية الدولة إذا كان ينسجم مع المسيحية، ولا يقضي على سلطتها، وإنما يحدد اختصاصاتها بالنسبة للسلطة الدنيوية، فإن هذا النظام يتعارض تماما مع طبيعة الإسلام، ويكون خطرا مباشرا عليه كشريعة كاملة للحياة، ويعطل أجهزته المتحركة عن القيام بوظيفتها ويُحيله بالتالي إلى عاطفة وجدانية نائمة في قلوب الناس» (¬2). 5 - السبب الخامس: الحروب الدينية. «العلمانية لم تكن نتاج مطارحات فكرية هادئة أو مجرد تعبير عن رغبة مزاجية عنت لبعض الأفراد أو المجموعات الفكرية والسياسية، بقدر ما كانت عبارة عن حل عملي فرضته أجواء الحروب الدينية التي شقت عموم القارة الأوروبية في القرنين السادس والسابع عشر. ¬

_ (¬1) نفس المرجع (20). (¬2) الإسلام والعلمانية وجها لوجه (50).

فالعلمانية كانت في صورتها العامة عبارة عن تسويات تاريخية فرضتها أجواء الحروب الدينية، مما جعل من غير الممكن استمرار الوضع على ما هو عليه، أو العودة به إلى ما قبل مرحلة الحروب الدينية» (¬1). أدارت الكنيسة البابوية حروبا دائمة ولا هوادة فيها ضد من أسمتهم هراطقة الداخل وضد وثنيي وكفرة الخارج (¬2). مرت أوروبا على امتداد (130) سنة (1559 - 1689) أي منذ ظهور الحركة البروتستانتية في الشمال الأوروبي ثم محاولة امتدادها نحو الوسط، بحالة واسعة من الاضطرابات السياسية والحروب الدينية المفزعة (¬3). لذلك وفي ظل هذا الجو القاسي المفزع كان لابد من الخلاص من هذا الكابوس المرعب. في حين كان الإسلام عامل راحة وطمأنينة لجميع المسلمين، ولم يَقُد رجال الدين فيه حروبا دينية، ولم تعش البلاد الإسلامية رعبا باسم الإسلام. والحاصل أن العلمانية الأوروبية كانت رد فعل لصكوك الغفران والحرمان والطغيان الكنسي ومظالم الحكومة الدينية المتحدثة باسم الله، والتي اعتبرت كل ما لم يرضه رجال الكنيسة مخالفا للإرادة الإلهية (¬4). وكانت ردة فعل للحروب الدينية التي أفزعت أوروبا وأقلقت راحتها. وقد اعترف جمع من العلمانيين بأن العلمانية نبت غربي محض، خارج إطار التطور الطبيعي لبلادنا الإسلامية: ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (26). (¬2) نفس المرجع (27). (¬3) نفس المرجع (27). (¬4) انظر تهافت العلمانية في الصحافة العربية (74).

منهم العلماني التونسي المتطرف عبد المجيد الشرفي، وهذه عبارته: إن العلمانية قد ظهرت أول ما ظهرت في المجتمعات المخالفة لنا في الدين ولم تنشأ من رحم مجتمعاتنا ومن تطورها الذاتي (¬1). واعترف شريف حتاتة أن العلمانية في الغرب نتجت من خلال الصراع بين الرأسمالية الناشئة والإقطاع المدعوم من طرف الكنيسة الكاثوليكية، وأن هذا الصراع لم يحدث في البلدان العربية (¬2). وهذا علماني راديكالي آخر يقر بأن العلمانية ولدت في سياق آخر وتاريخ آخر غير تاريخ الشعوب الإسلامية، وأنها إنتاج غربي تم فرضه مع الاستعمار. إنه محمد أركون (¬3). وهذا اعتراف هام. وهذه علمانية بنت أحد علماء السوء الذين استغفلهم الغرب وصنعهم بيده فباعوا دينهم بدنياهم: إنها ماجدة بنت رفاعة الطهطاوي. فحسب ماجدة فإن العلمانية دخلت مع الاستعمار (¬4). بل زادت المسألة إيضاحا فأقرت أنها نتيجة لتحولات تاريخية، كما حدث في أوروبا، لكنها ظهرت إما كنتيجة لقرارات علوية، وإما كاستجابة للضغوط الخارجية أو الاثنين معا، لذلك لم يكن لها مرتكزات اجتماعية في داخل المجتمعات العربية (¬5). ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (129). (¬2) نفس المرجع (103 - 104). (¬3) قضايا في نقد العقل الديني (212). (¬4) العلمانية مفاهيم ملتبسة (327 - 328) وقدر العلمانية في العالم العربي (141). (¬5) نفس المرجع (328) وقدر العلمانية في العالم العربي (141).

بل زادت الاعتراف اعترافا فقالت: وإنما جاءت نتيجة عدوان خارجي وإخضاع المجتمعات العربية لاحتياجات التراكم الرأسمالي في المركز الأوروبي المسيطر (¬1). وأكد محمد سبيلا العلماني المغربي على التميز الواضح بين الحالة الغربية والحالة العربية وأن بلادنا لم تعش حروبا طاحنة بين الفرق الدينية التي جاءت العلمانية حلا لمشاكلها. بينما لم نشاهد هذه الظاهرة في العالم العربي والإسلامي. ولم يظهر كهنوت متحالف مع الإقطاع (¬2). ووضَّح سبيلا أنه لا يجد أي حرج عندما يقول: إن المجتمع العربي الإسلامي غير مستعد الآن لطرح إشكالية علمنة المجتمع (¬3). وغنى العلماني المغربي أحمد عصيد خارج السرب وقفز فوق الحقائق، ضاربا عرض الحائط للثوابت التاريخية أن العلمانية جاءت مع الاستعمار فزعم أن العلمانية هي سيرورة تاريخية من داخل المجتمعات العربية واستشهد بأن أجداده الأمازيغ رغم أنهم كانوا ينصبون إماما للصلاة، ففي شؤونهم الدنيوية كانوا يحتكمون إلى أعرافهم وعقولهم وقوانينهم الخاصة (¬4). وأنا على يقين أنه هو نفسه يعلم أن هذا كذب وتزوير للتاريخ، فلا زال المغاربة بشتى أطيافهم يحتكمون إلى شريعة الإسلام طيلة حكم الدول الإسلامية التي تعاقبت على المغرب إلى أن جاء المستعمر. ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (329). (¬2) نفس المرجع (228). (¬3) نفس المرجع (231) وقدر العلمانية في العالم العربي (45). (¬4) العلمانية مفاهيم ملتبسة وقدر العلمانية في العالم العربي (149).

وسنعود لهذه (العصيدة) التي ادعاها عصيد في رسالة مفردة نفند فيها مزاعمه ومزاعم غيره في هذا الباب. ولكننا نهمس الآن في أذنه بهمستين: الأولى: ولماذا وجد الظهير البربري إذن؟ ولماذا قاومه المغاربة جميعا؟ أليس لأنه أراد التفريق بين العرب والأمازيغ في الحكم وأن الشريعة خاصة بالعرب، بينما يحتكم البربر إلى قوانين خاصة، فثار المغاربة جميعا عربهم وبربرهم ضد العلمانية الاستعمارية وسياستها. فلو لم يكن الأمازيغ يحكمون بالشريعة لما ثاروا ضد الوافد الجديد. أليست هذه (العصيدة) امتدادا لتلك السياسة الاستعمارية؟ والثانية: يكفي عصيد أن يراجع ما قاله عدد من رفاقه في مفاهيمهم الملتبسة، في تنصيصهم على دخول العلمانية مع الاستعمار، وقد نقلت له أقوالهم، وأزيد هنا نقلا واحدا لشاكر النابلسي الذي يمارس نوعا من الدعارة الفكرية، فكتب يمتن للمستعمر الغازي الذي أنقذه من الشريعة بفرض العلمانية، بما في ذلك غزو بوش للعراق، الذي اعتبره فتحا مجيدا. قال: العلمانية العربية لم تفشل، بل على العكس من ذلك فمنذ مطلع القرن العشرين وبفضل الاستعمار البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية، تم تبني العلمانية الاقتصادية أو البنوك الربوية، وفصل الدين عن الاقتصاد، وكذلك بفضل هذين الاستعمارين تم تبني العلمانية في السياسة ... وتم جزئيا فصل الدين عن الدولة ولم يبق من الدين في الدولة والدستور غير نص (دين الدولة

أسباب انتقال العلمانية للعالم الإسلامي

الإسلام) وهو نص غبي لا يعني شيئا وقد وُضع تَرْضِية للمؤسسات الدينية في العالم العربي، فالدولة العربية الحديثة لا علاقة لها بالإسلام (¬1). وزاد: وأعتقد أن فتح بغداد المجيد في التاسع من أبريل 2003 كان نقطة تحول كبرى تجاه المزيد من العلمانية في العالم العربي. وهو أبعد أثرا من حملة نابليون على مصر (1798)، التي أدخلت عصر الأنوار والعلمانية إلى العالم العربي من البوابة المصرية (¬2). فتح بغداد المجيد!!؟؟ فما رأي عصيد؟ أسباب انتقال العلمانية للعالم الإسلامي. لانتقال العلمانية للعالم الإسلامي أسباب موضوعية تاريخية تقف خلفها، وليست حتمية تاريخية وصيرورة لا مفر منها، كما زعم جماعة من العلمانيين كعزيز العظمة وعبد المجيد الشرفي (¬3)، والعفيف الأخضر (¬4)، وكما تقدم قريبا عن أحمد عصيد. ونسوا أو تناسوا أن العلمانية ليست اختيارا ديمقراطيا للأمة وفق منهجهم، ولم تقبلها الأمة في يوم من الأيام، وإن إلغاء تطبيق الشريعة وإقرار ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (137). (¬2) نفس المرجع (138). (¬3) العلمانيون والقرآن الكريم (246). (¬4) الحوار المتمدن - العدد: 691 - 2003/ 12 / 23. وانظر قدر العلمانية في العالم العربي (7).

النظم والقوانين الغربية فُرِض على هذه الأمة بالحديد والنار وبالقتل والإبادة في ظل الاستعمار الذي خلف وراءه شرذمة من الأبناء البررة بمشروعه العلماني (¬1). وإن العلمانية رغم تسلطها وتجبرها ووقوف أجهزة الدولة خاصة الإعلام بقضها وقضيضها معها لا تمثل إلا قشرة رقيقة جدا طافية على السطح، لا تلبث طويلا حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة لأنها لا تستطيع النفاذ إلى الجماهير الشعبية التي هي قوة الإسلام وردؤه ومعدنه، وليس كالمسيحية المثخنة بالجراح، وإن الإسلام أقوى وأعظم من أن تناله أيادي العابثين أعداء الأمة، كما سنذكر في فصل لاحق إن شاء الله (¬2). وقد بدأت أول بوادر العلمانية في العالم العربي والإسلامي مع بدء الحملة الاستعمارية وإرهاصاتها الأولى في القرن 19م. وكان أول من قاد محاولات الاختراق الأولى مسيحيو الشام وغيره مثل يعقوب صروف (1852 - 1927) وفارس نمر (1856 - 1951) وشاهين مكاريوس (1853 - 1910) وشبلي شميل (1860 - 1917) ونقولا حداد (1878 - 1954) وجرجي زيدان (1861 - 1914) وفرح أنطون (1874 - 1922) وسلامة موسى (1888 - 1958) وغيرهم. فهو خيار غير إسلامي لنفر من غير المسلمين، أنشأه وبلوره وزكاه - لدى بعضهم- العداء المستكن للإسلام والإعجاب المفرط إلى درجة الانبهار والتقليد للحضارة الغربية، ورد الفعل الحاد لمأساة التعصب الطائفي الذي لعب الاستعمار الدور الأول في إشعال ناره بلبنان والشام سنة 1860م (¬3). ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن الكريم (251). (¬2) انظر نفس المرجع (254). (¬3) نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم (3 - 4).

إذن فالبوابة الرئيسة لانتقال العلمنة إلى العالم الإسلامي جاءت عبر المسيحيين العرب الذين تتأصل العلمانية في مسيحيتهم تأصلا، كما مر معنا قريبا. وقد حصلت مطارحات فكرية عديدة بين فرح أنطون ومحمد عبده حول العلمانية والدولة الإسلامية والخلافة في مجلة الجامعة ومجلة المنار. مع أن سر لهف فرح أنطون بالعلمانية كونه كان مسيحيا، فيندرج رأيه في إطار الصراع الإسلامي المسيحي في الشام في نهاية القرن 19م. فتماهى مع إخوانه الغربيين في هذا التوجه. وأصاب ذلك هوى في نفسه لمحاولة التخلص من الإسلام المهيمن. زد على أنه في المدة التي كانت الجيوش الاستعمارية الغربية تجيش المقاتلين، بل بدأت فعلا في الغزو كان فرح أنطون يكتب بحماسة بالغة عن فلسفة الأنوار، الأب الشرعي للاستعمار. فبينما كانت الجيوش على الأرض كواجهة عسكرية للاستعمار، كان فرح أنطون وشبلي شميل وغيرهم من المسيحيين في الواجهة الفكرية. وذلك ما سنحاول بسطه في الفقرة التالية: إذن فمن أهم الأسباب التي ساهمت في انتقال العلمانية للعالم الإسلامي: أولا: الاستعمار (¬1). كان الغرب قد اكتسحته العلمانية على كافة الصعد، ومع إحساسه بنشوة الانتصار هذه سعى لفرض نموذجه الغربي بقوة الحديد والنار، وفرض قوانينه ونظمه على الدول المستعمرة وإشاعه القيم الغربية ... فشجع تبرج المرأة والربا ¬

_ (¬1) انظر التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين (21 - 22) والشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (23) والغرب والإسلام (258).

والاختلاط وسن القوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، وفرض دساتيره ومسخ مناهج التعليم وحارب التعليم الإسلامي وضيق على ما أبقى من دروس دينية، وفرض لغته في التعليم والمراسلات. فنشأ جيل مقطوع الصلة بتراثه وحضارته إلا قليلا، معجب بالغرب وحضارته مفتون بها. وهكذا لم يخرج الاستعمار من البلاد الإسلامية حتى خلف وراءه جيشا من العلمانيين الذين دربهم وصنعهم على عينه. فتحولوا إلى «صنابير» يسيل منها كل ما هو غربي. ففي مصر مثلا خلف الاستعمار محمد علي وابنه إبراهيم ليقوموا بالدور الذي عجز عنه نابليون في حملته على مصر حتى سنة 1863 لما جاء إسماعيل باشا فألغى المحاكم الشرعية وترجم القانون الفرنسي المدني والجنائي إلى العربية (¬1). وأما في تركيا فلم تنسحب بريطانيا منها حتى فرضت شروطها في معاهدة لوزان سنة 1923، التي كان أبرزها إلغاء الخلافة الإسلامية وطرد الخليفة خارج البلاد، مع مصادرة أمواله وأملاكه وإعلان علمانية الدولة (¬2). وكانت العلمانية قد تسللت إلى تركيا قبل منتصف القرن التاسع عشر، ولكن بهدوء وملاينة وبشكل لا يثير مشاعر الأمة، بل جاءت مغلفة بالرغبة في الإصلاح، ونقل البلاد إلى الحضارة الحديثة وتطوير مرافق الدولة بطريقة تستجيب لمتطلبات العصر، وكانت القوانين تذكر أن دين الدولة هو الإسلام، وأن كل ما تريده الدولة هو الخروج من حالة التخلف والفوضى التي تعانيها، ¬

_ (¬1) جذور العلمانية (42). (¬2) التيارات الفكرية (21).

ومن الضعف العسكري والسياسي والاجتماعي إلى القوة والوقوف في وجه الأطماع الخارجية والخطر المحدق بها (¬1). وصدرت في هذه الفقرة عدة قوانين مقتبسة من القانون الفرنسي، منها القانون التجاري عام 1850، ثم الجنائي عام 1858، وقانون البحرية عام 1863، ومجموع الإجراءات التجارية الصادرة عام 1861م (¬2). وقد علق أحد الأتراك على استيراد القانون المدني بدون تعديل وبدون نظر إلى العادات والتقاليد وظروف المكان بقوله: إننا حتى لو أخذنا بقرة من سويسرا وبقرة من الأناضول لرأينا أن هناك فروقا بينهما من ناحية الخصائص الإقليمية والغذاء والتربية والرعاية، لذلك فإن ما يظهره النقل الحرفي والارتجالي لمنظومة القوانين الغربية وإحلالها محل القوانين الإسلامية في المعاملات، فيه خروج عن الدين وقتل للشخصية المستقلة، وتقليد قردي للعالم الغربي، وعبودية له لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح (¬3). لما خرجت تركيا منهزمة مع ألمانيا ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، استغلت اليونان الأوضاع فغزت تركيا تحت الحماية البريطانية واحتلت أجزاء منها. وقسمت بريطانيا وفرنسا الدولة العثمانية إلى أشلاء. وذلك سنة 1920. ودارت حروب بين الأتراك واليونان كانت لصالح الأتراك. وهنا بزغ أتاتورك كمنقذ قومي. وتم إعلان الجمهورية وانتخاب أتاتورك رئيسا سنة 1923. بعدها مباشرة جاء مؤتمر الصلح في لوزان في سويسرا في نفس السنة. ¬

_ (¬1) العلمانية وآثارها على الأوضاع الإسلامية في تركيا (17). (¬2) العلمانية وآثارها (74). (¬3) العلمانية وآثارها (275) نقلا عن الرجل الصنم (230).

وفي المؤتمر ظهرت شخصية صهيونية اسمه حاييم ناعوم كبير الحاخامات اليهود في تركيا، وكان الوسيط الأساسي في موضوع الصلح بين أتاتورك والإنجليز. ولما اجتمع حاييم ناعوم مع أتاتورك وقدم له شروط بريطانيا فكانت كالتالي: 1 - أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام. 2 - أن تلغي الخلافة الإسلامية. 3 - أن تتعهد بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة. 4 - أن تختار تركيا دستورا مدنيا بدلا من الدستور العثماني المستمد من أحكام الشريعة الإسلامية (¬1). أهم الإجراءات التي اتخذها أتاتورك (¬2): - استبدال القوانين الإسلامية التركية بالقانون المدني السويسري في أكتوبر سنة 1926. - إلغاء المدارس الدينية ومصادرة ممتلكاتها. - إلغاء اللغة العربية واعتماد الأحرف اللاتينية. بل نص قانون تركيا على معاقبة من يكتب بالحروف العربية بالسجن ثلاثة أشهر وغرامة قدرها عشرة جنيهات. - قانون الخيانة العظمى الذي صدر بعودة الدين والمقدسات أو بإعادة شكل الحكومة الدينية. ونص فيه على منع إنشاء الجمعيات السياسية التي ¬

_ (¬1) العلمانية وآثارها (246 - 255). (¬2) العلمانية وآثرها (271 - 286 - 294 - 308) والعلمانيون والقرآن الكريم (151 - 152).

يكون الدين أساسا أو وسيلة أو مظهرا لها. ووصف منشئها والمشتركين فيها بالخيانة الوطنية. - تغيير التقويم الهجري إلى الميلادي في 1 يناير 1926. - إلغاء اعتماد الإسلام كدين رسمي للدولة في 10 إبريل 1928. وأما المغرب فلعب الاستعمار نفس الدور في إلغاء أغلب المظاهر الإسلامية وعوضها بأخرى غربية. وضيق على التعليم الإسلامي، كما سنبين ذلك في رسالة مستقلة إن شاء الله. وعموما كان الاستعمار حريصا على تهميش دور الإسلام في الحياة العامة، مع ترك هامش ضيق جدا وحصره في وزارة الشؤون الدينية، وقراءة القرآن في بعض المناسبات الرسمية، ودرس التربية الإسلامية المهمش ضمن تعليم بمواده العديدة والمتعددة. وتحول الإسلام من فاعل أساسي ومحرك مركزي للمجتمع والتاريخ إلى هامش ضيق. وعليه فلا يمكن فصل ظاهرة العلمانية عن حركة التوسع الامبريالي وآثارها التي خلفتها في الرقعة الإسلامية (¬1). ورغم وضوح هذه الحقائق التاريخية حاول عبثا عزيز العظمة القفز عليها من أجل إضفاء نوع من الشرعية التاريخية والموضوعية للعلمانية، ولو على حساب الحقيقة والتاريخ. ولا تعدو محاولات العظمة أن تكون بحثا ميئوسا منه عن جذور للعلمانية في الوطن الإسلامي عبر مجموعة من الأوهام. ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (142).

فشكك في تجذر الإسلام في النسيج الاجتماعي (¬1). وحاول عبثا إيجاد ما يشبه التطرف الكنسي في تاريخنا ولو بشكل أقل حدة (171 - 172 - 173). وطرح عددا من المغالطات التاريخية التي ليس التعرض لها من همنا الآن. وشكك في كون العلمانية شأنا خارجا عن تاريخنا وشيمنا وواقعنا. (184). وفي كون الإسلام متجذرا في الشعوب العربية (182). ولا تتجاوز هذه المغالطات مرحلة تزييف الوعي التي يتقنه العظمة. وقد أحسن المسيري في رده عليه. ولسوء حظ العظمة فجماهير إخوانه العلمانيين يخالفونه في هذا، فاعترفوا صراحة بأن العلمانية جاءت للبلاد الإسلامية تحت راية الاستعمار. منهم محمود إسماعيل الذي أقر بأنها جاءت إلى العالم العربي مع الاستعمار، وزاد: وإذ وقف الفقهاء موقف الرفض للعلمانية، فلأنها وفدت في الغالب الأعم من قبل مفكرين مسيحيين وتحت ظل الاستعمار الأوروبي (¬2). واعترف العفيف الأخضر كذلك بأن العلمانية جاءت عبر الاستعمار. ولهذا لم تدخل السعودية لأنها لم تعرف الاستعمار (¬3). وتابعه عادل الجندي، وزاد: العلمانية لم تدخل قط إلى العالم العربي كجزء من الفكر السياسي (¬4). ¬

_ (¬1) العلمانية تحت المجهر (189). (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (93). (¬3) العلمانية مفاهيم ملتبسة (196) وقدر العلمانية في العالم العربي (10). (¬4) نفس المرجع (315) وقدر العلمانية في العالم العربي (127).

وكذا فعل سعيد لكحل (¬1) وماجدة رفاعة الطهطاوي حيث اعترفا بدخولها مع الاستعمار (¬2). ومع اعتراف هؤلاء بدور الاستعمار في زرع العلمانية في البلاد الإسلامية إلا أنه اعتراف محتشم، لا يرقى إلى مستوى النقد الموضوعي لدوره في عملية الإلحاق الحضاري والتذويب الثقافي. وليس اقتران العلمانية بالاستعمار والهيمنة الامبريالية والتحكم الغربي في الشعوب مرحلة من مراحل العلمانية، بل كما أسلفت عن المسيري والطعان: العلمانية هي النظرية والامبريالية هي التطبيق. وشواهد التاريخ تؤكد هذا، ففلسفة الأنوار العلمانية تلاها مباشرة التوسع الامبريالي الاستعماري. وغير خاف على أحد استمرار الهيمنة الغربية على الشعوب العربية إلى الآن، وما الأمم المتحدة وقصرها حق النقض على خمسة كبار، وصندوق النقد الدولي الذي يفرض شروطه على الدول إلا بعض تجليات ذلك. ولماذا نذهب في التحليل بعيدا، ها هي العراق وأفغانستان وفلسطين والشيشان ماثلة أمامنا. وكل الأنظمة الديكتاتورية في إفريقيا تجد سندها القوي من دول استعمارية علمانية سابقة كفرنسا مثلا. ويكفي كذلك أن تتبع أي نزاع عرقي أو طائفي أو سياسي عبر العالم وخاصة إفريقيا إلا وتجد القوى العلمانية الكبرى لها يد طويلة في ذلك. وطالما بشرنا العلمانيون في الغرب بحقوق الإنسان وكرامة الشعوب في ظل العلمانية ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (269). (¬2) نفس المرجع (327 - 328).

الموعودة، وإذا بنا نرى الشعوب تداس بالأقدام من قبل أنظمة علمانية غربية أو بالوكالة من قبل عملائها بالمنطقة. هذا فضلا عن التدخلات السافرة للغرب العلماني في سياسات دول المنطقة عبر لوبيات اقتصادية ومالية ضاغطة لها علاقات مشبوهة بالسفارات الغربية أو بالمنظمات المالية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي تمارس الاستعمار المالي والتحكم في الثروات وفرض شروط مذلة تكرس الهيمنة على شعوب الجنوب المستضعفة. أليست هذه منظمات علمانية في يد السياسيين العلمانيين لترسيخ الهيمنة المالية والاستبداد والتحكم في الشعوب الأخرى؟ وما رأي العلمانيين العرب في كل هذا، وخاصة أصحاب المفاهيم الملتبسة؟ يعزو بعض العلمانيين -عملا بمبدأ المغالطة من أجل المغالطة- هذه الإخفاقات أو الجرائم العلمانية إلى الفرق بين النظرية والتطبيق. لكن الواضح للعيان أن العلمانية منذ نشأتها وهي تعيش هذه الإخفاقات والمآزق، فهناك تلازم شديد في نظرنا بينهما، وليس الأمر مجرد إكراهات سيتم تجاوزها أو إخفاقات سيتم تداركها. إنها فلسفة منظمة واستراتيجية واضحة، إنها عقلية استعمارية احتقارية عنصرية عامة تحكم النظام العلماني الغربي، وتربض خلفها مسيحية تبشيرية حاقدة. ونحن نرى كل صباح ومساء الامبريالية الغربية تتجلى في صور متعددة متناسخة، ليس آخرها الدعم اللامشروط للصهيونية.

ولا يفوتني هنا التنبيه إلى أن الاستقلال عند العلمانيين من الاستعمار يقف عند حدود الاستقلال السياسي، كما بين محمد عمارة في الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (13)، وزاد أن بعضهم قد يدعو إلى قدر من الاستقلال الاقتصادي ولكنهم يعادون ما نسميه الاستقلال الحضاري، استقلال الهوية المتميزة عن هوية الغرب. . ولذلك فإن الاستقلال الذي يدعون إليه هو في حقيقته استقلال الوطن عن ماضيه وتراثه ومكوناته الإسلامية وعن محيطه الإسلامي. وزاد مؤكدا أنهم عندما يدعون هذا الوطن الذي يعزله هذا الاستقلال عن هويته الإسلامية وعن أمته الإسلامية، عندما يدعونه إلى تبني الخيار الحضاري الغربي، فإنهم يدعونه إلى الالتحاق والإلحاق الحضاري بالمركز الغربي ... فهي حقيقة - والحال هذه - دعوة للتبعية وليست للاستقلال ... ودعاتها هم عملاء لحضارة الغرب، حتى وإن رفعوا شعارات الاستقلال عن الاستعمار السياسي الغربي لأوطانهم. السبب الثاني: الصحافة الموالية للاستعمار (¬1). كان للصحف الموالية للاستعمار دور كبير في تربية الشعب على الطريقة التي أرادها المستعمر، إذ كانت تعمل دائبة على إقناع الناس بضرورة احترام المحتلين لما نالت البلاد بزعمهم من خير على أيديهم. وطالبوا بالارتباط بالحياة الأوروبية وضرورة تعليم الأبناء على الأساتذة الأوروبيين. ¬

_ (¬1) جذور العلمانية (63 - 64).

وقام بتنفيذ هذا المخطط الاستعماري في مصر الصحفيون المسيحيون، وفي مقدمتهم فارس نمر ويعقوب صروف (¬1)، وشاهين مكاريوس الذين أسسوا دار المقطم (¬2) للصحافة. وأصدروا ثلاثة صحف: - مجلة المقتطف العلمية سنة 1885. - مجلة اللطائف الأدبية سنة 1886. - صحيفة المقطم السياسية سنة 1889. وقد تربى أصحاب المقطم الثلاثة في أكبر مدرسة تبشيرية في الشرق، وهي الكلية الأمريكية في بيروت واقترن أحدهم، وهو فارس نمر عام 1888 بابنة قنصل انجلترا بالإسكندرية، وسافر إلى انجلترا واجتمع بكبار السياسيين الإنجليز، وشرب أفكارهم قبل إصدار جريدة المقطم بعام ليبثوا فيه الأفكار التي يجب أن ينفثها للمصريين. ثالثا: التخلف والتفكك المجتمعي العام. عاشت الإمبراطورية العثمانية حالة من الضعف والتدهور العام، حتى لقبت بالرجل المريض. فسَهُل على الغرب تفكيكها وتقسيمها وفرض شروطه عليها. وكانت العلمانية هي الشرط الأكيد الذي سعت إلى زرعه وإنباته داخل المنطقة. ¬

_ (¬1) وانظر العلمانية في الإسلام (58 - 65 - 66). (¬2) المقطم هو الجبل الذي نقلت منه الأحجار التي بنيت منها الأهرامات، يقصدون بذلك تذكير المصريين بمجد الفراعنة لا بمجد الإسلام.

وانتشرت الطرق الصوفية الخرافية، وكثر المجاذيب والبهاليل، وأشاعوا أن الأولياء الصوفية يحفظون البلاد والعباد. فركن الجميع إلى عقيدة تواكلية انهزامية خرافية سهَّلت كل اختراق خارجي للصف الإسلامي، لضعف مناعته وانهيار مقومات الممانعة وأسباب المقاومة. زد على ذلك ضعف أو انهيار الجانب العلمي المتمثل في علماء الشريعة، وتحول بعضهم إلى علماء في يد العلمانية، وهو السبب الرابع. رابعا: علماء السوء (¬1). مثل علماء السوء أحد أهم الركائز التي اتكأ عليها المشروع العلماني لإحداث اختراق نوعي من داخل الصف، ولهذا حرص المستعمر على إرسال بعثات علمية للدراسة كان الهدف من ورائها تدجين طبقة من العلماء والمثقفين لخدمة المشروع الامبريالي، فكانت البعثات العلمية إلى أوربا، بدءا برفاعة الطهطاوي ومرورا بطه حسين خريج الأزهر ثم السربون، وعلي عبد الرازق الذي تابع تعليمه في أوكسفورد. وكان لهذه البعثات أهداف غير بريئة وشكلت عناصر اختراق متقدمة خلقت فجوات داخل بنيان الدولة والمجتمع العثماني وشكلت جسرا لتعبر عليه سياسات الغرب لاحقا (¬2). ¬

_ (¬1) جذور العلمانية (44). (¬2) الخطاب العربي المعاصر لفادي إسماعيل (90).

عايش رفاعة الطهطاوي (1808 - 1870) محمد علي وإبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل، ورضي معظمهم عليه، وأنعموا عليه بالرتب والتشريفات، حتى ترك لورثته عند وفاته ما يزيد على (1600) فدان. ومن هنا لم يكن لرفاعة أن يقف مواقف لا يرضى عنها الحكام. خامسا: الماسونية. نشر الغرب الماسونية في القرن التاسع عشر في مصر والبلاد الإسلامية، وانخرط فيها كثير من المسلمين بحسن نية وعدم إدراك لأهدافها، من أشهرهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثم انفصلا عنها لما تبين لهم ما تبين. وكانت مجلة اللطائف الآنفة الذكر أول جهاز إعلامي يجاهر بنشر التعاليم الماسونية والإلحاد في مصر (¬1). سادسا: التنصير. تضاعفت أعداد المنصرين حتى وصل إلى 43000 منصر إلى غاية سنة 1958. وكان أهم أهداف هؤلاء المنصرين الذي يحركهم علماني أمريكي اسمه جون رالي موط، لا ينتمي أصلا إلى رجال الكنائس والذي اختاره مجلس الكنائس العالمي ليكون رئيسه الفخري، عملا بخطة استعمارية هي إبعاد الدين عن الحياة في البلاد الإسلامية من كل مشاركة أو اقتراب في الحياة السياسية أو الاجتماعية والاقتصادية، أي: عزل الدين عن حياة المسلم عزلا تاما، وفصل المسلم بالتالي عن حقيقة دينه. ¬

_ (¬1) جذور العلمانية (70).

كان هذا هو همهم الأول قبل اهتمامهم بالتبشير للدين المسيحي (¬1). وقد أسلفت أن العلمانية متجذرة في الدين النصراني، ولذلك كان التبشير به تبشير بالعلمانية وقطع للطريق على الإسلام. وقد كانت الشريعة الإسلامية في المغرب في صورة المذهب المالكي حاكمة لقرون عديدة، وكانت المرجع الوحيد للقوانين التي كان يحكم بها القضاة في المحاكم والمساجد وغيرها، كما سأبين ذلك بتفصيل في رسالة مفردة بإذن الله. حتى جاء الاستعمار بعلمانيته فأزاح الشريعة واستبدلها بالقوانين الوضعية وأزاح المحاكم الشرعية وهمشها. في عالمنا الإسلامي أراد طغمة من العلمانيين اجترار نفس الأساليب لواقع مختلف جذريا عن واقع أوربا. فلا المساجد هيمنت وطغت، بل وبالعكس كانت ملاذا للضعفاء والمساكين والمحتاجين. ولا (رجال الدين) المسلمين شكلوا خطرا على الثقافة ولا تحالفوا مع الإقطاعيين ضد عامة الفقراء، كما حدث في أوربا، ولا شكلوا طبقة كنهوت، بل كان علماء الإسلام من عموم الناس الضعفاء يتشاركون معهم همومهم وأفراحهم، ولا أدل على ذلك من الاحترام الكبير الذي يحظى به العلماء في الأوساط الشعبية. ولا محاكم تفتيش في تاريخنا الإسلامي، ولا صكوك غفران. فلا يجدي نفعا استنساخ تجربة لواقع مختلف كانت العلمانية فيه حلا منطقيا لمشاكل معينة تختلف تماما عن واقعنا وتاريخنا وبيئتنا وحضارتنا. ¬

_ (¬1) جذور العلمانية (60 - 61).

الحكومة الدينية

الحكومة الدينية ليس في الإسلام «رجال الدين» بالمعنى الطبقي الاجتماعي أي: طبقة معينة لها مميزات خاصة وامتيازات معينة، ولها الحق وحدها في معرفة الحقيقة المطلقة، وأنها تحكم بتفويض إلهي (¬1). والحكومة الدينية المسيحية أو الحكومة الإلهية أو الحكومة التيوقراطية التي نشأت في الغرب تتميز بعدة خصائص، منها (¬2): - أفرادها من الكهنة ورجال الدين. - رجال الدين هم وحدهم لهم الحق في التحدث باسم الله. - هم يحكمون بتفويض من الله، وبالحق الإلهي الذي يخول لهم التصرف في أرزاق الناس وتشريعاتهم ومصائرهم. - لا يجوز لأحد مهما بلغ من العلم أن يخالف آراء رجال الدين لأنهم يمتلكون وحدهم الحق المطلق، ولو في العلوم التجريبية والفلكية والطبية. وأما في الإسلام فالحاكم مدني. ولا يدعي أنه يحكم بتفويض إلهي، أو أنه يحكم باسم الله بمعنى النيابة عنه (¬3). ¬

_ (¬1) وانظر تهافت العلمانية (12 - 240) والدولة الإسلامية (14). (¬2) انظر تهافت العلمانية (230 - 240). (¬3) انظر في عدم قداسة الخلفاء: سقوط الغلو العلماني (93) وفي عدم مشابهة الخلافة الإسلامية للبابوية: الإسلام بين التنوير والتزوير (145).

والفرق بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية أن الدولة الإسلامية تكون ذات مرجعية إسلامية أي منضبطة بضوابط الشريعة، والحاكم فيها يخطئ ويصيب، ولا يتحدث أحد باسم الله ونيابة عنه إلا الأنبياء. والقول بحاكمية الشريعة لا يعني الحكومة الدينية كما توهم بعض الكتاب، لأن الحاكمية لا تعني أن يباشر حكام بأعيانهم سلطانا من الله على الناس كما كان في أوروبا، بل تعني أن تكون شريعة الإسلام هي مصدر التشريع، وأن الحكم للخليفة الذي بايعته الأمة وفق مبدأ الشورى (¬1). إذن فالدولة الدينية نمط من أنماط الحكم التي تميزت بها أوروبا في عصورها الوسطى المظلمة، والتي لم تعرف لها في بلاد الإسلام مثيلا. والدولة الإسلامية لها خصائص ومميزات تفارق فيها الدولة الدينية والدولة العلمانية. من هنا يتضح أننا إزاء ثلاثة أنواع من الحكم: - الدولة الدينية، دولة الكهنة ورجال الدين، الذي يحكمون بتفويض إلهي ونيابة عن الله. - الدولة العلمانية. - والدولة الإسلامية التي تتميز بإسلامية المرجعية ومدنية النظم (¬2). وعليه فليس الأمر كما يزعم العلمانيون أننا أمام خيارين لا ثالث لهما: إما العلمانية، وفصل الدين عن الدولة. وإما السلطة الدينية، التي تجعل للحكام فيها ولقوانينها قداسة الدين. ¬

_ (¬1) انظر تهافت العلمانية (275). (¬2) الشريعة الإسلامية (39).

بل لإسلامنا نهج خاص وطريق وسط (¬1). كثير من العلمانيين يحاولون تصوير علاقة الدين بالسياسة في المجتمعات الإسلامية كأنها تتلخص في سيطرة رجال الدين والمعممين على شؤون الحكم وعالم السياسة، بينما واقع الحال يشهد على تسلط الدولة على الدين ومؤسسات المجتمع والاستيلاء على مقدراته الرمزية والمادية (¬2). وقد ذكر إدوارد مورتيمر البريطاني في كتابه «الإسلام والدولة» أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا يعد مسلما من ادعى أن من حقه أن يختار شريعة أخرى أو قانونا آخر غير الإسلام، وأكد أنه لا يوجد في الإسلام نظام الحكومة الدينية في أوروبا، فلا صلة أبدا بين التشريع الإسلامي وحكومة الكنهوت في أوروبا. وقد شهد بهذا علماء من النصارى منهم الدكتور نظمي لوقا في كتابه محمد الرسول والرسالة (¬3). وقد شهد بهذا كذلك من العلمانيين عادل الجندي، أي بعدم وجود كنهوت في الإسلام (¬4). وأكد نصر حامد أبو زيد أن الدولة الدينية لم تقم أبدا في تاريخ المجتمعات الإسلامية إلا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران (¬5). ¬

_ (¬1) الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية (7). (¬2) في العلمانية والدين والديمقراطية (133). (¬3) تهافت العلمانية (57). (¬4) العلمانية مفاهيم ملتبسة (320). (¬5) العلمانية مفاهيم ملتبسة (239).

وخالف أحمد عصيد إخوانه أصحاب المفاهيم الملتبسة، فزعم أن في الإسلام كذلك كان يحكم بالحق الإلهي أي الدولة الدينية (¬1). وعصيد في هذا محكوم بموقف إيديولوجي أكثر منه ببحث علمي. ونشير هنا إلى خالد محمد خالد الذي حاول تشبيه الحكم الإسلامي بالنظام التيوقراطي في كتابه «من هنا نبدأ» ورد عليه محمد الغزالي بكتاب «من هنا نعلم». لكن عاد خالد محمد خالد فتراجع عن أفكاره في كتاب الدولة في الإسلام، وبين بطلان الحكم بالحق الإلهي في الإسلام. تصرف الحاكم المسلم في ظل الحكم الإسلامي ليس مقدسا. وقد أجمع علماء الإسلام قاطبة على هذا، وهي من الوضوح في تاريخنا بحيث لا تحتاج إلى بحث ولا تنقيب لمعرفتها. ومع هذا طالما لهج العلمانيون برفعها فزاعة في وجه الإسلاميين، كما فعل العلماني السوداني عبد الله أحمد النعيم في الإسلام وعلمانية الدولة (30). ولبلوغ هذا الهدف أصل النعيم أصلا باطلا، ثم بنى عليه بناء صحيحا، موهما أن الأصل الذي بنى عليه صحيح مثله. فأصَّل أولا أن السياسي إذا طبق الإسلام يعني أنه أصبح مقدسا. والنتيجة أنه إذا أصبح مقدسا أو عمله مقدسا فتنتفي المعارضة والتقويم. ¬

_ (¬1) نفس المرجع (340).

وكل هذه التأصيلات غربية قرأها النعيم في تاريخ أوروبا، ولكثرة وجوده في أوروبا وأمريكا ظن أن كل بلاد الدنيا هكذا، أو على الأقل يحاول أن يغالطنا. . فمن أين له أن الدولة إذا طبقت الإسلام تتحول إلى دولة مقدسة؟ هل في الإسلام ما يثبت ذلك؟ أم في تاريخ الدول الإسلامية ما يثبت ذلك؟ أم في الإسلاميين من يقول ذلك؟ أم أن الفكر الغربي طغى عليه حتى فَقَد ضوابط التمييز بين ما هو إسلامي وما هو غربي. وإذا كان الخطاب العلماني يتهم الخطاب الإسلامي برفع شعار «لا حكم إلا لله» وأنه شعار يخفي وراءه دولة دينية قامعة للحريات تحكم بالحديد والنار ومحاكم التفتيش. فإن الخطاب العلماني يرفع شعارا متشابها: لا حكم إلا للعلمانية، الذي يتمترس خلف الإقصاء وتجفيف المنابع بل واستئصال الدين من الحياة وإقامة المحاكم العسكرية لمحاربة المتدينين. فقد أكدنا في غير ما موضع أن العلمانية ليست حركة محايدة ونواياها ليست شريفة تجاه الدين كما توهم الخطابات العلمانية، والدليل هو الواقع المعاش منذ الثورة الفرنسية وإلى الآن (¬1). ¬

_ (¬1) الحركات الإسلامية.

الإسلام وممانعة العلمنة

الإسلام وممانعة العلمنة - المزج بين الديني والدنيوي. أحكام الإسلام وعقائده وعباداته ومعاملاته وأخلاقه وتشريعاته متداخلة متشابكة، بل هي كل لا يتجزأ. وإذا كانت العقيدة هي أس الإسلام وأصله، فإن العبادات والمعاملات خادمة لهذا الأصل وراعية له وحافظة له. ويستحيل أن تحفظ العقائد الإسلامية في ظل مجتمع علماني. والعقيدة والعبادة والمعاملة متداخلة متشابكة في الإسلام يصعب فصلها، وأي خلل في هذه هو خلل في الأخرى. بل العقيدة في حد ذاتها مناقضة في أصولها لأصول العلمانية، لأن الشهادتين تعني الاستسلام لأحكام الله وأوامره والاستسلام لأحكام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وما يميز الإسلام -كما أكد رفيق عبد السلام- «عن بقية الديانات الكبرى بما في ذلك الديانات التوحيدية السابقة، هو هذا الترابط الوثيق بين الديني والدنيوي، خلافا للأديان السابقة التي لم يكن هذا الالتقاء في أصل كينونتها الذاتية ... أما الإسلام فدين يقترن فيه سلطان الحق بسلطان القوة، وليس مجرد مواعظ روحية أو تبتلات زهدية أو تأملات علوية مفاصلة لعالم البشر وشؤون العالم وما يحكمه من صراعات وتناقضات ... ففي الإسلام فقط كان التركيب المنسجم والمتوازن بين الدين ومشاغل الدنيا، أو بين العالم الدنيوي والعالم الأخروي بحيث غدا الجانب الزمني والتاريخي بعدا مكينا في الحقيقة الدينية ذاتها. في الإسلام فقط اكتسب الوعي الديني بنفسه ضربا من الروحانية

الدنيوية أو الدنيوية المتعالية أي: الروحانية الفاعلة في هذا العالم وبوسائل هذا العالم ... » (¬1). وزاد قبل هذا: «إن إضافة الإسلام الكبرى تتمثل في تغيير معنى الديني أصلا من خلال وصله بالدنيوي، وتغيير معنى الدنيوي عبر وصله بالروحي والديني، بما يجعل الواحد منهما وثيق الصلة بالآخر» (¬2). وزاد: «ويمكن القول هنا إن الإسلام يؤسس ضربا جديدا من الدنيوية يمكن تسميتها بالدنيوية المتعالية أو الدنيوية الروحية، كما أنه يعطي دلالة جديدة لمعنى الروحي والديني في إطار ما يمكن تسميته بالروحية الدنيوية. ففيما يحث الإسلام على التمتع بطيبات هذه الحياة الدنيا فإنه يحرص على إكسائها بالفضائل الأخلاقية والروحية بهدف الارتقاء بالمادي إلى طور السمو الروحي. وهكذا يمكن القول إن جوهر الاختلاف بين الإسلام والعلمانية لا يعود إلى ارتباط الإسلام بالمطلقات الغيبية مقابل ارتباط العلمانية بعالم الدنيا النسبية، بقدر ما يتعلق بنوعية الرؤية إلى هذه الدنيا وصلتها بالآخرة. وخلافا للقراءة الفيبرية (¬3) التي ترى الديني لا يكتسب سموه وأفضليته إلا بقدر نأيه عن مشاغل العالم بما يتيح عقلنة البنى الاجتماعية والسياسية بعيدا عن الكوابح والموجهات الدينية على حد قوله، فإن القاعدة العامة التي تحكم الإسلام تقوم على كون الديني لا يكتسب قيمته إلا من خلال انخراطه في مشاغل العالم. ومن ثم استيعاب ما يسمى بالعلماني (¬4) والدنيوي ضمن بنيته الداخلية، وهذا ما ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (131). (¬2) نفس المرجع (111). (¬3) نسبة إلى ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني. (¬4) في هذا الإطلاق نظر.

ينطبق فعلا على الإسلام، إذ يتعاضد الدين الطبيعي مع الدين التشريعي إلى الحد الذي لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر» (¬1). قال المستشرق والباحث في العلوم السياسية جيل كيبل: إن الإسلام هو وحده الذي يخلط بين الدين والسياسة أو بين الروحي والزمني ويتخذ من ذلك عقيدة مقدمة معصومة، وذلك على عكس المسيحية التي كانت قد فصلت بينهما منذ زمن طويل، أي: منذ أن قال المسيح تلك العبارة الشهيرة في الإنجيل: اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله (¬2). والدين في المفهوم الغربي -حسبما يؤكد رفيق عبد السلام- يطلق على ممارسة طقوس وأدعية وصلوات في الكنيسة بإشراف طبقة متخصصة ذات تراتبية هرمية. فتم حصر الدين في ممارسة الشعائر التعبدية والطقوسية (¬3). وفي المقابل التأكيد على البعد عن الدنيوي والمادي والزهد فيه. أما في الإسلام فيلاحظ أن فيه تجانسا كبيرا بين ما هو ديني غيبي وطقوسي وبين ما هو دنيوي، وعليه فإن الدين لا ينحصر في الإسلام في الجانب الطقوسي والشعائري، بل تعداه إلى كافة مناحي الحياة (¬4). وزاد أن الإسلام لا يقيم مقابلة أو مفاصلة بين الديني المتطابق مع الروحي والباطني والمطلق، وبين العلماني المتطابق مع الزمني والدنيوي والنسبي لأن كل ما هو ديني في فلسفة الإسلام يحمل في كينونته الذاتية ما هو زمني ¬

_ (¬1) نفس المرجع (111). (¬2) نحو نقد العقل الإسلامي (258). (¬3) في العلمانية والدين والديمقراطية (101 - 106). (¬4) نفس المرجع (109).

ودنيوي، وكل ما هو زمني ودنيوي لا ينفصل عن مرتكزاته الروحية باعتباره من الطيبات التي أحلها الله (¬1). ولهذا السبب اقترن الإسلام في وعي المسيحية (¬2) بالدين المادي، بما يتناقض مع هوية الدين القويم القائم على الطهورية الزهدية. وهو ما حذا ببعض المفكرين الغربيين أمثال فولتير ومارسيا ألياد ونيتشه إلى اعتبار الإسلام أنموذجا مكثفا للدين الطبيعي المناقض للزهدية المسيحية (¬3). فالعقيدة الإسلامية تفرض على المسلم أن يكيف حياته وفقا للأحكام التي تجسدها وأن يتجلى أثرها في سلوكه وعلاقاته كلها، سواء كان حاكما أم محكوما. والعلمانية تريد من العقيدة أن تظل حبيسة الضمير لا تخوض معترك الحياة، ولا تؤثر في أهدافها ومناهجها، فإن سمح لها بالظهور فليكن بين جدران المسجد، لا تخرج عنها، على أن يكون المسجد نفسه تحت سلطانها. وبهذا نرى المسلم الذي يعيش تحت سلطان العلمانية يعاني من التناقض بين العقيدة التي يؤمن بها والواقع الذي يفرض عليه، فعقيدته تشرق وواقعه يغرب، عقيدته تحرم والعلمانية تبيح ... عقيدته تلزم، والعلمانية تعارض، وهكذا لا تعايش بين الإسلام الحقيقي والعلمانية الحقيقية، فهما كالضرتين، إذا رضيت إحداهما ¬

_ (¬1) نفس المرجع. (¬2) عندما أطلق المسيحية فمرادي في صيغتها الكنيسية. (¬3) نفس المرجع (110).

أسخطت الأخرى، أو ككفتي الميزان لا ترجح إحداهما إلا بمقدار ما تخف الأخرى (¬1). هذه الحقيقة الناصعة أعني هيمنة الإسلام على كل مناحي الحياة ودمجه بين الدين والسياسة اعترف بها تقريبا كل الباحثين الغربيين بحسب شهادة علماني راديكالي هو أركون، ومما قال: كل الباحثين والمستشرقين الغربيين مقتنعون بذلك، ولا يمكن أن تنزع من رؤوسهم هذه الفكرة (¬2). وأكد على أن الإسلام صاغ جميع مناحي الحياة، بما فيها السياسة والقانون ونمط البناء والعمران والأساليب الفنية (¬3). وأن الإسلام لا يفصل بين الدين والسياسة (¬4). وأنهم إنما قالوا بذلك باعتباره نقصا في الإسلام أو عرقلة للتطور (¬5). ونقل عن الباحث الفرنسي ماريل غوشيه في كتابه «خيبة العالم» الذي أحدث ضجة واسعة في أوساط الباحثين حسب أركون، وملخص كتابه أن المسيحية هي وحدها الدين الذي يقبل بأن يخرج المجتمع منه، أما الإسلام واليهودية فهما دينان لا يعترفان بالعلمنة أو بالفصل بين الدين والسياسة أو ¬

_ (¬1) التطرف العلماني (34). (¬2) قضايا في نقد العقل الديني (114). (¬3) نفس المرجع (224). (¬4) تاريخية الفكر العربي (267 - 280 - 168) والأنسنة والإسلام (93) وقضايا في نقد العقل الديني (209). (¬5) قضايا في نقد العقل الديني (210).

الدين والدنيا، وحدها المسيحية تسمح بذلك، وهنا تكمن خصوصيتها وتفوقها على كافة الأديان الأخرى (¬1). وزاد أركون مؤكدا ترابط الديني والسياسي في الإسلام وأن تدخل الإسلام في الحياة العامة يظهر جليا من الولادة (الختان) وحتى الموت مرورا بالمدرسة والتعليم والزواج والولادات وغير ذلك. ليستنتج استنتاجا هاما هو أن مسألة ظهور العلمانية يبدو صعبا على الوصف والتحديد (¬2). وكذا نقل العلماني المصري شريف حتاتة أن كثيرا من المفكرين في الغرب يقولون إن الإسلام لا يقبل الحداثة ولا الديمقراطية ولا الفكر العلماني (¬3). وقال البروفسور لويس كنتوري الأستاذ بجامعة جورج تاون وأحد أبرز الخبراء الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط في ندوة يونيو 1994 بلندن: إنه آن الأوان أيضا لإدراك أن خطاب التنوير الغربي المنطلق من العداء للدين، لا يصلح للعالم الإسلامي والعربي الذي يمثل فيه الدين قيمة عظمى، وتسوده قيم أخرى تعلي من شأن الدولة والجماعة والأسرة. وأكد أنه لا العلمانية ولا الليبرالية ولا الماركسية تصلح أساسا لإنهاض العالم الإسلامي، فكل منها يصطدم أو يتناقض مع تركيبة المجتمع الإسلامي، الذي لا مفر من الاعتراف بأنه يمثل ثقافة مغايرة تماما لتلك السائدة في المجتمع الغربي (¬4). ¬

_ (¬1) نفس المرجع (138). (¬2) تاريخية الفكر العربي (292). (¬3) العلمانية مفاهيم ملتبسة (107). (¬4) المفترون (248).

والندوة المذكورة دعا إليها مركز أبحاث الديمقراطية بجامعة ويستمنستر بالتعاون مع منظمة ليبرتي المختصة بشؤون الحريات في العالم الإسلامي بعنوان: انهيار العلمانية والتحدي الإسلامي للغرب. وموضوعها البحث في إخفاقات العلمانية وسر التحدي الإسلامي لها مع تزايد المطالبة بتعليم الدين في المدارس الحكومية الغربية، ومع الدور المتزايد للكنيسة ورموزها في الحياة العامة، ومع شيوع الظاهرة الإسلامية في العالم الإسلامي (¬1). وقال عالم الاجتماع الإنجليزي إرنست جيلنر: إن النظرية الاجتماعية التي تقول: إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يقوض الإيمان الديني -مقولة العلمنة- صالحة على العموم، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جدا من هذا!! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين ... (¬2) وذكر نفس الباحث أن حركة العلمنة وإن فرضت نفسها في أغلب مناحي المعمورة الكونية بما في ذلك داخل الفضاءات الجغرافية والدينية الكبرى كاليهودية والمسيحية والهندوسية والكونفشيوسية، إلا أن عالم الإسلام يمثل استثناء من القاعدة العامة ... فالإسلام يبدو اليوم قويا كما كان شأنه قبل قرن من الزمن، وربما هو اليوم أقوى مما كان عليه (¬3). ¬

_ (¬1) نفس المرجع (240 - 241). (¬2) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا (41 - 42) لعمارة. (¬3) في العلمانية والدين والديمقراطية (124).

واعتراف المستشرقين رغم حقدهم وحنقهم على الإسلام مع بحثهم الدؤوب عن كل نقيصة أو شبهة لإبعاد الإسلام عن الحياة العامة، اعترافهم دليل واضح على غربة العلمانية عن الإسلام. والأدهى من كل ما تقدم أن أركون أزعجه كثيرا ذلك الاعتراف الغربي، بل ذكر أنه يشعر بالأسى والحزن وبالسخرية المُرَّة من ذلك (¬1). وناشدهم بالتخلي عن هذه الأطروحة، وأن الإسلام عامل فقط من عوامل عديدة مهيمنة على المسلمين (¬2). وانتقد في تاريخية الفكر العربي (204) الكتابات الاستشراقية التي تبجل الإسلام أو تمجده، واعتبرها انتهازية. والمستشرقون والباحثون الغربيون في نظر أركون بلغوا الذروة في النقد والبحث والتحري والعمق، لكن إذا تعلق الأمر باعترافات لصالح الإسلام فأركون منزعج وغضبان. يريد أركون أن يقزم دور الإسلام إلى عامل من عوامل عديدة ليسهل تجاوزه وعدم تركيز الاهتمام عليه. والاستشراق والبحث الغربي عند أركون إذا نقض أصول الإسلام فهو جدي ونقده علمي، وإذا اعترف له بشيء فقد انحرف عن مساره العلمي. وأكد نفس الحقيقة، أعني ممانعة الإسلام للعلمنة علماني آخر، لكن هذه المرة من المغرب، وإن كانت بطريقة ملتوية. ¬

_ (¬1) قضايا في نقد العقل الديني (89). (¬2) نفس المرجع (72).

إنه محمد عابد الجابري، الذي أكد على صعوبة تحقيق العلمانية في البلاد الإسلامية، لأسباب منها أن مضمون هذا الشعار مرتبط بظاهرة دينية حضارية لا وجود لها في التجربة الحضارية الإسلامية، أي ظاهرة الكنيسة. ولأنه لا توجد هيئة دينية عليا تعتبر نفسها المشرع الوحيد في ميدان الحياة الروحية (¬1). وأن أول من طرح العلمانية في البلاد الإسلامية هم المسيحيون العرب من سوريا ولبنان (¬2). وبين أنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة (¬3). واعتبر الجابري زعم حسن حنفي أن الإسلام لا يحتاج إلى علمانية غربية لأنه علماني في جوهره، اعتبره قفزا على مسألة العلمانية وأنه طرح لا يحل المشكل وقال: لذلك أكدت وأعود فأؤكد أن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، ديانة وحضارة، ملة وثقافة ... (¬4) ويرى القطاع الأوسع من الباحثين والأكاديميين حسب رفيق عبد السلام، فضلا عن الإعلاميين والسياسيين الغربيين في ظاهرة الأسلمة ضربا من الفشل والإخفاق الذي يطبع عالم الإسلام اليوم، بسبب ما يعدونه ممانعة العرب والمسلمين لتقبل القيم الحداثية العلمانية الموصوفة بالكونية. ¬

_ (¬1) مواقف (34) ص (18). (¬2) نفس المرجع (19). (¬3) نفس المرجع (23). ورغم تأكيده على عدم استبعاد الدين إلا أنه عاد ليؤكد على أنه يريد بالإسلام الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعا مسلمين وغير مسلمين (ص 25) إنه إقصاء للدين أو لأغلبه وكل عقائده وأحكامه تحت ستار الإسلام الروحي. (¬4) حوار المشرق والمغرب مواقف (58) (ص 80 - 90).

مؤكدا أن التوجهات العلمانية تلقى نوعا من المقاومة والممانعة من أكثر القطاعات تعلما وتحديثا، وليس من قبل القطاعات الأمية أو التقليدية، أي: من قبل القطاعات المفترض فيها أن تكون طليعة القاطرة في غرس الثقافة الدهرية العلمانية (¬1). وكتبت مجلة شؤون دولية - وهي مجلة متخصصة أكاديمية وتصدر في لندن في ملف لها عن الإسلام والماركسية، والإسلام والمسيحية نشرته في يناير 1990: إن الغرب والفكر الشائع في الغرب - وليس مجرد دائرة من دوائر الغرب- يرى أن العدو الجديد هو الإسلام، لأن الإسلام أثبت أنه حالة استثنائية في مقاومة العلمنة، فرغم العلم الحديث والتصنيع، استعصى الإسلام على العلمنة، ولا يزال الإيمان الديني عند أهله قوي السيطرة، بل إنه اليوم أشد مما كان منذ (100 عام) ومن ثم فإن الثقافة الإسلامية هي التحدي الوحيد للحضارة الغربية التي تتصف بالشك والتحلل واللاأدرية (¬2). ولهذا فكما قال محمد عمارة: إن من حقنا أن نسعد بإسلامنا المستعصي على العلمنة، والمقاوم للاختراق العلماني، والذي ضمن بقاء العلمانيين في بلادنا -بعد قرنين من الدعم الاستعماري- شريحة معزولة تعاني من الرفض، بل والاحتقار (¬3). بل الأكثر من هذا - وخلافا للتجربة الغربية - كلما زادت جرعات العلمنة زاد التشبث بالدين أكثر. ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (126). (¬2) الجديد في المخطط الغربي اتجاه المسلمين (15) لعمارة، ونقل نحوه في الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (70) وفي الغرب والإسلام (13) بشكل جيد. (¬3) الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية (73).

ولم تؤد محاولات العلمنة في العالم الإسلامي «إلى تحلل المنظومة الرمزية الإسلامية أو تحولها إلى مجرد تعبير فولكلوري مثلما جرى للعديد من ثقافات أخرى كثيرة، اجتاحتها صدمة الحداثة الغربية، بل خلافا لذلك مثَّل التحدي الغربي عامل استفاقة للوعي الإسلامي وعنصر تجدد لأسس الهوية الثقافية والاجتماعية الداخلية فقد غدا الشعور بجسامة المخاطر الغربية نوعا من الوعي التاريخي بين النخبة الإصلاحية الإسلامية، وكان ذلك مصحوبا بتساؤلات مؤلمة وغير مسبوقة حول أسباب تراجع العمران الإسلامي أو التخلف الإسلامي، ثم حول شروط النهوض والتجديد (¬1). من هنا يمكن لنا أن نفهم سر التركيز الغربي على الأصولية الإسلامية. «فالحرب الغربية المعلنة على ما يسمونه بالأصولية الإسلامية هي في الجوهر والحقيقة معلنة على حقيقة الإسلام لا لشيء إلا لأنه المستعصي الأول -بل الوحيد- على العلمنة، أي على الذوبان في النموذج الحداثي الغربي، والرافض - من ثم- للوقوف ذليلا أمام هذا النموذج الغربي موقف التقليد والمحاكاة!. . وهو موقف إسلامي يجعل من التدين بالأصول الإسلامية طاقة إيمانية تفجر في المسلم طاقات العزة والسيادة والغَلَب، فلا يرضى بالتبعية السياسية والفكرية والاقتصادية والأمنية للمركزية الغربية والهيمنة الغربية. وهذا هو جوهر ما يخشاه الغرب ويحاربه الغربيون في الإسلام» (¬2). ومسألة تداخل الديني والسياسي في الإسلام برزت في أجلى صورها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (166). (¬2) الغرب والإسلام (16).

فكان - صلى الله عليه وسلم - يولي العمال والولاة جباة الزكاة والقضاة، وعين لهم مهامهم وبينها لهم وأوصاهم عند تعيينهم مجموعة من الوصايا، وبين فرائض الزكاة وقواعدها ومصارفها والعشور والخراج والجزية، كما هو مبسوط في كتب الفقه والأموال والخراج وغيرها. وجهز الجيوش وخطب فيهم وعين قادة الجيش من الخيالة والمشاة والرماة وغيرهم. وراسل ملوك زمانه مراسلات دبلوماسية عديدة، وعقد اتفاقيات ومعاهدات مع كثير من أهل زمانه، وأقام الحدود على الجناة، وأنشأ نظاما اجتماعيا متكاملا. وإلى جانب هذا كان واعظا وخطيبا وإمام الصلاة والحج ومعلم الدعوات والأذكار. فضلا عن قيامه بأعبائه المنزلية والإشراف على شؤونه الخاصة. أمام هذه الحقائق الباهرة لم يجد العلمانيون العرب من سبيل إلا اختراع شبهات واهية، بل مضحكة للقفز عليها وتجاوزها أو لنقل القيام بما سماه علي حرب تزييف الوعي. أولى تلك المحاولات اليائسة محاولة الشيخ علي عبد الرازق. فعندما أراد الشيخ إثبات أن الإسلام دين لا دولة، ابتدع الرأي الذي زعم فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقم دولة ولا ملكا ولا حكومة في المدينة بعد هجرته إليها. وهو رأي شذ فيه عن الكافة، ثم عاد فتبرأ منه، بل ونسبه إلى الشيطان، ورفض إعادة طبع كتابه (¬1). ولم تنفع علي عبد الرازق هذه المغالطة المفضوحة التي سخرت فيها منه الجماهير. ¬

_ (¬1) سقوط الغلو العلماني (169).

ويبدو أن المستشار العشماوي أراد أن يجرب بدعة أخرى - لم يسبق إليها- متوهما أنها ربما كانت أحسن حظا من بدعة صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم فسلم للقارئ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أقام بالمدينة حكومة وحكما، لكنه قال: إنها كانت حكومة الله، خاصة بالنبي، ومثلها في هذا الاختصاص كمثل النبوة والرسالة، تنتهي وتطوى صفحتها بوفاة الرسول، وكما أنه لا امتداد للنبوة والرسالة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكذلك حكومة الله لا امتداد لها بعد أن لحق بالرفيق الأعلى (¬1). ولنا عودة بتفصيل لهذه المسألة فيما بعد إن شاء الله. وتبدو هذه المحاولة أسخف من سابقتها بل هي أقرب إلى الجريمة الفكرية التي يمارسها الخطاب العلماني. ونظرا للممانعة القوية والشرسة للعلمنة من قبل الإسلام فقد توالت إخفاقات العلمانية وتتابعت هزائمها، واعترف معظم العلمانيين بفشلها. وحار العلمانيون في تبرير هذه الممانعة، فتارة ردوها لأسباب خارجية، وتارة لمقاومة الإسلاميين، وتارة لطبيعة الإسلام. فمن هؤلاء محمود إسماعيل، فقد اعترف بفشل العلمانية والعلمانيين في العالم العربي (¬2). وكذا فعل عبد المجيد الشرفي، واعتبر أن الإسلاميين أحد أسباب فشلها (¬3). ¬

_ (¬1) سقوط الغلو العلماني (169). (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (93). (¬3) نفس المرجع (130).

واعتبر صلاح عيسى أن علمانيتهم تعاني من أزمة حتى على مستوى الإفصاح عن نفسها. قال: بل الأكثر من ذلك فإن أي حزب سياسي عربي لا يستطيع اليوم القول إنه حزب علماني، كما أنه يتهرب من مناقشة الموضوع خوفا من أن يفقد أصوات المتدينين في الانتخابات (¬1). وقال: رغم أن الكثيرين لا يمتلكون الجرأة والاستعداد للدفاع عن فكرة العلمانية، إن تيار العلمانية تيار مكتوم وخائف (¬2). وستأتي معنا اعترافات أخرى تصب في نفس الاتجاه في آخر هذه الرسالة إن شاء الله. ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (210). (¬2) نفس المرجع (214) وقدر العلمانية في العالم العربي (29).

جرائم العلمانية

جرائم العلمانية سوقت العلمانية في العالم الإسلامي بمثابة المنقذ من الضلال، وجنة الفردوس الموعودة التي يعيش الإنسان في ظلها النعيم المقيم والرفاهية المطلقة. في كتابه القرآن من التفسير الموروث (85 - 86) تحدث أركون عن الإخفاقات الصارخة لعقل التنوير من القرن الثامن عشر وحتى اليوم، أي الهيمنة الاستعمارية، والاستبداد الشيوعي والنازية والليبرالية المتوحشة، وتشكيل العالم الثالث ثم التخلي عنه، وتدمير الوعي الأخلاقي، والمنشأ الهدام للمعنى. . إلى آخر كلامه. ولم تخف العلمانية منذ بدايتها مخالبها الفتاكة وشراستها وقسوتها، حيث ظهرت لنا بارزة في: - استعمار لئيم وعنصري وإبادي، أفرزته فلسفة الأنوار. - وفي التطهير العرقي الذي قادته الشيوعية والنازية والفاشية. - وفي علمانية فرنسا الداعمة للدكتاتوريات العربية والإفريقية. - وفي ديمقراطية بوش التي أبادت الملايين وما زالت. - وفي الدعم الغربي للصهيونية. هذه البنية الفاشية العنصرية للحداثة والعلمانية أضحت تزكم الأنوف. حتى اعترف عدد من العلمانيين بذلك، فهذا محمد عبد المطلب الهوني أقر بأن ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وجنوب إفريقيا العنصرية والاتحاد السوفياتي

الستاليني كانوا أنظمة علمانية قامت على العسف والطغيان وتسببت في محن وكوارث بشرية (¬1). وكذا ذكر محمد الشرفي بأن ستالين وهتلر وماو وغيرهم كانوا علمانيين (¬2). وكذا أكد سعيد لكحل أن الأنظمة الديكتاتورية كنظام فرانكو وهتلر وبينوشي وموبوتو أنظمة علمانية (¬3). وهتلر بقسوته ووحشيته وعنصريته، علماني لم يولد في أفغانستان أو باكستان، بل ولد في أكثر البلدان الأوروبية حضارة ورقيا كما قال أركون (¬4). فسل صحارى سيبيريا وآسيا الوسطى كم من الملايين هلكوا فيها، وانظر كم من الشعوب أذلت وسحقت سحقا (¬5). وكم هدم الشيوعيون من المساجد وحولوا بعضها إلى اصطبلات ومواخير، والمدارس الدينية إلى نوادي، وكم صودرت من المحاصيل الزراعية للمسلمين (¬6). ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (162). (¬2) نفس المرجع (361). (¬3) نفس المرجع (279). (¬4) قضايا في نقد العقل الديني (321). (¬5) المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان الوضعية (155) وتهافت العلمانية (128). (¬6) تهافت العلمانية (128).

وفي كمبوديا قتل عصابات الثوار الحمر الماويين الشيوعيين 3 ملايين من أصل 9 ملايين، وإلى يومنا هذا تعرض في متحف العاصمة جماجم كثير من الضحايا. وقد تم هدم مساجد المسلمين بها وأحرقت جميع المصاحف، وحوربت الأسرة كنظام إسلامي، وتم تلقين الشعب محبة الحزب الشيوعي. وقتل ماو أكثر من مليون إنسان خالفوا حزبه الشيوعي، وكانوا يمتحنون الناس في الموقف من ماو ومن الشيوعية، وكانوا يعتبرونه مخلص البشرية وأنه يتمتع بصفات فوق بشرية. وهذه الولايات المتحدة الأمريكية كم أخذت من عبيد إفريقيا وساقتهم ليعملوا عبيدا في مزارعها (¬1). وأبادت سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر، وألقت القنابل الذرية على هيروشيما ونكازاكي، ودعمت اليهود في اغتصاب فلسطين (¬2). وكم قتلت في العراق وأفغانستان. وانظر ماذا فعلت انجلترا بالهند وفلسطين وباقي مستعمراتها؟ وماذا فعلت فرنسا بالجزائر والمغرب وسوريا؟ وإيطاليا في ليبيا؟، والقائمة طويلة. وكلها أنظمة علمانية. ¬

_ (¬1) انظر «الجذور» لأليكس هلي الزنجي الأمريكي، شرح فيه قصة جلب العبيد من إفريقيا للعمل في مزارع السادة الأمريكان. (¬2) المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان الوضعية (155).

وفي القرن العشرين وحده عرف العالم أكثر من (132) حربا بين أنظمة علمانية أو تقف خلفها أنظمة علمانية عدد ضحاياها أكثر من (120) مليونا من القتلى، عدا المشوهين والمرضى والأيتام والثكالى (¬1). ألم تعاني البشرية الويلات على يد زعماء العلمانية في العالم؟ بدءا من نابليون بونابرت ومرورا بهتلر وموسوليني وستالين ووصولا إلى الجزار الأمريكي والتحالف الأوروبي والشيوعي في البوسنة والهرسك وألبانيا والشيشان والعراق وأفغانستان والفلبين (¬2). وإن تهجير وقتل وإبادة الشعوب في أمريكا الشمالية والجنوبية قاده زعماء علمانيون. ولن تجد ما يشبه الرعب والإرهاب الستاليني واقتلاع الملايين من البشر من جذورهم تحت مسمى الخطة الخمسية (¬3). أليست التفرقة والميز العنصري في جنوب إفريقيا من قبل العلمانيين الهولنديين؟. أليست العلمانية الأمريكية هي رائدة الإرهاب العالمي الحالي، والتي تقهر الشعوب الضعيفة وتهدد بالقوة وتلوح بالسلاح النووي؟ وتمنع بروز أي قوة منافسة لها في العالم؟. ¬

_ (¬1) نفس المرجع (166). (¬2) العلمانيون والقرآن الكريم (198). (¬3) نفس المرجع (198).

وجرائم العلمانية على البشرية كثيرة لا تعد ولا تحصى، وآثارها على المجتمعات أكبر. وهذه شهادات علمانيين ببعض آثارها السلبية على الأفراد والمجتمعات: منها قول أركون: لقد تحول العقل التنويري والإنساني الحر إلى عقل أدواتي، انتهازي، رأسمالي، بارد، إنه عقل يهدف إلى الربح والفائدة بأي شكل وبأقصى سرعة ممكنة، ويضرب عرض الحائط بصحة الناس أو بالمصلحة العامة، وهو العقل ذاته الذي أدى إلى تلوث البيئة والهواء والطبيعة (¬1). وتحدث عن الفراغ الروحي أو انعدام المعنى، بل انحصر المعنى كله في الاستهلاك، والمال سيد الجميع (¬2). وذكر محمد الشيخ في ما معنى أن يكون المرء حداثيا (123 - 126 - 129) ما سماه مناقضات الحداثة، منها: انتشار العدمية أي العقيدة القائلة بغياب القيم وغياب الغاية والبغية والمرمى، والريبة وفقدان المعنى وسيادة النزعات الذاتية، والعقلانية التجزيئية والحرية الفوضوية، والإحساس بالفراغ والضجر والاكتئاب وشيوع المخدرات والأمراض النفسية، وشيوع النفعية والأنانية والجشع وغيرها من الأمراض الاجتماعية. وتحدث خليل عبد الكريم في أعماله الكاملة (249) عن تفشي البطالة في المجتمع الأمريكي، والدعارة والمخدرات وجرائم السرقة والاغتصاب ¬

_ (¬1) قضايا في نقد العقل الديني (321). (¬2) نفس المرجع (257).

والقتل وكافة أنواع الجرائم وتدهور التعليم بصورة أقلقت المسؤولين والمثقفين والمفكرين. وعدد قسطنطين زريق سلبيات الحداثة، فذكر الحروب والأسلحة المحرمة والمدمرة، واتساع الفوارق بين الشعوب واختلال النظام الاقتصادي العالمي والتكاثر السكاني المقلق وتناقص الموارد الطبيعية وتلوث البيئة والشره الاستهلاكي وتزايد الانحراف والعنف والإجرام وغير ذلك (¬1). كما تحدث هاشم صالح بوق أركون بأسى بالغ عن علمانيته التي قادت إلى استعمار وقمع شعوب أخرى، وأدت إلى حروب عالمية، وعولمة رأسمالية ظالمة ولا إنسانية، وتمركز عرقي أوروبي، وانحراف غربي مهيمن ومتغطرس ضد شعوب أخرى (¬2). ولقد فاجأت هذه الحقائق هاشم صالح وأرعبته، وخصوصا وأنه قد حدثنا قبل أنه يعيش رعبا طول حياته من التدين ومفاهيمه قال: وأعترف شخصيا أنه من أكبر خيبات حياتي أني اكتشفت مؤخرا حجم الخيانة التي ارتكبها الغرب في حق المشروع الحضاري لعصر النهضة وعصر التنوير في آن معا. لقد هالني اكتشاف حجم المرض الذي ينخر في أحشاء الحضارة الغربية، وهو مرض أخلاقي بالدرجة الأولى، إنه ناتج عن الجشع والأنانية واعتبار الاستملاك المادي والمصرفي الأفق الذي لا أفق بعده. كنت أتمنى لو أني لم أكتشفه ¬

_ (¬1) الحداثة وانتقاداتها (44 - فما بعد) نقلا عن مجلة المستقبل العربي بيروت 113 - 116. (¬2) الإسلام والانغلاق اللاهوتي (49).

لأنه راعني وآلمني وثبط عزيمتي إلى حد كبير (¬1). هكذا يعترف هاشم صالح، ولعلي في غنى عن التعليق. في ندوة لندن 1994 الآنفة الذكر أكد المشاركون الغربيون في الندوة أن العلمانية لم تستجب لمتطلبات المجتمعات الغربية، ولا هي أشبعت أشواق ناسها، فعادوا يحتمون بالدين مرة أخرى. بعد أن جرفتهم العلمانية بعيدا عنه، آية ذلك أن الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية تحقق تناميا مستمرا، والخطاب السياسي الأمريكي اتسم بمسحة دينية في السنوات الأخيرة، وأن ثمة مطالبات متعددة بتعليم الدين في المدارس الحكومية. وثانيا: فإن إفرازات علمنة المجتمع أصبحت تؤرق الضمير الغربي: كالتشرد والإيدز وإدمان المخدرات واللقطاء والتحلل الأخلاقي ... وثالثا: التطورات السياسية في أوروبا من ظهور مؤشرات النازية والفاشية إلى عمليات الإبادة في البوسنة التي باركها الساسة الأوروبيون، مرورا بالموقف غير الإنساني للحكومات الغربية من قضية المهجرين أو الوافدين الأجانب وانتهاء بمسلك الحكومة الفرنسية والبلجيكية المستغرب من الحجاب والنقاب. ورابعا: التجربة العلمانية في عدد من دول العالم الثالث المخيبة للآمال، مما يظهر بجلاء عدم التلازم بين العلمانية والديمقراطية، وعلى حد تعبير أحد الأساتذة الأمريكيين. فإن الخوف المفترض من المرجعية الدينية أتى ببديل لا ¬

_ (¬1) الإسلام والانغلاق اللاهوتي (49).

يقل سوءا، تمثل في مرجعية الأنظمة المطلقة وهي ظاهرة فشلت العلمانية في علاجها (¬1). وأزيد كذلك التأييد اللامحدود للصهيونية العنصرية الإسرائيلية والدفاع عنها في المحافل الدولية، وإبادة مئات الآلاف من العراقيين والأفغان من قبل أمريكا والغرب، ودعم الديكتاتوريات في العالم وخاصة في إفريقيا، آخرهم ابن علي الذي أطيح به يوم 14/ 01/2011، ومبارك الذي أسقطه الشعب يوم 11/ 02/2011. ¬

_ (¬1) المفترون (243 - 244).

العلمانيون العرب والغرب الغزل المتبادل

العلمانيون العرب والغرب الغزل المتبادل لما كانت العلمانية نبتا ونتاجا غربيا فقد حرص الغرب على الدفع بمشروعه نحو المنطقة الإسلامية بغية مزيد من السيطرة والتحكم فيها. ومع خروج جيوشه الاستعمارية عنها أبقى نخبا مغربة يرعاها برعايته ويكفلها بدعمه ويشملها بعطائه (¬1). وفي المقابل تسابقت النخب في إظهار أصناف الطاعة والولاء للمشروع الغربي، تارة بالإشادة بالمشروع العلماني، وتارة بتوجيه ضربات موجعة للمشروع الإسلامي، استكمالا لما بدأه السادة، وتنفيذا للمخططات الغربية. وتنافس العلمانيون في هذا تنافسا محتدما محموما. فهذا سلامة موسى مثلا وهو من أنصع النماذج العلمانية العربية للعمالة التامة للغرب ولمشروعه. «فالرجل كان باحثا ليس بالباطل فقط، ولكن بكل أنواع الباطل عن مبررات التفرنج والإلحاق بثقافة الغرب وحضارته» (¬2). ¬

_ (¬1) ولا يخرج بعضها من العمالة والتبعية كونها قاومت الاستعمار أو نقدت بعض أطروحاته، لكن المراد التبعية للمشروع الغربي بغض النظر عن نقد بعضه أو معارضة وجود الغرب الفعلي والمباشر، وإلا فما الفرق بين الاستعمار المباشر، والاستعمار الثقافي والفكري والاقتصادي؟. أو لنقل بعبارة شاملة الاستعمار الحضاري. ولابد من الاستقلال الحضاري الشامل بدل الاستقلال السياسي والتبعية الفكرية والاقتصادية. (¬2) الإسلام بين التنوير والتزوير.

وهو يمثل نموذجا للعلمانية المتطرفة بل الملحدة، التي لا تؤمن بأي دين وأي حضارة إسلامية، وتلعن كل ما يمت إلى الإسلام والشرق بكافة اللغات. قال سلامة موسى في كتابه اليوم والغد (ص 5 - 7): ولست أجهل أن آسيا (¬1) قد حكمت مصر نحو ألف عام، وبسطت عليها حضارتها وثقافتها، بل ودست دمها في دماء أبنائها، ولكننا نحمد الأقدار [!!] أننا ما زلنا في السِّحنة والنزعة أوربيين، إذ نحن أقرب في هيئة الوجه ونزعة الفكر إلى الإنجليزي أو الإيطالي، وكذلك الحال في سوريا وشمال إفريقيا العربي، فإن سكان هذه الأقطار أوربيون سحنة ونزعة، فلماذا إذن لا نصطنع جميعا الثقافة والحضارة الأوروبيتين، ونخلع عنا ما تقمصناه من ثياب آسيا؟!. هذا هو مذهبي الذي أعمل له طول حياتي، سرا وجهرة، فأنا كافر بالشرق مؤمن بالغرب، وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التي اتسمت بها أوروبا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق (¬2) ... وأشاد بالإنجليز المستعمرين لمصر «كأرقى أمة في العالم .. جسما .. وعقلا .. وخلقا .. ». وقال: ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية (¬3). ¬

_ (¬1) يقصد الخلافة الإسلامية التي جاءت من الحجاز. (¬2) الإسلام بين التنوير والتزوير (116 - 117). (¬3) سلامة موسى والمدنية الأوربية. الوحدة بيروت السنة 1، العدد 5 أيلول 1980. نقلا عن الخطاب العربي المعاصر لفادي إسماعيل (65).

ذلك هو مذهب سلامة موسى، كما أكد عمارة: «مواجهة الإسلام وحضارته .. واحتقار كل ماله صلة بالعروبة والإسلام .. ودعوة لطي صفحة تاريخنا الحضاري العربي الإسلامي والتنصل من كل آثارها .. والاندماج في الحضارة الغربية وثقافتها باعتبارنا أوروبيين سحنة ونزعة، أي: في الخَلْق والخُلُق والفكر والثقافة جميعا» (¬1). والعجيب أن سلامة موسى يكتب هذا وبلاده مصر تحت الاحتلال الإنجليزي.!! «ولذلك كانت دعوة سلامة موسى إلى دمج الأجانب في المصريين. . وليس إلى تحرير مصر منهم. وإلى إزالة مخاوفهم بفصل الدين عن الدولة، وإلغاء التعليم الديني من المدارس. . والدين هنا هو الإسلام وحده، وإلا فالمدارس الأجنبية كلها مدارس إرساليات تبشيرية» (¬2). وهذا طه حسين نموذج من نماذج الولاء للمركزية الغربية العنصرية، بل وإعلان التسليم والاستسلام لإدارة الغرب والإلحاق الحضاري بالنموذج الغربي في الإدارة والحكم والتشريع. لنقرأ ما قاله عميد الأدب العربي زورا في مستقبل الثقافة في مصر (1/ 36 - 37): التزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كله أمام أوروبا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال [عام 1936] ومعاهدة إلغاء الامتيازات [عام ¬

_ (¬1) الإسلام بين التنوير والتزوير (117). (¬2) نفس المرجع (122).

1938] إلا التزاما صريحا قاطعا أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوربيين في الحكم والإدارة والتشريع (¬1). وهذا سيد القمني، يبدي عبودية مطلقة خانعة ساكنة للغرب وقيمه، ويسب المسلمين وتاريخهم وعلماءهم وفقههم، وأنهم لم يورثوا إلا السبي والإماء والنهب والسلب، وكل كتبه بعد محاكمته طافحة بهذا كـ «أهل الدين والديمقراطية» و «شكرا ابن لادن» و «انتكاسة المسلمين إلى الوثنية». فالقيم عنده هي قيم الغرب والحقوق هي التي جاء بها الغرب، وأما تاريخنا فأسود قاتم يزكم الأنوف، لا نقطة بيضاء فيه واحدة، وأنا أتحدى من يطلعنا على صفحة واحدة أثنى فيها القمني على خلق إسلامي واحد. فالرجل مريض بعقدة الغرب إلى حد لم أر له مثيلا في الهوس بالغرب والتحقير للمسلمين وتاريخهم. وكتابه انتكاسة المسلمين مليء جدا جدا بسب المسلمين والتنقيص منهم لحديثهم عن السبي والإماء والعبيد، وأنه لا توجد في الإسلام قيم ولا أخلاق، وإنما هي أخلاق بدائية صحراوية، أما الغرب فجاءنا بحقوق الإنسان والمساواة والعدل. ولم يحدثنا القمني عن حقوق المثليين (اللوطيين) الذي كَفَلَه غَرْبُه وعلمانيته وحقوق إنسانه، هل يوافق القمني أن يكون أحد المثليين؟، ما دامت قيم غربه صنما معبودا من دون الله. ومادام يزهو بعلمانيته ويترفع كما عبر في ¬

_ (¬1) انظر الشريعة الإسلامية (44) والإسلام بين التنوير والتزوير (239).

بعض كتبه. وقال في شكرا ابن لادن (148) عن نفسه: يعلن بالفم المليان وكله شرف أنه علماني حتى النخاع. وما رأي القمني إذا تحولت أحد بناته لعاهرة، فعلمانية غربه وحقوق إنسانه تكفل لها حقوقها الكاملة، ولها أن تصطحب عشيقها إلى الغرفة التي هيأها لها القمني. بل ولها أن تُعِين القمني مِنْ دَخْلِها الميمون في طبع كتبه لإشاعة هذه الثقافة. فهو حسب تعبيره علماني حتى النخاع!!! وساند الاستعمار مفكرون غربيون كثيرون (¬1). وقال القمني: وإن الاستعمار عندما جاء إلينا كان نعمة فتحت عيوننا على فارق تخلفنا المزري من تقدمه الهائل (¬2). فالاستعمار نعمة عند القمني!!؟؟. ولهذا حظي العلمانيون بتقدير بالغ من قبل أعداء الأمة في الشرق والغرب، واعتبروا ما قدموه من أفكار وأطروحات تمثل مدا تنويريا مناهضا للإسلام التقليدي. ولنكتف هنا بعلماني كرس حياته لمحاربة المد الإسلامي، ألا وهو المستشار العشماوي حيث قال عنه السفير الصهيوني بالقاهرة بين عامي 1981 - 1988موشيه ساسون لأحد شباب الصحوة الإسلامية: وجدت نفسي أوصيه بقراءة الكثير مما تم نشره مثل مقال القاضي عشماوي رئيس محكمة أمن الدولة المصرية، وهو رجل ضليع في شؤون الإسلام، حيث تساعد القراءة على إيضاح ¬

_ (¬1) الغزو الفكري وهم أم حقيقة (114). (¬2) شكرا ابن لادن (131).

مفاهيم معينة في الإسلام، من روح الاعتدال والتسامح والسلام والجيرة الطيبة -[مع إسرائيل]- ونبذ الإرهاب والدمار والحرب (¬1). لقد رأى الغرب في التيار العلماني خطه الهجومي الأول وطلائع غزوه ومعاول هدمه من داخل الجسم الإسلامي للإجهاز على ما تبقى من الحضارة الإسلامية. وكل جهود العلمانيين رغم تلفيفها بحرير ناعم من العقلانية والديمقراطية والتنوير، فهي مبطنة بعمالة حضارية وانبطاح تام للفكر الغربي. ويحاول أغلب العلمانيين التستر على عمالتهم وتغربهم تارة بالادعاء أن مفاهيم العلمانية مفاهيم إنسانية، أو أنها تراث عالمي، أو أنها نتيجة تطور طبيعي حتمي، أو أنهم امتداد لنزعات عقلانية قديمة كالمعتزلة والفلسفة. وأطروحات العلمانيين لا تعدو أن تكون نسخا كربونية لأبحاث المستشرقين والفلاسفة الغربيين. وليست اجتهادا مبتكرا، «إذ الاجتهاد فيما نعلم هو استنباط حكم أو رأي جديد، أما ترديد آراء السابقين أو شرحها وتفسيرها، فهو من قبيل الانتحال أو التقليد على أحسن الظروف، والاجتهاد من علامات الصحة ومن إفرازات الازدهار العقلي. أما التقليد فهو عند أهل العلم والنظر من علامات المرض ومن مؤشرات عصور التدهور والانحطاط» (¬2). ¬

_ (¬1) سبع سنوات في بلاد المصريين (ص 85) نقلا عن سقوط الغلو العلماني (10). (¬2) المفترون (170 - 171).

وأدنى تأمل في أي بحث لعلماني عربي يظهر أنه لا يعدو أن يكون نسخا لبحوث إخوانهم الغربيين، وخاصة البحوث المتعلقة بالقرآن والسنة وعلوم الشريعة والتاريخ الإسلامي. ولما كان التيار الإسلامي يمثل صف ممانعة ضد الغزو الغربي وتجسدت فيه المقاومة الإسلامية للتيار المادي الجارف، أخذت الميلشيات العلمانية على عاتقها التصدي لهذا التيار، بل تخصص بعضهم في هذا كالمستشار العشماوي الذي نال إعجاب السفير الصهيوني كما تقدم. وكل العلمانيين مع العشماوي في نفس الطرح، ولا ريب أن الصهاينة جميعا راضون عن الأداء العلماني عموما، لأنه لا يوجد شيء يقلق راحتهم مثل التيار الإسلامي باعترافهم وباعتراف الغرب كله. ولأن المشروع العلماني خادم للصهيونية في الوطن العربي، وأقصى ما يتمناه الصهاينة هو الطعن في الإسلام وأحكامه وأصوله وشرائعه ورموزه وأعلامه. وهذا ما قام به التيار العلماني العربي بامتياز، كما سنكشف أدلته القاطعة وبراهينه الساطعة التي لا تدع مجالا للشك أو الريبة في كتابي الثاني: «الإسلام في نظر العلمانيين». بل تتجلى المغازلة بين التيار العلماني والصهيونية بوضوح تام في عدة مؤشرات منها: اعتراف كثير من العلمانيين الماركسيين العرب بإسرائيل (¬1). وصرح العلماني اللبناني علي حرب في نقد النص (284) أنه لا يرى مانعا من التواصل مع الصهاينة وقبول جوائزهم. ¬

_ (¬1) تهافت العلمانية (139).

هكذا يقول صاحب مشروع النقد ونقد النقد والقراءة التفكيكية. مع أنه في حاجة إلى من ينقذه من هذا النقد. وهذا دكتور الأساطير سيد القمني يقول في انتكاسة المسلمين إلى الوثنية (338): إني لا أجد أي مانع في التعامل مع المثقفين الإسرائيليين أو حتى رسميين إسرائيليين. وصب جام غضبه على مقاومة حماس للصهاينة فقال - فض فوه-: ولذلك تفتعل حماس كل هذه الحرائق (¬1) وتضحي بأبناء غزة في حروب بلا معنى ولا هدف سوى إجبار العالم على الاعتراف بسيادتها على الدولة .... إلخ كلامه (¬2). وكان أركون يحضر مؤتمرات الصهيونية كما ذكر في كتابه نحو نقد العقل الإسلامي (297 - 298) أنه حضر لمؤتمرين للفرع الفرنسي للمؤتمر اليهودي العالمي عامي (1977 - 1978) وذكر أنه تكلم فيها عن اليهود بطريقة إيجابية جدا. كذا قال: ولا ندري ماذا قال لهم؟. ومحمد سعيد العشماوي الذي أثنى على كتبه السفير الصهيوني كما تقدم، نشرت له مجلة شؤون الشرق الأوسط، وهي مجلة يهودية أمريكية معروفة بانحيازها لإسرائيل، نشرت له كتاب الإسلام السياسي في صيغته الإنجليزية (¬3). ¬

_ (¬1) أصبحت مقاومة المحتل افتعال حرائق!! (¬2) انتكاسة المسلمين (285). (¬3) المفترون (143). وانظر دور اليهود في تغذية العلمانية: المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان الوضعية (38).

إن ضرب التيار الإسلامي أعظم خدمة يقدمها العلمانيون للصهيونية خصوصا وللمشروع الغربي عموما. وخصوصا بعد سقوط الشيوعية حيث أصبح الغرب يرى المواجهة القادمة والخطر الداهم هو الإسلام (¬1). وهذا الرئيس الأمريكي السابق نيكسون يصرح في كتابه الفرصة السانحة بوجوب دعم التيار العلماني ضد الأصولية الإسلامية (¬2). وهذا محمد أركون نفسه يصرح بما يلي: ومن جهة أخرى نلاحظ أنه بعد أن ركز جهوده على النضال ضد المعسكر الشيوعي ودحره، فإن الغرب جعل من استئصال الإرهاب الأصولي الإسلاموي (¬3) أولويته الأولى الجديدة (¬4). وكتبت ما رجريت تاتشر رئيسة وزراء انجلترا السابقة عن تحدي الإرهاب الإسلامي الفريد الذي لا يقف عند أسامة بن لادن، بل يشمل حتى ¬

_ (¬1) انظر الإسلام بين التنوير والتزوير (175 - 176). (¬2) الإسلام بين التنوير والتزوير (177). وانظر نفس المصدر (174 فما بعد) في الدعم الغربي للعلمانية في العالم الإسلامي. (¬3) ممن يكثر من هذا المصطلح جهول اسمه محمد بوبكري، يقول: الجهاد الإسلاموي والعنف الإسلاموي. ولفرط جهله وترديده لما قاله غيره يظن أن زيادة الواو هنا ذات فائدة قدحية ما، هذا بغض النظر عن مناقضتها لأصول العربية. نعم للواو فائدة في وصفنا له بالجهول، فهي تفيد أنه كثير الجهل، فهو أكثر من جاهل. فهنا للواو فائدة. ممن له ولع شديد بهذه الواو: طيب تيزيني فعوض السلفية: السلفوية، والسلفي: السلفوي، والأصولية: الأصولوية. انظر مثلا مقدمات أولية (34). (¬4) نحو نقد العقل الإسلامي (55).

الذين أدانوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر. . على أمريكا، والذين انتقدوا بشدة أسامة بن لادن وطالبان، لكنهم يرفضون القيم الغربية وتتعارض مصالحهم مع مصالح الغرب، وتصفهم بأنهم أعداء أمريكا وأعداؤها وتشبههم بالشيوعية، وتدعو الغرب إلى معاملتهم كما عامل الشيوعية (¬1). وكثيرا ما تتستر العلمانية الغربية في صورة دعم البحث العلمي لتحريك عملائها في داخل المنطقة لإنجاز بحوث تحت الطلب. ولا بأس أن أشير هنا إلى علماني سوداني اسمه عبد الله أحمد النعيم الذي أصدر مؤخرا كتابا ضخما حول العلمانية، سماه: الإسلام وعلمانية الدولة، أعانه فيه فريق من 23 فردا من دول العالم المختلفة، وتبنته مؤسسة فورد الأمريكية، ودعمه مركز دراسة القانون والدين بكلية القانون بجامعة إموري الأمريكية. ومع هذا فكتابه مليء بالأخطاء العلمية، طافح بالمغالطات الفجة، فتأمل مثلا قوله: والحقيقة هي أن مسألة الدولة الإسلامية ما هي إلا خطاب مستحدث مع الحكم الاستعماري الأوروبي للبلاد الإسلامية، لأنها قائمة على نموذج أوروبي للدولة (34). مع أن هذه هي صفة العلمانية، بدلالة حجج التاريخ الدامغة وبإقرار عدد من إخوانه العلمانيين الغربيين والعرب، ولما جاء الاستعمار ألغى حكم الشريعة التي كانت تحكم بها الدول الإسلامية وفرض العلمانية. هذا منطق التاريخ. ولكن هكذا أرادت مؤسسة فورد. ثم اقرأ معي هذه المغالطة المكشوفة الأخرى وفي نفس الصفحة (34): فإن السبب الآخر للحرص على حياد الدولة تجاه الدين هو أن ذلك شرط ضروري لإذعان المسلمين لأحكام الشريعة الإسلامية، وتطبيقها كالتزام ديني، ¬

_ (¬1) الغرب والإسلام (85) نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط في 26/ 4/ 2002.

وليس خضوعا لإرادة الدولة، فالتزام أحكام الشريعة يجب أن يقوم على النية الخالصة، وهذا لا يستقيم مع الإرغام الجبري للأفراد من جانب الدولة ... بهذه السذاجة في التفكير والضحالة في التنظير يكتب، ولا أظنني بحاجة إلى التعليق على هذا الهراء الفارغ الذي مولته مؤسسة فورد، ودعمه مركز عمل فيه 23 فردا فيهم مجموعة من المراجعين. إن التخبط الذي يعيشه التيار العلماني يجعله يبحث عن أي شيء ولو كان تافها جدا، المهم لا للإسلام. والكتاب كله مليء بالمغالطات والمهاترات بل هو نسخة كربونية لآراء المستشرقين مع تعديلات إسلامية إن صح التعبير، وهوامش الكتاب خير دليل على ذلك. فكل مراجعه أجنبية أو على أقل تقدير 99% منها أجنبية، إلا الفصل السابع، والسبب فيه أنه حرره له مجموعة من السودانيين، فالرجل محرَّك لا مبدع، ومسيَّر لا ناقد، والسلام. ولهذا فيستحيل أن يقال إن البحث العلمي بمنأى عن التوجيه والتأثير، بل حتى في الغرب لا يتمتع البحث العلمي باستقلالية كافية عن السلطات السياسية، كما يقول محمد أركون نفسه (¬1). وكان البحث العلمي للمستشرقين في الفترة ما قبل الاستعمار وبعده بقليل منصب على فهم الأوضاع والعقليات السائدة والذهنيات المسيطرة لتسهل السيطرة عليها. ¬

_ (¬1) تاريخية الفكر العربي والإسلامي (204).

وكان القرن التاسع عشر قد امتلأ بالإداريين والعسكريين والباحثين المحكومين بالرؤيا الاستعمارية كما يؤكد أركون دائما (¬1). ولهذا فغالب رواد العلمانيين مدينون للغرب بالتكوين والتوجيه، بدءا برفاعة الطهطاوي ومرورا بطه حسين خريج الأزهر ثم السربون، وعلي عبد الرازق الذي تابع تحصيله في أوكسفورد، وحسن حنفي ابن السربون (¬2). وكذا أركون الذي قال عن نفسه وعن محمد الطالبي وهشام جعيط والجابري ومحمد قبلي وعبد الله العروي: إننا جميعا مدينون للجامعة الفرنسية بتكويننا العلمي (¬3). وبيَّن تلميذ أركون ومترجمه هاشم صالح أنهم درسوا في الجامعات الفرنسية وتشكلوا علميا أو إبستمولوجيا من خلال الحداثة المنهجية الفرنسية. هكذا قال (¬4). وقضى زكي نجيب محمود 4 سنوات في انجلترا للدراسة (¬5). وأقر حسن حنفي في التراث والتجديد (30) أن أكثر العلمانيين تربطهم بأوروبا أوشاج ثقافية أو دينية، وأنهم تربوا في مدارس غربية خاصة. وكذا فعل محمد الشيخ في «ما معنى أن يكون المرء حداثيا»، فيه (126) إحالة إلى مصادره، 99% منها أجنبية. ¬

_ (¬1) نفس المرجع. (¬2) تاريخية الفكر العربي (184). (¬3) قضايا في نقد العقل الديني (56). (¬4) نفس المرجع. (¬5) النص والسلطة (40).

العلمانيون العرب والانبهار بالمستشرقين

وعلى امتداد صفحات كتب أركون لا تراه يحيل إلا على المصادر الأجنبية، حتى لبيان أبحاث في مسائل من صلب تاريخنا وفقهنا الإسلامي. ولهذا تعجب أنه لما سرد مراجعه في آخر كتابه الأنسنة والإسلام لم يذكر إلا الكتب الغربية فهي عنده مصدر العلم والبحث والنقد. وأما كتب أهل الإسلام فهي مجال للدراسة لا مرجعا للبحث. ويتعلق هاشم صالح وإخوانه بفلاسفة الغرب تعلقا مُريديَّا كتعلق مريدي الطرق الصوفية بشيوخهم. قال هاشم صالح: من هنا تركيزي على مفكري عصر النهضة والتنوير الأوروبي الذين أتعلق بهم وبأفكارهم وطروحاتهم كخشبة خلاص تنقذني من الظلام اللاهوتي المرعب الذي يلف طفولتي ويلف العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه أيضا في هذه اللحظة. فعند هؤلاء المفكرين النهضويين أو التنويريين أجد ضالتي، أجد نفسي، بهجتي، أفقي المنفتح، بهم أستعين لكي أزيح الكابوس الأخطبوطي المرعب عن حياتي ووجودي (¬1). فالرجل كان يعاني من أزمة نفسية حادة، ظهرت آثارها في كتاباته، أكثر مما هو يمارس التفكير والبحث العلمي. أو لنقل إنه يمارس التلوين الإيديولوجي النفعي. العلمانيون العرب والانبهار بالمستشرقين. تقدم معنا أن كتابات العلمانيين العرب لا تعدو أن تكون صدى شاحبا وباهتا للغاية للفكر الغربي والفلسفة الغربية وكتابات المستشرقين بالذات. أو ¬

_ (¬1) الإسلام والانغلاق اللاهوتي (21 - 22).

على حد تعبير العلماني اللبناني علي حرب: الخطاب العربي الحديث الذي هو صدى خافت أو صورة مشوهة عن الخطاب الغربي (¬1). ولهذا حظي عندهم المستشرقون بالتقدير والتبجيل، وقد أخذ علينا أركون نحن المسلمين بأننا ننظر إلى ديننا وتاريخنا نظرة احتفالية تبجيلية، وفاته أن كتابات إخوانه المستشرقين تتميز بنظرة انتهازية احتقارية. يبدي أركون إعجابا كبيرا بالمستشرقين وأبحاثهم ويتحسر على المسلمين كيف رفضوا تلك الأبحاث ووقفوا منها موقفا عدائيا، ووصف كتب المستشرقين التي مُلِئت حقدا وطعنا في الإسلام بالأبحاث الاستشراقية القيمة (¬2). وقال عن العلماء المسلمين: يرفضون هذه الأبحاث العلمية والتاريخية للأساتذة المستشرقين الأكاديميين المتبحرين في العلم (¬3). واعتبر أن الغربيين هم الذين يقدمون البحوث التاريخية الرصينة عن التراث الإسلامي وليس المسلمين (¬4). ¬

_ (¬1) الممنوع والممتنع (222). (¬2) نحو نقد العقل الإسلامي (191). وانظر قضايا في نقد العقل الديني (47 - 54 - 59 - 64 - 65 - 66 - 67 - فما بعدها- 304 - 305 - 306 - 307) ونحو نقد العقل الإسلامي (243 - 271). (¬3) نحو نقد العقل الإسلامي (191). (¬4) نفس المرجع (284).

وتأسف مرارا لعدم ترجمة كتبهم عن الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم - وعن القرآن (¬1). بل اعتبر مرة من العار ألا يترجم كتاب اللاهوت والمجتمع في العصور الأولى للإسلام لمستشرق ألماني (¬2). وحاول أن يضفي الشرعية على الاستشراق، فحور اسمه إلى الإسلامياتي. تاريخية الفكر العربي (203). فربطه بالإسلام ليكتسب شرعية ما، وبين مترجمه بإشرافه هاشم صالح (203) ذلك قائلا: يستخدم أركون عادة كلمة إسلامياتي Islamologie عوضا عن كلمة مستشرق المشحونة بالقيم السلبية والجدالية في الوعي العربي والإسلامي. ومما يثير الدهشة والاستغراب أن أركون تأسف مرارا في كتبه على مستشرقين لا ينقدون نقدا جذريا، بل كتبوا مقالات تبجيلية باردة تدافع عن الإسلام، وجعل هذا مؤسفا ومخيبا للآمال. الفكر الإسلامي (184). فلا يرضى أركون إلا على الحاقدين منهم، الذين همهم كما هو همه أيضا الإجهاز على الإسلام والقضاء على التدين عموما وإحلال العلمانية الغربية محله تحت ستار النقد التاريخي والدراسة الانتروبولوجية والسيميائية والدلالية للنص الديني. وانظر مثلا ما قاله عن برنارد لويس في تاريخية الفكر العربي (256). ¬

_ (¬1) القرآن من التفسير الموروث له (8) والفكر الإسلامي (281). (¬2) قضايا في نقد العقل الديني (306).

وكذا فعل تلميذه، بل بوقه هاشم صالح العلماني السوري ذو الأصول الشيعية، فقد أظهر في كتابه الإسلام والانغلاق اللاهوتي (21 - 22 - 28) إعجابا منقطع القرين بالمستشرقين، وأن من أراد أن يقرأ الدين الإسلامي وتاريخه فعليه بكتبهم وإلا فلن يفهم تراثه على حقيقته (¬1). وهكذا فعل خليل عبد الكريم في الأعمال الكاملة (201) فقد تهجم بعنف على كتاب غربيين دافعوا عن الإسلام بطريقة أو بأخرى كموريس بوكاي في كتابه: الثورة والقرآن والعلم، وروجيه جارودي في: وعود الإسلام، والفريد هوفمان في الإسلام هو البديل. ¬

_ (¬1) وانظر تعليقه على قضايا في نقد العقل الديني (59) في دفاعه عن الاستشراق صراحة فيما يتعلق بنقد القرآن.

مغالطات علمانية

مغالطات علمانية ادعت العلمانية أنها سيرورة تاريخية لا مفر منها، وأنها أرقى ما وصل إليه العقل البشري. وبالتالي فهي حقيقة مطلقة، تنبني على أصول فلسفية وعقلية واحدة، وتقوم على أرض ديمقراطية صلبة. وذلك ما نحاول مناقشته باختصار في هذه الفقرات: 1 - العلمانية وامتلاك الحقيقة المطلقة. طالما رمت العلمانية الأديان بادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، في حين أكدت هي على نسبيتها، لكنها تحولت هي الأخرى إلى حقيقة مطلقة جديدة، وادعت لنفسها أنها أرفع ما وصله العقل البشري من الفلسفات والأفكار، وأنه إما هي أو الطوفان. إن الاتجاه العلماني يعتبر نفسه ماسكا للحقيقة وصانعا لها، ويعامل الآخر على أنه مناف لها (¬1). ويتعامل بعض هواة الحداثة مع الحداثة «كما لو أنها ديانة حديثة يدينون بها، بدليل أنهم يقفون منها موقف التبجيل والتعظيم والتقديس، وهذا التعبد أعني التعلق الوهمي يقلص القدرة على الخلق والابتكار، إنه يسلب الإرادة ويخنق الإمكانية». كذا قال العلماني اللبناني علي حرب في الممنوع والممتنع (247). ¬

_ (¬1) الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (66).

والحق ما شهدت به الأعداء. واستمر علي حرب مؤكدا (263) أن المثقف العلماني يصدر في تعامله مع ذاته ومع غيره عن إحساس بمركزيته ونرجسيته بنخبويته وتفوقه، ولهذا فهو يمارس الاستبداد والهيمنة. وزاد أن المشاريع العلمانية وخاصة الثورية منها آلت إلى نقيض شعاراتها وأعطت مردودا عكسيا وقادت إلى أسوأ النتائج (263). وأن العلمانية تقوم على منظومة مغلقة أرثذوكسية وتقوم على وحدانية الحقيقة وتوراث الحق واحتكار المشروعية وديكتاتورية السلطة وامبريالية الشعارات المقدسة: العقل والحداثة والتقدم (266). وذكر أن العلمانية لا تكف عن إنتاج أشكالها القدسية وأبعادها اللاهوتية، وقال: ولا تخلو المجتمعات الغربية الحديثة من الممارسات التقديسية بالرغم من أنها تمارس حياتها باسم العقلانية والعلمانية والديمقراطية. ولهذا فقد يمارس المرء علمانيته بطريقة لاهوتية أصولية، وذلك بقدر ما يتعامل مع الحقيقة بصورة دغمائية أحادية، وبقدر ما يتعامل مع المشروعية بطريقة قدسية لاهوتية، وبقدر ما يتعامل مع السلطة بطريقة فاشية. (267). وقال: هذا هو شأن المثقف الحديث العلماني على ما يمارس علمانيته عندنا، إنه إذ يتحدث أو يدافع عن الحرية أو الديمقراطية أو العروبة، إنما يتماهى مع هذه الشعارات ويتصرف كأنه المعيار الذي تقاس به الحرية والديمقراطية والعروبة (268).

وتحدث علي حرب عن تحول المشاريع الإيديولوجية العلمانية إلى نمط لاهوتي له مقدساته وله مبادؤه المتعالية التي قهر البشر تحت راياتها باسم الأمة أو الزعيم أو البروليتاريا أو المجتمع الاشتراكي (¬1). وهكذا المثقف العلماني مارس دوره كما يقول علي حرب بطريقة نبوية رسولية إنه ألَّه أفكاره ومبادئه ونزَّه ممارساته أعني تجاربه وأخطاءه، وعصم زعماءه وقادته، إذن مارس استبداده باسم المبادئ السامية والقضايا المقدسة (¬2). والعلمانية في نظر بعض العلمانيين حسب كمال عبد اللطيف بديل للعقائد والحقائق المطلقة السائدة. التفكير في العلمانية (17). وعند آخر وهو الدكتور جوتفرايد كونزلن أن العلمانية بمثابة دين حل محل الدين المسيحي (¬3). وكذا ذكر أركون أن الإيديولوجيات الحالية كالماركسية والليبرالية تحولت إلى أديان دنيوية (¬4). وأكد البروفسور لويس كنتوري الأستاذ بجامعة جورج تاون وأحد أبرز الخبراء الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط، في ندوة لندن يونيو 1994: إن الليبراليين من أكثر الناس ضيقا بالنقد، لاعتقادهم أنهم يملكون الحقيقة والمفتاح السحري للتقدم بعد الذي حققه الغرب من إنجازات على ذلك الصعيد. وقد آن الأوان لفك الارتباط بين المصطلحات الثلاثة: الليبرالية ¬

_ (¬1) الممنوع والممتنع (262). (¬2) نفس المرجع (262). (¬3) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا (17). (¬4) قضايا في نقد العقل الديني (236) ونحو نقد العقل الإسلامي (175).

والعلمانية والتقدم، فليس صحيحا أنها متداخلة ومترابطة بحيث يتعلق كل منها بمصير الآخر، وبوجه أخص فإن تجربة قرنين من الزمان أثبتت في حالات عدة أن العلمانية لا تعني بالضرورة التقدم (¬1). والعلمانية في صورتها الماركسية أكثر وضوحا في ادعائها امتلاك الحقيقة باعتراف جمع من العلمانيين. فقد تحولت إلى عقيدة جاهزة مكتملة مطلقة الكمال، إنهم ينفون عنها صبغتها التاريخية، كما قال الجابري في الثرات والحداثة (106). ولنتأمل أولا كلام أحد العلمانيين الماركسيين عن ماركسيته، قال: والحقيقة أن النظرية الماركسية هي أنضج النظريات وأعمقها وأصرحها كذلك في فهم الديمقراطية وتقييمها (¬2). وصب جام غضبه على الديمقراطية التي أصبحت أحد أعظم المقدسات الآن قال: وليست عملية الانتخابات التي تتم مرة كل بضعة أعوام - على حد تعبير ماركس - إلا وسيلة يسمح بها البورجوازية للجماهير التي يستغلونها أن تقرر من سوف يذهب إلى البرلمان من هؤلاء البورجوازيين لتمثيلهم وسحقهم. على أن البرلمانات البورجوازية ليست إلا أماكن للثرثرة وخداع الجماهير (¬3). ¬

_ (¬1) المفترون (248). (¬2) معارك فكرية (258). (¬3) نفس المرجع (261).

وأكد أن الاشتراكية تقول بديكتاتورية البروليتاريا ضد الأقلية البورجوازية (¬1). تمهيدا للقضاء على الديمقراطية نهائيا بالقضاء على الدولة نفسها (¬2). وهنا يكون العنف ضد جهاز الدولة البورجوازي عنفا مشروعا (¬3). بل تقوم ديكتاتورية البروليتاريا على سلطة القهر (¬4). هكذا يقول محمود أمين العالم في يوم ما وفي زمان ما، لما كان مسلوب الإرادة، وكان يفكر بعقل غيره. وإذا أضفنا إلى هذه المهازل أصول الماركسية التي تعتبر العامل الاقتصادي هو العامل المهيمن والحاسم في التاريخ، وبقية العوامل (الفكر والدين والفن وغيرها) انعكاس للعامل الاقتصادي لا غير. وأن البشرية مرت بستة مراحل: المشاعية البدائية ثم الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية ثم الشيوعية. وأن الشيوعية مرحلة حتمية في تاريخ البشرية دلت عليها المادية الديالكتيكية العلمية، فيها يشيع كل شيء بما فيها النساء وتشيع الملكية. وتحولت هذه العقائد إلى حقيقة مطلقة، لأنها تعتبر كل التفسيرات غير الماركسية رجعية وطوبوية وبورجوازية. ¬

_ (¬1) نفس المرجع (262). (¬2) نفس المرجع (263). (¬3) نفس المرجع (266). (¬4) نفس المرجع (267).

والمادية الديالكتيكية هي المفسر الوحيد للتاريخ وتقلباته وهي وحدها التفسير العلمي. وبالتالي فالماركسية تمتلك الحقيقة المطلقة (¬1). وهكذا تحولت الماركسية إلى قوالب فكرية مهترئة أو جامدة، كما قال أركون (¬2). وأصبحت مفاهيم ماركس وإنجيله «رأس المال» نصوصا مقدسة (¬3). وهكذا يقال عن الرأسمالية في مطلقاتها حول الحرية والمنفعة. وهكذا العلمانية كلها تدور حول مطلقات ثابتة، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الدين والأخلاق والقيم، وقضايا حقوق الإنسان وغيرها. وطالما اتهم أركون غيره بالدوغمائية واعتقاد امتلاك الحقيقة المطلقة، مع أنه هو كذلك له مطلقاته ودوغمائيته، والمناهج التي يستخدمها كمنهج النقد التاريخي والبنيوي الذي يؤمن بها إلى حد الهوس. ويدعو الناس إلى تبنيه والانخراط فيه. وقد تحولت الحداثة -حسب ما يؤكد فادي إسماعيل- «بكل ما يتضمنه دينها من علمانية وعقلانية إلى جوهر مطلق يحتوي جملة من الشروط والتعريفات المقدسة والمنزلة، فإن جوهرها المتعالي يفقد إنسانيته ويتجه على يد قساوسته ¬

_ (¬1) انظر قضايا في نقد العقل الديني (90). (¬2) تاريخية الفكر العربي الإسلامي (295). (¬3) أزمة الخطاب التقدمي (101).

المحدثين في السلطة نحو همجية معاصرة تغطيها قشرة رقيقة من أوهام التقدم ومؤسساته» (¬1). والحاصل أن العلماني تسيّج في سياج يدعي فيه امتلاك الحقيقة المطلقة التي تعلو فوق جميع الحقائق، بل لا حقيقة إلا هي، وتقوقع في معسكره الإيديولوجي مسفها كل ما هو خارجه، معتبرا أن العلمانية أرقى ما وصل له العقل البشري، بل هي الفردوس الأعلى الذي ليس فوقه أو بعده من نعيم. وليست العلمانية مرحلة من المراحل، بل هي المرحلة النهائية. أليست هذه هي حقيقة الدوغمائية التي ينكرها العلمانيون على مخالفهم؟ بل ألم تتحول العلمانية إلى عقيدة حديدية متخشبة صارمة مغلقة؟ أليست هذه هي الفاشية والتطرف والعنصرية في أبهى صورها؟. أليست هذه نظرة متعالية وطقوسية؟ ألم تتحول العلمانية إلى معسكر عقائدي وسجن إيديولوجي حديدي مغلق؟ ألا تعتبر نفسها أرقى ما وصل إليه الفكر البشري كفلسفة للوجود؟ وبالتالي فهي حقيقة مطلقة، تحولت لدى أتباعها إلى مقدس يستحيل التنازل عليه مهما كانت الظروف والأحوال، وهذا هو المقدس (¬2)، وترى أنه يحق لها أن تمارس العنف لفرض القيم العلمانية، وهذا ما يفسر ظهور الاستعمار بعد ترسخ العلمانية في أوروبا. ولا شك أن قلة من العلمانيين هم الذين اعترفوا بإيجابية هذه الأسئلة التي طرحناها هنا. ¬

_ (¬1) الخطاب العربي المعاصر (155). (¬2) وفي داخلها مقدسات كثيرة: الوطن، حقوق الإنسان، الرموز الوطنية. وانظر قضايا في نقد العقل الديني (165 - 169).

ويقف على رأسهم علي حرب، وخاصة في أوهام النخبة، وتركي علي الربيعو في أغلب كتبه. وتنطلق العلمانية من رؤية دهرية أحادية الجانب، فهي ترى أنها تستند إلى حتمية تاريخية وأن الكون يتجه طوعا وكرها نحو رؤية دهرية علمانية تنحو نحو التخلص نهائيا من التصورات الدينية والخرافية (¬1). وهي لا تعدو هنا أن تكون متأثرة بالتوجهات الوضعية والنزعات الإلحادية للقرن 19 وبداية القرن العشرين (¬2). فأوجيست كونت مثلا يرى أن للتاريخ ثلاث مراحل: الحقبة الأسطورية الغيبية، ثم الحقبة المتافيزيقية، وأخيرا الحقبة الوضعية العلمية المتطابقة مع نظرة العلمانية الدهرية. فالعلمانية إذن عندهم هي مرحلة نهائية لنضج الوعي (¬3). ثم جاءت فلسفة ما بعد الحداثة، ورجوع التدين بقوة إلى أوروبا وأمريكا لبدء ضعف تلك الحتميات السابقة لتتحول فيما بعد إلى أفكار متجاوزة، كما حدث مع الشيوعية، التي غردت نفس التغريد سابقا، وضربت على نفس الوتر، ثم انهارت كما تنهار بناية متصدعة. ¬

_ (¬1) في العلمانية والدين والديمقراطية (22). (¬2) نفس المرجع. (¬3) نفس المرجع (23).

2 - هل ترتكز العلمانية على أسس فلسفية وعقلية قطعية؟

2 - هل ترتكز العلمانية على أسس فلسفية وعقلية قطعية؟ يزعم العلمانيون أن أطروحتهم تستند إلى أسس فلسفية عقلية ضرورية لا مجال للنزاع فيها، وهي بالتالي حتمية، يجب أن يذعن لها الجميع. ومن أنشط العلمانيين لهذه الأطروحة عادل ضاهر في كتابه الأسس الفلسفية للعلمانية. وتدور أطروحته والتي أكد عليها غير مرة (6 - 33) أنه لا يريد التوفيق بين العلمانية والإسلام، أو البحث عن أسس دينية للعلمانية كما فعل غيره من العلمانيين، خاصة علي عبد الرازق وخلف الله والعشماوي (¬1). إنما يريد تأسيس أسس فلسفية للعلمانية. يحدثنا بهذه الأريحية وكأن الأسس الفلسفية مجمع عليها بين كافة العقلاء والفلاسفة، مقطوع بها، ليس أمامنا غير البناء عليها والارتكاز عليها. مع أن لكل فيلسوف فلسفته، أو بعبارة أوضح وأكثر خلخلة لأسس عادل ضاهر: لكل مدرسة فلسفية أسسها الفلسفية التي تخالف وربما تناقض المدارس الأخرى. وداخل كل مدرسة أسس لكل فيلسوف. بدءا من فلاسفة اليونان ومرورا بالفلاسفة المسلمين، ووصولا للفلاسفة المعاصرين. وعادل ضاهر أدرى مني بهذه الأمور، لكنه يحاول أن يغالط، لعله ينجح في تمرير الأطروحة. لكن ما هو العقل؟ وما هي الأسس العقلية الفلسفية التي يعتبرونها ضرورية حتمية؟. ¬

_ (¬1) وكذا نصر أبو زيد، فقد زعم في كتابه الأخير دوائر الخوف (180) أن العلمانيين ينطلقون من المرجعية الدينية ذاتها التي ينطق منها خصومهم.

ولأمر ما جذع قصير أنفه، فقد تغافل عادل ضاهر عن طرح هذه الإشكالية. لا يوجد تعريف موحد للعقل وماهيته واختلف الناس فيه: الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والمعاصرون، حتى ذكر الزركشي أنه قيل فيه ألف قول (¬1). والأسس الفلسفية لمن اعتبر العقل هو مصدر المعرفة متناقضة ومتعارضة (¬2). فإذا نظرنا في الفلاسفة وحدهم نجد فلاسفة اليونان مختلفين: ففلسفة سقراط قائمة على اللاأدرية وفلسفة أفلاطون قائمة على الحركة، وفلسفة بيرون قائمة على الشك. وليست الفلسفة الحديثة بأقل اختلاف من الفلسفة القديمة، فإن سبينوزا رفض فلسفة ديكارت، وأقام فلسفته على شكل من أشكال وحدة الوجود، ثم جاء كانط فنقد كل أشكال العقل، ثم أقام هيجل فلسفته على المطلق، ثم رفض فيورباخ كل الفلسفات السابقة، وأقام فلسفته على الطبيعة والأنسنة، وإذا كان باركلي قد أنكر المادة، فإن ماركس رفض كل ذلك وقرر أن المادة هي المتحكمة بكل ما في الكون، وهكذا لم يتفق الفلاسفة على هذه الأسس المزعومة (¬3). وما هي الاعتبارات العقلية والفلسفية التي يسلم بها العقل؟ هل هي الفلسفة الميكافيلية التي أجازت للحاكم أن يبيد بشكل سريع وخاطف كل ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن (214) والتراث والحداثة (13). (¬2) نفس المرجع. (¬3) العلمانيون والقرآن (218).

3 - هل العلمانية والديمقراطية توأمان لا ينفصلان؟

المعارضين الذين يهددون ملكه، وذلك من أجل جلب الاستقرار للبلاد، والتي تبناها نابليون ومحمد علي وهتلر وستالين وغيرهم. أم هي مثالية جان جاك روسو التي دعا إلى الهمجي النبيل؟. أم هي اللاعقلانية المادية النيتشوية التي تكرس الإنسان الأقوى وتحكم بإبادة ملايين الضعفاء حتى لا يبقى إلا الإنسان الأعلى. أم العقلانية المادية التي تتمثل في النفعية المطلقة دون أي اعتبارات إنسانية أخرى، والتي كرسها كل من وليم جيمس وجون ديوي وغيرهم. أم هي العقلانية المادية التي رأت إبادة الملايين من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعوقين والمسنين ممن صنفوا باعتبارهم أفواها مستهلكة غير منتجة، كما فعلت النازية، وكما فعل ستالين الذي أباد ملايين الفلاحين الكولاك الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج الحتمية (¬1). 3 - هل العلمانية والديمقراطية توأمان لا ينفصلان؟ لعلنا إذا تذكرنا ما أوردناه سابقا عن النازية والفاشية والشيوعية وبرتوريا العنصرية باعتبارها أنظمة علمانية مارست الاستبداد والقهر والظلم والإبادة، كاف في الإجابة عن هذا السؤال. وقد وصل هتلر إلى الحكم من خلال إجراءات ديمقراطية، وعمليات الإبادة التي قامت بها النازية كانت تحظى بموافقة الأغلبية الساحقة للشعب الألماني. ¬

_ (¬1) العلمانيون والقرآن (218 - 219).

والمشروع الامبريالي الغربي الاستعماري، قامت به نخب تم انتخابها بطرق ديمقراطية سليمة، وحظي بدعم جماهيري واسع. ولهذا لم نسمع بمظاهرات وتنديدات بالاستعمار الغربي للدول. وحروب بوش الحالية وإن عارضها أمريكيون، فالأكثرية منهم تؤيدها. وإبادات حكام إسرائيل للفلسطينيين مدعومة بأغلبية جماهيرية. إذن لا تلازم بين العلمانية والديمقراطية، فالعلمانية قد تؤدي إلى الديمقراطية، وقد تؤدي إلى الديكتاتورية (¬1). هذا من جهة، ومن جهة فإن الديمقراطية ليست دائما تؤدي إلى ما فيه خير وسعادة البشرية. ألم يأت اليوم الذي يعترف فيه الغرب بضرورة الممارسات الديمقراطية بمرجعية أخلاقية؟ (¬2). وعندما يرى شعب ما أن قطاع المخدرات أو الدعارة أو بيع الأعضاء هو عصب اقتصاده الوطني وتنتخب حكومة تدافع عن مثل هذه السياسات، ألا يعتبر هذا خللا في النظام الديمقراطي؟. وترشحت إحدى نجمات أفلام الإباحية في انتخابات البرلمان الإيطالي، وكانت حملتها الانتخابية تتلخص في خلعها لملابسها لإقناع وإغواء الناخبين، وقد نجحت وتفوقت (¬3). ¬

_ (¬1) انظر المفترون (256). ولم أر في العلمانيين من صرح بإمكانية ديمقراطية حقيقة بدون علمانية إلا جورج قديس. العلمانية مفاهيم ملتبسة (371) وقدر العلمانية في العالم العربي (188). (¬2) العلمانية الجزئية والشاملة (50). (¬3) نفس المرجع.

4 - ما بعد الحداثة

فهل علينا أن نقبل بمثل هذه القرارات (ابتداء من الإبادة النازية وانتهاء بالمخدرات والإباحية) أم ينبغي أن نرفض مثل هذه القرارات الديمقراطية استنادا إلى مرجعية أخلاقية، متجاورة للإجراءات الديمقراطية؟ (¬1). 4 - ما بعد الحداثة. ونظرا لكل الاعتبارات المتقدمة. أعني كل المآسي التي جلبتها العلمانية معها لم يعد هناك بد من الاعتراف بأزمة الحداثة. ولهذا شاع في الغرب الحديث عن ما بعد الحداثة أو نهاية الحداثة كما قال محمد الشيخ في «ما معنى أن يكون المرء حداثيا» (165). وقد ذكر الجابري في التراث والحداثة (16) أن في أوروبا يتحدثون اليوم عن ما بعد الحداثة باعتبار أن الحداثة ظاهريا انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر بوصفها مرحلة تاريخية قامت في أعقاب عصر الأنوار (القرن الثامن عشر). هذا العصر الذي جاء هو نفسه في أعقاب عصر النهضة (القرن السادس عشر). وهذا ما أكده أركون في مواطن عديدة من كتبه، منها قوله: يمكن اعتبار مدرسة فرانكفورت أو أبحاث ميشيل فوكو وآلان تورين ويورغين هابرماس .. إلخ بمثابة الأعمال الفكرية التي تجسد مرحلة ما بعد الحداثة، فهي التي قامت بعودة نقدية راديكالية على عقل التنوير والعقل الوضعي الذي ساد القرن التاسع عشر وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية (¬2). ¬

_ (¬1) نفس المرجع. (¬2) قضايا في نقد العقل الديني (261). وانظر (220 - 307) منه، والفكر الإسلامي له (59) ونحو نقد العقل الإسلامي (321) له، والإسلام والانغلاق اللاهوتي لتلميذه ومقلده هاشم صالح (47).

وتحدث أركون في «نحو نقد العقل الإسلامي» (265) عن تحول الليبرالية إلى دين في الغرب له زواياه الغامضة، حيث يتراكم اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه. ومن أكثر الفلاسفة نقدا للحداثة الغربية نيتشه، حسب هاشم صالح، ولهذا انتقد عقلانية ديكارت وكانط وهيغل، واعتبر أنها تخفي وراءها غايات شخصية أو مصالح منفعية، وشكك في كل النظم الفلسفية السابقة باعتبار أنها تخفي غير ما تظهر (¬1). وذكر الدكتور جوتفرايد كونزلن أن العلمانية باعتبارها دين حل محل الدين المسيحي يفهم الوجود بقوة دنيوية هي العقل والعلم ... وذكر أن العلمانية عجزت عن الإجابة عن أسئلة الإنسان التي كان الدين يقدم لها الإجابات، فالقناعات العقلية أصبحت مفتقرة إلى اليقين ... وغدت الحداثة العلمانية غير واثقة من نفسها، بل وتفكك أنساقها - العقلية والعلمية- عدمية ما بعد الحداثة ... فدخلت الثقافة العلمانية في أزمة بعد أن أدخلت الدين المسيحي في أزمة. وقال: وتحققت نبوءة نيتشه (1844 - 1900م) عن إفراز التطور الثقافي الغربي لأناس يفقدون نجمهم الذي فوقهم، ويحيون حياة تافهة ذات بعد واحد لا يعرف الواحد منهم شيئا خارج نطاقه. وبعبارة ماكس فيبر (1864 - 1920م): لقد أصبح هناك أخصائيون لا روح لهم، وعلماء لا قلوب لهم (¬2). ¬

_ (¬1) الإسلام والانغلاق اللاهوتي (48). ومن الكتب الغربية في نقد الحداثة: خيانة التنوير للفرنسي جان كلود غيبو. باريس 1996. وزوال العلمانية لـ: بيتر برجر Desecularisation of word. (¬2) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا (17 - 18).

وقد اعترف أركون بفشل جهود العلمنة التي بدأت على يد طه حسين والبستاتي ويعقوب صروف وفرح أنطون وسلامة موسى وغيرهم (¬1). وكذا أكد على هذا مراد وهبة، وزاد أنه جاء بعدهم نفر من العلمانيين مثل نجيب محفوظ ولويس عوض ومحمد أركون وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد، تم قال: والنتيجة فشل العلمانية في العالم العربي (¬2). بل زاد في صراحة يحسد عليها أن علمانيته في الطريق إلى الاندحار (¬3). وقال عادل ضاهر: إن العلمانية في حالة تراجع كبير في العالم العربي اليوم، والقوى العلمانية يتقلص ويتهمش دورها وتأثيرها الفاعل على الأحداث باطراد متزايد (¬4). وأكد سعيد لكحل أن مصطلح العلمانية يعاني أزمة، وقال: إن عموم المثقفين والديمقراطيين يتحرجون من تداول هذا المفهوم، إذ صارت العلمانية تعني خطأ (¬5) معاداة الدين (¬6). وكذا أكد فشلها عادل الجندي (¬7). في حين أكد فؤاد زكريا أن العلمانية أصبحت سيئة السمعة الآن وهي كلمة تعيسة الحظ تطلق على أناس تعساء الحظ أيضا (¬8). ¬

_ (¬1) قضايا في نقد العقل الديني (196 - 197). (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (260 - 261). (¬3) نفس المرجع (264). (¬4) الأسس الفلسفية للعلمانية (5). (¬5) كلا، بل حقيقة، كما سنبين للكحل في الكتاب الثاني. (¬6) العلمانية مفاهيم ملتبسة (280). (¬7) العلمانية مفاهيم ملتبسة (316). (¬8) مناظرة فؤاد زكريا مع البهنساوي. الإسلام لا العلمانية (42).

واعترف كذلك بأن جهوده وجهود أمثاله من العلمانيين لم يكن من ورائها طائل، وأن الناس لم يستوعبوا حرفا مما يقول منذ سنوات، وأن أي مهيج أصبح بمقدوره أن يقول للناس كلاما إنشائيا لا قيمة له، بحيث يمحو تماما تأثير كل ما أجهد نفسه فيه (¬1). وعبر عبد العلي بنعمور عن خيبة أمل كبيرة عن حال علمانيتهم، قال: هكذا نجد أنفسنا قد وصلنا إلى جو مظلم ومشحون بنسمات الرعب، جو أصبح فيه المثقف الزمني (أي: العلماني) إنسانا مخيفا وخائفا في نفس الآن (¬2). كما تحدث حسن حنفي عن أزمة علمانيتهم وفشل مشروع الأنوار الغربي في مقدمته لكتاب لسنج تربية الجنس البشري (14). وشرح كيف أن مفاهيم الأنوار الثلاثة: العقل والحرية والتقدم تحولت إلى نقيضها، فالعقل تخلى عن وظيفته التحريرية للوجدان والتصوف، وأصبح خاضعا لتحكم الآلة وحسابها. والحرية تحولت إلى حرية عابثة، تعبر عن أزمات الإنسان أكثر مما تعبر عن غائيته (16). ومفهوم التقدم انتهى في الفلسفة الغربية المعاصرة إلى محنة واحتضار ومأساة وضياع (17) (¬3). واعتبر صلاح عيسى أن علمانيتهم تعاني من أزمة حتى على مستوى الإفصاح عن نفسها. ¬

_ (¬1) المفترون (79). (¬2) العلمانية مفاهيم ملتبسة (247). (¬3) التفكير في العلمانية (20 - 21).

قال: بل الأكثر من ذلك فإن أي حزب سياسي عربي لا يستطيع اليوم القول إنه حزب علماني، كما أنه يتهرب من مناقشة الموضوع خوفا من أن يفقد أصوات المتدينين في الانتخابات (¬1). وقال: رغم أن الكثيرين لا يمتلكون الجرأة والاستعداد للدفاع عن فكرة العلمانية، إن تيار العلمانية تيار مكتوم وخائف (¬2). وقال محمد سبيلا العلماني المغربي: لم تستطع العلمانية أن تخترق المجتمعات العربية نظرا لهيمنة الثقافة الدينية التقليدية (¬3). وقال: إلى درجة أن الباحثين اليوم يتحدثون عن الاستثناء الإسلامي من حيث أن الإسلام هو الاستثناء الوحيد لثقافة لم تندمج بعد ولم تتصالح تصالحا كاملا مع زمن العالم الحديث ومتطلبات الحداثة (¬4). وقال عن القوى العلمانية: وهذه الأخيرة تعتبر قوة ضئيلة ومحدودة وتشكل نخبا تجد نفسها محاصرة من الجميع، حتى أنها لا تتوفر على أي دعم من أي جهة ما (¬5). وحسب علي حرب فقد تحول المشروع العلماني إلى أزمة، وقال: وأما الأزمة فأعني بها ما آل إليه وضع المثقف من العزلة والعجز والهشاشة (¬6). ¬

_ (¬1) العلمانية مفاهيم ملتبسة (210). (¬2) نفس المرجع (214). (¬3) نفس المرجع (224). (¬4) نفس المرجع (225). (¬5) نفس المرجع (225). وسبح ضد التيار حميد لشهب وشاكر النابلسي. نفس المرجع (115 - 137). (¬6) أوهام النخبة (95).

وأن إخوانه تحولوا إلى مجرد باعة للأوهام كما عبر ريجيس دوبربه (¬1). بل المشروع كله مني بالفشل الذريع والإحباط المميت كما قال حرب (¬2). وأقر في كتاب آخر أن مشاريع النهضة والتقدم والحرية والعقلانية والحداثة فشلت، وأنها انقلبت إلى أضدادها (¬3). وقد ظل المشروع العلماني العربي يعاني من الانحسار والانكماش لكونه قفز خارج المنظومة المعرفية للمجتمعات الإسلامية، فتحول إلى نخبة تمثل قشرة سطحية طافية فوق السطح. والعجيب أنهم ليسوا منبوذين من قبل مجتمعاتهم فحسب، بل من قبل أولياء نعمتهم كذلك. ولنضرب لذلك مثالا ناصعا فيه عبرة لمن يعتبر، ألا وهو محمد أركون، وهو أحد أكثر العلمانيين تطرفا. فقد عبر عن أسفه عن عدم وجود جمهور له في الغرب وفي الشرق (¬4)، وأكد أنه بنقده للإسلام خسر جمهورا هنا، ولكون أولياء نعمته صنفوه هناك باعتباره مثقفا إسلاميا. فخسر جمهورا هناك (¬5). ¬

_ (¬1) أوهام النخبة (97). (¬2) أوهام النخبة (98). (¬3) الممنوع والممتنع (195) وانظر (199 - فما بعد) منه في أزمة العلمانيين العرب وأن مشاريعهم لم تأت بنتيجة. (¬4) قضايا في نقد العقل الديني (20). (¬5) نفس المرجع (21).

وكم تعجب من التمييز الذي طاله من قبل الأكاديميين الغربيين بل وصف ما جرى له بأسى بالغ. وأكد أن الغرب يتهمه بأنه فقط يردد بشكل ناقص أفكار وانتقادات الغرب تجاه تراثهم الديني، وأنه لم يأت بشيء جديد، بل كل ما يفعله تافه عفا عليه الزمن (¬1). وأنهم قالوا: اذهب وصدر هذه الأفكار الساذجة إلى أبناء قومك (¬2). وذكر أشياء كثيرة، وقال: لطالما سمعت هذه الانتقادات في شتى العواصم الأوربية ... في كل مكان أذهب إليه في الغرب أو في الجامعات الغربية أسمع التعليقات نفسها والانتقادات إياها (¬3). وفي كتاب آخر له تأسف كثيرا لأن أبحاثه في نقد العقل الإسلامي لا تحظى بالقبول والاحتفاء رغم أنه باحث مفكر نقدي كما زعم (¬4). وقال: فالأبواب تظل بالطبع مغلقة أمامي سواء من جهة الإسلام المحافظ أو الإسلام الحركي السياسي على حد سواء، أو قل: إسلام السلطة وإسلام المعارضة. كلاهما يرفض مشروعي الفكري ودراساتي التجديدية للتراث الإسلامي (¬5). ¬

_ (¬1) قضايا في نقد العقل الديني (23). (¬2) نفس المرجع. (¬3) نفس المرجع (24). (¬4) نحو نقد العقل الإسلامي (55). (¬5) نفس المرجع (173).

5 - مغالطات

وطبعا السبب واضح وظاهر لكنه يتغافل عنه، لأن مشروعك يا سيد أركون ليس إلا امتدادا للمشروع الاستعماري الاستشراقي، فليس همه إرادة البحث والمعرفة، وإنما إرادة الإيديولوجيا. 5 - مغالطات: يلجأ العلمانيون إلى خلق وقائع أو فرضيات وهمية مغلوطة بعيدة عن روح البحث العلمي النزيه لتبرير مشروعهم الفكري أو لنقد معارضيهم، يحاولون من خلالها إيصال رسائل قدحية سلبية في حق الإسلام وعلومه ورموزه وعلمائه. وهي في غنى عن أي تعليق، دعك من الصحفيين الباحثين عن لقمة العيش ككثير من صحفيي الأحداث المغربية عندنا، لا حتى في روادهم الكبار رأسمالهم عند حديثهم عن الحركات الإسلامية المغالطات والأكاذيب، لنقرأ ما سطرته أنامل أحد روادهم الكبار وأساطينهم الذين رباهم الغرب على عينه، في صدد حديثه عن فشل مشروعه الفكري ومعاناته من قبل ما سماه إسلام السلطة وإسلام المعارضة أي: الإسلاميين، وتحدث عن الأخيرين بقوله: ثم من قبل حركات المعارضة الأصولية التي تدعو إلى الحروب الأهلية من أجل إعادة نموذج «دولة المدينة» التي أسسها النبي في يثرب (¬1). ومتى دعت الجماعات الإسلامية إلى الحروب الأهلية؟ ولا بأس بالكذب المفضوح عند العفيف الأخضر ما دام يروي غليله في خصومه، قال: الترابي كان كلما قتل بعض من أعضاء مليشياته «المجاهدين» في الإحيائيين والمسيحيين يعقد لهم قرانا على حوريات الجنة ليضاجعوهن في يوم موتهم، لأن «الشهيد» لا يموت، بل يمر من الدنيا إلى الجنة. انتحاريو حماس ¬

_ (¬1) نحو نقد العقل الإسلامي (173).

يضعون واقيا فولاذيا على أعضائهم التناسلية ليتمكنوا يوم قتلهم من مضاجعة الحوريات .. (¬1) يظن اللاعفيف أن قُراءَه من البلادة بمكان بحيث لن يتنبهوا لكذب له قرنان كهذا. ولعل مصادره فيما ذكر حول حماس هي الصحف الإسرائيلية، فهي وحدها التي تروج لمثل هذه الثقافة البئيسة. ومن كذباته التي لا تحصى قوله في مقال «كيف ننتقل من المدرسة السلفية إلى المدرسة العقلانية؟»: فعندما يفتي، منذ أسابيع، مفتى السعودية الشيخ عبد العزيز الشيخ بأن قيادة المرأة للسيارة مماثلة لارتكابها للزنا المستوجب لحد الرجم (¬2). وقال في مقال «العلمانية ليست ضد الدين وهي مفتاح الحداثة المعاصرة»: ابن تيمية كفر المسلمين بالجملة. كفر المعتزلة وخصومهم الأشاعرة بمن فيهم حجة الإسلام الغزالي، وكفر الفلاسفة بمن فيهم قاضي القضاة ابن رشد، وكفر المتصوفة بمن فيهم شيخ العارفين ابن عربي وكفر الشيعة بمن فيهم الإمام علي بن أبي طالب (¬3). من عادة محترفي الكذب حرصهم على أن يكون لكذبهم مصداقية ما، أما هذا الرجل فكذبه من طينة أخرى، وهو الآن على فراش الموت لا رحم الله فيه مغرز إبرة. ¬

_ (¬1) الحوار المتمدن - العدد: 690 - 2003/ 12 / 22. (¬2) الحوار المتمدن - العدد: 843 - 2004/ 5 / 24. (¬3) الحوار المتمدن - العدد: 691 - 2003/ 12 / 23.

وقال القمني عن فقهاء الإسلام: بينما وجهة نظر فقهاء الإسلام في بلادنا هي وجهة نظر مقدسة، فإن كانت حديثا نبويا ولو موضوعا فهو مقدس لا يصح نقده والتعدي عليه. انتكاسته (36). وطبعا القمني يعلم أنه يكذب في كل كلمة قالها هنا، ولكن كما قال تعالى عن المشركين {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} فصلت26. كل فقهاء الإسلام من لدن الصحابة إلى هذه الأعصار يعتبرون أنفسهم مجتهدين يصيبون ويخطئون، وأن أقوالهم ليست مقدسة، ولا يوجد عندنا نحن المسلمين حديث موضوع مقدس، فكتب العلماء طافحة بالتحذير من رواية الموضوع، فكيف يعده مقدسا لا يصح نقده؟. ومن جنس المغالطة السابقة: قال هاشم صالح في الإسلام والانغلاق اللاهوتي (233): وحتى اليوم فيكفي أن تشرب كأسا واحدة من الخمر لكي تصبح كافرا وتخرج من أمة الإسلام. وهذا كذب له قرون لا قرنان، كما يقال. ومن مغالطاته ما زعمه أن في زمن ابن تيمية أن من شرب كأسا من الخمر أو لم يصم شهر رمضان أصبح مرتدا (¬1). واللجوء إلى الكذب سنة ماضية في العلمانيين، فهذا فرج فودة وفي محاولة يائسة وبئيسة للرد على دعاة تطبيق الشريعة، أنها لو طبقت فرضا فطرحت مسألة صلح كامب ديفد، فرأى فريق أنها غير شرعية، فسيكون من ¬

_ (¬1) الإسلام والانغلاق اللاهوتي (328).

خالف هذا الحكم فهو مخالف لحكم الله، وأنه انضم لحزب الشيطان، ولا سبيل إلا أن يتهموا بالفسق والظلم تمهيدا لاستتابتهم أمام فقهاء في الدين، فإن تابوا فأهلا بها ونعمت ودرس للآخرين، وإن أصروا فقد كفروا كفرا صريحا (¬1). هكذا يكتب، بل يكذب الجهول ناسجا أكذوبة من خيال محض، مع أن المسألة لا تعدو أن تكون حكما فقهيا اختلف فيه علماؤنا قديما وحديثا كما اختلفوا في عشرات المسائل الشرعية ولم يحدث بينهم لا خصام ولا شقاق ولا تكفير ولا تفسيق. ولكن فودة طريد الوفد رسم لنفسه ولقرائه هدفا يجب الوصول إليه بأي ثمن، ولو بالكذب المفضوح. واعتبر مفتي الماركسية خليل عبد الكريم أن الفقهاء المالكية منعوا آراء العلماء الذين بعد مالك، وقال: أما نقدها وتوهينها فهي أمور محظورة، ومن يجرؤ ويفعل ذلك فهو مارق تعدى على الإسلام ورموزه وأزرى بهم (¬2). والقارئ يعلم أن هذه الأكاذيب والتهريجات لا تخفى عليه، لأنه يعلم أن كتب الفقه مليئة بالنقد والنقد المضاد، ولكن هذا مبلغ علم مفتي الماركسية. ¬

_ (¬1) قبل السقوط (55). (¬2) الأسس الفكرية (113).

المراجع

المراجع أحمد إدريس الطعان: 1 - العلمانيون والقرآن الكريم. دار ابن حزم الرياض الطبعة الأولى 1428/ 2007. أحمد فرج: 2 - جذور العلمانية. دار الوفاء المنصورة. الطبعة الرابعة 1411/ 1990. 3 - علماني وعلمانية تأصيل معجمي. ملحق جذور العلمانية. دار الوفاء المنصورة. الطبعة الرابعة 1411/ 1990. إنعام أحمد قدوح: 4 - العلمانية في الإسلام. دار السيرة بيروت الطبعة الأولى 1995. تركي علي الربيعو: 5 - أزمة الخطاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث الخطاب الماركسي نموذجا. دار المنتخب العربي الطبعة الأولى 1415/ 1995. 6 - الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر. المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2006. حسن حنفي: 7 - التراث والتجديد. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع الطبعة الخامسة 2002.

خليل عبد الكريم: 8 - الأعمال الكاملة. دار مصر المحروسة القاهرة الطبعة الأولى 2004. 9 - الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية. دار مصر المحروسة. القاهرة 2004. رفيق عبد السلام: 10 - في العلمانية والدين والديمقراطية. الدار العربية للعلوم بيروت ومركز الجزيرة للدراسات الدوحة الطبعة الأولى 1429/ 2008. سالم البهنساوي: 11 - الإسلام لا العلمانية مناظرة مع د. فؤاد زكريا. دار الدعوة الكويت, الطبعة الأولى 1412/ 1992. 12 - تهافت العلمانية في الصحافة العربية. دار الوفاء المنصورة الطبعة الأولى 1410/ 1990. سفر الحوالي: 13 - العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة. سيد محمود القمني: 14 - الأسطورة والتراث. سينا للنشر الطبعة الثانية 1993. 15 - شكرا ابن لادن. دار مصر المحروسة القاهرة 2004. 16 - انتكاسة المسلمين إلى الوثنية. مؤسسة الانتشار العربي بيروت الطبعة الأولى 2010.

طيب تيزيني: 17 - مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأة وتأسيسا. دار دمشق الطبعة الأولى 1994. عادل ضاهر: 18 - الأسس الفلسفية للعلمانية. دار الساقي الطبعة الثانية 1998. عاطف أحمد: 19 - الإسلام والعلمنة. دار مصر المحروسة القاهرة الطبعة الأولى 2004. عبد الصبور شاهين: 20 - العلمانية تاريخ الكلمة وصيغتها. ملحق جذور العلمانية. دار الوفاء المنصورة. الطبعة الرابعة 1411/ 1990. عبد الله أحمد النعيم: 21 - الإسلام وعلمانية الدولة. دار ميريت القاهرة الطبعة الأولى 2010. عبد الله العروي: 22 - السنة والإصلاح. المركز الثقافي العربي الدار البيضاء وبيروت. الطبعة الثانية 2010. عبد الكريم سروش: 23 - التراث والعلمانية. منشورات الجمل 2009.

عبد الكريم مشهداني: 24 - العلمانية وآثارها على الأوضاع الإسلامية في تركيا. المكتبة الدولية الرياض ومكتبة الخافقين دمشق الطبعة الأولى 1403/ 1983. عبد الوهاب المسيري: 25 - العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق القاهرة الطبعة الثالثة 2009. 26 - العلمانية والحداثة والعولمة. دار الفكر دمشق الطبعة الأولى 1430/ 2009. عدنان الخطيب: 27 - قصة دخول العلمانية في المعجم العربي. ملحق جذور العلمانية. دار الوفاء المنصورة. الطبعة الرابعة 1411/ 1990. عدنان علي رضا النحوي: 28 - المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان الوضعية. دار النحوي الرياض الطبعة الأولى 1418/ 1997. عزيز العظمة وعبد الوهاب المسيري: 29 - العلمانية تحت المجهر. دار الفكر بيروت ودمشق. الطبعة الأولى 1421/ 2000.

علي حرب: 30 - أوهام النخبة أو نقد المثقف. المركز الثقافي العربي الدار البيضاء وبيروت الطبعة الرابعة 2008. 31 - الممنوع والممتنع. نقد الذات المفكرة. المركز الثقافي العربي الطبعة الرابعة 2005. 32 - نقد الحقيقة. المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء الطبعة الثالثة 2005. 33 - نقد النص. المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء الطبعة الخامسة 2008. علي محمد جريشة ومحمد شريف الزيبق: 34 - أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي. دار الاعتصام الطبعة الثالثة 1399/ 1979. فادي إسماعيل: 35 - الخطاب العربي المعاصر. دار الوفاء المنصورة. نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي. الطبعة الثانية 1413/ 1993. فهمي هويدي: 36 - المفترون خطاب التطرف العلماني في الميزان. دار الشروق. الطبعة الثالثة 1426/ 2005. قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي

كمال عبد اللطيف: 37 - التفكير في العلمانية. إفريقيا الشرق 2002. لحسن وريغ وأشرف عبد القادر: 38 - العلمانية مفاهيم ملتبسة. رؤية للنشر والتوزيع 2009. 39 - قدر العلمانية في العالم العربي. منشورات الأحداث المغربية. الطبعة الأولى 2009. محمد أركون: 40 - الأنسنة والإسلام. ترجمة محمود غريب. دار الطليعة بيروت. الطبعة الأولى 2010. 41 - تاريخية الفكر العربي الإسلامي. مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي ترجمة هاشم صالح الطبعة الثالثة 1998. 42 - العلمنة والدين الإسلام المسيحية الغرب. دار الساقي بيروت. الطبعة الثالثة 1996. 43 - الفكر الإسلامي قراءة علمية. مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي ترجمة هاشم صالح الطبعة الثانية 1996. 44 - القرآن من التفسير الموروث. ترجمة هاشم صالح دار الطليعة بيروت. الطبعة الثانية 2005. 45 - قضايا في نقد العقل الديني. دار الطليعة بيروت الطبعة الرابعة 2009.

46 - نحو نقد العقل الإسلامي. ترجمة هاشم صالح دار الطليعة بيروت. الطبعة الأولى 2009. محمد عمارة: 47 - الإسلام بين التنوير والتزوير. دار الشروق القاهرة. الطبعة الثانية 1423/ 2002. 48 - الجديد في المخطط الغربي اتجاه المسلمين. دار الوفاء. 49 - الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين. نهضة مصر الطبعة الثالثة 2008. 50 - الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية. دار الشروق القاهرة الطبعة الأولى 1409/ 1988. 51 - سقوط الغلو العلماني. دار الشروق القاهرة الطبعة الثانية 1422/ 2002. 52 - الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية. دار الشروق القاهرة الطبعة الأولى 1423/ 2003. 53 - الغرب والإسلام أين الخطأ؟ وأين الصواب؟. مكتبة الشروق الدولية القاهرة الطبعة الأولى 1424/ 2004. 54 - الغزو الفكري وهم أم حقيقة. الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر. 55 - مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا. نهضة مصر 1999. 56 - نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم. نهضة مصر 1998.

محمد عابد الجابري: 57 - التراث والحداثة. 58 - حوار المشرق والمغرب مواقف (58). أديما الدار البيضاء الطبعة الأولى 2006. 59 - سلسلة مواقف (34). أديما الدار البيضاء الطبعة الأولى 2004. 60 - في نقد الحاجة إلى الإصلاح. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت الطبعة الثانية 2003. محمد بوبكري: 61 - تأملات في الإسلام السياسي -الإسلام والعلمانية-. منشورات فكر الطبعة الأولى 2007. محمد الشرفي: 62 - الإسلام والحرية الالتباس التاريخي. دار الجنوب للنشر تونس 2002 - 2009. محمد فاروق الخالدي: 63 - التيارات الفكرية والعقدية في النصف الثاني من القرن العشرين. دار المعالي عمان الطبعة الأولى 1423/ 2002. محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي: 64 - الحداثة وانتقاداتها. إعداد وترجمة. دار توبقال للنشر الطبعة الأولى 2006.

محمد الشيخ: 65 - ما معنى أن يكون المرء حداثيا؟ منشورات الزمن النجاح الجديدة 2006. محمود أمين العالم: 66 - معارك فكرية. مراد وهبة: 67 - ملاك الحقيقة المطلقة. دار قباء مصر. منى محمد بهي الدين الشافعي: 68 - التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآني الكريم. دار اليسر الطبعة الأولى 1429. نصر حامد أبو زيد: 69 - دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة. المركز الثقافي العربي الدار البيضاء وبيروت الطبعة الرابعة 2007. 70 - النص والسلطة والحقيقة. المركز الثقافي العربي الطبعة الخامسة 2006. هاشم صالح: 71 - الإسلام والانغلاق اللاهوتي. دار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 2010.

يوسف القرضاوي: 72 - الإسلام والعلمانية وجها لوجه. مكتبة وهبة القاهرة. الطبعة السابعة 1997. 73 - التطرف العلماني في مواجهة الإسلام. دار الشروق. الطبعة الثانية 2006.

§1/1