العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية

عبد الله الجديع

العقيدة السلفية فى كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية تأليف عبد الله بن يوسف الجديع دار الإمام مالك دار الصميعي للنشر والتوزيع

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الثانية 1416هـ - 1995مـ دار الإمام مالك الرياض - هاتف: 4240235 ص ب: 32503 - الرمز البريدي: 11438 المملكة العربية السعودية دار الصميعى للنشر والتوزيع هاتف وفاكس: 4262945 الرياض - السويدى - شارع السويدي العام ص. ب: 4967 - الرمز البريدى 11412 المملكة العربية السعودية

بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل

مدخل وفيه أربعة أمور: = مقدمة الطبعة الثانية. = مقدمة الكتاب. = التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع فى المقصود. = مجمل خطة تأليف الكتاب.

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية إنَّ الحمدَ لله , نحمَدُهُ ونستعينُه ونستهديه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا وسيَّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِه اللهُ، فَلَا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِل؛ فلا هاديَ له. وَأشْهَدُ أن لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وحدَه لا شَريكَ لهُ، وأشْهَدُ أن محمَّداً عبْدُهُ ورَسُولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تَسليماً كثيراً. أما بعدُ: فلقد كان في حُسباني قبلَ صُدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب أنَّهُ سَيُسَرُّ به أناسٌ، ويستاءُ منه آخرون، وذلكَ ما حَصل. أمَّا السُّرور, فكان لأهلِ السُّنَّةِ , لِمَا وجَدوا فيه من نَصْرِ اعتقادِ السَّلَفِ والأئمَّةِ من أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، وإبْطالِ البدَعِ في مسألةِ كلامِ الله التي هي أخطرُ مسائل الخِلافِ في الاعتقادِ بينَ أهَلِ القبلةِ، ولِما رأوْا فيه من الاجتهاد في جمع الأدلَّة وتحريرِها وشرحِها وبيانِها، ودَحْضِ الشُّبَةِ وأباطيلِ المبتدِعَةِ، مِمَّا توالَت بسبَبهِ من بعدُ إشاراتُ عديدٍ من أهلِ العلمِ والفَضْلِ عليَّ بالكتابةِ على لهذا النَّحو في سائر مسائل الاعتقادِ، خاصَّةً

المسائل الكبار, كمسألة إثبات العلوَّ، والرُّؤْيةِ، والقَدَر، وشِبهِها, ولَقِيَ الكتابُ في أنفُسِهم قَبولاً، فعوَّلوا عليه، وأشاروا به. وهذا كُلُّه من فضلِ الله تعالى ومَنَّهِ، فله الحمدُ وحدَه، وهو المسؤولُ أن يُوفِّقَ للسَّدادِ والصَّواب في الاعتقاد والقولِ والعمل. وأمَّا الاستياءُ؛ فكان من أهلِ البِدْعةِ، فضاقَت صُدورُهم به ذَرْعاً، وليسَ بضارَّني أن ينقِمَ عَلَىَّ مُبْتَدعٌ، فَذلكً سَبيلُهم، ولكن حَسبي من ذلكَ نَصرُ الشَّريعةِ والسُّنَّة. أمَّا هؤلاءِ, فأذَكِّرُهم بالله تعالى، وأقولُ: اتَّقوا اللهَ، وراجِعوا اعتقاداتِكُم، وصَوَّبوها بالأدلَّةِ والبَرَاهين لا بالتَّقليد، وتابعوا السَّلَفَ تَسْلَموا وتَغنَموا، ولا تغَرَّنَّكم جَلالةُ مُتَّبَعٍ فَتتَّبِعوهُ في الخطإِ، فَإنَّكم بذلكَ تُزْرونَ بالسَّلَفِ الذينَ هم أولي بالاتِّباعِ منهُ، وتُزْرونَ بأعيانِ الأئمَّةِ، كالأربعةِ السّادَةِ الفقهاءِ وغيرِهم، وإنِ ارتضَيْتُم مذاهبَهم في الفروعِ, فحريٌّ بكم ارتضاؤها في الأصولِ، وان كُنتم رأيتُم من صَنيعي هَدْمَ ما تربيتُم عليهِ سنين, فلأن تعودوا للصَّواب خيرٌ من تَماديكُم في الباطل وإقامَتِكم عليه، وتَدارُكُ أنفُسِكم بتقويمِ اعتقَاداتِكم وسلوكِ جادَّة السَّلَفِ خيرٌ لكم من أن تَلْقَوا رَبَّكم تعالى بانحرافِ العَقيدةِ. ثُمَّ بَعدُ, فإنْ كانَ لكم علمٌ, فقولوهُ، وإلا, فالصَّمتُ خيرٌ لكم، واعلَموا أنَّ صَدْري يتَّسعُ لخلافِكم، فاكتبوا لي وناقِشوا وناظِروا، والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم. وهناك طَرَفٌ ثالثٌ أشرتُ إليه في مقدِّمة الكتاب الأولى، تُهمُّهم مَصائبُ المسلمينَ في المَعاش وأسباب الحياة، ويَغْفُلَونَ عن مصائبهم

بسَبَب جهلِهم بدينهم، وأنا مع هؤلاءِ في ضَرورةِ الاهتمام لأمرِ المسلمينَ، والاشَتغالُ في ذلك من أعظَم القُرَبِ، واسمُ الإِسلامِ وحدَهُ كافٍ في وجوب نُصرةِ من تَسمَّى بهِ، وبه يثبُتُ له الوَلاءُ العامُّ، فإنَّ الإِنسانَ اليومَ يُحارَبُ لمجرَّدِ انتمائِهِ إلَى هذا الدِّينِ، وعدوُّهُ لا يُبالِي من أيِّ الطَّوائِفِ كانَ، لكنَا حينَ نعتقدُ ذلِكَ لا نُجوِّزُ الاشتغالَ من أجلِ تخليصِهِ من الموتِ بيَدِ عَدوَّهِ الظَّاهر ثُمَّ نَدعُهُ لهواهُ وعدوَّه الباطنِ. وكُلُّ من يُهمُّهُ أمرُ المسلمينَ يُدرِكُ هَلْهَلَةَ وخلخلةَ الصَّفَّ الإِسلامي، ولكنْ ألا نَتساءلُ: لِمَ ذاكَ؟ لنُدْرِكَ أنَّها الأمراضُ في الاعتقاداتِ والسُّلوكِ والعملِ، وإلا, فلأيِّ شيءٍ يقتُلُ المسلمُ أخاهُ؟ إنَّنا نعتقدُ فَرْضاً على أهل الإِسلام الاشتغال بمُداواةِ النُّفوسِ بإصلاحِ العقيدةِ والعملِ والسُّلوكِ، ولا يشغلُهَم واجبٌ عن واجبٍ، فعدوُّ الباطنِ أفتَكُ من عدوَّ الظَّاهر. وكما يَجِبُ أن يجدَ المسلمُ أنصاراً من إخوانه يذبُّونَ عنه ويحمونَهُ يجب أن يجدَ منهم الأخذَ بيدِهِ إلى الصَّراطِ المستقيم، وحمايتِهِ من مُضلاتِ الهَوى وشَهواتِ الغيِّ. ولا يخفى أحداً ما دخلَ جانبَ العقيدةِ من الأهواءِ، وافترقت الأمَّةُ بسبَبِهِ شِيَعاً وتنازعت، ممَّا سَبَّبَ الفَشَلَ وذَهَابَ الرِّيح والهَزيمةَ، فلا بُدَّ أن يَنفرَ من أهلِ الاسلامِ طائفةٌ تقومُ بالإِصلاحِ لما فَسَدَ وتصحيحِ الانحرافِ، لا بالدَّعاوى الفارغةِ الكاذبةِ، وإنَّما بالعملِ الذي يُرى في النَّاسَ أثرُةُ. ولا أحسَبُ أنَّنا نختلفُ في هذا المبدإ.

وعليهِ , فتناولي لقضيَّةٍ تُعَدُ من أبرزِ مسائل الاعتقادِ وأشدَّها خُطورةً من بابِ الاشتغالِ بأداءِ الواجبِ في تصحيح عقائد المسلمينَ. ومن الناسِ من يقولُ: لا يلزمني معرفةُ العقائدِ المُبْتَدعةِ والاشتغالُ بتعلُّمِها، ويكفيني أن يكونَ اعتقادي هو اعتقادَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ المأثورَ عن السَّلَفِ. فأقولُ: نعم؛ الأمرُ كذلكَ إذا تيقَّنتَ الصَّوابَ من عقيدةِ السَّلَفِ، وأخذتَها عن أهلِها لا عمَّن ينسبونَ إليهم الاعتقاداتِ المُبتَدَعة يلبِسونَ بها على النَّاس، فإن حصَّلْتَ ذلكَ لم يلزمْكَ معرفةُ اعتقادات الطوائف، واللهُ تبارَكَ وتعالى إنما كلَّفَكَ باتِّباع ما بعثَ به نبيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - من الهُدى ودينِ الحقِّ قبلَ البدَعِ والأهواِءِ، واتِّباعِ سبيلِ المؤمنينَ، وإلا كانَ الأمرُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وكتابي لهذا ليسَ في الردِّ على الطَّوائِف المُبْتَدِعَةِ فَحَسْب، بل الأصلُ في وضعِهِ شَرْحُ اعتقادِ السَّلَف، وقد صدَّرْتُهُ بذكر العقيدة السَّلفيَّة مُبيَّنةً بأيسر عبارةٍ، ببُرهانِها من الكتابِ والسُّنَّةِ وتفسيرِ السَّلفِ، ممَّا يلزمُ أهلَ الإِسلامِ اعتقادُه، ثُمَّ بعدَ ذلِكَ عَرَّجتُ على ذكرِ ما يُضادُّها ويُخالفُها، ممَّا يجدُرُ بكَ أن تَعْلَمَهُ، فإن لم تحرِص عليهِ. فهو لمن يهمُّه من الدُّعاةِ أهل السُّنَّة المشتغلينَ بتصحيح عقائد المسلمينَ، أو لمن جانَبَ الصَّوابَ من أَهلِ البدْعَةِ إقامةً للحجَّة ودَحضاً للباطلِ. ومن هؤلاءِ الناسِ من حدَّثني قائلاً: لقد شَدَّدتَ في كتابِكَ على الأشعريَّةِ خاصَّةً أكثر من غيرِهم!

فقُلتُ: نعم , لعموم البَلوى باعتقادِهم. وربَّما عَدَّى البعضُ ذلكَ التَّشديد إلى الأعيانِ، لكني نبَّهتُ في خاتمة كتابي هذا على أنَّ الحُكمَ على العقائد والطَّوائف لا يلزَمُ منه الحكمُ للمعَّينِ من الناسِ ممَّن ينتسبُ إليها. وأنا إنَّما ناقشْتُ العقائدَ لا الأفرادَ، ولذا تجدُ في كتابي هذا إطلاقَ ما أطْلَقَهُ أئمَّةُ السُّنَّة: (من قالَ كذا, فهوكافر) ,ولكنَّكَ لن تجدَ حُكمي على قائلٍ مُعيَّنٍ بالكُفر. نعم؛ قد نقلتُ أنَّ من السَّلَفِ مَن كَفَّرَ بعضَ أعيانِ الأفراد، غير أنَّ ذلكَ فيما عَلِموهُ وقامَت لهم به الحُجَّةُ على مَن كفَّروهُ، وإلا, فالأصلُ: أنَّ مَا اختلف فيهِ أهلُ القِبلةِ من العقائد، قد تكونُ العقيدةُ منه لا تُخرِجُ عن أهلِ السُّنَّةِ فحسْب، بل تُخرِجُ من الإِسلامِ كُلِّهِ، غير أنَّ هذا الحكمَ على العقيدةِ لا على عَيْنِ معتقِدِها, لجوازِ أن يكونَ معذوراً. ومِن أبطلِ الباطلِ وأظلمِ الظلمِ تنزيلُ النُّصوصِ العامَّةِ في التَّكفير وشِبهِهِ على الأعيانِ من المسلمينَ لمُواقَعَتِهم لذلكَ، خاصَّةً في هذا الزَّمَانِ لغَلَبَةِ الجَهْلِ، قبلَ أن تقومَ عليهِ الحُجَّةُ الشُّرْعِيَّةُ ممَّن هو أهلٌ لإقامَتِها, لا من الصبيانِ في العِلمِ وأتباعِ الخوارج، وتكون الحُجَّةُ قد بلغَت وفَهِمَها المُبَلَّغُ، في تفصيلٍ ليسَ لهذا موضعُهُ. والمرادُ أنَّ ما تناولتُ به أهلَ البدَعِ إنَّما هو الاعتقاداتُ والأقوالُ، معَ أنِّي أرى الوَصْفَ بالبدعةِ لمُواقِعِها ليسَ من بابِ (الحكمِ للمعَّين بالكُفر) لتعدّي الحُكم بالكُفر إلى الباطِن، بخِلافِ البِدْعَةِ؛ فإنَّها حكمٌ على

الظاهرِ من الأقوالِ والأفعالِ، والكلامُ في ذُلكَ كالكلامِ في تعديلِ الشُّهود وتفسِيقِهم، فإنَّهُ حكمٌ على الظاهر، والله أعلم. وثَمَّةَ نقدٌ خاصٌّ ورَدني عن بعض العُلَماء والفُضلاءِ، أذكرهُ مُجيباً عنه في نقاطٍ ثَلَاثٍ: * الأولى: ما ذكَرتُهُ هامشاً (ص268 الطبعة الأولى) من إنكارِ قولِ من قالَ: "لأبي الحَسن الأشعري تحولان"، وتقريرِ أنَّهُ تحوَّلَ عن الاعتزالِ إلى اعتقادِ ابنِ كُلاّبٍ، وثَبَتَ على اعتقادِ ابنِ كُلاّبٍ، يحسَبُهُ اعتقادَ الإِمام أحمد بن حنبل، فأشارَ بعضُ الفُضلاءِ ممَّن يُصحِّحونَ ذلكَ عنه بمُراجعة ذلكَ أكثر. فأقولُ لكم أيُّها الأحبَّة: لقد بَحَثْتُ وَفتَّشْتُ فلم أجدْ في الحقيقة إلا ما يؤكِّدُ ما ذكرتُهُ، وما زادَني البحثُ إلا يقيناً بصحَّةِ ذلكَ، بل جعلَ عندي مَيلًا لإِفرادِهِ وعقائِدِهِ من كُتُبِهِ وكلام العارفين به بالتصنيفِ لإِطلاعكم على حقيقةِ أمرهِ في عموم مسائل الاعتقادِ. * الثانية: ما ذكَرْتُهُ (ص: 157، 158 الطبعة الأولى) في إثباتِ صفةِ السُّكوتِ، على معنى أنَّ الله تعالى يتكلَّم إذا شاءَ، والكلامُ متعلِّقٌ بمشيئتِهِ واختيارِهِ، ويسكتُ إذا شاءَ، وأوردتُ لذلكَ ما وردت بهِ السُّنَّةُ والأثرُ، وختمتُهُ بالنَّصِّ التالي: قال شيخ الإِسلام: "فثبتَ بالسُّنَّة والإِجماع أنَّ الله يوصَفُ بالسُّكوتِ" (مجموع الفتاوى 6/ 179). والمأخذُ في هذا من جهاتٍ ثلاثٍ: 1) إثبات صفة السُّكوت، وأنَّ النصوصَ عليها غيرُ كافية.

هذا أورَده بعضُ الفُضلاء. وجوابه: إنْ كَانَ هذا الفاضلُ يعني أنَّهُ خبرُ آحاد، فهذا واسعٌ في هذه القضيَّة، وخبرُ الواحد المحتفّ بالقرائن يُفيدُ العلمَ، وأرى أنَّ القرائنَ قد أكًدتْهُ فيما ذكرتُ وأشرتُ إليه في موضعه. وإن وقع في نَفْسِهِ من جهة المعنى في إثباتِها؛ فهو من نفسِهِ أُتيَ، وإلا؛ فإنَّا نفهمُ أنَّ من تكلَّم باختياره ومشيئتهِ سكتَ باختيارِهِ ومشيئتهِ، وما دامَ اعتقادُنا هو تعلُّقُ الكلامِ بمشيئتِهِ عزَّ وجلَّ؛ فقد زالَ المَحذورُ. وقد ثبتَ عندنا الحديثُ به، فنُثْبتُهُ له تعالى كما نُثبِتُ له سائرَ صفاتِهِ، وأنَّهُ لا مِثْلَ له فيها، وقد ذكرتُ سلَفَي في إثباتِها، وما ائتمَمْتُ فيهِ بإمامٍ فليسَ عليَّ فيه من حَرَجٍ، ما دامت الحُجَّهُ من النَّصِّ قد قامَتْ عليه. 2) حول النَّصِّ الذي أوردته عن شيخ الإِسلام قال أحدُ الفُضلاءِ عنِّي: "دلَّس فيه، وهذه خِيانةٌ علميةٌ، فإِنَّهُ أفهمَ أنَّ شيخ الإِسلام هو ابن تيمية، وهذه العبارة ليست من كلام ابن تيمية، إنما نَقَلَها ابنُ تيمية عن شيخ الإِسلام أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهَرَوي). فأقولُ: ليسَ الأمرُ على ما توهَّمهُ الشَّيخُ الفاضلُ، فإنِّي أعني ابنَ تيميَّة حقيقةً، لم أدلِّس اللَّقبَ، وقد ذكرتُ في مقدِّمة كتابي أنِّي إذا ذكرتُ (شيخ الإِسلام). فإنِّما أعني ابنَ تيمية، وهذا النصُّ الذي ذكرتُ هو له لا لشيخِ الإِسلامِ الأنصاري، نعم؛ قد وردَ كلامُ ابن تيميةَ عقبَ كلام الأنصاري، إلا أنَّهُ مفصولٌ عنه، وبيانُ ذلك كما يأتي:

وردَ هذا النَّصُّ عقبَ النقلِ عن أبي إسماعيل الهَرَوي بعضَ النُّصوصِ في مسألةِ القرآن، وما وقع من الإِمام أبي بكر بن خُزيمةَ فيها مع بعض الأعيانِ، فأوردَ (مجموع الفتاوى 6/ 177) قال: "وقال شيخ الإِسلام أبو إسماعيل ... "، ونقل من كتابه في اعتقاد أهل السُّنَّة، ثمَّ قال: "وقال شيخ الإِسلام أيضاً في كتاب مناقب الإِمام أحمد ... "، ثم قال: "إلى أن قال: ثم جاءت طائفة ... "، إلى أن قال: "قال شيخ الإِسلام: فطارَ لتلكَ الفتنة ذاكَ الإِمامُ أبو بكرٍ، فلم يزل يصيحُ بتشويهِها، ويُصنِّفُ في رَدِّها، كأنَّهُ مُنذِرُ جيشٍ، حتى دَوَّنَ في الدَّفاتر، وتمكَّنَ في السَّرائر، ولقَّنَ في الكَتاتيب، ونقَشَ في المحاريب: إنَّ اللهَ مُتكلِّمٌ، إن شاءَ تكلَّمَ، وإن شاءَ سَكَتَ، فجزى اللهُ ذاكَ الإِمامَ وأولئكَ النَّفَرَ الغرَّ عن نُصرةِ دينِهِ وتوقير نبيِّهِ خيراً. قُلتُ: في حديث سلمان عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال ما أحلَّ اللهُ في كتابِهِ ... "". ثمَّ أخذَ في ذكر الأدلَّة المُثبِتة للسّكوت، ثمَّ ذكر عقب ذلك النَّصَّ الذي ذكرتُ، ثمَّ أخذَ في تفسيرِ السُّكوتِ، حتى قال (ص: 180): "ثم من تفلسف منهم كالغزالي في مشكاة الأنوار ... " الخ. فهذا فيه: 1 - تمييزُ ابن تيمية كلامَ الهَرَويّ في كلِّ فقرةٍ ينقلها بإضافتِها إليه صراحةً. 2 - الفَصْلُ بينَ كلامهِ وكلامِ الهَرَويّ بقوله: (قلتُ)، وهذه اللفظة

ظاهرة من غير تكلُّف أنَّها له لا للهروي، ومن زعم أنَّها للهروي؛ فهي دعوى بخلاف الظاهر. 3 - مَجيءُ ما بعد (قلتُ) على أسلوب ابن تيمية الذي يعرفُهُ كُلُّ مَن خبرَ كلامَه، مع بُعدٍ شديدٍ عن مُشابهة سياقة ما أورد ابنُ تيمية من كلام الهَرَويّ. 4 - ذِكْرُ أبي حامد الغَزالي وكتابه، وهذا لا يتهيَّأ عادةً أن يكونَ للهَرَويّ، لمن تأمَّلَ ترجمةَ كُلٍّ منهما، ومتى مات الهرويُّ، ومتى ابتدأ اشتهار الغَزالي وشُروعه في التَّصنيف. وفي هذا كفايةٌ، وليحذر الشَّيخ الفاضلُ من العجَلة في الحكم. 3) زعم فاضلٌ آخر أنِّي لم أتمَّ نقلَ كلام شيخ الإِسلام في هذه القضيَّة. وفي هذا إيهام من هذا الفاضل أنِّي كتمتُ من قولِهِ شيئاً له ضَرورةٌ في السِّياق، وليسَت الحقيقةُ كذلكَ، فإنَّ ابن تيميةَ أوردَ حَديثَي سلمان وأبي ثعلبةَ في إثباتِ صفةِ السّكوت، وأشارَ إلى كلام الفُقَهاء في دَلالة المنطوق والمسكوت، ثم قالَ العبارةَ التي ذكرتُها عنه، ثُمَّ قال: "لكن السكوتَ يكونُ تارةً عن التَّكلُّم، وتارةً عن إظهار الكلام"، ثمَّ وجَّه ذلكَ مستدلًا لمعنى السُّكوتِ لا في صفة الله تعالى، بل في عموم الكلام، ثمَّ ذكرَ أنَّ كِلا المعنيين للسكوتِ لا يصحّان على قولِ من لا يعتقد بتعلُّق كلامِهِ تعالى بمشيئته واختياره. وجميع هذا لا يَعنينا؛ لأنَّه ليس في صَدَدِ إثباتِ السُّكوتِ كصفةٍ،

فقد فرغَ من ذلكَ بما ذكرتُهُ عنه، وإنَّما كانَ في صَدَدِ مناقَشَةِ قولِ من لا يرى تعلُّقَ كلامِهِ تعالى بمشيئتهِ واختيارِهِ، و"الفتاوى" في متناول الجميع، فليُراجعها من شاءَ. * الثالثة: بلغني عن شيخٍ فاضلٍ آخر دعواه أنِّي أنقلُ من كلام الإِمام ابنِ القيِّم رحمه الله في كتابي هذا ولا أسمِّيه موهِماً أنَّ ذلك من كلامي. وأقول: هذه دعوى جائرةٌ، فأنا في هذا الكتاب لم يكن من مَراجعي كتُب ابن القيم إلا قليلاً، مُعْتَمِداً على نقلِهِ عن بعضِ العُلماء، وقد عزوتُ ذلكَ في هامشِ كتابي، وسمَّيتُ مَصدرِي. وأنا يعلمُ اللهُ لم أعمدْ في شيءٍ من كُتبي أوتحقيقاتي إلى نقلِ كلامِ أحدٍ من أهلِ العلمِ ولا أسمِّيهِ، ولكن لكثرةِ ما أقرأ لبعضِ الأئمَّةِ كشيخ الإِسلام ابن تيميَّة مَثلًا فإنَّ بعضَ عباراتِهِم رُبَّما علقت في ذهني، ولا أستحضرُ حالَ الكتابةِ أنَّها لفُلانٍ، سواء كان معيّناً أو مُبهَماً، فتدخل ضمنَ سِياقَتي، وهذا أمرٌ واسعٌ في كِتابَةِ العِلْمِ، وما من إمامٍ من أئمَّتِنا ممَّن نأتَسي ونَقتَدي بهم إلا وله مثلُ ذلكَ كثيرٌ، وهذا لا يَعودُ بالتُّهمةِ عليهم، وما هو بعَيْبٍ، ويكذبُ في العلمِ من ادَّعى أنَّ مِثلَ ذلكَ لا يقعُ له إذا اشتغلَ بالتَّصنيفِ. هذا في الألفاظ. أمَّا المَعاني؛ فنحنُ لا نكادُ نتكلَّمُ بِشَيْءٍ لم نُسْبَق إليهِ، ولكنَّا نجتهدُ في إنشائِهِ.

وإنَّما الخيانةُ في العلمِ أن يُنْقَلَ الكلامُ البيِّنُ الفَصْل والذي لم يدخُلْهُ إنشاءُ الكاتِبِ من غيرِ عزْوٍ إلى قائلهِ. وإنِّي ليَحزُنُني كثيراً أن أجدَ شُيوعَ ذلكَ عندَ كثيرٍ من الكُتَّابِ والمؤلِّفينَ سابقاً ولاحقاً. وقابَلَ هؤلاءِ -وللأسفِ- طائفةٌ حملتْهم في الغالبِ خُصوماتٌ خاصَّةٌ على تتبُّعِ عَوراتِ خُصومِهم من الكُتَّاب، فأفحَشوا حتَّى عَدُّوا النَّقْلَ المَعْزُوَّ إذا كَثُرَ سَرِقَةً، وهذا ظُلْمٌ وإجحافٌ؛ فإنَّ عزْوَ الكلامِ إلى قائله يُبَرِّىءُ النِّيَّةَ ولا يلبسُ على القارىءِ. هذا جملةُ ما بلغني من صوَرِ النَّقدِ لكتابي، وقد عَلمتَ ما فيها، ولله الحمدُ والمِنَّةُ. وهذه هي الطبعةُ الجَديدةُ له، وهي الثانية، بعد أن نَفِدَت نُسَخُ طبعته الأولي، وكَثُرَ الإِلحاحُ على طلبِهِ، وقد أصلحتُ فيها بعض خلَل الإِنشاءِ في مواضعَ يسيرةٍ وقعتْ في نشرِتهِ السابقة، سِوى المقدِّمة؛ فقد أصلحتُ فيها بعضَ السِّياقةِ، وزِدتُ يَسيراً بما يُحقِّقُ المقصودَ ويُسدِّدُ القَوْلَ. وحريٌّ بالتَّنبيه أنِّي لا آذنُ بشر كتابي هذا لصالح أيِّ جهةٍ؛ إلا بإذنٍ مكتوبٍ صريح مِنِّي، ولم يصدُر من قبلُ بإذني إلا طبعةٌ واحدةً، على ظهر غلافِها عبارة (طبع في مطابع دار السياسة - الكويت). وقد طلبَ منِّي الإِذنَ بتصويرهِ بعضُ الإِخوة السَّلفيينَ بمصر والإِسكندرية بواسطة أحد الأصحاب، فذكرتُ أنَّنا بصَدَدِ إعادةِ نشرِهِ نشرةً

جديدةً، فلا يعجل الإِخوةُ بذلكَ، ففوجئتُ من بعدُ من قِبَلِ هذا الصاحبِ أنَّهم قد صوَّروا الكتابَ وباعوه بسعرِ التَّكلفةِ لحاجتهم الماسَّة إليه، فساءَني ما فعلوا، وما كنتُ أحبُّ منهم ذلكَ، ولكن قَدَّرَ الله وما شاءَ فعلَ، وإنِّي أحرِّجُ عليهم وعلى غيرهم مثل هذا الصَّنيع بغير الشَّرط الذي تقدَّم. وهذه الطبعة الثانية، أسألُ اللهَ تعالى أن يُبارِكَ فيها أكثرَ من سابقَتِها، وأن يكتُبَ لي بذلكَ القَبولَ عندَهُ ووالديَّ وأهلِ بيتِي، هو المُستعان وعليه التُّكلان. بريطانيا - ليدز في 1 محرم الحرام 1415 هـ الموافق 11/ 6/ 1994 م وكتب أبو محمد عبد الله بن يوسُف بن عيسى اليعقوب الجُدَيع

مقدمة الكتاب

مقدمة الكتاب الحمد لله؛ نحمدُهُ ونَسْتَعينُه ونَسْتغْفِرُهُ، ونعوذُ بالله من شرورِ أنْفُسِنا وسيّئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ الله؛ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِل؛ فلا هادِيَ له. وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك لَه، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وسلَّم تسليماً كثيراً. أمَّا بعد ... فإنَّ الله عزَّ وجلَّ امتنَّ على عبادِهِ أعظمَ المنَّةِ، فأرسلَ إليهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتِهِ، ويبصِّرُهم بسُبُلِ مَرْضاتِهِ، ويَهديهم بهِ إلى صِراطٍ مُستقيم، ولم يكنْ للعبادِ غُنْيَةٌ عن هذه النِّعمةِ؛ لأنَّهم لولاها لَوُكِلوا إلى عُقولهم وأهوائهم، ولو كانَ ذلكَ كذلكَ؛ لضَلّوا السَّبيلَ، وما أمكنَ أحَداً من الخَلْقِ أن يَعْلَمَ التَّحريمَ من التَّحليلِ، ولا الغيبَ من الشَّهادَةِ، ولا عُرِفَ ثَوابٌ ولا عِقابٌ، ولا بَعْثٌ ولا حِسابٌ، ولا تَمَيَّز حقٌ من باطل، ولا كُفْرٌ من إيمانٍ، ولا مَن يَعْبُدُ إبليسَ مِمّن يعبُدُ الرَّحمن، فيكونُ خلقُ الخَلْق عَبثاً لا حكمةَ وراءَه، وهذا المعنى يتنزهُ عنهُ الحَكيمُ الخَبيرُ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى الله الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا

هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116]، {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27]. فكان الرسُلُ هم الحكّام على أقْوامِهم بما يُوحى إليهم من الشَّرائع؛ إذْ كانوا هم الوَسائطَ بين الرَّبِّ تعالى وبينَ سائرِ خَلْقهِ، يُبَلِّغون رِسالات ربّهم، ويقوّمون سلوكَ أقوامِهم. فلَمْ يَدَع العليمُ الخَبيرُ تقويمَ السُّلوك لعَقْل الإِنسانِ المجرَّد، وإنَّما جعَلَهُ أداةً يَعْقِلُ بها مُرادَ ربِّه تعالى؛ فهو تَبَعٌ لوَحْي الله وتشريعهِ، ليس له حَقُّ الابتداءِ والإِنشاءِ للأحكام والتَّشريع. وهذا المعنى أدركَه الرُّسلُ وأتباعُهم، فكانوا على الصِّراطِ المُسْتقيم، ورفَضَتْهُ طوائفُ من الخَلْق، فخرَجوا عن طريقةِ الرّسل، وحادُوا عن الحَقّ المُبين. ولقَدْ علَّق ربُّنا تعالى النجاةَ والفلاحَ والفوزَ بطاعةِ الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم - واتّباعِهِ: كما قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51 - 52] وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13 - 14]. وكما قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 71]. وقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أمَّتي يدخلون الجنَّةَ إلَّا مَنْ أبى". قالوا: يا رسولَ الله! ومَن يأبى؟ قال: "مَن أطاعَني دخلَ الجنَّةَ، وَمَن عَصاني فقَدْ أبى" (¬1). وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مَثَلي وَمَثَلَ ما بعَثَنَي الله بهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى قَوْمَهُ، فقالَ: يا قَوْم! إنّي رأيتُ الجيشَ بِعَيْنَىَّ، وَإنّي أنا النَّذيرُ العُرْيانُ؛ فالنَّجاءَ! فأطاعَهُ طائفةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فأدْلَجوا، فانطَلَقوا على مُهْلَتِهِمْ، وكذّبَتْ طائفةٌ منهم، فأصبحوا مكانَهم، فصبَّحَهم الجَيْشُ، فأهلكَهم واجْتاحَهم؛ فذلك مَثَلُ مَنْ أطَاعَني واتَّبَعَ ما جئتُ بهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصاني وَكَذَّبَ ما جِئْتُ بهِ مِنَ الحقّ" (¬2). فهما طريقانِ: اتِّباعُ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- وطاعَتُهُ، أو اتِّباعُ الهَوى، وليسَ من ¬

_ (¬1) حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 361 والبخاري 13/ 249 من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعاً. (¬2) حديث صحيح. أخرجه البخاري 11/ 316 و 13/ 250 ومسلم (2283) من طريق أبي أسامة عن بُرَيد عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- به.

سَبيلٍ إلى ثالثٍ، فمَن لم يتَّبعِ الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم-؛ فلا بُدَّ أنْ يَتَّبعَ الهَوى، وقدْ قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]. فاتِّباعُ مَحْضِ العُقولِ دونَ ما جاءَ به الرَّسولُ اتِّباعٌ للهَوى، وعُدُولٌ عنِ الصِّراط المُستقيم. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. فالصِّراطُ المستقيمُ واحدٌ، والحَيْدُ عنه يكونُ إلى سُبُلٍ متشعِّبةٍ، ولقَدْ صوَّر ذلكَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أحسَنَ تصويرٍ بأحْسَنِ عِبَارةٍ؛ فعن عبد الله بن مَسعودٍ رضي الله عنه قال: خَطَّ لَنا رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - خطّاً، ثُمَّ قالَ: "هذا سبيلُ الله". ثمَّ خَطَّ خُطوطاً عن يَمينهِ وعن شِمالِه، ثمَّ قال: "هذه سُبُلٌ مُتفرِّقةً، على كلِّ سَبيلٍ منها شيطانٌ يَدْعو إليه". ثُمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3). ¬

_ (¬3) حديث صحيح. أخرجه الطيالسي رقم (244) وأحمد رقم (4142، 4437) والنسائي في "الكبرى"- كما في "تحفة الأشراف" 7/ 49 - والدارمي رقم (208) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (17) وابن نصر في "السنة" ص: 5 والبزار رقم (2210 - كشف الأستار) وابن حبان رقم (1741، 1742 - موارد) وابن وضاح في "البدع" ص: 31 والحاكم 2/ 318 وابن الطبري في "السنة"رقم (92 - 94) والبغوي في "شرح السنة" 1/ 196 من طرق عن عاصم بن أبي النُّجود عن أبي وائل عن عبد الله به. وقال الحاكم "حديث صحيح الإسناد". قلت: إسناده جيد.

ولقد كانتْ هذِهِ الأمَّةُ مرحومةً في أوَّلِ عَهدِها، جَمَعَها الله على الهُدى، وألَّفَ بين قُلوبِ أفرادِها، وحَماها من الهَوى، حيثُ استقامَت على طاعةِ الله ورسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، أولئكَ أصحابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، لمْ يكونوا يَعْرِفُونَ غيرَ اتِّباعهِ وتَوْقيرهِ واتِّباع النُّور الَّذي أنْزلَ معَهُ، مُستسلمينَ لِما جاءَ به من الحقّ، لم يكنْ لهم قوْلٌ معَ قولِهِ، ولا اعتراضٌ على حكْمهِ. وصَدَق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حين قالَ: "إنَّ الله نَظَرَ في قلوبِ العِبادِ، فوجَدَ قلبَ محمّدٍ -صلى الله عليه وسلم- خيرَ قلوبِ العبادِ، فاصْطَفاه لِنَفْسِهِ، فابتعثَهُ برسالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ في قُلوبِ العبادِ بَعد قَلْبِ محمّدٍ، فوَجَدَ قلوبَ أصحابِهِ خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعَلهمَ وُزراءَ نبيِّهِ، يقاتِلَونَ على دينِهِ، فما رَأى ¬

_ = وقد رواه أبو بكر بن عياش على هذا الوجه عن عاصم عند غير واحد ممَّن ذكرت، ورواه عن عاصم عن زر عن عبد الله، أخرجه النسائي في "الكبرى" - كما في "تحفة الأشراف" 7/ 25 - وابن نصر ص: 5 والحاكم 2/ 239. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وإني أحسبه خطأ من أبي بكر بن عياش، ففد تابَعَ عاصمًا عليه الأعمش فرواه عن أبي وائل عن عبد الله. أخرجه البزار رقم (2211 - كشف الأستار) وسنده صحيح. ورواه الربيع بن خثيم عن عبد الله، أخرجه البزار رقم (2212) بسند صحيح. وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله. أخرجه أحمد 3/ 397 وابن ماجة رقم (11) وابن أبي عاصم رقم (16) وابن نصر ص: 5، 6 وابن الطبري رقم (95) وإسماعيل بن الفضل الأصبهاني في "الحجة" ق 75/ أمن طريق مجالد عن الشعبي عن جابر به نحو مرفوعًا. قلت: وإسناده لين، لضعف في مجالد. قال الحكم: "وشاهده لفظًا واحدًا حديث الشعبي عن جابر من وجه غير متعمد".

المسلمون حَسَنًا؛ فهو عندَ الله حَسَنٌ، وما رَأوْا سيئًا؛ فهو عند الله سيّئٌ" (¬4). فَخَلَفَ من بَعْدِهم خَلْفٌ لم يَقْنَعوا بوَحْي الله وتشريعِه، ورَأوْا هناكَ حاجةً إلى التَّصحيحِ والزِّياةِ والحَذْفِ، فأعْمَلوا العقولَ في الوَحي المَعصوم، واستدْرَكوا على أحكام الحيِّ القيّوم، ففرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا، فتشعَّبَتِ السُّبُلُ بالناس، ووقع ما كانَ يخشاهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على أمتهِ من أئمَّةِ الضَّلالةِ: كما قالَ: "إنَّما أخافُ على أمَّتي الأئمةَ المُضِلِّين" (¬5). ¬

_ (¬4) أثر جيد الإسناد. أخرجه أحمد رقم (3600) والبزار رقم (130 - كشف الأستار والطبراني في "الكبير" 9/ 118 من طريق أبي بكر بن عياش حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود به. قلت؛ وهذا إسناد جيد، وعاصم هو ابن بهدلة. ورواه الطيالسي رقم (246) والطبراني 9/ 118 عن المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله والأوَّل أصحّ، فإن المسعوديَّ اختلط، وروى عنه هذا الحديث الطَّيالِسيُّ وعاصم بن علي، وقد أخذا عنه بعدما اختلط. للحديث إسناد آخر عن ابن مسعود. أخرجه الطبراني 9/ 121 من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله، وإسناده حسن. وإسناد ثالث عن عبد الله أيضًا. أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" 1/ 167 من طريق الأعمش عن مالك ابن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله بآخره. (¬5) حديث صحيح.

وكَما قال: "إنَّ مِمَّا أخشى عليكم شهَواتِ الغَيِّ في بُطونِكم وفُروجِكم ومُضلَّاتِ الهوى" (¬6). فوقَعَ الاختلافُ، وعظُمَ في الأمَّةِ، فأعْرَضَ أكثرُها عن الكتابِ، وضَرَبَ آخرونَ آياتِهِ ببعْضِها، وجادَلوا بالباطِل ليُدْحِضوا به الحقَّ، وزيَّنَ ذلكَ إبليسُ في أعيُنِهم فرَأوْه حَسَنًا، وحسِبوُه عَيْنَ العَقْلِ والاستقامةِ. ولقَدْ أخبرَ المعصومُ -صلى الله عليه وسلم- عمَّا تؤولُ إليه حالُ الأمَّةِ من بعدِه، ودلَّ على ما فيهِ النَّجاةُ والسَّلامةُ: فعَن العرباض بن ساريةَ رضي الله عنه؛ قال: صلَّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصُّبحَ ذاتَ يوم، ثمَّ أقبلَ علينا، فوعَظَنا مَوْعظةً بليغة؛ ذَرَفَتْ منها العُيونُ، وَوَجِلَتْ منها القُلوبُ، فقال قائلٌ: يا رَسولَ الله! كأنَّ هذه مَوْعظةُ مُوَدِّعٍ؛ فماذا تعهَد إلينا؟ فقال: "أوصيكُمْ بِتَقْوى الله، والسَّمْعِ والطَّاعةِ، ¬

_ = أخرجه أحمد 5/ 278، 284 وأبو داود رقم (4252) والترمذي رقم (2229) والدارمي رقم (215، 2755) من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قِلابة عن أبي أسماء عن ثوبان به مرفوعًا، وبعضهم يذكره ضمن حديث. قلت: وإسناده صحيح، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وله شواهد صالحة الأسانيد من حديث شداد بن أوس وعمر بن الخطاب وأبي ذر وأبي الدرداء ... (¬6) حديث صحيح. أخرجه أحمد 4/ 420، 423 والبزار رقم (132 - كشف الأستار) وابن أبي عاصم رقم (14) والطبراني في "الصغير" رقم (511) وغيرهم من طريق أبي الأشهب عن أبي الحكم البُناني عن أبي بَرْزة الأسلمي مرفوعًا به. قلت: وسنده صحيح.

وإن كانَ عبدًا حَبَشيًّا؛ فإنَّهُ مَن يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي؛ فسَيرَى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشدينَ المَهْديِّين؛ فتمسَّكوا بها، وعضّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلةٌ" (¬7). فأنبأ أنَّ أمَّتَهُ ستختلفُ من بعدهِ اختلافًا عَظيمًا، وما ذلك الاختلافُ إلاَّ بسَبَبِ ما يَدْخل علَيْها من البِدَع والأهواءِ. وأنْبأ أنَّ المَخْرَجَ من ذلكَ الاعتصامُ بِسُنَّتهِ وسُنَّةِ الخلفاءِ الرَّاشدينَ من بعدِه، ذلك لأنَّهم على الهُدى المُستقيم. وحذَّرَ من سَبيلِ المُتفرِّقين المختلِفين أهْلِ الأهواءِ والبِدَع. ولو كان هناكَ سبيلُ سَلامةٍ يُصارُ إليه غيرُ هذا الذي ذكَرَ؛ لدَلَّ عليه أمَّته، ولأرشَدَهم إليه؛ لِما وصفه الله تعالى به حيث قال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فكان في هذا حُجَّةٌ على أنَّ السَّلامةَ لا تكونُ إلاَّ باتِّباعِ السُّنَّة وسَبيلِ السَّلَف، وتَرْكِ البدَع وسُبُلِ الخَلَف. وَلَقَدْ أنْبأنَا عن تَفَرُّق هذه الأمَّةِ من بعْدهِ، ودلَّ على طائفةِ أهْلِ الحَقِّ ليُحْتذى مِثالُها، فقالَ: "ألاَ إنَّ مَنْ قبلَكُمْ من أهْلِ الكتابِ افْتَرقوا على ثنتين وسَبعين مِلَّة، وإنَّ هذهِ المِلَّةَ ستفترقُ على ثَلاثٍ وسَبعين، ثنتانِ وسبعونَ في النَّارِ، وواحدةٌ في الجَنًةِ، وهي الجَماعةُ، وإنّه سَيخرجُ مِنْ ¬

_ (¬7) حديث صحيح جليل، أخرجه أحمد وأصحاب السنن إلاَّ النسائي، ولتفصيل تحقيقه موضع آخر.

أمَّتي أقْوامٌ تَجارى بهمْ تِلكَ الأهواءُ كما يَتجارى الكَلَبُ لصاحبهِ (أو: بصاحبهِ) لا يَبْقى منه عِرْقٌ ولا مَفْصِلٌ إلاَّ دَخَلَه" (¬8). وإنَّمَا عَظُمَ شَرُّ هذه الطوائفِ بِسَبَبِ ما خرَجوا به عن الشَّريعةِ، من الخَوْضِ في آياتِ الله بغيْرِ الحقّ، والقَوْلِ على الله بِغيْرِ علْمٍ، وتحريفِ الكَلِم عن مَواضِعِه، ففارَقوا بذلكَ الكتابَ والسُّنَّة، وارْتَضَوا لأنفُسِهم مناهِجَ مِن وضْع عُقولِهم وإمْلاءِ أهْوائِهم، وعصَمَ الله طائفةَ أهلِ الحقِّ باتِّباع الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- وما جاءَ به وما كانَ عليه الجَماعَةُ أصحابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّهُمْ رَأوا ضَلاَلَ سائِر الطَّوائفِ وخُروجَها عن مَنْهَجِ الصَّحابَةِ الكِرام الذين كانوا أعْلَمَ الأمَّةِ بما جاءَ به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-، وأبعدَها عن مُحْدَثاتِ الأمورِ، فرفَعَ الله بهذِهِ الطائفة لِواءَ أهْل السُّنَّةِ والجَماعةِ، وَقَمَعَ بهم أهْلَ البِدَع، فأظْهروا دلائلَ الوَحْي الشَّريفِ، وأبانوا عنها بالفَهْمِ السَّديدِ، وصَوَّبوها سِهامًا على المُبْتَدِعَةِ في الأصولِ والفُروعِ، ولم يكن لهم أسوةٌ يأتَسون به إلَّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا طائفةٌ ينْتَمونَ إليها إلاَّ أهْل السُّنَّة والجَماعةِ، ولا خُطَّةٌ يَنْتَهِجونها إلاَّ خُطَّة سَلَفِهم أصحاب النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، والتابعينَ لهم بإحسانٍ، فكانوا بهذا أقْوَمَ النَّاسِ سبيلًا، وأحْسَنَهم طَريقًا. ولقدْ كانَ من أعْظَم ما حصَلَ فيه الاختلافُ ما أحْدثَتْهُ المُبْتَدعةُ من ¬

_ (¬8) حديث صحيح. أخرجه أحمد 4/ 102 وأبو داود رقم (4597) من حديث معاوية بن أبي سفيان مرفوعًا به، وسنده جيد. وله شواهد عن عوف بن مالك وأبي هريرة وأنس وغيرهم، يصح بها الحديث. وقوله "الكَلَب": داء يقع للإنسان يشبه الجنون، يكون بسبب عضّ الكَلْب الكَلِب.

الخَوْضِ في ذاتِ الله تعالى وأسْمائِهِ وَصِفاتِهِ، بل كانَ هذا أعْظَمَ ما وقَعَ من الفِتَنِ التي ابتُليت بها هذهِ الأمَّةُ، فحصَلَ إلحادُ طوائفَ في أسماءِ الله وصفاتهِ، وتكذيبٌ لِما جاءَ به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-، ورَدٌّ للمَقطوع به من شَرائعِ المُرْسَلينَ، مما وقَعَ به شرٌّ عَظيمٌ، وفَسادٌ كبيرٌ. وكانَ من أخَصّ تلكَ القضايا التي طارَ في الأمَّة شَرَرُها، وعَظُمَ في النَّاس خَطَرُها، ما أحْدَثَتْهُ الجَهميةُ -أضلّ الطوائفِ الخارجةِ عن أهْلِ الحق- من وصْفِ الباري تعالى بالنقائِص، وتعْطيلِ صفاتِ الكَمال التي أثْبَتَها لنفسهِ، وأثبَتَها له رسولُه -صلى الله عليه وسلم-، أشدّ ممَّا وقَعَ من اليهودِ والنَّصارى. ومِن أبْرَزِ ذلكَ اعتقادُهم أن لا كلامَ لله على الحَقيقة، فسَوَّوْهُ بالأصنام التي لا تَرْجِعُ لعابِديها قَوْلًا، ولا تَمْلِكُ لهم ضَرًّا ولا نَفْعًا. وأرادوا بذلك إبطالَ الرِّسالةِ؛ فإنَّ الرُّسُلَ إنَّما بُعثوا ليبلّغوا رسالاتِ الله؛ فحين ينتفي أن يكونَ لله كلامٌ؛ فقد انتفى أنْ يكونَ لَه وَحْيٌ؛ لأنَّ الذي يُوحى إنَّما هو كلامُه وتشريعُه، وإذا انتفى أنْ يكونَ لَه وَحْيٌ؛ فالرَّسول رسولُ مَن؟ وما يوحى إليه وحْيُ مَن؟ فلِعِظَم الخُطورةِ بسبَب هذه القضيَّة، خاصَّةً وأنَّ البدعَ فيها تشعَّبت وكَثُرت، ودينُ الإِسلام يقومُ على صِحَّة الاعتقادِ فيها، رأيتُ لذلكَ تناوُلَها بالخُصوصِ من بين سائر مَسائل الاعتقاد في هذا الكتاب. وأكَّدَ ذلك عندِي ما دَخَلَ الأمَّة -بسبَب تلبيس أهل البِدَع- من تَهوين شأْن لهذه القضيَّةِ الخطيرة، بل وإهمالِها، مَعَ أنَّ للبدْعَة رؤوسًا لا زِلْنا نَراهم يُشيعون ما يُضادُّ الاعتقادَ الصَّحيحَ وينشرونَه، ويَدْعونَ إليه في أكثرِ بلادِ المُسلمينَ، ونَرى أكثرَ إخوانِنا الدُّعاةِ في العالَم الإِسلامِيّ لم

يستوعِبوا خُطورةَ هذا الأمْرِ، فَهُمْ يُهوِّنونَ من شأْنِ أهل البدَع، وربَّما اعتذَروا عنهم، وربَّما حَسِبَ بعضُهم هذه القَضايا ثانويةً، بل ربَّما حَسِبَ آخرونَ أنَّها ليستْ من أساسياتِ الدِّين، وآخرون ظنُّوا أنَّ هذه القضيَّة، بل عُموم ما يتعلَّق بأسماءِ الله وصفاتِهِ لم تَعُدْ من المَسائل ذاتِ الخُطورة، وفي الواقع هناك مسائل أولى بالاعتناء بها منها، ورُبَّما قالَ البعضُ: لقد ذهبَ عهدُ المعتزلةِ والفتنةِ التي لَقِيَها الإِمامُ أحمد، والمُسلمونَ الآن يتعرَّضونَ لأنْواع أخْرى من الفِتَن ... إلى غير ذلك مما يُشْبِهُ هذا من التلبيسات التي يُلْقِيها الشَّيْطانُ على ألْسنةِ هؤلاء. وغفلوا عن كونِ مَعْرِفَةِ ما يتعلَّقُ بأسْماءِ الله تعالى وصفاتهِ من الأصولِ التي بعثَ الله بها رسُلَه، وأنْزَلَ بها كُتُبَه، والفِتَنُ التي حَصَلَتْ بسَبب أهْل البِدَع لم تُحْدِثْ هذا النَّوْعَ من الاعتقادِ، وإنَّما نبَّهتْ أهْلَ الحَقِّ واستنْفَرَتْهُمْ لمُواجَهةِ الباطل، فقابَلوهم بحُجَج الكتاب والسُّنَّةِ، لا بالآراء المُحْدَثَةِ، والمَعقولاتِ الفاسدةِ؛ فإنَّ الأدلَّةَ على اعتقادِهم من كتابِ الله وسُنَّةِ نَبِيّه -صلى الله عليه وسلم- كانت موجودةً قبلَ وجودهم لإِثباتِ اعتقادِهم، ولَمْ يكن لأهلِ السُّنَّةِ أَتْباعِ السَّلَفِ أنْ يَبْتدعوا أصولًا لم يَرِدْ بها كتابٌ ولا سُنَّةٌ، ولو كانوا كذلك، فبأيِّ شَيْءٍ إذاً فارقوا مَنْ سِواهم من الطوائِف؟ وإني قائلٌ لهؤلاء: أيّ شَيْءٍ يكون هذا الَّذي رأيتُم تقديمَ الاشتغالِ به على اشتغالِكم بمَعْرِفةِ أصْل الأصول، وهو معرفةُ الربّ تعالى، الأساسُ الَّذي يرتبط به قبولُ كل عمَل، وعليه تنبني سَلامةُ الدّين؟ صَحَّحوا الأصولَ ثم انتقلوا إلى الفروع. واعلَمْ أنَّ السَّبَبَ الأعظمَ في وقوعِ مثلِ ذلك هو الجهلُ باعتقاد

السَّلَف، وأن لهؤلاء -أو كثيرًا منهم- لَمَّا رأوا كتب الأشعريةِ والماتُريدية ومِن قبلهم المعتزلة، وما طَفَحَت به من الطرقِ الكلاميةِ والمناهجِ الفلسفيةِ لِإثبات اعتقاداتهم؛ ظنُّوا هذا اعتقادَ أهل السُّنَّة، وأكَّدَ ذلك أنَّهم يرَوْنَ هذه الطَّوائفَ ينتسبُ أصحابُها إلى السُّنَّة، خاصَّةً الأشعرية والماتُريدية، ويذكرونَ اعتقاداتِهم على أنَّها إعتقاداتُ أهل السُّنَّة، وكذا حينَ رأوا وقوعَ طائفةٍ من الفُضلاءِ في مُوافقةِ تلكَ الاعتقاداتِ؛ قالوا: كيفَ يُمكنُ أنْ تكونَ هذه العقائدُ مُبتَدَعةً وهي عقائدُ هؤلاءِ الجِلَّةِ؟! غافلينَ عن الأصْلِ في ذلك: (الحقُّ لا يُعرَفُ بالرِّجالِ، اعْرِف الحقَّ تعرِفْ أهلَه). فلهؤلاء نقولُ: ليسَ اعتقادُ السَّلَفِ والأئمَّةِ على ما ظننتُم، وليس لهؤلاء الذين ظننتُم هم أهلَ السُّنَّة أتباع السَّلف، وما في كُتبهم من الكَلام والجَدَلِ؛ فليس هو من طريقة السَّلف؛ فاحْذَروا أن تنقلبَ عليكم الحقائقُ فتظنُّوا الباطلَ حقًّا، والعلمُ اللازمُ للخلقِ مبسوطٌ في الكتابِ والسُّنَّة وكلام السَّلَفِ أحسنَ بَسْطٍ وأيْسَرَهُ، ولو أنَّكم تبيَّنتُم ذلكَ؛ وجدتموهُ؛ فليسَ من يقولُ: "نعتقدُ كذا ونُثبتُ كذا وننفي كذا لقولِ اللهِ ولقولِ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-"؛ كمَن يقول: "نعتقدُ كذا على اعتقادِ أبي الحَسَنِ الأشعري وأبي منصورٍ الماتُريدي"، أو فُلانٍ وفُلانٍ، فيفهَمُ الناسُ أنَّ اعتقادَهم هو الحقُّ، ومن ثَمَّ يُسمَّى أتباعُهم (أهل الحق) و (أهل السُّنَّة) وغير ذلك من الألقابِ والأوصافِ، فيكونُ الحقُّ عند العامَّةِ ما صَدَرَ عن طريقهم، وما عَداه فهو الباطلُ. ولسنا نُطالبُكم إلّا بعَرْضِ عقائِدِ الطوائفِ على الكتاب والسُّنَّة والآثار الصَّحيحةِ عن السَّلَفِ، ومثلما تبيَّنتُم اعتقاداتِ الرافضةِ والخوارج

ونحوهم، فتبيَّنوا جميعَ الاعتقاداتِ التي تُنْسَبُ إلى أشْخاص أو طوائف، حتى يحكمَ فيها الكتابُ والسُّنَّة على طريقةِ السَّلفِ من الصحابة وأتباعهم. واعلَموا أنَّ كُلَّ لَقَبٍ أو وَصْفٍ لطائفةٍ أو جَماعةٍ لا يصحُّ أن يُقضى به على غيرِها حتى تَرِدَ به الشريعة، وإن كانَ التقليدُ مذمومًا في فروعِ المسائِل؛ فأحْرَى أنْ يُذَمَّ في أصولِها. ولعلَّكَ بهذا تُدركُ ضَرورةَ الاجتهاد لمعرفةِ حقيقةِ المُعْتقد السَّلَفي، للتفريق بينه وبين اعتقاداتِ أصحابِ البِدَع. ولعلَّه يحدو بكَ أكثر إلى طلب معرفة الاعتقادِ الصَّحيح ما يَشيعُ ويَنْتشرُ في بلادِ المسلمينَ مِنْ عَقائِد أهلِ الزّيغِ، الذين يتظاهَرون زورًا أو غفلةً بالانتسابِ إلى أهل السُّنَّةِ، وتُقَرِّرُ كتبهم لتُدَرَّسَ في مَعاهِد المُسلمين وجامعاتِهم على أنَّ ما فيها هو اعتقاد أهل السُّنَّة، كَما قد رأيْناه وجرَّبناهُ، فقَدْ كان مُقرَّرًا علينا في أوَّل أيام الطلب ونحنُ في مقتَبل العُمُر أنْ نَدْرُسَ "شرح العقائد النسفية" للسَّعْد التفتازاني، ولم نكن حينَها قد عرَفْنا عقيدةَ السَّلَف، ولكن الله تعالى مَنَّ علينا بشيخ فاضل هو شيخُنا أبو عُمَر عادل ابن كايد البصري رحمه الله (¬9)، فشرحَ لنا اعتقادَ السَّلَف، ونَبَّهَنا لِما كُنَّا ¬

_ (¬9) كان رحمه الله تعالى أفضل شيوخنا، لَمْ أرَ فيهم مثله، سلفيًّا في الاعتقاد، نابذًا للتقليد، معظِّمًا لأئمة السُّنَّة، يقفو أثرَ شيخ الإِسلام ابن تيمية، وكان علاّمةً في الحديث والتفسير واللّغة، وعنه تلقّيْنا عِلمَ الحديث والعقيدة، وهو الذي حبّبَ الله إلينا علمَ السُّنَّة والحديث بسَببه، وقد نَفَعنا الله به كثيرًا، وكانت فيه بذاذةٌ وزهادةٌ، وصبرٌ على الشرح والإيضاح، توفي سنة (1405 هـ) رحمه الله، وأدخله الجنة ووقاه من النار بمنّه وكرمه.

نواجههُ من عقائدِ الماتُريديَّة المُخالفة لاعتقادِ أهل السُّنَّةِ؛ فكيفَ يظنُّ أنْ يَنْشَأ الطَّلبةُ في جامعةٍ أو معهدٍ يَتَلقَّوْنَ الاعتقادَ فيه عن مبتدعٍ؟! فالله المستعانُ ولا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بالله. وكتابي هذا الذي بين يَدَيْكَ للتَّنبيه على خُطورَةِ البِدَع وأهلِها، والتَّبْصِير بالاعتقادِ السَّلفيّ الصَّحيح، على ما سَتراه مبسوطًا، إن شاء الله. ومن أعْظَم ما حَدا بي لتأْليفهِ ما رأيتُه من كثيرٍ من إخْوانِنا من الحَيْرَة في شَأْنِ أهل البدع، خاصَّةً الأشعريةَ الذين ابتُلينا بهم في لهذا الزَّمان، يأْتي الواحدُ منهم في الجامعاتِ الإِسلاميةِ أو غيرِها متستِّرًا ببدعتهِ وضَلالَتهِ، فيُمَوِّهُ على الطلَبَة المتعلِّمينَ، بَلْ وعلى عامَّةِ المسلمينَ، ورُبَّما صَنَّفوا المصنَّفات، ونشروا الكتُبَ، وفي ثَناياها سُمومُهم التي تَفْتِك بالعقيدة السَّلَفيَّة فَتْكًا، وإخوانُنا في حَيْرَة: الأشعريةُ من أهْلِ السُّنَّة؟ أمْ من أهْلِ البِدْعَة؟ مغترِّينَ بما يُشوّشُ عليهم به كثيرٌ من الناسِ بأن في الأشعريةِ أئمَّةً؛ كفُلانٍ وفلانٍ، فكيفَ يصحُّ وصْفُهم بالبدعةِ؟! سُبْحان الله! لقد كانَ الحارثُ المُحاسبيُّ مذكورًا بالعلْم والزُّهْدِ والعِبادة، ومعَ ذلك فقد تكلّمَ فيه إمامُ أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل، ونفّرَ عنه، وحذَّرَ منه لبدعتهِ، وقد كشَفنا في كتابنا هذا عن عدّة أعيان كأبي بكر الباقلاني وغيره، صرَّحوا بما يُخْرِجُهم عن جُمْلَة أهل السُّنَّة، معَ ما عُرفوا به من العلْم والدّيانة، ولم يَزَلْ هَدْيُ سَلَفِنا في ذلك مشهورًا، وكلامُهم فيه مذكورًا، في التحذير من البِدَع وأهلها؛ صيانةً للعقيدة والشريعة. ولقَدْ فرضَ الله تعالى العَدْلَ والإِنْصافَ، ومِنْ أعْظَم ذلك التفريقُ

بين أهْلِ البدْعةِ وأهْلِ السُّنَّة، لتُعْلَمَ طائفةُ أهْلِ الحقِّ فتتّبعَ، وتُحْذَرَ طوئفُ أهل اَلبدع فَتُجْتَنَب، والحقُّ لا مُحاباةَ فيه ولا مُجاراةَ لأحَدٍ أيًّا كانَ، وجَنابُ العَقيدة أغلى من كل جَناب؛ إذْ هو الذي بصَلاحهِ صَلاحُ الدُّنيا والآخِرَة.

التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع في المقصود

التنبيه على مسائل يحتاج إليها قبل الشروع في المقصود • المسألة الأولى: من أصُولِ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ: أنَّ العقلَ المجرَّدَ ليسَ له إثباتُ شَيْء من العقائِدِ والأحكام، وإنَّما مَرْجِعُ ذلك إلى السَّمعِ الذي هو المنقولُ عن الله تعالى ورسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، والعقلُ آلة الفهْم. قال الإِمام أبو المظفّر السَّمْعانيُّ: "اعلَمْ أنَّ مَذْهَبَ أهْل السُّنَّةِ أنَّ العقلَ لا يوجِبٌ شيئاً على أحدٍ، ولا يرفعُ شيئاً عنه، ولا حَظَّ له في تحليلٍ أو تَحريمٍ، ولا تَحسينٍ ولا تَقبيحٍ، ولَوْ لم يَرِد السَّمْعُ ما وجبَ على أحَدٍ شَيْءٌ، ولا دخَلوا في ثَوابٍ ولا عِقابٍ" (¬10). وقالَ: "أهلُ السُّنَّةِ قالوا: الأصْلُ في الدِّينِ الاتِّباعُ، والمَعْقولُ تَبَعٌ، ولو كانَ أسَاسُ الدِّينِ على المَعْقُولِ؛ لاسْتَغْنَى الخَلقُ عن الوَحْي وعن الأنبياءِ ولبَطَلَ معنى الأمرِ والنَّهيِ، ولقالَ مَنْ شاءَ ما شاءَ" (¬11). ¬

_ (¬10) ذكره عنه تلميذه إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 82/ ب. (¬11) "الحجة" ق 85/ أ.

واعْلَمْ أنَّ مِنَ السَّمْع ما هو معقولٌ يمكنُ للعباد أن يُحيطوا به عِلماً، ومنه ما ليس بمَعقول لا يمكنُهم أن يُحيطوا به عِلماً، والاتِّباع والتسليمُ في جميعهِ واجبٌ؛ لأنَّهُ العلْمُ الذي لا يَرِدُ عليه الباطلٌ، وليسَ للشيطانِ عليه من سَبيل. عن عَبْد الله بن عَمْرو رضي الله عنهما؛ قال: لقد جلَسْتُ أنا وأخي مجلساً ما أحِبُّ أنَّ لي به حُمْرَ النَّعمِ، أقبلتُ أنا وأخي، وإذا مشيخَةٌ من صَحابةِ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- جلوسٌ عند بابٍ من أبوابه، فكَرِهْنا أنْ نُفَرِّقَ بينَهم، فجلَسْنا حَجْرَةً؛ إذْ ذكَروا آيةً من القرآنِ، فتمارَوْا فيها، حتى ارتفعَتْ أصواتُهم، فخرجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مُغْضَباً، قدِ احمرَّ وَجْهُهُ، يَرْميهم بالتُّرابِ، ويقولُ: "مَهْلاً يا قوم! بهذا أهْلِكَتِ الأمَمُ من قَبْلِكم، باختِلافهم على أنْبيائِهم، وضَرْبِهم الكتُبَ بعضَها بِبَعْضٍ، إنَّ القرآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّب بعضُه بَعْضاً، بَلْ يُصَدِّقُ بعضُه بَعْضاً، فَما عَرَفْتُم منه؛ فاعمَلوا به، وَما جَهِلْتم منه؛ فرُدُّوهُ إلى عالِمِهِ" (¬12). قال الإِمام أحمدُ: "ونردُّ القرآنَ إلى عالِمِه تبارك وتعالى، إلى الله، فهو أعلَمُ به" (¬13). ¬

_ (¬12) حديث جيد الإسناد. أخرجه أحمد رقم (6702) من طريق أبي حازم عن عمرو بن شعب عن أبيه عن جدّه به. وإسناده جيد، وأبو حازم هو سلمة بن دينار ثقة. وقد رواه أحمد وغيره من غير هذا الحجه عن عمرو بن شعب، وهذا السياق أتمّ. (¬13) رواه في بن إسحاق في "المحنة" ص: 45 عن أحمد.

وهذه العقيدةُ السَّلَفيَّةُ خِلافُ طَريقةِ أهْل البِدَع؛ فإنَّ عقولَهم عندَهم هي التي تُثْبتُ وَتَنْفي، والسَّمْعُ مَعروضٌ عليها، فإنْ وافقَها قُبِلَ، وإنْ عارضَها رُدَّ وَطُرِحَ، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الضَّلالِ التي دخَلَتْ على هذهِ الأمَّة. وصَدقَ السَّمْعانيُّ حينَ قالَ: "فقد جَعلوا عُقولَهم دُعاةً إلى الله، ووَضعوها مَوْضِعَ الرُّسُل فيما بَيْنهم، ولو قالَ قائلٌ: لا الهَ إلاَّ الله، عَقْلي رَسولُ الله، لم يكن مُسْتَنْكراً عنْدَ المتكلِّمينَ من جهَةِ المَعنى" (¬14). قُلْتُ: وما كَثُرَت البدَعُ في هذه الأمَّةِ وفَشَتْ إلاَّ بتقديم العُقول على ما جاءَ به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-، وريُّنا تبارَكَ وتعالى أتَمَّ دينه وأكمَله، ولم يَدَع نَقْصاً لِيُتمَّمَه أصحابُ المعقولات (!) كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ فمَنِ استدركَ بعقلِهِ على الشَّرع؛ فإنَّما يَسْتَدْرِكُ على ربِّهِ، والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، ويقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]. فإذا استقرَّ العلمُ بهذا في قُلوبِ أهْل الإِيمان؛ عَقَلوا أنَّهم قَدْ كُفُوا، فَلَمْ يَدَع لهم الشَّرْعُ ما يتكلَّفونَ لإِثباته، وما هو إلاَّ الاتِّباعُ وتركُ البِدَع؛ كَما يقول عبدُ الله بن مسعود: "اتَّبعوا وَلا تَبْتَدِعوا فقد كُفيتم، وَكل بدعةٍ ضَلالة" (¬15). ¬

_ (¬14) "الحجة" ق 83/ أ. (¬15) أثر صحيح. أخرجه أحمد في "الزهد" ص: 162 ووكيع في "الزهد" أيضاً رقم (315) =

• المسألة الثانية

فهذا أصلٌ من الأصول التي فارقَ بها أهلُ السُّنِّةِ أصحابَ البدع. • المسألة الثانية: تسميةُ المُبتدعةِ علمَ التَّوْحيد الذي هو أشْرَف العلم وأزْكاها بعِلْم الكلام من أظْلَم الظُّلْم وأبْطَل الباطل. ذلك لأنَّ علم التَّوحيدِ مَصْدَرُه الوَحْيُ المَعْصوم، وعِلْمَ الكَلَام مصدَرُه الجدَل المَذموم فأيْنَ هذا مِنْ هذا؟ إنَّ ما أحْدَثَتْهُ المبتدعة من الجَدَل والخُصومات، مِمَّا ادَّعوا أنَّهُ أحْسن الطُّرُق لمَعْرفَةِ الله تعالى ودين الإِسلام، مِمَّا هو مَحْض العُقول التي لَمْ تُقَوَّم بمَنْهَج الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، وإنَّما قوِّمت برأي جَهْم وطريقة بشْر بن غِياث، المستمدَّةِ من طريقةِ أهْل الكِتاب ومن رَأْي عُبّاد الكَواكب، الذي فَتَنوا به المُؤمنين والمُؤمنات، هو الذي سَمَّؤْه بـ "علم الكلام"، تلقَّفَه عنهم ابنُ كُلاّبٍ والأشعريُّ وأبو مَنْصُور الماتُريدي وأمثالُهم من أهْل البِدَع، فَحَلَّوْه ببعض السَّمعيات، فأخرَجو للناس على أنَّه علْمُ التَّوحيد، وصاروا يقولون: علمُ الكلام: هو علْمُ التَّوحيد، وهو أشْرَف العلوم؛ لتعلّقه بذاتِ الله وأسمائِهِ وصفاته، وهو على هذا المَعنى يُدَرَّس اليَوْم في مَدارِس المُسلمينَ ومعاهدِهم وجامعاتِهم إلاَّ من عافى الله. ولكن ولله الحَمْدُ ألقى الله تعالى على ألْسِنَتهم بَراءَتهم من تَوْحيد ¬

_ = الدارمي رقم (211) وابن نصر في "السنة" ص: 23 وابن وضاح في "البدع" ص: 10 والطبراني في "الكبير" 9/ 168 وابن مجاهد في "السبعة" ص: 46 وابن الطبري في "السنة" رقم (104) والبيهقي في "المدخل" رقم (204) وسنده صحيح.

الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، فتَراهم يقولونَ في واضع هذا العِلْم: واضعُه أبو الحَسن الأشْعَريّ وأبو مَنْصور الماتُريدي، وهذا إنْصافٌ من أنْفُسِهم؛ فإنَّهُمْ إنَّمَا يُوَحِّدُونَ الله بِجَدَل الأشعريّ والماتُريدي، لا باتباع الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وسَلَف الأمَّة. واعلَمْ - وفَّقكَ الله - أنَّ السَّلَفَ كانوا من أشدّ الناس نَفْرةً وتنفيراً من الكلام وأهلهِ. قال البَغويُّ - رحمه الله -: "واتَّفقَ علماءُ السَّلفِ من أهل السُّنَّةِ على النهي عن الجدال والخُصوماتِ في الصِّفاتِ، وعلى الزَّجْر عن الخَوْض في علم الكلام وتعلّمهِ" (¬16). وقال الشافعي - رحمه الله -: "لأن يُبْتَلى العبدُ بكلِّ ما نَهى الله عنه سوى الشِّرك، خيرٌ له من الكَلام، ولقد اطَّلعتُ من أصحابِ الكلام على شَيْءٍ ما ظَننتُ أنَّ مُسْلِماً يقولُ ذلك" (¬17). وقال: "مَن أظهرَ العصبيّةَ والكلامَ، ودَعا إليها؛ فهو مردودُ الشَّهادة، ولأن يَلقى العبدُ ربَّه - عزَّ وجَلَّ - بكلِّ ذَنْبٍ ما خَلا الشركَ خيرٌ له من أنْ يلقاه بشيءٍ من الأهواء" (¬18). وقال الإِمام أحمد - رحمه الله - للمعتصم أيَّامَ المحْنَة: "ولستُ صاحبَ مِراءٍ ولا كلامٍ، وإنَّما أنا صاحبُ آثارٍ وأخبارٍ" (¬19). ¬

_ (¬16) "شرح السنة" 1/ 216. (¬17) رواه ابن أبي حتم في "آداب الشافعي" ص: 182 بسند صحيح. (¬18) رواه إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 7/ ب بسند صحيح. (¬19) رواه حبل في "المحنة" ص: 54 عنه.

• المسألة الثالثة

وألفاظُ الأئمَّةِ في ذلك لا ندخل تحتَ الحصر، ولكنَّ أهلَ البدع -خاصَّة من المنتسبين إلى الأئمة الفقهاء في الفروع- يتأوّلونَ كلامَ الأئمة في ذمّ الكلام على أنَّهم يُريدونَ الكلامَ الذي يناقض الكتابَ والسُّنَّة!! سبحان الله! وهل في علم الجَدل والكلام إلَّا ما يناقضٍ الكتابَ والسُّنَّة؟! ولو لم يكن هناك دليلٌ إلاَّ الإحداث؛ لكفى به مناقضةً للكتاب والسنة. وأيضاً؛ فلو كان موافقاً للكتاب والسنة، وقد دلَّ عليه الدليلُ السَّمْعيُّ؛ فلَسْنا نُدْخِلُه في عِلْم الكلام. وهذه الطريقة كانت طريقةَ السَّلَف، فإنَّهم وقَعَت مِن كثير منهم مناظرات لأهل البدع واحتجاجاتٌ عليهم، لكنْ بدَلائِل الكتاب والسُّنَّة، لم يخرجوا إلى شيْءٍ من البِدَع شأْنَ المُرادينَ بالذَّمِّ من أهل الكلام، ولم يكن السَّلَف يَعْرفونَ الكلامَ إلَّا محدَثات الأمور التي لم يَرِدْ في شيء منها نصُّ كتابٍ ولا سُنَّةٍ، خلافاً لكم أيُّها المبتدعة من أتباع الأشعري والماتُريدي، ممَّن تتظاهرون بالانتساب للأئمة؛ فإنَّ كلامَكُمْ ليس من قَبيل مناظرات السَّلَف، وإنَّما هو من قبيل جَدَل المعتزلةِ وأصحاب البدع، وكتبكُم شاهدةٌ على ذلك، وخروجُكم عن طريقة السَّلَف في غالب مسائل الاعتقاد وأصوله من أكبر الأدلَّة على وقوعِكم في الكلام المذموم، ولكنْ هذه حَيْدَةٌ أردتم التلبيسَ بها على الناس، لئلًا يُقال: إنكم خالفتم السَّلَفَ حيث نَهوا عن علم الكلامِ وذمَّوه. • المسألة الثالثة: طريقة السَّلَف في العقائد والأحكام أحسَنُ الطُّرق، وهي الوسَط،

وهي الأعلَمُ والأحكَمُ والأسلَمُ، وليسَ فيها شيءٌ من البدع. ووجهه تَوضيح هذا المعنى كثيرةٌ؛ فمن ذلك: - أنهم عاصَروا التشريع وعايَشوه، فعلِموا مواقعَ التنزيل، وورودَ الأدلّة على الوقائع والأحوال. - وأنَّ خِطابَ الشارع متوجّهٌ إليهم في الأصْلِ وهم المُرادونَ به قبلَ غيرهم. - وهم أهل الفَصاحة والبَيان، والوَحْيُ جاء بلسانِهم، ورسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يوضّح لهم ما يُشْكِلُ عليهم بلغتهم. - والنُّصوص في الكتاب والسُّنَّة الدَّالَّةُ على فضْلِهم وعُلوّ قَدْرِهم قد تواتَرت، وهذه المنزلةُ لم يَنالوها إلَّا بما لهم مِنَ السَّبق في سُبل الخير. - وقد جَعَلَ الله تعالى لهم الإِمامةَ في الدْين لمَنْ بَعْدَهم، وأثنى على مَن تَبِعهم وسلَكَ سَبيلَهم، وإنَّما نالَ التَّابعُ الفَضلَ لِفَضْلِ المَتْبوع؛ كما قالَ تَعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. - يؤكّده خُلوُّ زمانِهم من البدَع والأهواءِ والجَدَلِ والمِراء، وإقبالُهم على العِلْم، ولا يَرتاب المسلمُ العارفُ في أنَّ التوفيقَ للمُقبل على ما فيه رضي ربّه وطاعتُه والإعراضُ عَمَّا يُفْسِدُ القلب من البدَع والأهواء مضمونٌ. إلى غير ذلك من الوجهه الدَّالَّة على استقامةِ طريقتهم، وكونهم أسلمَ الأمَّة اعتقاداً، وأعلَمَها بالله ودينه، وأحكَمَها منهجاً.

وهذا يُفسِدُ قول بَعْض متنقّصي السَّلَف والجاهلينَ بأقدارِهم: "طريقةُ السَّلَف أسْلَمُ، وطريقةُ الخَلَف أعْلَمُ وأحكمُ". ولا يَخفى ما تَضَمَّنَت هذه المَقالةُ من الباطل عندَ العارفِ بعَقيدتِهِ ودينِهِ من أهل الإِسلامِ؛ إذ هي مبنيَةٌ على تفضيل الخَلَف -والمُرادُ بهم عندَ صاحب المَقالة: الَّذين امتازوا بمَعْرِفَتهم بالجَدَل وعلْم الكلام وكانَ لهم فيه قَدَمُ السَّبْق- على أخيار هذه الأمَّةِ، على السَّلف الكِرام: أصحاب النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والتَّابعين لهم بإحسانٍ، الَّذين لم يشتغلوا بالجَدلِ الباطلِ، ولا بالكلام المَذموم، وآمَنوا بما جاءَ عن الله على مُراد الله، وما جاءَ عن رَسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مُراد رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، الذين وقَفوا عن عِلم حين وقَفوا، وتكلَّموا بعِلْمٍ حين تكلَّموا، والَّذين لم يَعْرِف اللهَ تعالى أحدٌ معرِفَتَهم بعدَ رُسُلِهِ وأنبيائِهِ. ولستُ أدري كيف يخفى فَسادُ المَقالَةِ على أحَدٍ تذوَّقَ طعمَ العِلْم، أو كانَ عنده ذرّةٌ من وَرَعٍ، وإني لستُ أرى لهذا القائلِ شَبَهاً إلاَّ بالرافضةِ؛ إلاَّ أنَّهُ لمَّا كَانَ أشعريّاً -اعتادَ على طريقةِ أصْحابهِ التقيّة في كِثير من المَسائل- زَيَّنَ مقالَتَه بوَصْفِ طريقة السَّلَف بالسَّلاَمةِ، وغفلَ المسكينُ حبث وصفَ الخَلَفَ بالعلم والحكمة أنَّه شبّه السلفَ بالصُّمِّ البُكْمِ الذين لا يَعقلون؛ لأنَّهم على تفسير هذا المُبطل كانوا عاجزين عن نيل العلم والحكمةِ التي حصَّلَها هو وأشباهُهُ، فكانوا يحمِلون القرآنَ والسُّنَنَ ولا يدرون ما فيها؛ لأنَّهم لم يقدروا على التأويل، ولم يتورَّطوا في التعطيل، وهذا المُبْطل وأشباهُهُ خاضوا البحر الذي وقفَ عنده السَّلَفُ، فعَلِمُوا من الأسرارِ والحكمةِ ما لم يَدْرِهِ السَّلَفُ؛ فبهذا كانوا الأعلمَ والأحكمَ!

• المسألة الرابعة

سبحان الله! أيُّ عِلم وأيُّ حكمةٍ يُحَصِّلُها من كانت بضاعتُهُ اللّغوَ والجَدَلَ والكلامَ الذي لا يورث إلاَّ قسوةَ القلوب بل والحيرةَ والشَّكَّ؟! فإنَّ رؤوسَ هؤلاء والأعلامَ فيهم، من ذوي الأقدام الراسخة، أمثال: إمام الحَرَمين، والشّهرستانيّ، والرّازِيّ، والآمِدِيّ، عاشها غالبَ الأعمار في الحَيْرة والشَّكِّ، معَ ما حَصَّلوا من المعرفةِ بالكلام والجَدَلِ، ومُناظَرَةِ مُخالفيهم من أهل الأهواءِ، حتى تكونَ خاتمةُ الواحدَ منهم أنَّ يسأل ربَّه الموتَ على دين العجائزِ. فأقْبِلْ - رَحِمَك الله - على طريقة سلفِكَ الكرامِ، واعتصم بسَبيلهم. قال الأوزاعي - رحمه الله -: "عليكَ بآثار مَن سلفَ وإنْ رفَضَكَ الناسُ، وإيَّاك ورأي الرِّجالِ وإنْ زخرفوه بالقول؛ فإنَّ الأمرَ ينجلي وأنتَ منه على طريقٍ مستقيمٍ" (¬20). وقالَ: "فاصبر نفسَك على السُّنَّة، وقِفْ حيثُ وقَفَ القوم، وقُلْ فيما قالوا، وكُفَّ عَمَّا كَفّوا عنه، واسْلُكْ سَبيلَ سَلَفِكَ الصالح؛ فإنَّهُ يَسَعُكَ ما وَسِعَهم" (¬21). • المسألة الرابعة: أهل البدع والكلام لا يميّزونَ اعتقادَ السلف من غيره، وربّما لم ¬

_ (¬20) رواه البيهقي في "المدخل" رقم (233) وسنده صحيح. (¬21) رواه قِوَام السنة إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 6/ أ - ب وسنده صحيح.

يَعرِفوه؛ فلذا تجدُهم يذكرونَ في كتبهم في العقائدِ والفرقِ اعتقادَ جَميع الطوائف، وحين يذكرون اعتقادَ السَّلَفِ لا يذكرونه على ما هو عليه؛ فإنَّك ترى العارفَ فيهم يَصِفُ مذهبَ السلف في الصفات بأنَّهمٍ كانوا مفوّضة، لا يَدْرون ما معاني الصفات، وهذا جَهلٌ على السَّلَف؛ فإنَّهم كانوا أعظمَ الناس فَهْماً وتدبُّراً لايات الكتاب وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، خاصّةً ما يتعلقُ بمعرفة الله تعالى، فكانوا يَدْرون معاني ما يقرؤون ويَحْمِلونَ من العلم، ولكنَّهم لم يكونوا يتكلَّفون الفهمَ للغيب المحجوب، فلم يكونوا يخوضونَ في كيفيَّات الصفاتِ، شأنَ أهل الكلام والبِدَع؛ فإنَّ هؤلاء حين خاضوا في ذات الله وصفاته، وَوَقعوا في التأويل والتَّعطيل، إنَّما ألجأهم إلى ذلك الضِّيقُ الذي دخَلَ عليهم بسبَب التثبيهِ، فأرادوا الفِرارَ منه، فوقَعوا في التَّعطيل، ولم يَقَعْ تعطيلٌ إلاَّ بِتَشبيهٍ، ولو أنَّهم نزّهوا الله تعالى ابتداءً -كفعل السَّلَفِ- عن مشابهة الخلق، وأثبتوا الصفةَ مع نفي المُماثلة؛ لسَلِموا ونَجَوْا، ولوافَقوا اعتقادَ السَّلَفِ، ولَبانَ لهم أنَّ السَّلَفَ لم يكونوا حَمَلَةَ أسفارٍ لا يَدْرون ما فيها. قال شيخ الإِسلام ابنُ تيمية وهو يصف طريقةَ السَّلَفِ في باب الاعتقاد: "ومَنْ تدبَّرَ كلامَ أئمة السُّنَّة المشاهير في هذا الباب؛ عَلِمَ أنَّهم كانوا أدَقَّ الناس نَظَراً، وأعلمَ الناس في هذا الباب، بصحيحِ المنقولِ وصَريح المعقولِ، وأنَّ أقوالَهم هي المُوافقةُ للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلفُ ولا تختلفُ، وتتوافقُ ولا تتناقضُ، والذين خالَفوهم لم يفهموا حقيقةَ أقوالِ السَّلَفِ والأئمةِ، فلم يعرفوا حقيقةَ المنصوص والمعقول، فتشعَّبَتْ بهم الطرقُ، وصاروا مختلفينَ في الكتاب، مخالفينَ للكتاب، وقد قالَ

تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] (¬22). وهؤلاء تراهم يذكرونَ المذهبَ، يَحْسَبونَهُ مذهب السَّلَفِ، وهو من كلام أهل البدعِ، وإنَّما ذلك لجَهْلِهم بالمنقولِ عن السَّلَفِ، بَلْ ربَّما وافَقَ ذكرُهُم بعضَ أقوالِ السَّلفِ، يَحْسَبُونها من أقْوال أهْل البدع، فيردّونَها ويَسْتنكرونَها، بل ربَّما كفَّروا القائلَ بها مِن غير أنْ يَعْلَموا أنَّها مذهبُ السَّلَفِ واعتقادُهُم. ولذلك فقد يَصِفون اعتقادَ السَّلَفِ بأنَّه اعتقادُ المجسِّمة، أو المشبّهة، أو الحَشْوية (¬23). سبحان الله! إنَّ قلوبَ أصحاب البدع تتشابَهُ؛ فإنَّ الجهميةَ -أوَّلَ الأَمر- كانوا يَصِفون بذلك أئمَّةَ السُّنَّة ومَن يُتابِعُهم، ثمَّ لمَّا مضى العهدُ فظهَرَ الأَشعريَّةُ والماتُريديَّة وأشباهُهم؛ كانتَ هذه الأوصافُ لأهل السُّنَّة على ألسنتِهِم. وهذه الأوصاف إنَّما يُطلقها أهلُ البدع على أهل السُّنَّة لِيُنفِّروا الخلقَ عن اعتقاد السَّلَف، ويرغّبوهم في بدعهم، خاصّةً وأنَّهم يصفون أنفسَهم بمقابل ذلك بأنَّهم أهلُ السُّنَّة. ¬

_ (¬22) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 301. (¬23) بل إني رأيت بعض هؤلاء المبتدعة جعل اعتقادَ السلف الصحيح القويم هو اعتقاد المعتزلة والكرّامية، ذلك هو ابن خليفة عليوي الأشعري، الهالك في تعصّبه ضدّ أهل السنة في كتابه المحشو بالأغاليط الذي سمَّاه زورًا "هذه عقيدة السلف والخلف في ذات الله وصفاته وأفعاله ... ".

ولقد أدركَ ذلك أئمَّتنا الأوائلُ، فجَعَلوا من شعار الجَهْمية والزَّنادقة وصفَهم أهلَ السُّنَّة بهذه الأوصاف. قَال الإِمام أبو حاتِمٍ الرازيُّ: "وعلامَةُ أهل البدع: الوقيعةُ في أهلِ الأثَرِ، وعلامةُ الزَّنادقةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ حَشْويةً، يُريدون إبطالَ الآثار، وعلامةُ الجَهْمية: تسميتُهم أهلَ السُّنَّة مُشبّهةً، وعلامةُ القَدَرِيَّة: تسميتُهم أهلَ الأثَر مُجْبِرةً، وعلامةُ المُرْجئَةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ مُخالِفةً ونُقصانيَّةً، وعلامةُ الرَّافضةِ: تسميتهُم أهلَ السُّنَّةِ ناصبةً، ولا يلحَقُ أهلَ السُّنَّةِ إلاَّ اسمٌ واحدٌ، ويَستحيلُ أنْ تَجْمَعَهم هذه الأسماءُ" (¬24). قلتُ: أرادَ يلحَقُهم اسمُ أهلِ السُّنَّة دونَ هذه الأسماء. وقال الإِمامُ الحافظُ أحمدُ بن سِنانٍ الواسطيُّ: "المشبّهةُ الذين غَلَوا فجاوزوا الحديثَ، فأمَّا الذين قالوا بالحديثِ؛ فلم يزيدوا على ما سَمِعوا؛ فهؤلاء أهل السُّنَّةِ، والمتمسِّكونَ بالصَّوابِ والحقِّ، وليس هم بالمشبهةِ، ما شبّهوا هؤلاء، إنَّما آمَنوا بما جاء به الحديثُ، هؤلاء مؤمنونَ مصدِّقون بما جاء به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- والكتابُ والسُّنَّةُ" (¬25). فالسَّلَف والأئمة لم يكونوا كما يصفهُم هؤلاء المبتدعةُ، وكيفَ يُظَنُّ ذلك بحَمَلَةِ القرآن والسُّنَن والآثار؟! ولكنَّ أهل البدعِ أعداءُ السُّننِ أرادوا أن يُعْرِض الناس عن السنن، ¬

_ (¬24) رواه ابن الطبري في "السنة" 1/ 179 بسند صحيح، وانظر: ص 182. (¬25) رواه إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 32/أبسند صحيح.

• المسألة الخامسة

فكذبوا على أهلِها. • المسألة الخامسة: إطلاقُ الألفاظ المجمَلة التي لم تَرِدْ في الكتاب والسُّنَّة في أبواب الاعتقاد مِن طريقةِ أهل البدع وليس من طريقة السَّلَف. وقد ذكرتُ في هذا الكتاب بعض هذه الِإطلاقات، كإطلاقهم القولَ في مسألة اللفظ وغيرها، وأبَنْتُ عن كون هذه الطريقة ليست هي طريقة السَّلَف، وطريقةُ السلف إنَّما هي إطلاق ما أطلقه الكتابُ والسُّنَّةُ، أمَّا ابتداعُ ألفاظٍ لم تَرِد في الكتابِ والسُّنَّة؛ فليسَ مِنْ مذهب السَّلَفِ، وقد استنكرَ الأئمَّةُ كأحمد وغيره تلك الإِطلاقات المبْتَدَعَة التي ظهَرَ بها أهل البدع. قالَ شيخ الإِسلام: "إنَّ الأئمةَ الكبارَ كانوا يمنعون من إطلاقِ الألفاظ المبتَدَعة المجمَلَةِ المشتَبِهَةِ؛ لِما فيها مِنْ لَبْسِ الحَقِّ بالباطل، مَعَ ما توقِعُه من الاشتباهِ والاختلافِ والفتنةِ؛ بخلافِ الألفاظ المأثورة، والألفاظِ التي بُيّنتْ معانيها؛ فإنَّ ما كانَ مأثورًا حصلَت به الألفة، وما كانَ معروفًا حصَلَت به المعرفة، كَما يُروى عن مالك رحمه الله أنَّه قالَ: إذا قلَّ العلمُ ظَهَر الجَفاء، وإذا قلَّت الآثار كثرت الأهواء، فإذا لم يكن اللفظ منقولًا، ولا معناه معقولًا، ظهرَ الجفاءُ والأهواءُ ... " (¬26). هذه بعض التنبيهات التي يُحتاج إليها لتوضيح ما قد يُشكل، أو لدفع إيهام، وكذا لتوضيح منهجي العام في هذا الكتاب. ¬

_ (¬26) "درء تعارض العقل والنقل" 1/ 271.

مجمل خطة تأليف الكتاب

مجمل خطة تأليف الكتاب الخطَّة التي انتهجتُها في تأليف هذا الكتاب هي أنِّي فصَّلت الكلام والاستدلال لإِثبات العقيدة السلفية في كلام الباري تعالى، وعقدتُ لذلك بابًا مستقلًا، وهو الباب الأول. ثمَّ تناوَلتُ قضية اللَّفظ بالقرآن، فوضَّحْتُها بما يُزيلُ عنها الإِشكال إن شاء الله، مع الذبّ عن الإِمامين أحمدَ والبخاري، وتبرئتهما مما نُسِبَ إلَيهما من ذلك، وذلك في الباب الثاني. وفي الباب الثالث تناولتُ اعتقاداتِ الفِرَقِ المبتدعةِ المنتسبةِ إلى أهل القِبْلَةِ، فذكرتُها إجْمالًا، ثمَّ عُنِيتُ بتفصيل الردِّ على الجهمية المعتزلة؛ لأنَّهم أصلُ البليّة في هذه القضيَّة، ثم أفردتُ فصلًا مطوّلًا لبَسط اعتقاد الأشعريَّهٌ والردّ عليهم، وذلك لتوضيح الصورة أمامَ مَن خَفِيَهم حالهم، فهم بين منُتسب إليهم، أو مُدافع عنهم، أو مُتواطىء معهم، أو مُعتذر عنهم. وتخلَّلَتْ جميعَ ذلك مباحثُ عامَّةٌ لِرَفْع بعْضِ الإِشكالاتِ ودفْع بَعْض الإِيهاماتِ.

وشَرْطِي في كتابي أن لا أورد للاحتجاج والاستشهاد إلَّا ما ثبتَ إسنادُه إلى قائلهِ، ولسْتُ أقلّدُ في ذلكَ، وإنَّما أتابِعُ النُّصوصَ بنفسِي، وأحكمُ عليها باجتهادي. وعُنِيتُ بأقوال السلف والأئمة في عامّة المسائل إن وقفتُ عليها بالإِسناد الثابت، وخاصّةً كلام إمام السنة أحمد بن حنبل؛ فإنَّه الإِمام القُدوة في ذلك، وسائر أهل السنة بعده يعتزُّونَ بالانتساب إلى طريقتهِ؛ لأنَّها طريقةُ السلف الكرام، بسَطها ونَصَرها، فرحمه الله ورضي عنه وسائر إخوانه من الأئمة. ولقد انتفعتُ كثيرًا بكتب شيخ الإِسلام ابن تيمية وطريقته، بل إني ربَّما حَذوتُ حذوَه في كثير من المسائل، إلى جانب ما أورده عنه من النقل في ثنايا الكتاب، وحيث أطلقتُ (شيخ الإِسلام). فإنَّما أعنيهِ. وقد سمَّيْتُه: "العقيدة السلفية في كلام ربّ البريّة، وكشف أباطيل المبتدعة الرَّدِيَّة". وإني لأرجو الله تعالى أن يكونَ تذكرةً لأولي الألباب، يوقظهم من غَفْلة، ويُنَبِّهُهم لخطورة شأن أهل البدع، ويُقبلوا على فَهْم اعتقاد سَلَفِهم والدفاعِ عنه، فإنَّ الاشتغالَ بعلُومِ الاعتقاد أشرَفُ الأعْمال وأزكاها. والله أسألُ أن يغفرَ لي زلَّتي، ويقبلَ مني ما خَطَّتْ يَدي، إنَّه نِعمَ مسؤول، وهو حَسْبي ونعم الوكيل. الكويت الثلاثاء 27 جمادى الأولى 1407 هـ وكتب أبو محمد عبد الله بن يوسف الجديع

الباب الأول: العقيدة السلفية في كلام رب البرية

الباب الأول: العقيدة السلفية في كلام رب البرية وفيه ثلاثة فصول: = الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام. = الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات. = الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف في كلام الله تعالى.

الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام

الفصل الأول: بيان حقيقة الكلام وفيه ثلاثة مباحث: = المبحث الأول: حقيقة الكلام. = المبحث الثاني: حقيقة المتكلم. = المبحث الثالث: أنواع الكلام.

المبحث الأول: حقيقة الكلام

المبحث الأول: حقيقة الكلام الكلامُ في لغة العرب التي بها نزل القرآن كما يقول ابن فارس رحمه الله: "يدلّ على نُطْقٍ مُفهم، تقول: كلّمتهُ، أكلّمهُ تكليمًا، وهو كليمي، إذا كلّمَكَ أو كلَّمْتَه" (¬1). فقوله: "نطق" للدلالة على أنه لفظ اللسان. وقوله: "مُفْهِم" للدلالة على كونه معنى. فهو إذًا لفظ ومعنى. وكذلك القول. ولفظ "الكلام" و"القول" مما تُعْلَمُ حقيقتُهُ ضرورةً، ووَقر في نفس كل عاقل من خلق الله معرفةُ ماهيّة هذَين اللفظين, لأنَّهما صفتان لازمتان لكل من وصِفَ بأنه "متكلم، قائل" ومن المحال إطباق جميع العقلاء على الجهل بتصورهما. فكل عاقلٍ متصورٌ مدركٌ أن كلَّ ما نطقَ به اللسان من الألفاظ ¬

_ (¬1) "معجم مقاييس اللغة" 5/ 131.

المفيدة للمعاني فهو كلام، أو قول. وحين يخبر مخبرٌ فيقول: "تكلّمَ زيدٌ بكذا" أو "قالَ زيدٌ كذا وكذا" يتصوّر السامع أن لسانَ زيد تلفّظ بألفاظٍ دلّت على معنى كان قائماً في نفس زيد، لا يفهم السامع أن زيداً أضمرَ في نفسه معنى مجرَّداً، بل لو لم يكن زيد تلفّظ بلسانه بما أضمر في نفسه كان المُخبِر كاذباً في إخباره: أن زيداً تكلّم. وأيضاً، فإن السامع لا يفهم أن زيداً هذى هذياناً ليس له معنى فسمّاه المخبِرُ كلاماً، أو قولاً، وإنما يفهم أنه تكلمَ بكلام، وقال بقولٍ، مؤلَّف من الحروف التي هي الألفاظ المشتملة على المعاني. ولا يُعقل بحال كلامٌ مجردٌ عن المعنى، أو مجرّدٌ عن اللفظ، إلاَّ بقرينة تقيّده بأحد الحالين. فباتَ بهذا أن "الكلامَ" و"القول" إنما يُطلقان على ما كان لفظاً ومعنًى، لا لفظاً مجرداً، ولا معنًى مجرداً. وأنبّه على أن القولَ يفارق الكلامَ من حيث وقوع المجاز فيه بأوسع من وقوعه في الكلام (¬2)، لكنَّ هذا غيرُ مراد فيما ذكرناه, لأن ما حقّقناه إنما هو حقيقة اللفظين لا مجازهما. قال شيخ الإِسلام رحمه الله: "وعامّة ما يوجد في الكتاب والسُّنَّةِ وكلام السَّلفِ والأئمة، بل وسائِرِ الأمم عربِهم وعجمِهم من لفظ: الكلام، والقول، وهذا كلام فلان، أو كلام فلان، فإنَّه عند إطلاقه يتناول اللفظ ¬

_ (¬2) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ص: 109.

والمعنى جميعاً، لشموله لهما، ليس حقيقة في اللفظ فقط -كما يقوله قومٌ- ولا في المعنى فقط -كما يقوله قومٌ- ولا مشترك بينهما -كما يقوله قومٌ- ولا مشترك في كلام الأدميين، وحقيقة في المعنى في كلام الله -كما يقوله قومٌ-" (¬3). وقال الحافظ الأمام أبو نصر السِّجزي - رحمه الله -: "لم يكن خلافٌ بين الخلق على اختلاف نحلِهم من أوَّلِ الزمان إلى الوقت الذي ظهرَ فيه ابن كُلاّب (¬4) والقلانسي (¬5) والأشعري (¬6)، وأقرانهم ... من أن الكلام لا يكون إلاَّ حرفًا وصوتًا، ذا تأليفٍ واتِّساقٍ، وإن اختلفت به اللغات ... " (¬7). ومن الدلائل على صِحَّة ما ذكرنا ما يلي: 1 - إطباق سائر الأمم والطوائف - سوى بعض أهل البدع أمثال ابن ¬

_ (¬3) "مجموع الفتاوى" 12/ 456 - 457. ويشير بقوله: "كما يقوله قوم" إلى ما أحدثته المبتدعة في تعريف الكلام، ليبطلوا أن يكون كلامُ الله تعالى حروفاً وكلماتٍ. (¬4) هو أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاّب القطان البصري، وإليه تنتسب طائفة "الكلاّبية" وعلى طريقته جرى أبو الحسن الأشعري وغيره، وسيأتي شيء من ذكر حاله في الباب الثالث. (¬5) هو أبو العباس أحمد بن عبد الرَّحمن القلانسي الرازي، مذكور في أقران أبي الحسن الأشعري الآتي، وكان على شاكلته في الاعتقاد. (¬6) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعريّ، وإليه تنتسب طائفة "الأشعرية" وسيأتي ذكر بعض حاله في الباب الثالث. (¬7) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 83.

كُلاّب - على تناول "الكلام" و "القول" للّفظ والمعنى جميعاً، كما ذكرناه عن السِّجزي وشيخ الإِسلام. 2 - قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148]. هذه الآية ظاهرة في كون المنفيّ عنهم الكلامَ الذي هو اللفظ والمعنى جميعاً، إذ الخطاب لهم لا يكون معنًى مجرداً يقوم في أنفسهم، ولا لفظاً مجرداً غير دالّ على معنى. 3 - وقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5]. فأطلق الكلمة على اللفظ الخارج من الأفواه. وكذلك سائر ما جاء في كتاب الله تعالى من إطلاق لفظ الكلام مراداً به الحقيقة. ومثله القول. قال تعالى: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. 4 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله تجاوز لأمَّتي عما حدّثت به أنفسَها, ما لَمْ تكلَّم به، أو تعمل به" (¬8). ¬

_ (¬8) حديث صحيح.

فهذا الحديث ظاهر في إخراج حديث النفس عن مطلق الكلام، ألا تراه قد فرّق بينه وبين حقيقة الكلام بقوله: "ما لم تكلّم به أو تعمل به"؟ فجعل الكلامَ الذي هو القولُ قسيماً للعمل، غيرَ حديث النفس. 5 - حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا رسول الله, وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبُّ الناس على وجوههم في النار -أو قال: على مَناخرهم- إلاَّ حصائدُ ألسنتهِم؟ " (¬9). قلتُ: فهذا بَيِّنٌ في أنَّ الكلام ما كان ألفاظاً منظومةً دالَّةً على معاني مفهومةٍ؛ لأنَّ المعنى المجرَّدَ الذي يقوم بنفس المتكلم لا يحاسَبُ عليه العبدُ -كما في الحديث السابق- وهذا بخلافِ ما نَطَقَ به اللسانُ فإنَّه ¬

_ = أخرجه أحمد 2/ 393، 425، 474، 481، 491، والبخاري 5/ 160، 9/ 388، 11/ 548 - 549 ومسلم رقم (127) وأبو داود رقم (2209) والترمذي رقم (1183) والنسائي 6/ 156 - 157 وابن ماجة رقم (2040 , 2044) من طرق عن قتادة عن زُرارة بن أوفى عن أبي هريرة به مرفوعاً. وأخرجه النسائي 6/ 156 من طريق حجاج بن محمد عن ابن جُريج عن عطاء عن أبي هريرة به مرفوعاً. قلت: وهذا سند صحيح، وما عنعنه ابنُ جُريج عن عطاء فلا يضره. (¬9) قطعة من حديث حسن. أخرجه أحمد 5/ 231 والترمذي رقم (2616) وابن ماجة رقم (3973) من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ به مرفوعاً. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". قلت: هو حديث حسن بطرقه على التحقيق، ولتفصيل ذلك موضع آخر.

محاسَبٌ عليه، وهذا عينُهُ هو الذي أطلق عليه الشرعُ الكلامَ , لا المعنى المجرَّدُ. 6 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان, حبيتان إلى الرحمن: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمدِهِ" (¬10). قلت: وهذا ظاهر أيضاً في أنَّ الكلامَ هو المعنى الملفوظُ به بالحروف، إذ لا تُعقَل الخِفّة على اللسان في المعنى المجرَّدِ. 7 - حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله، يُحْدِثُ لنبيّه ما شاء، وإنَّ مِمَّا أحْدَثَ لنبيّه: أن لا تَكَلَّموا في الصَّلاة" (¬11). وحديث معاوية بن الحَكَم السُّلَمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ¬

_ (¬10) حديث صحيح. أخرجه أحمد رقم (7167) 2/ 232 والبخاري 11/ 206، 566، 13/ 537 ومسلم رقم (2694) والترمذي رقم (3467) والنسائي في "اليوم والليلة" رقم (830) وابن ماجة رقم (3806) من طرق عن ابن فضيل عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة به مرفوعاً. (¬11) حديث جيّد الإسناد. أخرجه أحمد 1/ 377، 435، 463 وأبو داود رقم (924) والنسائي 3/ 19 من طرق عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن عبد الله به مرفوعاً في قصة. وعلَّقه البخاري رحمه الله في "الصحيح" 13/ 496.

"إنَّ هذه الصلاةَ لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناسِ، إنما هو التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآن" (¬12). ولا خلافَ بين أهل العلم أن مَن تكلَّمَ في صَلاته عامداً لغير مصلحةِ الصلاةِ فصلاتُه باطلةٌ، ولا يرَون بما تُحَدِّثُ الإِنسانَ به نفسُه ممّا لا تعلُّقَ له بالصلاة من أمور الدنيا وغيرِها مُبطلاً للصلاةِ, لأنَّه بالاتفاق ليسَ بكلامٍ، ذكر نحوَ هذا شيخُ الإِسلام. ونظائر هذا في الكتاب والسنَّة كثيرةٌ جداً، وهي دلائلُ قاطعةٌ بأنَّ مطلقَ لفظ "الكلام" شاملٌ للألفاظ والمعاني جميعاً، خِلافاً لأهل البدع الذين أرادوا نُصْرَةَ أهوائِهم بإبطال الدلائل الصَّحيحةِ الصَّريحةِ من المعقولِ والمنقولِ. وقد ذكرنا أن "الكلامَ" و "القولَ" قد يراد بهما المعنى فقط، أو اللَّفظُ فقط، لكن بقرينةٍ تُبيِّنُ ذلك، لا عندَ الإطلاقِ والتجرُّدِ من القرائن. قال شيخُ الإِسلام: "الكلامُ إذا أطْلِقَ بتناوَلُ اللفظَ والمعنى جميعاً، وإذا سُمّيَ المعنى وحدَه كلاماً، أو اللَّفظُ وحدَه كلاماً، فإنَّما ذاك مع قيد يدلّ على ذلك" (¬13). قلتُ: وذلك كقول عنترةَ: ¬

_ (¬12) حديث صحيح. أخرجه أحمد 5/ 447، 448 ومسلم رقم (537) وأبو داود رقم (930، 931) والنسائي 3/ 14 - 18 والدارمي رقم (1510، 1511) من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم به مرفوعاً في قصة. (¬13) "مجموع الفتاوى" 6/ 533.

يا دارَ عَبْلةَ بالجِواء تكلّمي ... وعِمي صَباحاً دارَ عبلةَ واسْلَمي (¬14) وكقول الآخر: وامتلأ الحَوضُ وقالَ: قَطني ... قَطني رويداً قد ملأتُ بطني فمحصَّل ما ذكرنا: أن لفظَ "الكلام" و"القول" وما تصرّف منهما، من فعلٍ، ومصدرٍ، واسم فاعل، وغير ذلك, كلّ ذلك راجع إلى اللفظ والمعنى جميعاً. فإذا قالَ قائلٌ في كلامٍ ما: إنَّ المرادَ بالكلام ههُنا اللفظ وحدَه، أو المعنى وحدَه، طالبناه بالقرينة المقيّدة التي صَرَفَتِ الكلامَ عن حقيقته المعلومة، وإلاَّ كانَ كاذباً. ولنا بسط آخر لهذه المسألة في الباب الثالث عند إبطال قول بعضِ أهل البدع -الكلاّبية والأشعرية وأشباههم- إنَّ الكلامَ حقيقةٌ في المعنى، وهو ما سمّوه بـ "الكلام النفسي" وإنَّما هذا تقريرٌ موجزٌ لإزالةِ ما قد يَرِدُ من لَبْسٍ في هذا الموضوع. ***** ¬

_ (¬14) معلقته: البيت الثاني.

المبحث الثاني: حقيقة المتكلم

المبحث الثاني: حقيقة المتكلم المتكلِّم: اسمُ فاعلٍ من "التكلّم". وهو مَنْ قامَتْ به صفةُ الكلام، فبها صارَ متكلِّماً. والعقلاءُ متفقونَ على أن الحركة إذا قامَتْ بمحلٍّ صحَّ وصفُ المحلّ بكونهِ متحركاً، وإذا قامَ العِلْمُ بمحلٍّ صحَّ وصفُه بكونه عالِماً، وكذلك كلُّ صفةٍ. فالكلامُ صفةٌ، إذا قامَتْ بموصوفٍ سمّي "متكلّماً". فحين يَردُ على سَمْعِكَ: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عَقِلتَ منه أنَّ لله تعالى صفةَ السَّمعِ، وصفةَ العلمِ. فكذلكَ حينَ يَرِد على سَمْعِكَ: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى} فإنَّكَ تعقِل منه أن لله تعالى صفةَ الكلامِ. فدلَّ هذا على أنَّ الصِّفَةَ إنَّما تقوم بالموصوف. وفي هذا إبطالٌ لقولِ المُلحدين في أسماءِ الله وصفاتِهِ: إنَّ الصفةَ لا تقومُ بالموصوفِ، وعليهِ قالَ من قالَ منهم: إنَّ الله سميعٌ بلا سَمع،

بصيرٌ بلا بَصر، حيٌّ بلا حَياة، خالقٌ بلا خَلْقٍ. ويظهَرُ مما تقرر من قِيام الصفةِ بالموصوفِ أنَّ المتكلّمَ من قام به الكلامُ، ولا يصحّ وصفُه بذلك إلاَّ مع قدرتهِ عليه، إذ أنَّ قدرةَ المتكلم على الكلام لازمةٌ له ما دام موصوفاً بالكلام, لأنَّه لو لم يكن قادراً على الكلام لَوُصِفَ بضدّه، وهو: الخَرَسُ، فإن "الأخرس" هو الذي لا يَقْدِرُ على الكلامِ، ولذا صَحَّ عدمُ وصفهِ بالكلام. ويبطلُ بما قرَّرْناه مذهبان من مذاهب أهل البدع: الأوّل: مذهبُ المعتزلة القائلين: المتكلّم من فَعَلَ الكلامَ ولو في غيره، ومعناه عدَمُ قيامِ صفةِ الكلام بالمتكلّم. والثاني: مذهبُ الكُلاّبية والأشعرية القائلين: المتكلم من قام به الكلامُ ولو لم يَفْعَلْهُ، وليس له قدرةٌ عليه. وفسادُ هذين المذهبين ظاهرٌ لغةً وشرعاً وعقلاً، إذ أنَّ لازمَ المذهبِ الأوَّل أن يكون كلامُ المخلوق هو كلامَ الخالق -كما سيأتي تفصيله في الباب الثالث- ولازمَ المذهب الثاني وصفُ الأخرس بكونه متكلماً، وهذا ظاهر المناقضةِ للحسِّ والعقلِ - وسيأتي بسط ذلك عنهم في الباب الثالث. والسَّلَفُ والأئمَّةُ لا يَعْرِفونَ المتكلمَ إلاَّ على الصورة التي شرحناها.

المبحث الثالث: أنواع الكلام

المبحث الثالث: أنواع الكلام الكلام في لغة العرب يتنوع في الأصل إلى نَوْعينِ: • الأول: الخبر: والبَلاغيُّونَ والأصوليُّونَ على أنَّ الخبرَ كلامٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ والكَذِبَ لذاتِهِ. ويعنونَ بقولهم: "لذاته" أي بغَضِّ النَّظَر عن المُخبِر إنْ كانَ صادقاً أوكاذباً في نفسهِ، لأجلِ أنْ يعُمَّ التعريفُ كلَّ خَبر. وهو باعتبار المُخْبِر به ثلاثةُ أقْسام: القسم الأول: ما لا يَحْتَمِلُ إلاَّ الصدقَ وحدَه. وهو خَبَرُ الله تعالى، كقوله تعالى: {اللهُ لَا إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَى الْقَيُّومُ}. وخَبَرُ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- الثابتُ عنه، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "منْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمّداً فليتبوأ مقعدَه من النار" (¬15). ¬

_ (¬15) حديث صحيح متواتر، جاء عن جمع كبير من الصحابة في الصحاح =

• والثاني: الإنشاء

والقسم الثاني: ما لا يحْتَمِلُ إلاَّ الكذبَ وحدَه. وهو كخبر مسيلمة أنه رسول الله. والقسم الثالث: ما يَحْتَمِلُ الصِّدقَ والكذبَ جميعاً. كأن يأتيَكَ إنسانٌ فيقول: (قرأت القرآنَ في ليلة) فإنَّه يُحْتَمَلُ صدقُه، ويُحْتَمَلُ كذبُه، بغضّ النظر أن يكون عن قَصْدٍ أو عن غير قَصْدٍ، وربّما ترجّح لك صدقهُ مع احتمال الخطإ لكونهِ معروفاً عندك بالصّدقِ، أو ترجَّحَ عندكَ كذبُه مع احتمالِ صدقِهِ لكونه معروفاً عندك بالكَذِبِ، وربّما تساوى عندك الاحتمالان. • والثاني: الإنشاء: والبلاغيُّون والأصوليُّونَ على أنَّه لا يُمكنُ وصفُه بالصِّدْقِ أو الكَذِبِ. وهو الطلبُ، سواءٌ كان طلبَ فِعْلٍ، أو طلبَ تَرْكٍ. وهو أنواعٌ منها: 1 - الأمر: وهو طلبُ الفِعْل، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]. 2 - النهي: وهو طلبُ الكَفِّ، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...} [الإسراء: 36]. ¬

_ = والمسانيد والمعاجم وغيرها, وللحافظ أبي القاسم الطبراني جزء في جمع طرقه.

3 - الاستفهام: وهو طلبٌ الفَهْم، كقوله تعالى: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]. 4 - النداء: وهو طلبُ الإقبال، كقوله تعالى: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 9]. وفي جميع هذا تفصيل ليسَ هذا موضِعَه، وإنَّما المقصودُ إبطال تلبيسِ المبتدعةِ، القائلين: إنَّ هذه الأقسامَ المذكورةَ، إنَّما هي صفاتٌ للكلام، وليستْ أنواعاً له، ليَنْصُروا مذهَبَهم: أنَّ الكلامَ في الحقيقةِ هو معنى واحدٌ قائِمٌ في النفس، هو الأمرُ والنَّهيُ والخبَرُ، وهو قولٌ في غاية السُّقوطِ، وقَدْ أثْبَتْنا لكَ أنَّها متغايرةٌ، وإنَّما تشتركُ في كونِها كَلاماً.

الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات

الفصل الثاني: عقيدة السلف في إثبات الصفات وفيه: = قاعدة جلية في الاعتقاد.

قاعدة جلية في الاعتقاد

قاعدة جلية في الاعتقاد لقد وصَفَ الله تعالى نفسَه بأكملِ وأجملِ الأوصافِ، كما يليقُ بجَلاله وعظمتهِ، في كتابهِ وعلى لسانِ نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ليُعرّفَ خلقَه بنفسهِ، كالعِلم، والحَياةِ، والقُدْرةِ، والإرادةِ، والسَّمْع، والبَصَرِ، والكِلاَمِ، والحُبِّ، والبُغْضِ، والرَّأفَةِ، والرَّحْمَةِ، والعُلوِّ، والاستواءِ على العَرْش، والإتيانِ، والمَجِيءِ، والنُّزولِ إلى سَمَاءِ الدُّنْيا، وأنَّ له وجْهًا، ويَداً، وقَدَماً، وساقاً، وعَيْناً، إلى غير ذلكَ من صفاتِهِ التي نطَقَ بها الكتابُ والسُّنَّةُ. ومِن صفاتهِ تعالى اشتقَّ أسماءَه الحُسنى، كالعَليم، والحَيّ، والقادرِ، والوَدود، والرَّحِيم، والرَّؤوفِ، إلى غير ذلك. وعقيدةُ السَّلَفِ الذين كانوا أعلمَ الأمَّةِ وأعرفَها بالله ربِّ العالَمين: الإيمانُ بجميع ذلك على وجْهِ الإِجمالِ فيما جاءَ مُجْملًا، وعلى وَجْهِ التّفصيل فيما جاءَ مُفصْلًا، من غيرِ تزَيُّدٍ ولا نَقْصٍ، وكانَ هذا الاعتقادُ يقومُ على أربعِ دعائمَ: الأولى: الإثبات المُفصّل المُجْمَل لكلِّ صفةٍ كما ورَدَ بها النصُّ.

فيتحقَّقُ بهذا قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وما في معنى هذا. والثانية: التَّنزيهُ، وعَدَمُ التكييفِ والتشبيهِ. فيتحقَّقُ بهذا قولُ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ...} [الإسراء: 36]. والثالثة: عَلَمُ التأويلِ المُفْضِي إلى التَّعطيل. فيتحقَّقُ بِهذا قولُ الله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]. والتَّعطيلُ: إلحادٌ في أسماءِ الله وصفاتهِ. والرابعة: العِلمُ بالله تعالى والمَعْرِفَةُ به من خِلال صفاتِهِ. فيتحقق بهذا قول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]. فالدِّعامةُ الأولى تضمَّنَت الإِيمانَ بكل صفةٍ لله تعالى كما وردَتْ في الكتاب والسنَّة. والدِّعامةُ الثانية تضمَّنَت تنزيهَ صفاتِ الرب تعالى عن مُشابهة صفاتِ خلقهِ. والدِّعامةُ الثالثة تضمَّنَت إثباتَ كلّ صفةٍ على الحقيقةِ كما ورد بها

النَّصُّ، من غير صَرْف له إلى معنى آخر غير الظاهر. والدِّعامة الرابعة تضمَّنت أن السَّلَفَ كانوا يعلَمونَ معانيَ الصفاتِ، ويفرّقونَ بينها بحَسَبِ ما دلَّتْ عليه ممّا تعرفُهُ العربُ من لسانِهِا، فالعلمُ غيرُ الحياةِ، والإِتيانُ غيرُ الاستواءِ على العرش، واليَدُ غير الوجهِ، وهكذا سائر الصفات. وفي هذا إبطالُ قولِ المُلحدينَ في أسماءِ الله وصفاتِهِ في حكايتهم مذهبَ السَّلَف: أنَّهم كانوا مُفوّضةً، ويعنونَ بهذا أنَّهم لم يكونوا يعلَمونَ معانيَ الصِّفاتِ، ولا التَّمييزَ بينها، وأنَّها من المُتشابهِ الذي يَكِلونَ العِلْمَ به إلى الله تعالى، ولهذا معنى قولهم "أمِرُّوها كَما جاءَت". وهذا القولُ من أفْسَدِ ما يُنْسَبُ إلى السَّلَفِ، وهو من الكذب والبُهْتان والافتراءِ البَيِّن، ذلك لأنَّ الصفاتِ إنَّما تُعَرِّفُ بالمَوصوفِ، فإذا كانَ السَّلَفُ يَجْهَلُونَ مَعانِيَهَا فكيفَ كانوا أعلم من غيرِهم بالله تعالى؟ وبماذا عَرفُوه إذًا؟ إنَّ هذا لمِنْ أسوإ ما يُظَنُّ بهم، وهم خيرُ هذه الأمَّةِ، وفيهم أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين لم يَقْدِرِ الله تعالى أحدٌ قدرَهم. وإنَّما كان السَّلَفُ أبعَدَ الناس عن الخوضِ فيما لم يُحيطوا به عِلمًا ممّا أخبرَ الله تعالى عنه من الغيبِ، فكما أنَّهم لم يكونوا يحيطونَ بذات الله عِلمًا، لَم يكونوا يحيطونَ بصفاتِهِ علمًا، إذ الكلامُ في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذاتِ، إلاَّ أنَّ صفاتِهِ كانتْ دليلَ المعرفةِ به، ولا تصلحُ أن تكونَ كذلك وهي من المتُشابهِ الذي ليسَ للعبادِ أن يعلَموا حقيقَتَه، وإنَّما كانَتْ معلومةَ المَعاني عندَهم، مجهولةَ الكَيْفِ، كما أنَّ ذاتَه تعالى معلومةٌ عندهم بصفاتِهِ، مجهولةُ الكَيْفِ، ولهذا معنى إمرار الصفات كما جاءت.

بل تضمَّن قولهُم: "نُمِرُّها كما جاءَت" إثباتَها على الحقيقة، فإنَّ الأصلَ في الإطلاق الحقيقةُ، فالعلمُ صفةٌ على الحقيقة، والقدرةُ صفةٌ على الحقيقةِ، واليَدُ صفةٌ على الحقيقة، مع أنَّ لكل صفةٍ معنى غير معنى الأخرى، تَعْرِفُ ذلك العربُ من لغاتِها. ومن تأمَّلَ جوابَ الِإمام مالك بن أنس رحمه الله لِمَنْ سألَه عن كيفيَّةِ الاستواءِ على العَرْشِ، فقال: "الكَيْفُ غيرُ مَعلومٍ، والاستواءُ غيرُ مجهولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤال عنه بدعةٌ" تبيّنت له عدّةُ أمورٍ: الأول: كيفيةُ الصفات مجهولةٌ للعباد. والثاني: معاني الصفاتِ معلومةٌ من لسان العرب ولُغتها. والثالث: الإِيمانُ بالصفة كما أخبر الله بها مع الجَهْلِ بكيفيَّتها والعلم بمَعناها واجبٌ, لأنَّه داخلٌ في عمومِ الإِيمان بالله تعالى. والرابع: أنَّ الزيادةَ والنقصَ بالسؤالِ والخَوْضَ فيها بدعةٌ مذمومةٌ لم تُعْرَف عند السَّلَفِ، لِما تتضمَّنُ من القول على الله تعالى بغير علم. ولم يزل الأئمةُ يذكرونَ كلمةَ الإِمام مالكٍ هذه قاعدةً لأهلِ السُّنَّة في سائر صفاتِ الباري تعالى. فبهذا يظهَرُ لكَ استقامةُ اعتقادِ السَّلَف، وأنَّه المذهبُ الأسلمُ الأعلمُ الأحكمُ. قال الإِمام أبو عثمانَ الصابونيُّ رحمه الله فيما حكاه من اعتقادِ السَّلَفِ: "وَيَعْرِفونَ ربَّهم عَزَّ وَجَلَّ بصفاتِهِ التي نطقَ بها وحيُهُ وتنزيلُهُ، أو شَهِدَ له بها رسولُه -صلى الله عليه وسلم-، على ما ورَدَت الأخبارُ الصحاحُ بهِ، ونقَلَتْهُ العدولُ

الثِّقاتُ عنه، ويُثْبِتونَ له جَلَّ جلالُه منها ما أثبتَ لنفسهِ في كتابِهِ، وعلى لسانِ رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-، ولا يَعتقدونَ تشبيهًا لصفاتِهِ بصفاتِ خلقهِ، فيقولونَ: إنَّهُ خلقَ آدَمَ بيدهِ، كما نصّ سُبحانه عليه في قوله عزَّ من قائل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، ولا يُحَرِّفونَ الكلِمَ عن مواضعهِ بحَمْلِ اليَدَيْنِ على النّعمتين، أو القوّتين، تحريفَ المعتزلةِ والجَهميةِ -أهلكَهم الله- ولا يُكيْفونَهما بكَيْفٍ، أو يشبّهونَهما بأيْدي المَخلوقينَ، تشبيه المشبِّهة -خذَلَهم الله- وقَدْ أعاذَ الله تعالى أهلَ السُّنَّة من التحريفِ والتكييفِ والتشبيهِ، ومَنَّ عليهم بالتعريفِ والتفهيمِ، حتى سلَكوا سُبُلَ التوحيدِ والتنزيه، وتركوا القولَ بالتعليلِ والتشبيهِ، واتَّبعوا قولَ الله عَزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] " (¬16). وقال شيخُ الإِسلام رحمه الله: "إنَّ سلفَ الأمَّةِ وأئمَّتَها كانوا على الإِيمان الذي بعثَ الله به نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، يصِفون الله بما وصَف به نفسَه، وبما وصَفَه به رسولُهُ من غير تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ويقولون: إنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، ويصفونَ الله بما وصفَ به نفسَهُ، من التكليمِ، والمُناجاة، والمُناداةِ، وما جاءت به السُّنَنُ والآثارُ موافقةً لكتاب الله تعالى" (¬17). وقال رحمه الله: "ويقولونَ ما جاءت به النصوصُ النبويَّةُ، ودلَّتْ عليه العقولُ الزَّكيَّةُ الصَّريحةُ، فلا يَنْفونَ عن الله تعالى صفاتِ الكَمالِ سبحانه ¬

_ (¬16) "الرسالة في اعتقاد أهل السنة" ص: 3 - 4. (¬17) "مجموع الفتاوى" 6/ 518.

وتعالى، فيجعلونَه كالجَمادات التي لا تتكلَّم، ولا تُبْصِرُ، فلا تُكَلِّمُ عابديها، ولا تَهديهم سَبيلًا، ولا تَرجِع إليهم قولًا، ولا تَمْلِك لهم ضرًّا ولا نفعًا" (¬18). فهذا قولٌ مُخْتَصَر قبلَ الشروع فيما أردناه تحصل به الكفايةُ لمن استرشَدَ. ***** ¬

_ (¬18) "مجموع الفتاوى" 12/ 173.

الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف فى كلام الله تعالى

الفصل الثالث: شرح اعتقاد السلف فى كلام الله تعالى وفيه عشرة مباحث: = المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة فى كلام الله تعالى. = المبحث الثانى: الأدلة المثبتة لصفة الكلام. = المبحث الثالث: التكليم فى الدنيا. = المبحث الرابع: التكليم فى الآخرة. = المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق. = المبحث السادس: الوقف في القرآن. = المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت. = المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره. = المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى. = المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه, منه بدأ وإليه يعود.

المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة في كلام الله تعالى

المبحث الأول: جملة اعتقاد أهل السنة في كلام الله تعالى يعتقدُ السَّلَفُ: أنَّ لله تعالى صفةَ الكلامِ، وهي صفةٌ قائمةٌ به غير بائنةٍ عنه، لا ابتداء لاتِّصافِهِ بها ولا انتهاء، يتكلّمُ بها بمَشيئتِهِ واختياره. وكلامُه تعالى أحسَنُ الكَلام. ولا يُشْبه كلامَ المَخلوقينَ، إذ الخالقُ لا يُقَاسُ بالمَخلوقِ. ويُكَلَّمُ به مَن شاءَ من خَلْقهِ: من مَلائكتهِ، ورُسُلهِ، وسائِرِ عبادِهِ، بواسطةٍ إن شاءَ، وبغيرها. ويُسْمِعُه على الحَقيقة مَن شاءَ من مَلائكتهِ، ورُسُلِهِ، ويُسْمِعُه عبادَه في الدّار الآخرةِ بصَوْتِ نفسِهِ، كما أنَّهُ كلَّمَ موسى وناداهُ حينَ أتى الشجرةَ بصَوْتِ نفسِهِ فسَمِعَهُ موسى. وكما أنَّ كَلَامَهُ تعالى لا يُشْبِهُ كلامَ المَخلوقينَ، فإنَّ صَوْتَهُ لا يُشْبِهُ أصواتَهم. وكَلِماتُهُ تعالى لا نِهايَةَ لها. ومِنْ كَلاَمِهِ:

القُرآنُ، والتَّوارةُ، والإِنْجيلُ. فالقرآنُ كلامُه: سُوَرُهُ، وآياتُهُ، وكَلِماتُهُ. تَكَلَّمَ به بحُروفِهِ ومَعانيهِ. ولم يُنْزِلْه على أحدٍ قبلَ محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. أسمعَهُ جِبريلَ عليه السَّلامُ، وأسْمَعَهُ جبريلُ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم-، وأسْمعَهُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- أمَّتَهُ، وليسَ لجبريلَ ولا لمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ التبليغُ والأداءُ. وهو المكتوبُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وهو الَّذي في المَصاحِفِ، يَتْلوهُ التالونَ بألسنتِهم، ويقرؤُهُ المُقرئونَ بأصواتِهم، ويسمَعُهُ السَّامعونَ بآذانِهِم، ويَنْسَخُهُ النُّسَّاخُ، ويَطْبَعُهُ الطَّابعونَ بآلاتِهِم، وهو الَّذي في صُدورِ الحُفَّاظِ، بحُروفهِ ومَعانيهِ، تكلَّمَ اللهُ بهِ على الحَقيقةِ، فهو كلامُهُ على الحَقيقةِ لا كَلامُ غيرِهِ، منه بَدَأ، وإليه يَعودُ، وهو قُرآنٌ واحدٌ مُنْزَلٌ، غيرُ مَخلوق، كيفَما تصرَّفَ: بقراءةِ قارئ، أو بلفظِ لافظٍ، أو بحِفْظِ حافظٍ، أو بخَطِّ كاتبٍ، وحَيثُ تُلِيَ، وكُتِبَ، وقُرِىءَ. فمَنْ سَمِعهُ فزَعَم أنَّه مَخلوقٌ فَقَدْ كَفَرَ. وكَتَبَ تَعالى التَّوْراةَ لمُوسى بيدهِ، قبلَ خَلْقِ آدمَ بِأربعينَ سَنَةً -كما صحَّ به الخبرُ-. وكَلامُ الله تعالى ينقَسِمُ وَيَتَبعَّضُ ويتَجزَّأ. فالقرآنُ مِن كلامِهِ، والتَّوراةُ من كلامِهِ، والإِنجيلُ من كلامِهِ. والقرآنُ غيرُ التْوراةِ، والتَّوراةُ غيرُ الإِنجيلِ.

والفاتحةُ بعضُ القُرآنِ، وآيةُ الكُرْسيّ بعضُ البقرةِ، وسُورةُ البَقرةِ غيرُ سورةِ آلِ عِمْرانَ، وهكذَا سائرُ كلامِهِ. كَمَا أنَّهُ تعالى تكلَّمَ باللُّغاتِ، فالتَّوْراةُ بالعِبْرانِيَّةِ، والقرآنُ بالعَربِيَّةِ، والإِنجيلُ بالسريانيَّةِ. وفي القرآنِ من المَعاني ما لَيْسَ في التَّوراةِ، وفيها من المَعاني ما ليسَ في القرآنِ، وهكذا سائرُ كَلامِهِ. كَما أنَّ كلامَه تعالى يتفاضَلُ، فيكون بعضُهُ أفضَلَ مِنْ بَعْضٍ، فآيةُ الكُرْسي أفضَلُ من سِوها من الآي وسُورةُ الفاتحةِ لَمْ يَنْزلْ في التَّوراةِ ولا في الإِنجيلِ ولا في القُرآنِ مِثْلُها، و {قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآنِ. كَمَا أنَّ كلامَهُ تعالى يتعاقَبُ -أي يَتْلو بعضُهُ بَعْضًا - كـ {بسم الله} فكلمةُ {الله} عَقبَ {بسم} والسّينُ عقبَ الباءِ، والمِيمُ عقبَ السّينِ، وكُلُّ ذلكَ كلامُ الله تعالى غَيرُ مَخْلوقٌ، بألفاظِهِ وحروفهِ، لا يُشْبِهُ كلامَ الخَلْقِ. وأصواتُ العبادِ وحَرَكاتُهم بالقرآنِ، ووَرَقُ المُصْحَفِ، وجِلْدُهُ ومِدادُ الكتابةِ، كُلّ ذلكَ مَخْلوقٌ مَصْنوعٌ، والمُؤلَّفُ من الحُروفِ المَنطوقةِ المَسْموعةِ المَسْطورةِ المَحْفوظةِ، كَلامُ الله تعالى غيرُ مَخْلوقٍ بحروفِهِ ومَعانيهِ. هذه جملةُ الاعتقادِ في كلام الله تعالى, وتفصيلُ هذه الجُمَلِ والاستدلالُ لها سيأتي في المباحث الآتية.

المبحث الثاني: الأدلة المثبتة لصفة الكلام

المبحث الثاني: الأدلة المثبتة لصفة الكلام • من أدلة الكتاب: 1 - قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ الله} [البقرة: 253]. 2 - وقالَ عزَّ وجلَّ: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]. 3 - وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]. 4 - وقال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 13 - 14]. 5 - وقال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]. 6 - وقالَ تعالى: {إِنَّما قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].

7 - وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. 8 - وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَهُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115]. 9 - وقال جلَّ وعلا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ} [الفتح: 15]. 10 - وقال تعالى: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. 11 - وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]. والأيات في ذلك كثيرةٌ جدًا. • من أدلة السنة: 1 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "احتجّ آدمُ وموسى، فقالَ له موسى: يا آدم، أنتَ أبونا، خَيَّبْتَنا وأخرَجْتَنا من الجنَّة، قال له آدم: يا موسى، اصطفاكَ الله بكلامِهِ، وخَطَّ لكَ [التوراةَ] بيدهِ، أتلومُني على أمْرٍ قدَّرهُ الله عليَّ قبلَ أن يخلقَني بأربعينَ سنةً؟ فحَجَّ آدمُ موسى، فحَجَّ آدمُ موسى -ثلاثًا-" (¬1). ¬

_ (¬1) حديث صحح. أخرجاه في "الصحيحين" وغيرهما من طرق كثيرة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قد جمعتها في جزء فبلغت ثلاث عشرة طريقًا. وكذا وقفتُ عليه من حديث عمر بن الخطاب، وأبي سعيد الخدري، وجندب =

2 - حديث جابر بن عبد الله قال: كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَعْرضُ نفسَه على الناس بالموقفِ فيقول: "هلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُني إلى قومِهِ؟ فإنَّ قريشًا قدْ مَنعوني أن أبلِّغَ كلامَ رَبِّي عَزَّ وجلَّ" الحديث (¬2). 3 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فضلُ كلامِ الله على سائرِ الكلامِ كفَضْلِ الله على سائرِ خلقِه" (¬3). ¬

_ = ابن عبد الله البجلي، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم، وجميعها مخرّجة في الجزء المشار إليه. (¬2) حديث صحيح. أخرجه أحمد 3/ 390 وأبو داود (4734) والترمذي رقم (2925) وابن ماجة رقم (201) والدارمي رقم (3357) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 2/ 175 - والبخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (86، 205) وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (284) والحاكم 2/ 612 - 613 وأبو نعيم في "دلائل النبوة" رقم (217) واللالكائي في "السنة" رقم (554، 555) والبيهقي في "الاعتقاد" ص: 100 و"الأسماء والصفات" ص: 187 و"دلائل النبوة" 2/ 413 وإسماعيل بن الفضل الأصبهاني في "الحجة" ق 48/ أ - ب من طرق عن إسرائيل: حدثنا عثمان ابن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به. قلت: وإسناده صحيح، وصححه الترمذي والحاكم وأقرَّه الذهبي. وتابع إسرائيلَ شريكٌ القاضي. أخرجه إسماعيل بن الفضل ق 61/ ب. وإسناده جيدٌ في المتابعاتِ. (¬3) حديث حسن. =

4 - حديث أبي أمامةَ أنَّ رجلاً أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: يا نبيَّ الله، أنبيَّاً كانَ آدمُ؟ قالَ: "نَعَمْ، مُكَلَّمًا". قَالَ: كم بينَه وبينَ نُوحٍ؟ قالَ: "عَشرةُ قُرون" (¬4). ¬

_ = أخرجه عثمان الدارميُّ في "الرَّدِّ على الجَهْميَّة" رقم (287، 340) واللالكائي رقم (557) من طريقين، الأولى عند الدارمي: محمد بن سَواء، والثانية عند اللالكائي: عبد الوهاب بن عطاء، كلاهما عن سعيد بن أبي عَروبةَ عن أشعث الخُدّاني عن شَهر بن حوشَب عن أبي هريرة به. قلت: وهذا سند حسن، وعبد الوهاب قديم السماع من سعيد، وصرَّح بسماعهِ منه. ورواه عَمرو بن حمدان عن سعيد، وكذا يونس بن واقد عنه، وذكرا قتادة بدلَ أشعث ولا يبعد أن يكون من تخليط سعيد، ورواية عبد الوهاب أثبثُ. ورواه عُمَر الأبَحُّ عن سعيد فزاد فيه تخليطًا، والأبَحُّ هذا قال البخاري: "منكر الحديث". ورواه حمادُ بن سلمة عن أشعث عن شهر به مرسلًا, ورواية سعيد أصحٌّ. وللحديث شاهد من حديث أبى سعيد الخدري مرفوعًا: " ... وفضلُ كَلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقهِ". أخرجه الترمذي رقم (2926) والدارمي رقم (3359) وآخرون من حديث محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهَمْداني عن عَمْرو بن قيس عن عطية -هو العوفي- عن أبي سعيد الخدري به. قلت: وإسناده صالح في الشاهد. (¬4) حديث صحيح. أخرجه الدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (299) وابن حبان رقم (2085 - =

5 - حديث النعمان بن بشير عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله كَتَبَ كتابًا قبلَ أن يخلقَ السماواتِ والأرضَ بألفَي عام، فأنزلَ منه آيتين ختمَ بِهما سورةَ البقرةِ، فلا تقْرآنِ في "دارٍ ثلاثَ ليالٍ فيقرَبُها شَيْطانٌ" (¬5). ¬

_ = موارد) والطبراني في "الكبير" 8/ 139 - 140 و"الأوسط" رقم (405) والحاكم 2/ 262 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 206 وابن عساكر 2/ 325/ ب من طريق الربيع بن نافع ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلّام أنَّه سمعَ أبا سلاّم يقول: حدثني أبو أمامة به. قلت: وهذا سند صحيح. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". وأقرّه الذهبي، وابن كثير في "البداية والنهاية" 1/ 101. وقال الهيثمي في "المجمع" 1/ 196 و 8/ 210: "رجاله رجال الصحيح" زاد في الموضع الثاني: "غير أحمد بن خُليد الحلبي وهو ثقة". قلت: هو شيخ الطبراني في الحديث، وهو متابَع أيضًا. (¬5) حديث صحيح. أخرجه أحمد 4/ 274 والترمذي رقم (2882) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (967) والدارمي رقم (2290) وابن حبان رقم (1726 - موارد) والحاكم 1/ 562 أو البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 231 - 232 من طرق عن حماد بن سلمة قال: حدثنا الأشعث بن عبد الرحمن عن أبي قِلابة عن أبي الأشعث الصَّنْعاني عن النعمان بن بشير به. قلت: وهذا سند صحيح، ورجاله ثقات. وأبو الأشعث الصنعاني اسمه شَراحيل بن آدَة. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" وأقرّه الذهبي. =

6 - حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: احتُبسَ علينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذاتَ غداةٍ عن صَلاةِ الصُّبْحِ، حتَّى كِدْنا نَتراءى قَرْنَ الشَّمسِ، فخَرَجَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- سَريعًا، فَثوَّبَ بالصَّلَاةِ، وصلَّى وتجوَّز في صَلاتِهِ، فلمّا سلَّمَ قال: "كَما أنتمْ على مَصافِّكمْ". ثمَّ أقبلَ إلينا فقال: ¬

_ = قلتُ: لكن الكوثريَّ الزائغَ قال فى تعليقه على "الأسماء والصفات" في شأن الأشعث وأبي قِلابة: "تكلَّم به النسائي -يعني الأشعث- وأبو قلابة مدلس". قلتُ: الأشعث الذي تكلَّم فيه النسائي هو ابن عبد الرحمن اليامي، غير هذا، وهذا ابن عبد الرحمن الجَرْمي، كما صرّح به في رواية الترمذي وغيره، وقد قال أحمد: "ما به بأس" وقال ابن معين: "ثقة" وذكره ابن حبان في "الثقات". وأمَّا أبو قلابة -واسمه عبد الله بن زيد- فإنَّه ثقة يُرسل كثيراً، وأخطأ مَنْ وَصَفَه بالتدليس. وإنما أراد الكوثريُّ إبطالَ دلالة هذا الحديث على خِلاف مذهبه في كلام الله تعالى، وهي شِنْشِنَةٌ عهدناها منه. تنبيه: وقع عند الترمذي: "أبو الأشعث الجَرْمي" وإنَّما هو الصَّنعاني، قال المزِّي: "وقع في رواية الترمذي: عن أبي الأشعث الجَرْمي، وهو وهم، وإنما هو الصنعاني، واسمه شراحيل". والحديث رواه رَيْحان بن سعيد عن عبّاد بن منصور عن أيُّوبَ عن أبي قِلابة عن أبي صالح الحارثى عن النعمان بن بشير به. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (966) والطبراني في "الصغير" رقم (147). قلتُ: وهذا إسناد ضعيف, لا يُقابِلُ الإِسنادَ الأوَّلَ قوّةً، فإنَّ روايةَ ريحان عن عباد عن أيُّوب عن أبي قلابة ضعيفة.

"إنِّي سأحدِّثكُم ما حَبَسَني عنكم الغَداةَ: إنِّي قمتُ من اللَّيلِ، فصلَّيتُ ما قُدِّرَ لي، فنَعَسْتُ في صَلاتي حتى [استثقَلتُ] (¬6) فإذا بربّي عَزَّ وَجَلَّ في أحسنِ صورةٍ، فقال: يا مُحَمَّد، أتدري فيمَ يختصمُ المَلأ الأعلى؟ قلتُ: لا أدري يا ربِّ، قال: يا محمَّدُ، فيمَ يَختصِمُ الملأ الأعلى، قلت: لا أدري يا ربِّ، فرأيتُهُ وضعَ كَفَّه بين كَتِفَيّ، حتى وَجَدْتُ بَرْدَ أنامِلِهِ بينَ صَدْري، فتجلَّى لي كلُّ شَيءٍ، وعَرَفْتُ، فقال: يا محمَّدُ، فيمَ يختصِمُ الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفّاراتِ، قال: وما الكفّاراتُ؟ قلتُ: نَقْلُ الأقْدامِ إلى الجُمُعاتِ، وجُلوسٌ في المساجِدِ بعد الصلاةِ، وإسباغُ الوضوءِ عِنْدَ الكريهاتِ، قال: وما الدَّرَجاتُ؟ قلت: إطعامُ الطعام، ولِينُ الكلام، والصلاةُ والناسُ نيام، قال: سَلْ، قلتُ: اللَّهُمَّ إني أسألُكَ فِعلَ الخَيْراتِ، وتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وحُبَّ المَساكينِ، وأنْ تَغْفِرَ لي، وتَرْحَمَني، وإذا أردتَ فتنةً في قومٍ فتوَفَّني غيرَ مفتونٍ، وأَسألُكَ حُبَّكَ، وحُبَّ من يُحِبُّكَ، وحُبَّ عَمَلٍ يقرّبُني إلى حُبِّكَ". وقالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّها حقٌّ فادْرسُوها وتَعَلَّمُوها" (¬7). ¬

_ (¬6) وقع في "مسند الإِمام أحمد": " ... استيقظت ... " وهي مختلّة، وما أثبته هو الصواب وهو في بقية مصادر التخريج كما أوردته على الصواب. (¬7) حديث صحيح. أخرجه أحمد 5/ 243 والترمذي رقم (3235) وابن خُزيمة في "التوحيد" ص: 218 - 219 وغيرهم من طريق جَهْضَم بن عبد الله اليمامي ثنا يحيى -يعني ابن =

• من الأثر: 1 - عن نِيار بن مُكْرَم -وكانَتْ له صحبةٌ- أنَّ أبا بكرٍ رضيَ الله عنه خاطَرَ قَوْمًا مِنْ أهْلِ مكَّةَ على أنَّ الرُّومَ تغلِبُ فارسَ، فغلَبَت الرُّومُ، فنزلَتْ {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 - 2] فأتى قُريْشًا، فقرأها علَيهم، فقالوا: كلامُكَ هذا؟ أم كَلامُ صاحِبك؟ قال: "ليسَ بِكَلامي، ولا كَلامِ صاحِبي، ولكنَّه كَلامُ الله عَزَّ وَجَلَّ". وفي لفظٍ: "الله عَزَّ وَجَلَّ أنزلَ هذا" (¬8). ¬

_ = أبي كثير - ثنا زيد -يعني ابن أبي سَلّام- عن أبي سلَّام أنه حدّثه عبدُ الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن يَخامِر أنَّ معاذ بن جبل قال: فذكره. زيد بن أبي سلّام هو زيد بن سلّام بن أبي سلّام نُسِبَ إلى جده. قلتُ: وإسناده صحيح. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، سألتُ محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- عن هذا الحديث؟ فقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ... ". قلت: وأورِدَ على إسنادِ الحديث اختلافٌ، غير ضارّ في ثُبوتهِ، ولَه شاهد عن جَماعةٍ من الصحابة، تفصيلها في غير هذا الموضع. (¬8) أثر صحيح، وله حكم الرفع. أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص: 166 - 167 وعبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (116) "البيهقي في "الاعتقاد" ص: 102 و"الأسماء والصفات" ص: 239 وإسماعل بن الفضل في "الحجة" ق 61/أ - ب من طريق سُريْج بن النُّعمان حدثني عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه عن عُروة بن الزبير عن نيار بن مُكْرَم به. قلت: وإسناده جيد. وهو عند الترمذي رقم (3194) من غير موضع الشاهد، وصححّه.

2 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالَتْ -في قصَّةِ الإِفكِ-: "والله ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله يُنْزِلُ بَراءتي وَحْيًا يُتْلى، ولَشأني في نفسِي كانَ أحْقَرَ منْ أنْ يتكلَّمَ الله فِيَّ بأمْرٍ يُتلى ... " (¬9). 3 - وعن فَرْوَةَ بن نَوْفَل الأشْجَعيّ قالَ: كُنْتُ جارًا لخبّابٍ، فخرجْنا يومًا من المسجدِ، وهو آخِذٌ بيَدي، فقال: "يا هَناهُ، تقَرَّبْ إلى الله ما استطعتَ، فإنَّكَ لن تقرَّبَ إلَيهِ بشَيءٍ أحَبَّ إليه من كَلامِهِ -يعني القرآن-" (¬10). ¬

_ (¬9) متفق عليه. (¬10) أثر صحيح. أخرجه أحمد في "الزهد" ص: 35 وأبو بكر بن أبي شيبة 10/ 510 - 511 وعبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (111، 112، 113) والدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (310) والآجري في "الشريعة" ص: 77 والحاكم 2/ 441 واللالكائي رقم (558) والبيهقي في "الاعتقاد" ص: 103 - 104 و"الأسماء والصفات" ص: 241 من طرق عن منصور بن المعتمر عن هلال بن يساف عن فَرْوة بن نوفل الأشجعيّ به. قلت: وإسناده صحيح. قال الحاكم: "صحيح الإِسناد" وأقرّه الذهبي. وقال البيهقي: "هذا إسناد صحيح". قلت: خَبَّاب، هو ابن الأرَتّ، صحابيٌّ معروفٌ. وقوله: "يا هَنَاه": أي: يا هذا، وهي مختصَّة بالنداء، وقد قيل: إنها تكون للأبله أو لتنبيه الغافل.

4 - عن نافع (هو مولى ابن عمر) قال: خطَبَ الحَجَّاجُ (هو الثَّقفيُّ) فقال: إنَّ ابن الزُّبَيْر (هو عبد الله) يُبدِّلَ كَلامَ الله تعالى، قال: فقال ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: "كَذَبَ الحَجَّاجُ، إنَّ ابنَ الزُّبَيْر لا يُبَدِّلُ كلامَ الله تعالى، ولا يَسْتطيعُ ذلكَ" (¬11). 5 - عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ (تابعيٌّ ثِقَةٌ إمامٌ) قال: "فَضْلُ القرآنِ على سائِرِ الكَلَامِ كَفَضْلِ الرَّبِّ على خَلْقِهِ، وذلكَ أنَّهُ مِنْهُ" (¬12). 6 - وعن قَتادةَ (بن دِعامَة السَّدُوسيّ، ثِقَةٌ عالمٌ من خِيَار أصْحاب أنَس) قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ...} [البقرة: 26] ¬

_ (¬11) أثر صحيح. أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 244 بسند صحيح. (¬12) أثر جيد الإِسناد. أخرجه الدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (341) واللالكائي في "السنة" رقم (556) والببهقي في "الاعتقاد" ص: 101 و"الأسماء والصفات" ص: 237 من طرق عن إسحاق بن سليمان قال: ثنا الجَرَّاحُ بن الضَّحَّاك الكِنْدي عن علقمة بن مَرْثَد عن أبي عبد الرَّحمن به عقبَ روايتهِ لحديث عثمان رضي الله عنه عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه". وهذا الحديث في "الصحيح" دونَ قول أبي عبد الرَّحمن. قلتُ: وإسناده جيدٌ.

قالَ: "أي: يعلَمونَ أنَّهُ كلامُ الرَّحمن" (¬13). والخبَرُ عن رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابهِ المَرْضِيِّينَ رضي الله عنهم، وأتباعِهم رحمهم الله في ذلك لا يَدْخلُ تَحْتَ الحَصْرِ، وفيما أوْرَدْناهُ من ذلك كافٍ لمَنْ طلبَ الحقَّ وأرادَهُ. • من المعقول: وأما دَلالةُ المَعقول على إثباتِ صفةِ الكلام لله تعالى فمنْ وَجْهَيْنِ: الوجه الأول: إنَّ الكلامَ صفةُ كمالٍ، وضِدَّها صفةُ نَقْصٍ، وهي: البكَم والخَرَس، وهذه الصِّفةُ إنْ وُجِدَتْ في المخلوقِ العاجزِ الضَّعيفِ كانتْ نقْصًا بيّنًا، فكيفَ يصلحُ إثباتُها لِمَن لَه الكمالُ المطلقُ سبحانه؟ وكيفَ يصحُّ ذلكَ وهو واهبُ الكمالِ للكاملينَ؟ أفيصحُّ أن يهبَ عبدَه ما هو عاجزٌ عن الاتّصافِ به من صِفاتِ الكَمال؟ إنَّ لله تعالى المثلَ الأعلى، والكمالَ من جَميعِ وجوههِ، وهو السَّلامُ المَلِكُ القُدُّوسُ المُتعالي عن المَعايب والنّقائص، فحيثُ نَفَيْنا عنه كلَّ عَيْبٍ ونَقْص فهو إذًا المتّصف بكَمال ضِدِّ ذلك، فلمَّا كانَ ضِدُّ الكلام نقْصًا نزَّهْناه عنه وأثبتنا لَه كَمالَ ضدِّهِ، ألا وهو الكلامُ الذي لا نظيرَ له، كسائرِ صفاتهِ. ¬

_ (¬13) أثر صحيح. أخرجه الدارمي أبو محمد في "السنن" رقم (3355) وابن جرير في "تفسيره" 1/ 180. وإسناده صحيح.

ولقَدْ جاءَ القرآنُ العظيمُ بتقرير هذا المعقولِ أحسن تقرير، فقال تعالى في العِجْل الَّذي اتَّخَذه قومُ موسى إلهًا يعبدونَهُ من دون الله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف: 148] وقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [طه: 89] فعابَ العِجْلَ بكونهِ قَدْ سُلِبَ صِفَةَ الكلام، فدلَّ على أنَّ سَلبَها صفةُ نَقْصٍ لا تَليقُ بالإِله المعبودِ، وما كانَ ليَعِيبَ إلهَهُم الباطلَ، بما هو عَيْب فيه، تعالى وتقدّس. وقال سُبحانَهُ في حكايةِ قَوْلِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لقَومِهِ حين حَطَّمَ أصنامَهم: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63] فكانَ جوابُهُمُ الإِقرارَ بسَلْبِ لهذه الصِّفَةِ عن آلهتهم، والاعتراف بأنَّ ذلكَ نقصٌ فيها {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 64 - 65] فكانَتْ هذه حُجَّةَ إبراهيمَ عليهم لإِظهار فَسادِ دينِهم {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67]. فَدَلَّت الآياتُ على أنَّ سَلْبَ صِفَةِ الكَلَامِ صِفَةُ نَقْصٍ فيمَنْ سُلِبَتْ عنه، فكانَ من حُجَّةِ إبراهيمَ عَلَيهم: أنَّ آلهتَهم لَا تتكَلَّم، فلو لم يَكن ضدُّ هذه الصِّفةِ لازِمًا لربّه تعالى، لم يكُنْ له في إلزامهِ إيّاهم حجْةٌ عليهم، لمُساواةِ إلهِهِ لآلِهَتِهِم في سَلْبِ لهذه الصِّفَةِ، ولصَحَّ لقومِهِ أنْ يقولوا لَه: ما وصفتَ به آلهتنَا منَ النَّقْصِ هو صفةٌ لإلهكَ أيضًا، فتبطلُ بذلك حُجَّتُهُ، ولكن لمَّا كانَ الله تعالى مَوْصوفًا بصفةِ الكلامِ لمْ يكن لهم أنْ يعْتَرضوا

عليه بمِثْلِ ما اعترضَ عليهم. والوجه الثاني: إنَّ العبادَ لا غِنى لهم عن إرسال الرُّسُلِ، وإنزالِ الكُتُب، لأنَّ أحوالَ الدُّنيا والآخرةِ لا تَستقيمُ لهم إلّا بذلكَ، بَلْ إنَّ الحكمةَ من خَلقِهم تنتفي بدونِ ذلكَ، ويَعيشُ الناسُ في الدُّنيا عيشَ البَهائِم بغيرِ تَكليفٍ، فلا أمرٌ ولا نَهْيٌ. فلمَّا كانوا لا غنى لهم عن ذلك أرسَلَ الله تعالى الرُّسُلَ وأنزَلَ عليهم الكتبَ، إذ لو تركَهُمْ لعقولهم لضلّوا، وليس للرَّسول معنى إلَّا تبليغ الرِّسالة، والرِّسالةُ إنَّما هي وحيُ الله الذي يوحيهِ إلى رسلِهِ، ووَحْيُهُ إنَّما هو كلامه تعالى، ومنه كتبه المُنْزَلَةُ الهاديةُ. فبانَ بما شَرَحْنَاه ثبوتُ صفةِ الكلامِ لله تعالى، على رَغْمِ أنوفِ الجَهْمِيَّةِ الكُفَّار، ولله الحمدُ والمنَّة.

المبحث الثالث: التكليم في الدنيا

المبحث الثالث: التكليم في الدنيا قالَ الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]. فأخبرَ تعالى في هذه الآيةِ أنَّ تكليمَه للبَشَر يقعُ على ثلاثِ مَراتب: • المرتبة الأولى: الوحي المجرد: ودليلُهُ قولُهُ: {إِلَّا وَحْيًا}. وهذا غير الوَحْي العامّ الذي يشمَل جميعَ أنواع التكليم، وإنَّما هو نوعٌ منه، وقد فُسِّرَ بالإِعلام السَّريع الخَفيّ، ويقعُ للأنبياءِ عليهم السَّلام مَنامًا. ومن الدَّليل عليه: 1 - رؤيا إبراهيبم عليه السلام: قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا

تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ الله مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 101 - 105]. قَالَ عُبيد بن عُمير: "رُؤيا الأنبياءِ وحيٌ"، ثمَّ قرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (¬14). 2 - وعَن عائشة رضي الله عنها قالت: "أوَّلُ ما بُدِىءَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من الوَحي الرُّؤيا الصَّالحةُ (وفي لفظ: الصّادقةُ) في النَّوْم، فكانَ لا يَرى رؤيا إلاَّ جاءت مِثْل فَلَقِ الصُّبْحِ" (¬15). 3 - وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّي قُمْتُ من اللَّيل، فصَلَّيْتُ ما قُدِّرَ لي، فنَعَسْتُ في صَلاتِي حتى استثقلْتُ، فإذا أنا بربّي عَزَّ وَجَلَّ في أحسَن صُورة، فقال: يا محمَّدُ، أتَدْري فيمَ يختصمُ المَلأ الأعلى؟ ... " الحديث وقد سبق بطوله في المبحث السابق (¬16). وليسَ الإِلهام الذي يحصَلُ لآحاد النَّاس من هذا النوع، لأنَّه لا يَصِحُّ تسميتُه تكليماً خِلافًا لما ذهبَ إليهِ بعضُ أهْلِ العلم من المتأخْرينَ. ¬

_ (¬14) رواه البخاري، وعُبيد بن عمير هو الليثي تابعي ثقة عالم. (¬15) متفق عليه. (¬16) ص 89 - 90.

• والمرتبة الثانية: التكليم الخاص من وراء حجاب بلا واسطة: والدَّليلُ عليه قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}. وهذا تكليمٌ مباشرٌ منَ الرَّبِّ تعالى، بكَلامٍ يُسْمِعُهُ مَنْ شاءَ من رسُلِهِ، من وراءِ حجابٍ. وهذه المَرتبة أعلى مَراتب التَّكليم وأشْرَفُها وأفضَلُها، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ...} [البقرة: 253]. وقد وقعَ هذا النوعُ لثلاثةٍ من الأنبياءِ فيما جاءَ به السَّمعُ، هم: 1 - آدم عليه السلام: والدليلُ عليه قولُه تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ ...} [البقرة: 37]. ومن السُّنَّةِ: حديثُ أبي أمامَة رضيِ الله عنه أنَّ رجُلًا أتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قال: يا نبيَّ الله، أنبيًّا كانَ آدم؟ قال: "نعَمْ، مكلَّمًا" (¬17). 2 - موسى عليه السلام: والأدلَّة عليه من الكتاب كثيرةٌ منها: قَولُهُ تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وقَولُهُ تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] وقَوْلُهُ تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} ¬

_ (¬17) سبق الحديث وتخريجه في المبحث السابق ص 86 - 87.

[الأعراف: 144]. ومن السُّنَّةِ: حديثُ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مُوسى قال: يا ربِّ أرِنا آدمَ الَّذي أخرجَنا ونفسَهُ من الجَنَّةِ، فأراه الله آدم، فقال: أنتَ أبونَا آدمُ، فقال له آدمُ: نَعَمْ، قال: أنتَ الذي نَفَخَ الله فيكَ من رُوحِهِ وعلَّمَكَ الأسماءَ كلَّها، وأمَرَ الملائكةَ فَسَجَدوا لكَ؟ قال: نَعَمْ، قالَ: فما حملَكَ على أنْ أخرَجْتَنَا ونفسَكَ من الجنَّةِ؟ فقال له آدمُ: وَمَنْ أنْتَ؟ قال: أنَا مُوسى، قال: أنتَ نبيُّ بني إسرائيل الَّذي كَلَّمكَ الله من وَراءِ الحِجابِ، لم يَجْعَلْ بينَكَ وبينه رَسولاً من خَلْقِهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أفما وَجَدْتَ أنَّ ذلك كانَ في كتابِ الله قبلَ أنْ أخْلَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فِيمَ تلومُني؟ في شَيْءٍ سَبَقَ من الَله تعالى فيه القضاءُ قَبْلي؟ "قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "فحَجَّ آدمُ مُوسى، فحَجَّ آدمُ مُوسى" (¬18). وقد سَمّى الله تعالى هذا التَّكليم نِداءً، كما قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ¬

_ (¬18) حديث صحيح. أخرجه عبد الله بن وهب في "القدر" رقم (3) ومن طريقه: أبو داود رقم (4702) وأبو يعلى رقم (243) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (137) وآخرون. وإسناده جيد. وقد استوعبت الكلام عليه في جزء مستقل، كما أشرت إليه فيما سبق في التعليق على حديث أبي هريرة ص 85.

لِذِكْرِي} [طه: 11 - 14]، وكَما قالَ سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل: 8 - 9] وكَما قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]. 3 - نبيّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: ووقعَ لَه ذلك في قِصة المِعراج عندَ سِدْرةِ المُنْتَهى. قال -صلى الله عليه وسلم-: "فأوْحى الله إلىَّ ما أوْحى، ففرَضَ على خَمْسينَ صلاةً في كلّ يومٍ وليلةٍ، فنزلتُ إلى موسى -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ما فَرَضَ ربُّكَ على أمَّتِك؟ قلتُ: خَمْسينَ صَلاةً، قالَ: ارْجِعْ إلى ربِّكَ فاسْألهُ التَّخفيفَ، فإنَّ أمَّتَكَ لا يُطيقونَ ذلكَ، فإنيِّ قدْ بلَوْتُ بني إسْرائيلَ وخبَرْتُهم، قال: فرَجَعْتُ إلى رَبِّي، فقلتُ: يا ربّ، خَفِّفْ على أمَّتي، فحَطَّ عنِّي خمْساً، فرَجَعْتُ إلى مُوسى فقلتُ. حَطَّ عنّي خَمْساً، قال: إنَّ أمَّتَكَ لا يُطيقونَ ذلكَ، فارْجِعْ إلى ربِّكَ فاسألْهُ التَّخفيفَ، قالَ: فَلَمْ أزَلْ أرجِعُ بينَ رَبِّي تباركَ وتعالى وبينَ موسى عليه السَّلامُ، حتى قال: يا محمَّدُ، إنَّهُنَّ خمسُ صَلَواتٍ كُلَّ يومٍ وليلةٍ، لكُلِّ صلاةٍ عشرٌ، فذلك خَمْسونَ صَلاةً، ومَنْ همَّ بحَسَنةٍ فلمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ له حسنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ له عَشْراً، ومَنْ هَمَّ بسيِّئةٍ فلمْ يعمَلْها لمْ تُكْتَبْ شيئاً، فإن عَمِلَها كُتِبَتْ سيَّئةً واحدةً، قال: فنَزَلتُ حتى انتهَيْتُ إلى موسى -صلى الله عليه وسلم- فأخبَرْتُهُ، فقالَ: ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألْهُ التَّخفيف"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فقلتُ: قَدْ رَجَعْتُ إلى رَبِّي حتَّى استحيَيْتُ منه" (¬19). ¬

_ (¬19) متفق عليه من حديث أنس بن مالك، والسياق لمسلم.

قلتُ: ولهذا التكليمُ هو المرادُ بقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]. وقَدْ ذَهبَ بعضُ أهل العلم إلى أنَّ هذا التكليمُ كانَ بواسطةِ جبريلَ، فقالوا: فأوحى إلى عبدِهِ بواسطةِ جبريلَ ما أوحى، أي: جبريلُ. وهذا مَرْدودٌ، إذ الأصل عدَمُ الحَذْفِ في الكَلام، وظاهرُ الحديثِ أنَّ الخطابَ منَ الله تعالى لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- كانَ بغير واسطةٍ، ومِنْ قَرائِنِهِ مُراجعةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَبَّهُ، وكذا يؤكِّدُهُ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- رُفِعَ إلى موضعٍ لَمْ يُرْفَع إليه موسى عليه السَّلامُ الَّذي فُضِّلَ بكَلام الله، ولا إبراهيمُ عليه السلام الَّذي فُضِّلَ بالخُلَّةِ، فذلكَ مُسْتَوْجبٌ أنْ يكونَ فَضْلُه أعظمَ من فَضْلِ مَنْ دونَه، فجَديرٌ به أنْ يَنالَ دَرَجاتِ الفَضْلِ التي حصَّلها مَنْ دونَهُ. والَّذي ألْجَأ القائلينَ بهذا إلى هذهِ المَقالَةِ أنَّهم التَزموا أنَّه -صلى الله عليه وسلم- إنْ أثْبتَ له تكليمُ الله تعالى إيَّاه بغير واسطةٍ، فإنَّ ذلك يستجبُ رُؤْيَتَه -صلى الله عليه وسلم- لِرَبِّه، والتَّحقيقُ الَّذي عليه جُمهورُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- لَمْ يَرَ ربَّه تعالى ليلةَ الإِسراءِ. والصَّواب أنَّ هذا الَّذي التزموه ليسَ بلازمٍ, لأنَّ التَّكليمَ غيرُ الرُّؤْيَةِ، وهو مُمْكِنُ الوقوع بخِلافِ الرُّؤْية، وذلك من وَراء حِجابٍ، كَما وقَعَ لمُوسى عليه السَّلام، فإنَّ موسى لمْ يَرَ ربَّه، معَ أنَّهُ كَلَّمَهُ وناداه. وقد عَلِمْنا أنَّ هذه المرتبةَ من التَّكليمِ أكْمَلُ المَراتبِ وأعلاها, فهي فضلٌ عظيمٌ، ودرَجةٌ رَفيعةٌ، فحَرِيُّ أن تكونَ لسيّدِ ولدِ آدمَ عليه الصلاة والسلام.

• والمرتبة الثالثة: التكليم بواسطة الرسول: والدَّليلُ عليه قولهُ: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}. والرَّسولُ جبريلُ عليه السلام، وربَّما كانَ غيرَهُ، إلاَّ أنَّ ذلك قليلٌ، وهذا في الرُّسُلِ من المَلائكةِ، أمَّا الرُّسُلُ من البَشَر فإنَّ الله تعالى يكلّم أمَمَهم بواسِطَتِهم، كَما يكَلِّمُهم بواسطةِ الرَّسولِ المَلَكيّ. وبيانُهُ: أنَّ الرَّسولَ المَلكىَّ يسمَعُ كَلامَ الله من الله بغير واسطةٍ، فَيُبَلِّغُهُ إلى الرَّسولِ البَشَريّ، فهذا تكليمٌ بالواسطةِ، والرَّسُولُ البَشَرِيُّ يُبلِّغُهُ أمَّته، وهذا أيضاً تكليمٌ بالواسطةِ، وكُلُّ مَنْ كلَّمَهُ الله بالواسطةِ فهو سامعٌ لكَلامهِ من الواسطةِ لا مِنَ الله تعالى. وجبريلُ عليه السلام هو الذي كانَ يأتي نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- بالوَحْي من ربَّهِ، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وقالَ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ....} [النحل: 102]، وقالَ تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]، وقال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 1 - 6] وهو جبريلُ عليه السَّلام. ولقدْ كانَ يأتي النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بصورةِ بشَر، تأنيساً لَه، فإنَّه عليه السَّلام

خَلْقٌ عَظيمٌ من خَلْقِ الله تعالى، ولم يره النبُّيُّ -صلى الله عليه وسلم- على صُورتهِ إلاَّ مَرَّتين، كَما قالَتْ عائشةُ رضي الله عنها لمَسْروقٍ حين سألَها عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23]، وقولِه: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]: أنا أَوَّل هذه الأمَّةِ سألَ عَنْ ذلك رَسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالَ: "إنَّما هو جبريلُ، لَمْ أرَه على صُورتِهِ الَّتي خُلِقَ عَليها غيرَ هاتَيْن المَرَّتَيْنِ، رأيْتُهُ مُنْهَبِطاً من السَّماءِ، سادّاً عِظَمُ خَلْقِهِ ما بَيْنَ السماء إلى الأرْضِ" (¬20) وقالَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه في هذه الأية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رأيْتُ جبريلَ عند سِدْرةِ المُنتْهى، عليه سِتُّ مِئَةِ جَناح، يُنْثَر من ريشِهِ التَّهاويلُ: الدّرُّ والياقوتُ" (¬21). ولقَدْ أنبأنا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- نفسُه عن صِفَةِ إتيانِ الوَحْيِ إلَيْهِ، حينَ سألَه الحارثُ بن هِشام رضي الله عنه، فقال: يا رسولَ الله، كيفَ يأتيكَ ¬

_ (¬20) قطعة من حديث صحيح. أخرجه أحمد 6/ 236، 241 ومسلم رقم (177) والترمذي رقم (3068) من طرق عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق به. قال الترمذي:"حديث حسن صحيح، ومسروق بن الأجدَع، يُكْنى أبا عائشة، وهو مسروق بن عبد الرحمن ... ". قلت: وأصلُ الحديث عند البخاري في "الصحيح". (¬21) حديث جيد الإِسناد. أخرجه أحمد 1/ 412، 460 وابن طَهْمان في "مشيخته" رقم (126) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 7/ 25 - وأبو يعلى في "مسنده" رقم (4993) وابن خزيمة في "التوحيد" ص: 203 وابن جرير في "تفسيره" 27/ 49 من طرق عن حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زِرّ عن ابن مسعود به.

الوَحْيُ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحْياناً يأتيني مِثْلَ صَلْصَلةِ الجَرَسِ وهو أشدُّهُ عَلَيَّ، فيفْصِمُ عَنِّي وقَدْ وَعَيْتُ عنهُ ما قالَ، وأحْياناً يتمثَّلُ ليَ المَلَكُ رَجُلاً فَيكلِّمُني، فأعِي ما يَقولُ" (¬22). ولَقَدْ أتى مَرْيَمَ عليها السَّلام بصُورةِ بَشَر، كمَا قالَ تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} [مريم: 17 - 19]. وجاءتْ الملائكةُ رسلُ الله إلى إبراهيمَ ولوطٍ عليهما السَّلام بصورةٍ بشريّة، كما حكى الله في سُورةِ هودٍ وغيرِها. وإنَّما كانَ ذلك يَقَعُ كذلكَ لأنَّ البشَر يأْنَس جِنسَه، ولا يَرتاعُ لرؤيته، ففيه من تهدئةِ القلبِ ما لا يكونُ لو أتى بصورة المَلَكِ، ومنْ طبيعةِ بني آدمَ النفرةُ من الأمورِ غيرَ المألوفة، ولذا كانت هذه من حكمةِ الله تعالى في إرسال الرُّسلِ إلى البشر من أنفسِهم، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا ¬

_ (¬22) حديث صحيح. أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 202 - 203 وأحمد 6/ 158، 163، 256 - 257 والبخارى 1/ 18 و 6/ 304 ومسلم 4/ 1816 - 1187 والترمذي رقم (3634) والنسائي في "المجتبى" 2/ 146، 147 وفي "الكبرى" كما في "فضائل القرآن" له رقم (4) وكما في "تحفة الأشراف" 12/ 193 - 194 من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ... الحديث. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9] وقالَ تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 94 - 95]. قال الحافظُ ابنُ كَثير: "فمِنْ رحمتهِ تعالى بخلقِه أنَّه يرسلُ إلى كُلِّ صنفٍ من الخَلائق رسُلاً منهم، ليدعوَ بعضُهم بعضاً، ولِيُمْكِنَ بعضُهم أنْ ينتفعَ ببعضٍ في المُخاطبةِ والسُّؤالِ" (¬23). قلتُ: ولذا امتنَّ الله تعالى على المؤمنينَ بذلكَ، فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ....} الآية [آل عمران: 164]. فهذا بيانُ أنواعِ ومراتب التكليمِ العامَّ الَّذي جاءَت به آيةُ الشورى، وهو متضمَّنٌ إبطالَ أقوَالِ كثيرٍ من المبتدعةِ الَّذين لم يفرِّقوا بين تكليم الله لموسى وتكليمِهِ لغيرهِ بواسطةِ الملَك، ولا بينَ الِإيحاءِ المجرَّد والتكليم الخاصِّ، فوقَعوا بسَببِ ذلك في ضَلالاتٍ، أوْقَعَتْهم في الِإلحادِ في صفاتِ الله تعالى، وتعطيلِ صَريح النُّصوصِ، وإبطالِ حقائِقها. ومما ينبغي التنبيهُ عليه دَفْعاً لِمَا قد يُشْكِل في إطلاقِ لفظ (الوحي) ولفظ (التكليم) في مواضِعَ من كتاب الله تعالى، فالقاعدة في ذلك كما يقول شيخُ الإِسلام رحمه الله: "فيهما عُمومٌ وخُصوصٌ، فإذا كانَ أحدُهما ¬

_ (¬23) "تفسير ابن كثير" 3/ 9.

عامّاً اندرجَ فيه الآخر، كما اندرجَ الوحيُّ في التكليم في هذه الآية، واندرجَ التكليمُ في الوحيِ العامِّ، حيث قال تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه: 13] " (24). • • • • • (24) "مجموع الفتاوى" 12/ 402.

المبحث الرابع: التكليم في الآخرة

المبحث الرابع: التكليم في الآخرة تكليمُ الله تعالى لعبادِه في الآخرةِ يَقَعُ منه إليهم من غير وسائطَ بينَه وبينَهم، والمقصودُ به غيرُ المقصود بالتكليم في الدُّنيا، فإنَّ التكليمَ في الدُّنيا، إنَّما كانَ المرادُ بهِ تقويمَ السُّلوكِ إلى الدَّارِ الآخرةِ، وأمَّا وقوعهُ في الآخرةِ، فعلى أوجهٍ ثلاثةٍ: • الوجه الأول: للحساب والقضاء بين العباد في المحشر: وتستوي الخلائقُ في هذا التكليم إلاَّ أقواماً شاءَ الله أن يَحْرِمَهم ذلك، تَنكيلاً وزيادةً في العذابِ. ومن الدليل على ما ذكرنا: 1 - قولُه تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]. 2 - وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت: 47]. 3 - وحديث أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:

"يَقبِضُ الله الأرضَ، ويَطْوي السَّماواتِ بيمينه، ثمَّ يقول: أنا المَلِكُ؛ أَينَ مُلوكُ الأرضِ؟ " وفي لفظ: "يَقبِضُّ الله الأرضَ يوم القيامة ... " (¬25). 4 - وحديث عَدِىّ بنِ حاتِم رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما مِنْكمْ من أحَدٍ إلا سيكلِّمُهُ الله، ليسَ بينَه وبينَه تُرْجُمانٌ، فينظُرُ أيْمَنَ منه فلا يَرى إلاَّ ما قدَّم، وينظُرُ بينَ يدَيْهِ فَلَا يَرى إلاَّ النَّارَ تِلقاءَ وَجْهِهِ، فاتَّقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرةٍ". وفي لَفْظٍ:"ما مِنْكُمْ من أحْدٍ إلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، ليسَ بينَه وبينَه تُرْجُمانٌ ولا حِجَابٌ يَحْجُبُه" (¬26). 5 - وحديث عبد الله بن أنَيْس رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: ¬

_ (¬25) حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 374 والبخاري 8/ 551 و 11/ 372 و 13/ 367 ومسلم رقم (2787) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 10/ 62 - وابن ماجه رقم (192) والدارمي رقم (2802) من حديث أبي هريرة به. ونحوه في "الصحيحين" وغيرهما من حديث ابن عمر. (¬26) حديث صحيح. أخرجه أحمد 4/ 256 والبخاري 11/ 400 و 13/ 423، 474، ومسلم 2/ 703 - 704 والترمذي رقم (2415) وابن ماجة رقم (185) و (1843) من طرق عن الأعمش عن خيثمة بن عبد الرحمن عن عَدِيّ بن حاتِم به، وربَّما أدخَل الأعمشُ بينه وبين خيثمةَ في بعض أسانيده عَمْرو بن مُرَّة، وهو محفوظٌ من الوجهين. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" قلت: واللفظ الثاني للبخاري.

"يَحْشُرُ الله العِبادَ -أو النَّاسَ- عُراةً غُرْلاً بُهْماً". قلنا: [ما] بُهْماً؟ قال: "ليسَ مَعَهم شيءٌ، فيناديهم بصَوْتٍ يَسْمَعُه مَنْ بَعُدَ -أحسَبهُ قال: كَمَا يَسْمَعُه مَنْ قَرُبَ-: أنا المَلِكُ، [أنا الدَّيَّانُ]، لا يَنبغي لأحَدٍ مِنْ أهلِ الجَنَّةِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ وأحَدٌ مِنْ أهْلِ النَّارِ يَطْلُبُهُ بمظلمةٍ، ولا يَنبغي لأحَدٍ منْ أهل النارِ يدخُلُ النَّارَ وأحَدٌ مِنْ أهَلِ الجَنَّةِ يطلُبُه بمَظلمةٍ". قلتُ: وكيفَ؟ وإنَّما نأتي الله عُراةً بُهْماً؟ قالَ: "بالحسناتِ والسيئاتِ" (¬27). 6 - وحديث صَفْوانَ بن مُحْرِز قال: قالَ رجُلٌ لابن عُمَر: كيفَ سمعتَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقولُ في النَّجْوى؟ قال: سمعتُهُ يقولُ: "يُدْنى المُؤمِنُ يومَ القيامة من ربِّه عزَّ وجَلَّ، حتَّى يضَعَ عليهِ كنَفَه (¬28)، فيقرِّرُهُ بذُنوبهِ، فيقولُ: هَلْ تعرِف؟ فيقولُ: أيْ رَبّ أعرِفُ، قال: فإنِّي قد سَتَرْتُها عليكَ في الدنيا، وإنِّي أغفِرُها لكَ اليومَ: فيُعْطى صَحيفةَ حَسَناتِهِ، وأمَّا الكفّارُ والمنافقونَ فَيُنادَى بهم على رُؤوس الخلائقِ: هؤلاءِ ¬

_ (¬27) حديث حسن. أخرجه أحمد 3/ 495 والبخاري في "الأدب" رقم (970) وآخرون من حديث جبر عن عبد الله بن أنَيس. وقد فصَّلت القولَ فيه في تحقيق جزء "الحديث الذي رحَل فيه جابر بن عبد الله مسيرة شهر" لابن ناصر الدين. (¬28) أي: سِتره.

الذين كذَبُوا على الله" (¬29). وأمَّا الأدلَّةُ على حِرْمانِ أقوامٍ من تكليمِ الله لهم، فمنها: 1 - قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 174 - 175]. 2 - وقوله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]. 3 - حديثُ أبي هُرَيْرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاَثَةٌ لا يكلِّمُهمُ الله [يَوْمَ القيامَةِ]، ولا يَنْظُرُ إليهم، ولا يُزَكّيهم، ولهم عَذابٌ أليمٌ: رَجُلٌ على ماءٍ بالفَلاةِ يمنَعُه مِن ابنِ السَّبيلِ، ورجُلٌ بايَعَ الإِمامَ لا يُبايعُهُ إلاَّ لِدُنيا، فإنْ أعطاهُ منها وَفَى لَهُ، وإنْ لمِ يُعْطِهِ لم يَفِ لَه، ورجُلٌ بايَعَ رَجُلاً سِلعةً بعدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَه بالله لأخَذَها بكذا وكذا، فَصَدَّقهُ وهو على ذلك" (¬30). ¬

_ (¬29) حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 74، 105 والبخاري 5/ 96 و 8/ 353 و 10/ 486 و 13/ 475 ومسلم رقم (2768) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 5/ 437 - لابن ماجة رقم (183) من طرق عن قتادة عن صفوان به. (¬30) حديث صحيح. =

وفي لفظ: "ثلاثَةٌ لا يكلِّمهمُ الله يومَ القيامةِ ولا ينظُرُ إليهم: رَجُلٌ حَلَفَ على سِلْعةٍ: لقد أعطى بها أكثَرَ مِمَّا أعطي، وهو كاذبٌ، ورَجُلٌ حَلَفَ عَلى يَمينٍ كاذبةٍ بعدَ العَصْرِ ليقتطعَ بها مالَ رَجُلٍ مسلمٍ، ورَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مائِهِ، فيقولُ الله [يومَ القيامةِ]: اليومَ أمنَعُكَ فَضْلي كما مَنَعْتَ فَضْلَ ما لَمْ تَعْمَلْ يَداكَ" (¬31). 4 - حديثُ أبي ذرٍّ الغِفاريّ رضي الله عنه عن النبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثَلَاثَةٌ لا يُكلِّمُهمُ الله يومَ القِيامَةِ، ولا يَنْظُرُ إليهم، ولا يُزكِّيهم، ولَهُم عَذابٌ أليمٌ". قال: فَقرَأها رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثَ مِرارٍ. قالَ أبو ذَرّ: خابُوا وخَسِروا، مَنْ هُمْ يا رَسُولَ الله؟ قال: "المُسْبِلُ [إزارَه]، والمَنَّانُ [عَطاءَهُ]، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكاذِبِ" (¬32). ¬

_ = أخرجه أحمد 2/ 253 , 480 والبخاري 5/ 34، 43، 284 و 13/ 201، 423 ومسلم رقم (108) وأبو داود رقم (3474، 3475) والترمذي رقم (1595) والنسائي 7/ 246 - 247 وابن ماجة رقم (2207، 2870) من طريق أبي صالح السَّمَّان عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". (¬31) هذا اللفظ للبخاري في رواية. (¬32) حديث صحيح. أخرجه أحمد 5/ 148، 158، 162، 168، 177 - 178 ومسلم رقم =

5 - وحَديثُ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثةٌ لا يُكلِّمهم الله يومَ القيامةِ، ولا يُزكّيهم، ولاينظُرُ إليهم، ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ" (¬33). وقَدْ نقَلَ الخَلاَّلُ في "كتاب السُّنَّة" من طريق حنبلِ بن إسحاقَ قالَ: قلتُ لأبي عبدِ الله -يعني أحمدَ بن حنبلٍ-: الله عَزَّ وَجَلَّ يُكلِّمُ عبدَه يومَ القِيامة؟ قالَ: "نعم، فمَنْ يقضي بينَ الخلائق إلاَّ الله عَزَّ وجَلَّ، يُكلِّمُ عبدَه ويَسْألُه، الله متكلِّمٌ، لم يَزَلِ الله يأمرُ بما يَشاءُ ويحكُمُ، وليسَ له عَدْلٌ ¬

_ = (106) وأبو داود رقم (4087، 4088) والترمذي رقم (1211) والنسائي 5/ 81 و 8/ 208 وابن ماجة رقم (2208) والدَّارمي رقم (2608) من طريق خَرَشَةَ بن الحُرّ عن أبي ذرّ به. وقال الترمذي: "حديث حن صحيح". (¬33) حديثٌ صحيح. أخرجه مسلم رقم (107) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 10/ 84 - من طريق الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة به. وهو عند أحمد في "المسند" 2/ 480 لكن قال: "عن أبي صالح" بدل: "أبي حازم" وهو في غالب ظني تحريفٌ، وإن صَحَّ أنَّه "أبو صالح" فهو إسناد صحيح، والأعمش إمام حافظ لا يبعد أن يحفظَ الحديث من الوجهين. وأخرجه النسائي 5/ 86 من طريق محمد بن عَجْلان عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه. قلت: وإسناده جيدٌ، وهي متابعة قويَّةٌ لأبي حازم.

ولا مِثْلٌ، كيفَ شاءَ، وأنَّى شاءَ" (¬34). قلتُ: وفيما سُقْتُهُ من الأدلَّة نَصٌّ قاطعٌ على صحّةِ هذه العقيدة، وفي حِرْمانِ الله تعالى أقواماً من تكليمهِ زيادةً في العَذاب دليلٌ على إثباته لسِواهم، وإلاَّ فلا فائدةَ بتخصيص هذه الأصنافِ دونَ سائر مَن يُحاسَبُ بِعَدَمِ التَّكليمِ. • والثاني: تكليمه تعالى لأهل الجنة نعمة منه وفضلا: ومن الدَّليلِ عليهِ: حديثُ أبي سعيدٍ الخُدْري رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله تباركَ وتعالى يقولُ لأهلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فيقولونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيكَ، فيقولُ: هل رَضِيتم؟ فيقولون: وما لَنا لا نَرضى وقدْ أعْطَيْتَنا ما لم تُعْطِ أحَداً من خَلْقِكَ؟ فيقولُ: ألاَ أعْطِيكم أفْضَلَ من ذلكَ؟ قالوا: يارَبّ، وأيُّ شيءٍ أفضَلُ من ذلكَ؟ فيقولُ: أحِلُّ عليكُم رِضْواني، فلا أسْخَطُ عليكم بعدَه أبداً" (¬35). ¬

_ (¬34) نقله شيخ الإِسلام في "درء التعارض" 2/ 37 - 38. وقد رواه غلام الخلال في "كتاب السنة" ق 155/ ب. (¬35) حديث صحيح. أخرجه أحمد 3/ 88 والبخاري 11/ 415 و 13/ 487 ومسلم رقم (2829) والترمذي رقم (2555) والنسائي -كما في "تحفة الأشراف" 3/ 405 عن "الكبرى"- من طريق مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

قلتُ: قال البخاريُّ رحمه الله: "بابُ كلام الرَّبِّ معَ أهْلِ الجنة" وساقَ هذا الحديث. • الثالث: تكليمه تعالى لأهل النار توبيخا وتقريعا: ومِن الدَّليلِ عليه: 1 - قولهُ تعالى: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 108 - 111]. 2 - حديثُ أنَس بن مالكٍ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: "يَقولُ الله تَبارَكَ وتعالى لأهْوَنِ أهْلِ النَّارِ عَذاباً: لَوْ كانتْ لكَ الدُّنيا وما فيها أكنتَ مُفتدياً بها؟ فيقولُ: نَعَمْ، فيقولُ: قَدْ أرَدْتُ منكَ أهونَ مِنْ هذا وأنتَ في صُلْبِ آدَمَ: أن لا تُشْرِكَ -أحسَبُه قالَ: ولا أدْخِلَكَ النَّارَ- فأبَيْتَ إلاَّ الشِّركَ" (¬36). قلتُ: وهذه الأوجهُ الثَّلاثةُ من التكليم لم يَقع شَيْءٌ منها بعدُ، وإنَّما دلَّتِ النصوصُ الَّتي سُقنا على الإِخبار عن وقوعِها، وإِنَّما تَقع بعدَ نهايةِ الدُّنيا يومَ تقومُ الساعةُ، وبَعْدَئِذٍ، خلافاً للمبتدعة القائلينَ: إنَّ الله قَدْ تكلَّمَ ¬

_ (¬36) حديث صحيح. أخرجه أحمد 3/ 129 والبخاري 6/ 363 و 11/ 416 مسلم رقم (2805) من حديث شعبة عن أبي عِمران الجَوْني عن أنس به. وأبو عمران اسمه: عبد الملك بن حَبيب.

بذلكَ منذُ الأزّلِ، ولهذا الأصلُ سيأتي توضيحُه في المبحث الثامن من هذا الفصل. فرعٌ: وقدْ صَحَّ الخبَرُ عن المَعصوم -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الله تعالى كلَّمَ الشَّهيدَ عبدَ الله ابن عَمْرو بن حَرام، أحدَ شهداءِ أحُد، كلَّمَهُ كِفاحاً من غيرِ حِجابٍ. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لَمَّا قُتِلَ عبدُ الله بن عَمْرو بن حَرام يومَ أحُدٍ، لَقِيَني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا جابر، ألاَ أخْبِرُك ما قالَ الله لأبيكَ؟ ". وفي لفظ: "يا جابِر، مالي أراكَ مُنكَسِراً؟ ". قالَ: قلت: يا رسولَ الله، استُشْهِدَ أبِي، وتَرَكَ عِيالاً ودَيْناً، قالَ: "أفَلا أبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ الله بِهِ أبَاكَ؟ ". قالَ: بلى يا رسولَ الله، قالَ: "ما كَلَّمَ الله أحَداً قطُّ إلاَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، وكلَّمَ أبَاكَ كِفاحاً، فقال: يا عَبْدي، تَمَنَّ عَلَيَّ أعْطِكَ، قال: يا رَبِّ، تُحييني فَأقتَلَ فيكَ ثانيةً، فقالَ الرَّبُّ سُبحانَه: إنَّه سَبَقَ مِنِّي أنَّهم إليها لا يَرْجِعون، قالَ: يا رَبُّ فَأبْلغْ من ورائي". قَال: فَأنْزَلَ الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] (¬37). ¬

_ (¬37) حديث صحيح. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أخرجه الترمذي رقم (3010) وابن ماجة رقم (190) و (2800) وابن أبي عاصم رقم (602) وعثمان الدارمي في "الردّ على الجهمية" رقم (115، 289) وابن خُزيمة في "التوحيد" ص: 379 - 380 والحاكم 3/ 203 - 204 والبيهقي في "دلائل النبوة" 3/ 298 - 299 والواحدي في "أسباب النزول" ص: 124 والبَغوي في "تفسيره"1/ 446 - هامش "الخازن" - وإسماعيلُ بن الفَضْل الأصبهاني في "الحجة" ق 64/ أوق 115/ أمن طرق عن موسى بن إبراهيم بن كثير الأنصاري قال: سمعتُ طلحة بن خِراش قال: سمعت جابر بن عبد الله به. وفي رواية: لَقِيَني جابرُ بن عبد الله فأخبرني ... قال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه ... ولا نعرفه إلاَّ من حديث موسى بن إبراهيم، ورواه علي بن عبد الله بن المديني وغيرُ واحدٍ من كبار أهل الحديث هكذا عن موسى بن إبراهيم". وقال الحاكم: "حديث صحيح الإِسناد". قلت: التحقيق أنَّ إسنادَه جيّدٌ، فإنَّ رجالَه جميعاً ثقاتٌ، وهو متَّصل. وقد رأيتُ بعضَ المعاصرين يغْمِزُ موسى بن إبراهيم بأنَّ فيه ضَعْفاً من جهةِ حفظهِ، فتأمَّلت قولَ هذا القائل فرأيتُ عمدَته قول ابن حِبَّان: "كانَ ممَّن يُخطىء" (ثقات 7/ 449) وهذا لا يَطرح روايته أو يُعلّها حتى يثبت خطؤه , ألا ترى أنَّ ابن حبان نفسَه أوردَه في "ثقاته"؟ وزيادة على هذا، فقدْ رَوى هذا الحديث عنه إمام علل الحديث والجَرحِ والتَّعديل عليُّ بن المديني، ولقد كان يَدع حديث الراوي لأدنى مغمَز، فهلاَّ اعتبرت يا هذا روايةَ هذا الإِمام رافعةً لشأنهِ. وقد ذَكَرَ ابنُ عبد البرّ حافظُ المغرب هذا الحديث في "الاستيعاب" 6/ 334 - 335 - حاشية "الإصابة" - من رواية دُحَيْم حدثنا موسى بن إبراهيم ... ثم قال: "موسى بن إبراهيم هذا هو موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري المدني، وطلحة بن خِراش أنصاريٌّ أيضاً من ولَدِ خِراش بن الصمّة، وكلاهما مدنيٌّ =

قلت: وهذا تَكليمٌ على الحَقيقةِ، بلا واسطةٍ، ومُواجَهَةٌ بلا حِجابٍ، ولهذا خُصوصيَّة لعبد الله رضي الله عنه فَضْلاً منه تعالى ومنَّةً لِما نالَه في سَبيل الله، وإنَّما وقَعَ في الحَياة بعدَ الموتِ. • • • • • ¬

_ = ثقةٌ". قلت: وقد رُوي هذا الحديث من غير هذا الوجه عن جابر، وله شاهدٌ أيضاً من حديث عائشة، ولكن جميع ذلك بأسانيد غير نَظيفة، سِوى ما رواه أحمد 3/ 361 من طريق محمد بن علي بن ربيعة السُّلَمي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر معناه مختصراً. وهذا إسناد صالح، محمد بن علي هذا ثقةٌ، وابن عقيل صالح الحديث.

المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق

المبحث الخامس: كلام الله تعالى غير مخلوق كلامُ الله تعالى صفةٌ من صفاتهِ غيرُ مَخلوقٍ كسائر صِفاتِه، سَواء كان القرآن العربيَّ، أوِ التَّوراةَ العِبربَّةَ، أو غيرَ ذلك من كلامِهِ تعالى، ممَّا وقَعَ من كلامِهِ، وممَّا لَم يقع بَعْدُ. ولَقَدْ كانَ السَّلفُ في صَدْرِ الإِسلام في غِنًى عن إطلاقِ لفظِ (غير مخلوق) لأنَّه كانَ من المُسَلَّمِ عندهم أنَّ كلامَ الله صفةٌ مِن صفاتِهِ، وصفاتُهُ غيرُ مَخلوقةٍ، حتى ظَهَرت الجَهميةُ، فنفَتْ صفةَ الكلامِ عن الله تعالى، لكنْ لمَّا كانَ فذا القولُ منكَراً شَنيعاً، تَنفرُ منه قلوبُ الناسِ، وتقشَعِرُّ منه جلودُهم، ويرفُضُهُ إيمانُهُمْ، أبدَلوهُ بقَوْلِهم: كلامُ الله مَخْلوقٌ، فتظاهَروا بإثباتِ الكلامِ، وأبطلُوهُ بقولهم: مخلوقٌ. فلمَّا كانَ حقيقةُ قَوْلِهم إبطالَ صفةِ الكلامِ وتَعطيلَها قابَلهم السَّلَفُ برفْضِ هذهِ البدعةِ وإنكارِها، والتَّشديدِ عليهم في ذلكَ، بل وتكفيرهم، لأنَّ حقيقةَ قولهم الكفرُ، لِما تضمَّنَ من تكذيبِ القرآنِ، وإثبات النَّقْصِ للرَّحمنِ، فقالَ السَّلَفُ حينئذٍ: (كلامُ الله -كالقرآن وغيره- غيرُ مخلوقٍ). ولقَدْ كانَتْ لهذه العقيدةُ مبنيَّةً على أسُسٍ متينةٍ وقَواعدَ عظيمةٍ من

الكتابِ والسُّنَّةِ، والمَعقولِ الصَّريحِ، ونُصوصِ السَّلَفِ وكَلامِهم، خِلافًا لما يحسَبُه الجاهلونَ. وإنِّي ذاكرٌ لكَ من ذلكَ ما فَتَحَ الله تعالى به لئلاَّ تضِلَّ السَّبيلَ، ولتَتَّقيَ ما أحدثَهُ الناسُ من القالِ والقيلِ: • من أدلة الكتاب: 1 - قالَ الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]. والاحتجاجُ بهذه الآيةِ من وَجْهَيْنِ: الأول: أنَّه تعالى فرَّقَ بين الخَلْقِ والأمْرِ، وهما صِفَتان من صِفاتِهِ، أضافَهما إلى نفسهِ، أمَّا الخَلْقُ فَفِعْلُهُ، وأمَّا الأَمرُ فقولُهُ، والأصْلُ في المُتعاطفين التَّغايُرُ إلاَّ إذا قامَتِ القرينةُ على عَدم إرادَة ذَلكَ، وهنا قد قامتِ القرائنُ على توكيدِ الفَرْقِ بَيْنَهُما، ومنها الوجهُ الآتي. والثاني: أنَّ الخَلْقَ إنَّما يكونُ بالأمْرِ، كَما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. فقوله تعالى: {كُنْ} هو أمْرُهُ، فلو كانَ مَخْلوقاً لاحتاجَ خلقُهُ إلى أمْرٍ، والأمْرُ إلى أمرٍ، إلى ما لا نِهاية، وهذا باطلٌ. وقد احَتجَّ الإمامُ أحمدُ رحمه الله على الجَهْمِيَّة المُعْتزلةِ بهذه الآية. قال رحمه الله: "قلتُ: قال الله: {ألَا لَهُ الْخَلْقُ والأمْرُ} ففرَّقَ بين

الخَلْقِ والأمْرِ" (¬38). وقال لهم: "قال الله: {أتَى أَمْرُ اللهِ ...} [النحل: 1] فأمْرُهُ كلامُه واستطاعَتُهُ ليسَ بمخلوقٍ، فلا تَضْرِبوا كِتابَ الله بعضَهُ بِبعضٍ" (¬39). وقالَ فيما كتَبَهُ للمتوكِّل حينَ سألَهُ عن مَسألةِ القرآنِ: "وقَدْ قالَ الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ...} [التوبة: 6]، وقَالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}، فَأخبَرَ بالخَلْقِ، ثُمَّ قَالَ: {وَالأمْرُ}، فأخبرَ أنَّ الأمرَ غَيْرُ مَخلوقٍ (¬40). وقد سبَقَ الإِمامَ أحمد إلى هذا الاحتجاج شيخُه الإمامُ سفيانُ بن عُيَيْنَةَ الهِلاليُّ الحافظُ الثِّقَةُ الحُجَّةُ، فقالَ رَحمه الله: "ما يَقولُ هذا الدُّوَيْبَّةُ؟ " -يعني بشرًا المَريسِيّ-. قالوا: يا أبا محمَّدٍ، يزعُمُ أنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ، فقالَ: "كَذَبَ، قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ} فالخَلْقُ خَلْقُ الله تبارك وتعالى، والأمْرُ القرآنُ" (¬41). قال الحافظُ هبةُ الله ابنُ الطَّبَريّ عقبَ هذا: "وكذلكَ قالَ أحمدُ بن حنبل ونُعَيْمُ بن حمَّادٍ، ومحمَّدُ بن يحيى الذُّهْليُّ، وعَبْدُ السَّلام بن عاصمٍ ¬

_ (¬38) رواه حنبل في "المحنة" ص: 53 عن أحمد. (¬39) رواه حنبل في "المحنة" ص: 54 عنه. (¬40) رواه صالح ابنه في "المحنة" روايتة ص: 120 - 121. (¬41) رواه الآجري في "الشريعة" ص: 80 وابن الطبري في "السنة" رقم (358) والخطيب في "تاريخ بغداد" 9/ 88 - 89 بسند جيد عنه.

الرازيُّ، وأحمدُ بن سِنانٍ الواسطيُّ، وأبو حاتِمٍ الرازيُّ". 2 - وقالَ تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 1 - 3]. ففرَّقَ تعالى بينَ عِلمهِ وخَلْقِهِ، فالقرآنُ عِلْمُهُ، والإنسانُ خلقُهُ، وعِلْمُهُ تعالى غيرُ مَخلوقٍ. قالَ تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 140]. وقالَ تعالى: {... وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إنَّكَ إذاً لَمِنَ الظَّالمِينَ} [البقرة: 145]. وقالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد: 37]. فسمَّى الله تعالى القرآنَ عِلْماً، إذْ هو الذي جاءَه مِنْ رَبِّهِ؟ وهو الذي عَلَّمهُ الله تعالى إيَّاه -صلى الله عليه وسلم-، وعِلْمُهُ تعالى غيرُ مَخلوقٍ، إذ لو كانَ مخلوقًا لاتَّصَفَ تعالى بِضدِّهِ قبلَ الخَلْقِ، تعالى الله عن ذلك وتنزَّه وتقدَّس. وبهذا احتجَّ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله على الجَهْميةِ فيما كتبَهُ للمتوكِّل في مسألة القرآنِ. قالَ رحمه الله: "قالَ عَزَّ وَجَلَّ: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، فَأخبرَ تَعالى أنَّ القرآنَ مِنْ عِلْمِهِ" ثمَّ احتجَّ بالآياتِ الثلاثِ المذكوراتِ، ثمَّ قال: "فالقرآنُ من علم الله تعالى، وفي هذه الآيات دليلٌ على أنَّ الذي جاءَه -صلى الله عليه وسلم- هو القرآنُ، لقولِهِ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ

أهْوَاءَهْمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} " (¬42). وقالَ رحِمَه الله في حكايةِ مُناظرتِهِ للجَهْميةِ في مَجْلس المُعتصِم: "قالَ لي عبدُ الرَّحمن القزّازُ (¬43): كانَ اللهُ ولا قرآنَ، قلتُ له: فكانَ الله ولا عِلْم! فأمْسَكَ، ولَوْ زعَمَ أنَّ اللهَ كانَ ولا عِلْم لكفَرَ باللهِ" (¬44). وقيلَ له رحِمَه الله: قومٌ يقولونَ: إذا قال الرَّجُلُ: كلامُ الله ليسَ بمخلوقٍ، يقولون: مَنْ إمامُكَ في هذا؟ ومِنْ أيْنَ قلتَ: ليس بمخلوقٍ؟ قال: "الحجَّة قولُ الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ}، فما جاءَه غيرُ القرآن". قال: "القرآنُ من عِلْمِ الله، وعلمُ الله ليسَ بمخلوقٍ، والقُرْآنُ كلامُ الله ليسَ بمخلوقٍ، ومثلُ هذا في القرآنِ كثيرٌ" (¬45). وقالَ رحِمَه الله: "القُرآنُ علمٌ مِنْ عِلمِ الله، فمَنْ زعَمَ أنَّ عِلمَ الله مخلوقٌ فهو كافرٌ" (¬46). 3 - وقالَ تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف: 109]. ¬

_ (¬42) رواه صالح في "المحنة" ص: 121 وعبد الله في "السنة" رقم (107) عن أبيهما به. (¬43) أحدُ مناظِري الإِمام بحضرة المعتصم. (¬44) رواه حنبل في "المحنة" ص: 45 عنه. (¬45) رواه صالح في "المحنة" ص: 69 عنه. (¬46) رواه ابن هانئ في "المسائل" 2/ 153، 154عنه.

وقالَ تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]. فأخبرَ تعالى -وقولُهُ الحَقُّ- أنَّ كَلِماتِهِ غيرُ مُتَناهِيَةٍ، فَلو أنَّ البحارَ التي خَلَقَ الله كانتْ مِدادًا تُكْتَبُ به، والشَّجَرَ الذي خلقَ الله أقلاماً تُخَطٌ بِهِ، لَنَفِدَ مِدادُ البُحورِ، وَلَفَنِيَت الأقْلاَمُ، ولم تَفْنَ كَلِماتُ الله. وإنَّمَا في هذه الإبانةُ عن عَظَمَةِ كَلَامِهِ تعالى، وأنَّه وَصْفُهُ وَعِلْمُهُ، وهذا لا يُقاسُ بالكلامِ المَخلوقِ الفاني، إذ لَوْ كان مخلوقًا لَفَنِيَ من قبلِ أنْ يَفنى بَحْرٌ من البُحورِ، ولكنَّ الله تعالى إنَّما كتَبَ الفناءَ على المَخلوقِ لا عَلَى نفسِهِ وصفَتِهِ. 4 - أسماءُ الله تعالى في القُرآنِ، كـ (الله، الرحمن، الرحيم، السميع، العليم، العفور، الكريم ...) وغيرها من أسمائِهِ الحُسْنى، وهي من كلامِهِ، إذ هو الذي سَمَّى بها نفسَه، بألفاظِها وَمَعانِيها. وقد ساوى الله تعالى بين تَسبيحِ نَفْسِهِ وتَسبيحِ أسمائِهِ، فقال تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وقال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74، 96 والحاقة: 52]. وساوى تعالى بين دُعائِهِ بنفسهِ ودُعائِهِ بأسمائِهِ، فقال: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقال: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقال: {وَلِلهِ الأسْمَاءُ

الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]. وكذلك ساوى تعالى بين ذِكْرِهِ بنفسهِ وذِكْرِهِ بأسمائِهِ، فقالَ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] وقالَ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25]. وهذا التَّسبيحُ والدُّعاءُ والذِّكْرُ إنْ كانَ يَقَعُ لمَخلوقٍ كان كُفْراً بالله. فإنْ قيلَ: إنَّ كلامَه تعالى مَخلوقٌ، كانتْ أسماؤُهُ داخِلةً في ذلكَ، ومَنْ زعَمَ ذلك فقَدْ كَفَرَ لِما ذكرنا، ولأنَّ معنى ذلكَ أنَّ الله تعالى لم تكن لَه الأسماءُ الحُسنى قبل خَلْقِ كلامهِ، ولَكانَ الحالفُ باسْم من أسمائِهِ مُشْرِكاً لأنه حلَفَ بمَخلوقٍ، والمَخلوقُ غيرُ الخالقِ، وقد قالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حَلَفَ بغير الله فقد أشركَ" (¬47). وبهذه الحُجَّةِ احتجَّ جماعةٌ من السَّلفِ والأئمَّةِ على كَوْنِ القرآنِ غيرَ مخلوقٍ، منهم: 1) الإِمام الحُجَّة سُفيان بن سَعيد الثوريّ. قال: "مَنْ قالَ: إنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} مخلوقٌ، فهو ¬

_ (¬47) حديث صحيح. أخرجه أحمد رقم (4904، 6072) وأبو داود رقم (3251) والترمذي رقم (1535) وابن حِبّان رقم (1177 - موارد) والحاكم 1/ 18 و 4/ 297 وآخرون من حديث عبد الله بن عمر به. قلت: وإسناده صحيح، وقد حسّنه الترمذي، وصححه الحاكم وأقرَّه الذهبي. وقد شرحت ذلك في موضع آخر.

كافِر" (¬48). 2) ناصرُ السُّنَّة أبو عبد الله محمَّد بن إدريسَ الشَّافعي. قال: "مَنْ حَلَفَ باسمٍ مِن أسماءِ الله فحنَثَ فعليه الكفَّارة، لأنَّ اسمَ الله غيرُ مَخلوقٍ، ومن حلَفَ بالكعبةِ، أو بالصَّفا والمَرْوةِ، فليسَ عليه الكفَّارةُ، لأنَّهُ مَخلوقٌ، وذاكَ غيرُ مَخْلوقٍ" (¬49). 3) إمامُ أهل السُّنَّة أحمدُ بن حَنبل. قال: "مَنْ قالَ: القرآن مخلوق فهو عندنا كافرٌ، لأنَّ القُرآن من عِلْمِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وفيه أسماءُ الله عَزَّ وَجَلَّ" (¬50). وقالَ: "وأسماءُ الله في القُرْآنِ، والقُرْآنُ من عِلْمِ الله، فمَنْ زَعَمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهو كافرٌ، ومن زعَمَ أنَّ أسْمَاءَ الله مخلوقةٌ فقدْ كَفَرَ" (¬51). وذَكَرَ لَه رَجُلٌ أنَّ رَجُلاً قالَ: إنَّ أسماءَ الله مخلوقةٌ، والقرآنُ مخلوقٌ، فقال أحمدُ: "كُفْرٌ بَيِّنٌ" (¬52). وقالَ: "أسْماءُ الله في القرآنِ، والقرآنُ من عِلْم الله، وعِلْمُ الله ليس بمخلوقٍ، والقرآنُ كلامُ الله ليسَ بمخلوقٍ على كلِّ وجهٍ، وعلى كلِّ ¬

_ (¬48) أخرجه عبد الله في "السنة" رقم (13) وسنده جيد. (¬49) أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي" ص: 193 وأبو نعيم 9/ 113 والبيهقي في "السنن" 10/ 28 و"الأسماء والصفات" ص: 255 - 256 و"المناقب" 1/ 405 بإسناد صحيح. (¬50) رواه ابنه عبد الله في "السنة" رقم (1). (¬51) رواه ابنه صالح في "المحنة" ص: 52، 66 - 67. (¬52) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 262 عنه.

جهةٍ، وعلى أيِّ حالٍ" (¬53). وكما أنَّه تعالى لا يوصَف بصفةٍ مخلوقةٍ، فلا يسمَّى باسم مَخلوقٍ. 5 - أخبرَ تعالى عن تَنزيلهِ منه وإضافتهِ إليهِ، كما قالَ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 2]، وقالَ: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114]، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، ولَم يُضِف شيئًا ممَّا أنزلَه إلى نفسِه غير كلامِهِ (¬54)، ممَّا دَلَّ على الاختصاصِ بمَعنى، فليسَ هو كإنزالِ المَطَر والحديد وغير ذلك، فإنَّ هذه الأشياءَ أخبرَ عن إنزالِها، لكنَّه لم يُضِفْها إلى نفسِهِ، بخِلافِ كلامِهِ تعالى، والكلامُ صِفَةٌ، والصِّقَةُ إنَّمَا تُضافُ إلى مَن اتَّصَفَ بها لا إلى غيرهِ، فلو كانت مخلوقةً لفارقت الخالقَ، ولم تصلحْ وَصْفاً له، لأنَّه تعالى غَنِيُّ عن خَلقِهِ، لا يَتَّصفُ بشيءٍ منه. • منه أدلة السنة: 1 - حديث خَوْلَةَ بنت حَكيم السُّلميَّة قالَتْ: سَمِعْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلاً ثُمَّ قَالَ: أعوذُ بِكَلِماتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّهُ شَيْءٌ حتَّى يرتَحِلَ مِنْ مَنْزِلهِ ذلكَ" (¬55). ¬

_ (¬53) رواه ابنه صالح في "المحنة" ص: 69. (¬54) انظر: "مجموع الفتاوى": 12/ 247، 297. (¬55) حديثٌ صحيح. أخرجه أحمد 6/ 377، 409 ومسلم 4/ 2080 والترمذي رقم (3437) =

وحديثُ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: جاء رجلٌ إلى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رَسُولَ الله، ما لَقِيتُ مِنْ عَقْربٍ لَدَغَتْني البارحةَ، قال: "أما لَو قُلْتَ حين أمْسَيْتَ: أعوذ بكلماتِ الله التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ لم تَضُرَّكَ" (¬56). وفي سياق آخرَ عنه قال: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قالَ إذَا أمْسى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أعوذُ بكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ من شَرِّ ما خَلَقَ، لَمْ تَضُرَّهُ حُمَةٌ تلكَ اللَّيْلة". قال: فكان أهلُنا قد تعلَّمُوها، فكانوا يقولونَها، فلُدِغَتْ جاريةٌ منهم، فلم تَجِدْ لها وَجَعاً (¬57). ¬

_ = والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (560، 561) وابن ماجة رقم (3547) من حديث سعد بن أبي وقاص عن خولة به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وأورِدَ على إسناده اختلافٌ لا يضرُّ، وبسطه في غير هذا الموضع. (¬56) حديث صحيح. أخرجه مالك 2/ 951 وأحمد 2/ 375 ومسلم 4/ 2081 والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (585 - 589، 591 - 592) وابن ماجة رقم (3518) من طريق أبي صالح السمَّان عن أبي هريرة به. وأوردَ أيضًا عليه اختلافٌ في إسنادهِ، ولا يضرُّ، وبسطه في غير هذا الموضع. (¬57) حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 290 والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (590) من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به مرفوعاً، وهو لفظ من ألفاظ حديثه المُخرَّج آنفاً في التعليق السابق. قلت: وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح.

وحَديثُ عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ رَسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كانَ يُعَوِّذُ حَسَنًا وحُسَيْنًا، يقولُ: "أعيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيطانٍ وهامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ". وكانَ يقولُ: "كانَ إبْراهيمُ أبي يُعَوِّذُ بهما إسْماعيلَ وإسحاقَ" (¬58). فأثبتَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بما ذكَرْناهُ عنه شرعيَّةَ الاستعاذةِ بكلماتِ الله، فلو كانَتْ كلماتُهُ مخلوقةً لكانت الاستعاذةُ بها شِرْكًا، لأنَّها استعاذةٌ بمَخلوقٍ، ومن المعلوم أنَّ الاستعاذةَ بغير الله تعالى وأسمائِهِ وصفاتِهِ شِرْكٌ، فكيفَ يَصِحُّ أن يُعلِّمَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أمَّتَه ما هو شركٌ ظاهرٌ، وهو الذي جاءهم بالتَّوحيدِ الخالصِ؟ فدلَّ هذا على أنَّ كلماتِ الله تعالى غيرُ مخلوقةٍ. وقالَ نُعَيْمُ بن حمَّاد (شيخُ البخاري، ومن أئمَّة السُّنَّة): "لا يُستعاذُ بالمَخلوقِ، ولا بكلامِ العباد والجنِّ والإِنسِ والملائكةِ". وقال البخاري عَقِبهُ: "وفي هذا دَليلٌ أنَّ كلامَ الله غيرُ مخلوقٍ، وأنَّ ¬

_ (¬58) حديث صحيح. أخرجه أحمد رقم (2112، 2434) والبخاري 6/ 408 وأبو داود رقم (4737) والترمذي رقم (2060) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (1006، 1007) وابن ماجة رقم (3525) من طريق منصور بن المعتمر عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

سواه خَلْقٌ" (¬59). ثمَّ احتجَّ البخاريُّ لذلك بما ذكرنا. واعترضَ بعضُ أهل البدَعِ على هذه الحُجَّة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهمَّ أعوذُ بِرِضاكَ من سَخَطِكَ، وبمُعافاتِك من عُقوبَتِك ... " الحديث (¬60)، فقالوا: ¬

_ (¬59) "خلق أفعال العباد" ص: 143. (¬60) حديث صحيح. مرويٌّ من حديث عائشة وعلي، رضي الله عنهما. أما حديث عائشة، فأخرجه أحمد 6/ 58، 201 ومسلم رقم (486) وأبو داود رقم (879) والنسائي 1/ 102 و 2/ 210 وابن ماجة رقم (3841) من طريق عُبَيْد الله ابن عمر عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت: فَقَدْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسْتُهُ، فوقَعتْ يَدِي على بطنِ قَدَمَيْه وهو في المسجد، وهما منصوبتان (زاد في بعض الطرق: وهو ساجد) وهو يقولُ: "اللَّهمَّ أعوذُ برضاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبمعافاتك من عقوبتِكَ، وأعوذُ بكَ منكَ، لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك". وأخرجه مالك 1/ 214 والترمذي رقم (3493) والنسائي 2/ 222 عن يحيى ابن سعيد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن عائشة بنحوه. قلت: وهذا سند منقطع، محمد بن إبراهيم لم يسمَع من عائشةَ، وقد حسَّن الترمذي هذه الطريق لمجيء الحديث من غير هذا الوجه عن عائشة. وللحديث طريق ثالثة. أخرجها النسائي 8/ 283 - 284 من حديث مسروق بن الأجدع عن عائشة به نحوه. قلت: لكن إسناده ضعيف، لحال العلاء بن هلال أحد رجال الإِسناد فإنَّه منكر الحديث جداً. أما حديث علي رضي الله عنه. فأخرجه أحمد رقم (751، 957) وأبو داود رقم (1427) والترمذي رقم =

فاستعاذَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرِّضا والمُعافاة وهما مَخلوقان. والجوابُ: أن هذا الاعتراضَ من فاسدِ الفهْم الذي أدخلَه عليهم الشيطانُ -لعنه الله- وذلك أنَّهم حَسِبوا أنَّ الرِّضا والمعافاةَ من خَلْقه تعالى، جَرْياً على سُنَّتِهِم في أنَّ الله تعالى لا يقوم به اختيارٌ ولا مَشيئة، والرِّضا والمعافاةُ إنَّما يتعلَّقان بالمشيئةِ، وكلُّ ما تعلَّقَ بالمشيئة فهو مخلوقٌ. وهذا الأصل الفاسِدُ جرَّهم إلى الوقوع في تعطيل جميعِ الصفاتِ الاختيارية، كالرِّضا، والغَضبِ، والرَّحْمةِ، والرَّأفةِ، والحُبِّ، والبُغْضِ، والإِنْعام، والانتقامِ، وغيرِها مَما يتعلَّقُ بمشيئتهِ تعالى واختيارهِ. والحَقُّ الأبلجُ الذي يبهَرُ أبصارَ أهلِ البِدَع أنَّه تعالى تقومُ به الصِّفاتُ الاختياريةُ، كما سيأتي تقريره بأبسط من هَذا. ¬

_ = (3566) والنسائي 3/ 248 - 249 وابن ماجة رقم (1179) من طرق عن حماد بن سلمة عن هشام بن عمرو عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عليّ أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ في آخر وترِه: "اللَّهم إنِّي أعُوذُ برضاكَ من سَخَطِكَ, وأعُوذُ بمعافاتِكَ من عقوبتِكَ، وأعوذُ بكَ منكَ، لا أحصي ثناءٌ عليك، أنتَ كما أثنيْتَ على نفسِكَ". قال الترمذي: "حديث حسنٌ غريبٌ من حديث عليّ، لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، من حديث حماد بن سلمة". قلت: إسناده صحيح، وهشام هذا هو الفَزاري معروف برواية هذا الحديث، وهو ثقة. وقد رواه عن عليّ أيضاً إبراهيم بن عبد الله بن عَبْدٍ القاري. أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (891، 892). وإسناده منقطع، إبراهيم عن علي مرسل.

والاستعاذة بالرِّضا والمُعافاةِ، استعاذةٌ بصفته تعالى، إذ رضاهُ تعالى صفتهُ التي يرضى بها عمَّنْ شاءَ من عبادهِ، ومعافاتُهُ صفَتُهُ التي يُعافي بها من شاءَ من عبادِهِ، والمَخلوق إنَّما هو العافيةُ الموجودةُ في الناس، والتي كانت بمعافاتِهِ تبارك وتعالى، فتأمَّل هذا رحِمَكَ الله ترشَد إن شاءَ الله. 2 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَضْلُ كلامِ الله على سائرِ الكلامِ كفَضْلِ الله على سائرِ خلقِهِ" (¬61). تضمَّن هذا الحديث إثباتَ عقيدةِ السَّلَفِ (القرآن كلام الله غيرُ مخلوق) وذلك من وجهين: الأوَّل: التفريق بين كلام الله وما سِواه من الكلام، والكلامُ إما كلامُ الله الذي هو صفته، أو الكلامُ المخلوق الذي يقَعُ من خلقِهِ، فأضافَ ما كانَ صفةً لله إلى الله، وعمَّمَ ما سِواهُ، ليشمَلَ كلَّ كلام سوى ما أضافه إلى الله، ولو كان الجميعُ مَخْلوقاً لمَا كانت هناك حاجة إلى التفريق. والثاني: جعلَ الفَرْقَ بينَ كلام الله وكلام غيره كالفَرْقِ بينَ ذاتِ الله وذاتِ غيره، فجعلَ كلامَه مساوياً لذاتِهِ، وكَلاَمَ المخلوقِ مساوياً لذات المخلوقِ، ولو كان كلامُهُ مخلوقاً لم يساوِه بذاتِهِ، فإنَّ الله تعالى ليسَ يُساويه شيءٌ غيرُ صفاتِهِ وأسمائِهِ. وقد احتجَّ بهذا الإِمام عثمان بن سعيد الدَّارِمِيُّ في "الردِّ على ¬

_ (¬61) حديث حسن. سبق تخريجه ص 85 - 86.

الجهمية" فقال بعدَما ذكَر الأحاديثَ في هذا المعنى: "ففي هذه الأحاديث بيانُ أنَّ القرآنَ غير مخلوقٍ, لأنَّه ليس شيءٌ من المخلوقينَ من التفاوت في فَضْلِ ما بينهما كما بين الله وبينَ خلقِهِ في الفَضْلِ, لأنَّ فَضْلَ ما بين المخلوقين يُسْتَدْرَك، ولا يُسْتدركُ فَضْلُ الله على خلقِهِ، ولا يُحْصِيهِ أحَدٌ، وكذلك فَضْلُ كلامهِ على كلام المخلوقين، ولو كانَ مخلوقاً لم يكن فضْلُ ما بينَه وبين سائر الكلام كفضْلِ الله على خلقهِ، ولا كَعُشْرِ عُشْرِ جُزءٍ من ألفِ ألفِ جُزْءٍ، ولا قريباً فافْهَموه، فإنَّه ليسَ كمثله شيءٌ, فليسَ كَكَلامِهِ كلامٌ، ولن يُؤْتى بمثلِهِ أبداً" (¬62). • من المعقول الصريح: وذلك من وجهين: الأول: أنَّ كلامَ الله إنْ كانَ مخلوقاً، فلا يخلو من أحَدِ حالَيْن: الأولى: أنْ يكونَ مخلوقاً قائماً بذاتِ الله. والثانية: أنْ يكونَ منفصلاً عن الله بائناً عنه. وكلا الحالين باطلٌ، بل كفرٌ شنيعٌ. أمّا الأولى فيَلزَمُ منها أن يقوم المخلوقُ بالخالقِ، وهو باطلٌ في قولِ أهلِ السُّنَّةِ، وعامَّةِ أهلِ البِدَعِ، فإنَّ الله تعالى مُستغنٍ عن خلقهِ من جميع الوجوهِ. وأمّا الثانية فيلزَمُ تعطيلُ صفَةِ الكلام للباري تعالى، إذْ أنَّ الصفةَ إنَّما ¬

_ (¬62) "الرد على الجهمية" ص: 162 - 163.

تقومُ بالمَوصوف -كما سبق تقريرةُ- لا تقومُ بسِواه، فإنْ قامَتْ بغير الموصوف كانت وصفاً لمن قامتْ به، وهذا معناه أنَّ الرَّبَّ تعالى غيرُ متكلّمٍ، وهو كفرٌ بَيِّنٌ، كما بَيَّنا الدلالةَ عليه. والثاني: علمتَ أنَّ الصفةَ لا تقومُ بنفسِها، فإن كانتْ صفةً للخالق قامت به، وإن كانتْ صفةً للمخلوقِ قامتْ به ولا بدَّ، فالحركةُ، والسُّكونُ، والقيامُ، والقعودُ، والقدرةُ، والإِرادةُ، والعلمُ، والحياةُ، وغيرُها من الصِّفاتِ، إن أضيفت لشيءٍ كانت وصفاً لهُ، وهي تابعةٌ لمن قامَتْ به، فهذه صفاتٌ تُضاف للمخلوقِ، فهي صفات له حيث أضيفتْ له، ومنها ما يُضافُ إلى الخالق، كالقُدْرةِ والإِرادةِ والعلمِ والحياةِ وغيرِ ذلك، فهي صفاتٌ له حيثُ أضيفت له، وحيثُ أضيفت للمخلوقِ فهي مخلوقةٌ، وحيثُ أضيفت للخالقِ فهي غير مخلوقةٍ. فصفةُ الكلامٍ كغيرها من الصِّفاتِ، لا بدَّ أن تقومَ بمَحَلٍّ، فإذا قامت بمَحَلٍّ كانت صفةً لذلك المَحَلِّ، لا صفةً لغيرهِ، فإنْ هى أضيفت إلى الخالق تعالى فهيَ صفتُهُ، وإنْ أضيفتْ إلى غيرِهِ فهي صفةٌ لذلك الغيرِ، وصفةُ الخالقِ غير مخلوقةٍ كنفسهِ، وصفةُ المخلوقِ مخلوقةٌ كنفسهِ. فلمَّا أضافَ الله لنفسه كلاماً، ووصَفَ نفسَهُ به، كان كلامُهُ غيرَ مخلوقٍ, لأنَّه تابعٌ لنفسِهِ، ونفسُهُ تعالى غيرُ مخلوقةٍ، والكلامُ في الصِّفات فَرْعٌ عن الكلامِ في الذاتِ. فإنْ قيلَ: هو مخلوقٌ، قُلْنَا: إذاً يتنزَّةُ الله عن الاتّصافِ بمخلوقٍ، وأنتم تنزهونه تعالى بزَعْمِكُمْ عن قيام الحوادث به، فحيثُ نزّهتم ربَّكم تعالى عن ذلك فإنَّه يلزمُكُم أن لا تضيفوا إليه كلاماً، وبهذا تكذّبون السَّمْعَ

والعقل الشاهِدَيْنِ على أنَّ لله تعالى صفةَ الكلام, كما قدْ بيَّناه فيما مضى. لكنَّهم أبَوُا الإِقرار بأنَّ كلامَ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ بأدهى ممَّا سبَقَ من الباطل, فقالوا: نُثْبِتُ أنَّ الله متكلمٌ بكلامٍ قائمٍ في غيرهِ، فكلَّم الله تعالى موسى بكلامٍ مَخَلوقٍ قائِمٍ بالشَّجَرة، لا بهِ تعالى، فنحن نزَّهناه عن قيام الحوادث بهِ. قُلْنا: جعلتُمُ الكلامَ إذاً صفةً للمَحَلِّ الذي قامَ به، وهو على قولِكم الشَّجَرةُ، فكانت الشجرةُ بهذا هي القائلةُ لمُوسى: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فانتفى حينئذ الفرقُ بين قولِ الشَّجرةِ وقول فرعونَ اللَّعين: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}؛ لأنَّ كلامَ الشجرةِ صفَتُها لا صفةُ الله، وكلامَ فرعونَ صفتُهُ، وكلٌّ ادَّعى الربوبيَّة، فلم يكن موسى إذاً محِقّاً في إنكارهِ قولَ فرعونَ وقبولهِ قولَ الشجرةِ. سُبحان الله! كم تجُرُّ البدعُ على أهلِها من المَحاذير؟ تأمَّل رحِمَكَ الله لهذا الكُفْرَ الصُّراح، الَّذي أوقعَ أهلَه فيه الابتداعُ المُشِينُ، وعدَمُ الرِّضا والتَّسليم لحَقائق التَّنزيلِ، واستبدالُ الوحي الشريفِ بزُبالاتِ الأذْهانِ التي تُصَرِّفها الأهواءُ كيف شاءَت. ولقد كانتْ هذه الحجَّةُ العَقْليَّة ممَّا احتَجَّ به الإِمامُ أحمدُ رحمه الله على الجَهْميةِ المعتزلةِ حين ناظرَهم بحضْرَة المعتصِم، قال رحمه الله: "وهذه قصَّةُ موسى، قال الله في كتابهِ حكاهُ عن نفسهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى} فأثبتَ الله الكلامَ لموسى كرامةً منه لموسى، ثمَّ قالَ بعدَ كلامهِ له {تَكْلِيمًا} تأكيداً للكلامِ، قالَ الله تعالى: يَا مُوسَى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ

إِلَّا أَنَا} وَتُنْكرونَ هذا، فتكونُ هذه الياءُ تَرِدُ على غير الله، ويكونُ مخلوقٌ يدَّعِي الرُّبوبية؟! ألَا هو الله عَزَّ وجَلَّ" (¬63). وكذا احتجَّ بهذه الحُجَّة من أئمَّة السَّلَفِ الثِّقةُ المأمونُ أبو أيوب سليمانُ بن داودَ الهاشميُّ، فقال: "مَنْ قالَ: القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ، وإن كانَ القرآنُ مخلوقاً كما زعمها فَلِمَ صارَ فرعونُ أولى بأنْ يُخَلَّدَ في النَّارِ، إذْ قالَ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، وزعَموا أنَّ هذا مخلوقٌ، والذي قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي}، هذا أيضاً قد ادّعى ما ادّعى فرعونُ، فَلِمَ صارَ فرعونُ أولي بأن يُخَلَّدَ في النَّارِ من هذا، وكلاهُما مخلوقٌ؟ ". قال البُخاريُّ رحمه الله: فأخْبِرَ بذلكَ أبو عُبَيْد فاستحسَنه وأعجَبه (¬64). قلتُ: وأبو عُبَيد هو القاسم بن سلاَّم لغويُّ أهلِ الحديث. • من كلام أئمه السلف في إثبات هذه العقيدة: 1 - عمرو بن في دينار (من خيار أئمَّةِ التَّابعينَ): قال: "أدركتُ أصحابَ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فَمَن دونَهم منذ سبعينَ سنة، يقولون: الله الخالقُ، وما سِواه مخلوق، والقرآن كلام الله، منه خَرجَ وإليه يعودُ" (¬65). ¬

_ (¬63) رواه حنبل في "المحنة" ص: 52 عنه. (¬64) "خلق أفعال العباد" رقم (59) عن سليمان به. (¬65) أثر صحيح الإسناد. =

قال إسحاقُ بن راهوَيْهِ: "وقد أدْرَكَ عَمْرُو بن دينارٍ أجلّةَ أصحابِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، من البَدْريينَ، والمُهاجِرينَ، والأنصار، مثل: جابر بن عبد الله، وأبي سعيدٍ الخُدْري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن الزبير، وأجلّة التابعين، وعلى هذا مضى صدرُ هذه الأمَّةِ" (¬66). 2 - جَعفر بن محمَّد بن عليّ بن الحُسَين المَعروف بـ "الصادق" (إمامٌ ثقَةٌ سُنِّيٌّ): قال معاويةُ بن عمَّارٍ الدُّهْنِيُّ: قلْتُ لجَعْفر -يعني ابنَ محمد- إنَّهم يسألون عن القرآنِ: مخلوقٌ هو؟ قال: "ليس بخالِقٍ ولا مَخلوقٍ، ولكنَّه كلامُ الله" (¬67). ¬

_ = أخرجه الدارمي في " الردّ على الجهمية" رقم (344) و"النقض على المريسي" ص: 116 والبيهقي في "السنن" 10/ 205 وإسناده صحيح. وانظر تعليقي على "اختصاص القرآن" لضياء الدير المقدسي، تعليق رقم (50). (¬66) قول إسحاق هذا زاده البيهقي في "السنن" 10/ 205 و"الأسماء والصفات" ص: 245 عقب قول عمرو بن دينار، وسنده صحيح. (¬67) أثر صحيح الإِسناد. أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (109) والدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (345) و"النقض على المريسي" ص: 116 وعبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (132 - 134) وأبو داود في "المسائل" ص: 265 والآجري في "الشريعة" ص: 77 البيهقي في "الأسماء" ص: 246 - 247 و"الاعتقاد" ص: 107 من طريق معاوية به.

3 - مالك بن أنس (إمام دار الهجرة): قال عبد الله بن نافع: كان مالكٌ يقول: "كلَّم الله موسى -صلى الله عليه وسلم- " ويقول: "القرآنُ كلامُ الله" ويستفظِع قولَ من يقول: القرآن مخلوق (¬68). 4 - سفيان بن عُيَيْنَة (إمامٌ حُجَّةٌ): سئل عن القرآن؟ فقال: "كلامُ الله، وليس بمخلوقٍ" (¬69). 5 - عبد الله بن المبارك (ذاكَ العَلَم): قال: "القرآنُ كلامُ الله عَزَّ وَجَلَّ، ليسَ بخالقٍ ولا مَخلوقٍ" (¬70). 6 - أبو عبد الله الشَّافعيُّ الإِمامُ: قالَ الرَّبيعُ بن سُلَيْمان صاحبهُ وتلميذُهُ حاكياً المناظرةَ التي جَرَتْ بينَهُ وبينَ حفْصٍ الفَرْدِ في القرآن: فسألَ الشَّافعيَّ، فاحتجَّ عليه الشافعيُّ وطالَت فيه المُناظرةُ، فأقامَ الشَّافعيُّ الحُجَّةَ عليهِ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وكفَّر حَفْصاً الفَرْدَ. قال الرَّبِيعُ: فلقيتُ حفْصاً الفَرْدَ في المَجْلسِ بَعْدُ، فقال: أرادَ الشَّافعيُّ ¬

_ (¬68) رواه صالح بن أحمد في "المحنة" ص: 66 بسند صحيح عنه. (¬69) أخرجه أبو داود في "المسائل" ص: 265 بسند جيد عنه. (¬70) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (144) وسنده صحيح، وكذا رواه اللالكائي رقم (426).

قَتْلي (¬71). 7 - وكيعُ بن الجَرَّاح (أحدُ كبارِ الحُفَّاظ): قال: "القرآنُ كلامُ الله عزَّ وجَلَّ ليسَ بالمَخلوقِ" (¬72). 8 - يحيى بن سعيد القطَّان (رأسٌ في الحَديثِ وعِلَلِهِ): قال الحافظُ أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: قالَ لي يحيى بن سعيدٍ: "كيف يصْنَعونَ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؟ كيف يَصْنَعونَ بهذه الآية: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ}؟ يكونُ مخلوقاً؟ " (¬73). 9 - يزيد بن هارون (من كبار أئمَّةِ الحَديثِ): قال: "مَنْ قالَ: القرآنُ مخلوقٌ فهو كافرٌ" (¬74). 10 - عبد الله بن إدريس (ثقَةٌ ثَبْتٌ): قال: "القرآنُ كلامُ الله، ومنَ الله، وما كانَ مِنَ الله عَزَّ وجَلَّ فليسَ بمخلوقٍ" (¬75). 11 - أبو الوليد الطَّيالِسي: هشامُ بن عبد الملك (ثِقَةٌ حافِظٌ): ¬

_ (¬71) رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في "آداب الشافعي" ص: 194 - 195 وسنده صحيح. (¬72) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (151) بسند صحيح. (¬73) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (157) بسند صحيح. وكذا أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (30) عن الطيالسي نحوه. (¬74) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 268 بسند صحيح. (¬75) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (161) بسند صحيح.

قال: "القرآنُ كلامُ الله، وكلامُ الله ليسَ بمَخلوقٍ" (¬76). 12 - سليمان بن حَرْبٍ (ثقَةٌ جَبَلٌ صاحبُ سُنَّة): قال عباسُ بن عبد العظيم -وكان ثِقَةً- سمعتُ سُليمانَ بن حَرْبٍ قال: "القرآنُ ليسَ بمَخلوقٍ". فقلت له: إنَّكَ كنتَ لا تقولُ هذا، فما بَدا لكَ؟ قالَ: "استَخْرَجْتُهُ من كتاب الله عَز وجَل: {لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] فالكلام والنظرُ واحدٌ" (¬77). 13 - الإِمام أحمدُ بن حَنبل إمام أهل السُّنَّة: النَّقْلُ عنه في ذلك متواترٌ، والناقلونَ عنه لا يُحصيهم العدُّ، وكَفى ما كان منه في المِحْنَةِ مع الجهميةِ المعتزلةِ القائلين بخلقِ القرآن، وقد تقدَّم ذكرُ بعضِ النقلِ عنه، وسيأتي بعض ذلك متناثِراً. وممَّا يَحْسُنُ ذكرُهُ هنا ما قالَه الإِمام أحمدُ جواباً لسؤالِ المتوكّلِ عن مسألة القرآنِ: "وقد رُويَ عن غير واحدٍ ممَّن مَضى من سَلَفِنا رحمهم الله أنَّهم كانوا يقولون: القرآنُ كلام الله عَزَّ وجَلَّ، وليس بمخلوقٍ، وهو الذي أذْهَبُ إلَيهِ، ولسْتُ بصاحبِ كلامٍ، ولا أرى الكلامَ في شَيْءٍ من هذا، إلاَّ ما كانَ في ¬

_ (¬76) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح. (¬77) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (169) عن عباس عنه به.

كتابِ الله عَزَّ وجَلَّ، أو في حديثٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو عن أصحابِهِ، أو عنِ التابعينَ، فأمَّا غير ذلك فإنَّ الكلامَ فيه غيرُ مَحْمودٍ" (¬78). وقال حنبلٌ: سمعتُ أبا عبد الله يقولُ: "لم يَزَل الله -عَزَّ وَجَلَّ- متكلِّماً، والقرآنُ كلامُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- غيرُ مخلوقٍ، وعلى كلِّ جِهَةٍ, ولا يوصَفُ الله بشَيْءٍ أكثرَ ممَّا وصَفَ به نَفْسَهُ -عَزَّ وَجَلَّ- " (¬79). 14 - يحيى بن مَعين (إمامُ الجَرْحِ والتَّعديلِ) وأبو خيثمة زُهَيْر بن حَرْب (حافظٌ إمامٌ ناقِدٌ): قالا: "القرآنُ كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وهو غيرُ مَخْلوقٍ" (¬80). 15 - أبو بكر بن أبي شَيْبَة (حافظٌ إمامٌ مُصَنِّفٌ): قال له رجُلٌ من أصحابِهِ: القرآنُ كَلامُ الله وليسَ بمَخلوقٍ، فقال أبو بكر: "مَنْ لَمْ يَقُلْ هذا فهو ضالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ" (¬81) 16 - عثمان بن أبي شَيْبَةَ (ثِقَةٌ حافِظٌ): ¬

_ (¬78) رواه صالح في "المحنة" ص: 122 وعبد الله في "السنة" رقم (108) عن أبيهما. (¬79) رواه حنبل في "المحنة" ص: 68 وانظر ص: 74. (¬80) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (173) بسند صحيح، وانظر "تاريخ يحيى" رواية الدوري 3/ 335. (¬81) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (162) عنه به.

قال: "القرآنُ كلامُ الله وليسَ بمَخلوقٍ" (¬82). 17 - جماعةٌ من شُيوخ أبي داودَ السِّجِستاني صاحب "السُّنن": قال أبو داود رحمه الله: سمعتُ إسحاقَ بن إبراهيمَ بن راهُوَيهِ، وهَنَّادَ بن السَّريّ، وعبدَ الأعلي بنَ حمَّادٍ، وعُبيدَ الله بن عُمَر بنِ مَيسرةَ القواريريَّ، وحكِيم بن سيفٍ الرَّقيَّ، وأيوبَ بن محمَّدٍ، وسَوّارَ بنَ عبد الله، والرَّبيعَ بن سليمان -صاحبَ الشَّافعيّ- وعبدَ الوهّابِ بن الحَكَم، ومحمَّدَ بن الصَبّاح بنِ سُفيانَ، وعُثمانَ بن أبي شَيْبَة، ومحمَّدَ بنَ بَكّارِ بنِ الرَّيَّانِ، وأحمدَ بن جَوَّاس الحنَفيَّ، ووَهْبَ بن بَقِيَّةَ، ومَن لا أحْصيهم من عُلمائِنا، كلُّ هؤلاءِ سَمِعْتُهم يقولونَ: "القُرْآنُ كلامُ الله ليسَ بمَخلوقٍ". وبعضهُم [قال: "القرآنُ] غيرُ مخلوقٍ" (¬83). قلتُ: وجميعُ هؤلاءِ الشيوخِ من أئمَّة الحديثِ، وكلُّهم ثِقاتٌ، سِوى حَكيم بن سَيْف فإنَّه صالحٌ لا بأس به. 18 - عليُّ بن المديني (صَيْرفيّ الحَديثِ وأهلِهِ). قال محمَّدُ بن عثمانَ بن أبي شَيْبة: سمعتُ عليَّ بن المَديني يقولُ ¬

_ (¬82) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (163) عنه به. (¬83) "المسائل" لأبي داود ص: 266.

قبلَ أن يموتَ بشَهرين: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن قالَ: مخلوقٌ، فهو كافرٌ" (¬84). 19 - أبو يعقوب البُويْطيِّ (تلميذُ الشافعي وخرّيجُهُ): قال:"مَنْ قالَ: القرآنُ مخلوقٌ، فهو كافرٌ" (¬85). 20 - المُزَنيُّ: إسماعيل بن يحيى (إمامٌ فَقيهٌ، من أخَصّ أصحابِ الشافعي به): قال: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن قالَ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فهو كافرٌ" (¬86). 21 - البخاريّ: محمَّد بن إسماعيل (إمامُ المحدّثين): قال: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ" (¬87). 22 - أبو حاتِمٍ وأبو زُرْعَة الرّازيانِ (عالمانِ حافظانِ، من كبارِ أئمَّةِ الحديثِ): قال عبدُ الرَّحمن بن أبي حاتِم: ¬

_ (¬84) أخرجه ابن الطبري في "السنة" رقم (453) والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/ 472 بسند صحيح، وانظر "مسائل ابن أبي شيبة لابن المديني" نص: (113). (¬85) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 268بسند صحيح عنه. (¬86) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 252 بسند صحيح، ورواه هو وابن الطبري بإسنادين آخرين عنه. (¬87) "خلق أفعال العباد" ص: 37.

سألتُ أبي وأبا زُرْعةَ عن مَذاهبِ أهل السُّنَّة في أصولِ الدّينِ، وما أدركا عليه العلماءَ في جميع الأمصارِ، وما يَعْتَقِدان من ذلك؟ فقالا: "أدْرَكْنَا العُلَماءَ في جَميع الأمصار: حِجازاً، وعِراقاً، وشاماً، ويَمَناً، فكان من مذهبهم: الإِيمان قولٌ وعَمَلٌ يَزيدُ وينقصُ، والقرآنُ كلامُ الله غير مخلوقٍ بجميع جهاتِهِ" (¬88). فهؤلاءِ بِضْعةٌ وثلاثونَ من الأئمَّةِ، قد سمِّيناهم، عامَّتهم ممَّن يُقْتَدى بهم، وجميعهم من أهلِ القُرونِ المُفَضَّلَة التي هي خيرُ القرون. قال الإِمام أبو عثمانَ الصابونيُّ: "ويشهَد أصحابُ الحديث، ويعتقدونَ: أنَّ القرآنَ كلام الله وكتابُه، وخِطابُه، ووحيُهُ، وتنزيلُهُ، غيرُ مخلوقٍ، ومَنْ قالَ بِخَلْقِهِ واعتقدَه فهو كافرٌ عندهم" (¬89). ولو أرَدْنا استيعاب ما بلَغنا من أقوالهم في إثباتِ هذه العقيدةِ (القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخْلوقٍ) لاحتاجَ ذلك إلى تصنيفٍ مُستقلٍّ. وقد ساقَ الإِمامُ أبو القاسِم هبةُ الله بن الحَسَن الطَّبريُّ اللَّالكائي في كتابه العَظيم (شرحِ أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) أو (كتاب السنة) القولَ بذلك عن خَمْسِ مِئَةٍ وخَمسينَ نَفْساً من علماءِ الأمَّةِ وسَلَفِها، كلُّهُم يقولونَ: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن قال: مخلوقٌ، فهو كافرٌ". قال رحمه الله: ¬

_ (¬88) أخرجه ابن الطبري في "السنة" 1/ 176 بسند صحيح. (¬89) "رسالته في السُّنَّة" نص/6.

"فهؤلاء خَمْسُ مِئَةٍ وخمسونَ نَفْساً أو أكثر، من التَّابعينَ، وأتباع التَّابعينَ، والأئمةِ المَرْضييّنَ، سوى الصحابة الخيّرين، على اختلاف الأعصارِ، ومُضِيّ السّنين والأعوامِ، وفيهم نحوٌ من مِئة إمامٍ، ممَّن أخذَ الناسُ بقَوْلهم، وتَديَّنوا بمَذاهبهم، ولو اشتغلتُ بنقلِ قولِ المُحَدِّثينَ لبلَغتْ أسماؤهم ألوفاً كثيرةً" (¬90). قلتُ: وفيما ذُكر كفايةٌ لإِثباتِ قوَّةِ هذه العقيدةِ، وأنَّها المَذْهبُ الحقُّ وحدَه، ومُجانَبَةِ مُخالفِهِ للحَقِّ البيّن الصَّريحِ الذي أطبقَ على اعتقادهِ سادةُ علماءِ الأمَّة، فهو إجماعُ أهلِ السُّنًّة الَّذي لا يقعُ فيهِ امتراءٌ، والله أعلم. • • • • • ¬

_ (¬90) كتاب "السنة" رقم (493).

المبحث السادس: الوقف في القرآن

المبحث السادس: الوقف في القرآن المُراد بهذه المَسْألة السُّكوتُ عن القولِ: القرآنُ مَخلوقٌ، أو غيرُ مَخلوقٍ، والاكتفاء بالقول: إنَّه كلامُ الله. وقد ذَكَرْنا فيما مضى أنَّ الناسَ في صَدْرِ الإِسلام كانوا في غِنًى عن الزِّيادةِ على القول: (القرآنُ كلامُ الله) لأنَّهم لم يكونوا يفقَهون مِنْ هذهِ الإِضافةِ إلاَّ أنَّها صفةُ الله، وهم أجَلُّ مِن أنْ يجْهَلوا أنَّ صفاتِهِ تعالى تابعةٌ لذاتهِ، غيرُ مَخلوقةٍ. فلمَّا ظهرَت بدعةُ القَول بخَلْقِ القرآن عَقَلَ أئمَّةُ السُّنَّة خَطَرَها، فردُّوها وأبطَلوها، وليسَ بعدَ ذلكَ من سَبيل إلاَّ القولُ: (القرآن كلام الله غيرُ مخلوق) لإِبطالِ دين أهل الضّلالةِ، وإحقاقِ دينِ أهل السُّنَّةِ. وقدْ أقَمْنا الحُجَجَ على صحَّة هذا الاعتقادِ، وموافقتهِ للكتاب والسُّنَّة. ولكنَّ طائفةً من المُنْتَسبينَ إلى العِلْمِ لم يفقَهوا حقيقةَ هذه البِدْعَةِ، ولم يفْهَموا مُرادَ أهلِها جَهلاً منهم، فتعسَّروا القولَ: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق، كما تعسَّروا القولَ: كلامُ الله مخلوق، خَوْفاً من البدعَةِ، فوقَفوا

عن وَرَعٍ مبنيٌ على جَهْلٍ، وإنَّما أكَّدَ ذلكَ أنَّها كانت مسألةً حديثةَ الوُرود على أذهانِهم، لم يكن لهم بها سابقُ عِلْمٍ. ولكن الناسَ حين وقَعوا في ذلك، وعَظُمَت بسَبَبهِ البليّةُ، وجَبَ إظهارُ الحقّ والإِبانةُ عنه، وذلك ما كان من الأئمَّةِ، وأعلامِ الأمَّة، الذين هم قُدْوةُ الناس -كما حكيناه عنهم فيما مضى ... ولقد سُئِلَ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله: هَلْ لهم رُخْصَةً أنْ يقولَ الرجلُ: القرآن كلام الله تعالى ثمَّ يَسْكت؟ فقالَ: "ولِمَ يسكُت؟ لولا ما وقَعَ فيه الناس كان يسَعُهُ السُّكوتُ، ولكن حيثُ تكلَّموا فيما تكلَّموا لأيِّ شيءٍ لا يتكلَّمون؟ " (¬1). قال الحافظ أبو بكر الآجُريُّ:"معنى قول أحمدَ بن حنبل في هذا المعنى، يقول: لم يختلفْ أهلُ الإِيمان أنَّ القرآنَ كلامُ الله عَزَّ وجَلَّ، فلمَّا جاءَ جَهْمٌ فأحْدَثَ الكُفْرَ بقولِهِ: إنَّ القرآن مخلوقٌ، لم يسَع العلماءَ إلاَّ الرَّدُّ عليه بأنَّ القرآنَ كلامُ الله عَزَّ وجَلَّ غيرُ مخلوقٍ بلا شكٍّ ولا تَوقُّفٍ فيهِ، فمَنْ لم يَقُلْ: غيرُ مخلوقٍ، سُمّيَ واقفيّاً شاكاً في دينه" (¬2). وقال أحمدُ أيضاً: "كنا نرى السُّكوتَ عن هذا قبلَ أن يخوضَ فيه هؤلاء، فلمَّا أظهروهُ لم نَجِدْ بُدّاً من مُخالفتهم والرَّدِّ عليهم" (¬3). والأئمةُ جميعاً على إنكارِ مَسْلَكِ هؤلاءِ، والتَّشديد عليهم، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 263 - 264ومن طريقه: الآجري ص: 87 وإسماعيل بن الفضل ق 114/أ. (¬2) "الشريعة" للآجري ص: 87. (¬3) ذكره عنه عثمان الدارمي في "النقض على المريسي" ص: 110.

وتَبْدِيعهم، وأبو عبد الله أحمد بن حنبل أشدُّهم إنكاراً. قال أبو داود السِّجِستانيُّ: سمعتُ أحمدَ ذَكَرَ رَجُلينِ كانا وَقَفا في القرآنِ، ودَعَوَا إليه، فجعَلَ يَدعو علَيْهما، وقالَ لي: هذا لأحدِهما فِتْنةٌ، وجعَلَ يذكرهما بالمَكْروهِ (¬4). وقالَ: رأيتُ أحمدَ سلَّمَ عليه رجلُ من أهْلِ بغداد ممَّن وقَفَ -فيما بلَغني- فقال: "اغْرُبْ، لا أرَينَّكَ تَجِيءُ إلى بابي -في كلام غَليظ-" ولَمْ يرُدَّ عليه السَّلامَ، وقالَ لَهُ: "ما أحوَجَكَ إلى أنْ يُصْنَعَ بك ما صنَعَ عُمَرُ بصَبِيغٍ". قال أبو داودَ: فهَّمَني بصَبيغ بعضُ ولَد أحمدَ -[فدخَلَ بيتَه وردَّ البابَ] (¬5). وقالَ أبو طالب: سألتُ أبا عبد الله عمَّن أمسكَ، فقال: لا أقولُ ليسَ هو مخلوقاً، إذا لَقِيَني بالطريقِ وسلَّمَ عليَّ، أسَلِّمُ عليه؟ قال: "لا تُسَلِّمْ عليه، ولا تكلِّمْهُ، كيفَ يعرفُه الناسُ إذا سلَّمتَ عليْهِ؟ وكيفَ يعرفُ هو أنَّك مُنكرٌ عليه، فإذا لَمْ تُسَلِّم عليه عَرَفَ الذّلَّ، وعرفَ أنك أنكرتَ عليه، وعرفهُ النَّاسُ" (¬6). ¬

_ (¬4) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 264 ومن طريقه الآجري ص: 87. (¬5) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 264ومن طريقه: الآجري ص: 87. وصَبيغ هذا بصريٌّ قَدِم على عُمَر فكان يجادل في متشابه القرآن، فجلَده عمر رضي الله عنه لذلك، وقصته صحيحة مشهورة، رويت موصولةً بسند صحيح عند ابن عساكر 8/ 117/أوغيره، ورويت مرسلةً من وجوه متعددة. (¬6) رواه الآجري ص: 88 بسند صحيح.

وقال أبو داودَ: سمعتُ أحمدَ وقيلَ له: ما تَرى في الصَّلاةِ خَلْفَ من يقولُ في القرآنِ: كلامُ الله، ويَقِفُ؟ قال: "يُعْجِبُني أنْ يُجْفَوا" (¬7). وسيأتي عنه البيانُ أنَّ الجاهلَ من هؤلاءِ يَسألُ ويتعلَّمُ. وسيأتي عن الإِمامين أبي حاتِمٍ وأبي زُرْعَةَ الرازيَّيَّنِ أنَّه مبتدعٌ ولا يُكَفَّر, لأنَّه وقفَ عن جَهْلٍ وضَعْفِ بَصيرةٍ. وبعدَ انكشافِ المِحْنَة عن الناس في عَهْد المتوكِّل، وقُوَّةِ شَوْكةِ أهل السُّنَّةِ حينئذ، وإخمادِ نارِ الفتنةِ وخُذلان أهْلِها، لجَأتْ طائفةٌ من الجَهميةِ إلى استعمال التَقِيَّة خَوْفاً من سَيْفِ أهْلِ السُّنَّةِ، فقالوا: نحن نقولُ: القرآنُ كلامُ الله، ولا نَزيدُ، فلا نقولُ: مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ. وتابعهم علي ذلك بعضُ مَنْ لا يَفْهَم. ووجَدوا في وَقْفِ من كانَ يقِفُ تورّعاً مِنْ بعضِ من خَفِيَه الحقُّ من المنتسبين إلى الحَديث مِمَّنْ أشَرْنا إليهم آنفاً، حِيلةً يَتَشَبثون بها، ويحتجّون بها على صحَّةِ مذهَبِهم، وهم يُبْطنونَ الحقيقةَ الفاسدةَ. ولكنَّ الأئمَّةَ كانوا حَديثي عَهْدٍ بالفتنةِ، وقَدْ عالَجوها وخَبرُوها، فلم يغترّوا بهذه المَقالةِ، فأنكَروها وشدَّدوا على مُعْتَقِدِها وقالوا: هو شاكٌّ، وهذا أدنى أحوالِهم عندَهم. فألحقوهم بالجَهميَّةِ الأوائِلِ، ولذا يقولُ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله: "افترقَت الجَهميَّةُ على ثَلَاثِ فِرَق: فِرْقَةٍ قالوا: القرآنُ مخلوقٌ، وفرقةٍ ¬

_ (¬7) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 264.

قالوا: كلامُ الله وتسْكُتُ، وفرقةٍ قالوا: لفظُنا بالقرآنِ مخلوقٌ" (¬8). ومقالاتُ الإِمام أحمدَ فيهم كثيرةٌ مُستفيضةٌ، وكذا عن غيرِه من أئمَّةِ السُّنَّة، فمِنْ ذلك: 1 - قال مُهَنّا أبو عبد الله السُّلَميّ (وكان من خيار أصحاب أحمد): سألتُ أحمدَ بن حنبل بعدَ ما أخْرجَ من السِّجنِ بسنتين: ما تقول في القرآنِ؟ فقَالَ: "كلامُ الله غيرُ مخلوق" وقال: "مَن رَوى عنّي غيرَ هذا القولَ فهو مُبْطِل" قلتُ له: إنَّ بعضَ مَن ذكَرَ عنك أنَّك قلتَ له: هو كلام الله، لا مَخلوق ولا غيرُ مخلوق، ولكن هو كلام الله، فقال أحمد: "أبْطَلَ، ما قلتُ هذا، ولكنَّه هو كلامُ الله غير مخلوقٍ" (¬9). 2 - وقالَ سلَمةُ بن شَبيب: دخلتُ على أحمد بن حنبل فقلتُ: ما تقول فيمن يقول: القرآن كلامُ الله؟ فقال أحمد: "مَنْ لم يَقُلْ: القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق فهو كافرٌ". ثمَّ قالَ: "لا تَشُكَّنَّ في كُفْرِهم، فإنَّ مَن لم يَقُلِ: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق فهو يقول: مخلوقٌ، ومَن قال: هو مخلوقٌ، فهو كافر بالله عزَّ وجَلَّ". قال سلمَةُ: وقلتُ لأحمدَ: الواقفة كفّارٌ؟ فقال:"كفّارٌ" (¬10). 3 - وقال عبد الله بن أحمدَ: سمعتُ أبي -وسُئلَ عن الواقفة- فقال ¬

_ (¬8) رواه صالح في "المحنة" ص 72 عن أبيه به. (¬9) رواه عبد الله في "السنة" رقم (529) عن مهنّا عن أحمد. (¬10) رواه ابن الجوزي في "مناقب الإِمام أحمد" ص: 157 بسند جيد.

أبي: "مَن كانَ يُخاصِمُ ويُعرَفُ بالكلام فهو جَهْميٌّ، ومن لم يُعرَف بالكلام يُجانَب حتى يَرْجِعَ، ومَن لم يكن له عِلمٌ يَسأل" (¬11). وقالَ مرَّةً في الواقِفَةِ:"هُمْ شَرٌّ مِن الجهميَّةِ" (¬12). قلتُ: لخَفاءِ أمرِهم. 4 - وقال إسحاقُ بن راهُوَيْهِ (الِإمامُ الفقيةُ الحافِظُ): "مَنْ قالَ: لا أقولُ: القرآنُ مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ، فهو جَهميُّ" (¬13). 5 - وقال قُتَيبةُ بن سعيد (وهو ثِقَةٌ ثَبْتُ حافِظٌ): "هؤلاءِ -يعني الواقفة- شَرٌّ مِنْهم، ممَّن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ" (¬14). 6 - وقال الحافظُ الإِمامُ أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: "مَن لم يَعْقِدْ قلبَه على أنَّ القرآنَ ليسَ بمخلوقٍ فهو خارجٌ من الإِسلام" (¬15). 7 - وقال عثمانُ بن أبي شيبة (ثِقَةٌ حافِظٌ): ¬

_ (¬11) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (223). (¬12) رواه عبد الله بن أحمد في "السنة" رقم (225). (¬13) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 270 ومن طريقه الآجري في "الشريعة" ص: 88. (¬14) رواه أبو داود في "المسائل" ص:270 ومن طريقه الآجري ص: 88. (¬15) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح.

"هؤلاء الذين يقولونَ: كلامُ الله ويسكُتونَ، شَرٌّ من هؤلاء -يعني ممن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ" (¬16). 8 - وقال أبو داودَ: سألتُ أحمدَ بن صالح المِصْريَّ (الحافظ الِإمام) عمَّن يقول: القرآن كلامُ الله، ولا يقول: مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ؟ قال: "لهذا شاّكٌّ" (¬17). 9 - وقال أبو خَيْثَمة (ثِقَةٌ حافِظٌ) -وسأل يَحيى بن مَعِين- فقال: إنَّهم يقولون: إنّكَ تقولُ: القرآنُ كلامُ الله، وتَسْكُت، ولا تقولُ: مخلوقٌ، ولا غيرُ مَخلوقٍ، قال: "لا" فعاوَدتهٌ، فقال: "مَعاذَ الله، القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخْلوقٍ، ومَن قالَ غير لهذا فعليه لعنةُ الله" (¬18). 10 - وقالَ أبو حاتِمٍ وأبو زُرْعةَ الرّازيان الحافظان: "ومَن شَكَّ في كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فوقَفَ شاكّاً فيه، يقولُ: لا أدْري، مَخْلوقٌ أو غير مَخلوقٍ، فهو جَهميّ، ومَن وقَفَ جاهلاً عُلِّمَ، ويُدّعَ ولَم يُكَفَّر" (¬19). وكذا ذكَر الإِمامُ هِبَةُ الله ابنُ الطَّبريّ نحوَ ما ذُكِرَ من الإِنكار عن نَحْوِ مِئَةٍ من المحدِّثينَ والفُقَهاء (¬20). ¬

_ (¬16) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 271 ومن طريقه الآجري ص: 88. (¬17) رواه أبو داود ص: 271 وعنه الآجري ص: 88. (¬18) رواه ابن الطبري في "السنة" رقم (456) بسند صحيح. (¬19) رواه ابن الطبري 1/ 178 بسند صحيح. (¬20) كتاب "السنة" 2/ 323 - 329.

قلت: وإنَّما شدَّدَ الأئمةُ كلَّ هذا التَّشديدِ على هؤلاءِ الواقفةِ لأجلِ أنَّ الحقَّ في كَلام الله قَدْ بانَ وظَهَرَ، وقامَتْ عليه دلائِلُ الشَّرْعِ القاطعةُ، فلِمَ يبقى عندَ هؤلاءِ تردُّدٌ اعتقادِهِ والقولِ به؟ أمّا دَعْواهم أنَّ القولَ: (القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ) لم يتكلَّمْ به المتقدِّمون، فهو مُكابَرةٌ منهم لإِحقاق باطِلِهم، وإلاَّ فكيفَ يتكلَّمُ المتقدِّمون بما لَمْ يَقَعْ ولم يَشْهَدوه؟ أو بما لا يَدْرون إنْ وَقَعَ كيفَ يكونُ؟ وقد شرَحْنا من الدَّلالةِ ما يَكفي لصِحَّةِ اعتقادِ أهْل السُّنَّة، وبَيَّنَّا أنَّه الذي مَضى عليه سَلَفُ الأمَّةِ حتى قبلَ ظُهور هذهِ البِدْعَة من جِهَةِ اتّفاقهم على أنَّها صِفَةُ الله، والخالقُ بصفاتِهِ غيرُ المَخْلوق بصفاتِهِ. وفي قصَّة الوَحيد حُجّةٌ على هؤلاء، قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 11 - 30] فما أشبَه القومَ به، ومن قالَ: إنَّه قولُ الجنّ، أو المَلائكة، أو غير ذلك من خَلْق الله فهو مع الوَحيدِ في القَوْل سَواء، إلّا أنَّ القومَ يتستَّرونَ بالإسلام. وقد أبَنّا لكَ فيما مَضى أنَّ الله تعالى لا يوصَفُ بشَيْءٍ مَخْلوقٍ، وفيما ذكرنا كفايةٌ ومقنعٌ لمَن أرادَ الحقَّ وقصَدَهُ.

المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت

المبحث السابع: كلام الله تعالى بحرف وصوت ومن اعتقادِ السَّلَف في كلامِ الله تعالى أنَّ كلامَه جَلَّ وعَزَّ مؤلَّفٌ من الحُروفِ، إنْ شاءَ جَعَلَها عَربيَّةً، وإن شاءَ جعَلَها عِبْرانِيَّةً، وإن شاء جَعَلها غيرَ ذلك، فهو المتكلّمُ بحرُوفِ القرآنِ، والتَّوراةِ، والإِنجيلِ، وغيرِها من كلامِهِ. قالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]. وقال تعالى: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران:1 - 4]. فأخْبَرَ تعالى أنه أنْزَل الكُتُبَ: القرآنَ، والتَّوراةَ والإِنجيلَ، وإنَّما ذلك بلُغاتِ الرُّسل الذين أنْزَل عَلَيهم، وبلُغات أقوامِهم، لأجْلِ أن تقومَ الحُجَّةُ عليهم به، إذ لوكانَ بغيرِ لُغتهم ما فَقِهُوهُ. قال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 1 - 2] وقالَ تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1 - 4] وقالَ تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]. وقالَ جَلَّ وَعَزَّ {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 192 - 199] وقالَ تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 27 - 28]. وقالَ سُبحانه: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1 - 4]. وقالَ تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ...} [فصلت: 44]. فأخبرَ تعالى أنَّ القرآنَ الذي نزلَ به جِبريلُ عليه السَّلامُ منهُ تبارك وتعالى وحيُهُ وتنزيلُهُ، وهو هذا القرآنُ العربيُّ الذي أنْزلَ على محمَّد -صلى الله عليه وسلم-

بلغةِ قومِهِ، ليفقَهوهُ ويَعْقِلُوهُ ويعْلَمُوهُ. وقولُه: {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} أي: بلغةِ العربِ. فالله تعالى تكلَّمَ به كذلك، بحروفهِ العربيَّةِ، كالألفِ والباءِ والتَّاءِ، ليسَ شَيْءٌ من ذلك قولَ أحَدٍ سِواهُ، وإنّما بلَّغَهُ جبريلُ عليه السَّلامُ عنه، وبلَّغَهُ محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- عن جِبريل، وهو الذي أعجزَ الكفَّارَ أنْ يأتوا بمثلِه، بَلْ تحدَّى الله تعالى الإِنسَ والجنَّ أنْ يأتوا بمثلِهِ، كما قالَ تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسراء: 88]. فكونُهُ مؤلّفًا من الحُروفِ ظاهرٌ لا يَحْتاجُ إلى استدلالٍ، إذْ أنَّ كُلَّ أحَدٍ يعلَم أنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} آيةٌ، وهي أربَعُ كَلِمَاتٍ، كلُّ كلمةٍ مؤلَّفةٌ من حَرْفيْنِ أو أكثر، وهي كَلِماتٌ عَرَبيَّةٌ، وحروفٌ عربيَّةٌ. ولكنَّ بعضَ أهْلِ البدَعِ نازعَ في إطلاقِ لفظِ (الحَرْف) وأنَّه يَحتاجُ إطلاقُهُ إلى دليلٍ. وهذا المُنازع لا يَخْلو من أحَدِ حالَيْنِ: إمّا أنْ يكونَ مُكابِرًا -كما هي سِمَة أهلِ البِدَعِ-. وإمَّا أنْ يكونَ غَبيّاً جاهلًا. وذلك أنَّ كُلَّ أحَدٍ يُبصرُ (آلمَ. آلمر. كهيعص. حم. طه. يس) لا يخطرُ ببالهِ غيرُ أنَّها حُروفٌ، وليسَ لها تسميةٌ إلاَّ هذهِ. ونحن معَ ذلك نزيدُهُ حُجَجاً على صِحَّةِ إطلاقِ لهذه التَّسْميةِ من السُّنَّة وآثارِ السَّلَفِ، لنكْسِرَ أنفَ كِبْرِهِ، أو نَمْحُو جَهْلَ فِكْرِهِ، فمِنْ ذلك:

1 - حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينَما جِبريلُ قاعِدٌ عندَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ نقيضًا مِنْ فَوْقهِ، فرفَعَ رأسَه فقال: "هذا بابٌ منَ السَّماءِ فُتِحَ اليومَ لم يُفْتَح قطّ إلاَّ اليوم، فَنَزَلَ منه مَلَكٌ، فقال: هذا مَلَكٌ نَزَلَ إلى الأرضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلاَّ اليَوْم، فسَلَّمَ وقالَ: أبْشِرْ بنورَين أوتيتَهما لم يؤتَهمُا نبيٌّ قبلَكَ: فاتحةِ الكتابِ، وخَواتيمِ سُورَةِ البقرَةِ، لَنْ تَقْرَأ بحَرْفٍ منهما إلاَّ أعْطِيتَه" (¬21). 2 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "تعلَّموا القرآنَ، فإنَّه يُكْتَبُ بكلِّ حرفٍ منه عشرُ حسناتٍ، ويُكَفَّرُ به عَشْرُ سيّئاتٍ، أمَا إني لا أقول: {الم} ولكن أقولُ: ألفٌ عَشْرٌ، ولامٌ عَشْرٌ، وميمٌ عَشْرٌ" (¬22). ¬

_ (¬21) حديث صحيح. أخرجه مسلم رقم (806) والنسائي 2/ 138 وفي "فضائل القرآن" -من "الكبري"- رقم (39، 40) وابن نصر في "قيام الليل" ص: 142 - 143 وابن حِبّان في "صحيحه" رقم (766) والحاكم 1/ 558 - 559 من طريق عمَّار بن رُزَيق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا، إنَّما أخرج مسلم هذا الحديث ... مختصراً"، وأقرَّه الذهبي. قلت: بل هو بتمامه عند مسلم. (¬22) حديث صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 461 من طريق قيس بن سكن عن عبد الله به موقوفاً. =

3 - وقول ابن عبَّاس رضي الله عنه: "ما يمنَعُ أحدَكُم إذا رَجَعَ من سُوقِهِ، أو منْ حاجَتِهِ، إلى أهْلِهِ، أنْ يَقْرأ القرآنَ فيكونَ لَه بكلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَناتٍ" (¬23). 4 - وقالَ شُعَيْبُ بن الحَبْحاب (ثِقَةٌ منْ صِغار التَّابعينَ): كانَ أبو العاليةِ إذا قَرَأ عنده رَجُلٌ لم يَقُلْ: ليس كما يَقرأ، وإنَّما يَقولُ: أمَّا أنا فأقرأ كَذا وكَذا، قال: فذكَرْتُ ذلك لإِبراهيمَ النَّخَعيّ، فقالَ: أرى صاحِبَك قَدْ سَمِعَ: "أنَّ مَنْ كَفَرَ بحَرْفٍ منهُ، فقد كَفَرَ به كُلِّه" (¬24). * وأمَّا كلامُهُ تعالى بصَوْتٍ، فقد قامت الدَّلائلُ القَواطِعُ على إثباتِهِ، وهو كسائِر صفاتِهِ تعالي، كلما أنَّها لا تَشْبَهُ صفاتِ المَخلوقينَ، فصوتُهُ تعالى لا يشبَهُ أصواتَهم، وقياسُ الخالِق على المَخلوقٍ تَشْبيهٌ، والله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في ذاتِهِ، وجَميعِ صفاتِهِ. والأدلَّةُ على إثباتِ كلامِ الله تعالى بصَوْتٍ كثيرةٌ، منها: 1 - تكليمُهُ تعالى لموسى عليه السَّلام، فإنَّه قالَ له: {فَاسْتَمِعْ لِمَا ¬

_ = وسنده صحيح. وروي من غير هذا الوجه عن عبد الله مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه مع أن له حكم الرفع كما لا يخفى، وشرحت ذلك في تعليقي على "مناظرة ابن قدامة في مسألة القرآن"، وفي آخر تحقيقي لكتاب "الرد على من يقول (الم) حرف". (¬23) رواه ابن المبارك في "الزهد" رقم (807) وسنده جيد. (¬24) رواه ابن أبي شيبة 10/ 513 - 514 وابن جرير في "التفسير" رقم (56) وسنده صحيح.

يُوحَى} [طه: 13]. فَدَلَّ هذا على أنَّهُ سَمعٍ كلامَ الله تعالى، ولا يُسْمَعُ إلاَّ الصَّوْتُ، وربُّنا تعالى قَدْ خاطَبَنا باللِّسانِ العَربيّ الذي نفْهَمُهُ، وليسَ فيه سَماعٌ بحصَل من غير صَوْتٍ (¬25). وسبق أنْ بيّنّا أنَّ كلامَ الله لمُوسى كانَ أعلى درجاتِ التَّكليمِ، وليس هو من جنسْ الإلهاماتِ، وإنَّما هو كلامٌ مسموعٌ بالآذانِ. وقد قالَ عبد الله بن أحمدَ بن حَنْبل: سألْتُ أبي رحمه الله عن قومٍ يقولونَ: لمَّا كلَّمَ الله موسى لم يتكلَّمْ بصَوْتٍ؟ فقال أبي: "بَلَى، إنَّ ربَّكَ -عَزَّ وَجَلَّ- تَكَلَّمَ بصَوْتٍ، هذه الأحاديثُ نَرْويها كما جاءت" (¬26). واحتجَّ لذلكَ بحديث ابن مَسعودٍ الآتي. وقالَ الِإمام أبو بكر المَرُّوذِيُّ صاحبُ الإِمام أحمدَ: سمعتُ أبا عبد الله -يعني أحمدَ- وقيل له: إنَّ عبْدَ الوهّاب قَدْ تكلَّم وقالَ: مَنْ زعَمَ أنَّ الله كلَّمَ موسى بلا صَوْتٍ فهو جَهميٌّ عدُوُّ الله وعدوُّ الإِسلام، فتبسَّمَ أبو عبد الله وقال: "ما أحسَنَ ما قال، عافاه الله" (¬27). وقال عبدُ الله بن أحمدَ أيضًا: قلتُ لأبي: إنَّ ههُنا مَنْ يقولُ: إنَّ الله لا يتكلَّمُ بصوْتٍ، فقال: "يا بُنيَّ، هؤلاء جَهْميَّةٌ زنادِقَةٌ، إنَّما يَدوُرونَ على ¬

_ (¬25) انظر: "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 93. (¬26) رواه عبد الله في "السنة" رقم (533) عنه. (¬27) رواه الخلاّل عن المرّوزي به -كما في "درء التعارض 2/ 38 - 39.

التَّعطيل" وذكرَ الآثارَ في خِلاف قَوْلهم (¬28). 2 - إخبارُه تعالى عن ندائِهِ لمُوسى عليه السَّلام، ولعباهِ يومَ القيامةِ. وذلك في عدَّةِ مَواضِعَ مِن كتابِهِ، منها: قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 15، 16] وقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52]. وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} [طه: 11]. وقوله جَلَّ وَعَزَّ: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62، 74]. والنِّداءُ: قال الجوهَريّ: "الصَّوْتُ، وقد يُضَمّ، مثل: الدُّعاء، والرُّغاء، وناداه مُناداةً، ونِداءً، أي: صاحَ به" (¬29). وفي "اللسان": النِّداءُ -ممدودٌ- الدُّعاءُ بأرفَع الصَّوْت، وقد نادَيْتُه ¬

_ (¬28) ذكر هذا النَّص شيخ الإِسلام -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 368 - ونسبه إلى "كتاب السنة" لعبد الله، ولم أقف عليه فيه، فلعله وقع له في نسخة. (¬29) "الصحاح" مادة (ندا).

نِداءً" (¬30). وقال شيخ الإِسلام: "والنِّداء في لغة العَرَب: هو صوتٌ رَفيعٌ، لا يُطلَق النِّداء على ما ليسَ بصوتٍ، لا حَقيقةً ولا مَجازًا" (¬31). قلت: ما قالَه شيخ الإِسلام مُوافق لِما حكيْتُه عن أهلِ اللغةِ من أنَّ النداءَ الصَّوتُ الرَّفيعُ. فإذا عُلِمَ هذا ثَبَتَ أنَّ الله تعالى نادى موسى بصَوْتٍ، ويُنادِي بصَوتٍ عبادَه يومَ القيامةِ. 3 - حديثُ عبد الله بن أنَسٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يَحْشُرُ الله العبادَ -أو الناسَ- عُراةً غُرْلًا بُهْمًا". قلنا: ما بُهْماً؟ قال: "ليسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، فَيُناديهم بصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ -أحسَبُه قالَ: كما يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ-: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ ... " الحديث (¬32). وهذا الحديثُ صَريحٌ في إثْباتِ كلام الرَّبِّ تعالى بصَوْتٍ، وقَد احْتجَّ به على ذلك إمامُ أهل الحديث محمَّدُ بن إسماعيل البُخاريُّ رحمه الله، فقال: ¬

_ (¬30) "اللسان" مادة (ندي). (¬31) "مجموع الفتاوى" 6/ 531 (¬32) حديث حسن، وقد سبق سياقه بتمامه وتخريجه في المبحث الرابع.

"وإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ينادي بِصَوْتٍ، يَسْمَعُه مَنْ بَعُدَ كَما يَسْمَعه من قَرُبَ، فليسَ هذا لغير الله جَلَّ ذكرُه، وفي هذا دليلٌ أنَّ صوتَ الله لا يشبَهُ أصواتَ الخَلْقِ, لأنَّ صوتَ الله جلَّ ذكرُهُ يُسْمَع من بُعْدٍ كما يُسْمَع من قُرْبٍ ... " ثُمَّ أسنَدَ الحديثَ (¬33). 4 - حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ نبيَّ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قَضى الله الأمرَ في السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِها خُضْعانًا لقولِهِ، كأنَّه سلْسِلةٌ على صَفْوانٍ، فإذا فُزِّعَ عن قُلوِبهم قالوا: ماذا قالَ ¬

_ (¬33) "خلق أفعال العباد" ص: 149. ولقد أبى بعضُ أهل البدع الاحتجاجَ بهذا الحديث على إثبات الصوت لله تعالى، وأوَّلَه بأنَّه من مَجاز الحذف، والتقدير: يأمر من ينادي. - وهذا باطلٌ من أوجهٍ: الأول: أنَّ الأصلَ في الإِطلاق الحقيقة، وهذا ربَّما وافقنا فيه المبتدع في مواضع أُخرى. والثاني: أنَّ التقدير إنَّما يُصار إله في أحد حالين: - دلالة القرينة. - عدم استقامة السياق. وكلاهما منتفٍ هُنا، فلا قرينةَ تدعو إلى هذا التقدير سِوى التنزيه في دعوى المبتدع، وهو عندنا غير مُنتفٍ، وشأنها كسائر صفات الباري تعالى، نُثْبِتُها مع التنزيه. وأمَّا السياق فهو مستقيمُ لا اضطرابَ فيه، ويؤكّده الوجهُ الآتي. والثالث: أنَّه خُروجٌ عن الظاهر بغير برهان، بلْ إنَّ البرهانَ ضِدُّه، ألا تَراه قال: "أنا المَلِكُ، أنا الديّان ... "؟ فهل يُناسبُ أن يكون هذا كلاماً لغير الله مِن مَلَكٍ أو غيرِه؟

ربُّكُم؟ قالوا للَّذي قال: الحَقَّ، وهو العليُّ الكبيرُ" (¬34). وفي لفظ: "إنَّ الله إذا قضى أمْراً في السَّماءِ، ضَرَبتِ الملائكةُ بأجْنِحتِها جَميعاً، ولقولهِ صَوْتٌ كصَوْتِ السِّلْسِلةِ على الصَّفا الصَّفوانِ، فذلكَ قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] (¬35). ووجه الاستدلال بهذا اللَّفظ ظاهرٌ، وذلكَ أنَّ قولَه: "ولقوله صوتٌ كصوتِ السِّلْسِلَة" صَريحٌ في أنَّ قولَه تعالى وكلامَه يكون بصوتٍ. وأمَّا اللفظُ الأوَّل فإنَّ الضَّميرَ في قوله: "كأنَّه سِلْسِلة" عائدٌ إلى أقرب مذكورٍ، وهو قوله: "لقولِه" فقوله: "سِلْسِلَة على صَفْوان" تضمَّنَ إثباتَ الصَّوتِ للمُخْبَرِ عنه الذي هو القولُ، فيظهرُ بهذا إثباتُ قولِهِ تعالى وكلامِهِ بصَوْتٍ. ولكنَّ بعضَ أهل البِدَع أبَوْا ذلك من أجْلِ أنْ يُبْطلوا تَكَلُّمَ الرَّبِّ ¬

_ (¬34) حديث صحيح. أخرجه البخاري 8/ 380، 537 و13/ 453 وفي "خلق أفعال العباد" رقم (467) وأبو داود رقم (3989) والترمذي رقم (3223) وابن ماجة رقم (194) وابن خُزيمة في "التوحيد" ص: 147 من طريق سفيان بن عُيَيْنَة عن عمرو بن دينار عن عكرمة -مولى ابن عباس- عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". (¬35) أخرجه ابن جرير في "التفسير" 22/ 91 حدثنا أحمد بن عَبْدة الضَّبِّيُّ قال: ثنا سفيان بإسناد اللفظ السابق، وسنده صحيح، أحمد بن عبدة ثقة مشهور.

تعالى بصَوْتٍ، فقالوا: الضَّميرُ في قوله: "كأنَّه" عائدٌ على أجنحةِ الملائكةِ، فالصَّوتُ صَوْتُ أجْنِحةِ الملائكةِ. ولهذا ظاهرُ البُطلانِ لوَجهينِ: الأول: أنَّ الضَّميرَ في الأصْل يعودُ إلى أقرَب مذكورٍ. والثاني: أنَّه ضميرُ مذكَّرٍ، ولو كان عائداً على أجنحةِ الملائكة لكانَ مؤنَّثاً. فإن قيلَ: هذان الوجهان تصرفهُما القَرائن! قلنا: نعَمْ، إن وُجِدتْ، لكنَّها هنا مُنْتفية، يؤكِّدُ نفْيَها اللَّفظُ الثاني لحَديث أبي هُرَيْرَة كما تَراه. والحديثُ مِمَّا احتجَّ به البخاريُّ رحمه الله لإِثباتِ تَكَلُّم الرَّبِّ تعالى بصَوْتٍ (¬36). 5 - حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنَّ الله إذا تكلَّمَ بالوَحْي، سَمِعَ أهلُ السماواتِ للسَّماءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسلةِ على الصَّفا، فيُصْعَقونَ، فلا يزالونَ كذلك حتى يأتيَهم جِبريلُ، فإذا جاءَهم جِبْريلُ فُزِّعَ عن قُلوبهم، قال: فيقولونَ: يا جبريلُ، ماذَا قالَ رَبُّكَ؟ قال: الحَقَّ" (¬37). ¬

(¬36) "خلق أفعال العباد" ص: 151. (¬37) حديث صحيح. أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص: 146، 147 وابن جرير 22/ 90 وعبد الله بن أحمد في "السُّنَّة" رقم (537) والبيهقي في "الأسماء والصفات" وغيرهم =

وفي لفظٍ عن عبد الله قال: "إذا تكلَّمَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالوحْيِ سَمِعَ صوتَهُ أهلُ السَّماءِ، فَيَخِرِّونَ سُجْداً {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: سُكِّنَ عنْ قُلُوبِهم -نادى أهلُ السَّماءِ: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: الْحَقَّ ...} قال: كَذا وكَذا" (¬38). وهذا الحديث مما احتجّ به الإِمامُ أحمد لإثبات كلام الربّ تعالى بصوتٍ. قال ابنُه عبد الله، قال أبي رحمه الله: ¬

_ = من طريق أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله به موقوفاً، وسنده صحيح. وقد روي مرفوعاً، والصَّوابُ وقفه كما شرحته في التعليق على "مناظرة ابن قدامة". (¬38) حديث صحيح. أخرجه عبد الله بن أحمد في "السُّنَّة" رقم (536) والخَلاَّل -كما في "درء التعارض" 2/ 38 - عن الإِمام أحمد: نا عبد الرحمن بن محمد المُحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله به. قلت: وهذا إسناد جيد، المُحاربي ثقة جيدُ الحديث وباقي الإِسناد ثقاتٌ معروفونَ، ومسلم هو ابن صُبَيْح أبو الضُّحى. وقد أعلَّ بعضهم الإِسناد بعنعنة المُحاربي بدعوى أنَّه مدلّس، وهذا قولٌ غيرُ محقّق، وذلك لأنَّ المحاربيُّ إنَّما وصفَهُ بالتدليس ممَّن يعتمد قولُه: الإِمام أحمد، وهو إنَّما احتَجَّ لذلك بما يرويه عن معمر فإنَّه لم يسمَع منه، وهذا النوع وإن كان يُسمَّى إرسالاً إلاَّ أنَّ الكثيرَ من الأئمة كانوا يُطلقون عليه وصفَ التدليس, لأنَّ فيه مشابهةُ له من بعض الوجوه، فيغلط في فهمه كثيرٌ من متأخري الطلبة. ومنْ أقوى ما يُعَضَّدُ به الإِسناد, أنَّ الإِمام أحمدَ نفسَه احتجَّ به لمَذهبِ أهل الحق في إثبات صفةِ الصوت.

"حديث ابن مسعود رضي الله عنه: إذا تكلَّم الله عَزَّ وَجَلَّ سُمِعَ له صَوْتٌ كَجَرّ السِّلْسِلة على الصَّفْوان". قال أبي: "وهذا الجهميةُ تُنْكِرُهُ". وقال أبي: هؤلاء كُفَّارٌ، يُريدونَ أن يُمَوِّهوا على النَّاسِ، مَنْ زَعَمَ أنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لم يتكلَّمْ فهو كافرٌ، إلاَّ أنَّا نروي هذه الأحاديث كما جاءَت" (¬39). قلتُ: فهذه الأدلَّةُ كافيةٌ -لمَن استهدى- لإِثباتِ صفةِ تكلّم الرَّبّ تعالى بصوْتٍ, ونُمِرُّ ذلك كما جاء، فلا نكيّفُهُ، ولا نشبّهُهُ بصَوْتِ المَخلوق، ونقولُ: هو صَوْتٌ على الحقيقةِ، ونَبْرأ إلى الله تعالى من بدَعِ المبتَدعينَ، الَّذين لم يَعْرِفوا من الأدلَّةِ إلا الآراءَ المَذمومةَ، والظُّنون الفاسدة، المَحْرومينَ من نُورِ الكتاب والسُّنَّةِ وهَدْي خَيْر القُرون من السَّلَفِ والأئمَّةِ. قال شيخُ الإِسلام: "واستفاضت الأثار عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، والصَّحابةِ, والتابعين، ومَن بعدَهم من أئمَّةِ السُّنَّة، أنَّه سبحانه يُنادي بصَوْتٍ، نادى موسى، ويُنادي عِبادَه يومَ القيامةِ بصَوْتٍ، ويتكلَّمُ بالوحي بصَوتٍ, ولم يُنْقَل عن أحدٍ من السَّلَفِ أنه قال: إنَّ الله يتكلَّمُ بلا صَوْتٍ، أو بِلا حَرْفٍ، ولا أنَّهُ أنْكَرَ أنْ يَتَكَلَّمَ الله بصَوْتٍ، أو بحَرْفٍ" (¬40). ¬

_ (¬39) رواه عبد الله بن أحمد فى "السُّنَّة" رقم (534)، ونحوه روى الخلاَّلُ عن يعقوب بن بختان -أحد الثقات من أصحاب أحمد- عن أحمد -كما في "درء التعارض" 2/ 38 - . (¬40) "مجموع الفتاوى" 12/ 304 - 305.

وقال: "وليسَ في الأئمَّة والسَّلَف من قالَ: إنَّ الله لا يتكلَّمُ بصَوْتٍ، بل قَدْ ثبَتَ عن غير واحدٍ من السَّلَفِ والأئمَّة أنَّ الله يتكلَّمُ بصَوْتٍ، وجاءَ ذلك في آثارٍ مشهورةٍ عن السَّلَفِ والأئمَّةِ، وكانَ السَّلَفُ والأئمةُ يذكرونَ الآثارَ التي فيها ذكرُ تَكلُّمِ الله بالصَّوْتِ ولا يُنْكِرُها منهم أحدٌ" (¬41). وقال الحافظُ أبو نَصْرٍ السِّجْزيُّ: "وليسَ في وجود الصَّوْتِ من الله تعالى تَشبيهٌ بمَنْ يوجَد الصَّوْتُ منه من الخَلْق, كما لَم يكنْ في إثباتِ الكلامِ له تشبيهٌ بمنْ له كلامٌ من خلقِهِ" (¬42). تنبيهان: الأول: الفَرْقُ بين الحُروفِ التي يتكلَّمُ الله بها، والحُروفِ التي يتكلَّمُ بها المخلوق. تنازع الناسُ في حُروف المعجم: هَلْ هي مخلوقةٌ؟ أو غيرُ مخلوقة؟ وليس في تحقيق ذلك كبيرُ فائدةٍ، وليس فيه نصٌّ عن معصومٍ يُصار إليه، وإنَّما يَجِبُ الكَفُّ عن إطلاقِ القَوْلِ بالخَلْقِ لئلاَّ يتوهّم متوهّمٌ أنَّ الحروفَ التي تكلَّم الله بها مخلوقةٌ. وذكرَ شيخُ الإِسلام في غير مَوْضِع أنَّ الإِمامَ أحمدَ أنكَرَ الإِطلاقَ، لأنَّهُ مَسْلَكٌ إلى البِدْعَةِ, وإلى القَوْلِ بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ (¬43). وكما يُمْنَع مِن إطلاق القَوْلِ بأنَّ الحروفَ مخلوقةٌ، يُمْنَع أيضاً ¬

_ (¬41) "مجموع الفتاوى" 6/ 527، وانظر: 244. (¬42) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 93. (¬43) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 41، 84 - 85، 442.

إطلاقُ القَوْل بأنَّ الحُروفَ غيرُ مخلوقةٍ، لئلا يتوهَّمَ متوهِّم أنَّ الحُروفَ التي هي مَباني كَلام الناس غيرُ مخلوقةٍ، والذي يجرُّ إلى القول بأنَّ ما يتكلَّمُ به العبادُ مِن كلام أنفُسهم هو نفسُه كلامُ الله، فيتحقَّقُ حينئذ للمَلاحِدَة كابن عربي الطائي وأمثاله صِحَّةُ قولِهم: وكلُّ كَلامٍ في الوجودِ كلامُهُ ... سَواء علينا نَثْرُه ونِظامُهُ وهذا القولُ من أفحَش الباطِل، وأكفَر الكُفْرِ، إذ مَعْناه أنَّ كلَّ ما تلفِظُ به الخَلائق من الصِّدْق والكَذِبِ، والزُّورِ، والبُهْتان، وألفاظِ الخَنا والفُجور والكُفْر، كلامُ الله. وحينئذ لا يتميَّزُ حَقٌّ من باطلٍ، ولا صِدْقٌ من كَذبٍ ولا كفرٌ من إيمانٍ. وإنَّما الحَقُّ والصَّوابُ أن يُقالَ: إنَّ الحَرْفَ المجرَّد الَّذي هو جزءٌ من اللفظ، مثل: (ز) من كلمة: (زيد) لا يُقالُ فيه مخلوقٌ ولا غيرُ مخلوق, لأنَّ الحرْفَ المجرَّدَ ليس كَلاماً، وإنَّما يقَع الكلام فيما ألّفَ من الحروفِ فأفادَ مَعنًى، ككلمةِ (زيد) اسمُ عَلَمٍ مَعْروفٌ (¬44). ¬

_ (¬44) فإن اعترض معترض بقوله تعالى: (الم)، (الر)، (ص) , (ن)، وما يشبهها مما جاء في أوائل بعض السور، وقال: إنَّها حروف، ونطلق أنَّها غيرُ مخلوقة لأنَّها كلام الله، فالجواب: أنَّ هذه ليست حروفاً مجردة، كحروف كلمة (زيد) وغيرها من الكلام المؤلف، وإنَّما هي أسماء للحروف، ألا ترى أنَّك تقرؤها: (ألف، لام، ميم ...)؟ فلو كان حرفاً مجرداً لقلت: (أ. لْ. مْ) فهي على ما تُلْفَظ وتُسْمَع لا على ما تُكْتب وترسم، وقد نقل شيخ الإِسلام أنَّ الخليل بن أحمد -إمام العربية- سأل =

والكلامُ المؤلَّفُ من الحُروف الذي يُفيد معنًى يُفَصَّل فيه: فإنْ كانَ كلاماً لله تعالى كانَ غيرَ مخلوقٍ، وإنْ كان كلاماً للعبد يُنْشِئُهُ من تِلقاء نفسهِ، ولا يُريدُ به قِراءةَ كلام الله فهو مَخلوقٌ, فقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا ....} [الأحزاب: 37] غيرُ مخلوق، وقولك: (جاءَني زيدٌ فأكرمتُهُ) مخلوقٌ, لأنَّ الأوَّل كلامُ الله تعالى نظمه وحروفه، والثانيَ كلامُكَ نظمه وحروفه. ولو قالَ قائلٌ: (محمَّدٌ رسولُ الله) أو: (ألف، لام، ميم) لم يصحّ فيه إطلاق أنَّه مخلوقٌ، أو غيرُ مخلوق، حتى يُسْتَفْصَل منه، فإنْ أرادَ بهِ قِراءةَ كلامِ اللهِ كانَ غيرَ مخلوقٍ، وإنْ كان أنشأهُ مبتدِئاً مِن نفسهِ، أو يُبَلِّغُهُ عن غيرهِ، وهو من إنشاءِ ذلكَ الغيرِ سِوى الله تعالى، كانَ مخلوقاً. وقد سألَ الحافظُ الثِّقَةُ أحمدُ بن الحَسن الترمذيُّ الإِمامَ أحمَدَ فقال: قلتُ لأحمدَ بن حنبل: إنَّ الناسَ قد وقَعوا في أمرِ القرآنِ، فكيف أقولُ؟ قال: "أليسَ أنت مخلوق؟ ". قلتُ: نعَمْ. قال: "فكلامُكَ منك مخلوقٌ؟ ". قلت: نعم. ¬

_ = أصحابَه: كيف تنطقون بالزاء مِن (زيد)؟ قالوا: نقول: (زا) قال: جئتم بالاسم، وإنَّما يقال: (زه) - "مجموع الفتاوى" 12/ 448 - .

قال: "أوَلَيسَ القرآنُ من كلامِ الله؟ ". قلت: نعم. قال: "وكلامُ الله؟ ". قلت: نعم. قال: "فيكون من الله شيءٌ مَخلوق؟ " (¬45). فتأمَّل هذا القولَ الموجَز فإنَّه من أسَدِّ الكلام وأحسَنِهِ، فرَّق الإِمامُ أحمدُ فيه بَيْنَ كلامِ الله وكلامِ المَخلوق، بأنَّ كلامَ الله هو الذي قالَه مبتدئاً، وكلامَ المخلوق هو الذي قالَه مبتدئاً، فلمَّا كان كلامُ الله ابتدأ منه كانَ غيرَ مخلوقٍ, لأنَّه ليسَ من الله شيءٌ مخلوق، ولمَّا كانَ كلامُ المخلوقِ ابتدأ منه -بمعنى أنه هو الذي أنشَأه- كانَ مخلوقاً, لأنَّ العبدَ بأفعاله جميعاً مخلوقٌ. التنبيه الثاني: الصَّوْتُ المسموعُ من القارئ وهو يتلو كلامَ الله، هو صَوْتُ القارئ، لا صَوْت الله تعالى، كما نصَّ عليه الأئمَّةُ كأحمدَ وغيرِهِ (¬46). وذلكَ أنَّ صوتَ العبْدِ إنَّما هو فعلُه القائمُ به، وأفعاله جميعاً مضافة إليه مخلوقةٌ كخَلقهِ، لكنَّ المسموعَ بصَوْتهِ، الذي نطَقَ به لسانُهُ، وتحرَّكَتْ به شفَتاهُ، كلامُ الله تعالى. ¬

_ (¬45) رواه اللالكائي في "السُّنَّة" رقم (451) بسند صحيح. (¬46) ذكر ذلك شيخ الإِسلام في "درء التعارض" 2/ 40.

والدَّليلُ على ذلكَ قولُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "زيّنوا القرآنَ بأصواتِكم" (¬47). فأضافَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- الأصواتَ إلى القُرّاء, لأنَّها اكْتِسابُهُمْ وفعلهُمْ، وفرَّقَ بينها وبينَ القرآن الذي هو كلامُ الله ووحيُهُ وتنزيلُهُ، الذي لا يكونُ من التالي سِوى قراءتِه وأدائِه وتبليغهِ. فالقرآنُ كلامُ الله مُضافٌ إليه تعالى لأنَّه منهُ، لا يُضافُ للتالي لأنَّه أدّاه بصَوتِهِ وحَرَكَتهِ، شأن كلّ كلامٍ سواه يُبلِّغهُ الواحدُ مِنَّا، فإنَّهُ إنَّما يُضافُ إلى مَن قالَه مُبتدئاً. فقولُكَ: "إنَّمَا الأعمالُ بالنّياتِ، وإنَّما لكلّ امرئٍ ما نَوى" (¬48) تُبلّغُه أنتَ بصَوْتِكَ وحَرَكَتِكَ، وليسَ لك من نظْمهِ شيْءٌ، إنَّما هو كلامُ النَّبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظهِ ومعناه، ولو قلتَ: هو كَلامي، لكذّبكَ مَن يسمَعُك، إذ ليسَ لك من ذلك إلاَّ التبليغُ والأداءُ. ¬

_ (¬47) حديث صحيح. أخرجه أحمد 4/ 283، 285، 296، 304، وأبو داود رقم (1468) والنَّسائي 2/ 179 وفي "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (75) وابن ماجة رقم (1342) والبخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (250 - 254، 256) والدارمي رقم (3503) وابن حبان رقم (737) والحاكم 1/ 571، 572، 573، 574. 575 وغيرهم من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب به مرفوعاً. وهو مروي من طرق أخرى عنه، وعن غيره من الصحابة، خرجتها في غير هذا الموضع. وشذَّ بعض رواته فقلب المتن: "زينوا أصواتكم بالقرآن" وهو خطأ. (¬48) حديث صحيح معروف، خرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث عمر رضي الله عنه.

فكذلكَ كلامُ الله تعالى إذا تلاه التالي، وقرأه القارئ. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ...} [التوبة: 6] فأضافَ الكلام إلى نفسِهِ، لأنَّه هو الذي ابتدأ نَظْمَهُ بحُروفِهِ ومعانيهِ، يسمَعُه المُشرك بأذُنَيْهِ بصَوْتِ القارئ، فإنَّه إنَّما يسمَع كلامَ الله مِنَ القارئ.

المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره

المبحث الثامن: كلام الله تعالى بمشيئته واختياره يَعْتَقِدُ السَّلَفُ أنَّ الله تعالى يتَّصفُ بالصِّفاتِ الاختياريَّةِ، كَالكَلامِ، والنَّداءِ، والرَّضا، والغَضَبِ، والحُبَّ، والبُغْضِ، والرَّحْمَةِ، والرَّأفَةِ، والانْتقامِ، والإِتيانِ، والنُّزَولِ، والاسْتِواءِ على العَرْشِ، والخَلْقِ، والرَّزْقِ، وغَيْرِ ذلكَ من صفاتِهِ العَليَّةِ التي تقومُ بمَشيئتهِ واختيارهِ، ومعنى تعلُّقِها بمشيئتهِ واختياره أنَّه تعالى لا يَزالُ متكلِّماً إذا شاءَ، ولا يَزالُ رَحيماً إذا شاءَ، ولا يزالُ خالقاً إذا شاءَ، وهكذا، فالصِّفَةُ ثابتةٌ له تعالى في الأزَلِ، وهي متعلِّقةٌ بمشيئتِهِ، فإنْ شاءَ تكلَّمَ وإن شاءَ سَكَتَ (¬49) وإن شاءَ ¬

_ (¬49) وصفُه تعالى بالسكوت جاءت به السُّنَّة، وجَرى ذكرُهُ في كلام الأئمة، ولا تَعارُضَ بين إثباته وإثبات الكلام, لأنَّ كلامه تعالى متعلقٌ بمشيئته، فإن شاءَ تكلم، وإن شاءَ لم يتكلم، وهذا ينقضُ اعتقادَ أهل البدع نَقْضاً في كلامه تعالى، وذلك واضحٌ لمن تأمَّله. وأمَّا الاستدلال لثبوت هذه الصفة من السنة والأثر: 1 - فحديث أبي الدرداء رضي الله عنه رفعَ الحديثَ قال: "ما أحلَّ الله في كتابه فهو حَلالٌ، وما حرَّم فهو حرامٌ، وما سكت عنه فهو عافيةٌ، فاقبلوا من الله عافيَتَه، فإنَّ الله لم يكن نسيّاً" ثمَّ تَلَا هذه الآية: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = نَسِيًّا} [مريم: 64]. حديث صحيح. أخرجه البزار رقم (2231 - كشف الأستار) وابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" 4/ 474 - والدارقطني 2/ 137 والحاكم 2/ 375 والبيهقي 10/ 12 من طريق عاصم بن رجاء بن حَيْوَة عن أبيه عن أبي الدرداء به. قال البزار: "إسناده صالح". وقال الحاكم: "صحيح الإِسناد" وأقَرَّه الذهبي. قلت: إسناده جيد، عاصم بن رجاء صدوق جيد الحديث، وأبوه ثقة مشهور روى عن أبي الدرداء. وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخُشَني وغيره يرتقي به إلى الصحة. 2 - وحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان أهل الجاهلية يأكلونَ أشياء، ويتركون أشياءَ تقذّراً، فبعثَ الله تعالى نبيَّه -صلى الله عليه وسلم-، وأنزلَ كتابه، وأحلَّ حلالَه، وحرَّم حرامه، فما أحلَّ فهو حَلالٌ، وما حرَّمَ فهو حرامٌ، وما سَكَتَ عنه فهو عفوٌ، وتلا: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ...} إلى آخر الآية [الأنعام: 145]. حديث صحيح. أخرجه أبو داود رقم (3800) والحاكم 4/ 115 من طريق محمد بن شَريك المكي عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس به. قلت: وهذا سند صحيح، وقد صحَّحه الحاكم وأقرَّه الذهبي. والأئمة والفقهاء منذ القرون الأولى يقولون: هذا تكلّم به الشارع، وهذا سكت عنه الشارع، ويقولون: دلالة المنطوق، ودلالة المسكوت، والشارع هو الله تعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-. قال شيخ الإِسلام: "فثبت بالسنَّة والإِجماع أنَّ الله يوصف بالسكوت" "مجموع الفتاوى" 6/ 179.

خلَقَ، وإن شاءَ لم يَخْلُقْ، وإنْ شاءَ غَضِبَ، وإنْ شاءَ رَضِيَ. ومن الأدلَّة الموضِّحةِ لذلك: 1 - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ...} [الأعراف: 11]. تضمَّنت الآيَةُ ثلاثَ صفاتٍ: الخَلْقَ، التَّصويرَ، الأمْرَ، وقد وصف الله بها نفسَه، وهي صفاتُه قبل خَلْق الخَلْق، متعلَّقةٌ بمشيئتهِ، فشاءَ أن يخلقَ فخلقَ، وبعدَ الخَلْق صَوَّرَ، وبعدَ التَّصوير أمرَ الملائكةَ بالسُّجود، فهيَ أفعالٌ متعاقبةٌ، لم يقعْ تصويرٌ لآدم قبلَ خلقِهِ، ولا أمرٌ بالسُّجودِ للملائكةِ قبلَ خلقهِ وتصويرهِ، وإنَّما كان ذلك بعدَ الخَلْق والتَّصوير، ولا يزال الله تعالى خالقاً، مصوِّراً، آمِراً، إذا شاءَ. 2 - وقوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55]. فقوم فرعونَ لَمَّا أغضَبوا ربَّهم تعالى انتقمَ منهم، لم يقَعِ انتقامُهُ منهم قبل ذلك، مَعَ أنَّه لا زالَ متَّصفاً بالانتقام من أعدائِه، كما قالَ: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. 3 - وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]. فإحباطُ أعمالِهم لم يكنْ قبلَ اتِّباعِهم ما أسخَطَ الله وكراهِيَّتِهم رضوانَه، فدلَّ ذلك على أنَّ فعلَ الإِحباط الذي هو صفةُ الرَّبّ تعالى إنَّما أوقَعَه الله بعدَ استحقاقِ العبدِ ذلك.

وأمثلة هذا لا تدخلُ تحتَ الحَصْر، وهو أمرٌ أبْيَنُ مِنْ أنْ يُستدلَّ له، ولكنَّ أهلَ البدعِ أبَوْا إلاَّ إنكارَ الحقائقِ. وهذا الذي بَيَّناهُ هو قولُ السَّلَفِ. قال البخاري رحمه الله: "وقالَ أهل العلم: التَّخليقُ فعلُ الله، وأفاعيلُنا مخلوقةٌ، لقوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ...} [الملك: 13، 14] يعني: السرّ والجهر من القول، ففعلُ الله صفةُ الله، والمفعولُ غيرُه من الخَلْق" (¬50). قلتُ: ويَجْري هذا في سائر أفعاله تعالى، فكلّ أفعاله تعالى صفاتٌ له، والمخلوقُ إنَّما هو مفعولُهُ. قالَ شيخ الإِسلام: "هو المأثورُ عن السَّلَف، وهو الذي ذكرَه البخاريُّ في خلق أفعال العباد عن العلماءِ مُطلقاً، ولم يذكُرْ فيه نِزاعاً، وكذلك ذكَره البغويُّ وغيره عن مذهب أهل السُّنَّة". وقال: "وهو قولُ السَّلَف قاطبةً، وجمهورِ الطوائف ... " (¬51). وكلامُ الله تعالى ونداؤه كذلكَ، فهو تعالى موصوفٌ بالكلام والنَّداء وصْفاً أزليّاً، متعلّقاً بمشيئتهِ واختيارهِ، يتكلَّم إذا شاء متى شاء، ويُنادي إذا شاءَ متى شاء، يتكلَّم كلاماً بعدَ كلام، ويُنادي نِداء بعدَ نداء، وكلّ ذلك غيرُ مخلوقٍ لأنَّه صفتُهُ. ¬

_ (¬50) "خلق أفعال العباد" ص: 188. (¬51) "شرح حديث النزول" ص: 152.

والأدَّلةُ على ذلك كثيرةٌ جداً في الكتابِ والسُّنَّةِ والمعقولِ الموافِقِ لهما. فمن ذلك: 1 - قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. فهو تعالى يقول لكلِّ ما يُريدُ خلقَه وتكوينَه: {كُنْ} ليكونَ، وقولُه: {كُنْ} كلامُهُ وصفتُه، جعلَه متعلقاً بإرادتِهِ، فمتى يريد تكوينَ شيء قال: {كُنْ} فيكون، فقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} [الأنعام: 73] هو يَوْمُ القيامةِ، ويومُ القيامةِ لم يكنْ بعد، والله تعالى لم يقل له بعدُ: {كُنْ} وإنَّما يقولُ ذلك حين يشاءُ ذلك. وهذا من أظهر الأدلَّة على تعلُّق كلامهِ تعالى بمشيئتهِ. والأشعريَّةُ وأشباهُهم يحتجُّون بهذه الآية وأمثالِها على أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوق ويَردّون بذلك على المُعتزلةِ الجهميَّةِ، وأغفَلوا دلالةَ الآيةِ نَفسها على تعلُّق قولِه تعالى بمشيئتِهِ، وهو من حَيْدَتِهم عن الحَقَّ والصَّراط المُستقيم كما سيأتي شرحه في الباب الثالث. 2 - أخبرَ تعالى عن تكليمهِ لموسى ونِدائهِ له في مواضِعَ عدّةٍ من كتابِهِ، وإنَّما وقعَ ذلك بعد خَلْق موسى، لم يكلِّم موسى ولم ينادهِ قبل أن يخلقه، بل لم ينادِهِ ولم يكلِّمْه قبل أن يأتِيَ الشَّجرة، كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} فلم ينادِه قبل إتيانِهِ، خِلافاً لأهل البدع، وهذا مقتضى اللُّغَة التي نزلَ بها القرآنُ، والله تعالى إنَّما خاطب العبادَ بألسنتهم

التي يعقلونَها ويفهمونَها. 3 - وقالَ تعالى مُخاطباً أهلَ النار: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} الآيات [المؤمنون: 105 - 108]. فهذا قولُه تعالى وكلامُه، إنَّما يُكَلِّمُ به أهلَ النار بعدَ أن يُصارَ بهم إليها, ولم يقع ذلك بعدُ، وإنَّما أخبرَنا عنْ وقوعهِ، ولا يفقَهُ مؤمنٌ، بل ولا عاقلٌ أنَّ الله تعالى قَدْ كَلَّم أهلَ النَّارِ من الأزلِ -كما يدّعيه بعضُ أهْلِ البدع- فقال لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} وهم لم يوجَدوا بَعْدُ ولَمْ يُخْلَقوا. 4 - وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قالَ: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "احتجّ آدمُ وموسى ... " فذكر الحديثَ، وفيه: " ... فقال آدمُ: أنتَ موسى الذي اصطفاكَ الله برسالتهِ وبكلامهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تبيانُ كلّ شَيْءٍ، وقرَّبك نجيّاً، فبِكمْ وجَدْتَ الله كتبَ التّوراةَ قبلَ أن أخْلَق؟ قال موسى: بأربعينَ عاماً ... " الحديث (¬52). فأخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أن تَكَلُّمَ الرَّبّ تعالى بالتوراة كان مُوَقَّتاً بوقتٍ، وذلك قبلَ خلقِ آدم بأربعينَ سنةً، هذا معَ أنَّ كلامَه تعالى قديمُ النَّوْعِ، وصفةَ الكَلامِ له ثابتة في الأزَلِ، إلاَّ أنَّها متعلَّقةٌ بمشيئتهِ واختيارهِ، فلمَّا شاءَ أن ¬

_ (¬52) حديث صحيح. سبق الكلام عنه في التعليق على المبحث الثاني ص 84 - 85.

يتكلَّمَ بالتَّوراةِ تكلَّمَ بها، فخطَّها لموسى بيدهِ، جلَّ وعَلَا. 5 - جميْعُ ما سقتُهُ من أدلَّةِ التكليم في الآخرةِ لم يقَعْ منه شيْءٌ بعدُ، وإنَّما يقَعُ في الآخرة، وهو أبْيَنُ من أن يُفصَّلَ. وقد سبقَ النقلُ عن الإِمام أحمدَ رحمه الله من طريق حنبل بن إسحاق قال: قلتُ لأبي عبد الله -يعني أحمد-: الله عزَّ وَجَلَّ يُكَلِّمُ عبدَه يوم القيامةِ؟ قال: "نَعَمْ، فمنْ يقضي بين الخَلائق إلاَّ الله عَزَّ وجَلَّ، يكلِّمُ عبدَه ويسألهُ، الله متكلِّمٌ، لم يزَل الله يأمرُ بما يَشاءُ وَيَحْكُم، وليس له عَدْلٌ ولا مِثْلٌ، كيفَ شاءَ، وأنَّى شاءَ" (¬53). 6 - وفي حديث جابرِ بن عبد الله رضي الله عنهما في حَجَّةِ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قوله -صلى الله عليه وسلم-: "نَبْدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصَّفا وقرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ...} [البقرة: 158] (¬54). وفي هذا دليل على أنَّ كلامَ الله يتلو بعضُه بعضاً، ويسْبِقُ بعضُه بعضاً. قال شيخ الإِسلام: "وقد قالَ الإِمام أحمد رضي الله عنه وغيره من الأئمَّة: لم يزل الله متكلّماً إذا شاءَ، وهو يتكلَّمُ بمشيئتهِ وقدرتِهِ، يتكلَّمُ ¬

_ (¬53) سبق تخريجه ص 114 - 115. (¬54) حديث صحيح. أَخرجه مالك 1/ 372 وأحمد 3/ 388، 394 ومسلم رقم (1218) وأبو داود رقم (1905) والترمذي رقم (862، 2967) والنسائي 5/ 236, 239 , 240 - 241 وابن ماجة رقم (3074) من طرق عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".

بِشَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ" (¬55). وقال أبو عبد الله بنُ حامد: "ولا خلافَ عن أبي عبد الله -يعني أحمد- أنَّ الله كانَ متكلِّماً قبلَ أن يخلُقَ الخَلْقَ، وقبل كلّ الكائناتِ، وأنَّ الله كان فيما لم يزَل متكلِّماً، كيف شاءَ, وكما شاءَ، وإذا شاءَ أنزلَ كلامَه، وإذا شاءَ لم يُنْزِله" (¬56). قلتُ: فأفادَ هذا النقلُ عن الإِمام أحمدَ أمرين: الأوَّل: أنَّ صفةَ الكلام لله تعالى ثابتةٌ له في الأزَل ليسَتْ مُحْدَثَةً ولا مَخلوقةً. والثاني: أنَّ كلامَه تعالى متعلقٌ بمشيئتهِ، فهو يتكلَّم إذا شاءَ, ويسْكُتُ إذا شاءَ. وأمَّا قولُ ابنِ حامد في نقله الذي حَكَينا: "وإذا شاءَ أنزلَ كلامَه ... " إلخ ففيه نَظَرٌ، ذلك لأنَّهُ مُفهِمٌ أنَّه تعالى لا يتكلَّمُ بعدَ خلق الخَلْق، وإنَّما يُنزِل كلامَه الَّذي تكلَّمَ به، وهذا المعنى ليسَ هو قولَ الإِمام أحمد -كما ينقله شيخ الإِسلام وغيره- وإنَّما قولُه: إنَّ الله تعالى يتكلَّم بكلامٍ بعدَ كلام، وفي الأدلَّة التي سُقْنا دَلالةٌ بَيّنةٌ على ذلك، وهذا الذي قاله أبو عبد الله بنُ حامد إنَّما هو على طريقة بعض فُضَلاءِ الحنابلة الذين كانوا يَذْهَبون إلى قِدَمِ الكَلام المُعَيَّنِ قبلَ خلقِ الخَلْقِ، والتَّحقيقُ أنَّ هذا ليسَ ¬

_ (¬55) "مجموع الفتاوى" 12/ 588 وانظر: "شرح حديث النزول" ص: 155. (¬56) "درء التعارض" 2/ 76 عن كتاب ابن حامد في أُصول الدين.

مذهبَ السَّلَفِ، وهو خلافُ ما دلَّتْ عليه الأدلَّةُ من أنَّ كلامَه تعالى متعلقٌ بمشيئتهِ ولا نُؤوّلُ ذلك بأنَّ إنزالَ كلامه متعلقٌ بمشيئتهِ، وقد أرادَ ابنُ حامد معنى اعتقادِ أحمدَ ولكنَّه أخطأه، وأصابه شيخُ الإِسلام حين قالَ: " ... وهو يتكلَّم بمشيئتهِ، يتكلَّم بشيء بعدَ شيء". وسَبَقَ أن قرَّرنا أنَّ الله تعالى له الكمالُ المُطلَقُ، والمتكّلمُ بمشيئته واختياره أكمَلُ ممَّنْ لا يتكلَّمُ بمَشيئتهِ واختياره، بلْ إنَّه لا يُتَصوَّر متكلمٌ بغير مشيئةٍ ولا قُدْرةٍ ولا اخْتيارٍ، وإنَّما يوصَفُ بذلك الأخرسُ، فإنَّه لو قَدَّر الكلامَ في نفسهِ لا يَقْدِر على التكلُّم به والتلفُّظِ به للآفةِ التي فيه، والله تعالى مُنَزَّهٌ عن هذا النَّقْصِ، وهو أعلى وأجلُّ من أن يتَّصف به، فمَنْ لَمْ يُثْبِتْ له الكلام بمشيئتهِ واختيارِهِ فهو واصفٌ له بالنَّقْصِ والآفَةِ، تعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.

المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى

المبحث التاسع: تفاضل كلام الله تعالى كَلِماتُ الله تعالى لا نِهَايَةَ لهَا، وهي باقيةٌ لا تَنْفَدُ كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]. ومِن كلماتهِ تعالى: كُتُبُه المنزَلَةُ، كالتَّوراةِ، والِإنجيلِ، والقرآنِ، وكلماتُهُ التي يخلقُ بها الخَلْقَ، وكلماتُهُ التي كلَّمَ بها آدمَ، والَّتي كلَّم بها موسى، والتي كلَّمَ بها محمَّداً -صلى الله عليه وسلم-، وكلماتُهُ التي يُكلِّمُ بها عبادَه في المَحْشَر، وفي الجنَّةِ، وكلماتُهُ التي يُخاطِبُ بها أهلَ النار توْبيخاً وتَقْريعاً، وغيرُ ذلك من كلامِهِ تبارك وتعالى. فكلامُهُ تعالى متبعّضٌ مُتَجَزّىءٌ، فالتَّوراةُ بعضُ كلامِه وجزءٌ منه، والإنجيلُ كذلك، والقرآنُ كذلكَ، والقرآنُ أبعاضٌ وأجزاءٌ، وسُوَرٌ وآياتٌ، وكلماتٌ. وجَميعُ هذا من المُسَلَّماتِ المَعْلومةِ لدى الكافَّةِ, دَلَّ عليها الحِسُّ، والعقْلُ، والشَّرْعُ، وهي أجلى من أن تحتاجَ إلى ضَرْبِ الأمثلةِ، وسِياق البَراهينِ والأدلّة، ولكن مَنْ رامَ الهدى باتباع الهوى فقد ضلَّ السَّبيلَ.

فكلامُهُ تعالى الذي هو أجزاءٌ وأبعاضٌ، بعضُهُ أفضَلُ من بعضٍ، وليس ذلك من جِهَةِ المُتكلِّم به وهو الله تعالى، وإنَّما هو من جهةِ ما تضمَّنَ من المَعاني العَظيمةِ، فإنَّ كلامَ الله المتضمِّن للتَّوحيدِ والدَّعْوةِ إليه، أفضلُ من كلامهِ المتضمِّنِ ذكرَ الحُدودِ والقِصاصِ ونحو ذلكَ، وما يُخْبِرُ به عن نفسهِ وصفاتِهِ أعظمُ مما يُخْبِرُ به عن بعضِ خلقهِ، وذلكَ لشَرَف الأوَّلِ على الثاني. وقد ورَدَ في السُّنَّةِ الصَّحيحةِ ما يُثْبِتُ ذلك ويوضِّحُه ويُجَلّيهِ، فمِنْ ذلك: 1 - حديث أنَس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في مَسيرٍ لَهُ، فنزَلَ ونزَلَ رجُلٌ إلى جانِبِهِ، فالتفتَ إليه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "ألا أخْبركَ بأفضَلِ القُرآنِ؟ ". قال: فتلا عليه {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬57). 2 - وعن أبي سَعيد بن المُعلَّى رضي الله عنه قال: كنتُ أصلِّي في المَسْجدِ، فدَعاني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، فلَمْ أجِبْهُ، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنِّي كنتُ أصلّي، فقالَ: ¬

_ (¬57) حديث صحيح. أخرجه النسائي في "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (36) و"عمل اليوم والليلة" رقم (723) من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس به، وسنده صحيح.

"ألَم يَقُلِ الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]. ثمَّ قالَ لي: "لأعلِّمَنَّكَ سورةً هي أعظمُ السُّوَرِ في القرآنِ، قبلَ أن تَخْرُجَ من المَسجدِ". ثمَّ أخَذَ بيَدي، فلَمَّا أرادَ أنْ يَخرُجَ قلتُ لهُ: ألَمْ تَقُلْ: "لأعلِّمنَّكَ سورةً هي أعظَمُ سورةٍ في القُرآنِ"؟ قال: "الحَمْدُ لله ربّ العالَمينَ، هيَ السَّبعُ المَثاني، والقُرآنُ العظيمُ الذي أوتيتُهُ" (¬58). 3 - وعن أبَيّ بن كَعْبٍ قال: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا المُنْذر، أتَدْري أيُّ آيةٍ مِن كتابِ الله معَكَ أعظَمُ؟ ". قال: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلَمُ. قال: "يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ من كتابِ الله مَعَكَ أعظَمُ؟ ". قال: قلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ...} [البقرة: 255]. قال: فضربَ في صَدْرِي، وقالَ: ¬

_ (¬58) حديث صحيح. أخرجه أحمد 3/ 450 و 4/ 211 والبخاري 8/ 156 - 157، 307، 381 و 9/ 54 وأبو داود رقم (1458) والنسائي 2/ 139 وفي "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (35) وابن ماجة رقم (3785) من طرق عن شعبة عن خُبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلّى به.

"والله، لِيَهْنِكَ العِلمُ أبا المُنْذر" (¬59). 4 - وعن أبي سَعيد الخُدْريّ رضي الله عنه أنَّ رجلاً سَمعَ رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} يُرَدِّدُها، فلمَّا أصبَحَ جاءَ إلى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك له -وكأنَّ الرَّجُل يتقالُّها- فقالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نَفْسِي بيده إنَّها لَتعْدِلُ ثلُثَ القُرآنِ" (¬60). 5 - وعن عُقْبَة بن عامر رضي الله عنه قال: كنتُ أقودُ برسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في ناقَتَهُ في السَّفر، فقالَ لي: "يا عُقْبَةُ، ألَا أعلّمكَ خيرَ سورتين قُرِئَتا؟ ". فَعلَّمَني: {قُلْ أَعوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. قال: فلَمْ يَرَني سُرِرْتُ بهما جدّاً، فلمَّا نَزَلَ لِصَلاةِ الصُّبْحِ صلَّى بِهِما صلاةَ الصُّبْحِ للناسِ، فلمَّا فرَغَ رسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاةِ التفتَ إليَّ ¬

_ (¬59) حديث صحيح. أخرجه مسلم رقم (810) وأبو داود رقم (1460) من طريق عبد الأعلي بن عبد الأعلى عن الجُرَيْري عن أبي السَّليل عن عبد الله بن رَبَاح الأنصاري عن أبيّ بن كعب به. (¬60) حديث صحيح. أخرجه مالك 1/ 208 ومن طريقه: أحمد 3/ 23، 35، 43 والبخاري 9/ 58 و11/ 525 و 13/ 347 وأبوداود رقم (1461) والنسائي 2/ 171 وفي "اليوم والليلة" رقم (698). وانظر تعليقي على "المفاريد" لأبي يعلى الموصلي رقم (60).

فقالَ: "يا عُقْبَةُ كيفَ رأيتَ؟ " (¬61). ويُوجِّهُ شيخ الإِسلام حديثَ فضْل سورةِ الإِخلاصِ فيقولُ: "وذلك أنَّ القرآنَ إمَّا خبرٌ، وإمَّا إنشاءٌ , والخبَرُ إمَّا خبَرٌ عن الخالقِ، وإمَّا عن المَخلوقِ، فثلُثُهُ قَصَصٌ، وثُلثُهُ أمْرٌ، وثُلُثُهُ توحيدٌ، فهيَ تَعْدِل ثُلُثَ القرآن بهذا الاعتبارِ" (¬62). قلتُ: فدلَّتْ هذه النُّصوصُ على تَفْضيلِ كلامِ الله بعضِهِ على بعضٍ، وذلكَ حسبَ ما يدلُّ عليه من المَعاني، وهو مَذْهَبُ جُمهورِ السَّلَفِ وأهلِ السُّنَّةٍ. قالَ شيَخُ الإِسلام: "والصَّوابُ الَّذي علَيْهِ جُمْهورُ السَّلَف والأئمَّة أنَّ بَعْضَ كلامِ الله أفْضَلُ من بَعْضٍ، كما دلَّ على ذلك الشَّرعُ والعقلُ" (¬63). ..... ¬

_ (¬61) حديث حسن أو صحيح. أخرجه أحمد 4/ 153 وأبو داود رقم (1462) والنسائي 8/ 252 - 253 من طريق معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن القاسم مولى معاوية عن عقبة به. قلت: وهذا سند حسن، والقاسم هو ابن عبد الرحمن صدوق جيد الحديث، وقد صحَّ سماعُهُ من عقبة بن عامر. والحديث مروي عن عقبة من غير هذا الوجه معناه. (¬62) "درء التعارض" 7/ 272. (¬63) المرجع السابق.

المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه , منه بدأ وإليه يعود

المبحث العاشر: كلام الله تعالى منزل منه , منه بدأ وإليه يعود يَعْتَقدُ السَّلَفُ أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى، منه خرجَ وبدأ، تكلَّمَ به بحُروفِهِ ومَعانيهِ، فأسمَعَهُ جبريلَ عليه السَّلام، ونَزل به جبريلُ على قلبِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وهو هذا اللِّسانُ العربيُّ المُبينُ، النّازلُ بلغةِ قُرَيْشٍ. وهذا مُبَيَّن في غيرِ مَوْضع من كتاب الله تعالى، فمِنْ ذلك: 1 - قولُه تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. 2 - وقولُه -عَزَّ وَجَلَّ-: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} [طه:4]. 3 - وقولهُ تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6]. 4 - وقولُه تعالى: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة: 1 - 3]. 5 - وقولُه جلَّ وَعَلا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا

أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ...} [الزمر: 1 - 2]. 6 - وقولُه تعالى: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصّلت:1 - 4]. 7 - وقولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]. فأخبرَ تعالى في هذه الآيات وما يشبَهُها أنَّ القرآنَ العربيَّ الذي هو كلامهُ، إنَّما هو تنزيلُه، نَزلَ منهُ، فمنه بدَأ وَخَرَجَ لا مِنْ سِواه. 8 - وقولُه تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 101 - 103] فأنبأ تعالى في هذه الآياتِ أنَّ القرآنَ العربيَّ نزَلَ به رُوحُ القُدُس منه، ورُوحُ القُدُس هو جبريلُ عليه السَّلام، كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97]. فليسَ هو كلامَ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-كما زعَمَ الكفَّارُ- ولا كلامَ جبريلَ عليه السَّلام -كما زعمَه بعضُ أهلِ البِدَع- وإنَّما هو كلامُ الله تعالى، منه بدأ وخَرَجَ، وهو الذي أنزلَه بواسطةِ رسولهِ الملَك جبريلَ، فمن قال غير هذا فقَدْ

كَفَرَ, لأنَّه كذَّبَ الله في قولِهِ، وجَحَدَ ما أنبأتْ به رسلُه، وإنِ ادّعى الإِسلامَ وانتسبَ إليه، فالإِسلامُ يَبْرأ منه. وقد ذكرتُ في المَبْحث الخامس أنَّ الله تعالى لم يُضِف شيئاً ممَّا أنزله إلى نفسِهِ غيرَ كلامهِ، وذلك لأنَّه صفتُهُ. * وأمَّا عَوْدُ كلامهِ تعالى إليه فقد تأوَّلَهُ بعضُ أهلِ السُّنَّة بعَودِ تلاوته وقراءته التي هي كَسْبُ العبدِ. وهذا المعنى حَق، فإنَّه تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ولكن ليسَ هو المُرادَ في تفسيرِ هذه اللَّفْظَة (وإليه يعودُ) وإنَّما المرادُ أن كلامَ الله تعالى يُسرى عليه في ليلةٍ فَيُرْفَع من المَصاحفِ، وصُدور الحُفَّاظ، فلا تَبْقى في الأرضِ منه آية. وبهذا جاء الخبرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وغيرِه من أصحابه. فأمَّا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعَنْ حذيفةَ بن اليَمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسْرى على كتاب الله لَيْلاِّ، فيُصْبحُ الناسُ ليس في الأرضِ، ولا جوفِ مسلمٍ منه آية" (¬64). وأما الخَبَرُ عن أصحابهِ، فوردَ عن أبي هريرة وابن مسعود. 1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ¬

_ (¬64) حديث صحيح، خرجته وحققته في التعليق على "اختصاص القرآن" لضباء الدين المقدسي تعليق (68).

"يُسْرى على كتاب الله، فيُرْفَعُ إلى السَّماءِ فلا يُصْبِحُ في الأرض آيةٌ من القرآنِ، ولا من التوراةِ، والإِنجيل، ولا الزَّبورِ، ويُنْتَزَعُ من قُلوبِ الرِّجالِ، فيُصْبِحونَ ولا يَدْرون ما هو" (¬65). 2 - وعن شَدَّاد بن مَعْقِل أنَّ عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: "لَيُنْتَزَعَنَّ هذا القرآنُ من بين أظْهُرِكُمْ". قال: قلتُ: يا أبا عبد الرَّحمن! كيفَ يُنْتَزَعُ وقد أثْبَتْنَاهُ في صُدورِنا، وأثبتناهُ في مَصاحِفنا؟ قالَ: "يُسْرى عليهِ في ليلةٍ، فلا يَبقى في قَلْبِ عَبْدٍ منه، ولا مُصحَفٍ منه شَيْءٌ، ويُصْبِحُ الناسُ فُقَراءَ كالبَهائم". ثمَّ قرأ عبد الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء: 86] (¬66). وهذان الأثران تضَمَّنا الِإخبارَ عن غيبٍ، لا يقال إلاَّ بتوقيف. فبهذا يظهرُ لكَ معنى قولِ من قال من السَّلَفِ: (القرآنُ كلامُ الله، مُنْزَلٌ غيرُ مَخْلوقٍ، منه بدّأ وإليه يَعودُ). والمَصيرُ إلى هذا التفسير واجِبٌ لدلالةِ ما ذكرنا من الأخبار. وقال شَيْخُ الإِسلام: "فقالوا: (منه بدأ) ردّاً على الجَهْميةِ الذين ¬

_ (¬65) حديث صحيح، وانظر تحقيقه في التعليق على "اختصاص القرآن" تعليق (68). (¬66) حديث صالح الإِسناد وانظر تحقيقه في التعليق على "اختصاص القرآن" تعليق (74).

يقولون: بدأ من غيرهِ، ومقصودُهُم أنَّه هو المتكلِّمُ به، كما قالَ تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقالَ تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ...} وأمثال ذلك" (¬67). قال: "وأمَّا (إليه يَعودُ) فإنه يُسْرى به فى آخِر الزَّمانِ، من المَصاحفِ والصُّدور، فلا يبقى في الصُّدور منه كلمةٌ، ولا في المصاحف منه حرفٌ" (¬68). قلتُ: والتنصيص على هذه العقيدةِ مأثور عن جَماعةٍ من أئمَّةِ السَّلَف، منهم: 1 - عَمْرو بن دينار (أحد خيار التابعين وثِقاتِهم وأئمَّتِهم). قال: "أدركْتُ أصحابَ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- (¬69) فمَنْ دونَهم منذُ سَبعينَ سنةً، يقولونَ: الله الخالقُ، وما سواهُ مَخْلوقٌ، والقُرآنُ كلامُ الله منهُ خرجَ وإليه يعودُ". 2 - سفيان الثَّوْري (الإِمام العَلَم). قال: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخلوقٍ، منه بَدَأ وإليه يعودُ، مَنْ قال غيرَ هذا فهو كُفْرٌ" ¬

_ (¬67) "درء التعارض"2/ 113. (¬68) "مجموع الفتاوى" 3/ 174 - 175 عن المناظرة في الواسطية. (¬69) ذكر الحافظ ضياء الدين المقدسي في "اختصاص القرآن" فقرة (6) عشرة أنفس من الصحابة أدركهم عمرو بن دينار فيهم: عبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، وانظر قول ابن راهُوَيْه السابق ص 139.

3 - سفيان بن عُيَيْنَة (إمامٌ حافِظٌ). سأله رجُلٌ: يا أبا محمَّدٍ، ما تقولُ في القرآنِ؟ فقال: "كَلامُ الله، مِنْهُ خَرجَ وإليه يَعودُ". 4 - أبو بكر بن عيَّاش (إمامٌ محدِّثٌ صاحِبُ سُنَّة). قال: "القرآنُ كلامُ الله، ألقاه إلى جبرائيلَ، وألقاهُ جِبرائيلُ إلى محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، منه بدَأ، وإليه يعودُ" (¬70). 5 - الِإمام أحمدُ بن حنبل. قال: "لقيتُ الرِّجالَ، والعُلَماءَ، والفُقَهاءَ، بمكَّةَ، والمَدينةِ، والكُوفةِ، والبَصْرةِ، والشامِ، والثُّغورِ، وخُراسانَ، فرأيتُهم على السُّنَّة والجَماعَة، وسألتُ عنها -يعني هذه اللفظة- الفُقَهاءَ؟ فكلٌّ يقولُ: القرآنُ كلامُ الله غيرُ مَخْلوق، منه بدَأ، وإليه يعودُ" (¬71). وقالَ: "لم يَزَلِ الله عالماً متكلّماً، نعبُدُ الله لصِفاتهِ، غير محدودَةٍ ولا مَعلومةٍ إلَّا بما وصَفَ به نفسه، ونردُّ القرآن إلى عالمهِ تبارك وتعالى، إلى الله، فهو أعلَمُ به، منه بَدَأ وإليه يَعودُ" (¬72). 6 - أبو جعفر أحمد بن سِنان الواسطي (حافِظٌ ثَبْتٌ، من شُيوخِ ¬

_ (¬70) جميع هذه الآثار الأربعة صحيحة، خرجتها في تعليقي على "اختصاص القرآن" وأثر عمرو قد سبق ص 138. (¬71) ذكر هذا النص الحافظ الضياء في "اختصاص القرآن" عن المرّوذى عن أحمد، فقرة (9). (¬72) رواه حنبل فى "المحنة" ص: 45 عنه به.

البُخاريّ ومُسْلم). قال: "مَن زَعَمَ أنَّ القرآنَ شَيْئَين (¬73) أو أنَّ القرآنَ حِكايةٌ، فهو والله الذي لا إله إلاَّ هو، زِنديقٌ كافرٌ بالله، هذا القُرْآنُ هو القُرآنُ الذي أنزله الله على لسانِ جبريلَ على محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، لا يغيَّر ولا يُبَدَّل: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، كَما قالَ الله عَزً وجَلً: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِه ...} [الِإسراء:88]، ولو أنَّ رجلاً حلفَ لا يتكلَّمُ اليومَ، ثمَّ قرأ القرآنَ، أو صلَّى وقرأ القرآنَ، أو سلَّمَ في الصَّلاةِ، لم يحنَثْ، لا يُقاسُ بكَلام الله شَيْءٌ، القرآنُ كلامُ الله، منه بَدَأ وإليه يَعودُ، ليس من الله تعالى شَيْءٌ مخلوقٌ، ولا صِفاتُهُ، ولا أسماؤُهُ، ولا عِلْمُهُ" (¬74). ونقلَ شيخُ الإِسلام اتّفاقَ السَّلَفِ والأئمَّةِ على ذلك في غيرِ موضع من كلامه (¬75). تنبيه: ويجب أن يُعلَمَ أنَّه ليسَ معنى قولهم (منه خَرَجَ) أنَّ صفةَ الكلام فارَقَتْهُ تعالى، وحلَّتْ في غيرهِ، وأنَّ ما تكلَّم به نُسِبَ إلى غيرِه، وصارَ وصفاً لذلك الغَيْر -كما قد وَسْوَسَ به بعضُ أهل البدَع- فإنَّ هذا المعنى لا يُعقَل في حَقّ الِإنسانِ المَخلوقِ الضَّعيفِ، إذا تكلَّمَ بكلام تزولُ عنهُ صفةُ ¬

_ (¬73) هكذا على النصب في الأصل، وهي متجهة على تقدير محذوف، ولذا أثبتها كما هي. (¬74) صحيح الإِسناد، أخرجه الضياء في "اختصاص القرآن" رقم (16). (¬75) انظر: "مجموع الفتاوى": 6/ 528، 12/ 164.

الكَلام بذلك وتفارقُه إلى غيرهِ، فإنَّ من كانَ كذلكَ لم يمكِنْه الكلامُ إلاَّ مرّةً واحدةً، فإذا تكلَّمَ هذه المرَّة فارقَتْهُ صفتُهُ, لأنَّ الكلامَ خرَجَ منه وفارقَهُ، وبمفارقته زالتْ عنه الصّفة ولَحِقَتْ غيرَهُ، هذا كلامٌ لا يقوله مَن يَدري ما يقولُ، فإنَّ مَنْ وُصِفَ بالكلام على هذا المعنى موصوفٌ بالعَجْز عنه، وهو غيرُ متصوَّرٍ في حقّ الناطق المَخلوق على ضَعْفه، فكيف تصوَّرَهُ هؤلاء الضُّلاَّلُ في حقّ الله الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ، فإنَّه تعالى وصفَ نفسَه بأنَّه متكلمٌ بكلامٍ متعلقٍ بمَشيئتهِ وقُدْرتهِ، يُسْمِعُه من شاءَ من خلقهِ، متى شاءَ، وأنَّ كلماتِهِ تعالى لا تَنْفَدُ، ومن كان هذا وصْفُهُ لم تفارقْهُ صفَتُهُ بتكلّمهِ مرَّةً أو مرَّاتٍ، وكانَ كلُّ ما تكلَّمَ به منسوباً إليه لا إلى غيرِهِ. قالَ الإِمام الحافظُ أبو الوليد الطَّيالِسيُّ: "القُرْآنُ كلامُ الله ليسَ ببائنٍ من الله" (¬76). وقال شيخ الإِسلام: "وإنَّ قولَ السَّلَف: (منه بدأ) لم يُريدوا به أنه فارقَ ذاتَهُ، وحَلَّ في غيره، فإنَّ كلامَ المخلوقِ، بل وسائرَ صفاتهِ لا تفارقُه وتَنْتَقِلُ إلى غيرِهِ، فكيفَ يجوزُ أنْ يفارقَ ذاتَ الله كلامُه أو غيرُهُ من صفاتِهِ" (¬77). قلتُ: قالَ الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فالَّذي يسمَعُهُ المُشْرك المستجيرُ من القارئ إنَّما هو كلامُ الله المضافُ إليه لا إلى غيرهِ، فلو أن كلامَه بانَ منه ¬

_ (¬76) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح عنه. (¬77) "مجموع الفتاوى" 12/ 274 وانظر: 12/ 517 - 518، 561،550.

وفارقَه لَما صَحَّتْ إضافَتُهُ إليه إضافةَ الصِّفَةِ إلى الموصوفِ. وهذا الكلامُ بعَيْنِهِ هو الذي في مَصاحفِ المُسلمينَ بلا شَكٍّ ولا ريبٍ، خِلافاً لِلَّفظيةِ من الأشعريةِ وغيرهم القائلينَ بأنَّ ما في المَصاحفِ دلالةٌ على كلام الله، وليسَ هو كلامَ الله، وقد قالَ الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فأبان أنَّ كلامَه الذي هو وحيُهُ وتنزيلُهُ يكونُ في الكتاب المكنونِ، فكذلك كونُه في المَصاحفِ، ونحنُ لا نعلَمُ القرآنَ إلاَّ هذا العربيَّ المنزَلَ، وهو الذي سمَّاه الله تعالى كلامَه. وقَدْ قالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُسافِروا بالقرآن إلى أرْضِ العَدُوّ، فإنِّي أخافُ أن ينالَهُ العدوُّ" (78). ولا خِلافَ في أنَّ النَّهيَ عن السَّفر بالقرآن، إنَّما هو النَّهْيُ عن السَّفَرِ ¬

_ (78) حديث صحيح. أخرجه مالك2/ 446 والشافعي رقم (1149، 1150) وأحمد رقم (4507، 4525، 4576، 5170، 5293) والبخاري 6/ 133 ومسلم رقم (1869) وأبو داود رقم (2610) والنسائي في "فضائل القرآن" -من "الكبرى"- رقم (85) وابن ماجة رقم (2879، 2880) من طرق عن نافع عن ابن عمر به مرفوعاً. وتابع نافعاً عليه عبد الله بن دينار، أخرجه أحمد رقم (6124) وابن أبي داود في "المصاحف" ص: 183 بسند صحيح عنه. وكذا تابعه سالم عن أبيه، أخرجه ابن أبي داود ص: 179 - 180 بسند صالح في المتابعات. وهذا حديث جليل قد أفردت الكلام عليه إسناداً ومتناً في جزء.

بالمَصاحفِ, لأنَّ القرآنَ إنَّما يكونُ فيها، وهي التي تُحْمَلُ وتُنْقَلُ، ولا نعلَمُ القرآنَ إلاَّ كلامَ الله المنزَلَ على الحقيقةِ. قال شيخُ الإِسلام: "وممَّا كانَ أحمدُ أنكرَه من قولِ الجهميَّةِ قولُ من زعَمَ أنَّ القرآنَ ليسَ في الصُّدورِ، ولا في المَصاحفِ" (79). قلتُ: وفي الباب الثالث في إبطال اعتقادِ الأشعرية ما يتضمَّنُ إبطالَ قَوْلِ من قال: ليسَ القرآن في المُصْحَف على الحَقيقةِ، وإنَّما فيه الدلالة عليه. والله تعالى أعلم، وما توفيقي إلاَّ به عليه توكَّلت وإليه أنيب.

الباب الثاني: توضيح مسألة اللفظ بالقرآن ورفع ما وقع بسببها من الاشكال

الباب الثاني: توضيح مسألة اللفظ بالقرآن ورفع ما وقع بسببها من الاشكال وفيه تمهيد وفصلان: = الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال. = الفصل الثانى: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة.

تمهيد

تمهيد المُرادُ بمسألةِ اللَّفْظِ بالقُرآنِ هو القولُ بأنَّ (لفظَ القارئ بالقرآنِ، وقِراءَتَه له، وتلاوتَهُ) هل يُقال: (مخلوقٌ، أو مخلوقةٌ) أو لا يقال ذلك؟ وهي من المَسائل التي كان لها صَدًى واسعٌ في صفوفِ المُحدِّثينَ وغيرهم، ممَّا أدّى إلى شقاقٍ وفرقةٍ، أفرحَت الشيطانَ وأولياءَه، وضاقَتْ بسَبَبِها صدورُ أهْل السُّنَّة والجَمَاعَةِ. وكانت هذه المسألةُ حَيْدةً من الجَهمية القائلينَ بخَلْقِ القرآنِ إلى لفظٍ يوهِم موافقَتَهم لأهْل السُّنَّةِ، مع أنَّهم يُريدون مذهَبَهم الباطلَ، فلبَّسوا بهذا على الناسِ، وفتَحوا عليهم باباً جديداً من البدعة، فقالوا: ألفاظُنا بالقرآن مخلوقةٌ. وكانَ مبدأ ظهورِ هذه اللَّفظةِ والقولِ بها في عَهْدِ الإِمام أحمدَ، حين ظَهَرَ الحقُّ الذي أعلاهُ الله بأحمدَ بن حنبل ومن ثَبَتَ معَه من إخوانهِ، وقَوِيَتْ شَوْكةُ أهله، ونصرَهم الله، وخَذَل المبتدعة من الجهمية المعتزلة القائلينَ بخَلْقِ القرآنِ. وكان أوَّلُ من عُرِفَ أنه قالَها الحُسَينَ الكرابيسيَّ.

قال الإِمام إسماعيلُ بن الفَضْل الأصبهانُّي: "وأوَّل من قالَ باللَّفظ، وقال: ألفاظُنا بالقرآن مخلوقةٌ حُسَينٌ الكَرابيسيُّ، فبدَّعَه أحمد بن حنبل، ووافقَه على تبديعهِ علماءُ الأمصار ... " (¬1). ثم ساقَ أسماءَ جماعةٍ من الأئمَّة والعُلماءِ. ووافقه عبد الله بن سَعيد بن كُلاَّب وداودُ الظاهريُّ. وسبَبُ ذلك ما ابْتُلوا به من علْمِ الكلام المَذمومِ، فَوافقوا الجَهمية في حقيقةِ قولهم. ولمَّا كان الإِمام أحمدُ قَدْ خَبِرَ باطلَ القوم، وعَرَف مَداخِلَه، لم يتردَّدْ في تَضْليلِهم، وتَبْديعِهم وتَجْهيمِهم، ونقَلَ عنه الثّقاتُ من أصحابهِ من ذلك ما فيه الكفايةُ والمَقْنَع لمَن نوَّرَ الله قلبَه بنورِ الهداية، وجنَّبه سُبُلَ الغِوايةِ. فجاءَ من بَعْدِهِ أقوامٌ غَلِطوا في مَعرفةِ حَقيقةِ قَولهِ، وذلكَ إمَّا لخَفاءِ نُصوصِهِ الصَّريحةِ عنهم وإمَّا لهَوًى وبدعةٍ فيهم، وإنْ وقع انتسابُ الكثير منهم للعلْمِ والسُّنَّةِ. فرأيتُ من الضِّرورةِ -وقَدْ خُضْتُ غِمارَ هذا الموضوع- أن أوضِّحَ -بما يَسَّر الله تعالى- ما وقعَ من اللَّبْس في هذه القضيةِ، ولولا ما وقعَ بسَبَبِها من النبلاء لكانَ في تركِ الكلام فيها غُنْيَةٌ. والله المُستعان، ولا حَوْل ولا قوَّة إلاَّ به. • • • • • ¬

_ (¬1) كتاب "الحجة" ق 92/ ب.

الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال

الفصل الأول: تفسير الألفاظ المجملة التي وقع بسببها الاشكال وفية مبحثان: = المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره؟ = المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى: إنه لقول رسول كريم.

المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره؟

المبحث الأول: بيان هل اللفظ هو الملفوظ؟ أم غيره؟ وقوعُ الإِجْمالِ في إطلاق القَوْلِ: اللَّفْظ هو المَلفوظُ، أو غيرُهُ، وكذلك: القراءةُ هي المقروءُ أو غيرُهُ، وكذلك: التّلاوةُ هي المتلوُّ، أو غيره، أعظمُ مَوارد اللّبس في هذه القضيّة. وبيانُ ذلك كما يأتي: (اللَّفظ، القِراءة، التِّلاوة) ألفاظٌ تُطلَقُ على المَصْدَر الذي هو فِعْلُ اللاَّفظ، والقارئ، والتالى، وكَسْبُهُ الذي يكونُ بآلاتهِ وجوارحهِ، ومنه صَوْتُه وحَركةُ شَفَتَيْهِ. وتُطْلَقُ على المَفْعول، الًذي وقعَ عليه فعل القارىءِ، وهو المَلفوظ، المقروءُ، المتلوُّ. والأغلبُ استعمالُها في المَصادرِ في لُغَةِ العَرَبِ، لكنَّهم يستعملونَ المصدرَ بمعنى المَفْعولِ. قال إمامُ العربية سِيبَوَيْه - رحمه الله -: "وقد يجيء المصدرُ على المفعول، وذلك قولُكَ: (لَبَنٌ حَلَبٌ) إنَّما تريدُ: مَحلوب، وكقولهم:

(الخَلْق) إنَّما يُريدونَ: المَخلوق، ويقولونَ للدِّرْهم: (ضَرْبُ الأمير) وإنَّما يريدون: مضروب الأمير". قال: "وربَّما وقع على الجَميع" (¬2). قلتُ: ومثالُه قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] فالخَلْقُ هُنا المَصْدر، وهو فعلهُ تعالى، وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، فالخَلْق هنا المخلوقُ، الذي هو مفعولُ الربّ تعالى. قال ابنُ قُتَيْبَةَ رحمه الله: "القراءةُ قد تكون قرآناً, لأنَّّ السَّامعَ يسمَعُ القراءةَ، وسامعُ القراءةِ سامعُ القرآنِ، وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف: 204]، وقال: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ} [التوبة: 6]. قال: "والعربُ تُسمّي القراءةَ قرآناً، قال الشاعرُ في عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه: ضَحّوا بأشْمَطَ عنوانُ السُّجودِ به ... يُقَطِّعُ الليل تَسْبيحًا وقرآناً أي: تسبيحًا وقراءةً. وقالَ أبو عُبيد: يقالُ قَرأتُ قِراءة، وقُرآناً، بمعنى واحدٍ. فجعَلَها مَصْدَريْن لقرأتُ. وقال الله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] أي: قراءة الفَجْر" (¬3). ¬

_ (¬2) "الكتاب " 4/ 43، 44. (¬3) "الاختلاف في اللفظ" ص: 245 - ضمن عقائد السلف-.

وفي هذا جميعاً كانت القراءة هي المقروءَ. وكذلك فإن القراءةَ عَمَلٌ، يُثابُ عليها فاعلُها، وكذا يقَعُ المَدْحُ لِقراءة قارىءٍ, والذَّمُّ لِقراءةِ آخر، والمُفاضَلةُ بين قِراءةِ قارىءٍ وآخر، وفي هذا كانت القراءةُ فعلَ القارىء. فلمَّا كانت هذه الألفاظُ تأتي بالمَعْنيين، بمعنى فِعْلِ اللاَّفظ، والقارىء والتالي، وما وقَعَ عليه فعلُهُ، وهو الملفوظُ المقروءُ المتلوّ، منعَ الإِمامُ أحمدُ وغيرُهُ من أئمَّة السُّنَّة من إطلاقِ كِلَا اللَّفْظين في كَلامِ الله تعالى -كما سيأتي- فلا يقالُ: اللَّفْظ هو المَلفوظُ، ولا يقال: غيره، وكذلك القراءةُ والتّلاوةُ، لمِا في الإطلاقِ من إيهامِ مَعانٍ فاسِدةٍ. فلو أطْلِقَ القولُ: (لَفْظي بالقرآن مخلوقٌ) دخَلَ في الإِطلاق فعلُ اللافظ، وحركتُهُ، وصوتُهُ، وهو حَقٌّ، ودخلَ الملفوظُ الذي هو كلامُ الله المؤلّفُ من الحُروفِ المَنطوقة المَسْموعةِ المَفْهومةِ، وهو باطلٌ. وهذا هو مُرادُ من أطلقَ ذلكَ, لأنَّ أوَّلَ من أطلقه الجَهْمِيَّةُ القائلون بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ (¬4). وإنْ أطْلَقَ القولُ: (لَفْظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ) دخَلَ في الإِطلاق أيضاً فعلُ اللافظ، وهو باطلٌ، فإنَّ أفعالَ العباد جَميعاً مخلوقةٌ لله تعالى، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ودخلَ الملفوظُ الذي هو كلامُ الله، وهو حَقٌّ، فإنَّ كلامَ الله تعالى غيرُ مخلوقٍ، حُروفَه ومعانِيَهُ. ¬

_ (¬4) كما قالَ ذلك شح الإِسلام، "مجموع الفتاوى" 8/ 407.

قال شيخُ الإِسلام: "واللَّفظُ في الأصْلِ: مصدرُ (لَفَظ، يَلْفِظ، لفظاً) وكذلك: التلاوةُ، والقراءةُ، لكنْ شاعَ استعمالُ ذلك في نفسِ الكلام المَلفوظ المقروء المتلوّ، وهو المُراد باللفظ في إطلاقهم، فإذا قيلَ: (لفظي، أو: اللفظ بالقرآن مخلوق) أشْعرَ أنَّ هذا القرآنَ الذي يقرؤُهُ ويَلْفِظُ به مخلوقٌ، وإذا قيل: (لفظي غيرُ مَخلوق) أشْعر أنَّ شيئاً ممَّا يُضافُ إليه غيرُ مخلوقٍ، وصوتُهُ وحركَتُهُ مخلوقانِ، لكنَّ كلامَ الله الذي يقرؤه غيرُ مخلوقٍ، والتلاوةُ قد يُرادُ بها نفسُ الكلام الذي يُتلى، وقد يُرادُ بها نفسُ حركَةِ العبدِ، وقَدْ يُرادُ بها مَجموعُهما، فإذا أريدَ بها الكلامُ نفسُه الذي يُتلى فالتلاوةُ هي المتلوُّ، وإذا أريدَ بها حركةُ العَبْدِ فالتلاوةُ ليسَتْ هي المتلوَّ، وإذا أريدَ بها المجموعُ فهي متناولةٌ للفعلِ والكلامِ، فلا يُطلَق عليها أنها المتلوُّ، ولا أنَّها غيرُهُ" (¬5). قلتُ: ولِذا قالَ الِإمام أحمدُ رحمه الله: "مَن قالَ: لَفْظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جَهْمِيٌّ، ومَن قالَ: غيرُ مخلوقٍ، فهو مُبْتَدِعٌ، لا يُكلَّم" (¬6). وقال عبد الله ابنُه: وكانَ أبي رحمه الله يكرَهُ أنْ يُتَكَلَّمَ في اللَّفْظِ بشَيْءٍ، أو يُقالَ: مخلوقٌ، أو غيرُ مَخلوقٍ (¬7). ¬

_ (¬5) "مجموع الفتاوى" 12/ 306 - 307. (¬6) رواه الخلاّل في "السنة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 325 - بسند صحيح عن أحمد. وكذا رواه ابن جرير في "صريح السنَّة" رقم (32) -وعنه: اللالكائي في "السنَّة" 2/ 355 - عن جماعة عن أحمد نحوه. (¬7) "السنَّة" لعبد الله رقم (186).

وسيأتي شرح قولِ الطائفتين: النافيةِ، والمثبتةِ. المقصودُ هنا بيانُ عدَمِ صحَّةِ إطلاقِ القولِ بخَلْق اللَّفظِ وعدَمهِ في كلام الله تعالى.

المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم}

المبحث الثاني: تبيين المراد بقوله تعالى {إنه لقول رسول كريم} قول الله تعالى هذا جاءَ في موْضِعَيْن من كتابه: الموضع الأوَّل: في سورة الحاقَّة [آية: 40]. والموضع الثاني: في سورة التكوير [آية: 19]. والمُرادُ بالرَّسولِ في آية الحاقَّة نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، وفي آيةِ التَّكوير جِبريلُ عليه السَّلام، فأحدهُما الرَّسول البَشريُّ، والآخَرُ الرَّسولُ المَلَكيُّ. قالَ تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75] وقال سبحانه: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وأمَّا الدليلُ على تَعيين المرادِ في الموضعِ الأولِ أنَّه محمَّد -صلى الله عليه وسلم- فمِنْ وجُوهٍ دلَّ عليها سياق الآياتِ. قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)

فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} الآيات [الحاقة:40: 48]. فالوجه الأوَّل: دلَّ السّياقُ على أنَّ المرادَ تنزيهُ كونِ هذا القول الذي هو القرآنُ قولَ شاعرٍ أو كاهنٍ. والذي وصفَه الكفَّارُ بالشّعر والكَهَانَةِ هو رَسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، كمَا قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5] وكما قالَ تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] فأبطَلَ الله تعالى وصفَهم إيَّاه بذلكَ بإثباتِ أنَّه قولُ رسولٍ كريم، اجتمعَتْ فيه مَعاني الكرَم، والتي منها طَهارتهُ ونزاهَتهُ وصِدْقهُ وأمانَتهُ، التي تمنَعهُ من التَّقوُّل والافتراءِ، والشِّعرِ والكَهانة، إذ أنَّها جَميعًا مَعاني باطلةٌ لا تَليقُ بمَقامهِ، لأنَّه الكريمُ في خُلُقِهِ وطَبْعهِ وأصْلِهِ. والوجه الثاني: قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} أضْمَرَ الفاعلَ للعلمِ به، وهو المذكورآنفًا بوصْفِهِ الرَّسول الكَريم، وهذا ظاهرٌ، فلو لم يكن محمَّداً -صلى الله عليه وسلم- فمَنْ يكونُ إذًا؟ أجاب عن هذا بعضُ المُبتدعةِ فقالَ: هو جبريلُ عليه السَّلام، بقرينة آية التكوير. قلنا: يردُّهُ ظاهرُ الخِطابِ، قالَ تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وهذا خِطابٌ لقُريشٍ، فلو كانَ جبريلُ عليه السَّلام هو المفترَض تقوُّلُهُ، فلا مَعنى إذًا لتَحدِّي قُرْيشٍ بقولِهِ: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} لأنَّ حِمَايَتَهُمْ وَحِفْظَهُمْ لجبريلَ غيرُ مقدورٍ لهم، فلا فائدةَ

من تحدِّيهم فيهِ. والوجه الثالث: أنَّ هذا قولُ عامَّة المفسِّرينَ، إلاَّ مَنْ شَذَّ لبدعةٍ أو عدَم أمانةٍ، كالكلبيّ ومُقاتلٍ (¬8). والدَّليلُ على تَعيين المُرادِ في المَوضِع الثاني، وأنَّه جبريلُ عليه السَّلام، فمِنْ وُجوهٍ أيضًا: الأول: وصفُه بقوله: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} كقولِهِ في النجم: {شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ} ومعلومٌ هناك أنَّه جبريلُ. والثاني: قولُهُ: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} الهاء في قوله: {رَآهُ} عَائدةٌ على الرَّسولِ الكَريمِ، والذَي رآه صَاحبُنا محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- بالأفُق المُبين إنَّما هو جبريلُ عليه السَّلام كما صرَّحَ به الخبرُ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وقَدْ سُقناهُ في الباب الأول (¬9). والثالث: قولُهُ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} رَدٌّ على الكفَّارِ القائلينَ: إنَّما يأتي محمَّدًا شيطانٌ يعلِّمُهُ، وهو نظيرُ قولِهِ تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]، وكانَ هذا بعدَ قولهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ ¬

_ (¬8) "زاد المسير" 8/ 354. والكلبي هو محمد بن السائب مفسّر مشهورٌ، وكان كذّابًا معروفًا بالكذب، ليس بثقَةٍ ولا مأمون، وكان صاحبَ ضلالةٍ، يؤمنُ برَجْعة عليّ، وأمَّا مقاتل فهو ابن سُليمان مفسّر مشهور أيضًا، ولم يكن ثقةً ولا مأمونًا واتُّهم بالكذب، وكانَ مجسّمًا مشبّهًا للرب تعالى بخلقهِ. (¬9) ص 104.

رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وهذا ظاهرٌ في كونهِ جبريلَ عَليه السَّلام. والرابع: اتّفاقُ المفسّرينَ على أنَّه جبريلُ. فهذه الوجوهُ التى سُقْتُها كافيةٌ للدَّلالةِ على تَعيين المُرادِ بالرَّسولِ في كِلا المَوْضعَيْن لمَنْ هَداهُ الله تعالى وبصَّرَهُ، مَعَ أنّي أرى الفرقَ بينهما ظاهرًا بأدنى تأمُّلٍ. • معنى إضافة القول إلى جبريل ومحمد عليها الصلاة والسلام: المُرادُ بالقوْلِ ظاهِرٌ في أنَّه القرآنُ المُنْزَلُ بهذا اللّسان العَربيّ المُبين، الذي هو تنزيلُ ربّ العالَمينَ، وإضافَتهُ إلى الرَّسولَيْنِ لأجْلِ أنَّ كُلاًّ منهما بَلَّغَهُ وأدَّاهُ، فهو قولهُ من هذهِ الجهَة، وليسَ قولَهُ بمعنى أنَّه أنَشأه وابتدَأهُ لامتناع ذلك، إذ أنَّه لو كانَ من إنشاءِ أحدِهما ونظْمهِ لمَا صحَّت إضافَتهُ إلى أحدِهما دونَ الآخر، لأنَّ كُلاًّ منهما يكونُ قَدْ أنشأه وقالَه، وهو باطلٌ. وهو كلامُ الله بألفاظهِ ومَعانيه جَميعًا، ألقاهُ إلى جبريلَ عليه السَّلام، فبلَّغَهُ جبريلُ إلى محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، فبلَّغهُ محمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلى أمَّتهِ، وليس لجبريلَ عليه السَّلام ولا لمُحمَّد -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ التبليغُ والأداءُ. والدليل عليه من وُجوهٍ: الأوَّل: أنَّه قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} ولم يَقُلْ: لَقْولُ مَلَكٍ، أو: نَبِيّ،

والرسولُ يقتَضي مُرْسِلاً وَمُرْسَلاً به، والمُرْسِل هو الله تعالى، والمرسَلُ به كلامُه ووحيُهُ، لا معنى للرسالةِ إلاَّ هذا. قالَ ابن قُتيبة رحمه الله: "لم يُرِد أنَّه قولُ الرَّسولِ، وإنَّما أرادَ أنَّه قولُ رَسولٍ عن الله جَلَّ وَعَزَّ، وفي الرَّسولِ ما دلَّ على ذلك، فاكتفى به من أن يقولَ: عن الله" (¬10). والثاني: أنَّه لَوْ كان الرَّسولُ قدْ أنشَأهُ لمَا كانَ أميناً على رِسالتهِ، لأنَّ المُرسِلَ ائتمَنَه على تبليغ كلامهِ على وَجْهِهِ بألفاظِهِ وَمَعانيه -لأنَّ الكلامَ لا يكونُ إلاَّ كذلكَ كما سبقَ تقريرُه في الباب الأوَّل- فأنشَأ له الرَّسول نَظْماً آخرَ، وهذا خِيانةٌ للأمانَةِ. والثالث: أنَّه لو كانَ من إنشاءِ أحَدِ الرَّسولين لامتنعَ أن يكونَ من إنشاءِ الآخر -كما سَبَق قريبًا- والرابع: أنَّ الله تعالى قالَ عقبَ إضافةِ القَوْلِ إلى الرَّسولِ الكَريم في سورة الحاقَّة، وبعدَ أنْ نزَّهَه أن يكونَ قولَ شاعرٍ أوكاهنٍ {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فجَعلَ ابتداءَهُ منه لا مِنْ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-, ولا من جبريلَ عليه السَّلام، يُجَلّيه ويوضِّحُهُ قولُهُ فى الشعراء: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} فَبيَّن أنَّ المنزَلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ -واللّسانُ: اللُّغة- هَو الذي نزلَ به الرُّوحُ الأمينُ جبريلُ من عندِ رَبِّ العالَمين تعالى، فبانَ بهذا أنَّه قولُه تعالى وكلامُهُ ووحيُهُ. ¬

_ (¬10) "تفسير غريب القرآن" ص: 484.

والخامس: أنَّه تعالى توعَّدَ بسَقَرَ مَن زَعَمَ أنّه قولُ البَشَر، كما قالَ عن الوَحيد: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر 18 - 26]. ولا يَخفى أنَّه لا فَرْقَ بين أنْ يُدَّعى أنَّه قولُ البَشَر، أو أنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ، أو جِنّيٌّ. والسادس: أنَّ الله تعالى خاطَبَ به العرَبَ بلسانِهم، وتحَدَّاهم أن يَأتوا بمثلهِ، أو بمِثْلِ عَشْر سُوَرٍ مثله، بل تَحَدَّاهم أن يأتوا بسوةٍ مثلهِ، كما قال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] وقَالَ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14] وقال {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38]، ولم يكن ليتحدَّاهُم بغير مَقْدورٍ لهُمْ، فلمَّا أعجَزَهم الإِتيانُ بمثلهِ أو بِشَيْءٍ مِنْ مثلهِ دلَّ على أنَّه ليسَ ككلاَم البشَر، ولا ككلام الجِنِّ، وإنَّما هوَ كلامُ ربّ الإِنسِ والجنِّ. واستقصاءُ الوجوهِ لِما ذكَرْنا يَطولُ، وفيما ذكرنا كفايةُ لمن استهدى. وقد سَبَقَ تقريرُ العقيدةِ السَّلَفية في أنَّ القرآنَ العربىَّ وغيرَه من كَلام الله، منَ الله بدأ وإليه يعودُ، وذكرتُ لذلكَ من الأدلَّة ما فيه الكفايةُ، وإنَّما

المقصودُ هُنا إزالة الاشتباهِ الذي أورَدَهُ بعضُ أهل البدعِ حولَ إضافةِ القَوْلِ إلى الرَّسولِ في سورتي الحاقَّة والتكوير، وأنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى ألفاظَه ومَعانِيَه، غيرُ مَخلوقٍ بألفاظهِ -التي هي حروفه العربية المنظومةُ- ومَعانيهِ.

الفصل الثاني: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة

الفصل الثاني: مسألة اللفظ وموقف أهل السنة وفيه خمسة مباحث: = المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ. = المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية. = المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية. = المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري. = المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة.

المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ

المبحث الأول: جملة اختلاف الناس في مسألة اللفظ حينَ ابتدَعَ الجَهْمِيَّةُ -قاتَلَهم الله- القَوْلَ بأنَّ ألفاظَ العباد بالقرآن مخلوقةٌ، أوقَعَ ذلك لَبْساً، جَرَّ بعض المُنْتسبينَ إلى السُّنُّةِ والحديث إلى الوقوع في بعضِ المَحاذير، بل جَرَّ آخرينَ إلى مُوافَقَةِ الجَهميةِ في حقيقةِ قولهم ومُرادِهم، وكانَت مسألةُ اللَّفظ سِتراً يَسْتَتِرُ به المنافقونَ من الجَهْمِيَّة، لِما يَخْشَوْنَ من فضيحَةِ أهْلِ الْحَقِّ لهم حينَ يصرّحون باعتقادِهم, فيقولونَ: القرآنُ مخلوقٌ. وكان الناسُ قد افترقوا حينَ ظَهَرَتْ هذه البدعةُ إلى أرْبَعِ فِرَقٍ: الأولى: الجهميّةِ القائلينَ بخَلْقِ القرآنِ، تستّروا بالقولِ: ألفاظُنا بالقرآنِ مخلوقةٌ، ومُرادهم: أنَّ كلامَ الله مخلوقٌ اعتقادَ أسْلافهم. والثانية: طائفةٍ شابَهَتِ الجَهْمِيَّةَ في بعضِ قولِهم، وهم الكُلاّبيَّة -أتباعُ عبد الله بن كُلاّب- فأطلَقوا القولَ كالجَهْميَّة: ألفاظُنا بالقرآنِ مخلوقةٌ، ومُرادُّهم: أنَّ القرآنَ العربيّ الذي نزلَ بهِ جبريلُ، الذي هو الألفاظُ المؤلَّفةُ من الحُروفِ كالألفِ والباءِ والتَّاءِ مخلوقٌ، وأنَّ الله تعالى لمْ يتكلَّم بالحُروفِ، إنَّما كلامُه معنى مُجَرَّدٌ عن الألفاظِ وهذا قديمٌ غيرُ

مخلوقٍ، وهؤلاءِ هم المُسَمَّونَ بـ "اللفظيةِ النافية". والثالثة: طائفةٍ من أهْلِ الحديثِ، كأبي حاتِمٍ الرَّازي الحافِظِ، وأبي سَعيد الأشَجَّ (¬11)، وغَيْرِهما، لمَّا رَأوْا تَضَمُّنَ قَوْلِ الجَهْميةِ والكُلاّبيَّةِ معنًى باطلًا، أرادوا الردَّ عليهم، فأطلقوا القولَ بضِدَّ مَقالَتِهم، فقالوا. ألفاظُنا بالقرآنِ غيرُ مخلوقةٍ. ومرادُهم: أنَّ الألفاظَ المؤلَّفةَ من الحُروف، والتي هي القرآنُ العربيُّ الذي نزَلَ به جبريلُ عليه السَّلام من ربّ العالَمين غيرُ مَخلوقةٍ، لكن لمّا كان إطلاقُهم مُوهِماَّ إدخالَ فِعْل العَبْد فيهِ والذي بيّناه فيما مضى، وقعَ المَحذورُ، فتَبعَتْهُم طائفةٌ على مقالَتهم وأدخلوا في إطلاقها صَوْتَ العَبْدِ بالقرآن وفعلَهُ، وربَّما توقَّفَ بعضُهم في ذلك، ولهؤلاء هم المُسَمَّون بـ (اللفظية المُثْبِتَة). والرابعة: طاثفةِ الأئمَةِ الرباّنيين من أهل السُّنَّة والاتّباع -كالإِمامين أحمدَ والبُخاريّ وأتباعِهما- مَنَعوا إطلاقَ القَوْلَيْن السَّابِقَيْن: اللَّفظُ بالقرآنِ مخلوقٌ، وغيرُ مخلوقٍ، وقالوا: القرآنُ كلامُ الله ووحْيُهُ وتنزيلُهُ، بألفاظهِ ومَعانيهِ، ليس هو كلامُه بألفاظهِ دونَ مَعانِيهِ، ولا بِمَعانيهِ دونَ ألفاظهِ، وأفعالُ العباد وأصواتُهم مخلوقةٌ، والعبدُ يقرأ القرآنَ، فالصَّوتُ صَوتُ القارىء, والكلامُ كلامُ الباري. هذه جملةُ مذاهب الناس حينَ ظهَرت بدعةُ اللَّفْظ. ¬

_ (¬11) ذكره عنهما الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني، فيما رواه عنه قِوَام السنَّة إسماعيل بن الفضل في كتابه القيم "الحجة" ق 112/ ب - 113/ أوأبو حاتِم أسمه محمد بن إدريس، والأشج عبد الله بن سعيد.

المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية

المبحث الثاني: اللفظية النافية جهمية اللَّفظيةُ النافيةُ -كما سبَقَ قريبًا- هم القائلونَ: (ألفاظُنا بالقُرآن مخلوقةٌ) ويريدونَ: أنَّ القرآنَ العربيَّ مخلوقٌ، وأنَّ جبريلَ إنَّما نزلَ بقرآن مخلوقٍ. وهذا القولُ في الحَقيقةِ هو قَوْلُ الجَهْميَّة الذين أطلَقوا أنَّ القرآنَ مَخلوقٌ، فإنَّ القرآنَ لا يُعْرَفُ إلَّا أنَّهُ اسْمَ للنَّظْمِ العَرَبيّ، والجَهْمِيَّةُ أطلَقَتِ القولَ بخَلْقهِ، وهؤلاءِ وافَقوهُم في كَوْنِ القرآنِ العَرَبيّ مَخْلوقَ النَّظْم، لأنَّهُ مؤلَّفٌ من الحُروفِ، وما تألَّفَ منَ الحروفِ فهو مَخْلوقٌ, لأنَّ الحُروفَ مخلوقةٌ، والله لَمْ يتكلَّم بها، إلاَّ أنَّهم خالفوهم خِلافًا لَفظيًّا في الحَقيقةِ، وذلكَ أنَّهُم ادَّعَوْا لله تعالى صفةَ الكلام، لكنَّهم قالوا: هو مَعنى أو مَعاني مجرّدةٌ، ليسَتْ بحُروفٍ ولا أصواتٍ، وهذا القولُ من أفسَدِ المَقالاتِ، وسيأتي نقضُه عليهم في الباب الثالث في الردّ على الأشعرية. وإنَّما وَصَفْتُهُ بكونهِ (لفظيًّا) لأن القائلينَ به لم يُثْبتوا في الحقيقةِ لله تعالى صفةَ الكَلام، وإنَّما افترَوا صِفةً لا حَقيقةَ لها، فنَسَبوها للربِّ تعالى، سَمَّوْها صفةَ الكَلامِ، وأبطَلوا ما هو معلومٌ ضَرورةً في تفسيرِ الكلام.

فلذا صَحَّ وصفُهُم بالجَهْمِيَّة. وقَدْ قَالَ الإِمام أحمدُ رحمه الله -فيما رواه ابنه صالحٌ عنه-: "افترقَت الجَهْمِيَّةُ على ثَلاثِ (¬12) فِرَقٍ: فِرْقَةٍ قالوا: القرآنُ مَخلوقٌ، وفرقةٍ قالوا: كلامُ الله وتسْكُتُ، وفرقةٍ قالوا: لفظُنا بالقرآنِ مَخلوقٌ، قالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- في كتابهِ: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فجبريلُ سَمِعَه من الله، وسَمِعَه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من جبريلَ عليه السلام، وسمِعَهُ أصْحابُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- من النَّبِيِّ, فالقُرآنُ كَلامُ الله غيرُ مخلوقٍ" (¬13). والنُّصوصُ عن الإِمام أحمدَ في تبديعِهم، بلْ وبعضُها في تكفيرهم، متواتِرةٌ، أسوقُ منها بعضَ ما فَتح الله تعالى بهِ، وثَبَتَ إسنادُهُ. وهو مَرويٌّ عنه من وجوهٍ: 1 - عبد الله ابنه عنه. قال: سألت أبي رحمه الله، قلتُ: ما تَقولُ في رجُلٍ قال: التَّلاوةُ مَخلوقةٌ، وألفاظُنا بالقرآن مَخلوقةٌ، والقُرآنُ كلامُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- وليس بمَخلوقٍ؟ وما تَرى في مُجانَبتهِ؟ وهل يُسمَّى مُبْتدِعًا؟ فقال: "هذا يُجانَبُ، وهو قولُ المُبتَدِع، وهذا كلامُ الجَهْمية، ليسَ القرآنُ بمخلوقٍ، قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: تَلا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬14) [آل عمران: 7] فالقرآن ليسَ ¬

_ (¬12) في الأصل المنقول عنه: ثلاثة. (¬13) رواه صالح في "المحنة" ص: 72 عن أبيه. (¬14) أراد حديث عائشة في الذين يتبعونَ المتشابة، وسياقُهُ، قالت: تلا =

بمَخْلوقٍ" (¬15). وقال عبد الله: سَألتُ أبي رحمه الله، قلتُ: إنَّ قومًا يقولونَ: لفظُنا بالقرآن مخلوقٌ؟ فقال: "هم جَهْميَّةٌ، وهم أشَرُّ ممَّنْ يَقِفُ (¬16)، هذا قولُ جَهْمٍ". وعَظّمَ الأمرَ عنده في هذا، وقال: "هذا كَلَامُ جهْمٍ" (¬17). وقال عبد الله: سمعت أبي رحمه الله يقولُ: "كلُّ مَن يقصِدُ إلى القرآن بلفظٍ، أو غيرِ ذلكَ، يريدُ بهِ مخلوق، فهو جَهميُّ" (¬18). قلتُ: وأرادَ بقوله: "يريدُ به ... " إلخ، الاحتراز عن قول من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، وأراد فعلَ العبدِ القائمَ به الذي هو حركتُهُ وصوتُهُ، لا كلامَ الله تعالى المسْطورَ المكتوبَ الملفوظَ، فإنَّ من قالَ ذلك على هذا النحو فقوله حقٌ على هذا المعنى، لكنَّ إطلاقَهُ غيرُ جائزٍ لما يوقِعُ فيه من المَحْذورِ. ¬

_ = رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} الآية إلى آخرها - قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابهَ منه، فأولئك الذي سمىَّ الله، فاحذَروهم". أخرجه البخاري 8/ 209 ومسلم رقم (2665) وغيرهما من حديث عائشة. (¬15) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (178). (¬16) أي: لا يقول مخلوق، ولا غير مخلوق. (¬17) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (180ب). (¬18) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (183).

وقالَ عبد الله: سمعتُ أبي يقولُ: "مَنْ قال: لَفْظي بالقرآنِ مخلوقٌ، هذا كلامُ سُوءٍ رديءٌ، وهو كلامُ الجَهمية". قلت له: إنَّ الكَرابيسيَّ يقولُ هذا، فقالَ: "كذَبَ، هَتَكَهُ الله، الخَبيثُ". وقال: "قد خَلَفَ هذا بِشْرًا المَرِيسيَّ" (¬19). قلتُ: والكَرابيسي هو الحُسَين، من أسلاف الأشعريَّةِ والماتُريديَّة في مسألةِ اللَّفظِ، فإنَّ مقالَتَهم نَفْسُ مقالَتِهِ معَ زيادةٍ عليه، وهو أحسن حالًا منهم بكَثيرٍ. وهذا الذي ذكرتُ بعضُ ما نَقَلَ عبدُ الله عن أبيه. 2 - صالح ابنه عنه. قال: قلتُ لأبي: مَن قالَ: لفظي بالقرآنِ مخلوقٌ يُكَلَّمُ؟ قال: "هذا لا يُكلَّمُ، ولا يصلَّى خَلْفَه، وإنْ صلَّى رجُلٌ أعادَ" (¬20). وسَبَقَ قبلَ قليلٍ نقلُهُ عن أبيه قولَه في افتراقِ الجَهْمية إلى ثلاثِ فِرَقٍ، منها اللفظيَّة. 3 - يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ عنه. قال لَه أحمد: "إنَّ اللَّفْظيَّةَ إنَّما يدورونَ على كلام جَهْمٍ، يزعُمونَ أنَّ جبريلَ إنَّما جاءَ بشيءٍ مخلوقٍ" يعني: جبريل، مخَلوقٌ جاء به إلى ¬

_ (¬19) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (186). (¬20) رواه صالح في "المحنة" ص: 70.

محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- (¬21). وقال صالحُ بن أحمدَ: سألَ يعقوبُ بن إبراهيمَ الدورقيُّ أبي عمَّنْ قال: لفظُهُ بالقرآنِ مخلوقٌ، كيفَ يقولُ في هؤلاءِ؟ قال: "لا يُكَلَّمُ لهؤلاءِ، ولا يُكلَّمُ في هذا، القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ على كُلِّ جهَةٍ، وعلى كلّ وَجْهٍ، وعلى أيّ حالٍ" (¬22). 4 - أحمد بن إبراهيم الدَّورقي عنه. قال: سألتُ أحمدَ بن حنبل، قلتُ: لهؤلاء الذين يقولونَ: إنَّ ألفاظنا بالقرآنِ مخلوقةٌ؟ قال: هُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الجَهْمية، مَن زعَمَ هذا فقَدْ زعَمَ أنَّ جِبريلَ جاءَ بمَخلوقٍ، وأنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تكَلَّمَ بمخلوقٍ" (¬23). 5 - أبو داود سُليمان بن الأشعث عنه. قال: سمعتُ أحمدَ يتكلَّمُ في اللَّفْظيَّةِ، ويُنْكِرُ عَلَيْهم كلامَهم (¬24). وقال: كتبتُ رُقْعَةً, وأرسَلْتُ بها إلى أبي عبد الله -وهو يومئذٍ مُتوارٍ- فأخرجَ إليَّ جَوابَه مكتوبًا فيه: قلتُ: رجلٌ يقولُ: التّلاوةُ مخلوقةٌ، وألفاظُنا بالقرآن مخلوقةٌ، والقرآنُ ليسَ بمخلوقٍ، وما تَرى في مُجانبتهِ؟ وهل يُسمَّى مبتدِعًا؟ وعلى ما يكون عَقْدُ القلبِ في التّلاوةِ والألفاظِ؟ وكيفَ الجوابُ فيه؟ ¬

_ (¬21) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 271 عنه. (¬22) رواه صالح في "المحنة" ص: 70. (¬23) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 271. (¬24) "المسائل" ص: 264.

قال: "هذا يُجانَبُ، وهو فَوْقَ المُبْتَدعِ، وما أراهُ إلَّا جَهْمِيًّا، وهذا كلامُ الجَهْمية، القرآن ليسَ بمخلوقٍ، قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ...} الآية، قالتْ: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا رأيتمُ الذين يتّبعون ما تَشابَهَ منه فَاحْذَروهم، فإنَّهم هم الذينَ عنى الله" (¬25). فالقرآن ليسَ بمخلوقٍ" (¬26). 6 - إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النَّيْسابوريّ عنه. قال: سمعتُ أبا عبد الله -يعني أحمد- يقول: "مَن زعَمَ أنَّ لَفظي بالقرآنِ مخلوقٌ فهو جَهْميٌّ". وقال: "أرأيتَ جبريلَ عليه السَّلام حيث جاءَ إلى النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَتَلا عليهِ، تلاوةُ جبريلَ للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- أكانَ مخلوقاً؟ ما هو مَخْلوق" (¬27). وقال: وسألتُهُ عن الذي يقول: لَفْظي بالقرآن مخلوق؟ قال: "هذا كلامُ جَهْمٍ، مَنْ كانَ يُخاصِمُ منهم فلا يُجالَسُ، ولا يُكلَّمُ، والجَهْمىَ كافرٌ" (¬28). وقال: سُئل -يعني أحمدَ- عمَّنْ يقول: لَفْظي بالقرآنِ مخلوقٌ، أيُصلّى خلفه؟ ¬

_ (¬25) هو عين الحديث الذي سبق قريباً في التعليق رقم (14) من هذا الباب. (¬26) "المسائل" ص: 265. (¬27) "مسائل ابن هانىء" 2/ 152 - 153. (¬28) "مسائل ابن هانىء" 2/ 154.

قال: "لا يُصلّى خلفه، ولا يُجالَسُ، ولا يُكلَّمُ، ولا يُسَلَّمُ عليه" (¬29). 7 - أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذيّ عنه. قال: سمعتُ أبا عبد الله أحمدَ بن حَنْبل يقول: "اللَّفظيَّةُ جَهْمِيةٌ، يقولُ الله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} مِمَّنْ يَسمَع؟ " (¬30). 8 - أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زَنْجَوَيْهِ عنه. قال: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول: "مَنْ قالَ: لَفْظي بالقرآنِ مخلوقٌ فهو جَهْميٌّ" (¬31). فهذه بعضُ النُّصوص الصَّحيحةِ الثابتةِ عن الإِمام أحمدَ، وهي عن الأثباتِ من أصحابهِ عنه، دالَّةٌ دلالةً صَريحةً على أنَّ اللفظيةَ جَهْميةٌ، وهم بمنْزلة المُصرِّحينَ بخَلْقِ القرآنِ. وقد حكى الإِمام أبو عثمان الصابونيُّ في "عقيدتهِ" ما حَكاهُ ابنُ جَرير رحمه الله عن الإِمام أحمد في تَجْهيم اللفظيةِ، ثمَّ قال: "والَّذي حكاهُ عن أحمَدَ رضي الله عنه وأرضاهُ: أن اللَّفظيَّةَ جَهْميةٌ، فصَحيح عنه، وإنَّما قالَ ذلك لأنَّ جَهْماً وأصحابَه صَرَّحوا بخَلْقِ القرآن، ¬

_ (¬29) "مسائل ابن هانىء" 2/ 152. (¬30) رواه ابن جرير في "صريح السنَّة" رقم (31) ومن طريقه ابن الطبري في "السنَّة" 1/ 185، 2/ 355 وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" 1/ 279 - 280 وهو صحيح عنه. (¬31) رواه الخلّال في "السنَّة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 325 - عن أبي بكر به.

والذينَ قالوا باللَّفظ تدَرَّجوا به إلى القَوْلِ بخَلْقِ القرآنِ، وخافوا أهلَ السُّنَّةِ في ذلك الزَّمانِ من التَّصْريحِ بخَلْقِ القرآن، فأدْرَجوهُ في هذا القول ذي اللَّبْس، لِئَلَّا يُعَدّوا في زُمْرَةِ جَهِمٍ الذين هم شياطينُ الإِنس يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُروراً، فذكَروا هذا اللفظَ وأرادوا به أنَّ القرآنَ بلفْظِنا مخلوقٌ، فلذلك سَمَّاهُم أحمدُ رحمه الله جَهْميَّةً، وحُكيَ عنه أيضاً أنه قال: اللَّفظيةُ شَرٌّ من الجَهْميةِ" (¬32). قلتُ: صرّحَتْ نصوصُ الإِمام أحمد السابقةُ بتجهيم اللفظيةِ، لأجْل أنَّهم يعدّون القرآنَ العربيُّ، المَسموعَ المقروءَ المَلفوظَ، المؤلَّفَ من الحُروفِ والكلماتِ، والسُّوِر والآياتِ، مخلوقاً، وقدْ بيَّنَ أحمدُ رحمه الله ذلكَ بقولهِ: "يزعُمُون أنَّ جبريلَ، إنَّما جاءَ بشيءٍ مخلوقٍ" وهذا هو الفَصْلُ في مُرادِ أحمدَ بتجهيم اللَّفظيةِ. ولَمْ يُجَهِّم الإِمامُ أحمد مَن أرادَ باللفظ فِعْلَ القارئِ وصوتَه الذي هو مخلوقٌ، ولِذا أبانَ عن ذلكَ بقولِهِ الذي رَواه عنه ابنُه عبد الله: "كلّ مَن يَقْصِدُ إلى القرآن بلفظٍ، أو غيرِ ذلك، يُريد به مخلوق، فهو جَهميّ" وأبيَنُ منه قولُه: "مَن قالَ: لَفْظي بالقرآنِ مخلوق، يريد به القرآنَ، فهو كافرٌ" (¬33) فاحتَرَز بقوله: "يريدُ به القرآنَ" عن تكفير مَن قال: "لفظي بالقرآن مخلوقٌ" ويُريدُ بهِ حركتَهُ وصوتَه به، لا نفسَ الكلام الملفوظِ المقروءِ، مع أنَّ إطلاقَ هذا اللفظِ فيه إيهامُ القَوْلِ بخَلْقِ الملفوظِ الذي هو كلامُ الله، فوجَب ¬

_ (¬32) "عقيدة السلف" فقرة (16). (¬33) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 266 و"الاعتقاد" ص: 110 عن عبد الله، وإسناده صحيح.

الكَفُّ عنه كلّيةً لأجلِ ذلك. وقد غَلِطَ أقوامٌ على الإِمام أحمد في هذه المسألة، فقالوا عليه ما لَم يقُلْ، وافتَرَوْا عليه القولَ بخَلْقِ القرآنِ العربيّ المنظومِ من الحروفِ العربية الذي نزلَ به جبريلُ على نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، وقد خصَّصْتُ مبحثاً في هذا الفصل لتبرئتهِ ممَّا نُسِبَ إليهِ، وإقامَةِ الحُجَجِ القَواطِع من النقولِ الصحيحةِ عنه على بطلانِ هذه النسبة إليهِ. وقَدْ وافقَ الإِمامَ أحمدَ غيرُه من أئمَّةِ السُّنَّة في زمانه وبعدَه، في إنكار بدعةِ اللفظيةِ النافيةِ، فمنهم: 1 - إسحاق بن إبراهيم بن راهُوَيْه الإِمام العَلَم. قال أبو داود السِّجِسْتانيّ: سمعتُ إسحاق بن إبراهيم سُئلَ عن اللفظية؟ فبدَّعَهم (¬34). 2 - أبو جعفر أحمد بن صالح المِصْريّ الحافظ. قال أبو داود: سمعتُ أحمد بن صالح ذكَرَ اللفظيَّةَ فقالَ: "هؤلاء أصحابُ بِدْعَةٍ، ويدخُلُ عليهم أكثرُ من البدعةِ" (¬35). 3 - أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزُّهْريّ الفَقيه القاضي. أتاه قومٌ فسألوهُ: إنَّ قِبَلنا ببغدادَ رجُلاً يقولُ: لفْظُهُ بالقرآن مخلوقٌ؟ فقال: "يا أهلَ العراقِ، ما يأتينا منكم هَناه، ما يَنْبَغي أن نتلقى ¬

_ (¬34) "المسائل" لأبي داود ص: 271. (¬35) "المسائل" لأبي داود ص: 271.

وجوهَكُم إلاَّ بالسُّيوفِ، هذا كلامٌ نَبَطِىٌّ خَبيثٌ" (¬36). 4، 5 - أبو زُرْعَةَ عُبيد الله بن عبد الكريم، وأبو حاتِم محمد بن إدريس الرازيان إماما الجَرْح والتعديل: قالا: "مَن قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جَهْمي، أو القرآن بلفظي مخلوقٌ، فهو جَهْمي" (¬37). 6 - حرب بن إسماعيلَ الكَرْمانيّ (فقيهٌ ثَبْتٌ، من خِيارِ تلاميذ أحمدَ). قال: "إنَّ الحَقَّ والصَّوابَ الواضحَ المستقيمَ الذي أدرَكْنا عليه أهل العلْم أنَّ مَنْ زعَمَ أنَّ ألفاظَنا بالقرآنِ وتلاوَتنا، مخلوقةً، فهو جَهْميٌّ مُبْتدعٌ خَبيثٌ" (¬38). وساقَ الإِمامُ أبو القاسِم هِبَةُ الله بن الحَسَنِ اللَّالكائيّ أكثَرَ من خمسينَ نَفْساً متقاربي الطبقةِ، فيهم جَمْعٌ من الأئمَّة المُقتدى بهم (¬39) أنهم ¬

_ (¬36) رواه ابن أبي حاتم -كما في "السنَّة" لابن الطبري 2/ 357 - بسند جيد عنه. (¬37) رواه ابن الطبري في "السنَّة" 1/ 179 بسند صحيح عنهما. (¬38) ذكره ابن أبي حاتم عنه -كما في "السنة" لابن الطبري 2/ 353. (¬39) قال شيخ الإِسلام: "وهذا محفوظٌ عن الإِمام أحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي مصعب الزهري، وأبي ثور، وأبي الوليد الجارودي، ومحمد بن بشّار، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقي، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدَني، ومحمد بن يحيى الذُّهْلي، ومحمد بن أسلمَ الطوسيّ، وعددٍ كثيرٍ لا يُحصيهم إلاَّ الله من أئمة الإِسلام وهُداته" (مجموع الفتاوى: 12/ 421). =

قالوا: من قالَ لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو بمنزلةِ من قالَ: القرآنُ مخلوقٌ، وقالوا: هذه مقالَتُنا، ودينُنا الذي نَدِينُ الله به (¬40). ثمَّ ساق نصوصَ بعض الأئمَّةِ، ثمَّ قالَ: "فرجَعَ كلامُ لهؤلاءِ الأئمَّةِ رضي الله عنهم في أنَّ القرآنَ مَسموعٌ من الله على الحقيقةِ، وحينَ يقرأهُ القارىءُ فلا يكونُ من لفظِ القارىءِ القرآنُ ككَلام الآدَميينَ حينَ يَلْفِظُ بهِ فيكون مخلوقاً، وكلامُ الله لا يَشْبَهُ كلامَهم لأنه غيرُ مخلوقٍ، فكذلك يُخالفُهُ في القِراءةِ" (¬41). قلتُ: وقد رُوي إنكارُ اعتقادِ اللفظية عن إمام السُّنَّةِ محمد بن إدريس الشافعيّ، لكنْ بإسنادٍ فيه نَظَرٌ، ولا أحسَبُ ذلك كان إلاَّ في طبقةِ تلامذتهِ، كالإِمام أحمد وأقرانِهِ من الأئمَّة، فأنكروهُ وشدَّدوا فيه. ولِذا قال الإِمام محمَّد بن جَرير الطبريُّ: "وأمَّا القولُ في ألفاظِ العباد بالقرآنِ، فلا أثرَ نَعْلَمُهُ عن صَحابِيّ مَضى، ولا عَن تابعيّ قَفا، إلاَّ عَمَّن في قولِه الشِّفا والغَناءُ، وفي اتّباعِهِ الرُّشْدُ والهُدى، ومَنْ يقومُ لَدَيْنا مقامَ الأئمَّة الأولى، أبي عبد الله أحمد بن محمَّد بن حَنبل". ¬

_ = وذكر ذلك الإِمام قِوام السُّنْة إسماعيل بن الفضل عن جَمْع كبير من الأئمة ابتداءً بأحمد بن حنبل وانتهاءً بأبي عبد الله بن مَنْدَه، وقال عقب ذلك: "فمذهبهم ومذهب أهل السنَّة جميعاً أنَّ القرآن كلام الله آيةً آيةً، وكلمةً كلمةً، وحرفاً حرفاً، في جميع أحواله، حيث قُرِىء، وكُتِبَ، وسُمِعَ" (الحجة: ق 92/ ب - 93/ أ. (¬40) كتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة" 2/ 349 - 351. (¬41) "السنَّة" 2/ 353 - 354.

ثمُّ ساقَ قولَه الذي ذكرتُهُ آنفاً برقم (7) وقولًا آخر بمَعناه، ثمَّ قال: "ولا قوْلَ عندَنا في ذلك يجوزُ أن نقولَه غيرُ قولِه، إذْ لَمْ يكن لنا إمامٌ نأتمُّ به سِواه، وفيه الكفايةُ والمَقْنَعُ، وهو الإِمامُ المتَّبَعُ" (¬42). قلتُ: وقد سُقْتُ من نُصوصِهِ ما فيه الكفايَةُ والهِدَايَةُ لِذَوي البَصائر. قال الحافظُ أبو بكرٍ الآجُرّيُّ: "احذَروا رحمكم الله تعالى هؤلاء الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، هذا عندَ أحمدَ بن حنبل ومَنْ كانَ على طريقته منكَرٌ عظيمٌ، وقائلُ هذا مبتدِعُ، يُجْتَنَبُ، ولا يُكَلَّمُ، ولا يُجالَسُ، ويُحَذَّرُ منه الناسُ" (¬43). وقالَ شيخ الإِسلام: "أنْكَرَ بدْعَةَ اللفظيةِ الذينَ يقولونَ: إنَّ تلاوةَ القرآنِ وقراءَتَه واللفظَ به مَخلوقٌ، أئمّةُ زمانِهم، جَعَلوهُم من الجهميةِ، وبيّنوا أنَّ قولَهم يقتضي القولَ بخَلْقِ القرآنِ، وفي كثير من كلامِهم تكفيرُهُمْ" (¬44). • • • • • ¬

_ (¬42) رواه ابن الطبري 1/ 185، 2/ 355 بسند صحيح عنه، وهو في "صريح السنَّة" له رقم (30 - 33). (¬43) "الشريعة" ص: 89. (¬44) "مجموع الفتاوى" 12/ 421.

المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية

المبحث الثالث: إقامة الحجة على بطلان اعتقاد اللفظية النافية تبيَّنَ لكَ ممَّا سبَقَ توجيهُ وصْفِ الأئمَّةِ أحمَدَ وغيرهِ لِلَّفظيةِ النافية القائلينَ: ألفاظُنا بالقرآن، وتلاوتُنا له مخلوقةٌ. وذلكَ أنَّهم يُفرِّقونَ بين القراءةِ والمقروءِ، والتلاوةِ والمتلوّ، ويُطلقونَ ذلك، ويقولونَ: التلاوةُ والقراءةُ مخلوقةٌ، وليسَ مُرادُهم فِعْلَ العبْدِ وحَرَكَتَه وصَوْتَه، وإنَّما يُدْخِلونَ في ذلك الكلامَ العربيَّ المؤلَّفَ من الحُروفِ والكلماتِ، والسُّورِ والآيات، فهو عندَهم مخلوقٌ، وجبريلُ أتى بشيْءٍ مخلوقٍ، والمقروءُ والمَتلو عندَهم هو المعنى المُعبّر عنه بهذه الحُروفِ العربيةِ، وهذه الحروفُ مخلوقةٌ، واختلفوا أينَ خُلِقَتْ -كما سيأتي في الرد على الأشعرية في الباب الثالث-. فعندهم هذا القرآنُ الذي يتلوهُ الناسُ بألسنَتِهم وأصواتِهم مخلوقٌ، ليسَ مُنزلاً من الله، وليسَ هو الذي تكلَّم به. وهذه العقيدةُ مُنافيةٌ لِما قرّرناه في الباب الأول من اعتقاد السَّلَف، وهي متضمِّنةُ التكذيبَ بما أنزلَ الله على رسولِه، كتضمُّنِ ذلك عقيدة الجَهْمية المُصرّحينَ بخَلّقِ القرآن.

وإني ذاكرٌ بحَوْلِ الله وقوَّتهِ الحُجَّةَ الدّامِغَةَ لقَوْلِ هؤلاءِ المُبْطلينَ، فأقولُ: قَدْ قامَت الدلائلُ من كتاب الله المعصوم الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بين يَدَيْه ولا من خَلْفِه، على أنَّ الله تعالى تكلَّمَ بهذا القرآنِ العربيّ، وليسَ هناكَ قرآنٌ سِواه، تكلَّمَ الله تعالى به بلفظهِ ومَعناه، وسَمِعَهُ منه جبريلُ عليه السَّلام، وبلَّغَهُ كما سَمِعَهُ إلى محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، وبلَّغَه محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-كما سَمِعَهُ، إلى أمَّتهِ، وذلكَ من وُجوهٍ: الوجه الأوَّل: قالَ الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 98 - 103]. دلَّت الآياتُ على ما ذكَرْنا من وُجوهٍ: الأول: قولُه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} القرآنُ: اسمٌ للنَّظمِ العربيّ المَسطور بينَ الدّفّتين، المُوعى في قلوب الحفّاظِ، المَلفوظِ بألسنة القُرّاءِ المؤلَّفِ من الحُروف كالألفِ والباءِ والجِيم، وهذا ممَّا لا خلاف فيه. والثاني: القراءةُ إنَّما تقعُ لألفاظِهِ وكلماتهِ، لا لمَعانٍ مجرّدةٍ، فإنَّ

المعنى المجرَّدَ لا تُتَصَوَّرُ قراءَتهُ كما لا يخفى. والثالث: الذي تُبَدَّلُ منه آيةُ مكانَ آيةٍ هو القرآنُ, لأنَّه هو المؤلَّفُ من الآياتِ، وهذا يسلِّمُ به اللفظيةُ. والرابع: قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} أثبتَ مُنْزِلاً وَمُنْزَلاً به، والمُنْزِلُ هو الله كما هو ظاهِر، وفِعْل التَّنزيلِ مُضافٌ إليه كما هو صَريحُ الآية، وقد مَرَّ بكَ أنَّه تعالى لَمْ يُضِفْ شيئاً من الإِنزالِ إلى نفسهِ إلاَّ كلامَهُ، والمُنْزَلُ به هو القرآن الذي تُبدَّلُ منه آيةٌ مكان آيةٍ، وهذا لا يَقْدِرُ اللَّفظىُّ على إنكارهِ. والخامس: قوله: {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} الضَّميرُ في قوله: {نَزَّلَهُ} عَائدُ على قولهِ: {بِمَا يُنَزِّلُ}، وقد عَلِمنا أنّه القرآن، فأثبتَ أنَّ روحَ القُدُسِ نزَّلهُ من الله، فكان مَسموعاً له منه، متلقّىً عنه، وروحُ القدس هو جبريلُ، وقد بيّناه آنفاً. فالذي نَزَلَ من الله تعالى هو الذي نَزَل به رُوحُ القُدُس، ولم يُضِفْ إلى رُوح القُدُسِ شيئاً من فعلِهِ سوى التَّنْزيل له من ربّ العالمينَ. والسادس: المُرادُ من هذا السياق للآيات إثباتُ أنَّ هذا القرآنَ ليس من افتراءِ بشرٍ، والرَّدُّ على الكُفَّارِ قولَهم: {يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}، وأرادوا رجلاً أعجَمياً، فكذَّبَ الله مقالَهم، ودحَضَ باطِلَهم، فقالَ: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، واللّسانُ: اللغة، واللُّغةُ: إنَّما هي ألفاظٌ مركَّبةٌ من الحُروفِ، وهذا ممَّا لا يُخْتَلَفُ فيهِ، فأقامَ الله الحُجَّةَ على الكفَّار وأبْطَلَ دَعواهم، بأنَّ صاحِبَهم الذي ادَّعوا أنَّ رسولَ الله

-صلى الله عليه وسلم- يتعلَّمُ منه القرآن أعجَميٌّ، وهذا كلامُ عربيٌّ، فأنَّى له أنْ يُعَلَّمَهُ معَ عُجْمَتِهِ، ولو كانَ إنَّما تأتيهِ مَعانٍ مُجرَّدةٌ لأمْكَنَ الأعجميَّ أنْ يُعَلِّمَهُ المَعانيَ، ولكنَّه إنَّما كان يأتيهِ القرآنُ العَربيُّ. وأشارَ بقوله: {وَهَذَا لِسَانٌ} إلى حاضِرٍ، وهو القرآن الذي هو تنزيلُه الذي نزلَ به جبريلُ، فأقامَ الله الحُجَّةَ على الكُفَّار بكَوْنِ هذا اللسانِ العربيّ كلامَهُ، ومحمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- مُبَلِّغٌ، وجبريلٌ عليه السلام مُبَلِّغٌ، ليس لهما وظيفةٌ إلاَّ هذهِ. والوجه الثاني: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114]. دلَّت الآيةُ على ما ذكَرْنا من وُجوهٍ: الأوَّل: الكتابُ المُفَصَّلُ هو القرآنُ العربيُّ بلا خِلافٍ. وفي وصفهِ بـ (الكتاب) دليلٌ قاطعٌ على أنَّه القرآنُ المؤلَّفُ من الحروفِ العربيةِ، ولو كانَ معانيَ مجرَّدةً لما صَحَّ وصفه بـ (الكتاب) لأنَّه أرادَ بالكتاب: المكتوبَ (¬45)، والمَعنى المجرَّدُ لا يُكْتَبُ حتى يؤلّفَ حُروفاً منظومةً، وتَسميةُ القرآنِ كلام الله بـ (الكتاب) جاءَت في مواضِعَ كثيرة من ¬

_ (¬45) وقد يرادُ بالكتاب ما يكتَبُ فيه، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] فالكتابُ هنا ليسَ هو القرآن نفسه، وإنَّما هو ما كُتِبَ فيه القرآن، وحينئذ لا يُراد به الكلام نفسه، وهذا توضحه القرينة، ومثله لا يخفى.

القرآنِ، ولا فَرْق بين تسميتهِ بـ (القرآن) أو بـ (الكتاب) وكلُّ ذلك كلامُ الله تعالى وقولُه، قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]، فسمَّاه قُرآناً وكتاباً، والذي يُسمَع إنَّما هو القرآنُ الذي هو الكلامُ المؤلَّفُ من الحُروفِ والمَعاني. قال شيخُ الإِسلام: "الكتابُ عند مَن يقولُ: إنَّ كلام الله هو المعنى دون الحروفِ اسمٌ للنَّظم العَربيّ، والكَلام عندَه اسمٌ للمعنى، والقرآن مُشْتَرِك بينهما، فلفظ (الكتاب) يتناوَلُ اللفظَ العربيَّ باتّفاق الناسِ، فإذا أخبرَ أنَّ {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ} عُلِمَ أنَّ النظمَ العربيَّ مُنْزَلٌ من الله، وذلك يدلُّ على ما قالَ السَّلفُ: إنَّه منه بدَأ، أي: هو الذي تكلَّم به" (¬46). والثاني: جَعَلَ تعالى إنزالَ الكتابِ مفصَّلاً فِعْلاً مُضافاً إلى نفسِهِ. والثالث: أثْبَتَ أنَّ تنزيلَه منه -عَزَّ وَجَلَّ- لا مِن غيره، فدلَّ على أنَّ ابتداءَه منه. والرابع: أخبرَ أنَّ أهلَ الكتاب يعلَمونَ أنَّه تنزيلُه وأنَّ ابتداءَه منه، والعلمُ يفيدُ اليقينَ المُنافيَ للجَهْلَ والظَّنِّ والشَّكِّ والرَّيْبِ، وأقرَّ تعالى علمَهُم هذا ولَمْ يُنْكِرْهُ، بل وَكَّده بقولهِ: {فَلَا تَكُونَنَّ مَنَ المُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] فدَلَّ على أنَّه حَقٌّ، ولو كانَ ما عَلِموهُ باطلاً، وأنَّ القرآنَ من غيره بدأ لا منه، لَما أقرَّهُم تعالى على ذلك. ¬

_ (¬46) "مجموع الفتاوي" 6/ 544.

وأشارَت الآيةُ إلى أنَّ أهلَ الكتاب الذين يعلَمونَ أنَّ هذا القرآنَ العربيَّ مُنَزَّلٌ من الله تعالى لا مِنْ بعضَ خَلْقِهِ خيرٌ وأفضَلُ من اللَّفْظِيةِ الذين يقولون: هذا الكتابُ العربيُّ مخلَوقٌ، كما أنَّهم أفضَلُ من سائرِ الجهمية القائلينَ بخَلْقِ القرآن. والوجه الثالث: حين سمّاهُ المشركونَ شِعراً، لم يُريدوا بهذه التسميةِ إلاَّ لهذا القرآنَ العربيَّ المؤلّف من الحُروفِ العربيَّةِ، فكذَّبَ الله تعالى دعواهُم، كَما قالَ تعالى: {وَمَا عَلمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينُ} [يس: 69]. قال الإِمام أبو محمَّد بن قُدامَة: "فلمَّا نفى الله عنه أنَّه شِعْرٌ وأثبتَه قرآناً لم يبقَ شُبْهَة لِذي لُبٍّ في أنَّ القرآنَ هو هذا الكتابُ العربيُّ الذي هو كَلِماتٌ وحروفٌ وآياتٌ, لأن ما ليسَ كذلك لا يقولُ أحدٌ: إنَّه شِعْرٌ" (¬47). قلتُ: وهذا هو القرآنُ الذي قالَ السَّلَف: إنَّه غيرُ مَخلوق، وقالت الجهميةُ: إنَّه مخلوقٌ. والوجه الرابع: ما تقرَّر في اعتقادِ السَّلَف الذي شَرَحْناه في الباب الأوَّل من كون هذا القرآنِ من الله بَدأ وإليه يعودُ، وقد فصَّلناه بما يُغني عن الإِعادة. والوجه الخامس: إضافةُ هذا القرآن إلى الرَّسولِ البَشري تارةً، وإلى الرَّسولِ المَلَكي تارةً -كما سبق تقريرُهُ في الفصل السابق- وأنَّ معنى ذلك أنَّهما أدّياهُ وبلَّغاهُ، دليلٌ على أنَّهُ قولُ المُبَلَّغِ عنه وكلامُهُ، وهو الله ¬

_ (¬47) "لمعة الاعتقاد" ص: 17.

تعالى. والوجه السادس: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] أضافَ الكلامَ إلى نفسهِ، وأبانَ أنَّه هو الذي يسمَعه الكافرُ المُستجيرُ، والأصْل أنَّ الكلامَ على حقيقتهِ المفهومةِ حالَ إطلاقهِ حتى تَرِدَ القرينةُ التي تَصْرِفُهُ عن المعنى المُتبادر، وكلامُ الله هنا هو القرآنُ لا غيرُهُ، والكلامُ كما قرَّرناه في الباب الأول اسمٌ لِلَّفظ والمعنى جميعاً، فدلَّ هذا إذاً على أنَّ الذي يسمعهُ المشركُ المُستجيرُ هو كلام الله على الحقيقةِ، وكلامُهُ تعالى غيرُ مخلوقٍ. والوجه السابع: إطباقُ جَميع أهل الإِسلام على أنَّ القرآنَ العربيَّ كلامُ الله تعالى لا كلامُ غيره، منه بدَأ بألفاظهِ وحُروفِه لا من غيره، وأنَّه ليس لله قرآنً سِواهُ، هو الذي بلَّغَهُ رسُولُ الله محمَّد -صلى الله عليه وسلم- عن جبريلَ، وجبريلُ عليه السَّلام عن ربّه تعالى، لم يتقوَّلْ منه جبريل ولا محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حَرْفاً ولا كلمةً، كيفَ وهما أمِيناهُ على وَحْيِهِ، و {اللهُ أَعْلَمٌ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. والوجه الثامن: يلزَمُ اللَّّفظيةَ ما لَزِمَ القائلينَ بخَلْقِ القرآن مطلقاً أنَّه لو كانَ القرآنُ العربيُّ المَلفوظُ بالألفاظ العَربيةِ مخلوقاً، فأين خُلِقَ؟ إذْ لا بدَّ أن يكونَ مخلوقاً في مَحَلٍّ، كسائر المَخلوقات، فإذاً يصيرُ صفةً للمَحَلِّ الذي خُلِقَ فيه، لا صِفةً لله، ويكونً حينئذٍ كلاماً للمَحَلِّ الذي خُلِقَ فيه، لا كَلاماً لله تعالى، وهذا كُفْرٌ بَيِّنٌ، والعَجيبُ أن يكونَ هذا الوجهُ ممَّا يُحاجِجُ به اللفظيَّةُ الجَهميَّةَ. فهذه بعضُ الوجوه المُبْطلةِ لاعتقادِ اللَّفظِيَّة، ويَرِد عليهم أكثرُ من

ذلك، ولكنَّ الحُجَّةَ تقمُ ببعضهِ. فمن تأمَّل هذه الحقائقَ التي ذكَرْتُ وما يشبهها، بانَ له صِحَّةُ وصفِ اللفظية القائلينَ بأنَّ ألفاظَنا بالقرآن مخلوقةٌ، بالجَهمية. والسَّلَفُ والأئمةُ حينَ كفَّروا مَن قالَ بخَلْق القرآنِ، إنَّما كفّروا من قالَ بخَلْقِ القرآنِ الذي بين دَفّتَي المُصْحَف، المَسْطور فيه، الملفوظِ بالألسنةِ، المؤلَّفِ من الحُروفِ العَربيةِ، ولا يَعْرِفُ السَّلَفُ والأئمةُ هذا التفريقَ المُبْتَدَعَ الذي ظَهَرَتْ به اللَّفظيَّةُ النافيةُ، فليسَ عندهم القرآنُ سِوى هذا القرآنِ العربيّ، وهو كَلامُ الله تكلَّمَ به على الحقيقةِ. وهذه بعضُ النُّصوصِ البيّنةِ الموضحَةِ لِما ذكرتُهُ عنهم: 1 - عبد الله بن المبارك (الإِمام الحُجَّة). إنَّه قرأ ثلاثينَ آيةً من (طه) فقال: "مَنْ زَعمَ أنَّ هذا مخلوقٌ فهو كافِرٌ" (¬48). قلتُ: وهذه عند اللفظية ألفاظٌ مَخْلوقةٌ. 2 - إمام السُّنَّة أحمد بن حنبل. قال أحمد بن سعيد الدارميُّ: قلتُ لأحمدَ بن حنبل: أقولُ لكَ قَولي، وإنْ أنكرتَ منه شيئاً فقُلْ: إني أنْكِرُهُ، قلتُ له: نحنُ نقولُ: القرآنُ كلامُ الله من أوَّله إلى آخِره، ليسَ منه شيءٌ مخلوقٌ، ومَنْ زعَمَ أنَّ شيئاً منه ¬

_ (¬48) أخرجه ابن الطبري رقم (427) بسند لا بأس به, ومعناه عند الآجري في "الشريعة" ص: 79 من طريق أخرى عنه.

مخلوقٌ فهو كافرٌ، فما أنكرَ منه شيئاً ورضِيَهُ (¬49). قلتُ: واللَّفْظية يقولونَ: كلامُ الله ليسَ له أوَّلٌ ولا آخِرٌ، ولا يَتَجزأ، وهو غيرُ القرآنِ العربيّ، والقرآنُ العربيّ، إنَّما هو عِبارةٌ عنه أو حِكايةٌ. وقال الإِمام أحمدُ: "نحنُ لا نحتاجُ أنْ نشُكَّ في هذا القرآن عندَنا، فيه أسماءُ الله، وهو من عِلْمِ الله، فمَن قال لنا: إنَّه مخلوقٌ , فهو عندَنا كافِرٌ" (¬50). قلتُ: وهذا النصُّ نقلَه أبو الحَسن الأشعريُّ عنه في "الإبانة" وهو من الحُجَّةِ على الأشعرية من غير وجْهٍ، سأذكرها في الردّ عليهم. وقال الإِمام أحمدُ: "على كُلّ حالٍ من الأحْوَالِ القرآنُ كلامُ الله غير مخلوقٍ" (¬51). وهذا كقوله: "القرآنُ كلامُ الله حيثُ تَصَرَّفَ" (¬52). قلتُ: يعني على كُلّ حالٍ، مكْتوباً، ومَسْموعاً، ومَتلوّاً، ومَحفوظاً. والنقل عن أحمَدَ في هذا المعنى يعسُرُ إحصاؤهُ، وفي النصوصِ التي سُقْتُها عنه في هذا الباب والذي قبلَه كفايةٌ لمَن أرادَ الهداية. 3 - إسحاق بن إبراهيم بن راهُوَيْهِ الإِمام الفَقيه. ¬

_ (¬49) رواه ابن أبي حاتم -كما في "طبقات الحنابلة" 1/ 46 - بسند صحيح عنه. (¬50) "الإِبانة" للأشعري ص: 71. (¬51) رواه ابن هانئ في "المسائل" 2/ 158 عنه به. (¬52) سيأتي هذا النص قريباً في قصة أبي طالب في "المبحث الخامس" من هذا الفصل.

قال: "ليسَ بينَ أهل العِلْمِ اختلافٌ أنَّ القرآنَ كلامُ الله ليسَ بمخلوقٍ، فكيفَ يكونُ شَيْءٌ خَرَجَ من الرَّبِّ -عَزَّ وَجَلَّ- مَخْلوقاً؟ " (¬53). قلتُ: واللفظيةُ يقولون: كلامُ الله ليسَ بخارج منْهُ، والقُرآنُ بدأ من غيرهِ تعالى. 4 - يحيى بن يحيى النَّيْسابوري الثِّقَة الثَّبْت. قال: "مَن زَعمَ أنَّ مِنَ القرآن مِن أوَّله إلى آخرهِ آيةٌ مَخلوقةٌ فهو كافِرٌ" (¬54). قلتُ: واللفظيةُ يقولون: ما تألَّفَ من الآياتِ هو النظمُ العربيُّ، وهو مَخلوقٌ. 5 - محمد بن أسْلَم الطُّوسيْ الثِّقَة الحافِظ. قال: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، أينَما تُلِيَ، وحيثُما كُتِبَ، لا يتغيّرُ، ولا يتَحوَّلُ، ولا يتبدَّلُ" (¬55). قلتُ: إنَّما يُكْتَبُ وَيُتلى هو القرآنُ العربيّ المَجيدُ. 6 - أبو جعفر محمد بن جَرير الطَّبريّ الإِمام المُجْتهد. ¬

_ (¬53) أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "العلو" للذهبي ص 132 - بسند صحيح عنه. (¬54) أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "العلو" للذهبي ص: 123 - بسند صحيح عنه. (¬55) أخرجه ابن أبي حاتم -كما في "العلو" للذهبي ص: 140 - بسند صحيح عنه.

قال في عقيدتِه: "أوَّلُ ما نبدأ بالقولِ فيه من ذلك كَلَامُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتنزيلهُ, إذ كانَ من مَعاني توحيدِهِ، والصَّوابُ من القَوْلِ في ذلك عندَنا: أنَّه كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وكيفَ كُتِبَ، وكيفَ تُلِيَ، وفي أيّ موضِعٍ قُرِئ، في السَّماءِ وُجِدَ، أو في الأرضِ حُفِظَ، في اللوحِ المَحفوظِ كانَ مكتوباً، أو في ألواحِ صِبيان الكَتاتيب مَرْسوماً، في حَجَرٍ نُقِشَ، أو في رَقٍّ خُطَّ، في القَلْبِ حُفِظَ، أو باللسانِ لُفِظَ، فَمَنْ قالَ غير ذلكَ، أو ادّعى أنَّ قرآناً في الأرضِ، أو في السَّماءِ، غيرُ الذي نتلوهُ بألْسِنَتِنَا، ونكتُبهُ في مَصاحِفِنا، أو اعتقَدَ ذلكَ بقلبهِ، أو أضْمَرهُ في نفسِهِ، أو قالَه بلسانِهِ دائناً به، فهو بالله كافرٌ، حَلالُ الدَّمِ، وبَرِيءٌ من الله، والله بَريءٌ منه، يقولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] وقالَ -وقولُه الحقّ-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فأخْبَرَ الله جَلَّ ثَناؤُه أنَّهُ في اللَّوْح المَحْفوظِ، وأنَّهُ من لسانِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- مَسْموعٌ، وهو قُرْآنٌ واحدٌ، مِن محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مَسْموعٌ، وفي اللَّوحِ المَحْفوظِ مكتوبٌ، وكذلكَ هو في الصُّدورِ مَحْفوظٌ، وبألسُنِ الشيوخ والشُّبانِ مَتْلوٌّ، فمَن رَوى علينا أو حَكى عنَّا، أو تقوَّلَ علينا، أو ادّعى أنَّا قُلْنا غيرَ ذلك، فعلَيْه لعنةُ الله وغضَبُهُ، ولعنَةُ اللاعنينَ والملائكةِ والناسِ أجْمعينَ، لا يَقْبَلُ الله منه صَرْفاً ولا عَدْلاً، وهَتَكَ سِتْره، وفضحَهُ على رُؤوسِ الأشهادِ، يَوْمَ لا تنفَعُ الظالمينَ معذرتُهم ولهم اللَّعْنةُ ولهم سوءُ الدَّارِ" (¬56). ¬

_ (¬56) أخرجه ابن الطبري في "السنَّة" 1/ 184، 2/ 359 - 360 بسند صحيح عنه، وهو في "صريح السُّنَّة" له رقم (12 - 14).

7 - القاضي الإِمام أبو بكر أحمد بن كامل البغداديّ (إمامٌ حافظٌ مُتَجَرِّدٌ، تلميذُ ابن جَرير). روى عن ورّاقِ داود الأصبهاني إمام أهْلِ الظاهر قول داود في القرآن، قال: سُئل عن القرآن؟ فقال: "القرآنُ الذي قالَ الله تعالى {لَا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} وقَال: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} غيرُ مخلوقٍ، وأمَّا الذي بينَ أظهُرِنا يمسُّهُ الحائِضُ والجُنُبُ فهو مخلوقٌ". فقال القاضي أحمدُ بن كامل: "هذا مذهبٌ يذهبُ إليه الناشئُ المتكلِّمُ (¬57)، وهو كُفْرٌ بالله، صَحَّ الخَبرُ عن رسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه نهى أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرضِ العدوّ، مخافةَ أنْ ينالَه العدوُّ، فجعلَ -صلى الله عليه وسلم- ما كُتِبَ في المصاحفِ والصُّحُفِ والألواح وغيرها قرآناً، والقرآن على أي وجْهٍ قُرِىءَ، وتُلِيَ فهو واحدٌ غيرُ مَخلوقٍ" (¬58). قلتُ: فتأمَّل رحمكَ الله هذا الحكمَ على قولِ داودَ، وداود أخَفُّ بكثير من اللفظية الكُلاّبيةِ والأشعرية، وذلك أنه كانَ يعتقدُ أنَّ هناك قرآناً مكتوباً في اللَّوْح غيرَ مَخْلوقٍ، والذين جاؤوا من بَعْدُ مِنَ اللفظية يقولونَ: ليسَ لله كلامٌ إلاَّ ما في نفسهِ، وهذا القرآنُ خلَقَهُ الله في اللَّوْحِ المَحفوظِ أو في غيرهِ، فجعَلوا ما في اللَّوْحِ مخلوقاً، وهذا أدهى من قولِ داود. وسيأتي مزيدٌ في شَرْح اعتقادهم في الباب الثالث. ¬

_ (¬57) هو أبو العباس عبد الله بن محمد بن شرشير، كان متكلّماً من رؤوس الجهمية المعتزلة. (¬58) أخرجه ابن الطبري 2/ 360 - 361 والخطيب في "التاريخ" 8/ 374 بإسناد صحيح إلى أحمد بن كامل.

8 - الحافظ الإِمام عبد الله بن محمد بن جَعفر أبو الشَّيْخ الأصبَهانيُّ: قال: "إنَّ القرآنَ كلامُ الله تكلَّمَ به، فيه أمرُهُ ونَهْيُه ووعدُهُ ووعيدُهُ، وذِكْرُ رحْمَتِهِ ونِقْمَتِهِ، وعذابهِ وسَخَطهِ، وذكْرُهُ النَّعيمَ والمِنَنَ، والأهوالَ والشَّدائدَ، في التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، بقولِهِ الصَّادقِ، وعِلْمِهِ النافذِ، ومشيئتهِ السَّابقةِ، وحُجَّتهِ البالغةِ، وذكْرُ سُلطانِهِ الدَّائم، وليس منها شيْءٌ مَخلوقٌ، لأنَّها كلَّها قَولُه من علْمهِ الأزليّ، من أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ كلامُ الله غيرُ مَخلوقٍ، فالمُنْكِرُ فيه كالشَّاك، والشَّكُّ والإِنكارُ فيه كفرٌ، فالمُنكِرُ الجهميُّ، والشَّاكُّ الواقفيّ، وهوكلامُه في الأحوالِ كُلِّها، حيث تُلِيَ وتصرَّف، في الدَّفَّتين، وبين اللَّوحين، وفي صدورِ الرجالِ، وحيثُ ما قُرئ في المَحاريب وغيرِها، وحيثُ ما سُمِعَ، أو حُفِظَ، أو كُتِبَ، أو تُلِيَ، منه بَدَأ وإليه يعودُ، ومَن زعَمَ أنَّ القرآنَ أو بعضه، أو شيئاً منه مخلوقٌ، فلا يُشَكُّ فيه عندَنا، وعندَ أهل العلْمِ من أهل السُّنَّة والفضْلِ والدِّين أنَّه كافِرٌ كُفْراً يُنْقَلُ به عن المِلَّةِ، ومَن زعَمَ أنَّ القرآنَ كلامُ الله ووقَفَ، ولم يقُلْ: غيرُ مخلوق، فهو جَهْميٌّ، أخبثُ قولاً من الأول وشرٌّ منهُ، ومَنْ قالَ: لا أقولُ: مخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوقٍ، فهو جَهميٌّ، ومَنْ شكَّ في كُفْر مَنْ قال: القرآنُ مخلوقٌ، بعد علمهِ، وبعدَ أنْ سَمِعَ من العلماءِ المَرْضيينَ ذَلك، فهو مثلُهُ، ومَن وقفَ عند اللَّفظِ فهو واقفيٌّ، ومَن وقفَ عند القرآن فهو جَهْميٌّ" (¬59). وقالَ رحمه الله: "فجبريلُ سَمِعَه من الله تعالى، والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سمعَهُ ¬

_ (¬59) أورده عنه قِوام السنَّة إسماعيل بن الفضل في "الحجة" ق 47/ ب - 48/ أبسند صحيح إليه.

من جبريلَ عليه السَّلام، وأصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ورضِيَ عنهم سَمِعوا من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثمَّ الأوَّلُ فالأوَّلُ هَلُمَّ جَرّاً إلى يومِنا هذا، وبعدَنا يكونُ كما كَانَ قبلَنا، وهو كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن زعَمَ أنَّ القرآن أو بعضه مخلوقٌ، أو شَيْء منه في حالةٍ من الحالاتِ بجهةٍ من الجهاتِ، فقد زعَمَ أنَّ جبريلَ سَمِعَ من الله مخلوقاً، وأدَّى إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مخلوقاً وأدَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى أمتِهِ مخلوقاً" (¬60). 9 - الإِمام الحافظ أبو عثمان الصَّابونيُّ. قال: "ويَشْهدُ أصحابُ الحديثِ ويعتقِدونَ أنَّ القرآنَ كلامُ الله وكتابُه وخطابهُ ووحيهُ وتنزيلُهُ غيرُ مخلوق، ومَن قال بخَلْقِهِ واعتقده فهو كافرٌ عندهم، والقرآنُ الذي هو كلام الله ووحيُهُ هو الذي ينزل به جبريلُ على الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- قرآناً عربياًص لقوم يعلَمون بَشيراً ونذيراً، كما قال عزَّ من قائل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195]، وَهو الذي بلَّغهُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- أمَّتَه كما أمِرَ به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبكَ} [المائدة: 67]، فكان الذي بلَّغَه كلامَه -عَزَّ وَجَلَّ-، وفيه قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أتَمنعوني أنْ أبلّغَ كلامَ ربي؟ " (¬61) وهو الذي تحفَظُهُ الصُّدُورُ، وتتلوهُ الألسنةُ، ويُكْتَبُ في المَصاحفِ، كيفَ ما تصَرَّفَ: بقراءةِ قارىءٍ, ولفظِ لافظٍ، وحفظِ حافظٍ، وحيثُ تُلِيَ، وفي أيّ مَوْضِع قُرىءَ، أو كُتِبَ، في مصاحفِ أهل الإِسلام وألواحِ صبيانهم، وغيرها، كلامُ الله جلَّ ¬

_ (¬60) أورده عنه قِوام الله السُّنَّة ق 48/ ب بسند صحيح إليه. (¬61) سبق إيراد هذا الحديث في الباب الأول ص: 85.

جلالُهُ، وهو القرآنُ بعينهِ الذي نقولُ: غير مخلوقٍ، فمن زعَمَ أنَّه مخلوقٌ فهو كافرٌ بالله العظيمِ" (¬62). 10 - الإِمام أبو القاسِم هِبَةُ الله بن الطَّبَريّ. قال: "سِياقُ ما دلَّ من الآياتِ من كتابِ الله تعالى، وما رُوي عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، والصَّحابةِ والتابعينَ، على أنَّ القرآنَ تكلَّمَ الله به على الحقيقةِ، وأنَّه أنزَلَهُ على محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وأمَرَه أنْ يتحدَّى به، وأنْ يدعوَ الناسَ إليهِ، وأنَّه القرآنُ على الحقيقةِ، مَتلوٌّ في المَحاريبِ، مكتوبٌ في المَصاحفِ، محفوظٌ في صُدور الرِّجالِ، ليسَ بحِكايةٍ ولا عِبارةٍ عن قرآنٍ، وهو قرآنٌ واحدٌ غيرُ مخلوقٍ، وغيرُ مَجْعولٍ ومربوبٍ، بل هو صفةٌ من صفاتِ ذاتِهِ، لَمْ يزَلْ بهِ متكلِّماً، ومَنْ قالَ غيرَ هذا فهو كافرٌ ضالٌّ مُضِلٌّ مبتدِعٌ، مخالِفٌ لمَذاهبِ السُّنَّةِ والجَماعةِ" (¬63). ثمَّ شرَعَ في سَرْدِ الأدلَّة. قلتُ: فهذه هي العقيدةُ السَّلَفيةُ قبلَ أنْ يَعْرِفَ الناسُ بدعةَ اللفظِ، ولا يَعْرِفُ الناسُ القرآنَ الذي تكلَّم الله تعالى به إلاَّ على هذا التفسير، حتى أدخَلَت الجهميّةُ على الأمَّةِ بدعةَ اللَّفْظِ، ليُطْفِئوا بها نورَ العقيدةِ المرضِية التي كان عليها خيرُ الناسِ من بَعْد رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، أصحابُه فمَن بعدَهم من أئمةِ الهدى، حتى عَهْدِ إمامِ السُّنَّةِ رافعِ رايتِها، وعدوّ البدعةِ وكاشفِ سوأتها، الإِمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فكانَ لها ¬

_ (¬62) رسالته في "السنَّة" أو "اعتقاد السلف" نص: 6. (¬63) "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" 2/ 330.

وإخوانُه بالمِرْصادِ، كما وقفَ لهم حين صرَّحوا بخلق القرآنِ، فبدَّدَ ظلامَها بنور الكتابِ وهدي خير الأنام، فعَقَلَ كلامَه من عقَلَه فنفَعَهُ الله، وكانَ على هدًى مستقيم، وعَمِيَت بصائرُ أقوام فضلّوا عن القَصْدِ، وما فَقِهوا مقالَه، فتمكّنتْ منهم الأهواءُ حتى بلغَت منهم الجَهْدَ، وربَّما كانت فيهم رؤوس تُنَّظَرُ أقوالُهم، بسَبب ما فيهم من الزَّهادةِ والعبادةِ، والعلمِ بالفروع وكثيرٍ من الأصول، ولكنَّ الهدى كلّ الهدى أنْ يُتّبعَ السَّلَفُ الكِرام، فإنَّ العبدَ إن التفتَ إلى مَن بعدهم بعدَ دخول الأهواء في الأصولِ والفروعِ، فإنَّه لا يضمَنُ السَّلامة في الدِّيانة، وإنَّما يُعْتَبَرُ العالمُ من الخَلَفِ، بمقدارِ ما يَقْتدِي فيه بالسَّلف. وكلُّ خيرٍ في اتباعِ مَنْ سَلَفْ ... وكلُّ شرّ في ابتداع مَن خَلَفْ والله المستعان ولا حولَ ولا قوة إلاَّ بالله.

المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري

المبحث الرابع: بيان غلط اللفظية النافية على الامامين أحمد والبخاري • بيان غلطهم على الإِمام أحمد بن حنبل رحمه الله: لقد عرّفتُكَ حُكْمَ الِإمام أحمد رحمه الله تعالى فيمن يقول: (لفظي بالقرآن مخلوقٌ) وشرَحْتُ ذلك من وجوهٍ كثيرةٍ عنه، ممَّا لا يدعُ مجالاً للشكِّ صحَّةِ قولهِ فيهم. ولكن لمَّا كان من أمرهِ في الفتنة ما كانَ، ممَّا رفعَ الله به شأنَهُ، صارَ الانتسابُ إلى عقيدتِه سلامَةً، والحَيْدُ عنها بدعةً، وعلامَةُ السُّنّي اتباعَ عقيدةِ أحمد، وعلامةُ المُبتدع تركها, لذا صارَكلُّ من أتى بعدَه من طوئفِ أهل القبلةِ يفخَرُ بالانتساب إليه في الاعتقاد، ويعتَصِمُ به، وكلُّ طائفةٍ صارَتْ تَنْسُبُ إليه اعتقادَها، وتقولُ. هو اعتقادُ أحمدَ بنِ حنبل، فيروجُ ذلك عند مَن لا تمييزَ له ويقبَلُه وينصُرُهُ، ولكنَّ الإِنصافَ في ذلك أنْ تُقيمَ كلُّ طائفة حجَّتَها على صحَّةِ دعواها, ولقد عَلِمْنا من سُنَّةِ السَّلفِ الكرام رحمهم الله أنَّ (الإِسنادَ من الدين) فمن أسندَ فقد برئ، ومَن لا فلا. وليس يشُكُّ الناظرُ في كلام الِإمام أحمد، والمتتبّعُ لطريقتهِ، أنَّه بَريءٌ من البدعِ وأهلِها، فسائرُ هذه الطوائفِ التي تنتسبُ إليه تنصُرُ

عقائدها بأحمد، إما: 1 - بالكذبِ الصَّريح عليه. 2 - أو بنقول عنه لا تثبتُ أسانيدُها. 3 - أو بنقولٍ صحَّتْ عنه، ولكنها مجمَلَة، لم يُوَفَّقوا للوصول إلى معرفة مراده منها. سِوى الطائفةِ المنصورةِ -إن شاء الله- أهل السُّنَّةِ والأثر، التي لا تعرِفُ علمَ الكلام والبِدَع، المُتنزِّهةِ عن الصفاتِ السَّابقةِ التي يتَّصفُ بها المُبتدعةُ، فلا تكْذِبُ عليه، ولا تحتجُّ عنه إلاَّ بما صحَّ إسنادُه، وثبتَ، وظهرَت الدَّلالةُ منه مفسَّرَةً لا لَبْسَ فيها ولا غُموض، وذلك بجَمْع مقالات الإِمام إلى بعضِها، والتوفيق بين ما أشكلَ منها، وضمِّها إلى أقوالِ أسلافهِ وإخوانِهِ من الأئمة الذين لم يُعْرَفوا بالبدع، إن وُجِدت، لِيَصِحَّ لهم حينئذٍ القولُ: اعتقادُنا هو اعتقادُ أحمد بن حنبل، وهو اعتقادُ السَّلَف. وهذا المنهجُ هو الذي سلَكْناه في كتابنا هذا -ولله الحمد والمِنَّة-. والمقصودُ هنا: أنَّ اللفظيةَ النافيةَ انْتَسبوا إلى الإِمام أحمد، ونقَلوا عنه ما ظنُّوهُ مُوافقاً لعقيدتِهم، وتأوَّلوا نصوصَه الصَّريحةَ في إنكارِ مقالَتِهم على ما يوافق أهواءَهم، ونصَروا ذلك من وجوهٍ: الأوَّل: رَوَوا عنه أنَّه يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق". ولهذا ذكره البيهقيُّ في اعتقاد الإِمام أحمد (¬64). ¬

_ (¬64) "مجموع الفتاوى" 12/ 364.

والثاني: رَوَوْا إنكارَه القولَ: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) في قصة أبي طالب وغيره. وقد ساقَ البيهقيُّ القصَّةَ من رواية فُوران عن الإِمام أحمد، وكذا قصة ابن شَدَّادٍ، ثمَّ قال: "فهاتان الحكايتان تُصرِّحان بأنَّ أبا عبد الله أحمد ابن حنبل رضي الله عنه بَريءٌ ممَّا خالَفَ مذهب المحققينَ من أصحابِنا، إلاَّ أنَّه كان يستحبُّ قلَّةَ الكلامِ في ذلك، وتركَ الخَوْضِ فيه، معَ إنكار ما خالَفَ مذهبَ الجَماعةِ" (¬65). قلتُ: أرادَ مذهب اللَّفظيةِ، فإنَّهُ احتجَّ بإنكارِ أحمدَ على أبي طالب وابن شدَّادٍ بأنه كانَ على ضِدَّ قولهما، وأنَّ الصَّوابَ عنده أنَّ اللفظَ بالقرآن مخلوقٌ، فإنَّ هذا هو قول من سمَّاهم المحقَّقينَ من أصحابهم، أمثال أبي الحسَن الأشعريّ ومَن تَبِعَه كابن الباقلاّني وابن فَوْرَك وغيرهم. والثالث: تأوَّلوا ما تواترَ عنه من إنكارهِ على من قال: (لفظي بالقرآن مخلوق) على ثلاثةِ معانٍ: 1 - لأنَّه قولٌ محدَثٌ لم يتكلَّمْ به السَّلَف. 2 - أنَّه أرادَ به الجهميَّ المَحْضَ الذي يزعُمُ أنَّ القرآنَ الذي لم ينزل مخلوقٌ. وهذا قولُ البيهقي فيما حَكاه عنه شيخ الإِسلام (¬66). 3 - أنَّ اللفْظ معناه الطَّرْحُ والرَّمْي، ومنه قولُك: (لفظتُ باللقمةِ) إذا ¬

_ (¬65) "الأسماء والصفات" ص: 266. (¬66) "مجموع الفتاوى" 12/ 364.

طرحتَها وألقيتَ بها، وهذا المعنى لا تجوزُ إضافتُه إلى القرآن. وهذا قول أبي الحسَن الأشعريّ وغيره (¬67). والرابع: وربَّما احتجّ بعضهُم بما رواه فُوران قال: سألني الأثرمُ وأبو عبد الله المُعَيْطي أن أطلبَ من أبي عبدِ الله خُلْوةً،، فأسألَه فيها عن أصحابِنا الذين يُفرّقونَ بين اللفظِ والمَحْكي، فسألتهُ؟ فقال: "القرآن كيفَ تصرّفَ في أقوالِهِ وأفعالِهِ فغيرُ مخلوقٍ، فأمَّا أفعالنا فمخلوقةٌ" قلتُ: فاللفظيةُ تعدُّهم يا أبا عبد الله في جملة الجَهْمية؟ فقال: "لا، الجَهميةُ الذين قالوا: القرآن مخلوق" (¬68). ونَحْن نجيبُ -بتوفيق الله تعالى- عن جميع هذه الظنونِ، فنقولُ: * أمَّا الوجه الأوَّل فهو خطأ ظاهرٌ، وإفكٌ بَيِّنٌ على الإِمام أحمد، يُكَذَّبُه النقلُ المتواترُ عنه من روايةِ خاصَّةِ أصحابهِ وأهلِ بيته، فيما سُقناه آنفاً. ولو كان ذلك من رواية ثِقَةٍ معروفٍ لَكان خطأ بيّناً، إذْ إنَّه يَلْزَمُ من قَبولِهِ رَدُّ الأخبارِ الصَّحيحةِ المُتواترةِ عنه بضدِّ ذلك، وهذا لا يقولهُ عالمٌ، ولا عجَبَ فإنَّ الأهواءَ تصنَعُ بأهلِها ما هو أعْجَب من ذلك. * وأمَّا الوجهُ الثاني فقد أجَبْتُ عنه في المَبْحث الآتي بعدَ هذا، وبيّنتُ أنَّ سببَ إنكارِ الإِمام أحمد لإِطلاقِ (لفظي بالقرآن غير مخلوق) يرجِعُ لسَببين: ¬

_ (¬67) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 362. (¬68) رواه الحاكم -كما في "سير أعلام النبلاء" 11/ 291 - بسند صحيح.

- أحدهما: كونه بِدْعةٌ محدثةٌ لم يتكلَّم بها السَّلَف. - والثاني: لِما يوهِمُ من المَعاني الباطلةِ، كإدخالِ فِعْلِ القارىِء وصوتِهِ في ذلك. ومذهبُ مُحقِّقيهم (!) لم يقُلْ به الإِمامُ أحمدُ ولا ارتضاهُ، بل أنكرَهُ بأشدَّ ممَّا أنكَرَ به قولَ أبي طالب الذي حكاهُ عنه، فإنَّ ما حكاهُ أبو طالب من كَوْنِ اللفظ بالقرآن غيرَ مخلوقٍ عَدَّهُ أحمدُ بدْعَةً يُهجَرُ أصحابُها, ولكنَّ قولَ من وصفهم البيهقيُّ بـ (المحقِّقينَ) أنكرَه بأشدَّ منه، وجهَّم القائلينَ به، إذ مقتضاهُ أنَّ جِبريلَ إنَّما جاءَ بشيْءٍ مخلوقٍ, لأنَّ كلامَ الله عندَهم معنى قائمٌ به، ليسَ هو لغةً عربيةً ولا غيرَها, ولا هو حروفاً ولا كلماتٍ، وهذا اللَّفظُ العربيُّ عندهم عبارةٌ عنه وهو مخلوقٌ، وجبريلُ عليه السَّلام لم يَأتِ بقرآنٍ غيرِ هذا العربيّ، فكانَ ما أتى به مخلوقاً إذاً على اعتقادِهم، وارجِعْ إلى نصوصِ الإِمام أحمدَ في إنكار هذه الضَّلالةِ في المبحث الثاني من هذا الفصل، لتعلمَ أنَّ هذه الطائفةَ التي حمَلَتْ كلامَ أحمدَ على غير مَحاملهِ قد حُرِمَت التوفيقَ في فَهْم كلامهِ. * وأمَّا الوجه الثالث فإنَّ جميع ما ذكروهُ تأويلاتٌ فاسدةٌ. - أمَّا أولاً فإنَّه حقٌ في نفسهِ، ولكن ليسَ هو المرادَ, لأنَّ مجرَّد كونِ القول به بدعةٌ محدثةً فإنَّه لا يَستدعي تكفيرَ القائل بهِ، وهذا المَعنى يتنزَّهُ عن مثلهِ مَن دونَ الإِمام أحمد عِلماً وفَهْماً ومعرفةً، فكيف تصلحُ إضافته إليه رحمه الله وهو مِن أنزَهِ الناس لساناً، وأصْوَبِهم مقالاً، بما آتاه الله من العِلْم والهُدى؟

- وأمَّا ثانياً فإنَّما أوقعَهم في مثلهِ اضطرارُهم لتعليلِ ما وَقعوا فيه من مُخالفة عقيدةِ أحمد، وإلاَّ فإنَّ هذا التفسيرَ يردُّهُ ظاهرُ قَوْلِ أحمد رحمه الله، فإنَّه قَدْ سبَقَت حكايتُنا لقولهِ مفسَّرةً لا يَرِد عليها مثلُ هذا الحَمْلِ الفاسدِ، من ذلك قوله: "هم شرٌّ من قول الجهميةِ، مَن زعَم هذا فقد زعَمَ أنَّ جبريلَ جاء بمخلوقٍ وأنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تكلَّم بمخلوق" والذي جاء به جبريلُ وتكلَّمَ به محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- هو هذا القرآنُ العربيُّ المعلوم عند جَميع المسلمينَ، لم يأتِ جبريل بقرآنٍ سِواه، ولَم يتكلَّم الله بقرآنٍ سِواه، وأحمدُ رحمه الله إنَّما قالَ هذهِ المقالةَ وما يُشْبِهُها في الذين قالوا بخَلْق هذا القرآن العربيّ، لا فيمَنْ قال: إنَّ القرآنَ الذي لَمْ يَنْزِل مخلوقٌ، فإنَّه ليسَ هناك قرآن لَم يَنْزِل، ولم تكن هناك جَهميةٌ يقولونَ: القرآنُ قرآنان، قرآنٌ نَزَل، وآخرُ لم يَنْزِلْ، وهما مخلوقانِ، ليُحْمَلَ قولُ أحمد على أنَّه أرادَهم، وإنَّما كانت الجهميةُ المحْضةُ يقولون: ليسَ لله كلامٌ، والله لا يتكلَّمُ، والقرآن مخلوقٌ. - وأمَّا ثالثاً ففسادُهُ ظاهرٌ، فإنَّه لا يُساعدُ على مثلهِ ألفاظ الإِمام في تجهيم اللَّفظية، ثمَّ إنَّ لفظَ (اللَّفظ) إنما يُراد به هنا النُّطْقُ، لا لفظ اللُقمةِ، وهو أبْيَنُ من أن يخفى. * وأمَّا الوجه الرابع فإنَّ (اللفظيةَ) لفظٌ مجمَلٌ، يُطلَق على اللَّفظيةِ النافية التي تقول: (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) وعلى اللَّفظية المُثْبِتة التي تقول: (ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة) وتعيينُ المُرادِ إنَّما يكون بالدليل، فتأمَّلْنا حالَ اللفظيةِ النافيةِ هل هم المُرادونَ بذلك أم لا؟ فوجدناهم غيرَ مُرادِينَ لِما يأتي:

1 - أنَّ وصفَهُم بالجهميةِ مُتواتر عن الإِمام أحمد -كما سبقَتْ حكايته-. 2 - أنَّ أصحابَ أحمدَ ليسَ فيهم من كان يقولُ: (لفظي بالقرآن مخلوق) وإنَّما فيهم مَن قال: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) -كما سيأتي في المبحث الآتي في حكايته قصَّةِ أبي طالبٍ وابن شدَّادٍ- وقد أنكرَها أحمدُ رحمه الله، وبدَّعَ أصحابَها, ولم يُجَهَّمْهم. 3 - قال في الرواية: "القرآن كيفَ تصرَّفَ في أقوالهِ وأفعالِهِ فغير مخلوق، فأمَّا أفعالُنا فمخلوقة" واللُّفظيةُ النافيةُ عندهم القرآن غير المخلوقِ لا يتصرَّف في أقوالِه وأفعالِهِ، وإنَّما هو معنى واحدٌ قائمٌ بذاتِ الله، وأما القرآن الذي يتصرَّفُ في أقواله وأفعاله فهو مخلوقٌ عندهم. فبانَ بهذا أنَّه يعني اللفظيةَ المثبِتَةَ القائلينَ: (لفظي بالقرآن غير مخلوق) فإنَّهم مع بدعتهم ليسوا جهميةً. • بيان غلطهم على الإِمام البخاري رحمه الله: البخاريُّ ذاكَ الإِمام الذي لا يُجْهَل فضلُهُ وقَدْرُهُ، أبو عبد الله محمد ابن إسماعيل صاحب "الصحيح" أعظم كتابٍ على الإِطلاقِ في سنَّةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، تَلَقَّتْه الأمَّةُ من بعدِهِ بالقَبول، وعوَّلَت عليه قبلَ سِواه لمعرفةِ ما جاءَ به الرَّسول، رفَعَ الله تعالى به للبُّخاريّ المنزلةَ العاليةَ، فلا تكاد ترى مسلماً يفهَم لا يَعلمُ فضْلَ محمَّد بن إسماعيل بفضْل "صحيحه" وكذلك هو الإِمامُ المعتمَدُ في الجرْح والتَّعديل، ومَعْرفة الرجالِ والعِلَل، وكيفَ لا يكون كذلك وبأحمدَ وابن المَديني وإسحاقَ تخرَّجَ؟

ولقد كانَ رحمه الله إمامَ أهلِ السُّنَّة ورأسَ أهل الحديث بعدَ أحمد ابن حنبل، فإنَّه كانَ على أثرهِ وطريقتهِ، ما حادَ عنه ولا زادَ، ومَن تأمَّل كتابَ "التوحيد" من "الصحيح" و "خلق أفعال العباد" قامَت له الحُجَّةُ على صحَّة ما قُلْنا. ولكنه رحمه الله لمَّا آتاه الله تعالى من سَعَةِ العلمِ والمعرفةِ ما آتاه مِمَّا فاقَ بهِ الأقرانَ، وصارَ المشارَ إليه بالبنانِ، حَمَل عليه بعضُ أقرانِه بسبَب الحسَدِ المَمْقوتِ، فحمَّلوا كلامَه ما لا يَحْتَمِلُ، وادَّعوا عليه إطلاق الفولِ: (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) وأشاعوا ذلك وأذاعوهُ في نَيْسابور وغيرِها، لِيُنَفَّرَ عنه وعن الانتفاعِ به. وكانَ حامِلُ رايةِ المُنفِّرينَ عنه الإِمامَ الحافظَ محمَّدَ بن يحيى الذُّهْليَّ، وكانَ مِنْ ثقاتِ المحدِّثين وحُفَّاظِهم، أثنى عليه الأئمَّةُ وعدّلوه وارتضَوْه، وكانَ صاحِبَ سُنَّةٍ مُتَّبِعاً، رحمه الله، إلاَّ أنَّه وقَعَ في نفسهِ على البخاري، وزُوَّرَتْ إليه المَقالةُ عَليه في مسألة اللَّفظ، فشدَّدَ على البخاري بسَبَبِها، مع أنَّه ارتضاه أوَّلَ الأمر. قالَ الحافظ أبو حامد الأعمَشيُّ (وكان ثِقَةً ثَبْتاً): رأيتُ محمَّدَ بن إسماعيل البُخاريَّ في جنازةِ أبي عثمان سعيد بن مَرْوان، ومحمَّدُ بن يحيى يسألُهُ عن الأسامِي والكُنى وعلل الحديثِ، ويَمُرُّ فيه محمدُ بن إسماعيل مثلَ السَّهْم كأنَّه يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فما أتى على هذا شهرٌ حتى قال محمد بن يحيى: ألا مَنْ يختلفُ إلى مجلسهِ لا يختلف إلينا، فإنَّهم كتبوا إلينا من بغدادَ: أنَّه تكلَّمَ في اللَّفظ، ونَهَيْناهُ فلم ينتَهِ. فلا تقرَبوهُ، ومَن يَقْرَبْهُ؛ فلا يَقْرَبنا. فأقامَ محمد بن إسماعيلَ ها هنا مدَّةً، وخرَج إلى

بُخارى (¬69). قلتُ: كانَ البخاريُّ رحمه الله يَرى أنَّ هذا ممَّا أوقعَ فيه محمدَ بن يحيى الحَسدُ في العِلْم، وذلك أنَّ الله فتحَ عليه وآتاه ما لَمْ يؤتَ الذُّهْليّ. قال محمد بن شادل -وكان مُحدِّثاً ثَبْتاً-: لَمَّا وقَع بين محمد بن يحيى والبُخاريّ دخَلْتُ على البَّخاري فقلتُ: يا أبا عبد الله، أيْشٍ الحيلة لَنا فيما بينكَ وبين محمَّد بن يحيى، كلُّ من يَخْتَلِفُ إليك يُطرَد؟ فقال: "كم يَعْتري محمَّد بن يحيى الحسَدُ في العِلْم، والعِلْمُ رزقٌ الله يُعطيه مَن يَشاءُ" فقلتُ: هذه المَسْألة التي تُحكى عنك؟ قال: "يا بنيّ، هذه مسألةٌ مشؤومةٌ، رأيتُ أحمد بن حنبل وما نالَه في هذه المسألة، وجعلتُ على نَفْسي أن لا أتكلَّمَ فيها" (¬70) قُلتُ: البخاريُّ رحمه الله نزيهُ اللسان، لا يَرْمي قرينَهُ بداءِ الحسَدِ بمُجَرَّد الظنّ من غير أن تحفَّهُ القرائنُ، ولكنّي أرى مع ذلك أن يكونَ النقلُ الذي بلغَ الذُّهْليّ عن البُخاريّ هو السَّببَ الدَّاعيَ للتنفير منه، وكانَ الأجدرَ بالإِمام الذُّهْليّ أن يَسْتثْبِتَ من البخاري نفسِه، ولكن أبى الله أن يكون إلاَّ ما أراد. والتَّحقيقُ الذي يرتَضيه كلُّ مُنصفٍ هوأنَّ البخاريَّ رحمه الله لم يقل بقولِ اللفظيةِ، ولم ينْطِق بذلك لسانُهُ، وإنَّما كانَ يقول ألفاظاً يَرِدُ بسَببها ¬

_ (¬69) رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" 2/ 31 بسند صحيح. (¬70) أخرجه الحاكم -كما في "سير أعلام النبلاء" 12/ 456 - 457 - وسنده جيد.

بعضُ الإِيهام واللَّبْس، ولكن من تأمَّلها ثَبَتَ له صحَّةُ ما قُلنا، فالمآخِذُ عليه في هذه القضية أربعةٌ: الأوَّل: وقفُهُ عن التَّصريحِ بتَجْهيم أو تبديع اللَّفظيَّةِ القائلين: (لفظي بالقرآن مخلوق). والثاني: جاء عنه قولُهُ -وقد سُئِلَ عن اللَّفظ بالقرآن؟ -: "أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا" ففَهِمَ بعضُ مَن حضَرَ مَجْلِسَه أنَّه يقول: "لفظي بالقرآن مخلوق" وأبى ذلك آخرون (¬71). والثالث: ما أشاعَه عنه الذُّهْليُّ من القوْل: "ألفاظنا بالقرآن مخلوقة". والرابع: إطلاقُهُ الفَرْقَ بين التّلاوةِ والمتْلوّ، والقراءةِ والمَقروء. فاستغلَّ القائلونَ: (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) ممَّن جاء بعدَه من الأشعرية وغيرِهم هذه الأمورَ فقالوا: قولٌ البُخاري هو قولُنا، فإنَّا نفرّق ببن التلاوةِ والمَتلوِّ، فالتلاوةُ هذه الألفاظ العربيةُ، والمتلوُّ ما دلّتْ عليه التلاوةُ، وهو عندَهم كلامُ الله القائمُ بذاتهِ الذي هو معنى مجرَّدٌ. وهذا من الزُّور والبُهْتان الذي لم يقل البخارىُّ بشيءٍ منه، وهوبريء منه بحَمْدِ الله، وإني ناقضٌ بحَوْل الله تعالَى وقوّته ما حرَّفوهُ من المعاني يسَبب ما ذكرنا من المآخذ على البخاريٌ. * أما المأخذُ الأوَّل فهو غيرُ قائم, لأنَّ وقفَه حين وقفَ لَمْ يكن عن شكٍّ في بِدْعَتِهم، أو تردُّدٍ في بُطلان مذْهَبِهم، وإنَّما كانَ ذلك اتقاءً لِما ¬

_ (¬71) "سير أعلام النبلاء" 12/ 458 و"هدي الساري" ص: 490.

يُحْتَمل وقوعهُ من الفتنة بسَبَبِها، ألَا تراهُ احتجَّ بأحمدَ رحمه الله؟ قال: "هذه مسألةٌ مشؤومةٌ، رأيتُ أحمدَ بن حنبل وما نالَهُ في هذه المسألة، وجعلتُ على نَفْسي أن لا أتكلَّمَ فيها". واكتفى ببيان الفَرْق بين أفعالِ العباد وكلامِ الله تعالى، وقال: إنَّ أفعال العباد مخلوقةٌ، وكلامَ الله القرآن وغيرَه غيرُ مَخلوقٍ، وأبانَ عن هذا أحسنَ الإبانة في كتابه "خلق أفعال العباد". * وأمَّا المأخذ الثاني فإنَّه إيرادٌ مُشْتَبَهٌ، ونحنُ قَدْ شَرَحْنا فيما سبقَ أنَّ (اللفظ) مُطْلقاً، قد يُرادُ به فعلُ العَبْدِ الذي هو حركتهُ وصوتهُ بالقرآن فهو حينئذ مخلوقٌ، وقد يُرادُ به كلامُ الله تعالى المسطورُ المقروءُ الذي هو الحروفُ العربيةُ فهو حينئذ غيرُ مخلوقٍ. والأئمَّةُ مَنَعوا إطلاقَ اللفظ: (لفظي بالقرآن مخلوق) من غير تبيين المُرادِ، لأنَّ الجهميةَ ابتدَعوا ذلك ليُموّهوا على الناس، ولم تكن حينئذٍ قد ظَهَرتْ بدعةُ القائلينَ: (لفظي بالقرآن مخلوق) وهم يُريدونَ خَلْقَ القرآنِ العربيّ المؤلَّفِ من الحُروفِ العربيَّةِ، من الأشعرية وغيرهم. فالبخاريُّ رحمه الله في هذه المَقالة أبانَ عن حقيقةِ قولهِ، بقوله: "أفعالُنا مخلوقةٌ، وألفاظُنا من أفعالنا" عن مفارقتهِ لاعتقاد الجَهمية الباطلِ، وموافقتهِ لأهل السُّنَّةِ، فإنَّه فَسَّرَ ههُنا مرادَهُ باللفظ وأنَّه إنَّما أرادَ فعلَ العبدِ، وهو مخلوقٌ قَطْعاً، وقد سبقَتْ حكايتُنا قولَ الِإمام أحمد: "مَن قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، يريدُ به القرآنَ، فهو كافرٌ" والبخاريّ رحمه الله لَم يُرِدْ باللفظِ القرآنَ، وإنَّما أرادَ فِعل العَبْدِ، فَغَلِطَ أناسٌ في فَهْم مُرادهِ فافتَروا عليه.

معَ أنَّ الأوْلى والأحْرى بالبخاريّ رحمه الله تركُ هذه اللَّفظة جملةً، لأنَّها مما تركَ السَّلفُ الكلامَ فيها، واكتَفَوا بالبيان: "أنَّ أفعالَ العباد مخلوقة، والقرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق حيث تصرَّف". ولكنَّ المقصودَ هنا بيانُ أنَّ البخاريَّ رحمه الله لم يكن اعتقادُه في اللَّفظِ هو اعتقادَ اللفظيَّة الذين يعتقدونَ أنَّ جبريلَ عليه السَّلام إنَّما جاء بكلامٍ مخلوقٍ، وهو هذا القرآن المؤلَّف من الحُروف العربيةِ، وأنَّ الله تعالى لم يتكلَّم بالحُروف. * وأمَّا المأخذ الثالث فهو مبنيٌّ على خَطأ على البخاريّ، عضَّدَهُ ما وقعَ في النُّفوسِ من الحسَد في العلم -كما بيّنا-. * وأمَّا المأخذ الرابع فإنَّ البخاريَّ حين فرَّقَ بين التّلاوةِ والمَتْلوّ، يعتقدُ أنَّ التلاوةَ فِعْلُ العبد فقط، ولا يُدْخِلُ فيها الكلامَ المؤلَّفَ من الحروفِ، والمتلوَّ هو هذا القرآنُ العربيُّ المُبينُ الذي نزلَ به جبريلُ عليه السَّلام على محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، خِلافاً لِما يعتقدُهُ اللَّفظيةُ الذين اعتصَموا بقولِهِ -من الأشعرية وغيرهم- فإنَّ هؤلاء يُدْخِلونَ القرآنَ العربيَّ المفتَتَحَ بالفاتحة، والمُخْتَتَمَ بالنَّاس في التِّلاوة، والمَتْلُوُّ عندَهم هو المعنى الذي وصَفو بالنَّفسي، القائمِ بذاتِ الله تعالى، وشتَّانَ ما بينَ المَعْنيين. هذا مع أنَّنا قد شَرَحْنا فيما سَلَفَ أوَّلَ هذا البابِ عدمَ صحَّةِ إطلاقِ الفَرْق بين التَّلاوةِ والمَتلوّ، أو التَّسْويةِ بينَهما، لأنَّ كُلًّا من الإِطلاقين يَجُرُّ إلى مَحاذيرَ مَرفوضةٍ شَرْعاً، وبيّنا أن تمييزَ القولِ في هذه القضيةِ هو الجوابُ عن جَميع ما أورِدَ عليها من الإِشكالِ.

فتبيَّن إذاً بهذا البيانِ بَرَاءَةُ البُخاري رحمه الله مِمَّا نَسَبَتْ إليه اللفظيةُ النافيةُ من الاعتقادِ الباطِلِ، وإنِّي أورِدُ عليهم قولَ البُخاري نفسِه في ذلك ليمْحَقَ باطلَهم، قال رحمه الله بعدَ أن أسْنَدَ عن يحيى بن سعيد قولَه: "ما زِلْتُ أسمَعُ من أصحابِنا يقولون: إنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقة" قال البخاريُّ: "حرَكاتُهم، وأصواتُهم، واكْتِسابُهم، وكتابَتهُم، مخلوقةٌ، فأمَّا القرآنُ المَتْلوُّ المُبينُ، المُثْبَتُ في المُصْحَف، المَسطورُ، المكتوبُ، المُوعى في القلوبِ، فهو كلامُ الله، ليسَ بخَلْقٍ" (¬72). وقال رحمه الله: "وقال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ولكنَّه كَلامُ الله تَلْفِظُ به العبادُ والملائكةُ" (¬73). قلتُ: ولا يَجْهَلُ مسلمٌ يفهَمُ أنَّ المرادَ بالقرآنِ في هذه الآيةِ هو القرآنُ العربيُّ المُعْجِزُ الذي أعجَزَ الإِنسَ والجنَّ عن الإِتيانِ بمثلِهِ، وهو نفسُهُ الذي وصَفَهُ البُخاري بأنَّه كلامُ الله، وهو نفسُهُ الذي يتلفَّظُ به العبادُ، والمَلائكةُ، فما أثْبَتَ للعبادِ والملائكةِ -وهم عامَّةُ من يَعْقِلُ من خَلْقِ الله- إلَّا تَلَفُّظَهم به الذي هو فِعْلُهُمْ: نُطْقُ ألسِنَتِهم، وحرَكةُ شِفاهِهم، أمَّا القرآنُ المُعْجزُ فغير مَقدورٍ لهم أن يأتوا بمثلهِ، وهذا كلّه خِلافُ دين اللَّفْظية النافيةِ، فإنَّ هذا القرآنَ العربيُّ المُعجزَ في نَظْمِهِ مخلوقُ النَّظْمِ عندَهم. وقد أثبتَ البخاري رحمه الله في كتابِهِ "خلق أفعال العباد" أنَّ القرآنَ ¬

_ (¬72) "خلق أفعال العباد" ص: 42. (¬73) "خلق أفعال العباد" ص: 87.

منزَلٌ غيرُ مخلوق، وأنَّه مِنَ الله بدأ وإليه يعودُ، وأنَّ الله تعالى يتكلَّمُ بصَوْتٍ، إلى غير ذلك مِمَّا هو مُعْتَقد أهلِ الحقِّ الذي فصَّلْناه في الباب الأوَّل، ممَّا تُرْغَمُ به أنوفُ اللفظيةِ الأشعريةِ وغيرهم الذين يقولُ قائلهُم من غير حَياءٍ ولا وَرَعٍ: "كانَ البخاريُّ مِمَّن قال: لفظي بالقرآن مخلوق". وممَّا يجْدُرُ التنبيهُ عليه أنَّه رُوي عن البخاري رحمه الله أنَّه قال للحافظ أبي عَمْرو أحمد بن نَصْرٍ الخفّاف: "يا أبا عَمْرو، احفَظْ ما أقول لك: مَن زعَمَ من أهل نَيْسابورَ، وقُومَسَ، والرَّيِّ، وهَمَذانَ، وحُلوانَ، وبغدادَ، والكوفةِ، والمدينةِ، ومكَّةَ، والبَصْرةِ، أني قلتُ: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّابٌ، فإنِّي لم أقُلْ هذه المقالةَ، إلَّا أني قلتُ: أفعالُ العباد مخلوقة" (¬74). قلتُ: لكنَّني أعرضتُ عن الاحتجاج بها صَفْحاً لعَدَم ثُبوتِ إسنادها، وإن كانت قد احتجَّ بها جَماعةٌ من الأئمَّةِ، وفيما حَقَّقْناه كفايةٌ لمَنْ رزقَه الله التجرّدَ للحقّ. • • • • • ¬

_ (¬74) رواه ابن الطبري في "السنَّة" 2/ 358 والخطيب "التاريخ" 2/ 32 وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" 1/ 277 وهي قصة ضعيفة الإِسناد جداً من أجل أبي صالح خلف بن محمد بن إسماعيل وهو الخيام البخاري، ضعيف جدّاً.

المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة

المبحث الخامس: اللفظية المثبتة مبتدعة اللفظيةُ المُثْبِتَة -كما سبق في المبحث الأول- هم القائلونَ: (ألفاظُنا بالقرآن غيرُ مَخلوقة) ويريدونَ بهذا الإِطلاق اللفظَ الذي هو كلامُ الله المؤلَّف من الحروفِ العَربيةِ، ويُريدون به أيضاً الرَّدَّ على اللفظية النافيةِ القائلينَ: (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة). ولكنَّهم حين أطلَقوا هذه المقالَة -مع صِحَّة مُرادهم- جاء من بعدِهم أقوامٌ وافَقوهم في إطلاق اللفظِ، وأدخَلوا في ذلك فِعْلَ العبدِ وحركَتَه وصَوْتَه، وممَّا أوقَعَهم في ذلك إطلاقهُم القول: إنَّ التلاوةَ هي المتلوُّ، والقراءةَ هي المقروءُ، وقد بَيَّنا فيما سَلَفَ فسادَ هذا الإِطلاق. فمَنَعَ الإِمامُ أحمد رحمه الله إطلاقَ هذا اللَّفْظِ: (ألفاظُنا بالقرآن غير مخلوقة) لأمْرَيْن: الأوَّل: أنَّه لفظٌ مُبْتَدعٌ، لم يتكلَّم فيه السَّلَفُ. والثاني: لِما يجُرُّ من الوقوعِ في المَحذور، كما جَرَّ بعضَ مَن جاء بعدُ من أتباع هذه المقالةِ، فمنهمِ من توقَّفَ: هل يدخلُ في اللفظ صوتُ العبد وحركَتُهُ؟ أم لا؟ وتجرّأ آخرونَ فأدخلوا فعلَ العبدِ وحركتَهُ وصوتَهُ.

وهذا سياقٌ لبعض ما تيسَّرَ الوقوفُ عليه من كلامِ إمام السُّنَّة أبي عبد الله أحمد بن حنبل في شأنِ هذه الطائفةِ. 1 - قَدْ سَبَقَ عنه أنه كان يكرَه الكلامَ في اللفظ بإثباتٍ أو نفيٍ. 2 - وقال أبو بكر بن زَنْجَوَيْهِ: سمعتُ أحمدَ بن حنبل يقول: "مَن قالَ: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو جَهْميٌّ، ومن قال: غير مخلوق، فهومبتدعٌ لا يُكلَّم" (¬75). وحكى نحوَ هذا الحافظُ الإِمام محمَّدُ بن جَريرٍ الطَّبريُّ عن أحمد، وقال الإِمام أبو عثمانَ الصابونيُّ عقبهُ: "وأمَّا ما حكاهُ محمَّدُ بن جَرير عن أحمدَ رحمه الله أنَّ من قال: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق فهو مبتدعٌ، فإنَّما أرادَ به أنَّ السلفَ الصالحينَ من أهل السُّنَّة لم يتكلَّموا في باب اللَّفظ، ولم يُحْوِجْهم الحالُ إليه، وإنَّما حدَثَ الكلامُ في اللَّفظ من أهْلِ التعمُّقِ وذَوي الحُمْقِ، الذينَ أتَوْا بالمُحْدَثاتِ، وبحَثوا عمَّا نُهوا عنه من الضَّلالاتِ وذَميم المَقالات، وخاضُوا فيما لم يَخُضْ فيه السَّلَفُ من علماءِ الإِسلام، فقال الإِمام أحمدُ: هذا القولُ في نفسِهِ بدعةٌ، ومِن حقّ المتديِّن أن يدَعَهُ وكلَّ بدعةٍ مبتدَعَة، ولا يتفوَّهَ به ولا بمِثْلِهِ من البِدَعِ المبتدَعة، ويقتَصِرَ على ما قالَهُ السَّلَفُ المتَّبعةُ: إنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق، ولا يزيدُ عليه إلَّا تكفيرَ مَنْ يقولُ بخَلْقِهِ" (¬76). ¬

_ (¬75) رواه الخلال في "السنَّة" كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 325 بسند صحيح عن أحمد. (¬76) رسالته في السنَّة نص (17).

3 - وقال الإِمام أبو بكْرٍ المَرّوذيُّ رحمه الله: قالَ لي أبو عبد الله -يعني أحمدَ-: "قد غِيضَ قلبي على ابن شَدَّاد" قلتُ: أيّ شيْءٍ حَكى عنكَ؟ قال: "حكى عني في اللَّفظ" فبلغَ ابنَ شدَّاد أنَّ أبا عبد الله قد أنكرَ عليه، فجاءَنا حَمْدويه بن شدَّاد بالرُّقْعَة فيها مسائل، فأدخلْتُها على أبي عبد الله، فنظَرَ، فرَأى فيها: إنَّ لَفْظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ -مع مسائلَ فيها- فقال أبو عبد الله: "فيها كلامٌ ما تكلَّمْتُ به" فقامَ من الدِّهْلِيز فدخَلَ، فأخرَجَ المِحْبَرةَ والقلَمَ، وضرَبَ أبو عبد الله على موضِعِ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، وكتَبَ أبو عبد الله بخطِّه بين السَّطْرَيْن: "القرآنُ حيثُ تصرَّفَ غيرُ مَخْلوق" وقال: "ما سَمِعْتُ أحداً تكلَّم في هذا بشَيْءٍ" وأنكرَ على مَن قال: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق (¬77). قلتُ: حَمْدُويْهِ بن شَدَّاد هذا أحدُ أصحاب الإِمام أحمد. 4 - وقال صالحُ بن أحمد بن حنبل: تَناهى إليَّ أنَّ أبا طالبٍ (¬78) يَحْكِي عن أبي أنَّه يقولُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، فأخبَرْتُ أبي بذلكَ، فقال: "مَن أخبَرَكَ؟ " فقلتُ: فلانٌ، قال: "ابْعَث إلى أبي طالب" فوجّهتُ إليه، فجاءَ، وجاء فُوران (¬79)، فقال ¬

_ (¬77) رواه الخلّال في "السنَّة" عن المرّوذي به -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 424 - 425 - وروى هذه القصة أيضاً أبو محمد فُوران صاحب الإِمام أحمد بنحوها، أخرج ذلك البيهقي في "الأسماء" ص: 265 بسند صحيح. (¬78) اسمه أحمد بن حُميد أبو طالب المشكاني، كان من أجل أصحاب أحمد، وكان أحمد يُكرمُه ويعظّمه، مات سنة (244). (¬79) اسمه عبد الله بن محمد بن المُهاجر، كان من خاصة الإِمام أحمد، مات سنة (256).

له أبي: "أنا قلتُ [لكَ]: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ؟ " وغضِبَ، وجعلَ يَرْعُدُ، فقال له: قرأتُ عليكَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقلْتَ لي: "هذا ليسَ بمَخْلوقٍ" قال: " [فَلِمَ حَكَيْتَ عني] أني قلتُ لكَ: لفظي بالقرآن غيرُ مَخلوق؟ وبلغَني أنَّكَ وضَعْتَ ذلك في كتابِكَ، وكتبتَ به إلى قَوْمٍ، فإنْ كانَ في كتابِكَ فامْحُهُ أشَدَّ المَحْوِ، واكْتُب إلى القَوْم الذينَ كَتَبْتَ إليهم: أنِّي لم أقلَ لكَ هذا" وغَضِبَ، وأَقْبَلَ عليه فقال: "تَحْكي عنّي ما لَم أقُل لكَ؟ " فجعَلَ فُوران يَعْتَذِرُ إليه، وانصَرَف من عنده وهو مَرْعوبٌ، فعادَ أبو طالبٍ فذكرَ أنَّه قَدْ حَكَّ ذلكَ من كتابهِ، وأنَّه كتَبَ إلى القَوْم يُخْبِرُهم أنَّه وَهَمَ على أبي عبد الله في الحِكايةِ (¬80). قلتُ: وهذه القصَّةُ صَحيحةٌ مشهورةٌ عن الِإمام أحمدَ، رَواها عنه ابنه صالحٌ، وأبو بكر المَرّوذيُّ، وفُوران بن محمَّد، والثلاثة من خَواصِّ أصحابهِ، وكلّهم شَهِدوا القصَّةَ. رواية أبي بكر المرّوذي: قال رحمه الله: بلَغَ أبا عبد الله عن أبي طالب أنَّه كتَب إلى أهْلِ نَصِيبينَ (¬81): أنَّ لفظي بالقرآن غير مخلوقٍ. قال أبو بكرٍ: فجاءَنا صالحُ بن أحمدَ، فقالَ: قُوموا إلى أبي، فَجِئْنَا، ¬

_ (¬80) رواها صالح في "المحنة" ص: 70 - 71 ومن طريقه ابن الجوزي في "المناقب" ص: 155، وذكرها شيخ الإِسلام عن كتاب "المحنة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 423 - 424 - . (¬81) اسم مدينة معروفة، كانت عامرةً، على جادّة القوافل بين الموصِل والشام.

فدخَلْنا على أبي عبد الله، فإذا هو غضبانُ شديدُ الغَضَب، قد تبيَّنَ الغضَبُ في وجهِهِ، فقال: "اذْهَبْ فَجِئْني بأبي طالبٍ" فجئتُ به، فقعَدَ بين يَدَيْ أبي عبد الله وهو يَرْعُدُ، فقال: "كتبتَ إلى أهلِ نصِيبينَ تخبرُهم عنّي أنّي قلتُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق؟ " فقال: إنَّما حكيتُ عن نَفْسي، قال: "فلا يَحِلُّ هذا عنْكَ ولا عن نَفْسِي، فما سمعتُ عالماً قال هذا". قال أبو عبد الله: "القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ كيفَ تصَرَّف". فقيلَ لأبي طالب: اخْرُجْ وأخْبِرْ أنَّ أبا عبد الله قد نَهى أن يقالَ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، فخرجَ أبو طالب فلقيَ جماعةً من المحدِّثينَ فأخبرَهم أنَّ أبا عبد الله نَهاه أنْ يقولَ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق (¬82). رواية فُوران بن محمد: قال رحمه الله: جاءَني صالحٌ -وأبو بكْرٍ المَرّوذيُّ عندي- فدعاني إلى أبي عبد الله، وقال: إنَّه قدْ بلغَ أبي أنَّ أبا طالبٍ قد حكى عنه أنَّه يقولُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، فقمتُ إليه، فتَبِعَني صالحٌ، فدارَ صالحٌ من بابهِ، فدخَلْنا على أبي عبد الله، فإذا أبو عبدَ الله غضبانُ شديدُ الغضَبِ، بَيِّنُ الغضبُ في وجههِ، فقال لأبي بكر: اذهَبْ فجئْني بأبي طالب، فجاءَ أبو طالب، وجعلتُ أسَكِّنُ أبا عبد الله قبلَ مَجيءِ أبي طالب، وأقولُ: له حُرْمَة، فقعَدَ بين يَدَيْه -وهو متغيّرُ اللَّونِ- فقالَ له أبو عبد الله: "حكَيْتَ عنّي أني قلتُ: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق؟ " فقال: إنَّما حكيتُ عن ¬

_ (¬82) رواها الخلّال في "السنَّة" عن المرّوذي به -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 360 - 361 - .

نفسي، فقال. "لا تَحْكِ هذا عنكَ ولا عنّي، فما سمعتُ عالماً يقولُ هذا" -أو العلماءَ، شكَّ فُوران- وقال له: "القرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ حيثُ تصرَّفَ". فقلتُ لأبي طالب -وأبو عبد الله يسمَعُ-: إنْ كنتَ حكيت هذا لأحَدٍ فاذهَبْ حتى تُخْبِرَه أنَّ أبا عبد الله نهى عن هذا، فخَرَجَ أبو طالب فأخبرَ غيرَ واحدٍ بنَهْي أبي عبد الله، منهم: أبو بكر بن زنْجَوَيْهِ، والفضلُ بن زياد القطَّانُ، وحَمْدان بن عليّ الورَّاقُ، وأبو عُبَيْد، وأبو عامر، وكتبَ أبو طالبٍ بخَطِّه إلى أهلِ نَصيبينَ بعدَ مَوْت أبي عبد الله يُخبِرُهم أنَّ أبا عبد الله نهى أنْ يقال: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق، وجاءني أبو طالب بكتابهِ وقد ضرَبَ على المسألة مِن كتابهِ. قال زكريّا بن الفَرَج -راوي القصَّة عن فُوران-: فمضَيْتُ إلى عبد الوهّاب الورَّاق، فأخذَ الرُّقْعَةَ فقَرأها، فقال لي: مَن أخبرك بهذا عن أحمد؟ فقلتُ له: فُوران بن محمد، فقال: الثِّقَةُ المأمونُ على أحمد. قال زكريّا: وكانَ قبلَ ذلك قد أخبرَ أبو بكرٍ المَرّوذيُّ عبدَ الوهّاب، فصارَ عند عبد الوهّاب شاهدان (¬83). ¬

_ (¬83) أخرج هذا السياق الخلّال في "السنَّة" -كما في "مجموع الفتاوى" 12/ 425 - 426 - وزكريا بن الفرج هذا لم أعرفه، إلَّا أنَّ البيهقيَّ أخرجَ القصة في "الأسماء" ص: 265 - 266 من طريق أخرى عن فوران بإسناد صحيح، فزال ما يخشى.

قلتُ. فهذه الحكايةُ الصَّحيحةُ قاطعةٌ في عَدَم قولِ الإِمام أحمدَ بهذه المقالةِ، بل هي صريحةٌ في كونِه لم يتفوَّهْ بها، وإنَّما كان ما نقلَ عنه أبو طالب خطأ تأوَّله، فعنَّفه أحمدُ ونَهاه عنه. فكلُّ ما وَرَدَ عنه من القولِ بها فإنَّ هذه الحكايةَ تُكَذِّبهُ. 5 - وقال البخاري رحمه الله: "وقعَ عندِي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرينَ وجْهاً، كلُّها يُخالِفُ بعضُها بعضاً، والصَّحيحُ عندي أنَّه قال: ما سمعتُ عالماً يقول: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوق" (¬84). قلتُ: فهذه النصوصُ التي ذكرتُ عن الإِمام أحمدَ كافيةٌ في بيان اعتقادِه في هذه القضيةِ، فكما أنَّه أنكرَ بدعةَ اللفظيةِ النافيةِ أنكرَ كذلك بدعة اللفظيةِ المُثْبِتَة، ولم يُوافِقْ أيّاً من الطائفتين على بدعَتِهم، وأولئك النافيةُ جهَّمهم، وَهؤلاءِ المُثْبِتَة بدَّعَهم وأمَرَ بِهَجْرِهم. • بيان خطإ من أخطأ على الإِمام أحمد في هذه المسألة: ولكنَّ أقواماً من أهْلِ السُّنَّة والحديثِ أرادوا ردَّ بدعةِ اللفظيةِ النافيةِ القائلينَ: (ألفاظُنا بالقرآن مخلوقةٌ) فقابَلوهم بإطلاقِ الضِّدِّ، فقالوا: (ألفاظُنا بالقرآن غيرُ مخلوقة) ولم يكن مرادُهم إلَّا إثباتَ أنَّ هذا القرآنَ ¬

_ (¬84) ذكر هذا شيخ الإِسلام، قال: ورأيتُ بخط القاضي أبي يعلى رحمه الله على ظهر كتاب "العدة" بخطه قال: نقلت من آخر كتاب "الرسالة" للبخاري في أنَّ القراءة غير المقروء، فذكره.

العربيَّ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، لكنَّهم لم يتفطَّنوا لخُطورةِ هذا الإِطلاقٍ، وكانَ حَريّاً بهم أن يسلُكوا مسلكَ الإِمام أحمدَ في المنعِ من ذلك، وعدمِ رَدَّ البدعةِ ببدْعَةٍ. فلمَّا وقعَ ذلكَ منهم، وفيهم أئمَّةُ أعلامٌ، مثلُ: الحافظِ الإِمام أبي حاتِم الرازي، تَبِعَهم عليه طائفةٌ من أهْلِ السُّنَّة المَعروفينَ بالانتسابِ إلى عقيدةِ الإِمام أحمدَ، مثل: أبي عبد الله بن حامد، وأبي نَصْرٍ السِّجْزيّ، وأبي عبد الله بن مَنْدَه، وآخرينَ سِواهم، وظنّوا أنَّ هذا هو مذهبُ أحمد واعتقادُهُ، بل إنَّ منهم مَن كان يقطَعُ بأنَّه اعتقادُ أحمدَ وقولُه المحقَّقُ الذي رَجَع إليهِ، واعتَمَدوا عدى نقولٍ عنه في ذلكَ، وادَّعى بعضُهم أنَّ حكايةَ أبي طالبٍ السابقة مكذوبةٌ عليه (¬85). قال شيخ الإِسلام: "وليس الأمرُ كمَا قالَه هؤلاء، فإنَّ أعلمَ الناس بأحمدَ وأخصَّ الناس وأصدَقَ الناس في النَّقْل عنه همُ الذينَ رَوَوْا ذلك عنه، ولكنَّ أهْلَ خُراسانَ لم يكن لهم من العِلْمِ بأقوالِ أحمد ما لأهْلِ العِراقِ الذين هم أخصُّ به" (¬86). وقال فيما احتجّوا به من رواياتٍ عن أحمدَ أنَّه قال ذلك: "وهي رواياتٌ ضعيفةٌ بأسانيدَ مَجْهولةٍ، لا تُعارِضُ ما تواتَرَ عنه عندَ خواصِّ أصحابهِ وأهلِ بَيتهِ والعُلماءِ الثَّقاتِ، لا سِيَّما وقَدْ عُلِمَ أنَّه في حياتهِ خطَّأ أبا طالب في النَّقْلِ عنه، حتى ردَّهُ أحمدُ عن ذلكَ وغَضِبَ عليه غَضَباً ¬

_ (¬85) "مجموع الفتاوى" 12/ 207 - 208، 361. (¬86) "مجموع الفتاوى" 12/ 208.

شَديدًا" (¬87). • ذكر ما جر إليه إطلاق هذا القول من البدع: الألفاظُ المُبْتَدَعةُ لو كانَ المقصودُ منها حسَنًا فإنَّها لا تَخلو من مَفْسَدَةٍ شَرْعيَّةٍ، ولو لَمْ يقَعْ بسَببها إلاَّ الإِحداثُ المذمومُ لكانت حريّةً بأن تُنْبَذَ وتُتركَ، فكيفَ إذا كانت بابًا لِبدَعٍ أعظمَ منها، ولمفاسِدَ أكبرَ منها، شأنَ هذه البدعةِ، فإنَّه كانَ من مقصودِ مُبْتَدِعها الرَّدَ على اللفظية الجَهمية الذين أطلَقوا القولَ: (ألفاظنا بالقرآن مخلوقة) فقابلوا باطِلَهم بباطِلٍ، وبدعَتَهُم ببدعةٍ، ولقد كانَ يكفِيهم ما كفى غيرَهم من أئمَّةِ الهُدى كالإِمام أحمد وغيره، فيُبْطِلوا البدعةَ بدلائل القرآنِ، ويكْشِفوا زيْفَها بواضِح البَيان، مَعَ الاستغناءِ عن الألفاظِ المُحْدَثة، ولكنَّها زلّةٌ كانَت، فالله المستعان. وقد حَدَثَت بسبَبها بدعتانِ شَنيعتان، وقعَتا من بعضِ الجَهَلة لامِمَّن ذكَرْنا من الأئمَّةِ: البدعة الأولى: القول بأنَّ فعْلَ القارئ الذي هو صَوتُه وحركتُهُ بالقراءةِ غيرُ مخلوق. فجعَلوا ذلك من كلام الله، وصَوْتَ القارئِ هو صَوْتُ الله، وهذا ضَلالٌ مُبينٌ، وزَيْغٌ عن الصراطِ المستقيم، وهو باطلٌ من وجوهٍ كثيرةٍ: 1 - أنَّ أفعالَ العبادِ جميعًا مخلوقةٌ، وهي عقيدةُ السَّلَف الكِرام. قالَ اللهُ تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. ¬

_ (¬87) "مجموع الفتاوى" 12/ 361 وانظر: 7/ 659 و"درء التعارض" 1/ 269.

وعن حُذيفةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله يَصْنعُ كلَّ صانعٍ وَصَنْعَتَه" وتَلا بعضُ الرُّواةِ عند ذلك: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬88). قالَ إمامُ المحدّثينَ الحُجَّةُ الحافظُ يحيى بن سعيدٍ القطّانُ رحمه الله: "ما زلتُ أسمَعُ مِنْ أصحابِنا يقولونَ: "إنَّ أفعالَ العبادِ مخلوقةٌ" (¬89). قال البخاريُّ رحمه الله: "حرَكاتُهم وأصواتُهم واكتسابُهم وكتابَتُهم مخلوقةٌ، فأمَّا القرآنُ المَتلوّ المُبينُ، المُثْبَتُ في المصحفِ، المَسطورُ، المكتوبُ، المُوعى في القلوب، فهو كلامُ الله، ليسَ بخَلقٍ، قال الله: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] " (¬90). وقال الإِمامُ أبو عثمانَ الصابونيُّ: "ومِن قولِ أهْلِ السُّنة والجَماعة في أكسابِ العباد أنَّها مخلوقةٌ لله تعالى، لا يَمْتَرونَ فيه، ولا يعدّونَ من ¬

_ (¬88) حديث صحيح. أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (117) وابن أبي عاصم في "السنَّة" رقم (357، 358) والبزار رقم (2160 - كشف الأستار) والحاكم 1/ 31، 32 وابن الطبري 3/ 538، 539 والبيهقي في "الاعتقاد" ص: 144 و"الأسماء والصفات" ص: 26، 260، 388 من طرق عن أبي مالك الأشجعي عن ربْعي بن حِرَاش عن حذيفة. قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" وأقرّه الذهبي، قلتُ: إسناده صحيح. (¬89) رواه البخارى في "خلق أفعال العباد" رقم (125) بسند صحيح عنه. (¬90) "خلق أفعال العباد" رقم (126).

أهلِ الهدى ودين الحقّ مَنْ يُنْكِرُ هذا القولَ ويَنْفيه" (¬91). 2 - أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أضافَ صوتَ القارئ وتحسينَهُ إليه دونَ القرآنِ الذي هو كلام الله تعالى، وذلكَ في غير ما حديثٍ عنه، مِنْ ذلك قولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: "زينَّوا القرآنَ بأصِواتكم" (¬92) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أذِنَ الله لشَيْءٍ، ما أذنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوتِ، يتغَّنى بالقرآنِ يَجْهَرُ به" (¬93) ففرَّق النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بينَ صَوْتِ القارئ والقرآن المتلو الذي هو كلام الله، فأضافَ الصَّوْتَ إلى القارئ، لأنَّه من كَسْبِهِ وعَمَلِه. 3 - القارىءُ إنَّما يُبَلّغُ القرآنَ بصوتهِ وحركَةِ نفسهِ، فالكلام كلامُ الباري، والصَّوْتُ صَوْتُ القارئ، وهذا المعنى مُتَصوَّرٌ معقولٌ في كلّ كلامٍ، فلِمَ لا يُتَصوَّر في كلام الله تعالى؟ فإنَّ المحدَّثَ إذا حدَّثَ بحديثِ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن كذَبَ على متعمِّدًا فليتبوّأ مقعَدَهُ من النار" (¬94)، فإنَّ الكلامَ كلامُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- بلا شَكٌ ولا رَيْب، والمحدّثُ إنَّما بلّغَهُ بصَوْتِ نفسِهِ، وحركةِ لِسانِهِ، ولا يقالُ: إنَّ الصَّوْتَ المسموعَ من المحدّث هو صَوْتُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، ولَوْ قالَ ذلكَ قائلٌ لما كانَ معدودًا في عقلاءِ بني آدَم، فإذا كانَ هذا ظاهِرًا في كلام المخلوقِ، فأولى وأحْرى أنْ يكونَ أظهرَ في كلام الله تعالى، ذلكَ لأنَّ صِفةَ المَخلوقِ تشْبَهُ صِفَةَ مثلهِ ومَعَ ذلك أمكَنَ التَّمييزُ ¬

_ (¬91) رسالته في السنَّة نص/118. (¬92) حديث صحيح، سبق تخريجه ص: 174. (¬93) حديث صحيح. متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة. (¬94) حديث متواتر.

فيها، وصِفَةَ الله لا تَشْبَهُ صِفَةَ المَخلوقِ فلِمَ عَسُرَ التمييزُ فيها؟ ولقد أنكرَ الأئمَّةُ رحمهم الله هذه البدعَةَ حين ظهَرتْ، كالبخاري رحمه الله تعالى وغيرِهِ، وقَدْ أخَذَ الإِمامُ أبو بكر المَرّوذىُّ - أخصّ أصحابِ الإِمام أحمد به - أجوبةَ أئمَّةِ الإِسلام وعلمائهِ في وقتهِ، من أهل بغدادَ، والبَصْرةِ، والكوفةِ، والحَرَمَيْنِ، والشامِ، وخُراسانَ، وغيرهم من الأئمة في ذلك (¬95). وقد ساقَ شيخُ الإِسلام منهم جماعةً، منهم: أبو بكر الأثْرَم، ومحمد بن بشَّار بُنْدار، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، ومحمَّد بن عبد الله المُخَرَّمي، والعبَّاس بن محمد الدُّوريّ، وعبد الكريم بن الهَيْثم العاقوليّ، وأحمد بن سِنان الواسطي، وعليّ بن حَرْب المَوْصلي. قلتُ: وهؤلاء جميعًا من ثِقاتِ المحدِّثينَ وحُفَّاظِهم. قال شيخ الإِسلام: "ومَن شاءَ الله تعالى من أئمَّةِ أهْل السُّنَّة وأهلِ الحَديث، من أصحاب الإِمام أحمد بن حنبل وغيرِهم، يُنْكِرونَ على مَن يَجْعَلُ لَفْظَ العبد بالقرآنِ، أو صوتَه به، أو غيرَ ذلك من صفاتِ العبادِ المتعلِّقةِ بالقرآنِ غيرَ مخلوقةٍ، ويأمُرونَ بعقوبتهِ بالهَجْرِ وغيرِه" (¬96). والبدعة الثانية: أنَّ أقوامًا جَعَلوا كلامَ الله مجرَّدَ الحُروفِ والأصواتِ، والمَعانيَ ليسَتْ داخلةٌ في ذلك. ¬

_ (¬95) "مجموع التفاوى" 12/ 422. (¬96) "مجموع الفتاوى" 12/ 422.

وهذه البدعةُ ظاهرةُ الفَسادِ، وقد بَيّنتُ في الباب الأوّل ما فيه كفايةٌ لإِثباتِ كون الكلام اسْمًا لِلّفظ والمعنى جَميعًا، ليسَ اسْمًا لواحدٍ منهما دونَ الآخر. ورُبَّما نسَبَ خُصومُ هذه الطائفةِ إليها أنَّها تقولُ بأنَّ المِدادَ الذي يُكْتَبُ به كلامُ الله، والوَرَقَ أو الجِلْدَ الذي يُكْتَبُ فيهِ، أو ما في معنى هذا ليسَ مَخْلوقًا، وهذا في الحَقيقة قولٌ لم يقلْ به أحدٌ له مُسْكَةٌ من عَقْلٍ، وربَّما وقعَ فيه بعضُ الجُهُال المُتَطرَّفينَ (¬97)، وفَسادُهُ أظهرُ من أن يُسْتَدَلَّ له. والله أعلم، ولا حولَ ولا قوّة إلاَّ بالله. • • • • • ¬

_ (¬97) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 381، 383.

الباب الثالث عقائد الطوائف المبتدعة في كلام الله تعالى وكشف أباطيلها وفيه تمهيد وثلاثة

الباب الثالث عقائد الطوائف المبتدعة في كلام الله تعالى وكشف أباطيلها وفيه تمهيد وثلاثة فصول: = الفصل الأول: ذكر جملة من أقوال طوائف أهل البدع في كلام الله تعالى. = الفصل الثاني: كشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم. = الفصل الثالث: كشف تلبيس الأشعرية في إثبات صفة الكلام لله تعالى.

تمهيد

تمهيد لقد بعثَ الله تعالى رسولَه محمَّدًا بالهُدى ودين الحَقَّ، وأنزلَ معهُ الكتابَ نورًا وهدًى للناسِ، فربّى أصحابَه بصِغار العلمِ وكبارِه، فآمَنوا بما جاءَ به وصدَّقوهُ، واتبعوا النُّورَ الذي أنزلَ معَهُ، وكانوا على هَدْيِهِ ونَهْجِهِ وسُنَّتِهِ، فقامُوا بذلكَ وأخَذُوا الكتابَ بقوَّةٍ. وتبعَهم على ذلك خيارُ الأمَّة بعدَهم. حتى خَلَفَ من بَعْدِهم خَلْفٌ أعْرَضوا عن الكتابِ، واتَّخذوهُ وراءَهم ظِهريًا، فشرَعوا الشرائعَ دونَه بظُنونٍ وأوهامٍ حَسِبوها حُجَجًا وبَراهينَ، فعزَّزَ لهم الشَّيْطانُ ذلكَ، فحكَموا به على الكتاب المعصومِ، وظنّوا بذلك أنَّهم بَلَغوا غايةَ العُلوم، فظهَرَ الجَعْدُ بن دِرهَم بفاسدِ المَقالةِ، استفادَها من فاسدِ المَعْقول الذي هو في الحقيقةِ عينُ الجَهالةِ، فأعلنَ بدعته وباطله إعلانًا، فصرَّح بتكذيب القرآن، وقالَ: لم يكلّم الله موسى تكليمًا، ولم يتَّخِذْ إبراهيم خليلًا، فأبطلَ بهَواهُ ما جاءَ به الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، ونفى أنْ يكون لله كلامٌ، فشبَّههُ بالأبكَمِ، وأبْطلَ صلتَه تعالى بالعبادِ، فلا رسولَ مُرْسَلٌ، ولا كتابَ مُنْزَلٌ.

فجاءَ من بعدهِ رأسُ الضَّلالة الجَهْم بن صَفْوانَ، فزادَ على سلفه إضلالًا للعبادِ، وأدخَلَ عليهم من الشُّبَه ما عمَّ به الفَسادُ، فقرَّت به عينُ إبليسَ اللَّعين وتحقّقَتْ له البُغْيَةُ والمُرادُ. قاتلَ الله جَهْمًا، كم جرَّ على هذه الأمَّةِ من الكُفْر والضَّلال؟ فنفى عن الله صفاتِ كمالهِ، فشبَّههُ بالعدَم، بل هو في الحقيقةِ عنده وعند أوليائِه عَدَمٌ مَحْضٌ، لا يتَّصف بصفَةٍ، ومن المُحال إثباتُ ذاتٍ مُجرّدةٍ عن الصَّفاتِ، فكذَّبَ جَهْمُ الرَّسولَ والقرآنَ، وجاءَ بما تقشعرُّ من ذكرهِ أبدانُ أهلِ الايمانِ، وحسْبُكَ قولُ الإِمام الحُجَّةِ عبد الله بن المبارك: "إنَّا لنَحْكي كلامَ اليهودِ والنَّصارى، ولا نستطيعُ أنْ نحكيَ كلامَ الجَهْمية" (¬1). فتذكَّرْ ما وَصَفَتْ به اليهودُ والنَّصارى ربَّهم تعالى من النَّقائِصِ، وما نَفَتْ عنه من صفاتِ كمالِهِ مما قصَّ الله تعالى في كتابهِ، وما جاءَ عن نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، واعلَمْ أنَّ الجَهميَّةَ جاؤوا بما هو أعظم، فإنَّ اليهودَ والنَّصارى لم يَصِفوا الله بالعدَم، ولم يقولوا: هو في كلّ مكانٍ قول الجَهمية، ولم يقولوا: إنَّ كلامَه مخلوقٌ قول الجَهْميةِ. فعَمِلَ جَهْمٌ على بَثّ سُمومهِ بين المسلمينَ فكانَ للشرّ رَأسًا. ذُكر عند أبي نُعَيْم الفَضْل بن دُكَيْن مَن يقولُ: القرآنُ مخلوقٌ، فقال: "والله ما سمِعْتُ شيئًا من هذا حتى خرَجَ ذاك الخبيثُ جَهْمٌ" (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في "المسائل" ص: 269 وعثمان الدارمي في "الردّ على الجهمية" رقم (24، 394) و"الرد على المريسي" ص: 4 وعبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (23) بسند صحيح. (¬2) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (207) بسند صحيح.

فتبعهُ على ذلك أقوامٌ، حتى حمَلَ الرايةَ بِشْرُ بن غِياثٍ المِرِّيسيُّ ورؤوس الاعتزالِ، فاحتضَنَت دعوَتَهم الحُكومةُ والسُّلطانُ، فعَمِلَت القوّة في الناس عَمَلها ووقعَت المِحْنةُ. ولقد كانت مسألةُ القرآن من أبْرَز ما ظَهَر به جَهْمٌ من الكُفْرِ والبدعةِ، وقد كانَ يَنفي أن يكونَ لله كلامٌ، على نَهْج سَلَفِه الجَعْدِ بن دِرْهَم، ولكنَّه من بَعْدُ خافَ سطوةَ أهْلِ الحقّ وظهورَهم فحاباهم، فأثبتَ لله كلاماً، لكنَّه عنده ما خلقَه الله في غيرِهِ، وهذا هو الذي تلقّتهُ عنه المعتزلةُ، ودَعَوْا إليه الناسَ، وعزَّزَتهم عليه قوّة السُّلْطان، وهم في الحقيقةِ على أصْلِهم الجَهمي في نَفْي الكلامِ، لكنَّهم ادَّعوا إثباتَه في الظاهر على معنى فاسدٍ باطلٍ، كما سيأتي شرحُهُ ونقضُهُ. وإلى هذا العَهْدِ، وهو على وجْهِ التَّحديد عهدُ الإِمام أحمد بن حنبل وطبقتهِ، لَمْ يكن ظهَرَ في كلام الله من البِدَعِ سوى هذه البدعةِ، فناضَلَ أهلُ الحقّ من أجل دَحْضِها وإبطالِها. قال شيخ الإِسلام: "لمَّا أظهروا هذه البدعةَ اشتدَّ نكيرُ السَّلَفِ والأئمةِ لها، وعَرفوا أنَّ حقيقتها أنَّ الله لا يتكلَّمُ ولا يأمرُ ولا يَنهى، إذ الكلام وسائرُ الصفات إنَّما يعودُ حكمُها إلى مَن قامت به" (¬3). ثمَّ لمَّا وقعت المحنةُ في القرآن: هل هو مخلوقٌ، أو غيرُ مخلوقٍ، وانكشفتْ بصُمودِ أهل الحقّ وثَباتِهم على أنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوق، وظُهورِهم على الجهميةِ المعتزلةِ القائلينَ: بأنَّ القرآنَ كلامَ الله مخلوقٌ، ¬

_ (¬3) "مجموع الفتاوى" 6/ 518.

وحَقَّ الله بذلك الحقَّ ونصَرَ أهلَه، عندئذ مَكَرَتِ الجهميةُ مَكْراً جديداً لتدخُلَ على الناس من طريقٍ أخرى من طُرُق التَّلبيس والتَّمويه، فأظهروا بدعةَ اللَّفظ التي شرحْتُها في الباب السابق، وآخرونَ منهم ثَبَتوا على التقيّة لأهْل الحقّ، فوقَفوا، ولَمْ يكن وقوفاً عن ورَعٍ وديانةٍ، وإنَّما كانَ عن خوفٍ ومَهابَةٍ، أو عن شَكٍّ وتردّدٍ، كَما قد شرحته في الباب الأول. فتلقّفَ بدعةَ اللَّفظ طائفةٌ من المُنتسبينَ إلى السُّنَّة، الذَّابينَ بزَعْمِهم عنها، وحَسِبوها هي المقالةَ الوسَطَ، ومن خِلالها حاولوا الردَّ على الجَهمية المعتزلة معَ اتّفاقهم معهم في حقيقةِ مذهَبهم، وكانَ من حامِلي رايةِ هؤلاءِ ذاكَ المَدْعو عبدالله بن سعيد بن كُلّاب أبو محمد القطّان البَصريّ، الذي تُنْسَبُ له طائفة (الكُلّابية) وكانَ رجُلاً يُذْكَر بالجَدَلِ والمُناظرهِ، ولَمْ يكن مَعْدوداً في أهل الرّوايةِ والأثر مع قِدَم عهدِهِ، وهذا من عَلَامة الخُذْلان (¬4)، وكانَ من حسنَتهِ إثباتُ الصفاتِ، وربَّما كانَ بعضُ ذلك على مَعاني محرّفةٍ مبتدَعَةٍ، وقد ردَّ على الجَهمية المعتزلةِ من بعض الوجوهِ التي جعلَت بعضَ ¬

_ (¬4) وإني لأعجب ممَّن يصفه بـ "إمام أهل السُّنَّة في عصره، وإليه مرجعها" من بعض محققي الكتب، سبحان ربي! بماذا استحق هذا اللقب؟ أين ذهب أئمة السُّنَّة في زمانه؟ أين أحمد بن حنبل؟ وأين إسحاق بن راهُوَيْه؟ وأين مَن كان في تلك الطبقة من أعلام الهدى؟ ليكون ابن كُلّاب مرجعَ أهل السنَّة وإمامهم؟ وكيف يستحقّ هذا الوصفَ من كانت بضاعَتُه الكلامَ والجدلَ، ومن كان خِلْواً من السُّنن والأثر، سبحان الله! كم انعكست الحقائقُ في زماننا وانقلبت الموازين؟ وإني لا أحسَب صاحب هذه المقالة إلاَّ أحدَ رجلين: صاحب بدعةٍ يَتَسَتَّر بتحقيق كتب علماء السنَّة ليدسَّ في حواشيها سمومَه، أو جاهلًا غلبَ عليه جهله -كأكثر المدّعين للعلم من أهل زماننا- لا يفرَّقُ بين أهل الحقّ وأهل الباطل.

أهل العلْمِ والسُّنَّة يعدّونها محامدَ له. ولكنَّه في مسألة القرآن أحدَثَ ما لَم يُسْبَق إليه، ووافقَ الجهمية المعتزلةَ في بعضِ أصُولهم، بل إنَّ تحقيقَ قولهِ يَرْجِعُ إلى قولِهِم، ووافقَهم في ردّ دلائل القرآن والسُّنَّة الموافقةِ لاعتقادِ السَّلَف. وكانَ له أتباعٌ وافقوهُ على مقالَته وتَبِعوه عليها، حتى جاء الأشعريُّ (¬5) ¬

_ (¬5) هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، الذي تُنْسبُ إليه طائفة (الأشعرية)، وقد كانَ صاحب نظر وكلام، ذكيّاً فَطِناً، إلَّا أنَّ تَربّيَهُ في أحضانِ المعتزلة حَرَمه الانتفاعَ بذكائهِ وفطنتهِ، فنشأ على أصولهم واعتقادِهم، قيل: أربعين سنةً، ثمَّ نَزَع عن ذلك وتابَ منه، وأخذَ يردُّ عليهم، وصنَّفَ المصنفاتِ في ذلك، ووافقَ أهلَ السنَّة والسَّلَف في أكثر مسائل الأصول، لكن مع ذلك بَقِيَتْ فيه بقيةٌ من خُلاصة العُمُر الذي قضاه في الاعتزال، ولم يتوجَّه بعد توبته لتلقّي السُّنن والآثار -كما كانَ يفعلُ أهلُ السنَّة في زمانه- إلاَّ قليلًا، فطغى فكرُه القديمُ على طريقتهِ، فأخذ يَرُدُّ على المعتزلة بنفس قواعدهم، وربَّما زادَ عليها قليلًا من الأثر، وكانت هذه طريقةُ ابن كُلّاب وأتباعه، فكان أقرب إلى طريقته منه إلى أهل السنَّة والسَّلَف، فإنَّه وافقه وسلكَ طريقته في مسألة القرآن والصفات. فرجَعَ الأشعريُّ عن بدعةِ الاعتزالِ إلى بدعة ابن كُلّاب، ومن حسنة رجوعه إثباتُ الصفات والرُّؤية وغير ذلك من عقيدة أهل السنَّة، ووافقَ الحقَّ في غالب ما رجع إليه، وجانبه في بعضه، ومن ذلك مسألة القرآن، وهي أعظمُ المسائل خطورةً، فقد وافق فيها ابن كُلّاب، وقد علمتَ أنَّ ابن كُلّاب كان مبتدِعاً فيها بدعةً لم يُسبَق إليها، وأنَّ تحقيقَ قولِهِ يَرْجِعُ إلى موافقة المعتزلة وإنْ خالفَهم في الظاهر. ولقد اغترَّ كثيرٌ من إخواننا السلفيين بكتاب "الإِبانة" لأبي الحسَن الأشعري، ورفَعوا به من شأنه إلى حَدٍّ عدّه إمامَ أهل السنَّة والجماعة -قول أتباعه الأشعرية- بل إني رأيت لبعض المسوّدين لحواشي الكتب عدَّ اعتقادِ الأشعري هو اعتقادَ الإِمام =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أحمد في كلّ شيءٍ، وقالَ غيرُ واحد من هؤلاء: إنَّ الأشعريَّ كانَ له تحوّلان: التحوّل الأول: من الاعتزال إلى اعتقاد ابن كلّاب. والثاني: من اعتقاد ابن كلّاب إلى اعتقاد أحمد بن حنبل، وهو الذي ضَمَّنَه كتابَه "الإِبانة" وهو آخر كتبه، كذا قالوا! وفي هذا نظرٌ من وجوه يَطولُ شرحُها، غير أنّي أذكر من ذلك ما أرجو أن يَدْفعَ هذا الإِيهامَ والتلبيسَ: أولاً: ادّعاء أنَّ "الإِبانة" آخر تصانيفه تحكّمٌ لم يقيموا عليه الحجَّةَ البيّنة. ثانياً: أنَّ أبا الحسن حين رجع عن الاعتزالِ صنَّف في الردّ عليه، فهلَّا فعلَ مثل ذلك في عقيدة ابن كُلّاب التي صنَّف فيها ودعا إليها إن صحَّ رجوعُه عنها؟ ولقد ضمَّن "الإِبانة" بعضَ الردّ على المعتزلة فهلاَّ فعل مثل ذلك في اعتقاد ابن كلَّاب لو صحَّ رجوعُه عنه؟ ثالثاً: إنَّ ما ذكره في "الإِبانة" في بعض المسائل، وفي مسألة القرآن خاصَّةً، مجمَلٌ، يوافقُ في إجماله اعتقادَ أحمد واعتقادَ ابن كُلّاب جميعاً، فنظَرْنا في كلام الأشعري في القرآن في غير "الإِبانة" فوجدناه وافقَ ابن كُلَّاب في تحقيق المسألة، ولم يوافِق اعتقادَ أحمد، وما فُسِّر من كَلامه قاضٍ على ما أجْمِلَ. وشيخ الإِسلام ابن تيمية إمام رِضًى نتّفق على ذلك نحن وأنتم، ونتّفق على كونهِ من أعرف الناس بأقوال أهل القبلة، اسمعوه وهو يقول في الأشعري وهو يذكر اختلاف الناس في شأنه: "بل هو انتصرَ للمسائل المشهورة عند أهل السنَّة التي خالَفَهم فيها المعتزلةُ، كمسألة الرؤية، والكلام، وإثبات الصفات، ونحو ذلك، لكن كانت خبرتُه بالكلام خبرةً مفصَّلةً، وخبرتُه بالسنَّة خبرةً مجملةً، فلذلك وافق المعتزلةَ في بعض أصولهم التي التزموا لأجلِها خلافَ السنَّة، واعتقدَ أنَّه يمكنُه الجَمْعُ بين تلك الأصولِ وبين الانتصار للسنَّة، كما فَعَلَ في مسألة الرُّؤية، والكلام، والصفات الخبرية، وغير ذلك". حتى قال: "فلمَّا كانَ في كلامهِ شَوْبٌ من هذا، وشَوْبٌ من هذا -يعني مِن =

وقد كانَ معتزلياً منافِحاً عن الاعتزال أربعينَ سنةً -كما يقولُه أتباعُه وغيرهم- وصنَّف في الدَّعوةِ إلى اعتقادِهم، ثمَّ تابَ عنه ورجَع، فسلَكَ طريقةَ ابن كُلّاب وارْتضاها، وإنَّما خالَفَهُ في يَسيرٍ من ذلك، وربَّما ذكَرَ بعض أهل العلم والسُّنَّة أنَّ ابن كلّاب خيرٌ منه على ما فيه. وسَيظهَرُ لك في الفصْل الآتي تَوافُقُ الكُلّابيّةِ والأشعريَّةِ في مسألة القرآن. وكذا جاءَ بعدَ ابن كُلّاب مَن وافقَه في بعض قَوْلِهِ وخالفَهُ في بعضِهِ، ومِنْ أوالئكَ ممَّن كانَ له أتباعٌ: أبو الحسن أحمد بن محمَّد بن سالم البَصْري، وكانَ يُذْكَرُ بِعِبادةٍ وزُهْدٍ، وأتباعُهُ يُقالُ لهمُ: (السَّالِميّة) ومِن أشهرِهم ذاك الصُّوفيّ المَشَهور أبو طالبٍ المَكّىُّ صاحبُ "قوت القلوب". وقابَل هؤلاء طائفةٌ أخرى كان لها صِيتٌ وذُيوغٌ وكَثْرةٌ بخُراسانَ، وهم (الكرّامية) أتباعُ محمَّد بن كرّام السِّجِسْتاني، وكانَ مبتَدِعاً مَشْهوراً، خالفَ أهلَ السُّنَّة والسَّلَف في كثير من أَصولِهم في مسألة الإِيمانِ، والقرآنِ، ¬

_ = كلام أهل السنَّة، ومن كلام المعتزلة - صارَ يقول من يقول: "إنَّ فيه نَوْعاً من التجهُم، وأمَّا من قالَ: إنَّ قولَه قولُ جَهْم فقد قال الباطلَ، ومَنْ قالَ: إنَّه ليسَ فيه شيءٌ من قولِ جَهمٍ فقد قالَ الباطلَ، والله يحبُّ الكلامَ بعلمٍ وعَدْلٍ، وإعطاءَ كلّ ذي حقٍّ حقَّه، وتنزيلَ الناس منازلَهم" "مجموع الفتاوى" 12/ 205. وذكَرَ في بعض المواضع أنَّه وابن كُلّاب، ومن على طريقتهما في قولهم شيءٌ من أصول الجهمية. و"الإِبانة" لم يكن خافياً على شيخ الإِسلام، بل إنَّه ذكره في مواضع كثيرة من كتبه ونقلَ عنه، فتأمَّل ذلك، ولا تكن من الغافلين.

والصَّفاتِ، وعِصْمَة الأنبياء، وغير ذلك، وكان في أتْباعهِ مُجَسِّمةٌ مُشبّهةٌ. فهؤلاء مشاهيرُ أهل البدَع في كلام الله تعالى، وهُناك طوائفُ سِواهم أخْمَدَ الله ذكرَهم، سِوى الَمتفلسفة المنسوبينَ إلى الإِسلام -وهو بريءٌ منهم- فهؤلاء لهم قَوْلٌ تضمَّنَ قولَ الجهمية وزيادةً، كما سيأتي ذكرُهُ، وكانَ من أقطاب القائلين به: ابنُ سِينا، ذاك الزَّنْديقُ القُرْمُطي المَحْسوب على الإِسلام، وابنُ عَربيّ الطائيُّ صاحبُ "الفتوحات" و"الفصوص" رأسُ القائلين بالاتّحاد، بَلْ رأسُ أهْلِ الإِلْحادِ، المَعدود في الأولياءِ، زوراً وبهتاناً، وظُلْما وعُدواناً، وأشباهُهما من المارقينَ عن دين المُسْلِمينَ. وإنّي ذاكرٌ في هذا الباب اعتقاداتِ جميعِ هذه الطَّوائِفِ في القرآن العظيم، وعامَّةِ كلام ربّ العالمينَ، وناقِضٌ ذلك عليهم بالحُجَج والبَراهين، واختصَصْتُ بالتفصيل منهم المعتزلةَ والأشعريّةَ، فأفردتُ لكلّ طائفةٍ فَصْلاً، لعُموم البَلْوى باعتقادِ كلٍّ منهما، وخاصَّةً الأشعريةَ الَّذين ضَلَّ باعتقادهم الخاصُّ والعامُّ من المنتسبينَ للعلم وطلَبِهِ، وغيرِهم، إلاَّ قليلًا من الغُرَباء بالسُّنَّة، ولُبَّسَ على كثيرٍ من المنتسبينَ إلىَ السُّنَّة من علماءِ هذا الزَّمانِ فلم يُميّزوا بينَهم وبينَ أهلِ السُّنَّة والجماعَةِ، وحَسِبوهم منهم، وإنَّما وقَعَ هذا اللَّبْسُ لأسبابٍ سأشرحها في خاتمة كتابنا هذا. فالله المُستعانُ، وبه الاعتصامُ.

الفصل الأول ذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع

الفصل الأول ذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع في كلام الله تعالى وفيه الطوائف التالية: = 1 = المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية. = 2 = الجهمية من المعتزلة وغيرهم. = 3 = الكلابية. = 4 = الأشعرية. = 5 = السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث. = 6 = الكرامية.

• أولا: المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية

ذكر جملة أقوال طوائف أهل البدع في كلام الله تعالى • أولا: المتفلسفة وبعض غلاة الصوفية: يقولونَ: كلامُ الله لا وُجودَ له خارجَ نَفْس الرَّسول، وإنَّما هو ما يَفِيضُ على النُّفوسِ من المَعاني، أو هو ما يَفِيضُ من العَقْلِ الفَعَّال أو غيره. وربَّما قالوا: العقلُ الفعَّالُ هو جبريلُ، وربَّما قالوا: غيره. ويقولونَ: كلامُ الله مُحْدَثٌ في نفسِ النبيّ، والكلامُ الذي سَمِعه موسى كان موجوداً في نفسهِ، لم يسمَع موسى كلاماً خارجاً عن نفسهِ. قلتُ: وهذه المقالة مِن أبين الكُفر وأظهرهِ، وهي من التَّحريف المكشوفِ لحَقائق الشَّريعة، وذلك مِنْ وجوهٍ، منها: 1 - تعطيلُ صفة الكلام لله ربِّ العالَمين على الحَقيقة. 2 - تكذيبُ المعلوم من دينِ المُسلمينَ ضَرورةً من كونِ القرآن مُنْزلًا حقيقةً. 3 - تكذيبُ المعلوم مِن دينِ المُسلمينَ ضَرورةً أنَّ رَسُولَ ربّ العالَمين الذي كان يَنزِل بالوَحي هو جبريلُ عليه السلام، وهو مَلَكٌ من

ملائكة الله، ليسَ هو العقلَ الفَعّالَ ولا غير ذلك. 4 - عَدُّهُم ألفاظَ القُرآنِ وحُروفَهُ مِن إنشاءِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، لأنَّ العقلَ الفعّالَ فاضَ عليه بالمَعاني فقط. 5 - موَافَقَتُهم الجهميةَ في كونهِ مخلوقاً. وجميعُ هذا، بل بعضُه متضمّنٌ تعطيلَ صفَةِ الكَلامِ لله ربِّ العالَمين. لكنَّ هؤلاء قومٌ أمْلى عليهم وليُّهم إبليسُ أنَّهم بلَغوا في علْمِ الحَقيقةِ (!) مَبْلَغاً لم يبلُغهُ نبيٌّ ولا رَسولٌ، كيفَ وقائلُهم يقولُ: "خُضْنا بَحْراً وقفَ الأنبياءُ بساحلهِ"؟ وإنَّا نقولُ لهم: صَدَقْتُم، إنَّ الأنبياءَ لم يخُوضوا في بحارِ الظُّلُمات، ولم يَجْرُؤوا على الله جرأتكُم، وإنَّما كانَ القائلُ منهم يقولُ: {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50] لا بإملاء الشيطان وتزيينهِ، و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. ونقولُ: كَذَبْتُم يا هؤلاء، فإنَّ الأنبياءَ عليهم السَّلام أعلمُ الخَلْقِ بالله وأعرفهُم به. وليكْفِكُمْ خِسَّةً ودنَاءةً وكُفْراً أنَّ إلهَكُم الَّذي تعبدونَ في الحُشوشِ والنَّجاساتِ، أو هو الكلبُ والخنزيرُ. وأمَّا نَحْنُ أهلَ الإِسلام فإلهنا الله الذي لا إله إلَّا هو، فوقَ سَبْع سَماواتهِ على عَرْشهِ استوى، ويعلَمُ السِّرَّ وأخْفى. ولقَدْ كنتُ ابتداءً حذفْتُ ذكرَ هؤلاء من كتابي هذا، ولكني رأيتُ

• ثانيا: الجهمية من المعتزلة وغيرهم

علماءَنا من أهْلِ السُّنَّة يذكرونَهم في جملةِ الطوائفِ الخارجةِ عن أهلِ الحقّ في مسألةِ كلامِ الله، فآثرتُ الاقتداءَ بهم. وحين ذَكَر شيخُ الإِسلام قولَهم قال: "وهذا القولُ أبْعَد عن الإِسلام ممَّن يقول: القرآن مخلوق" (¬6). • ثانيا: الجهمية من المعتزلة وغيرهم: يقولون: إنَّ الله تعالى لا يقومُ به شَيْءٌ من الصِّفات: لا حَياةٌ، ولا علمٌ، ولا قُدْرةٌ، ولا كَلامٌ، ولا غيرُ ذلك، فلذا فإنَّ كلامَه مخلوقٌ، خلَقَه في بعض الأجْسام، وابتداؤُه من ذلك الجِسْم لا مِن الله، فلا يقومُ بنفسهِ كلامٌ لا معنى ولا حروفٌ. وفسَّروا المُتكلِّمَ بأنَّه: مَن فعَلَ الكَلام، ولو في مَحَلّ مُنفصلٍ عنه (¬7) وقد كشفتُ عن شُبُهاتهم وأباطيلِهم في الفصل الآتي. • ثالثا: الكلابية: وهم أتباعُ عبدالله بن سَعيد بن كُلّاب -كما سبق قريباً-. يقولون: لم يَزَلِ الله تعالى متكلّماً، وكلامهُ صِفَةٌ له قائمةٌ به، وهو الكلامُ النفسيُّ، وهو قديمٌ بِقِدَمهِ تعالى، غيرُ متعلّقٍ بمَشيئتهِ وقدرتهِ، وقيامُ الكلام به كقيامِ الحَياةِ والعَلْم، وليسَ هو بحُروفٍ، ولا يكونُ صوتاً، ولا ¬

_ (¬6) "مجموع الفتاوى" 12/ 163. (¬7) قال شيخ الإِسلام: "ففسروا المتكلم في اللغة، بمعنى لا يعرف في لغة العرب ولا غيرهم لا حقيقة ولا مجازاً" "مجموع الفتاوى" 12/ 29 - 30.

• رابعا: الأشعرية

يتجزّأ ويتبعَّضُ، ولا يَتَغايرُ ويتفاضَلُ. وهو معنى واحدٌ، يصيرُ أمْرًا ونَهْيًا عند وجود المأمورِ المَنْهِيّ. فالأمْرُ والنَّهيُ والخَبر عندَهم معاني محدَثةٌ. ويقولون: الحروفُ المَنظومة قراءةُ القرآنِ، وهي عِبارةٌ عن كلام الله، وهي مخلوقةٌ. والعِباراتُ عن كلام الله تتغايَرُ وتَخْتَلفُ، فَيُعبَّرُ عنه بالعربيَّةِ كالقرآن، والعِبْريةِ كالتَّوراةِ، والسّريانية كالإِنجيلِ، وكلُّه كلامٌ واحدٌ لا يتغايَرُ، وإنَّما تغايَرَت العبارةُ. وقولُ الله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} حتَّى يفهمَ كلامَ الله. 1 - فنفَوا أن يكونَ القرآنُ العربيُّ المُنْزَلُ، المؤلّفُ من الحُروف المَنظومة كلامَ الله، وإنَّما هو عبارةٌ عنه مخلوقةٌ. 2 - وأنكَروا أن يكونَ الرَّبُّ تعالى لَم يَزَل آمِرًا ناهيًا مُخْبِرًا، وإنَّما هذه معاني محدَثةٌ. 3 - وأثبَتوا أنَّ صفةَ الكلامِ الثَّابتةَ لله تعالى، إنَّما هي الكلامُ النَّفْسيُّ، وهو قائمٌ به غيرُ متعلّقٍ بمَشيئتهِ وقُدْرتهِ، وهو معنى واحدٌ. • رابعا: الأشعرية: وافَقوا الكُلّابيّةَ في جَميع قولِهم، لكنَّهم خالَفوهم في: 1 - أنَّ كلامَ الله في الأزَلِ أمْرٌ وَنَهْيٌ وخَبَرٌ واستخبارٌ، والله تعالى لَمْ يَزَل آمِرًا ناهِيًا مُخْبِرًا، وأنَّ هذه صفاتٌ للكَلام لا أنواعٌ له، وكلامَ الله

القائمَ بذاتهِ (الكلام النفسيّ) هو الأمرُ بكلّ مأمورٍ، والنَّهْيُ عن كلّ مَنْهِيّ عنه، والخَبَرُ عن كلّ مُخْبَرٍ عنه. 2 - في قول بعضهم: هو عدَّةُ مَعانٍ وليس معنًى واحدًا: الأمرُ، والنهيُ، والخَبرُ، والاستخبارُ، والنّداءُ، و .... فلمَّا توافق قولُ الكُلّابيّة مع الأشعريةِ في الغالب، لم أفْرِدْهم بالردّ عليهم، اكتفاءً بالردّ على الأشعريةِ، وسيأتي مفصلًا في الفصل الثالث من هذا الباب. وهناك طائفةٌ أخرى وافقت الأشعريةَ في اعتقادِها، وهم المعروفون بـ (الماتُريدية) أتباع أبي مَنْصور الماتُريديّ (¬8)، الذي يعدّونه الإِمام الثاني ¬

_ (¬8) هو أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتُريدي السَّمَرْقَنْدي، كانَ معدودًا في فقهاء الحنفية، ولذا تجد أكثر المنتسبين لعقيدته من الحنفية، وكانَ صاحب جدَل وكلام، ولم يكن من أهل السنن والآثار، ولم يكن له أتباع يُذكرون في عَهْده وبعدَه بمُدّة طويلة، حتى جاء مِن بعدُ من أحيا مذهبه من الحنفية، وحقَّقه وهذَّبه، وتمضي السنونَ فتظهر طائفة تدعى (الماتُريدية) قد دانت باعتقاده، وفي الزَّمن المتأخّر صارَ لها شأنٌ وأتباعٌ، وإنَّما وقع ذلك -فيما لا أرتاب فيه- بالبُعد عن السنن والجَهل بها وبأهلها، حتى وصل الحالُ إلى أنْ لا يُعرَف للأمَّة -ولأهل السنَّة خاصةً- إمامٌ يُقْتَدى به في الاعتقاد سِوى أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتُريدي. فهذه الجامعات والمعاهدُ الكبرى في أكثر بلاد المسلمينَ لا يُدْرَسُ فيها إلَّا اعتقاد الأشعري واعتقاد الماتُريدي، فتربّى الطلاَّب والشيوخُ، وتخرّجوا علماء (!) وهم لا يعرفون إلَّا توحيد الأشعرية والماتريدية. ولقد رأيت كتابًا للماتريدي اسمه "كتاب التوحيد" كذا سُمّي! غفرانكَ اللَّهم! وهو أحرى بأن يُسَمَّى بـ "الجدل والمنطق" فلقد أبانَ عن حقيقة الماتُريدي، وكشفَ =

• خامسا: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث

لأهلِ السُّنَّة، كذا زعَموا! فلمَّا رأيتهُم متوافقينَ معهم في الاعتقاد لَمْ أرَ ضَرورةً لإِفرادِهم بالكلام عنهم. • خامسا: السالمية ومن وافقهم من أهل الكلام والحديث: يقولونَ: لله تعالى صفةُ الكَلام، وكلامُهُ حُروفٌ وأصواتٌ، وهي قديمةٌ أزليَّةٌ غيرُ مخلوقةٍ، ولَها مَعان تقومُ به، وكلامُه تعالى غيرُ متعلّقٍ بمشيئتهِ وقدرتهِ. وطائفةٌ منهم زادَت فقالت: إنَّ الصَّوتَ القديمَ هو المَسموعُ مِن القارىء إذا قرأ القرآنَ. قلتُ: وهؤلاء وافَقوا الأشعريةَ في عَدَم تعلُّق كلامِهِ تعالى بمشيئته وقدرتهِ، وبهذا جانَبوا اعتقادَ السَّلَف السَّديدَ القَويمَ. ولكنهم وافقوا السَّلَف في أنَّ كلامَ الله غيرُ مخلوقٍ حروفَهُ ومعانِيَهُ، وبهذا جانَبوا اعتقاد الجَهميةِ والأشعريةِ، فقولهم جُمْلةً خيرٌ من قولِ الأشعرية -على ما فيه-. ¬

_ = عن حاله بأنه إمام جَدَلٍ ومَنْطِقٍ ولغوٍ كثيرٍ، لا إمام علم وسُنَّة -وإن كانَ قد تضمَّن بعضَ الحق، لكنه مَشوب بجدَل وفلسفة -فبماذا تُرى استحقَّ وصف "مصحح عقائد المسلمين" كما يصفه بهذا اللكنويُّ وغيره؟ فإلى الله المُشتكى من تلبيس الملبّسين، وتضليل المضلّلين. والإِنصاف يقتضي أنْ نقول: له مجهودٌ -كالأشعري- في الانتصار للسنة - لكن بطرق مُبْتَدَعة- والردّ على الجهمية وغيرهم -لكن بأصول مخترعة-.

• سادسا: الكرامية

أمَّا الطائفةُ التي غَلَتْ منهم فزعَمَتْ أنَّ الصَّوْتَ القديمَ هو المسموعُ من القاريء، فهو قولٌ ظاهرُ الفَسادِ، كَما بيّنْتُه في أواخِر الباب السابق، وهو يُفْضِي بالقائلينَ به إلى القَوْل بالحُلولِ، أي: أنَّ صفةَ الخالقِ التي هي صوتُهُ بكلامهِ قد حَلَّتْ بالمَخلوقِ، وربّما أفضى في الآخِر إلى القول بقِدَم سائرِ كلامِ المخلوق وصوتهِ، وفَسادُ هذا أبْيَنُ من أنْ يُسْتدلَّ له، ومنافاتُهُ للكتابِ والسُّنَّة واعتقادِ السَّلَفِ أظهَرُ من أن يُتَكلَّفَ للجَواب عنه. • سادسا: الكرامية: يقولونَ: كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وهو مَعَ ذلك حادثٌ، وهو حروفٌ وأصْواتٌ قائمةٌ بذات الله تعالى، متعلّقٌ بمشيئتهِ وقُدْرتهِ بعدَ أنْ كانَ الكلامُ مُمْتَنِعًا عليه. ويقولونَ: لم يَزَل الله متكلِّمًا، بمعنى: أنَّه قادرٌ على الكَلام. ويقولونَ: ليسَ لله كلامٌ في الأزَل، أي لم يكن متَّصفًا به، لعدَمِ وُجودِ الحادث. قلتُ: فوافَقَ هؤلاء السَّلفَ في إثباتِ تعلُّقِ الكلام بالمَشيئة والقدرةِ، وأنَّه بحَرْفٍ وصَوْتٍ، ولكن ناقَضوهم في سَلْبِ الرَّبِّ تعالى صفةَ الكلامِ في الأزَل، وإثباتِ عَجْزهِ تعالى عنه، وهو تحكّمٌ باطلٌ، ورَجْمٌ بالغَيْبِ، مُتضَمِّنٌ وصْفَ الرَّبِّ تعالى بالنَّقْصِ، وسَلْبَ صفاتِ كمالهِ، والسَّلَفُ علَى أنَّ كلامَ اللهِ صفةٌ ثابتةٌ له تعالى في الأزَل، ويتكلَّمُ بمشيئتهِ وقدرتهِ، ويتكلَّمُ بحَرْفٍ وصوتٍ، وأقَمْنا الحُجَّةَ على ذلك في الباب الأوَّل بما يُغني ويَكفي.

والكَرّامية أصحابُ زَيْعٍ وضَلالٍ في أكثر الاعتقادِ، وهي طائفةٌ مائلةٌ عن القَصْد، وإنَّما المقصودُ هنا ذكرُ اعتقادِهم في كلام الله تعالى، ومناقَضَتهِ لاعتقاد السَّلَف. ولقَدْ أخمَدَ الله تعالى بدعةَ هذه الطائفةِ في الزَّمانِ المتأخِّرِ، بعدَ ما كان لها من بُعْدِ الصِّيت وكَثْرَةِ الأتباع، فله الحَمْدُ والمِنَّة.

الفصل الثاني كشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم

الفصل الثاني كشف تلبيس الجهمية المعتزلة في كلام الله تعالى وحكم السلف والأئمة فيهم وفيه ثلاثة مباحث: = المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها. = المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام. =المبحث الثالث: المعتزلة في ميزان أئمة السلف.

المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها

المبحث الأول: ذكر شبه المعتزلة ونقضها لقد ذكرتُ لك اعتقادَ المعتزلةِ في كلام الله تعالى جُمْلَةً، وأنَّه اعتقادُ الجهميةِ، إذ المعتزلةُ جَهْميَّةٌ في مسألةِ كلام الله وفي غيرها كالصِّفاتِ والرُّؤْية وغيرِ ذلك، واعتقادُهم مخالفٌ للكتابِ والسُّنَّة وإجماع السَّلَف، كما يَظهر لَكَ ذلك من خِلال مُقارَنَتهِ بما شَرَحْناه في الباب الأوَّل. وإنِّي ذاكرٌ هنا -بحَوْل الله وقوَّته- ما شَبَّهَتْ به المعتزلةُ على من ضَعف تحصيلُه، ومُجيبٌ عن جَميع ذلك بإيجازٍ غيرِ مُخِلٍّ إن شاءَ الله. • الشبهة الأولى: القرآنُ شَيْءٌ، وقَدْ قالَ الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] ولفظ (كلّ) للعُموم، فالقرآنُ داخِلٌ في عُموم ما خَلَقَ الله من الأشياء. جوابها: لا أحسَب أنَّ فسَاد هذا القَوْلِ خافٍ على مَن قالَ به، ولكنَّهم أرادوا إدخالَ الرَّيْب والشَّكِّ على مَن لا يَفْهَم، وذلك أنَّ صيغةَ (كلّ) وما يُشْبِهُها من صِيَغ العُموم، عُمومُ كُلّ منها إنَّما هو بحَسَبهِ، قالَ تعالى في ريحِ عادٍ:

{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] فالتَّدميرُ إنَّما كانَ بأمْرِه تعالى، وأمرُهُ تعالي كلامُهُ، قال: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} فأبانَ أنَّ مساكنَهم لَمْ تُدَمَّر، ومُقتضى ذلك أنَّها لم تُدمِّر الأرضَ ولا الجبالَ ولا غيرَ ذلك مِنْ سِوى أهلِها، فدلَّ ذلك على أنَّ عمومَ (كلّ) إنَّما كانَ في حقّ الكُفّار المُستحقّينَ للوَعيدِ، لا كلّ شَيْءٍ حتى من سِواهُم من الجَماد وغيره، وهذا معقولٌ ظاهرٌ. وقال تعالى في حَقّ بلقيسَ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] ومعلومٌ أنَّها لَمْ تُؤْتَ ملكَ سليمانَ، ولا غيرَ أرضِها من الأرض. ولقَدْ أثبتَ تعالى أنَّ له نَفْسًا، قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه: 41] وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185، الأنبياء: 35] فَهلْ يُدْخِلُ الجَهْميُّ نفسَ الله تعالى في هذا العُموم؟ إنَّ الأنْفُسَ التي تموتُ إنَّما هي الأنفسُ المَخلوقة، أمَّا الخالقُ تعالى بصفتهِ فهو حيّ لا يموتُ. فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ عمومَ (كلّ) إنَّما هو بحَسَبِ المَوضع الذي ورَدَت فيه. فكذلكَ قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}. فالله تعالى شَيْءٌ، وصفتُهُ شَيءٌ، قَالَ تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] والمخلوقُ شيءٌ، والله هو الخالقُ، وليسَ بمخلوقٍ، وصفاتُهُ تابعةٌ لذاتهِ، فليسَتْ بمخلوقةٍ، والقرآنُ كلامُهُ، وكلامُهُ

صفَتهُ، وصفتُهُ غيرُ مخلوقةٍ، فالله شَيْءٌ غيرُ مخلوقٍ، وصفَتهُ شَيْءٌ غيرُ مخلوقٍ، والمخلوقُ مَن وقَعَ عليه فِعْلُ الخَلْق، وهو كلّ شيءٍ سِوى الله تعالى وصفته. ولكنَّ الجَهْميةَ المعتزلةَ أوقَعَهم في ذلك اعتقادُهم أنَّ الله تعالى لا تقومُ به الصِّفاتُ، فصفاتُهُ عندهم غيرُه، ونحن قَدْ قرَّرنا في الباب الأول أنَّ الصفةَ إنَّما تقومُ بالموصوفِ، والكلامَ إنَّما يقومُ بالمتكلّم، ولا تُعْقَلُ ذاتٌ مجرّدةٌ عن الصِّفات، وهذا من الجَهْميةِ المعتزلةِ هو التعطيلُ لصفاتِ الخالق تعالى، لأنَّ الصفةَ إذا قامَتْ بمَحَلٍّ كانت صفةً لذلك المَحَلّ، فباعتقادِهم تَبْطُلُ جميعُ الصِّفاتِ. وسبحان مَن شاءَ أن يُظهِرَ مخبوأهم ويكْشِفَ مَستورَهم، فإنَّهم أدخَلوا صفةَ الله تعالى في عُموم (كلّ) في هذه الآية، وأخرَجوا أفعالَ العباد من هذا العموم، وقالوا: أفعالُ العباد غيرُ مخلوقةٍ لله، فكذَّبوا القرآن، من حيثُ أنَّ الله تعالى قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فكذَبُوا على الله ربِّ العالَمين، وألْحَدوا في آياتِهِ، فصرَفوا الآيةَ عمَّا هي لَه، واحتجّوا بها على ما لَيْسَت له. • الشبهة الثانية: القرآنُ مجعولٌ، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] والجَعْل: الخَلْق. جوابها: لفظ (جَعَلَ) يأتي بمعنى (خَلَق) وبغيره.

والقاعِدَة فيه: أنَّه لا يأتي بمعنى (خَلَق) إلَّا إذا تعدَّى إلى مفعولٍ واحدٍ. ومنه قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]. وربَّما تعدّى إلى مفعول واحدٍ ولم يَكن بمعنى (خلق) كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الأنعام: 100، والرعد: 33] وقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5]. أمَّا إذا تعدَّى إلى مَفعولين فلا يكونُ بمعنى (خلَقَ) بأيّ حالٍ. ومن ذلك قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]. وكذلكَ منه قولُه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} فالمفعولُ الأوَّل الضَّميرُ والثاني [قُرْآنًا] والمعنى: قُلناه قرآنًا عربيًا، أو بَيَّناه. فبطلَ تمويه المعتزلةِ بفَضْلِ الله. وقَدْ أجابَ الإِمامُ أحمدُ رحمه الله المعتزليَّ حينَ احتجَّ عليه بهذه الآية بقوله: "فقد قالَ الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} أفَخَلَقهم؟ " (¬9). • الشبهة الثالثة: القرآنُ مُحْدَثٌ، كما قال الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ¬

_ (¬9) رواه صالح في "المحنة" ص: 53 عن أبيه به.

إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] وكما قال: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5] والمُحْدَث: المخلوق. جوابها: قوله (محْدَث) في الأصْلِ من (الحُدوثِ) وهو كونُ الشَّيءِ بعدَ أن لم يكنْ، والقرآن العَظيمُ حينَ كان يَنزِلُ، كان كُلَّما نزَلَ مه شيءٌ كانَ جَديداً على الناس، لَم يكونوا عَلِموه مِن قَبْلُ، فهو مُحْدَثٌ بالنسبة إلى الناسِ، ألا تراهُ قال: {مَا يَأْتِيهِمْ}؟ فهو محدَثٌ إليهم حين يأتيهم، ومنه قولُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله يُحدِثُ لِنبيِّه ما شاءَ، وإنَّ مِمَّا أحدثَ لنبيّه: أنْ لا تكلّموا في الصَّلاة" (¬10) وأمرُ الله: قولُهُ وكلامُهُ، وهو غيرُ مخلوقٍ، مُحْدَثٌ بالنسْبَةِ إلى العبادِ، أي: جديدٌ عليهم، فليسَ المحدَثُ هنا هو المخلوق. وهذا الجَواب أحسن ما قيل في ذلك. قالَ أبو عُبيد القاسِمُ إمامُ العربيةِ: " {محْدَثٍ} حدَثَ عند النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابهِ لمَّا عَلَّم الله ما لم يكن يُعْلَم" (¬11). وقال ابنُ قُتَيْبَة: "المحدَثُ ليسَ هو في مَوْضِع بمعنى: مخلوق، فإنْ أنْكَروا ذلك فليقولوا في قول الله: {لَعَل اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلكَ أمْراً} [الطلاق: 1] أنَّه يخْلُقُ، وكذلكَ: {لَعَلهُمْ يَتقُونَ أوْ يُحْدِث لَهُمْ ذِكْراً} [طه: 113] أي: يُحْدِثُ لهم القرآنُ ذِكْراً، والمعنى: يُجَدِّدُ عندَهم ما لَمْ ¬

_ (¬10) سبق تخريجه ص 60. (¬11) "خلق أفعال العباد" ص: 37.

يكن، وكذلكَ قولُهُ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي: ذكْرٍ حَدَثَ عندَهم لم يكن قبلَ ذلك" (¬12). وقال شَيخُ الإِسلام: "المحدَثُ في الآية ليسَ هو المَخلوقَ الذي يقولُهُ الجَهميُّ، ولكنه الذي أنزلَ جَديداً، فإنَّ الله كانَ يُنْزِلُ القرآنَ شيئاً بعدَ شيْءٍ، فالمُنْزَلُ أوَّلاً هو قديمٌ بالنسبةِ إلى المُنْزَلِ آخراً، وكلُّ ما تقدَّمَ على غيرهِ فهو قديمٌ في لُغَةِ العرَب" (¬13). وربَّما أجابَ بعضُ الأئمَّة بغير هذا، لكنَّ هذا أصَحُّ وأظهرُ. • الشبهة الرابعة: جَعَلَ الله أمرَه مقدوراً فقال: {وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38] وأمرُ الله: كلامُهُ، والمقدورُ: المخلوقُ. جوابها: إنَّ لفْظَ: (الأمر) إذا أضيفَ إلى الله تعالى يأتي على تَفْسيرينِ: الأوَّل: يُراد به المَصْدر، كقولهِ تعالى: {لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْر} [الأعراف: 54] وهو غيرُ مخلوقٍ -كما ذكَرْناهُ في الباب الأوَّل في الاحتجاج لهذه المسألة-. وهذا يُجْمَع على: (أوامر). والثاني: يُراد به المفعولُ الذي هو المأمورُ المقدورُ، كقولهِ تعالى: ¬

_ (¬12) "الاختلاف في اللفظ" ص: 234 - 235 - "عقائد السلف" -. (¬13) "مجموع الفتاوى" 12/ 522.

{وَكَانَ أمرُ اللهِ قَدراً مَقْدُوراً} فالأمرُ ههنا هو المأمورُ، وهذا يُحْمَع على: (أمور) وهو مخلوق. وسبق أن ذكَرْتُ في الباب السابق أنَّ صيغةَ المَصْدَر قد تَرِدُ بمعنى المفعولِ في كلام العَرَب. قال شيخ الإِسلام: "ففي قوله: {وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} المرادُ به المأمورُ به المقدورُ، وهذا مخلوقٌ، وأمَّا في قوله: {ذلِكَ أمْرُ اللهِ أنْزَلَهُ إِليْكمْ} [الطلاق: 5] فأمرُهُ كلامُهُ، إذ لَمْ يُنْزِلْ إلينا الأفعالَ التي أمَرنا بها، وإنَّما أنزلَ القرآنَ، ولهذا كقولهِ: {إِن اللهَ يأمُرُكُمْ انْ تُؤدوا الأمَانَاتِ إلى أهلِهَا} [النساء: 58] فهذا الأمرُ هو كلامُهُ" (¬14). قلتُ: ونظيرهُ لفظُ (الخَلْق) فإنَّه يأتي مَصْدراً فهو حينئذٍ فِعْلُ الربّ تعالى وصفتُهُ، ويأتي مفعولاً فهو حينئذٍ المخلوقُ الذي وقعَ عليه فِعْلُ الخَلْق. فليس لفظُ (الأمْر) إذاً على ما قالت الجَهْميةُ المعتزلةُ من اختصاصهِ بالمَفعول المقدورِ. • الشبهة الخامسة: سمَّى الله تعالى عيسى (كلمتَه) فقال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] وقال: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45] وعيسى مخَلوقٌ، فالكلمةُ مَخلوقةٌ. ¬

_ (¬14) "مجموع الفتاوي" 8/ 412.

جوابها: إنَّ عيسى عليه السلام مخلوقٌ، خَلَقَه الله بأمْره حين قال له: {كُن} كما قالَ تعالى: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] وقال: {إن مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُم قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فكانَ عيسى بكلمة الله تعالى وقوله (كُنْ). فالكلمةُ (كن) لا عَيْنُ عيسى، والمُكَوَّنُ بها هو عيسى عليه السلام. وبهذا أجابَ غيرُ واحد من الأئمَّةِ. قال قتادةُ -وهو من أئمة التابعينَ في التفسير وغيره- قوله: {بكَلِمَةٍ مِنْهُ} قال: "قوله (كن) فسمَّاهُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- كلمته , لأنَّه كانَ عن كلمتهِ كما يُقال لِما قدَّرَ الله مِنْ شَيْءٍ: هذا قَدَرُ الله وقضاؤُهُ، يعني به: هذا عن قَدَر الله وقضائِهِ حَدَثَ" (¬15). • الشبهة السادسة: القُرآن تَرِد عليه سِماتُ الحدوثِ والخَلْق، وذلكَ من وجوهٍ عِدَّة: 1 - قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] فأخبرَ عن وقوع النَّسْخ فيه. 2 - هو حروفٌ مُتعاقبةٌ، يَسْبِقُ بعضُها بعضاً. 3 - لا يكونُ إلاَّ بِمَشيئةٍ واختيارٍ، فيلزَمُ منه أن تَسْبِقه الحَوادثُ، ¬

_ (¬15) رواه ابن جرير 3/ 269 بسند صحيح.

ويتأخَّرَ عنها. 4 - له ابتداءٌ وانتهاءٌ، وأوَّلٌ وآخرٌ. 5 - هو متبعّضٌ متجزّئٌ. 6 - مُنْزَلٌ، والنُّزولُ لا يكونُ إلاَّ بحركةٍ وانتقالٍ وتَحَوّلٍ. 7 - مكتوبٌ في اللَّوْح والمَصاحفِ، وما حُدَّ وحُصِرَ فهو مخلوقٌ. وهذه الوجوهُ وما يُشْبِهها صفاتٌ للمَخلوق المُحْدَث. جوابها: هذه المعاني جميعاً مبنيّةٌ على أصْلِهم الذي ابتدَعوه لإِثبات خَلْق العالَم وقِدَم الصَّانع، وهو الاستدلالُ على حُدوثِ العالَم بطريقةِ الحَركات، فقالوا: لا يُمْكِنُ معرفةُ الصّانع إلاَّ بِإثباتِ حدوثِ العالَم، ولا يُمكنُ إثباتُ حدوث العالم إلاَّ بإثبات حدوثِ الأجسام، والاستدلال على حدوثِ الأجسام إنَّما هو بحُدوث الأعْراضِ القائمة بها كالحرَكة والسُّكون. فهذا الأصلُ المبتَدَعُ هو الذي جرَّهم إلى القولِ بخَلْقِ القرآن ونَفْي الصِّفاتِ والأفعالِ لله تعالى (¬16). ولو أنَّهم سَلَّموا لنُصوص الكتابِ والسُّنَّة لكفَتْهم في ذلك، ولانْتَشَلَتْهُمْ من وَرْطَةِ التَّعْطيل، فإنَّ هذه أَمورٌ لا يُتَوصَّلُ إليها بمُجرَّدِ العقلِ، والله تعالى قد أثبتَ أزليَّتَه وخَلْقَ العالَم بأحسَن البَراهين وأقوى الحُجَج: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}؟ ¬

_ (¬16) انظر: "درء التعارض" 2/ 99.

ونحنُ لا نُناظر المعتزلةَ في دفْع هذه الأباطيل بمُحْدَثاتٍ من الأقوالِ والأصول، ولا نُسلِّمُ لهم قولَهم ودَعْواهم، وإنَّما نرفُضُ ذلك أشدَّ الرَّفْضِ، ونقولُ: هو بِدْعة ضَلالةٌ لِما جَرَّت إليه من الكُفْرِ والباطل -شأنَ سائر البدع- ولا نسلُكُ مَسلكَ أهْل البِدَع في الرَّدِّ عليهم ومناظَرتِهم شأنَ الأشعريةِ والماتُريديةِ أتباع ابن كُلّاب والأشعريّ والماتُريديّ، فإنَّ هؤلاء أرادوا نقضَ ضَلالات المُعتزلةِ بنفس طريقتِهم، فتَراهم تابَعوهم في هذا الأصل الذي ذكَرْناه عنهم، فتسلَّطت عليهم به المعتزلةُ وأظهَرت تناقُضَهم. وصدَق فيهم شيخ الإِسلام حين قال: "فهم قَصَدوا نَصْرَ الإِسلام بما يُنافي دينَ الإِسلام" (¬17). وأصلُ المعتزلةِ الذي ابتدَعوه أوقعَهم في قياسِ صفةِ الخالقِ على المخلوق وصفتهِ، فإنَّهم إنَّما بَنوا أصلَهم على ما عَهِدُوه في المخلوق من أحوالٍ وصفاتٍ، فحَسبوا أن ذلك يَلْحَقُ صفةَ مَن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فقاسُوا ما لَمْ يُحيطوا به عِلْماً على ما حصّلوهُ من الظنونِ والأوهام التي حَسِبوها غايةَ العلوم. وهذا مِن أعظَم ما أدخلَه الشَّيطانُ -لعنه الله- من التلبيس على هؤلاء أنْ زيَّنَ لهم ابتداعَ أصولٍ لم تَرِدْ في كتابٍ ولا سُنَّة، فالتَزموها، والتَزموا بسَبَبها خِلافَ الشَّريعةِ، فجَعلوها الحاكمَ على الكتابِ والسُّنَّة، ومِنْ تلكَ الأَصولِ الفاسدةِ هذه الدَّعاوى المجرّدةُ عن البُرهاَن مِمَّا هو مَحْضُ العُقولِ الزَّائفةِ، القَفْرِ من نُور الوَحْي. ¬

_ (¬17) "مجموع الفتاوى" 12/ 185.

فكلُّ ما أوردوهُ ممَّا سَمَّوْهُ (معقولاً) ليَستدلوا به على خلق القرآن هو من قِياسِ صفةِ الخالق على صفةِ المخلوق، وهو كُفْرٌ بالله تعالى، فإنَّه كما لا شِبهَ له في ذاتهِ فلا شِبهَ له في صفاتهِ، وهذا مقرَّرٌ في موضعه. فهذه أظهرُ ما استدلَّ به الجهميةُ المعتزلةُ من الحُجَجِ (!) وأبينُها وأقْواها عندَهم، وقد بانَ لك زيفُها وبُطلانُها، وقارِنْها بما سَبَق ذكرُهُ من الأدلَّةِ لاعتقادِ أهل السُّنَّة والجَماعة، يَجْلُ لك الحقُّ بذلك وتعلَم استقامةَ منْهَج أهل السُّنَّة، واتّباعَ أهل البدع للأهواءِ والظُّنون. وصدَقَ شيخ الإِسلام -وهو بهم خَبيرٌ- في قوله: "وليسَ مَعَ هؤلاء عن الأنبياء قولٌ يُوافقُ قولَهم، بل لهم شبَهٌ عقليةٌ فاسدةٌ" (¬18). • • • • • ¬

_ (¬18) "مجموع الفتاوي" 12/ 48.

المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام

المبحث الثاني: ذكر ما حرفت المعتزلة من معاني التنزيل لابطال صفة الكلام • أولا: تكليم الله تعالي لموسي عليه السلام: قالوا: إنَّ الله خلَقَ كلاماً في الشَّجَرةِ التي أتاها موسى فسَمِعَه موسى. واستدلّوا بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص: 30] على أنَّ ابتداء الكلامِ كان من الشَّجَرة. فحرَّفوا التنزيلَ، ليُثْبِتوا التَّعْطِيلَ، بتَقرير أصلِهم الفاسدِ، ونَفْيِ صفة الله تعالى. والرد عليهم من وجوه: الأول: أنَّ الكلامَ هو ما قام بالمتكلّم لا ما قامَ بغيره، وقيامُ الصفة إنَّما يكونُ بالموصوف بها لا بغيرهِ، والصِّفَةُ إذا قَامَتْ بمحلّ كانتْ صفةً له لا صفةً لغيرهِ -كما فصّلتُ القولَ فيه في الباب الأوَّل- فما خلقَه الله تعالى من الصفاتِ في الأشياء ليسَ مِن ذلك شَيْءٌ صفةً له، إنَّما هي صفاتٌ

لمَخلوقاتهِ، فهو تعالى قد أنطَقَ سائرَ الأشياءِ نُطْقاً مُعتاداً أو غيرَ معتادٍ، فأنْطقَ الإِنسانَ والجانَّ وغيرَ ذلك من خلقهِ نُطْقاً مُعتاداً، وأنطقَ السماوات والأرْضَ وما بينَهما نُطْقاً غيرَ معتاد، كما قالَ تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الِإسراء: 44] وقالَ في غير موضِع {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وأنْطَقَ الطيرَ لسُليمانَ، وأنْطَقَ النَّملةَ، وأسمَعَ نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- تسبيحَ الحَصى (¬19)، وفي الآخرة تَنْطِقُ الجنَّةُ والنَّارُ، وتُحَدَّث الأرضُ بأخبارها، وتشهَد الجلودُ على أهلِها حين تُبْلى السَّرائرُ: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصْلت: 21] فكلُّ هذا الِإنطاقِ مِن خَلْقِ الله في الأشياء، فنُطْقُها صفاتٌ لها, ولا يقولُ أحَدٌ: إنَّ نُطْق الأشياءِ صفَةٌ لله، إلاَّ حُلوليّ مارقٌ يعتقدُ أنَّ صفةَ الله تَحُلُّ في المَخلوقِ، أو اتّحاديٌّ يَرى اتّحادَ المَخلوق في الخالِق، فَنُطْقُ المَخلوق وصوتُهُ وكلامُهُ هو بعينهِ صفةُ الرَّبّ تعالى، كما قالَ قائلهُم: وكلُّ كَلامٍ في الوُجودِ كَلامُهُ ... سَواءٌ عَلَيْنا نَثْرُهُ ونِظامُهُ وهذا غايةُ الكُفْر والإِلحادِ، إذ مقتضاهُ أنَّ ما يَنْطِق به المخلوقُ من الخَيْر والشَّرّ وفُحْش القَوْلِ، بل وحتَّى أصوات البهائم وسائر الحَيواناتِ، كلُّ ذلك صفةٌ للرَّبِّ تعالى وتقدَّسَ وتنزَّةَ عن صفات خلقهِ. فلو أخلصَت المعتزلةُ النيَّةَ لله وسألوه التَّوفيق لاهتدوا إلى فُحْشِ ما ¬

_ (¬19) كما ورَد ذلك بإسناد صحيح، خرجته وفصّلت القول فيه في تعليقي على "مناظرة ابن قدامة".

أقدَموا عليه، ولكنَّهم حُرِموا ذلك فهُم عن الصِّراط لناكبونَ, فَحَسِبوا أنَّ الصَّوتَ الذي سَمِعَه موسى صَوْتٌ مَخلوقٌ في الشَجرةِ، كنحو صَفير وَرَقِها إذا عصَفَت الرِّيحُ، وما عَقَلوا أنَّ معنى هذا أنَّ الشجرةَ هي القائلةُ لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] وهي القائلةُ: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] ولا فَرْقَ حينئذٍ بين دَعوى الشَّجرةِ ودَعوى فرعونَ، فكلٌّ ادّعى الرُّبوبيّة، فصدَّق موسى الشجرةَ وكذَّبَ فِرْعون. والثاني: أنَّ الله تعالى حين أخبرَ عن تكليمهِ لموسى قال: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فَأكَّدَهُ بالمَصْدَر {تَكْلِيماً} وقد قالَ جماعةٌ من أهل التَّحقِيقِ في العربيةِ: "إنَّ التوكيدَ بالمصْدَر ينفي المَجاز". والثالث: قالَ ابن قُتَيْبَة رحمه الله: "خَرَجوا بهذا التأويلِ من اللغةِ ومن المَعقولِ, لأنَّ معنى (تكلَّمَ الله) أتى بالكلام مِن عندهِ، و (ترحَّمَ الله) أتى بالرَّحْمة مِن عندِه، كما يقال: (تخشَّعَ فلان) أتى بالخشوع من نفسهِ، و (تشجَّع) أتى بالشَّجاعةِ من نفسهِ، و (تبتَّل) أتى بالتبتّل من نفسهِ، و (تحلَّم) أتى بالحلْم من نفسهِ، ولو كانَ المرادُ: أوجَدَ كلاماً، لمْ يَجُزْ أنْ يُقال: (تكلَّم) وكانَ الواجبُ أن يقالَ: (أكلمَ) كما يقال: (أقبحَ الرجُلُ) أتى بالقَباحة، و (أطابَ) أتى بالطيّب، و (أخسَّ) أتى بالخَساسةِ، وأنْ يقال: (أكلمَ الله موسى إكلاماً) كما يقال: (أقبرَ الله الرَّجلَ) أي جعَلَ له قَبراً، أو (أرْعى الله الماشيةَ) جعلها ترعى، في أشباه لهذا كثيرةٍ لا تَخفى على أهلِ اللغة" (¬20). ¬

_ (¬20) "الاختلاف في اللفظ" ص: 233 - 234 - "عقائد السلف" -.

والرابع: أنَّ تكليمَ الله تعالى لموسى كان خصيصةً فُضِّلَ بها على غيره مِمَّن لَمْ يُؤْتَ مثلَ ما أوتي من الرُّسل، وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] فإنْ كانَ التكليمُ لموسى حصَلَ بواسطةِ الشَّجَرة لم يكن له على مَن سِواه مِمَّن يوحى إليه بواسطةِ الرَّسولِ فضْلٌ، ولَمْ تكن منزلةُ التكليم من وراء حِجابٍ حاصلةً لأحَد من رسُل الله، وهذا تكذيبٌ للقرآن، وإبطالٌ لواضِح البُرْهان، فجازى الله تعالى الجَهميةَ المعتزلة على ما أرادوا به إفسادَ دينِ المُسلمينَ بما هم أهلُه. والخامس: أنَّ قوله: {مِنَ الشَّجَرَةِ} لابتداءِ الغايةِ نحو قولك: (رأيتُ الهلالَ مِنْ داري) و (سمعتُ كلامَ زيدٍ مِن البيت) فليسَ الهلالُ في الدارِ، ولا البيتُ هو المتكلّم. • ثانيا: إضافة الكلام إلى الله سبحانه وتعالى فى مثل قوله: (حتى يسمع كلام الله): قالوا: هي إضافَةُ خَلْقٍ وتشريفٍ لا إضافة صفةٍ، كـ (بيت الله) و (ناقة الله) و (رسول الله). وهذا نوعٌ آخرْ من تَمْويههم وتَلْبيسهم ليَفِرُّوا من الحَقِّ ويُنفِّروا الخلْقَ. والرَّدُّ عليهم في هذا التشويشِ يطولُ شرحُهُ، ولكن أذكرُ ها هُنا قاعدةً ذكرَها شيخُ الإِسلام رحمه الله في هذه المسألة تغني اللَّبيب عن التفصيل.

قال رحمه الله: "كلُّ ما يُضافُ إلى الله إنْ كَانَ عَيْناً قائمةً بنفسِها فهو مُلْكٌ له، وإن كانَ صفةً قائمةً بغيرِها ليس لها مَحَلٌّ تقومُ به فهو صفةٌ لله" (¬21). ومثَّلَ لِما كانَ عيناً قائمةً بنفسِها بقوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13]، وقوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} [مريم: 17] قال: "وهو جبريلُ". فهذا خَلْقٌ له ومُلْكٌ له، ومثله: (رسول الله) و (عباد الله) و (قبلة الله) ونحو ذلك. ومثَّل لِما كان صفةً قائمةً بغيرِها بـ (علم الله، كلام الله، قدرة الله، حياة الله، أمر الله). فهذه إذا أضيفتْ إلى الله تعالى كانتْ صفاتٍ له. قال: "لكن قد يُعبَّرُ بلفظِ المَصْدَر عن المفعولِ به، فيُسمَّى المعلومُ علماً، والمقدورُ قدرةً، والمأمورُ به أمْراً، والمخلوقُ بالكلمةِ كلمةً، فيكون ذلك مخلوقاً، كقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ (¬22) بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45] وقوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] (¬23) ¬

_ (¬21) "مجموع الفتاوى" 9/ 290. (¬22) في الأصل المنقول عنه: (إنا نبشرك بكلمة) وهو خطأ. (¬23) "مجموع الفتاوى" 9/ 291.

قلتُ: وإنَّما يُصارُ إلى هذا المعنى بالقَرائنِ، أمَّا بمجرَّدِ إضافةِ الصِّفَةِ إلى الله فإنَّها حينئذ صفةٌ له.

المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان

المبحث الثالث: المعتزلة فى الميدان شَرَحْتُ لك اعتقادَ المعتزلة الجهميةِ في كلام الله، وما شبَّهوا به على الناس، ضَربوا نصوصَ القرآن بعضَها ببَعْضٍ، وحرَّفوا معانيَ التنزيل، ووَصفوا رَبَّهم تعالى بالعيوبِ والنَّقائِصِ، وحَكَموا على دينهِ بالأهواءِ والظُّنونِ، وحَمَلوا الناسَ علىَ ذلك رغبةً ورهبةً، وصَدُّوهم عن الهدى إلاَّ مَن ثبَّتهُ الله تعالى، وتركُوا فِتْنَتهم وقَدْ فُتِحَت بها على الأمَّةِ أبوابٌ من الشرِّ والبدعةِ لم تُغْلق إلى يومِنا هذا. وكان من مقصودِ دَعْوة القَوْم إبطالُ دين المسلمينَ، إذ معنى إبطالِ كونِ الرَّبّ تعالى متكلِّماً إبطالُ جَميعِ الشَّرائع، وما أنزلَ الله تعالى على رسُلهِ, لأنَّ الرُّسُلَ إنَّما بُعِثوا لتبليغِ وحْي الله وتشريعهِ الذي هو كلامُه وتنزيلُه. بل إنَّ في ذلك إبطالَ التَّوحيدِ، لأنَّ مَن لا يتكلَّمُ ولا يَقُومُ به علمٌ ولا حَياة فهو كالأمواتِ، ومَن لا تقومُ به الصِّفاتُ فهو عَدَمٌ مَحْضٌ. فلمَّا فَهِمَ أئمَّةُ هذه الأمَّةِ وعلماؤُها مقصودَ القَوْم، جاهَدُوهم بالبيناتِ، حتى أحقَّ الله بهم الحقَّ وأوضحَ السَّبيلَ، فأبطَلَ شُبُهاتِهم وأظهرَ

فضائِحَهم، وكشَفَ سوآتِهم، واتَّفق أهلُ الحقّ من سَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها على أنَّ هؤلاءِ مِنْ شَرِّ طوائف أهْل البِدَع. قالَ شيخ الإِسلام: "حتى أخرجهم كثيرٌ عن الثّنتين والسَّبعينَ فرقةً" (¬24). قلتُ: وهذا معناه إخراجهم من أمَّةِ محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. وقد تواتَرَت النُّصوصُ عن الأئمَّة الأعلام في تكفيرهم، ومُجانَبتهم، وعَدَم مُوالاتهم، وقد نبَّهتُ على بعضها في الباب الأوَّل، وأسوقُ إليك هنا نُبَذاً مَنها تحقيقاً لبَراءةِ الذمَّةِ وإقامةِ الحُجَّة بذِكْرِ أسماءِ بعضِ أعلام أئمَّةِ السَّلَف ومَقالاتهم: 1 - سليمان بن طَرَّخان التَّيمي (تابعيُّ إمامٌ ثَبْتٌ). قال: "ليسَ قومٌ أشدَّ نَقْضاً للإِسلام من الجَهمية والقدريّة، فأمَّا الجَهميةُ فقد بارَزوا الله تعالى، وأمَّا القدريّةُ فإنَّهم قالوا في الله -عَزَّ وَجَلَّ- " (¬25). 2 - سفيان بن سعيد الثَّوْريّ (أميرُ المؤمنين في الحَديث). قال: "مَن قالَ: إنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} مخلوقٌ، فهو كافرٌ" (¬26). 3 - سلاّم بن أبي مُطيع (عاقِلٌ، صاحبُ سُنَّة، لا بأسَ به في ¬

_ (¬24) "مجموع الفتاوى" 12/ 524. (¬25) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (8) بسند جيد. (¬26) رواه عبد الله رقم (13) بسند جيد.

الحديث). قال: "الجَهميَّةُ كُفَّارٌ، لا يُصَلَّى خَلفهم" (¬27). 4 - مالكُ بن أنس (إمامُ دارِ الهجرةِ): قال عبد الله بن نافع -صاحبُهُ-: كان مالكُ بن أنَس رحمه الله يقول: "مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ، يوجَع ضَرْباً، ويُحْبَس حتى يموتَ" (¬28). وقال ابن نافع أيضاً: قال مالكٌ: "مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ يؤدَّبُ ويحْبَس حتى تُعلَمَ منه التَّوبةُ" (¬29). وقال رحمه الله: "مَن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ يُسْتَتابُ، فإنْ تابَ وإلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقُه" (¬30). 5 - عبد الله بن المبارك (الإِمام العَلَم). ¬

_ (¬27) رواه عبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (9) والدارمي في "الرد على الجهمية" رقم (372) و"النقض على المِرّيسي" ص: 119 وأبو داود في "المسائل" ص: 268 وابن الطبري في "السنَّة" رقم (517) بسند صحيح. (¬28) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (11) والآجري في "الشريعة" ص: 79 بسند جيد. ورواه صالح في "المحنة" ص: 66 بنحوه، لكن قال: "حتى يتوب" وهو موافق للنصّ الآتي. (¬29) رواه عبد الله رقم (213) وابن الطبري رقم (497، 498) بسند صحيح. (¬30) رواه ابن أبي حاتم -كما في "السنَّة" لابن الطبري رقم (495) - بسند صالح.

كانَ يقول: "الجَهميَّةُ كفَّارٌ" (¬31). وقال محمد بن أعْيَن (ثِقَةٌ صَدوقٌ): سمعتُ النَّضْرَ بن محمد يقول: مَن قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14]، مخلوقٌ، فهوكافرٌ. قال: فأتيتُ ابنَ المبارك فقلت له: ألا تعجَب من أبي محمَّد قالَ كذا وكذا؟ قال: "وهَل الأمْرُ إلَّا ذاكَ، وهَلْ يَجِدُ بُدّاً من أنْ يقولَ هذا؟ " (¬32). وفي رواية: "صَدَقَ أبو محمَّد عافاه الله، ما كانَ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يأمُرُ أنْ نعبُدَ مخلوقاً" (¬33). 6 - أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي صاحب أبي حنيفة (الثِّقَة الصَّدوق الفَقيه). قال: "جيئونى بشاِهدَيْن يَشْهَدان على المِرِّيسيّ، والله لأملأنَّ ظهرَه وبطنَه بالسِّياط، يقول في القرآن" يعني: مخلوق (¬34). قلتُ: ونصوصُ الأئمَّة في تكفير المِرِّيسيّ -وهو بشْر بن غِياث، ¬

_ (¬31) رواه عبد الله رقم (15) بسند صحيح. (¬32) رواه عبد الله رقم (19) بسند جيد. (¬33) رواه عبد الله رقم (20) وأبو داود في "المسائل" ص: 267 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 248 وابن الطبري رقم (428) بسند جيد. (¬34) رواه عبد الله رقم (53) بسند صحيح.

رأسٌ من رؤوس المُعتزلة الجهميةِ- كثيرةٌ. 7 - معتمر بن سُليمان، حماد بن زيد، يزيد بن زُرَيع (محدّثون ثِقاتٌ أصحابُ سُنَّة). قال فِطْر بن حمَّاد (شيخٌ صدوقٌ): سألتُ معتمرَ بن سُليمانَ، فقلتُ: يا أبا محمد، إمامٌ لقومٍ يقول: القرآن مخلوق، أصلِّي خلفَه؟ فقال: "ينبغي أنْ تُضْرَبَ عنقُه". قال فِطْرٌ: وسألتُ حمَّادَ بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل، لَنا إمامٌ يقول: القرآن مخلوق، أصلِّي خلفَه؟ قال: "صَلِّ خلْفَ مُسْلمٍ أحبّ إليَّ". وسألتُ يزيدَ بنَ زُرَيْع فقلتُ: يا أبا معاوية، إمامٌ لقومٍ يقول: القرآن مخلوق، أصلِّي خلفَه؟ قال: "لا, ولا كَرامة" (¬35). 8 - عبد الله بن إدريس الأوْدي (مِن أئمَّة المسلمينَ، ثِقَةٌ عابدٌ). قالَ يحيى بن يوسف الزِّمّيُّ (وكانَ ثِقَةً عَدْلًا): كنّا عندَ عبد الله بن إدريس، فجاءَه رجلٌ فقال: يا أبا محمد، ما تقول في قومٍ يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: "أمِنَ اليهودِ؟ " قال: لا، قال: "فمن النَّصارى؟ " قال: لا، قال:"فمن المَجوسِ؟ " قال: لا، قال: ¬

_ (¬35) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (42) بسند حسن.

"فمِمَّن؟ " قال: من أهْلِ التَّوحيدِ، قال: "ليسَ هؤلاء مِن أهْل التَّوحيدِ، هؤلاءِ الزَّنادِقةُ، مَن زعَمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فقد زعَمَ أنَّ الله مخلوقٌ، يقول الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فالله لا يكونُ مخْلوقاً، والرَّحمنِ لا يكونُ مخلوقاً، وهذا أصْلُ الزَّنادِقةُ، مَن قالَ هذا فعلَيْه لعنةُ الله، لا تُجالِسوهُمْ، ولا تُناكِحوهُمْ" (¬36). 9 - أبو بكر بن عيّاش (إمامٌ عَدْلٌ، مُحَدِّثٌ مُكْثِر). قالَ حمزةُ بن سعيد المَرْوزي (ثِقَةٌ مأمونٌ): سألتُ أبا بكر بن عيّاش قلت: يا أبا بكر، قدْ بَلَغَكَ ما كانَ مِنْ أمْرِ ابن عُلَيَّة في القرآن، فما تقولُ؟ فقال: "اسْمَع إليَّ ويْلَك: مَن زَعَمَ لك أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فهو عندَنا كافرٌ زِنْديقٌ عدوُّ الله، لا تُجالِسْه، ولا تُكلِّمْه) (¬37). 10 - وكيع بن الجرّاح (ثِقَةٌ حافظٌ حُجَّة). قال: "أمَّا الجَهميّ فإنِّي أستتيبُه، فإنْ تابَ وإلاَّ قتلتُه" (¬38). وقال أبو جعفَر السُّوَيْديُّ (وكان ثِقَةً مُتَثَبِّتاً): سمعتُ وكيعاً وقيل له: إنَّ فلاناً يقول: إنَّ القرآن محدَثٌ، فقال: "سبحانَ الله، هذا كفرٌ". ¬

_ (¬36) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (5) وعبدالله بن أحمد في "السنَّة"رقم (29) وابن الطبري رقم (432) بسند صحيح، وكذا رواه الآجري في "الشربعة" ص: 78. (¬37) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 267 والآجري ص: 79 بسند صحيح. (¬38) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (31) بسند صحيح.

قالَ السُّوَيْديُّ: وسألتُ وكيعاً عن الصلاة خلفَ الجَهميَّة؟ فقال: "لا يُصَلى خلفَهم" (¬39). وقالَ أبو خيثَمة (زهيرُ بن حرب): اختَصَمْتُ أنا ومُثنَّى، فقال مُثنَّى: القرآن مخلوقٌ، وقلتُ أنا: كلام الله، فقالَ وكيعٌ وأنا أسمَع "هذا كفْرٌ، مَن قالَ: إنَّ القرآن مخلوق هذا كُفْرٌ" فقال مُثنَّى: يا أبا سفيان، قال الله عَزُّ وجلَّ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] فأيّ شيءٍ هذا؟ فقال وكيع: "مَن قالَ: القرآن مخلوقٌ هذا كُفْرٌ) (¬40). 11 - سفيان بن عُيَيْنَة الهلاليّ (إمامٌ حُجًةٌ فَقيه). قال: "القرآن كلامُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، مَن قال: مخلوقٌ، فهو كافرٌ، ومَن شكَّ في كُفْرِه فهوكافرٌ" (¬41). 12 - أبو معاوية الضَّريرُ محمد بن خازم (حافِظٌ ثِقَةٌ). قال: "الكلامُ فيه بدعَةٌ وضَلالةٌ، ما تكلَّمَ فيه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ولا الصَّحابةُ، ولا التابعون والصَّالحونَ" يعني: القرآن مخلوق (¬42). 13 - عبد الرَّحمن بن مَهْدي (عَلَمٌ، من أثْبَت المُحدِّثين وأحفظِهم). ¬

_ (¬39) رواه عبدالله في "السنَّة" رقم (33) بسند صحيح. (¬40) رواه عبدالله في "السنَّة"رقم (35) عن أبي خيثمة به. (¬41) رواه عبدالله رقم (25) بسند صحيح. (¬42) رواه عبد الله رقم (208) بسند صحيح.

قال: "مَن زَعَمَ أنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى صلواتُ الله عليه يُسْتَتَاب، فإنْ تابَ وإلاَّ ضُرِبَت عنقُه" (¬43). وقال: "لو كان لي من الأمْر شَيْءٌ لَقُمْتُ على الجِسْرِ، فَلَا يمرُّ بي أحدٌ إلاَّ سألتُهُ عن القرآن، فإنْ قال: إنَّه مخلوقٌ، ضربتُ رأَسَه ورميتُ به في الماءِ" (¬44). وقيل له: إنَّ الجهميَّةَ يقولون: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فقال: "إنَّ الجهميَّةَ لَمْ يُريدوا ذا، وإنَّما أرادوا أنْ يَنْفوا أنْ يكونَ الرَّحمنُ على العَرشِ اسْتَوى، وأرادوا أنْ يَنْفوا أنْ يكونَ الله تعالى كَلَّمَ موسى، وقالَ الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وأرادوا أنْ يَنْفوا أنْ يكونَ القرآنُ كلامَ الله تعالى، أرى أنْ يُسْتَتابوا، فإنْ تابوا وإلاَّ ضُرِبَتْ أعناقُهم" (¬45). 14 - أنس بن عِياض أبو ضَمْرَة اللَّيثي (مُحدثٌ ثِقَةٌ صَدوق). قالَ إسحاق بن البُهلول (ثِقَةٌ عالِمٌ): قلتُ لأنس بن عِياض أبي ضَمْرَة: أصلّي خلْفَ الجهمية؟ قال: "لا {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ¬

_ (¬43) رواه عبدالله رقم (44، 531) وأبوداود في "المسائل" ص: 262 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 249 وابن الطبري رقم (505) بسند صحيح. (¬44) رواه عبد الله رقم (46، 206) وأبو داود ص: 267 والآجري في "الشريعة" ص: 80 وابن الطبري رقم (504) بسند صحيح. (¬45) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 249 بسند صحيح.

مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (¬46) ". 15 - يزيد بن هارون (إمامٌ في السُّنَّة، ثَبْتٌ حُجَّةٌ حافِظٌ). قال: "مَن قالَ: القرآن مخلوق، فهو كافر" (¬47). وقال شاذّ بن يحيى الواسطيُّ (وكانَ خَيِّراً صَدوقًا): حلفَ لي يزيد بن هارون في بيتهِ: "والله الَّذي لا إله إلَّا هو عالم الغيبِ والشَّهادةِ الرَّحمن الرَّحيم، مَن قال: القرآن مخلوق، فهو زِنْديق" (¬48). 16 - أبو عُبَيد القاسمُ بن سلّام (الُغويّ المحدّثين، ثِقَةٌ فَقيهٌ). قال: "مَن قال: القرآن مخلوق، فقد افترى على الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وقالَ عليه ما لَم تقلْهُ اليَهودُ والنَّصارى" (¬49). وقال: "لَو أن خمسينَ يؤمّونَ الناسَ يومَ الجُمُعة، لا يقولونَ: القرآنُ مخلوق، يأمُرُ بعضُهم بعضاً بالإِمامةِ، إلَّا أنَّ الرَّأسَ الذي يأمُرُهم يقولُ هذا، رأيتُ الِإعادةَ, لأنَّ الجُمُعَةَ إنَّما تَثْبُتُ بالرأسِ" (¬50). قال عبد الله ابن الِإمام أحمد: فأخبرتُ أبي رحمه الله بقول أبي ¬

_ (¬46) رواه عبد الله رقم (72) عن إسحاق به. (¬47) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (52) وأبو داود ص: 268 بسند جيد. (¬48) رواه عبد الله رقم (50) وأبو داود ص: 268 بسند جيد. (¬49) رواه عبد الله رقم (71) والآجري في "الشريعة" ص: 82 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 253 بسند صحيح. (¬50) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (75) بسند صحيح.

عُبيد، فقال: "هذا يُضَيِّقُ على الناس، إذا كانَ الذي يُصلّي بنا لا يقولُ بشَيْءٍ مِن هذا صلَّيْتٌ خلفَه، فإذا كانَ الذي يصلّي بنا يقولُ بشَيْءٍ من هذا القول أعدتُ الصلاةَ خلفَه" (¬51). قلتُ: وهذا أقوَمُ من قَوْلِ أبي عُبيد, وأوفَقٌ للسُّنَّة، ولكن دلَّ قولُ أبي عُبَيْدٍ رحمه الله على بيانِ فُحْش هذا الاعتقادِ -اعتقاد الجَهمية- وأنَّهم كفَّارٌ, وإلَّا لَما شدَّد هذا التشديدَ , وضيَّقَ هذا التضييقَ. 17 - أبو الوليد هِشام بن عبد الملك الطَّيالِسيّ (حافِظٌ حُجَّةٌ). قال: "مَن لم يَعْقِدْ قلبَه على أنَّ القرآنَ ليسَ بمخلوقٍ، فهو خارجٌ من الإِسلام" (¬52). 18 - أحمد بن عبد الله بن يونُس (ثِقَةٌ ثَبْتٌ، صاحبُ سُنَّة). قال: "لا يُصلَّى خلْفَ مَن قال: القرآن مخلوق، هؤلاء كفَّار" (¬53). 19 - هارون بن معروف المَرْوَزيّ (محدِّثٌ، ثِقَةٌ، خَيِّرٌ). قال: "مَن قالَ: القرآن مخلوق، فهو يعبُدُ صَنمًا" (¬54). وقال: "مَن زعَمَ أنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يتكلَّمُ، فهو يَعْبُدُ الأصنامَ" (¬55). 20 - يوسف بن يحيى أبو يعقوب البُوَيْطيُّ صاحب الشافعي (ثِقَةٌ ¬

_ (¬51) كتاب "السنَّة" رقم (75). (¬52) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 266 بسند صحيح. (¬53) رواه أبو داود ص: 268 عنه به. (¬54) رواه عبد الله رقم (67) بسند صحيح. (¬55) رواه عبد الله رقم (209) بسند صحيح.

فَقيهٌ صاحبُ سُنَّة). قال: "مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافرٌ، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فأخبرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أنَّهُ يخلُقُ الخَلْقَ بـ (كُن) فمَن زعَمَ أنَّ (كن) مخلوق، فقد زعَمَ أنَّ الله تعالى يخلُقُ الخَلْقَ بخَلْقٍ" (¬56). 21 - يحيى بن مَعين (العَلَم، إمامُ أهل الحَديث). قال: "مَن قال: القرآن مخلوق، فهو كافر" (¬57). وقال أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقيُّ (ثِقَةٌ حافظٌ): أخبرني يحيى بن مَعين أنَّه يعيدُ صلاةَ الجمُعة مُذْ أظهَرَ عبد الله بن هارون المأمونُ ما أظهَرَ، يعني: القرآن مخلوق (¬58). وقال أحمد بن زُهَيْر (ابن أبي خَيْثَمة): سمعتُ أبي -وسألَ يحيى بن مَعين- فقال: إنَّهم يقولونَ: إنَّكَ تقولُ: القرآن كلامُ الله وتسكُتُ، ولا تقول: مخلوق، ولا غير مخلوق، قال: "لا" فعاودته، فقال: "معاذَ الله: القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، ومَن قالَ غيرَ هذا فعليه لعنةُ الله" (¬59). 22 - إمام أهل السُّنَّة أحمد بن حنبل. ¬

_ (¬56) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" ص: 252 بسند صحيح. وروى أبو داود الجملة الأولى منه في "المسائل" ص: 268 بسند صحيح. (¬57) رواه عبد الله في "السنَّة" رقم (68) بسند جيد. (¬58) رواه عبد الله رقم (76) عن الدورقي به. (¬59) رواه ابن الطبري رقم (455) بسند صحيح.

والنَّقلُ عنه في تكفيرِهم، ومُجانَبتِهم، وتَرْك الصَّلاة خلفَهم، والكَشْفِ عن مَساوئهم، لا يدْخُلُ تحتَ الحَصْر، فمن ذلك: قال أبو داود: قلتُ لأحمَدَ: من قالَ: القرآنُ مخلوق، أهو كافر؟ قال: "أقولُ: هو كافرٌ" (¬60). وقال حنبل: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ أحمدَ بن حنبل -وسألَهُ يعقوبُ الدَّوْرقيُّ عَمَّن قال: القرآنُ مخلوقٌ؟ - فقال: "مَنْ زعَمَ أنَّ عِلمَ اللهِ تعالى وأسماءَه مخلوقةٌ، فقد كفَرَ بقولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] أفليسَ هو القرآنَ؟ ومَن زعَمَ أنَّ علمَ اللهِ تعالى وأسماءَه وصفاتِهِ مخلوقةٌ، فهو كافرٌ، لا شكَّ في ذلكَ، إذا اعتقدَ ذلك، وكانَ رأيُه ومذهبُه دِيناً يتدَيَّنُ به، كانَ عندنا كافِرًا" (¬61). وقال عبد الله ابنهُ: سمعتُ أبي رحمه الله يقول: "مَنْ قالَ ذلكَ القولَ لا يُصَلَّى خلفَه الجُمُعةَ ولا غيرَها، إلاَّ أنَّا لا ندعُ إتيانَها، فإنْ صلَّى رجُلٌ أعادَ الصَّلاةَ" يعني: خلفَ من قال: القرآن مخلوقٌ (¬62). وقال عبد الله: سمعتُ أبي رحمه الله يقول: "إذا كانَ القاضِي جَهْميًا فَلا تشهَدْ عندَه" (¬63). وقال محمد بن يوسف بن الطبّاع (وكان ثِقَةً): سمعتُ رجلاً سألَ ¬

_ (¬60) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 262 ومن طريقه: الآجري في "الشريعة" ص: 81. (¬61) رواه الآجري ص: 80 بسند صحيح. (¬62) رواه عبد الله رقم (4) ومن طريقه: البيهقي في "الأسماء" ص: 258. (¬63) رواه عبد الله رقم (6).

أحمدَ بن حنبل، فقال: يا أبا عبد الله، أصلّي خلفَ مَن يَشْرَبُ المُسْكِرَ؟ فقال: "لا". قالَ: فأصلّي خلفَ مَن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: "سبحان الله، أنهاكَ عن مُسْلمٍ، وتسألُني عن كافر؟ " (¬64). وقال صالحٌ ابنُهُ عنه: "مَن زعَم أنَّ القرآنَ مخلوقٌ فقَدْ كَفَرَ، ومَن زعَمَ أنَّ أسماءَ الله مخلوقة كَفَر، لا يُصَلّى خلفَ مَن قال: القرآن مخلوق، فإن صلَّى رجلٌ أعادَ" (¬65). 23 - أحمد بن صالح المِصْري (إمامٌ ثَبْتٌ حافِظٌ). قالَ أبو داود: سألتُ أحمدَ بن صالح عمَّن قال: القرآن مخلوق؟ فقال؟ "كافر" (¬66). 24 - هارون بن موسى الفَرْويّ (شَيْخٌ ثِقَةٌ، صاحِبُ سُنَّة). قالَ: "لم أسْمَعْ أحَداً مِنْ أهلِ العلْم بالمدينةِ وأهلِ السُّنَن إلاَّ وهم يُنكرونَ على مَن قال: القرآنُ مخلوقٌ، ويُكَفِّرونَه". قال هارون: "وأنا أقولُ بهذه السُّنَّة" (¬67). 25 - محمَّد بن إِسماعيلَ البُخاري (العَلَمُ، صاحِبُ الصَّحِيح). ¬

_ (¬64) رواه الآجري في "الشريعة" ص: 81 بسند صحيح. (¬65) رواه صالح بن أحمد في "المحنة" ص: 66 - 67. (¬66) رواه أبو داود في "المسائل" ص: 268. (¬67) رواه الآجري في "الشريعة" ص: 78 - 89 بسند صحيح.

قال: "نَظَرْتُ في كلامِ اليَهودِ والنَّصارى والمَجوسِ، فما رأيتُ أضَلَّ في كُفْرهم منهم -يعني الجَهمية- وإنِّي لأستجْهِلُ مَن لا يكفّرُهم إلاَّ مَن لا يَعْرِفُ كفرَهم" (¬68). وقال: "ما أبالي، صلَّيت خلفَ الجهميّ والرَّافضي، أم صلَّيْتُ خلفَ اليَهود والنَّصارى، ولا يُسَلَّم عليهم، ولا يُعَادُوْنَ، ولا يُناكَحونَ، ولا يُشْهَدونَ، ولا تؤكَلُ ذَبائِحُهم" (¬69). 26 - أبو حاتِم محمد بن إدريس، وأبو زُرعة عُبيد الله بن عبد الكريم الرَّازيان (إماما الجَرْحِ والتَّعديل). قالا: "وَمَنْ زَعَمَ أنَّ القرآنَ مخلوقٌ، فهوكافرٌ بالله العَظيم كُفْراً يَنْقُلُ عن المِلِّة، ومَن شكَّ في كُفْرهِ مِمَّن يفهَم فهوكافرٌ" (¬70). 27 - أبو بكر محمد بن إسحاق بن خُزَيْمَة (إمام الأئمَّة). قال: "القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوق: فمن قالَ: إنَّ القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ بالله العَظيم، لا تُقبَل شهادتُهُ، ولا يُعادُ إنْ مَرِضَ، ولا يُصلَّى عليه إنْ ماتَ، ولا يُدْفَنُ في مقابر المُسلمينَ، ويستتابُ، فإنْ تابَ، وإلَّا ضُرِبت عُنقُه" (¬71). ¬

_ (¬68) "خلق أفعال العباد" رقم (35) ومن طريقه البيهقي في "الأسماء" ص: 253. (¬69) "خلق أفعال العباد" رقم (53) صمن طريقه البيهقي ص: 254. (¬70) رواه اللالكائي في "السنَّة" 1/ 178 بسند صحيح. (¬71) رواه أبو عثمان الصابوني في "الرسالة" نص/7 بسند صحيح.

28 - محمد بن جَرير أبو جعفر الطَّبري (الإِمام الحافظُ الفَقِيه الحُجَّة). قال القاضي أحمدُ بن كامل (وكانَ ثقةً فاضلاً): سمعتُ أبا جعفر محمد بن جَرير الطَّبري -ما لا أحصِي- يقول: "مَن قال: القرآن مخلوق، معتقداً له، فهو كافِرٌ حَلالُ الدَّم والمال، لا يرثُهُ وَرثَتُهُ من المسلمينَ، يُسْتَتاب، فإنْ تابَ وإلاَّ ضُرِبَت عُنُقُه". فقلتُ له: عمَّن لا يَرثُهُ ورثَتُه من المسلمينَ؟ قال: "عَن يحيى القطَّان، وعبد الرَّحمن بن مَهدي" (¬72). قيل للقاضي ابن كامل: فلِمَن يكونُ مالُه؟ قال: فَيْئاً للمسلمين (¬73). فهذه بعضُ أحكامِ الأئمةِ الأعلامِ في حقّ المعتزلةِ الجَهميةِ، تُبيّنُ لكَ عن فُرقانٍ بين الحقِّ والباطِلِ، والكُفْرِ والإِيمانِ، وهؤلاء الأعلامُ مِن سادَةِ أئمَّةِ السَّلَفِ الذين كانوا أسوةَ الناس، وفيهم السَّادةُ الكبارُ الذين يَفْزَع إليهم الناسُ في كَشْف الشُّبُهات، وإبانةِ الحَقِّ مِن دينهم. ولقد وقَعَ في كلام بعضِ الأئمَّة تكفيرُ بعض أعيان الجَهمية، فكفَّر جماعةٌ من السَّلَف الجعْدَ بن دِرْهَم -أصلَ هذه الفتنة- وآخرونَ جَهْمَ بن صَفوان -رأسَها- وآخرون بِشرًا المِرِّيسيَّ -المُنافِحَ عنها- وكفّر الشَّافعيّ رحمه الله حَفْصًا الفَرْدَ -أحَدَ دُعاتهم- وهَمّ بقَتْلهِ. ولقد رأيتُ أقْواماً من أهل البِدَع، وربَّما اغترَّ بهم بعضُ أهل السُّنَّة، ¬

_ (¬72) أي: يأثره عنهما. (¬73) رواه ابن الطبري في "السنَّة"، رقم (514) بسند صحيح.

يهوّنونَ من شأن الجَهمية، وربَّما استنكرَ بعضهُم على الأئمة الذين كفَّروهم، معَ أنه لم يَرِد عن عامَّةِ أئمَّةِ السَّلف إلاَّ تكفيرُهم -كما نقلَه عنهم ابنُ الطبري وغيره- وهؤلاء فيما أرى أحدُ رجُلَين: إمَّا مبتدعٌ، مُحْتَرِقٌ في التَّجهّم والاعتزالِ، يُصِرُّ على أمْرٍ عَظيم يَهاب الحقَّ وسطوةَ أهلهِ، فلا يُصرِّحُ، وإنَّما يُشير ويُلمِّح. وإمَّا جاهِلٌ، لم يَفْهَم اعتقادَ السَّلَفِ في كلام الله تعالى، وخافَ النَّظَرَ في ذلك -وَرَعاً- يَحْسَبُ أنَّه خَوْضٌ في الكلامِ الْمَذموم، فليسَ له إمامٌ يَقْتَدي به إلاَّ الواقفة الذين أنكَرَ الأئمَّةُ مذهبَهم. أمَّا الأول فلا سلَّمة الله ولا عافاهُ، وكشفَ سترَهُ، وأظهرَ سوأتَهُ. وأما الأخَر فليتَّقِ الله وليتعلَّم، وليدعْ ما حَسِبَه وَرَعاً، فوالله ما هو بالوَرَع المَشروع، فإنَّ الباطلَ موجودٌ وله دعاةٌ، وبدْعَة الجَهمية لَمْ تنفكَّ عن الناس، وليكْفِهِ الاقتداءُ بأعلام الأمَّةِ، ورُؤوسَ الأئمَّة، من بعد عصْرِ الصَّحابة وكبارِ التابعين، الذين عافاهم الله من هذا البَلاء، مثل: الثوريّ، ومالكٍ، والشَّافعي، وأحمد، وابن مَعين، والبُخاري. ومِمَّن سبَقت الإِشارةُ إليهم صِنْفٌ حَمَلوا التكفيرَ في النُّصوص السَّالفةِ عن الأئمَّةِ ما يُشْبِهُها على الكُفْرِ الأصْغَر الذي لا يُفارَق به الدِّينُ، وهذا أيضًا من تَهوينهم لهذه القضية، وتَمْويههم على الناس، وإلَّا فإنَّ الكثيرَ من النُّصوص المذكورة وغيرِها صَريحةٌ في إخراجِهم من الإِسلام، ويجبُ أن يُحْمَلَ ما أطْلِقَ من ألفاظِ تكفيرهم على هذا المعنى الصَّريح، وأنا على يَقين أنَّ مَن فَهِمَ الاعتقادَ السَّليم الذي شرحناه في الباب الأول،

وفَهِمَ ما شَبَّهَ به المعتزلةُ الجَهمية على الناس، فإنَّه لا يَرتابُ في كُفْرِهم الأكبرِ المُخْرِج من الإِسلام. فإنْ قيلَ: ألَيْسوا يشهدونَ أن لا إله إلاَّ الله؟ قُلنا: بلى، ولكنَّهم نقَضوها بقولِهم: مخلوقةٌ، ونَقَضوها بتكذيبِ القرآنِ، وبنَفي صفاتِ ربِّ العالَمين، ووصْفهِ بالعَجْز والنقصِ، بل وصْفِهِ بالعَدَم، فأيّ توحيدٍ بعد هذا؟ فإن قيلَ: هذا الِإمام أحمد رحمه الله وهو من أشدِّ النَّاس في هذه المسألةِ، ولَقِيَ بسَبَبها ما لَقِيَ، لم يكفّر المأمونَ، ولا المعتصمَ، ولا الواثقَ، بل ربَّما دعا لبَعضِهم، وأقرَّ بإمْرَةِ المُؤمنين، وكانوا حملةَ رايةِ الفتنةِ بخلْق القرآن، فلو كانَ كُفْرًا مُخْرجاً من الإِسلام لما دَعا، أو عَفَا، أو أقرَّ بإمرةِ المؤمنينَ. قُلْنا: هذا جَهْلٌ من المعترض بحقيقةِ الأمر، فإنَّ إطلاقَ التكفير ليس كتَعيينهِ، إذ الحكْمُ به على المعيّن قد يتخلَّفُ لمعنى، كتأويلٍ، أو جَهْلٍ، أو إكراهٍ، فإنَّه يقال: من قالَ كذا كفَر، ومَن اعتقدَ كذا فهو خارجٌ من الإِسلام، وليسَ معناه أنَّا إذا وجَدْنا مُسلمًا وقعَ في ذلك استحقَّ وصفَ الكُفْر به، حتى نعلمَ يقيناً أنْ قد بلَغتْهُ الْحُجَّةُ الشَّرعيةُ التامَّةُ الواضِحةُ، فانتفى جهلُه بذلك، ولم يبقَ في نفسهِ نوعُ تأويلٍ، وهذا أمرٌ يَعْسُرُ في الغالبِ، ولذا لم يكن من هَدْي السَّلَف تكفيرُ المُعيَّن حتى يوجَد مُقتضى التكفير، وتنتفي موانِعُه، ألستَ ترى تكفيرهم للجَعْدِ وَجَهْمٍ والمِرِّيسيّ؟ كفّروهم بأعيانهم لانتفاءِ الجَهْل والتأويل، لِما تضمَّنَتْ أقوالُهمِ من صَرَاحَة الكُفْر، وألسْتَ ترى تكفيرَ الشافعيّ رحمه الله حَفصاً الفَرْد؟ كان بعدَ مناظرةٍ

وبَيان، فقامَتْ عليه الحُجَّة، وانتفى أن يكون له حُجَّةٌ، فلم يقع الشافعي في حَرَج من تكفيرهِ بعينه. ولمَّا لم يَفْهَم بعضُ الناس هذه القضيةَ والفصْلَ فيها، تحيَّروا في تفسير ألفاظ الأئمَّةِ المُطلقة في ذلك، فحمَلها أقوامٌ على الكُفْر الأصغَر، وعابَ بعضُهم بعضَ الأئمَّةِ في تلك الإِطلاقاتِ، كما رأيتُ ذلك لبعضِهم (¬74). هذا مَعَ أنَّه قد ثبتَ عن الإِمام أحمد أنَّه قال: "علماءُ المعتزلةِ زنادقةٌ" (¬75). ¬

_ (¬74) علَّق من حقق الجزء الثاني عشر من "سير أعلام النبلاء" ص: 456 على قول البخاري المذكور في النصوص السابقة: "نظرت في كلام اليهود ... " فقال: "وهو من الغلو والإِفراط الذي لا يوافقه عليه جمهور العلماء سَلَفاً وَخَلَفًا، وكيف يحكمُ بكفرِهم، ثمَّ يَروي عنهم ويخرّج أحاديثهم في صحيحه الذي انتقاه وشرط فيه الصحّة" ونحو هذا في تعليق المشار إليه على "شرح السنَّة" للبغوي 1/ 228. قلتُ: هذا جَهْلٌ على السَّلف وعلى البخاري رحمه الله، فإنَّ موافقيه من أئمة السَّلف كثير، بل لم يُنْقَل عن أئمة السَّلف إلَّا تكفيرهم، ودعوى أنَّ البخاريَّ روى عن جهميةٍ وروافضَ دعوى فاسدةٌ متضمنةٌ تلبيسًا وتمويهًا، أمَّا الجهمية فليس في رجاله من هو كذلك، وقد اتّهم بذلك بِشْر بن السَّريّ وهو كَذِب عليه، بريءٌ منه، وعلي بن الجعد، وهي تُهْمَة مجرَّدة، فهذان ذُكرا برأي جَهْم مِن رجاله، فهل يصحُّ بمثل هذا إطلاق القول بأنَّ البخاريَّ رَوى عن جَهمية؟ ولو صحَّ ذلك فهو على ما ذكرناه من عدَم التَّعيين بالتكفير، فتنبه، ولا تغرَّنَّك الألفاظُ المفخَّمَة، فإني ألْمَس من طريقة بعض الناس من أهل زماننا من المنتسبين إلى السنَّة، تهوينَ شأن البدع والمبتدعةِ، فإلى الله المشتكى. (¬75) رواه ابن الجوزي في "المناقب" ص: 158 بسند جيد.

وهذا متضمِّنٌ أنَّ حالَ العارفِ العالِم منهم غيرُ حالِ مَن يَتّبِعهم على جَهْلٍ، كالخُلفاء -الذين لا يفقهون إلَّا حِفْظَ المَناصب- وسائر العامَّة، الذين تلتبسُ عليهم الحقائقُ بما تُثيره المبتدعةُ من الشُّبَه. والله المستعان، ولا حولَ ولا قوة إلاَّ بالله.

الفصل الثالث كشف تلبيس الأشعرية في إثبات صفة الكلام لله تعالى

الفصل الثالث كشف تلبيس الأشعرية في إثبات صفة الكلام لله تعالى وفيه ستة مباحث = المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية. = المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجردًا. = المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية. = المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية. = المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن. = المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن.

المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية

المبحث الأول: تعريف الكلام عند الأشعرية الأشعَريةُ -ومَن وافقهم كالماتُريدية- حين رَأوْا ما وَقَعَ من المعتزلة الجَهمية مع أهل السُّنَّة من الفتنةِ، في الصِّفات عامَّةً، وفي كلام الله تعالى خاصَّةً، رَأوْا سلوكَ طريقةٍ وسَط -في زَعْمِهم- بين معقولِ المعتزلةِ ومَنقول أهْل السُّنَّة، فأرادوا التوفيقَ بين المَذْهَبَيْن، لا على سبيلِ موافقةِ كلّ من الطائفتين: المعتزلةِ، وأهل السُّنَّة، وإنَّما على سبيل التوفيقِ بين صَريح المعقول، وصَحيح المنقول -كذا زعموا-. ولكنَّ القومَ كانوا أعلمَ بالكلام والجَدَل المَوروث عن الجَهمية وغيرهم، أكثر من علْمِهم بالمنقول عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- والرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، وأكثر من علْمِهم بطريقةِ السَّلَف، فمالُوا إلى ما غَلَبَ عليهم من معقول الجَهْمية أكثرَ من مَيْلِهم إلى طريقةِ السَّلَف، معَ أنَّهم ردّوا على الجَهمية، ونقَضوا عليهم كثيراً من أصولِهم. قال شيخ الإِسلام رحمه الله تعالى: "لكنَّ الأصلَ العقليَّ الذي بني عليه ابنُ كُلَّاب (¬1) قولَه في كلامِ اللهِ وصفاتِه هو أصْلُ الجَهميةِ والمعتزلةِ ¬

_ (¬1) وهو رأسهم قبل الأشعري -كما بيّنته أول الباب-.

بعينه" (¬2). وقال الحافظ أبو نَصْر السِّجْزيُّ فيهم: "وحاوَلوا الردَّ على المعتزلة من طريق مُجرَّد العَقْل، وهم لا يَخْبُرونَ أصولَ السُّنة، ولا ما كان السَّلَف عليه، ولا يحتجُّون بالأخبار الواردةِ في ذلك زَعْماً منهم أنَّها أخبارُ آحادٍ لا تُوجبُ عِلْماً" (¬3). وكانَ من أعْظَم ما مالوا فيه إلى طريقة الجَهْمية اعتقادُهم في كلام الله تعالى، فإنَّهم أنكروا عليهم قولَهم: (القرآن مخلوق) أشدّ الِإنكار، وصنَّفوا في ذلك المصنفاتِ الكثيرة، ووقعت بينهم في ذلك مناظرات، وحَسِبوا أنَّهم انتصروا عليهم، معَ أنَّهم وافَقوهم في أصْلِ مذهَبهم، وفي كثير من أصولهم، وإنْ رفَضوا التسليمَ لأكثرِ ذلك. فلمَّا رَأوْا ما ألْزَمَت به الجَهميةُ المعتزلةَ من معقولِهم، التزموهُ، ولم يردّوه باعتقاد السَّلَف النَّقي، وإنَّما لجؤوا إلى ابتداع أصولٍ فاسدةٍ لم يقُلْ بها السَّلفُ، ولا المعتزلةُ، ولا أحدٌ من الأمَّةِ، بل ولا الأمَمُ قبلَهم. • الكلام عن الأشعرية: فأصْلُ تلكَ الأصول أنَّهم عرَّفوا الكلامَ بتعريفٍ لا يُعرَفُ في اللُّغَةِ ولا في الشَّرْعِ ولا في المَعقول، فقَالوا: الكَلامُ: هو المعنى القائمُ بالنَّفْسِ -ويُعَبِّرونَ عنه بـ (الكلام النفسي) - وهو الكلام الحقيقيُّ، والألفاظُ مَوضعةٌ للدَّلالة عليه. ¬

_ (¬2) "حديث النزول" ص: 173. (¬3) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 84.

وعليه قالوا: الكلامُ ليسَ بحُروفٍ ولا أصْواتٍ، والمتكلِّمُ: مَن قامَ به الكلامُ، لا من أوجَدَ الكلام. وهذا عندَهم عامٌّ في كلّ كلامٍ. وقد نَصَروهُ ببعض الشُّبَه حَسِبوها أدلَّةً، فقالوا: دلَّ على صِحَّةِ ما قُلْنا اللُّغَةُ والشَّرْعُ. أمَّا اللُّغَة، فإنَّ العربي يقولُ. (كان في نفسِي كلامٌ) و (كانَ في نفسِي قولٌ) و (كان في نفسِي حديثٌ). وقالَ عُمَرُ رضي الله عنه: "زوّرتُ في نفسِي كلاماً فأتى أبو بكر فزادَ عليه" (¬4). فسمَّى عُمَرُ ما في نفسِهِ كلاماً. وقال الأخطل: لا تعجبنَّكَ مِنْ أثيرٍ خُطْبَةٌ ... حتى يكونَ مع الكَلام أصِيلا إنَّ الكَلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما ... جُعِلَ اللِّسانُ على الفُؤادِ دليلًا ¬

_ (¬4) وردَ هذا في حديث السقيفة. أخرجه أحمد رقم (391) والبخاري 12/ 144 - 145 من حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس بالقصة مطوّلةً، وفيها قالَ عمر: وكنتُ قدْ زوّرتُ مقالةً أعجبتني أريدُ أن أقدّمَها بين يَدَيْ أبي بكر ... وأخرجه البخاري 7/ 19 - 20 من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في القصة نفسها، وفيه: فذهبَ عمرُ يتكلَّمُ، فأسكتَه أبو بكر، وكان عُمَرُ يقول: "لله ما أردتُ بذلك إلاَّ أنّي قد هيّأتُ كلاماً قد أعجَبني خشيتُ أنْ لا يَبلُغَه أبو بكر ...

وأمَّا الشَّرْعُ، فقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]. فالله تعالى لَمْ يُكَذِّب المنافقينَ في ألفاظهم، وإنَّما كَذَّبَهم فيما تُكِنُّهُ ضَمائِرُهم وسَرَائِرُهم، فدلَّ على أنَّه حقيقةُ الكَلام والقَوْل. ومثلُهُ قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. فالقَوْلُ بالنَّفْس قائِمٌ وإنْ لم ينْطِقْ به اللسانُ، والقولُ هو الكلامُ. وقولُه تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]. فأسقط حكمَ الكُفْر عن المُكْرَه على كلمةِ الكُفْر، وجعَلَ الحكمَ لصِدْقِ الكلامِ القائمِ بالقَلْبِ. فهذه الآيات وما في مَعناها دالَّةٌ على أنَّ حقيقةَ الكلام هو المعنى القائمُ بالنَّفْس، لا الحُروفُ والأصْواتُ التي هي أماراتٌ ودَلالاتٌ على الكلام الحَقيقي (¬5). ومِن السُّنَّة: قولُه -صلى الله عليه وسلم-: "يا مَعْشَرَ مَن آمَنَ بلسانهِ، ولم يَدْخُلِ الإيمانُ قلبَه" (¬6). ¬

_ (¬5) انظر: "الإِنصاف" لأبي بكر الباقلاني ص: 109. (¬6) حديث صحيح، وهذا بعضه، وتتمته: " ... لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتِهم، فإنَّه من يتَّبع عَوْراتِهم يتَّبع الله عورته، ومَنْ يتَّبع الله عَوْرته يفضحه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = [وإن كان] في بيتِه". وهو مَروي عن جماعةٍ من الصَّحابة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم: 1 - أبو بَرْزَة الأسْلَمي. أخرج حديثَه: أحمد 4/ 420 - 421، 424 وأبي داود رقم (4880) وابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (168، 169) والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" ج 2 ق 2/ ب من حديث الأعمش عن سعيد بن عبد الله بن جريج عن أبي برزة. وأبْهِمَ شيخُ الأعمش في موضع عند كلّ من أحمد وابن أبي الدنيا. قلت: وإسناده حسن. 2 - البراء بن عازب. أخرج حديثه: أبو يعلى رقم (1675) وابن أبي الدنيا في "الصمت" رقم (167) وأبو نعيم في "دلائل النبوة" رقم (356) والبيهقي في "الدلائل" أيضًا 6/ 256 من طريق مصعب بن سَلاّم عن حمزة بن حبيب الزيّات عن أبي إسحاق السَّبيعي عن البَراء. قلت: وإسناده صالح في الشواهد. 3 - عبد الله بن عمر. أخرج حديثه: الترمذي رقم (2032) وابن حبان رقم (1494 - موارد) وأبو بكر الإسماعيلي -كما في "تفسير ابن كثير" 6/ 382 - من طريق الفضل بن موسى حدثنا الحسين بن واقد عن أوفى بن دَلْهَم نافع عن ابن عمر. قال الترمذي: "حديث حسن غريب". قلت: إسناده جيد. 4 - بُريْدة بن الحُصَيْب. أخرج حديثه: الطبراني في "الكبير" 2/ 5 من طريق أبي تُمَيْلَة يحيى بن واضح عن رُمَيْح بن هلال الطائي ثنا عبد الله بن بُريْدة عن أبيه. قلت: إسناده ضعيف لجهالة رُمَيْح بن هلال، لكنه صالح في الشواهد. =

فأخبَرَ أنَّ الكلامَ الحقيقيَّ هو الذي في القلْب دونَ نُطْقِ اللسانِ، وأنَّ الحُكْمَ للكلام الذي في القَلْب على الحقيقةِ، وأنَّ قَوْلَ اللسان مَجازٌ قد يُوافقُ القلبَ وقد يُخالِفُه. وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "النَّدَمُ تَوْبَةٌ" (¬7). والنَّدَمُ معنى في القَلْبِ. وقولُه -صلى الله عليه وسلم-: "يقولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أنا عنْدَ ظَنّ عبدي بي، وأنا معه حينَ يذكُرُني، إنْ ذَكَرَني في نفسهِ ذكرتُهُ في نَفْسِي" (¬8). فأثبتَ الذِّكْرَ للنَّفْس. ¬

_ = 5 - عبد الله بن عباس. أخرج حديثه: الطبراني في "الكبير" 11/ 186 أو العُقيلي في "الضعفاء" 1/ 82 وابن عَدِي في "الكامل" 6/ 2074 من طريق قدامة بن محمد ثنا إسماعيل ابن شَيْبة الطائفي عن ابن جُريج عن عطاء عن ابن عباس. أورده العُقيليُّ في مناكير إسماعيل، وأورده ابن عَدِي في مَناكير قُدامة، والذي أراه أن روايته بهذا الإِسناد من مناكير إسماعيل، فإنَّه أتى عن ابن جريج بأحاديث منكرَة جدًّا لا يُحْتَمل تفرُّده بها عنه، أمَّا قُدامةُ فإنَّه صَدوق لا بأس به. ولكنَّ الحديث صحيحٌ بطرقهِ السابقة صحّةً لا رَيْب فيها. (¬7) حديث صحيح. وردَ عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من عدة وجوه. رواه عنه ابن مسعود، وأنس بن مالك، ووائل بن حُجْر، وأبو سعد الأنصاري، أبو هريرة، وعائشة. وتفصيل الكلام عليه يطول، وله موضع آخر. (¬8) حديث صحيح، مُتَّفق عليه.

فالذِّكرُ والقوْلُ والكلامُ واحدٌ. فَعُلِمَ أنَّ حقيقةَ الكلام: المعنى القائم في النَّفس (¬9). وكذا احتجُّوا بقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران: 41]. فأطلقَ اسْمَ الكلام على غيرِ الألْفاظِ. قلتُ: فهذه جملةُ ما احتجُّوا به لنُصْرَةِ بِدْعَتهم، وأنا ذاكِرٌ بتوفيق الله تعالى نقضَه عليهم. • النقض على الأشعرية: قبلَ الشُّروع في ذلك أذكِّرُكَ بما ذكرناه في الباب الأول من كون أهل السُّنَّة والجَماعة يُقرّون بأنَّ حَديثَ النَّفْس قد يُسَمَّى كلامًا وقَوْلاً، ولكن بقرينةٍ تبيّن ذلك، وأمَّا مُطْلَقُ الكلام والقَوْل فإنَّهُ يَعُمُّ الألفاظَ والمعانيَ مجتمعةً، فالكلامُ -مَثلًا- عندَ النَّحْويينَ مُخْتَصٌّ بالألفاظِ دونَ المعاني، بقرينةِ مَباحث هذا العلْمِ، فإنَّه إنَّما يَبْحَثُ في الألفاظِ لا في المَعاني، كذلك قد يُرادُ بهِ المعنى مجرّدًا بالقَرائنِ، كما سَتراه في الأجوبةِ الآتيةِ. أولاً: ذكر الجواب عما استدلّوا به من اللغة: أمَّا قولُ العربيّ: (كانَ في نفسِي كلامٌ) ونحو ذلك، فإنَّنا لا نُخالِفُ في صحَّتهِ، لكن ليسَ على مرادِكم -معشرَ الأشعرية- وإنَّما على مُرادِنا من كَوْن لفظ (الكلام) إذا جاء مقيّداً، كانَ التقييدُ قرينةً دالّةً على إخراجهِ من ¬

_ (¬9) انظر: "الإِنصاف" للباقلاني ص: 109 - 110.

إطلاقِه، ونحن نقرّ أنَّه قد تُراد به المَعاني أو الألفاظُ بالقرائن، فلمَّا قيَّدَه العربيّ ههنا بالنَّفْس أخرجَه من مُطْلَق الكلام، فكيفَ يصِحُّ لكم -معشرَ الأشعرية- أن تحتجُّوا بما هو مَجاز على قواعِدكم لتقرير ما هو الحَقيقة؟ وذلك أنكم تقولونَ: ما تَصْرِفُه القرائنُ عن حَقيقته إنما هو المَجاز. وأمَّا قَوْلُ عُمَر يوم السَّقيفة، فجوابنا عنه من وجْهين: الأوَّل: أنَّ (التَّزوير) كما يقولُ الأصمعي: "إصلاحُ الكلام وتَهْيئتُهُ" (¬10) فمعناه إذاً: أنَّه قَدَّرَ في نفسهِ كلامًا وهيّأه لم يتكلَّم به بَعْدُ، فليس كلاماً حتى يتكلَّمَ به. ومثالهُ: مَن يُقَدِّرُ في نفسهِ أن يعمَل عمَلًا كانْ يُصلِّي مثلاً، ثمَّ لا يفعل، فهل يقال: إنَّه صلَّى في نفسهِ؟ معَ أنَّ القَلْبَ له عمَل، كما أنَّ للجَوارح عملاً. والثاني: لو صَحَّ ما قالوه لكان موافقاً لمَذْهَبنا لا لِمَذْهَبِهم، فإنَّهم يَعدّونَ مطلقَ الكلام كلامَ النَّفْس، أمَّا نحنُ فعندنا مطلقُ الكلام اللفظُ والمَعنى جميعاً، وقد يُرادُ أحدُهما بقرينةٍ، وهي موجودةٌ في قول عُمَر المذكور، ألا وهي التقييدُ بالنَّفْس، فكيفَ صَحّحْتم تعريفَ الكلام المُطْلَقِ بالكلام المقيَّدِ؟ وأمَّا شِعْرُ الأخْطَلِ، فالجَواب عنه من وجوهٍ: الأوَّل: أنكرَ بعضُ العلماء كونَه من شعرهِ، وذلك أنَّهم فتّشوا دواوينَه فلم يَجِدوه فيه. ¬

_ (¬10) "غريب الحديث" لأبي عبيد 3/ 242.

قال أبو محمَّد الخشّابُ نَحْويُّ العراقِ: "فتشتُ شِعْرُ الأخطلِ المدوّن كثيراً فما وجَدْتُ هذا البيتَ" (¬11). والثاني: أنَّه لم يَثْبُت نقلُه عن قائلهِ بإسنادٍ، لا صَحيحٍ ولا ضعيفٍ. والثالث: لم يتلقَّه أهلُ العَربية بالقَبول. والرابع: أورَدَه بعضُهم بلفظ: إنَّ البَيانَ لَفي الفُؤادِ ... ... ... ... ... ..... وهذا يُفْسِدُ المَعْنى الذي أرادوا -كما لا يَخْفى-. والخامس: الأخطلُ شاعرٌ مولَّدٌ، لا يُحْتَجُّ بشعرهِ في اللُّغة، وهذا معلومٌ عندَ أهل التَّحقيق. والسادس: أنَّه نَصْرانيُّ مُثَلِّثٌ كافِرٌ، وقد ضَلَّت النَّصارى في معنى كلام الله تعالى ومُسَمَّاه، فجعَلوا المسيحَ نَفْسَ كلمة الله. والسابع: أكثرُ من يحتَجُّ من أهل البِدَع بهذا الشِّعْر يُخْفي البيت الأوَّل, لأنه عندَ التَّحقيق حُجَّةٌ عليهم، وذلكَ أنَّ الشاعرَ حين ذكرَ الكلامَ في البيت الأوَّل ذكَره مطلقاً، ليشمَلَ اللفظَ والمَعنى، إذ الذي يُسمَعُ من الخَطيب ألفاظهُ، فأبانَ الشاعِرُ عن حقيقةِ الكلام المؤثّر الذي يقَعُ من النُّفوس مَوْقعاً بأنَّه ما اشْتَمَلَ على المَعاني التي مَوْضِعُها القَلْبُ، لا مُجَرَّدُ الألفاظ التي تُسْمَعُ من المتكلِّم، ولم يُرِدْ تعريفَ الكلام وَوَضْعَ حدٍّ له بكونه المَعاني المجرَّدة. ¬

_ (¬11) "العلوّ" للذهبي ص: 194.

والثامن: مُسمَّى (الكلام) و (القول) ونحوهِما ليسَ ممَّا يُحتاج في تفسيره إلى قولِ شاعر، بل ولا ألْفِ شاعر، فإنَّه ممَّا قد عُلِمَ ضرورةً، إذ هو ممَّا تكلَّمَ به الأوّلونَ والآخرونَ من أهْل اللّسانِ، وعَرَفوا معناه في لُغَتهم. واللُّغة إنَّما تُسْتفَاد من استعمالِ أهلِها لها في كلَامهم، لا تُسْتَفاد مِمَّا يُذْكَر من الحُدودِ والتَّعريفات، بأن يقال: (الرأس كذا ... الكلام كذا ...) (¬12). فالحاصِلُ: أنّ الاحتجاجَ بهذا الشِّعْر ظاهرُ الفَسادِ، وفَسادُهُ أبْيَنُ وأظهرُ من تكلّفِ التفصيل له، والقومُ استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خَيْرٌ، فترَكوا نصوصَ الوَحْي الصَّريحةَ لقَوْلِ نَصْرانيٍّ كافرٍ، لم يُحَقِّقوه صِحَّةً، لا رِوايةً ولا دِرايةً. قال الِإمام أبو المَعالي أسْعَدُ بن المُنَجّا شيخُ الحَنابلة: كنتُ يوماً عندَ الشَّيخ أبي البَيان (نَبأ بن محمَّد بن مَحفوظ القُرَشي الشّافعي) رحمه الله تعالى، فجاءَه ابن تَميم الذي يُدعى الشيخ الأمين، فقالَ له الشيخ بعدَ كلام جَرى بينهما: "ويحَكَ، الحنابلة إذا قيل لهم: ما الدَّليلُ على أنَّ القرآنَ بحَرْفٍ وصَوْتٍ؟ قالوا: قال الله كذا، وقال رسولُهُ كذا -وسرد الشيخُ الآياتِ والأخبارَ- وأنتم إذا قيل لكم: ما الدَّليلُ على أنَّ القرآنَ معنى قائم في النَّفس؟ قلتُم: قالَ الأخطل: إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ ... أيش هذا الأخطل؟ نَصْرانيٌّ خَبيثٌ، بَنَيْتُم مذهَبَكم على بيتِ شعرٍ ¬

_ (¬12) انظر: كتاب "الإِيمان" لشيخ الإسلام ص: 132 - 134.

من قولِهِ، وتركْتُم الكتابَ والسُّنَّة؟! " (¬13). وقال شيخُ الإِسلام: "كانَ مِمَّا يُشَنَّعُ به على هؤلاء أنَّهم احتجّوا في أصْلِ دينهم ومعرفةِ حقيقةِ الكلام -كلام الله، وكلام جميعِ الخَلْق- بقول شاعر نَصْرانيّ يُقال له: الأخطل: إنَّ الكلامَ لَفِي الفؤادِ وإنَّما ... جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دليلا وقد قالَ طائفةٌ: إنَّ هذا ليسَ من شِعْرهِ، وبتقدير أن يكونَ من شعرهِ فالحَقائقُ العقليةُ، أومسمَّى لفظ (الكلام) الذي يتكلَّم به جميعُ بني آدم، لا يُرْجَعُ فيه إلى قولِ ألفِ شاعرٍ فاضِل، دَعْ أنْ يكونَ شاعراً نَصْرانيّاً اسمُه: الأخْطَل، والنَّصارى قد عُرِفَ أنّهم يتكلَّمونَ في كلمةِ الله بما هو باطلٌ، والخَطَل في اللُّغة: هو الخَطَأ في الكَلام. وقد أنشَدَ فيهم المُنْشِد: قُبْحاً لِمَنْ نَبَذَ القرانَ وَراءَه ... فإذا استدلَّ يقولُ: قال الأخطلُ (¬14) وقال شيخ الإِسلام أيضاً: "ولو احتجَّ مُحْتجٌّ في مسألةٍ بحديثٍ أخرَجاه في الصَّحيحين عن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- لَقالوا: هذا خبرُ واحدٍ، ويكون مِمَّا اتّفقَ العلماءُ على تصديقهِ وتلقّيهِ بالقَبول، وهذا البيتُ لم يَثْبُت نقلُهُ عن قائلهِ بإسنادٍ صَحيح لا واحدٍ ولا أكثرَ من واحدٍ، ولا تلقَّاةُ أهلُ العربيَّة بالقَبول، فكيفَ يثْبُتُ به أدنى شَيْءٍ من اللغة فَضْلًا عن مسمَّى ¬

_ (¬13) رواه الذهبي في "العلو" ص: 193 - 194 بسند صحيح، وفي المتن تحريف في المطبوعة، انظر "مختصره" ص: 284 - 285. (¬14) "مجموع الفقاوى" 6/ 296 - 297.

الكلام" (¬15). ثانياً: ذكر الجواب عما استدلوا به من الكتاب والسنة: إنَّ ما احتجُّوا به من ذلك قَدْ حُرِموا التَّوفيق في فَهْمِهِ، فقالوا على الله غيرَ الحقّ. فقوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ...} الآية. نقولُ للأشعرية: أقرَرْتُمْ بأنَّه تعالى لم يُكَذِّب المنافقينَ في ألفاظِهم، وقد سَمَّاه تعالى قولاً، فقال: {قَالُوا نَشْهَدُ}. ولمَّا كانت الألفاظُ المجرَّدةُ غيرَ كافيةٍ لإِثباتِ إيمانِهم وصِدْقِهم فيه، وإنَّما يَجِبُ أنْ يقارِنَها إيمانُ القَلْب، واستقرارُ معنى ما قالوه فيه، لأجلِ ذلك كَذَّبَهم في دَعْواهم، فالذي كذَّبَهم الله تعالى فيه إنَّما هو الدَّعوى المجرَّدةُ، وعَدَمُ صحَّةِ ذلك منهم، ولم يُكَذِّبْهم في صِحَّةِ كونِ ما نَطَقوا به قولاً وكلاماً، بلْ أقرَّ ذلك وثبَّتَه، وليس الخِلافُ بيننا في صِدْق القول أو كذبهِ، وإنَّما في ماهيَّتهِ وحَقيقتهِ. ونظيرُ هذه الآية قولُ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشرَ مَن آمنَ بلسانِهِ ... " الحديث. وأمَّا قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ...} الآية. فهو كسابقهِ في فَساد الاحتجاج به، وذلك من وَجْهَيْن: الأوَّل: يُحْتَمَلُ أنَّهم قالوهُ بألسنتِهم سِرّاً، يُحَدِّثُ بعضُهم بعضاً ¬

_ (¬15) كتاب "الإِيمان" ص 132.

بذلك، وهو قولُ بعضِ أهل التَّفسير. والثاني: أن لفظَ (القَوْل) وَرَدَ في الآية مرَّتَيْن، مَرَّةً مقيّداً بالنفسِ، والثانية مطلقاً، ولا ريْبَ أنَّ المُطْلَقَ هو تَناجيهم بالإِثمِ والعُدوانِ، ومعْصيةِ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، وتحيَّتُهم له بغَيْر ما حَيَّاه به الله، وكلّ ذلك أقوالٌ، هي ألفاظٌ ومَعاني، فأطلقَه للعلْم به، وقيَّدَ القوْلَ الأوَّلَ بالنَّفْس ليكونَ خاصّاً بالمعنى دونَ اللفظِ، هذا على تَسْليم كونهِ حديثَ نفْس. فلو كانَ مطلقُ القولِ إنَّما يُرادُ به حديثَ النَّفس لم تكُن هناك حاجَةٌ إلى تقييدِه بها، ولَكانَ التناجي والتَّحيَّةُ مَعانيَ مجرَّدةً، تُحَدِّث القلوبُ بعضُها بعضاً بها من غير نُطْقٍ ولا لَفْظٍ، وهذا لا يتصوَّرُه عاقلٌ. ومثْلُ هذه الآية احتجاجُهم بقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف:205] فهذا هو الذِّكْرُ باللسان سِرّاً، فلَم يَخْرُجْ عن كونهِ أَلفاظاً أومعانيَ مجتمعةً، ألا ترى قولَه: {وَدُونَ الْجَهْرِ}؟ والذي يَلي مرتبةَ الجَهر الذي هو الذّكرُ برفْع الصَّوْت، مرتبةُ الإِسْرار التي هي الذِّكْرُ بخَفْضِ الصَّوْت، وكلُّ ذلك قائمٌ باللسانِ والقَلْب. وأقولُ للأشعرية: بماذا تُفسِّرونَ إذاً قولَ أبي هُرَيْرَة لمنْ سألَهُ عن قراءَةِ أمّ الكتاب وراءَ الإِمامَ: "اقْرَأ بها في نَفْسِكَ" (¬16)؟ هل هو عندَكم المعنى القائمُ في القَلْب أيضاً؟ ¬

_ (¬16) حديث صحيح، وهذا جزء منه موقوف، وقد رواه مسلم وغيره. وهو مخرج في كتابي "الإِعلام بأحكام القراءة وراء الإِمام".

إن قلتُم: نعَمْ، أبطَلْتُم مذاهبَكم، فإنَّكُم تُسلّمونَ أنّ الخلافَ في هذه المسألة إنَّما هو في نُطْق اللّسانِ، لا في استحْضار المَقروء في القلْبِ. وإن قُلْتُم: لا، أفسَدْتُم أصلَكم أنَّ الكلامَ الحقيقيِّ ما قامَ في النَّفْس من المَعاني. ونَظير الآية المذكورةِ احتجاجهُم بحديثِ: "يقولُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: أنا عندَ ظَنِّ عَبْدي بي، وأنا معه حين يذكُرني ... " الحديث. فإنَّ الذّكْرَ في النَّفْس هنا هو ذكرُ اللسان سِرّاً، ألا تَراه قال في تتمة الحديث: "وإنْ ذكَرَني في مَلأٍ ذكرتُه في مَلأٍ خيرٍ منهم"؟ فهما منزلتان. ونظيرهُ أيضاً احتجاجُهم بقَوْله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]. بل إنَّ احتجاجَهم بهذه الآية أظْهَرُ في الحُجَّة عليهم، وذلك أنَّه تعالى أثبتَ لهم قَوْلاً يُسَرُّ به، وقَوْلاً يُجْهَرُ به، والمَجْهورُ إنَّما يكون برفْع الصَّوت، وضدُّه الذي يُسَرّ به، ويجمَعُهما نُطْقُ اللسان، يوضِّحُه قوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7]، فهذه ثلاثُ مَراتب: الأولى: الجَهْر، والثانية: السِّرّ، والثالثة: ما هو أخفى من السِّرّ، وليسَ هو إلَّا حديثَ النَّفْس، ولذلكَ قال في الآية: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تَنْبيهاً لهم على أنَّه إذا كانَ يعلَمُ ما في الصُّدور، وهو المُعبّرُ عنه في الآية الأخرى بـ {وَأَخْفَى} فعِلْمُهُ بالجَهْرِ بالقولِ والسِّرّ به أولى، ذكر نحوَ هذا شيخُ الإِسلام. وأمَّا احتجاجهُم بقولِهِ -صلى الله عليه وسلم-: "النَّدَمُ توبَةٌ" وما في مَعناه، ونحوه

احتجاجهُم بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] وما في معناه، فليسَ وارداً في مَحَلّ النِّزاع، لأنَّ الخلافَ بينَنا وبين الأشعرية إنَّما هو في مسمَّى القولِ والكلامِ، لا بقيامِ المَعاني في القلب. وأمَّا احتجاجهُم بآية الإِكراهِ فشبيهٌ بهذا، فإنَّه لم يُسَمِّ ما في القَلْب كلاماً، وإنَّما قال: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} لأنَّه موضعُهُ ومَحَلُّه في الأصْلِ. وتَسْميةُ ما في القَلْب من الإِيمان كَلاماً راجعٌ إلى أصْلِهم في الإِيمان بأنَّه التَّصديقُ القَلْبي، إذ هم فيه مُرْجئةٌ جَهميةٌ، وهو عندَ أهل السُّنَّة من السَّلَف والأئمَّةِ: تصديقُ القَلْب، وقولُ اللِّسان، وعمَلُ الجَوارح، حقيقةً في هذا جميعاً، فرفع الله الحرَجَ عن المُكْرَه رفعاً مؤقَّتاً للضَّرورة، تيسيراً عليه وتَخفيفاً، لا على أنَّ الإِيمانَ على الحقيقة هو تصديقُ القَلْب فقَط، فإنَّه لو كان كذلكَ لَمَا كان فَرْقٌ بين حال الإِكراه وعَدَمهِ، ففيم الرُّخْصَةُ إذاً؟ وعلى تسليم كَوْن إيمانِ المُكْرَه كلاماً فإنَّه مقيَّد بذكْر القَلْب. وأمَّا احتجاجُهُم بقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} فَلنا عنه جَوابان: الأوَّل: أنَّه تعالى قالَ في سورة مريم [10]: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} والقصَّةُ واحدةٌ، فاستثنى في الموضِع الأول ولم يَسْتَثْنِ في الثاني، فدلَّ على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ لا مُتَّصل، فيكونُ المعنى: آيتك ألاَّ تكلِّمَ النَّاسَ، لكن تَرْمِزُ لهم رَمْزاً، وهو قوله: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11] هو الإِيحاءُ بالرَّمْز.

والثاني: إنْ لم يصحّ كونُه استثناءً منقطعاً، كان كلاماً مقيّداً بالرَّمْز، فلا إشكالَ. ذكرَ نحوَ لهذا شيخُ الإِسلام. فهذا جملةُ ما موَّهَت به الأشعريةُ والماتُريديةُ على الأمَّة ليَلْبِسوا عليها دينَها، ولا يَخفاك ما يتَّسِمُ به من التَّناقُض والاضطرابِ. يا هؤلاءِ نحنُ لا نختلفُ معكم في كَلامٍ مقيَّدٍ، فإنَّ القرائنَ تُخْرِجُ اللَّفظَ عن معناه إلى وجوهٍ من المَعاني، وإنَّما نَخْتَلفُ معكم في مطلق (الكلام) و (القول) وها أنتم قد عجَزْتُم عن الإِتيان ولو بحُجَّةٍ واحدةٍ تُثْبتونَ بها صحَّةَ قَوْلِكم، وتعلّقْتُم بما هو أوْهى من بيتِ العنكبوتِ، لتَنْصروا ما حَسِبْتُم كونَه حقّاً، ولَيْتَكُم تصوَّرْتُم قولَكُم وأمكَنكم صياغَتَه بتعريفٍ لتفهموه أنتم قبلَ أن تُفْهِموه خصومَكُم. أيّ ضلالٍ هذا الذي أدخَلَه ابنُ كُلاّب وأتباعُهُ على الأمَّةِ ليُفْسِدوا به الضَّروراتِ؟ فلقد كان الناسُ في سَلامة من ذلك، ومعَ ذلك فقد قابَلوا باطلَ الجَهمية حين ظهَرَ بأحسَنِ الردّ وأبْيَنِهِ، ولم يَحتاجوا إلى هذه الضَّلالات الكُلّابية والأشعرية. قال شيخُ الإِسلام: "ولَمْ يكن في مسمَّى الكلام نزاعٌ بين الصَّحابة والتابعينَ لهم بإحسانٍ، وتابعيهم، لا من أهل السُّنَّة، ولا مِن أهل البدعةِ، بل أوَّل من عُرِفَ في الإِسلام أنَّه جعلَ مسمَّى الكلام المعنى فقط هو عبد الله بن سعيد بن كُلّاب، وهو متأخِّرُ في زمَن محنةِ أحمد بن حنبل، وقد أنكر ذلكَ عليه علماءُ السُّنَّةِ وعلماءُ البدعةِ، فيمتنعُ أن يكونَ الكلام الذي

هو أظهرُ صفاتِ بني آدم، كما قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] ولفظُه لا تُحْصى وجوهُه كثرةً، لَمْ يعرفْهُ أحدٌ من الصحابةِ والتابعين وتابعِيهم، حتى جاءَ مَن قالَ فيه قولاً لم يَسْبِقْهُ إليه أحدٌ من المسلمينَ ولا غيرِهم" (¬17). وقال الحافظ أبو نَصْر السِّجْزيُّ: "رَكِبوا مُكابَرَةَ العِيانِ، وخَرَقوا الإِجماعَ المُنْعَقِدَ بين الكافَّة: المُسْلم والكافِر" (¬18) بلْ "ألجَأهم الضِّيقُ مِمَّا دخَلَ عليهم في مقالَتهم إلى أنْ قالوا: الأخرَسُ متكَلِّمٌ، وكذلك السَّاكتُ والنائمُ، ولهم في حال الخَرَس والسُّكوت والنَّوم كلامٌ هم متكلِّمونَ به، ثمَّ أفصَحوا بأنَّ الخرَسَ والسُّكوتَ والآفات المانعة من النّطق لَيْسَتْ بأضْداد الكلام" (¬19). قال: "وهذه مقالةٌ تُبَيِّنُ فضيحةَ قائلها في ظاهِرها من غير رَدٍّ عليه، ومَن عُلِمَ منه خَرْقُ إجماع الكافّة، ومخالفَةُ كلّ عَقْليّ وسَمْعيّ قبلَه لم يُناظَرْ، بل يُجانَبُ وَيُقْمَعُ" (¬20). قلتُ: ولقد كانت هذه البدعةُ جَديرةً بالإِعراض عنها لولا ما عمَّ بها من فَساد الاعتقاد، ولَبْسِ الحَقّ بالباطل، فلا حولَ ولا قوة إلاَّ بالله. ¬

_ (¬17) كتاب "الإِيمان" ص: 128. (¬18) نقله عنه شيخ الإِسلام في "درء التعارض" 2/ 85. (¬19) نقله عنه شيخ الإِسلام أيضاً في "درء التعارض" 2/ 86. (¬20) المصدر السابق 2/ 86.

• كلام الله تعالى عند الأشعرية: على الأصْل الذي ذكرناهُ عنهم في تعريف الكلام بَنوا اعتقادَهم في كلام الله تعالى. فقالوا: كلامُ الله القديمُ هو الكَلام النَّفسيُّ، وهو معنى واحدٌ، قائمٌ بذاتهِ، غيرُ مخلوق، صفةٌ من صفاتهِ، غيرُ بائنٍ عنه، لم يزَلْ موصوفاً به، ليسَ بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، وليسَ هو بلُغَةٍ، ولا يتجَزَّأ، ولا ينقسِمُ، ولا يتفاضَل، ولا يتعدَّدُ، ولا يَدْخلُه النَّسْخُ، ولا يتعلَّق بمشيئةِ الله واختيارهِ، وهو الأمرُ والنَّهيُ والخبرُ، يُفْهِمُه الله مَن شاءَ من عبادهِ بعباراتٍ مخلوقةٍ تدلُّ عليه، فعبارةُ القرآن بالعَربيةِ، والتَّوراة بالعِبْرية، والإِنجيلِ بالسّريانيةِ، وهي عباراتٌ عن الكلام النفسيّ الحَقيقي ودلالاتٌ عليه، وهي جميعاً معنى واحدٌ، فمعنى القرآن هو معنى التوراة والِإنجيل وغير ذلك من كلام الله، وتكليمُ الله لِمَنْ كلَّمَه من عباده إنَّما هو خَلْق إدراكِ ذلك المعنى لهم. فالقرآنُ، والتَّوراةُ، والِإنجيلُ، بألفاظِها وحُروفها مخلوقةٌ، وهي دَلالاتٌ على الكلام النَّفسيّ، خلَقَها الله في شَيْءٍ. قالوا في القرآن العربيّ: خلَقَه الله في اللَّوْح المَحفوظ -وهذا أشهَرُ عند متأخِّريهم، وهو الذي يقولُه صاحب "تحفة المريد" وغيره-. ومنهم مَن قال: خلَقَهُ في الهَواء، فأخَذَهُ جبريلُ عليه السَّلام. ومنهم مَن قال: بلْ إنَّ الله أفْهَمَ جبريلَ المعنى، فعبَّرَ عنه جبريلُ بقولِهِ، فالقرآن قولُ جبريلَ عليه السَّلام -وهذا صرَّحَ به أكبرُ مُحقِّقيهم على الإِطلاق بعدَ الأشعري: أبو بكر الباقلّاني-.

ومنهم مَن قال: بل هو عبارةُ محمَّد -صلى الله عليه وسلم- وهو قولٌ مرجوحٌ عند متأخِّريهم، لكنه مذكورٌ مشهورٌ عندهم-. فهذا جملةُ اعتقادِهم في كلام الله تعالى، وأنا ذاكرٌ تفصيلَه عنهم ونقضَه عليهم في المباحث الآتية بتوفيق الله وتيسيره.

المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجردا

المبحث الثاني: إبطال كون كلام الله تعالى معنى مجرداً اتَّفَقوا على كَوْن الكَلام الثابتِ صفةً لله تعالى هو الكلامَ النَّفسيَّ، وهو معنًى واحدٌ، وبعضُهم قال: هو عدَّةُ مَعانٍ، وهو الأمرُ، وهو النَّهي، وهو الخبرُ، إنْ عُبِّرَ عنه بالعَربية كانَ قرآناً، أو بالعِبْرانية كان توراةً، أو بالسِّريانية كان إنجيلًا. قال أبوبكر الباقلاني: "الكلامُ القَديمُ القائمُ بالنَّفْس شَيْءٌ واحدٌ لا يَخْتَلفُ ولا يتغيَّرُ" (¬21). وقال الباجوريّ:"وكلامه تعالى صفةٌ واحدةٌ لا تَعَدُّدَ فيها، لكن لها أقسامٌ اعتباريةٌ" ثمًّ ذكَرَ أنها الأمرُ والنهيُ والخبرُ والوعدُ والوعيدُ (¬22). وهذه عندَهم أقسامٌ للكلام بالنَّظر إلى ما يُعبِّر عن الكلام، أمَّا في الحقيقة فإنَّهم يعدّونها صفاتٍ للكلام، لا أنواعًا وأقساماً، لأنه واحدٌ لا يتجزّأ ولا ينقسم. ¬

_ (¬21) "الإِنصاف" ص: 107. (¬22) شرح "الجوهرة" المسماة بـ "تحفة المريد" ص: 72.

وقال البيهقيُّ -وهو منهم-:"وكلام الله تعالى واحدٌ، لا يختلِفُ باختلافِ العِبارات، فبأيّ لسان قُرِىءَ كان قد قرىء كلام الله تعالى، إلاَّ أنَّه إنَّما يُسمَّى توراةً إذا قُرِىءَ بالعِبْرانية، وإنَّما يسمَّى إنجيلاً إذا قُرىءَ بالسّريانية، وإنَّما يسمَّى قرآناً إذا قرىءَ بالعَربية، على اللُّغات السَّبع التي أذِنَ صاحبُ الشَّرْع في قراءتهِ عليهنَّ، لنزوله على لسانِ جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام على تلك اللُّغاتِ دون غيرِهن، ولما في نظمهِ من الإِعجاز" (¬23). وممَّا يؤكِّدُ أنَّ عينَ التوراةِ والإِنجيل -عندهم- هما عَيْنُ القرآن لو كانا بالعَربية، قوله:"وإنَّما يجوزُ في هذه الشَّريعةِ قراءةُ ما سُمِّيَ قرآناً دون ما سُمِّيَ توراةً وإنجيلاً، لأنَّ الله تعالى كذَّبَ أهلَ التوراةِ والإِنجيل الذين كانوا على عَهْدِ نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، وأخبرَ عن خِيانَتهم وتحريفِهم الكلامَ عن مواضعهِ، ووضْعِهم الكتابَ، ثمَّ يقولونَ: هذا مِنْ عند الله، وما هُوَ من عِنْدِ الله، ويقولونَ على الله الكَذِبَ وهم يعلَمونَ، فلا يأمَنُ المسلمُ إذا قَرأ شيئاً من كتُبهم أنْ يكونَ ذلك مِنْ وضْعِ اليَهود والنَّصارى" (¬24). تأمَّل كيفَ جعلَ التَّوراةَ والإِنجيلَ قبلَ التَّحريف عينَ القُرآنِ، وأنَّ الجميعَ كلامٌ واحدٌ، واللّغاتِ إنَّما هي عبارةً عن هذا الواحدِ. وهذه بدعةٌ شَنيعةٌ، وضَلالة فَظيعةٌ، أدخلَها ابنُ كُلاّب على الناس بعدَ أن كانوا عنها في غَفْلَة. ¬

_ (¬23) "الأسماء والصفات" ص: 270. (¬24) "شعب الإِيمان" 1/ 131 - طبع الهند-.

وجمهورُ العُقلاء من أهل السُّنَّة وأهل البِدْعة، اتَّفقوا على فَسادِ هذا القولِ، وأنَّ فسادَهُ معلومٌ بالضَّرورةِ، وذلك من وجوه متعدّدةٍ: الأوَّل: أنَّ نفسَ قائليهِ لم يتصوَّروا ماهيَّتَه، وعجَزوا عن بيانهِ بتعريفٍ مُنْضَبطٍ. قال شيخُ الإِسلام:"الكلامُ القَديمُ النَّفْسانيُّ الذي أثبتُّموه لم تُثْبِتوا ما هو؟ بل ولا تصوَّرْتُموهُ، وإثباتُ الشَّيْءِ فَرْعُ تصوّرِهِ، فمَن لم يتصوَّرْ ما يُثْبتُهُ كيفَ يجوزُ أنْ يثبتَه؟ ولهذا كانَ أبو سعيد بن كُلاّب -رأسُ هذه الطائفة وإمامُها في هذه المسألة- لا يذكُرُ في بيانِها شيئاً يُعْقَل، بل يقولُ: هو معنى يُناقِضُ السُّكوتَ والخَرَسَ، والسُّكوتُ والخرَسُ إنَّما يُتَصَوَّران إذا تُصُوِّرَ الكلامُ، فالسَّاكتُ هو السَّاكتُ عن الكلام، الأخرسُ هو العاجزُ عنه، أو الذي حصَلَتْ له آفةٌ في مَحَلِّ النُّطْقِ تَمْنَعُه عن الكلام، وحينئذ فلا يُعرَفُ السَّاكتُ والأخرَسُ حتى يُعرَفَ الكلامُ، ولا يُعرَفُ الكلامُ حتى يُعرَفَ السَّاكتُ والأخرَسُ، فتبيَّنَ أنَّهم لم يتصوَّروا ما قالوهُ، ولم يُثْبِتوهُ" (¬25). قلتُ: وقَدْ أفْحَشَ القومُ فذَكَروا فيما يَسْتحيلُ في حقّهِ تعالى الخَرَسُ والبَكَمُ، وقالوا: هو ضدُّ الكلام، لكنَّ قولَهم بالنَّفْسيّ ألْجَأهم إلى القَوْلِ بأنَّ المُستحيلَ في حَقِّه تعالى هو الخَرس النفسيّ (¬26)،وهذا معناهُ أنَّ الأَخرَسَ الذي قامَت في نفسهِ المَعاني وعَجَزَ عن التَّعْبير عَنْها بلسانِهِ يصِحُّ وصفُهُ بالمتكلِّمِ، كما حَكاهُ الحافظُ أبو نَصْرٍ السِّجْزيُّ رحمهُ اللهُ فيما ذكرناهُ عنه آنفاً. ¬

_ (¬25) "مجموع الفتاوى" 6/ 296. (¬26) كما في "كفاية العوام وشرحها" ص: 121 وغيرها من كتبهم.

ويْلَكُم! أوَ يُصَدِّقُ هذا صِبيانُ الكَتاتيب؟! والثاني: نعلَمُ جميعاً أنَّ الأخرسَ -الذي هو متكلَّمٌ في نظرِكم معشرَ الأشعرية- إنَّما مَنَعَتْهُ آفةٌ في لسانهِ عن التعبير عَمَّا في نفسهِ، فعجزَ عن البيان، فهو يُفْهِم ما قامَ في نفسهِ من المَعاني لغيره، فيعبّرُ عنها ذلك الغيرُ، وأنتم قلْتُم في ربْكُم ذلكَ: إنَّه يُفْهِمُ المعنى القائمَ بنفسهِ مَن شاءَ من عبادهِ، كما أفهَمه لجبريل عليه السَّلام، فعبَّر جبريلُ عمَّا في نفسِهِ تعالى. أيُّ إفْكٍ هذا الذي جئتم به أيَّها المُعَطِّلَة، وأيّ نَقْصٍ جوَّزتُموه على ربكم؟ شبَّهْتُموهُ بالأخْرَس، فأيّ فرْقٍ بينه وبين الآلهةِ التي لا تُرْجِعُ إلى عابديها قولاً؟ سبحانَكَ هذا بهتانٌ عَظيمٌ. والمتكلِّمُ بالألفاظ والمَعاني أكْمَلُ مِمَّن يقومُ المعنى في نفسهِ وهو لا يَقدِرُ على التَّعبير عنه -وهذا إنْ وُجدَ في المخلوق الضَّعيف كانَ نَقْصاً بيّناً- فجبريلُ إذاً يكونُ أكمَلَ من ربْكم, لأنه فَهِمَ المعنى وأمكَنَه التعبيرُ عنه. تعالى الله عن قوِلكم علوّاً كبيراً. والثالث: كَوْن الأمْر هو النَّهيَ، والنَّهي هو الخبَرَ، مِمَّا لا يعقلُهُ عاقلٌ، وهي على قولكم: معنى واحد، ولا يعقلُ عاقلٌ أنَّ القرآن العربيَّ لو تُرْجِمَ إلى العِبْرانية كان هو التَّوْراة، والتَّوراة لو عُرِّبَت كانت هي القرآن، وهي على قوِلكُم معنى واحد. وعلى هذا الْتَزَمْتُم أنْ تكونَ آيةُ الدَّيْن هي آية الكُرْسّي، و {تَبَّتْ يَدَا

أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} هي {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} والعلُم هو القدرة، وسائر الصفات كذلك، بلْ ربَّما جرَّكُم ذلك إلى ما هو أشدّ من ذلك وأدْهى. قالَ لهم جُمهورُ العُقَلاء: إذا جَوّزْتُم أنْ تكونَ حقيقةُ الخَبَر هي حقيقةَ الأمر، وحقيقةُ النَّهي عن كلّ مَنْهيّ عنه، والأمْرِ بكلّ مأمورٍ به، هو حقيقةَ الخَبَر عن كلّ مُخْبَرٍ عنه، فجَوِّزوا أن تكونَ حقيقةُ العِلْم هي حقيقةَ القُدْرة، وحقيقةُ القدرةِ هي حقيقةَ الإِرادة (¬27). قال شيخُ الإِسلام:"فاعْتَرَف حذّاقُهم بأَنَّ هذا لازِمٌ لهم لا مَحيدَ لهم عنه" (¬28). وقال في موضعٍ آخر:"فاعترف أئمَّةُ هذا القَوْل بأنَّ هذا الإِلزام ليس لهم عنه جَوابٌ عقليٌّ" (¬29). قال:"وَلَزِمَهم إمكانُ أن تكونَ حقيقةُ الذَّات هي حقيقةَ الصِّفات، وحقيقةُ الوُجود الواجبِ هي حقيقة الوُجود المُمْكِن، والتزمَ ذلك طائفةٌ منهم، فقالوا: الوجودُ واحدٌ، وعَيْنُ الوُجودِ الواجب القَديم الخالِق هو عَيْنُ الوُجود المُمْكِن المَخلوق المُحْدَث، وهذا أصلُ القائلين بوَحْدَة الوُجود، كابن عَربيّ الطائيّ، وابن سَبْعين، وأتباعهما" (¬30) قلتُ: وممَّا يُفْسِدُ عليهم بِدْعَتهم في اعتقادِهم أنَّ كلامَ الله معنى ¬

_ (¬27) انظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 522 - 523، 9/ 283، 12/ 122، 166. (¬28) "مجموع الفتاوى" 9/ 283. (¬29) "مجموع الفتاوى" 12/ 122. (¬30) "مجموع الفتاوى" 9/ 283 - 284.

واحدٌ، حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت قريشٌ لليهودِ: أعْطونا شيئاً نسألٌ عنه هذا الرَّجلَ؟ فقالوا: سَلوهُ عَن الرُّوح، فسألوه؟ فنزلَتْ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإِسراء: 85]، قالوا: أوتينا عِلْماً كثيراً، أوتينا التوراةَ، ومَن أوتي التَّوراةَ فقد أوتيَ خَيْراً كثيراً، قال: فأنزلَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} إلى آخر الآية، [الِإسراء: 109] (¬31). فدلَّ الحديثُ على كَوْنِ التَّوراة بعض كلام الله لا كلَّ كلامهِ، وبعضَ عِلْم الله لا كلَّ عِلْمِهِ، وأوتي نبينُّا -صلى الله عليه وسلم- من العِلْم ما ليسَ في التوراةِ، ذلك لأنَّ كلماتِهِ تعالى لا تَتَناهى. وهذا لا يَجْري على قواعدِ الأشعرية وأصولِهم، لأنَّ معنى التوراة والقرآن معنى واحدٌ، والاختلافَ إنَّما هو في اللّغة. والرابع: تُقرّونَ -معشرَ الأشعرية- بأنَّ موسى سَمِعَ كلامَ الله، وإنْ كنتم تختلفون في معنى السَّماع، فهل سَمِعَ موسى جميعَ المعنى أم بعضَه؟ ¬

_ (¬31) حديث صحيح. أخرجه أحمد رقم (2309) والترمذي رقم (3140) والنَّسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" 5/ 133 - وابن أبي عاصم في "السنَّة" رقم (595) والحاكم 2/ 531 من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس به. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وقال الحاكم "حديث صحيح الإِسناد" وأقرَّة الذهبي. قلت: وهو كذلك.

إنْ قُلْتُم: سَمِعَ جميعَ المعنى فقد قُلْتُم الكُفْرَ، إذ ادّعيتُم إحاطَة موسى بعلْمِ الله وكلامِهِ الذي لا نِهاية له، والله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. وإنْ قُلْتُم: سَمعَ بعضَه، فقَدْ نقَضْتُم أصلَكُم، لأنَّ الكَلامَ عندَكم لا يتبعّض. وهذا ممَّا ألزَمهم به جمهورُ العُقلاء (¬32). وقد رأيتُ في هذا الإِلزام مناظرةٌ لطيفةً جَرَت بين الحافظ الإِمامِ أبي نَصْرٍ السَّجْزي وبعضِ الأشعرية، يحسُنُ سياقُها لِما تضمَّنَت من الفائدة. قال فيها الحافظ أبو نَصْرٍ:" ... فقلتُ لمُخاطبي الأشعريّ، قد عَلِمْنا جميعاً أنَّ حقيقةَ السَّماع لكلام الله مِنه على أصْلِكُم مُحالٌ، وليس ههنا مَن تتَّقيه وتَخشى تَشنيعَه، وإنَّما مذهَبُكَ أنَّ الله يُفْهِمُ مَنْ شاءَ كلامَه بلَطيفةٍ منه، حتى يَصيرَ عالماً مُتيقِّناً بأنَّ الذي فَهِمَه كلامُ الله، والذي أريدُ أنْ ألْزِمَكَ واردٌ على الفَهْم ورودَه على السَّماع، فدَعِ التَّمْويهَ، ودَعِ المُصانَعَة، ما تقولُ في موسى عليه السَّلام حيثُ كلَّمه الله؟ أفَهِمَ كلامَ الله مُطْلقاً أم مقيَّداً؟ فتَلَكأ قليلاً، ثمَّ قال: ما تُريد بهذا؟ فقلتُ: دَعْ إرادَتي، وأجِبْ بِما عندك. فأبى، وقال: ما تُريد بهذا؟ فقلتُ: أريدُ أنَّكَ إنْ قلت: إنَّه عليه السَّلام فَهِمَ كلامَ الله مُطلقاً، ¬

_ (¬32) انظر:"مجموع الفتاوى" 9/ 283 و 12/ 49 - 50.

اقتضى أن لا يكونَ لله كلامٌ من الأزَل إلى الأبَد، إلاَّ وقد فَهِمَه موسى، وهذا يَؤول إلى الكُفْر، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} ولو جازَ ذلك لصارَ مَن فَهِمَ كلامَ الله عالِماً باَلغَيْبِ وبِما في نَفْسِ الله تعالى، وقدْ نفى الله تعالى ذلك بما أخبرَ به عن عيسى عليه السلام أنَّه يقولُ: {تَعْلَمُ مَا في نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوب} [المائدة: 116]. وإذا لَمْ يَجُزْ إطلاقُهُ، وألْجِئْتَ إلى أنْ تقولَ: أفهَمَهُ الله ما شاءَ مِن كلامهِ، دخَلْتَ في التَّبعيض الذي هَرَبْتَ منه، وكفَّرْتَ من قالَ به، ويكونُ مخالفُكَ أسعدَ منك, لأنَّه قالَ بما اقتضاهُ النَّصُّ الواردُ مِنْ قِبَلِ الله عَزَّ وجَلَّ، ومِنْ قِبَلِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأنتَ أبَيْتَ أن تَقْبَلَ ذلك، وادَّعَيْتَ أنَّ الواجبَ المَصيرُ إلى حُكْم العَقْل في هذا الباب، وقد ردَّك العقلُ إلى مُوافَقة النَّصِّ خاسِئاً. فقال: هذا يَحْتاجُ إلى تأمُّلٍ، وقطَعَ الكلامَ" (¬33). والخامس: المعنى المجرّد لا يُسْمع باتّفاق العُقلاء. قال شيخُ الإِسلام: "والمَعنى المجرّد لا يُسْمَع, ومَن قال: إنَّه يُسْمَع، فهو مُكابِر" (¬34). وموسى عليه السَّلام سَمعَ كلامَ الله، وكذلكَ سَمِعَ نداءَه، والنداءُ ¬

_ (¬33) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 90 - 92 عن أبي نصر به. (¬34) "مجموع الفتاوى" 12/ 130 وانظر: "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي 10/ 294.

لا يكونُ إلاَّ صَوْتاً مسموعاً، قالَ شيخُ الإِسلام: "ولا يُعْقَلُ في لغة العرَبِ لفظُ النِّداء بغير صَوْتٍ مَسْموع، لا حَقيقةً ولا مَجازاً" (¬35) وهذا قرّرناه في الباب الأوَّل. ولكنَّ جُمهورَ الأشعرية أبَوُا التسليمَ لكونِ موسى سَمِعَ كلامَ الله على الحقيقةِ، فقالوا: إنْما سَمِعَ العبارةَ عن كلام الله. قال أبو بكر بن فَوْرَك -أحَدٌ رؤوسهم-: "وَمعنى تكليم الله -عَزَّ وَجَلَّ- خلقَه: إفهامُه إيَّاهم كلامَه على ما يُريد، إمَّا بإسماع عبارةٍ تدلُّ على مرادِه، أو بابتداء فَهْمٍ يخلُقُه في قلبهِ يفهَمُ به ما يُريد أنْ يفهَمه به، وكلُّ ذلك سائغٌ جائزٌ، وهو معنى ما يُكلِّمُ الله تعالى به العبدَ عند المحاسَبةِ" (¬36). وربَّما أطلقَ بعضُهم أنَّ موسى عليه السَّلام سَمِعَ كلامَ الله، وسكتَ، وهذا يُصِرُّ على أمْرٍ عَظيم، ليُمَوِّهَ ويُلَبِّسَ على الناسِ الجاهلين بمَذْهَبِهم. وربَّما صرَّحَ بعضُهم بأنه لا يُسْمَع بحالٍ، إنَّما يُسْمَع المَعنى، كما يقولُه الباقلاّني (¬37)،وهذا مُكابَرةٌ ظاهرةٌ، وعَجَباً لمَن يدّعي الغوصَ في المعقولِ والتَّبحُّرَ فيه وهو يأتي بمثلِ هذه الجَهْليَّات! والسادس: لقد فرَّقَ الله تعالى بين مَراتب التكليم لرُسُله، فقال: ¬

_ (¬35) "مجموع الفتاوى" 12/ 130. (¬36) "مشكل الحديث" ص: 93 وانظر: ص: 170 و"مقالات الإِسلاميين" 2/ 233 وكتاب "التوحيد" للماتريدي ص:59 و"فتح الباري" 13/ 455. (¬37) "درء التعارض" 2/ 114 وانظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 403.

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51]. فإذا كانَ معنًى واحداً فلا فَرْقَ إذاً بينَ تكليم الله لموسى وإيحائهِ لغَيْرهِ، ولا بَيْنَ التكليم من وَراء حِجابٍ والتكليم إيحاءً، لأنَّ إفهامَ المعنى المجرّد يَشتركُ فيه جميعُ الأنبياءِ عليهمً السَّلام، ففي عدّ ذلك جميعاً معنًى واحداً رَدٌّ للقرآن (¬38). والسابع: في قولهم: إنَّه معنى، إبطالُ دين المُسلمينَ في أنَّ هذا القرآن العربيّ بألفاظهِ ومَعانيهِ كلامُ الله تعالى على الحَقيقة، وهم يُصَرِّحونَ بهذا فيقولون: القرآن العربيُّ عِبارَة عن كَلام الله ودالٌّ عليه، وليسَ هو كلام الله على الحقيقة، لأنَّ كلامه تعالى غيرُ بائن منه، وهذا القرآن بائنٌ منه، كذا قالوا، وسيأتي بيان ذلك. فهذه الجُمْلَة من وُجوه النَّقْض كافية لِلّبيب لِإبطال هذا المُعْتَقد الفاسِدِ المُناقض للمَعقول والمَنقول، وإجماع العُقَلاء قَبْل ابن كُلاّب. قالَ شيخ الإِسلام: "والفُضَلاء من أصحاب الأشْعَري يَعترفونَ بضَعْفِ لَوازم هذا القول مع نَصْرِهم لكَثير مِنْ أقوالهِ الضَّعيفة" (¬39). وقد نَشَأ عن هذا الأصْلِ الفاسدِ بدعَتان شَنيعتان: • البدعه الأولى: كلام الله ليس بحرف ولا صوت: حين ذهبَ الأشعريةُ إلى كَوْنِ الكَلام معنًى مجرّداً، إنَّما فَرّوا مِن ¬

_ (¬38) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 50. (¬39) "درء تعارض العقل والنقل" 4/ 115.

وصْفِهِ بالحَرْفِ والصَّوْتِ, لأنَّ الحروفَ والأصوات لا تكونُ إلاَّ مخلوقةً عندهم، فنزّهوا كلامَ الله تعالى أنْ يكونَ بحَرْفٍ أو صَوْتٍ -بزَعْمهم- فقالوا: هو الكلام النَّفسي، والحُروف إنَّما خُلِقَت للدَّلالة عليه، والصَّوْتُ خُلِقَ للإِعلام والإِفْهام. قال مُحقّقُهم الباقلاّني: "ويَجِبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ الله تعالى لا يَتَّصفُ كلامُه القديمُ بالحُروف والأصْواتِ، ولا شَيْءٍ من صفاتِ الخَلْق" (¬40). وقال ابن فَوْرَك: "وكلامُ الباري ليسَ بحُروفٍ، وإنَّما هو معنى موجودٌ قائمُ بذاتهِ، يُسمَعُ وتُفْهَمُ مَعانيه به، والحُروف تكونُ أدلَّةً عليه، كما تكونُ الكتابةُ أماراتِ الكَلام ودَلالاتٍ عليه، وكما نَعْقِلُ مُتكلِّماً لا مخارجَ له ولا أدوَات، كذلك نَعقِلُ له كلاماً ليسَ بحُروفٍ ولا أصْواتٍ" (¬41). وقال الغَزَّالىُّ -ولا يَخْفى قَدْرُهُ فيهم- في شَرْح صفَةِ الكَلام: "وأنَّه متكلَّمٌ، آمِرٌ، ناهٍ، واعدٌ، متوعِّدٌ، بكلامٍ أزليّ قَديم، قائمٍ بذاتهِ، لا يشبَه كلامَ الخَلْق، فليسَ بصَوْتٍ يحدُثُ من انسلالِ هَواء، واصْطِكاك أجْرام، ولا بِحَرْفٍ يَنْقَطِعُ بِإطباقِ شَفَةٍ، أو تَحْرِيكِ لسانٍ" (¬42). وقال صاحبُ"كفاية العَوامّ": "الكلامُ: وهي صِفَةُ قَديمةُ، قائمةُ بذاتهِ تعالى، ليسَتْ بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، منزَّهةٌ عن التقدُّمِ والتأخّرِ ¬

_ (¬40) "الإِنصاف" ص: 99. (¬41) "شعب الإِيمان" 1/ 124 وكانت كلمة (نعقل) في الموضعين: (يعقل) ورأيتُ الأصحَّ ما أثبتُّه. (¬42) نقله ابن عساكر في "تبيين كذب المفتري" ص: 302 عن "قواعد العقائد" لأبي حامد الغزالي.

والإِعرابِ والبناءِ، بخِلاف كلامِ الحَوادث" (¬43). ونحو هذا قول صاحب "شرح الجوهرة" (¬44). وهم يُرجِعونَ القولَ بتنزيهِ كَوْنِ كَلام الله حَرْفاً وصَوْتاً إلى وجوهٍ حَسِبوها من المَعقول، مبنيَّةٍ على أصُول الجَهْميَّة، هي عندَهم عَلَاماتُ الحَدَثِ والخَلْق للحَرْف والصَّوْت، فأرادوا تنزيهَ الرَّبّ تعالى عن مُشابَهةِ صفةِ الخَلْق، فألْجَاهم ذلكَ إلى مُوافَقَةِ الجَهْميَّة في حقيقةِ مقالَتِهم. وأهمُّ تلك الوُجوه: الأوَّل: أنَّ الحروفَ متعاقبةٌ مُتَواليةٌ، يَسبِقُ بعضُها بَعْضاً، ويَلي بعضُها بَعْضاً (¬45). والثاني: أنَّها لا تكونُ إلاَّ بمَخارجَ من لسانٍ وشَفَتَيْنِ وحَلْقٍ وجَوْفٍ (¬46). قال البَيْهقيُّ -وهو مَعَهم على جَلالته في الفِقْهِ والحَديث-: "إنْ كانَ المتكلّمُ ذا مخارج سُمِعَ كلامُه ذا حُروفٍ وأصْواتٍ، وإنْ كانَ المتكلّمُ غيرَ ذي مَخارج سُمِعَ كلامُه غَيْرَ ذي حُروفٍ وأصْواتٍ، والباري جلَّ ثناؤُه ليسَ بذي مَخارج، وكلامُهُ ليسَ بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ، فإذا فَهِمْناه ثمَّ تَلَوْناهُ، تَلَوْناهُ ¬

_ (¬43) "كفاية العوام" ص: 102. (¬44) "شرح الجوهرة" ص: 71. (¬45) "مشكل الحديث" لابن فورك ص: 202 و"الإنصاف"للباقلاني ص: 99. (¬46) "الإِنصاف" ص: 79، 103.

بحُروفٍ وأصْواتٍ" (¬47). والثالث: أنَّ الحُروفَ والأصْواتَ من صفةِ قِراءَة القارىء، لا مِن صفةِ كلامِ الباري. والدَّليلُ عليه حديثُ أمّ سلمة في صفةِ قراءَةِ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: ... يقطع قراءَته آيةً آيةً، ولو شاءَ العادُّ أنْ يَعُدَّها أحْصاها (¬48). فالعَدُّ والحَصْرُ إنَّما يقَعُ لِما هو مخلوقٌ، لا لِصِفَة الخالقِ. والرابع: أنَّها متناهيةً مَحْدودةٌ، لها بدايَةٌ ونهايَةٌ، وأوَّلٌ وآخرٌ، وكلام الله القَديم ليسَ كذلك، كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] وجمْعُ الكلمات هُنا ليسَ للتعدُّدِ والتَّكثير وإنَّما هو للتَّعظيم. والخامس: أنَّ هذه الحروفَ واحدةٌ بالوَضْعِ، فالألِفُ هو الألفُ، والسَّينُ هو السّينُ، فالحُروف التي يُعبَّر بها عن كلام الله هي نفسُ الحُروفِ التي يتكلَّم بها الخَلْقُ، فإن قُلْنا: إنَّها غيرُ مخلوقة، قلْنا بقِدَمِ جَميع كلام الخَلْق. والسادس: أنَّ الصَّوْتَ يستحيلُ بقاؤُهُ كما يستحيلُ بَقاءُ الحَرَكَة، وما امتنَعَ بقاؤُه امتنع قِدَمُ عينهِ. هذه الوجوه أهمُّ ما تعلَّقت به الكُلاّبيةُ والأشعريَّةُ والماتُريديةُ لإِبطالِ ¬

_ (¬47) "الأسماء والصفات" ص: 272 - 273. (¬48) حديث أم سلمة هذا حديث صحيح، خرجته في كتابي في "البسملة" لكني لم أقف على قولها: ولو شاء العادّ ... إلخ.

كَوْنِ كلام الله بحَرْفٍ وصَوْتٍ، فردّوا بذلك الكتابَ والسُّنَّةَ واعتقادَ السَّلَفِ والأئمَّةِ، وخَرَقوا إجماعَ العُقَلاءِ من أهْل السُّنَّة وغيرِهم، فحينَ ألْزَمَتْهُم المعتزلةُ بأنَّ الاتّفاقَ حاصِلٌ على أنَّ الكلامَ حرفٌ وصوتٌ، ويدخلُهُ التَّعاقبُ والتأليفُ, وذلك لا يوجَد في الشاهدِ إلاَّ بحركةٍ وسُكونٍ، ولا بدَّ أنْ يكون ذا أبعاضٍ وأجزاءٍ، وقالوا: هذه الصفةُ لا يَجوز أن تكونَ صفةً لذات الله تعالى، فضاقَ السَّبيلُ بالأشعريَّة عند هذا الإِلزام، فالتزموهُ، للجَهْل بالسُّنَن، والتسليم لمجرَّدِ العَقْل، الذي لو فُرِّغَ من الأهواءِ والظُّنون، وحَكَمَهُ الإِخلاصُ والتثبُّتُ والاتّباعُ، لَوَقَفَ بهم على ساحِل النَّجاةِ، ولكنَّهم جَعلوهُ الحكم على ما جاء به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-، فأرْداهم وأبْعَدَهم. وجميعُ ما مَوّهوا به اعتراضٌ على الحَقّ المُتَواتر بالظُّنونِ العَقْليةِ التي مَبْناها على القياسِ على المَخلوق، فإنَّ القَوْمَ يُكْثِرونَ من عَيْبِ المعتزلةِ بهذه البدعةِ، التي هي تشبيهٌ في الأصْل أفضى إلى التَّعْطيلِ، وهي قياسُ الغائبِ على الشاهدِ، ويُشنّعونَ عليهم بذلكَ، معَ أنَّهم سلّموا لهم هنا ظنونَهم وأهواءَهم التي حَسِبوها عَقْلياتٍ، وهي في الحقيقة جَهْليات، لِما تضمَّنت من الشَّناعةِ والقَوْل على الله بغير علمٍ، وقياسِ الخالق على المَخلوق، فأبْطَلوا حقيقة كَوْنِ الكلامِ بحروفٍ وأصواتٍ، وآلَ بهم الحالُ إلى إنكار أن تكونَ هذه صفةَ كلام الله تعالى، وخالَفوا بهذا اعتقاد السَّلَفِ، وخَرَجوا عن منْهَج أهْلِ السُّنَّة. وهذه أجْوبةٌ موجَزَةٌ عن هذه الشُّبُهاتِ، تُبِينُ عن جَهْلِ القَوْم بحقائق التَّوحيد:

أما الأول: فكون التَّعاقب والتَّوالي في كلام الله دليلاً على الحدَثِ إيرادٌ عقليٌّ فاسدٌ، تَبِعوا فيه المعتزلةَ الجَهمية، وأولئك لم يُثْبِتوهُ عن أصلٍ معصوم، وإنَّما هوَ الرْأيُ الفاسِدُ، وقد بَيَّنْتُ بطلانَه في مَعْرِض الرَّدِّ على شبُهاتِ المعتزلة. وأما الثاني: فكونُ الحُروفِ والأصواتِ لا تكونُ إلا بمَخارجَ فمن أفْسَدِ اعتراضاتِهم، وذلك من وجوه: الأوَّل: أنَّه قياسٌ للربّ تعالى على المَخلوق، فإنَّهم تصوَّروا كلامَ المخلوق بأنَّه لا يكونُ إلاَّ بمَخارج، فقالوا مثلَه في ربِّهم، وهذا نَقْصٌ لقاعدةِ أهل السُّنَّة في التَّنزيه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. والثاني: يلزَمُهم قَوْلُ المعتزلة في سائر الصِّفات، فإنَّهم يُثْبتون العِلْمَ والسَّمْعَ والبصر ونحوَ ذلك من الصِّفات لله تعالى، والمخلوق يتَّصِفُ بها أيضاً، وهي لا تكونُ منه إلاَّ بآلةٍ، فالعلمُ لا يحصَلُ إلاَّ بقَلْبٍ، والبَصَر لا يكونُ إلاَّ بحَدَقَةٍ، والسَّمْعُ لا يقَع إلاَّ من انْخِراقٍ، وقَدْ ألزَمَتْهم المعتزلةُ بهذا، فأجابوا: بأنَّ هذا مِنْ قياس الغائب على الشَّاهدِ، وهو باطلٌ، والله تعالى ليسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ، فهَلاَّ قالوا مثلَ هذا في صفةِ الكلام، وأنَّها بحَرْفٍ وصَوْتٍ، لا يشبهُ كلامُهُ كلامَ خَلْقِهِ، ولا صَوْتُهُ أصْواتِهم؟ والثالث: أنَّ الله تعالى أنْطَقَ بعضَ مخلوقاتِهِ بغير مَخارج، قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ

شَيْءٍ} [فصلت: 21]، وسَمِعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- تسبيحَ الحَصى، ممَّا هو معروفٌ مَشهورٌ، فبطل ما قعّدوه من كَوْنِ الكلام بحَرْفٍ وصَوْتٍ لا يكونُ إلاَّ بمَخارجَ، وثَبَثَ أنَّه معقولٌ. وأما الثالث: فكونُ الحروفِ صفةَ قِراءَة القارىءِ مكابَرَةٌ للحسِّ والعَقْلِ، فإنَّ القراءة تُطْلَقُ في الغالبِ على المَصْدَر، وقَدْ يُرادُ بها المَفعولُ -كما فصّلتُه في الباب الثاني- والأشعرية يُفَرِّقونَ بين القراءَةِ والمَقروءِ مطلقاً، فالقراءةُ فِعْلُ القارىءِ، والمَقروءُ المفعولُ، وهذا يوافِقُهم في إطلاقه بعضُ أهْل السُّنَّة كالبُخاريِّ رحمةُ اللهُ، ولكنَّ مرادَهُم غيرُ مُرادِهِ، وتفسيرَهُم غيرُ تفسيرِهِ، فإنَّه رحمه الله كانَ لقَوْلِه قُوَّةٌ مِن جهةِ اللغةِ، وعلماءُ السُّنَّةِ كالإِمامِ أحمدَ وغيرِه أنكَروا الإِطلاقَ لِدَفْعِ الإِيهامِ والإِشكالِ الذي تُمَوِّهُ به الجَهميةُ، والبُخاريُّ فَصَلَ بين القراءَةِ والمقرَوءِ، فخصَّ القراءةَ بفِعْل القارىءِ وهو حركَةُ شَفَتَيْهِ وصوتُهُ بالقرآنِ، والمَقروءَ: الذي تتحرّكُ به الشَّفَتانِ، وتَنْطِقُ به الألسنةُ، وتُصَوِّتُ به الحَناجرُ، الذي هو القرآنُ العربيُّ المؤلّفُ من الحروفِ والمعاني، والذي هو كلامُ الله على الحقيقةِ، وما أرادَه البخاريُّ من المعنى حقٌّ وصَوابٌ، وقد ذكرتُهُ عنه في الباب الثاني، وبَّينْتُ غلَطَ اللفظيَّةِ الأشعريَّةِ عليه فيهِ. والأشعرية عندَهم القِراءةُ والتّلاوةُ هي فِعْلُ القارىءِ والتّالي، ويقولون: الحروفُ داخلةٌ في تلاوة التّالي وقراءةِ القارىءِ، وهي غيرُ المتلوِّ المَقروءِ (¬49). ¬

_ (¬49) انظر: "مجموع الفتاوي" 7/ 655 و 12/ 374.

فجَعلوا الحُروفَ من صفةِ القراءة لا من صفةِ المَقروء, لأنَّ المقروءَ عندَهم قائمٌ بذاتِ الله، وهو الكلامُ النفسيُّ، والقراءةُ عبارةٌ عنه، وهي هذه الحُروفُ العربيَّةُ التي تَنْطِقُ بها الألسنةُ، وتحفَظُها القلوبُ، وتخطّها الأيدي في المَصاحف. وهذا من أبعَد شيءٍ عن الحسّ السَّليم، فإنَّ العربَ وكلَّ أحدٍ لا يعرفُ الحروفَ إلاَّ من صفةِ الكلام، لا من صفَةِ المتكلِّم، وفِعْلُ المُتكلِّم إنَّما هو النُّطْقُ بها ورَفْعُ صوتهِ أو خفْضُه، وكتابَتُها، وحفظُها، ونحو ذلك مِمَّا هو فِعْلُ نفسهِ، وهذهِ المَعاني هي التي توصَف بالحُسْنِ والقُبْح، ويترتَّبُ عليها الثَّوابُ أو العقابُ. أمَّا الحُروفُ التي قرأ بها النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وبلَّغَها أمَّتَه فهي وحيُ الله وتنزيلُهُ وكلامُهُ الذي نزَلَ به جبريلُ من عندِه تعالى، ولقد نَزَلَ بها جبريلُ من عندِ الله تعالى على سَبْعَةِ أحْرُف تَخفيفاً على الأمة وتيسيراً، وكلّ ذلك كلامُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- على الحقيقةِ. ولقد حاول بعضُ مَن يوصَفُ بالتَّحقيق من رؤوس الأشعريَّة الإِكثارَ من الاستدلالِ من الكتاب والسُّنَّة على الفَرْق بين التَّلاوةِ والمَتْلوّ، ولكنَّها جَميعاً على مذهَبِ البُخاري رحمه الله الذي ذكَرْناه عنه، أمَّا على تفسير الأشعريةِ أنْفُسِهم في عَدِّ الحُروفِ العربيَّةِ من صفةِ القراءة لا من صفةِ المَقروء، فلَم يَقْدروا على الإِتيانِ بحُجَّةٍ واحدةٍ عليه يُعَوَّلُ عليها، سوى أصلِهم الفاسدِ الذي أبْطَلْناه فيما سمَّوْهُ بـ (الكلام النفسيّ). وحديثُ أمّ سلمَةَ الذي ذكَروهُ حجْةٌ عليهم، فإنَّ النُّطْقَ بالحروفِ هنا غيرُ الحُروفِ، فقِراءةُ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- التي تَحْكِيها أمُّ سلَمة هنا هي نطقُهُ

بالحُروف وأداؤُه لَها، وهو فِعْلُهُ عليه السَّلام، وهو مخلوقٌ، أمَّا الحروفُ التي نَطَقَ بها وأدّاها، والتي لو شاءَ العَادُّ أن يَعُدَّها أحصاها, لوُضوح أدائهِ لها وبَيانهِ، فهي حُروفُ كلام الله العربيّ المُنْزَلِ من عندهِ، وهي غيرُ مخلوقةٍ، وهذا الفَصْلُ بين الحُروفِ والنُّطقِ بها بيّنٌ لا يَخفى. ولكنَّ القومَ ضاقوا ذَرْعاً بقَوْلِ أمِّ سَلَمَة: "ولَو شاءَ العادُّ أنْ يَعُدَّها أحصاها" فصاروا بين أمْرَين: إمَّا أنْ يُثْبِتوا أنَّ الذي تَلاهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِن كلام الله الذي هو صفتُهُ، فيُبْطلوا أصلَهم, لأنَّ كلامَ الله عندَهم لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ وليس هو آياتٍ وسوراً. وإمَّا أنْ يقولوا: الحروفُ صفةُ قراءةِ القارىءِ، ورَأوْا هذه أوفقَ لمذهبِهم، فكابَروا وقالوا: هي صفةٌ لقراءةِ القارىءِ، لا صِفَةٌ لكلام البارىء. وأمَّا وَصْفُ كلام الله بالصَّوْتِ، فلقد عَمُوا عن فِقْههِ، وضلَّوا عن معرفتهِ، فحَسِبوا أنَّ قولَ أهل السُّنَّة بإثباتِ كلام الله تعالى بصَوْتٍ إثباتُ أنَّ أصواتَ التالينَ هي صفةُ كلام الله -كما طَعَنوا فيه على أهْلِ السُّنَّة، ونبزوهم بالألقاب لأجلِهِ- وحاوَلوا لأجْلِ هذا الفَهْم السَّقيم أنْ يستدلّوا بأدلَّةِ إضافةِ الصَّوْتِ إلى القارىءِ، وجَعْلِهِ مِن فِعْلِهِ، وأهلُ السُّنَّةِ والأثمَّةُ لا يُخالفونَ في هذا المعنى، فإنَّ أصواتَ القرّاءِ بالقرآنِ مِنْ أفعالِهم، وهي مضافةٌ إليهم، وأفعالُهم مخلوقةٌ وقدْ شَرَحْتُ اعتقادَ أهل السُّنًّة في ذلك في أواخر الباب الثاني بما هذا حاصلُه.

والسَّلَفُ والأئمَّةُ لا يقولونَ: إنَّ أصواتَ القرَّاءِ صفةٌ لكلامِ الله، ومَن قالَ ذلك ونقلَهُ عنهم فقد أبطَلَ في المَقال. ولكنَّ الصَّوْتَ الذي هو صفةٌ لكَلام الله تعالى هو الذي سَمِعَه موسى حين ناداه ربُّه وكلَّمَه، وسَمِعَهُ جبريلُ عليه السَّلام حينَ يُوحى إليه بالوَحْي، ويَسْمَعُه العبادُ يومَ القيامةِ، وهو الذي أثْبَتْناهُ في اعتقادِ السَّلَفِ في الباب الأوَّل من هذا الكتاب. وقَدْ فَهِمَ بعضُ الأشعرية هذا المعنى الأخيرَ -الذي هو اعتقادُ السَّلف والأئمَّةِ- فرَأوْا أنَّه ليسَ على أصْلِهم في كَوْن كلام الله معنًى مُجَرداً، فنفَوْهُ، وقالوا: كلام الله لا يكون بصَوْتٍ، وأبْطَلوا بذلكَ دلائلَ الكتابِ والسُّنَّةِ والمَعقول الصَّريح على صِحَّةِ هذا المعنى، على ما ذَكَرْناه آنفاً في تفسيرهم لسَماع موسى عليه السلام كلامَ الله. ولا داعيَ هنا لسَرْدِ دلائل الكتاب والسُّنَّة والعَقْل الصَّريح على إثباتِ كَوْن كلام الله تعالى حُروفاً، وأنَّه يتكلَّمُ بصَوْتٍ، اكتفاءً بما سقناه لذلك في الباب الأوَّل. وأما الرابع: فكَوْنُ الحُروف متناهيةٌ محدودةٌ لها بدايةٌ ونِهايةٌ وأوَّلٌ وآخِرٌ يُوردونَه على مَعْنَيين: الأوَّل: على عَدَد الحُروفِ العربية التي هي حروف المُعْجَم. والثاني: على الكَلام العربيّ الذي بين دَفَّتَي المُصْحَف المبدوءِ بالفاتِحةِ والمَخْتومِ بالناس.

قالوا: وجميعُ هذا مَحْصورٌ مَحدودٌ، وهذه علامَةُ الحَدَث. قُلْنا: كَلاَّ، بَلْ كِلاَ الإِيرادَيْن باطلان. أمَّا الأوَّل فإنَّه لم يقُلْ أحد: إنَّ كلامَ الله تعالى حُروفٌ مُجَرَّدةٌ: أ، بَ، تَ ... وإنَّما هو كلامٌ مؤلَّفٌ منها، وهو أكثر من أن يُحْصَرَ أو يُحَدّ، كما لا يَخفى. فإنِ اعترضَ معترضٌ بالحُروف التي في أوائل بعض السُّوَر، مثل {الم} فجَوابه: أنَّ هذه لا تُنْطَقُ حروفاً، وإنَّما تُنْطقُ أسَماءً، فتقول: (ألف، لام، ميم) وهذا كلامٌ مُؤلَّفٌ، وقد نَبَّهْتُ على هذا في الباب الأوَّل، وأزلْتُ عنه اللَّبْسَ بفضْلِ الله. وأمَّا الثاني فهو مبنيٌّ على بدعَةِ الأشعريةِ الثانية الناتجةِ عن أصلِهم الفاسدِ في الكَلام، وهي عَدَمُ تعلّق كلامهِ تعالى بمَشيئتهِ واختيارهِ, لأنَّه عندَهم لا يَنْقَسِمُ ولا يَتَجَزَّأ ولا يتبعَّضُ، وهو خِلافُ اعتقادِ أهْل السُّنَّة من السَّلَف والأئمَّةِ، فإنَّه عندَهم متعلِّقٌ بمشيئتهِ واختيارهِ، يتكلَّمُ إذا شاءَ بما شاءَ، والقرآنُ -مَثلًا- المُفْتَتَحُ بالفاتحةِ والمختَتَمُ بالناس بعضُ كلامهِ الذي لا يتَناهى، لا كُلُّ كلامهِ. وسيأتي قريباً ذكرُ بدعتهم هذه ونقْضُها. وأما الخامس: فمِثْلُ ما سَبَقَ في الفَساد والبُطلان أو أشدّ، وذلكَ أنَّ القومَ يُطلقونَ القولَ بخَلْق حُروف المُعْجَم، فلمَّا رأوْا كلامَ الله العربيَّ مؤلَّفاً منها قالوا: لا يكونُ إلاَّ مخلوقاً, لأنَّ الحُروفَ مخلوقةٌ.

وهذا الإِطلاقُ ليسَ لدَيْهم عليه حُجَّةٌ، ومثلُهُ يَحْتاج إلى توقيفٍ، والدَّعْوى المجرَّدةٌ لا يُعَوَّلُ عليها في مَواطِن النّزاع، فكيفَ يقومُ على أساسِها الاعتقاد؟ والفَيْصَلُ في هذه القضيةِ هوَ: أنَّ الكلامَ إنَّما يُضافُ لمَنْ قالَهُ مُنْشِئاً مُبْتَدِئاً، فكلامُ الله تعالى مُضافٌ إليه، وهو صِفَتُهُ، فهو غيرُ مخلوقٍ, لأنَّ صفاتهِ تعالى غيرُ مخلوقةٍ، وكلامُ المخلوق الذي يُنْشئُه من نفسهِ ويبتَديهِ مُضاف إليه، وهو مَخلوقٌ, لأنَّ الصفةَ تابعةٌ للمَوصوفِ، فحينَ كانت للخالق كانَتْ غيرَ مخلوقةٍ، وحين كانَت للمخلوق كانَتْ مخلوقةً، فإذا قالَ قائل: (محمَّدٌ رسولُ الله) فهذا كلامٌ، تكلَّمَ به الله تعالى، ويتكلَّمُ به المخلوق من نفسهِ لا يُريدُ به القرآنَ، ففي الحالة الأولي غيرُ مخلوق, لأنَّه أرادَ به كلامَ الله، وفي الحالة الثانية مخلوقٌ, لأنَّه أرادَ كلامَ نفسهِ. يوضِّحُه صفةُ العِلْم، فعِلْم المخلوق الذي يكتسبُهُ -سِوى وَحْي الله وتَنزيلهِ- مخلوقٌ، وهو معلومٌ لله تعالى، حَواهُ علمُ الله تعالى وأحاطَ به، فباعتبارِ إضافتهِ للمخلوق فهو مخلوقٌ، وباعتبار إضافتهِ للخالق فغيرُ مخلوق، والله تعالى ليسَ كمثلهِ شئٌ في ذاتهِ، وصفاتهِ، وأسمائِهِ، فليس ككلامِهِ كلامٌ، ولا كصَوتهِ صوتٌ، ولا كفِعْلِهِ فعْلٌ. قال شيخ الإِسلام: "وأصلُ هذا أنَّ ما يوصَفُ الله به ويوصَفُ به العبادُ, يوصَفُ الله به على ما يليقُ به، ويوصَفُ به العبادُ بما يَليقُ بهم من ذلك، مثلُ الحَياةِ والعِلْمِ والقُدْرةِ والسَّمعِ والبَصرِ والكلامِ، فإنَّ الله له حَياةٌ وعلمٌ وقدرةٌ وسَمْعٌ وبصَرٌ وكلامٌ، فكلامُهُ يشتَملُ على حروفٍ، وهو يتكلَّمُ بصَوْتِ نفسهِ، والعَبْدَ لَهُ حياةٌ وعلمٌ وقدرةٌ وسمعٌ وبصرٌ وكلامٌ، وكلامُ

العبد يشتَمِلُ على حروفٍ، وهو يتكلَّمُ بصَوْتِ نفسهِ. فهذه الصفاتُ لها ثلاثُ اعتبارات: تارةً تُعْتَبر مضافةً إلى الربّ. وتارةً تُعْتَبر مضافةً إلى العبد. وتارةً تُعْتَبر مطلقةً لا تخْتَصُّ بالربّ ولا بالعَبْدِ. فإذا قال العبدُ: حياةُ الله، وعلمُ الله، وقدرةُ الله، وكلامُ الله، ونحو ذلك، فهذا كلُّه غيرُ مخلوقٍ، ولا يُماثِلُ صفاتِ المَخلوقين. وإذا قال: علمُ العبدِ، وقدرةُ العبدِ، وكلامُ العبدِ، فهذا كلُّه مخلوقٌ، ولا يُماثِلُ صفاتِ الرَّبِّ. وإذا قال: العلمُ، والقدرةُ، والكلامُ، فهذا مُجْمَلٌ مطلَقٌ لا يقالُ عليه كلهِ: إنَّه مخلوقٌ، ولا إنَّه غيرُ مخلوق، بل ما اتَّصفَ به الربُّ من ذلك فهو غيرُ مخلوقٍ، وما اتَّصفَ به العبدُ من ذلك فهو مخلوقٌ، فالصفة تتبَعُ الموصوفَ، فإنْ كانَ الموصوفُ هو الخالق فصفاتُهُ غيرُ مَخلوقةٍ، وإن كان الموصوفُ، هو العبدَ المخلوقَ فصفاتُهُ مخلوقةٌ" (¬50). وقد سبقَ إيرادُنا لقول الإِمام أحمد في ذلك، حين سألَه الحافظُ أحمد بن الحسَن التّرمذيُّ، قال: قلتُ لأحمد بن حنبل: إنَّ الناسَ قد وَقَعوا في أمْرِ القرآن، فكيف أقولُ؟ قال: "ألَيسَ أنْتَ مخلوقاً؟ " قلتُ: نعَمْ، قال: "فكلامُكَ منكَ مخلوقٌ؟ " قلتُ: نعَمْ، قال: "أوَ لَيسَ القرآنُ من كلام ¬

_ (¬50) "مجموع الفتاوي" 12/ 65 - 66.

الله؟ " قلتُ: نَعَمْ. قالَ: "وكلامُ الله؟ " قلتُ: نَعَمْ، قالَ: "فيكونُ من الله شَيْءٌ مخلوق؟! " (¬51). قلتُ: وهذا الفَرْق بَيِّنٌ لا يَخفى. وأما السادس: فهو قياسٌ ظاهرٌ لصفَةِ الخالق على صفةِ المَخلوق، وتكييفٌ لها، وهو مُنْتقِضٌ بالقاعدةِ السُّنّيةِ السَّلَفية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. فهذه الأجوبةُ المُدْحِضَةُ لجُمْلَة هذه التَّشكيكاتِ والتَّلبيساتِ التي أوردَها الأشعريةُ وموافقوهُم، وهي تُنْبِيكَ عن شدَّةِ تَناقُض القَوْم. ولهم في تفصيل ذلكَ من التَّناقض شَيْءٌ كثيرٌ، ولكن مَرْجِعُ ذلك أجمَع إلى ما بَيَّنْتُهُ. • البدعة الثانية: أن الله تعالي لا يتكلم بمشيئته واختياره: شَرَحْتُ في اعتقادِ السَّلَف الأئمَّة من أهْل السُّنَّة اعتقادَهم في أنَّ الله تعالى يتكلَّمُ بمشيئتهِ واختيارهِ، أي متى شاءَ تكلَّم، ومتى شاءَ لم يتكلَّم، يتكلَّمُ بكلامٍ بعدَ كلام، فهو متكلِّمٌ أزَلاً وأبَداً، تكلَّمَ قبلَ خَلْقِ الخَلْق، وبعدَ خَلقِهم، وكلَّمَ من شاءَ مِن ملائكتهِ ورُسُلهِ في الدنيا، ويُكلِّمُ من شاءَ من عبادهِ في الآخرةِ، وصفةُ الكلامِ ثابتةٌ له أزلاً وأبَداً، وكلُّ ذلك واقعٌ على الحَقيقة لا على المَجاز. ¬

_ (¬51) رواه اللاَّلكائي في "السنَّة" رقم (451) بسند صحيح.

وذلكَ أنَّ الله تعالى له صفاتُ الكَمالِ، وكلُّ صفةِ كَمال لا نقْصَ فيه فالله يتَّصفُ بها، والكلامُ صفةُ كَمال، فإنَّ مَن يتكلَّم أكْمَلُ مِمَّنْ لا يتكلَّم، والذي يتكلَّمُ بمَشيئتهِ وقُدْرَتهِ أكمَلُ مِمَّنْ لا يتكلَّم بمشيئتهِ وقدرتهِ، وهو إمَّا أنْ يكونَ قادِراً على الكلام أو غير قادرٍ، فإنْ لم يكن قادراً فهو الأخرَسُ، وإنْ كان قادراً ولم يتكلَّم مُطْلقاً إلاَّ إذا مُكِّنَ أو استُنْطِقَ فهو لا يتكلَّم بمشيئتهِ واختياره، وليست هذه ولا تلكَ صِفةً لله (¬52). وهذا الاعتقادُ لا تُقِرُّ به الأشعريةُ، لأنَّ ما تعلَّقَ عندَهم بالمشيئةِ والاختيارِ مخلوقٌ، والله تعالى لا يَقومُ به شَيْءٌ يتعلَّقُ بمشيئتهِ وقدرتهِ. وهذا مِمَّا نتَجَ عن أصلِهم الفاسدِ في كونِ كلام الله تعالى معنًى أزليّاً واحداً، ومِمَّا وافقوا فيه الجَهْميَّةَ. قال شيخ الإِسلام: "وهؤلاء وافَقوا الجهميةَ والمعتزلةَ في أصْلِ قَوْلِهم: إنَّه متكلّمٌ بكلام لا يَقومُ بنفسهِ ومشيئتهِ وقدرتهِ، وإنَّه لا تقومُ به الأمورُ الاختياريةُ، وإنَّه لم يَسْتَوِ على عرشهِ بعدَ أنْ خلَقَ السَّماواتِ والأرضَ، ولا يأتي يومَ القِيامَةِ، ولمْ يُنادِ موسى حينَ ناداهُ، ولا تُغْضِبُهُ المَعاصي، ولا تُرْضيه الطاعاتُ، ولا تُفْرِحهُ توبةُ التائبين" (¬53). قلتُ: لأنَّ الله عندَهم لا يوصَف بالرِّضا والغضَب والفَرَح، ولا بالإِتيانِ والمَجيءِ، ولا بالاستواءِ على العَرْش بعدَ خَلْق السَّماواتِ والأرْضِ، وهو خِلافُ ما نطَقَ به الكتابُ العزيزُ من أنَّه كان بعدَ خَلْقِ ¬

_ (¬52) انظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 294 - 295. (¬53) "مجموع الفتاوي" 12/ 594.

السَّماواتِ والأرض. وهذا المعنى الذي ذكرناهُ عن الأشعرية من عَدَم تعلُّقِ كلامهِ تعالى بمشيئتهِ وقُدْرتهِ، لم يتصوّروهُ هم أنفُسُهم، ولم يَقْدروا على تفسيرهِ بتفسير مَعقولٍ واضحٍ، إلاَّ على معنى إبطال حقيقةِ الكلام. وهذا كلامُ بَعْضِ مُحَقِّقيهم يُفْصِحُ لك عن حقيقةِ اعتقادِهم: قال ابن فَوْرَك: "كلامُ الله تعالى أزليٌّ قديمٌ، سابقٌ لجُمْلة الحوادثِ، وإنَّما أسمَعَ وأفهَمَ لمنْ أرادَ من خلْقه على ما أرادَ في الأوقاتِ والأزمنةِ، لا أنَّ [عينَ] كلامهِ يتعلَّق وجودُه بمُدَّةٍ وزَمانٍ" (¬54). وقال: "نقولُ: إنَّ الله لم يَزَلْ مُتكلِّماً، ولا يَزالُ متكلِّماً، وأنَّه قدْ أحاطَ كلامُه بجَميع مَعاني الأمْرِ والنَّهْي والخَبَر والاستخبارِ، وأنَّ العباراتِ عنه والدَّلالاتِ كثيرةٌ تتجدَّدُ وتتزايَدُ، ولا يَزيدُ بتزايدِ العِباراتِ كما أنَّ الدَّلالاتِ على الله عزَّ ذكرُهُ تتجدَّدُ وتتزايَدُ، ولا يقتَضي تجدُّدَ المَدلولِ وتَزايدَهُ، فإذا حصَّلتَ هذا الأصْلَ عَلِمْتَ حقيقةَ ما نقول" (¬55). وقال: "إنَّ كلامَ الله لم يَزَلْ ولا يزالُ موجوداً، فإنَّه يُفْهِمُ خلقَه معانيَ كلامِهِ أوَّلاً فأوَّلاً، وشَيْئاً فشَيْئاً، وأنَّ الذي يتجدَّدُ الإِسماعُ والإِفهامُ دونَ المسموعِ المَفهومِ" (¬56). وقال حَوْلَ ماَ وَرَدَ من تكليم الله لعباده يوم القيامةِ: "والصَّحيحُ أنْ ¬

_ (¬54) "مشكل الحديث" ص: 133 - 134. (¬55) "مشكل الحديث" ص: 204. (¬56) "مشكل الحديث" ص: 232.

يقال: إنَّ كلام الله لم يَزلْ ولا يَزالُ، وإنَّهُ مُسْمِعٌ مَنْ يشاءُ من خَلْقهِ، ومُفْهِمٌ مَنْ أرادَ منهم إفهامَه في الوقتِ الذي يُريدُ أنْ يُسْمِعَهُ ويُفْهِمَهُ ما يُريدُ من ذلك، مِنْ غير تَجديدِ قولٍ ولا كَلامٍ، وإذا قيلَ في ألفاظِ هذه الأخبارِ: يقولُ الله، ويتكلَّمُ الله، فليس المُرادُ به تجديدَ القولِ والكلام، وإنَّما المرادُ تجديد الإِسماعِ والإِفْهامِ للقَوْلِ الذي لم يَزَلْ" (¬57). وصرَّح بإنكار قوْلِ من يقولُ: إنَّ الله يتكلَّم مرَّةً بعدَ أخرى، وعلَّل ذلك بقوله: "لأنَّ ذلكَ يوجبُ حَدَثَ الكَلام" (¬58). وقال الباجوريُّ في تكليم الله لموسى: "وليسَ المُرادُ أنَّه تعالى يبتديءُ كلاماً ثُمَّ يَسْكُتُ، لأنَّه لم يَزَلْ مُتَكلِّماً أزلاً وأبداً" (¬59). قلتُ: وفي هذا الكلام عِدَّة أمور: الأوَّل: أنَّ صفةَ الكلام الثابتةَ لله تعالى هي المعنى القَديم، لا أوَّلَ لها ولا آخر. والثاني: أنَّ الذي يُوحى للرُّسُل، وغيرِهم مِمَّا يتعلَّقُ بالأزْمِنةِ والأمكنةِ هو العِباراتُ عن هذا الكَلام، والدَّلالاتُ عليه، وهيَ مخلوقةٌ، كالذي سَمِعَ موسى حين أتى الشجرَةَ. والثالث: أنَّ قولَ الله لِما يُريدُ تكوينَه (كُنْ) وما يُوحِي إلى رُسُلِهِ من الكلام المُعَبَّر عنه بعباراتٍ كالقُرآن والتَّوراة والإِنجيل، كُلُّ ذلك معنى ثابتٌ ¬

_ (¬57) "مشكل الحديث" ص: 235، وانظر ص: 233. (¬58) "مشكل الحديث" ص: 232 - 233. (¬59) "شرح الجوهرة" ص: 74.

في الأزَل، ولا يزالُ، وإنَّما تكونُ الأشياءُ في الأوقات التي شاءَ الله فيها كَوْنَها، لا أنَّهُ يتجدَّدُ قولُه لما يُريدُ تكوينَه (كُنْ) ويُنْزِلُ على رسُلهِ العباراتِ عن كلامهِ، وهي المتجدِّدةُ الموصوفةُ بالابتداءِ والانتهاءِ والتَّقدُّم والتأخّرِ كالتَّوراة والإِنجيلِ والقُرآن، أمَّا الكلامُ القديمُ فثابتٌ لا يتَجَدَّدُ. وجُمْلةُ هذه الأمورِ هي ما يُعَبَّر عنه بأنَّ كلامَ الله غيرُ متعلِّقٍ بمَشيئتهِ واختياره. ولَمْ يَعْقِل القومُ أنَّ هذه صفةُ نَقْصٍ وعَجْز، لا تَليقُ بالمَخلوق الضَّعيف فكيف جَعَلوها لائقةً بربّهم تعالى وهو القدّوسُ السَّلامُ؟ وإنَّ مِمَّا اضْطَربوا فيه بسَبَب هذه البدعةِ الأمْرُ والنَّهيُ، فقال: الأمرُ والنَّهيُ وصْفان للكلام، والله لم يَزَلْ آمِراً ناهياً، ولا يَزالُ آمِراً ناهياً، كما أنَّه لا يَزالُ متكلِّماً، وهذا يَقْتضي القولَ بجواز خِطاب المَعْدومِ، بمعنى أنَّ الله خاطبَ العبادَ بالأمْرِ والنَّهي أزَلاً قبلَ خَلْقِ الخَلْق، أمْراً ونَهْياً لا أوَّلَ له، فافترقوا إزاءَ هذا فريقين: الأوَّل: قالوا بجَوازِ خطابِ المَعْدومِ، فكلامُ الله لم يَزَلْ أمْراً ونَهْياً للمكلَّفينَ الذينَ خُلِقوا بعدَ ذلكَ، بشَرْط أنْ يَفْعَلوا ما أمِروا به بعدَ الوُجودِ والبلوغ ووفورِ العقلِ (¬60). والثاني: قالوا بعدَمِ جَوازِ خِطابِ المَعدوم قبْل خَلْق الخَلْق، فهؤلاء منهم لا يَصِفون الله بكونهِ آمِراً ناهياً، وإنَّما يقولونَ: صارَ كلامُهُ أمْراً ونَهْياً ¬

_ (¬60) "أصول الدين" لعبد القاهر ص: 108.

عند توجّهِ اللُّزومِ على المكلَّف (¬61). وكلا المَذْهَبَيْن فاسدانِ. أمَّا الأوَّل فبما نَقَضْناه عليهم في قولهم: كلامُ الله معنى مجردٌ، وإقامةِ الأدلَّةِ على أنَّ كلامَه تعالى متعلقٌ بمَشيئتهِ واختيارهِ، يتكلَّمُ بأمْرِه ونَهْيهِ وخَبرهِ تعالى إذا شاءَ، ومتى شاءَ. وأمَّا الثاني فمُقْتضاه القوْلُ بأنَّ كلام الله مخلوقٌ جميعاً، لأنَّه لا يُعْرَفُ الكلام إلاَّ ما كان خبَراً أو إنشاءً، وعندَ هؤلاء ما لا يسْبقُ الحَوادث فهو حادثٌ، والخبَرُ والإِنشاءُ لم يكونا إلاَّ بعْدَ وجودِ المُكلَّف، فالمكلَّفُ سابقُ الوجودِ للأمْرِ والنَّهْي والخَبَر، فهي مخلوقةٌ على أصلِهِم، وهَل كلام الله إلاَّ الأمْرُ والنَّهْيُ والخَبَر؟ وهذا القولُ مُقْتضٍ أن يكونَ معنى كلام الله مخلوقاً أيضاً لا ألفاظُهُ فحَسْب، وبهذا يبطلُ دينُ الأشعريةِ في إثباتِ صفةِ الكلام، فليسَ ثمَّ معنى قديمٌ، وهم أنفُسُهم لم يكونوا يتصوَّرون معنًى قَديماً هو الأمْرُ والنَّهْيُ والخَبَرُ، فكيفَ يُمْكِنُهم تَصَوَّرُ كلامٍ هو معنى لَيسَ بأمْرٍ ولا نَهْيٍ ولا خَبَرٍ؟ فمُحَصَّلُ ما ذكرنا أنَّ الأشعرية مُضْطربونَ كلَّ الاضطراب في إثباتِ مَذْهَبهم، وسبَبُ فلكَ عَجْزُهم عن تصوَّرهِ وإدراكهِ، وإلَّا فكيفَ يُمْكِنُ وقوعُ الكلام من مَوصوف به من غير أن يكون بقُدْرَتهِ ومشيئتهِ؟ وهم يُنَزّهونَ الله تعالى عن الخَرَس والسُّكوتِ، ومعنى هذا على ¬

_ (¬61) "أصول الدين" ص: 108 و"الإِرشاد" لأبي المعالي الجويني ص: 119 - 120.

التَّحقيق أنَّه متكلمٌ بالحُروف والأصْواتِ، لأنَّ الخَرَسَ عَدَمُ القدرةِ على الكلام، والسُّكوتَ عَدَمُ النُّطْق بالكَلام، لكنَّ القومَ فَرُّوا مِن هذه الحقيقةِ التي لا يَعْقِلُ العاقِلُ سواها إلى خُرافةٍ لا يَسْتسيغُها الصِّبيان، فضْلاً عن العُقَلاء العارفينَ، فقالوا: الخرَسُ والسُّكوتُ نفْسيان، فالذي يُنزَّهُ الله عنهُ عندَهم هو الخَرَسُ النَّفْسيُّ والسُّكوتُ النَّفسيُّ، أرأيتَ كلاماً أشبَه بالسَّفْسَطَةِ من هذا؟! فتأمَّلْ رحِمَك الله اعتقادَ السَّلَفِ والأئمَّةِ، وانظر بيانَه وظهورَه وقوَّةَ حُجَّتهِ ودليلهِ، وقارِنْه بهذه السَّفاهات الأشعريةِ وغيرها يَجْلُ لك الحقُّ وينْقطِعُ عنكَ الشَّكُّ والرَّيْبُ، فإنَّ اعتقادَ السَّلَف لا يَرِدُ عليه بفضْلِ الله شيءٌ من أقوال أهل البدع، وقد كفيناكه في الباب الأول ولله الحمد. وأمَّا ما حاوَل أهلُ البِدَع أن يموّهو به فهو دليلُ حَيْرَتِهم، وهو حُجَّةٌ عليهم لو عَقَلوهُ -كما قَدْ رأيتَ- ولو أنَّهم تَرَكوا الكلامَ المذمومَ وأقْبَلوا على الوَحْي المَعصوم لسَلِمَ لهم دينُهم.

المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية

المبحث الثالث: القرآن العربي عند الأشعرية بينتُ في شَرْح اعتقادِ السَّلَفِ أنَّ هذا القرآنَ العربيَّ المؤلَّفَ من الحروف العربيَّةِ، المشتمل على المَعاني من الأوامرِ والنَّواهي، والأخبار، وغير ذلك مِمَّا خاطبَ الله تعالى به العبادَ، وأنزلَه على رسولِهِ محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- بواسطةِ الأمين جبريلَ عليه السَّلام، على الأحْرُف السَّبْعَة تيسيراً على الأمَّةِ، وهذا القرآن هو كلامُ الله على الحقيقةِ بألفاظِهِ ومعانيهِ، وبحروفهِ وكلماتهِ وآياتهِ وسورهِ، غيرُ مخلوق، مِنْ أوَّل الفاتحةِ إلى آخر الناس، لا قرآنَ سواهُ، وبسَطْتُ ذلك بالأدلَّةِ، وبيَّنْتُ في الباب الثاني في إقامةِ الحُجَّة على بُطلان اعتقادِ اللفظيَّة، الذين يعتقدونَ خَلْقَ الألفاظِ العربيةِ، بالحُجَج القَواطِع من كتاب الله تعالى واعتقادِ السَّلَف، وسُقْتُ هناكَ من نُصوصِ الأئمَّة ما فيه الكفَايةُ والمَقْنَع لِمَنْ طلبَ الهدى وقصَدَه، ورامَ اتِّباعَ السَّلَف وتَرْكَ البِدَع. ولكن الأشعريةَ -رأسَ القائلينَ بخَلْق الألْفاظ- أبَوُا التسليمَ لهذا المُعْتَقد السَّلَفي، وقالوا فيه بقَوْل الجَهميةِ الضُّلال: بأنَّه مخلوقٌ، وليسَ هو كلامَ الله على الحقيقةِ، وإنَّما هو عبارةٌ عنه، لأنَّ كلامَ الله عندهم هو

المعنى القائمُ بنفسهِ -كما شرَحْناه عنهم-. وهذا القولُ فاقوا فيه المعتزلةَ، لأنَّ المعتزلةَ كانوا يُسَمُّونَ هذا القرآنَ العربيَّ كلامَ الله، ويصفونَه بالخَلْق، أمَّا هؤلاء فوافَقوهم في وصْفهِ بالخَلق، لكنهم زادوا عليهم نَفْي كونهِ كلامَ الله، وهذا وإنْ كانَ حقيقةَ قولِ المعتزلةِ، إلاَّ أنَّهم لم يُصَرِّحوا به تصريحَ الأشعريةِ. ويتلخَّصُ اعتقادُهم في القرآن العربيّ في الأمور الآتية: 1 - هو عِبارةٌ ودَلالةٌ على الكلام القَديمِ، وليسَ هو الكلامَ القديمَ. 2 - لا يُسَمَّى كلامَ الله على الحَقيقة، إلاَّ على معنى أنَّه خلَقَه في اللَّوْح المَحفوظ أو غيره. 3 - يُسَمَّى كلامَ الله مَجَازاً من تَسْمية الدَّالّ باسْم المَدلول. 4 - الأكثرون منهم على أنَّهُ مَخلوقٌ في اللَّوْح المَحْفوظ، ومنهم من قال: في غيره، ومنهم من قال: هو قوْلُ جبريلَ عليه السَّلام، ومنهم من قال: هو قولُ محمَّد -صلى الله عليه وسلم-. 5 - لَمْ يَنزِلْ إلى الأرض إلاَّ ما هو مَخلوق. وهذه بعض نُصوصِهم الصَّريحةِ تُثْبِتُ صحَّة ما ذكرتهُ عنهم: قالَ أبو بكرٍ الباقلّاني: "إنَّ الكلامَ الحقيقيَّ هو المعنى الموجودُ في النَّفسِ، لكن جُعِلَ عليه أماراتٌ تدلُّ عليه، فتارةً تكونُ قولاً بلسانٍ على حكم أهل ذلك اللسانِ وما اصْطَلحوا عليه وجَرى عُرْفُهم به وجُعِلَ لغةٌ لهم، وقد بيَّنَ تعالي ذلك بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4] فأخْبَرَ تعالي أنَّه أرْسَل موسى عليه السَّلامُ إلى بَنِي

إسرائيلَ بلسانٍ عِبْراني، فأفهَمَ كلامَ الله القديمَ القائِمَ بالنفسِ بالعِبْرانية، وبَعَثَ عيسى عليه السَّلام بلسانٍ سريانيّ، فأفهَمَ قومَهُ كلامَ الله القديمَ بلسانهم، وبعَثَ نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- بلسانِ العربِ، فأفهَمَ قومَه كلامَ الله القديمَ القائِمَ بالنفسِ بكلامِهم، فلغةُ العرَب غيرُ لغة العِبْرانية، ولغة السّريانية غيرهما، لكنَّ الكلامَ القديمَ القائمَ بالنفسِ شيءٌ واحدٌ لا يَخْتَلِفٌ ولا يتغيَّر ... " (¬62). حتى قالَ: "فصحَّ أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو المعنى القائمُ بالنَّفْس دونَ غيرهِ، وإنَّما الغيرُ دليلٌ عليه بحُكْم التَّواضُعِ والاصطلاح، ويجوزُ أنْ يُسَمَّى كلامًا إذْ هو دليلٌ على الكَلام، لا أنَّه نفسُ الكَلام الحقيقيّ" (¬63). ويُفْصِحُ عن مُنْشِىءِ هذا الكلام العربيّ فيقولُ: "والمَنزولُ به هو اللُّغَة العربية التي تَلا بها جبريلُ، ونحنُ نتلو بها إلى يوم القيامةِ، لقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] والنَّازِلُ على الحَقيقةِ، المنتقِلُ مِنْ قُطْرٍ إلى قُطْرٍ قَوْلُ جبريلَ عليه السَّلام، يدلُّ على هذا قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ...} وذكَرَ الآياتِ، ثمَّ ذكَرَ آيةَ التكوير، ثم قالَ: "وهذا إخبار مِن الله تعالى بأنَّ النظمَ العربيَّ الذي هو قِراءةُ كلام الله تعالى هو قولُ جبريلَ، لا قول شاعرٍ، ولا قول كاهنٍ ... " (¬64). قلْتُ: وقد بيَّنا الحقَّ في تفسير آيتَي الرَّسولَيْن في الباب الثاني في ¬

_ (¬62) "الإِنصاف" ص: 106 - 107. (¬63) "الإِنصاف" ص: 107. (¬64) "الإِنصاف" ص: 97.

شَرْح مسألة اللفظِ، بما يُبْطِلُ مذهبَ الباقلّاني ومَن تابَعَه، فارْجِع إليه. وقال صاحبُ "كفاية العوام" -منهم-: "وليسَ المُرادُ بكَلامِهِ تعالى الواجب لَهُ تعالى الألفاظ الشَّريفةَ المُنْزَلَةَ على النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، لأنَّ هذه حادثةٌ، والصِّفةُ القائمةُ بذاتهِ تعالى قديمةٌ، وهذه مشتملةٌ على تقدُّمٍ وَتأخُّرٍ وإعرابٍ وسُوَرٍ وآياتٍ، والصِّفَةُ القديمةُ خاليةٌ عن جَميع ذلك، فليسَ فيها آيَاتٌ، ولا سُوَرٌ، ولا إعرابٌ، لأنَّ هذه تكونُ للكلام المُشْتَمل على حروفٍ وأصواتٍ، والصِّفَةُ القَديمةُ مُنزَّهةٌ عن الحروفِ والأصوات" (¬65). حتى قال: "ويُسَمَّى كلُّ من الصِّفةِ القديمةِ والألفاظِ الشَّريفةِ: قرآنًا، وكلامَ الله، إلَّا أنَّ الألفاظَ الشَّريفة مخلوقةٌ، مكتوبةٌ في اللَّوْح المَحفوظ، نزلَ بها جبريلُ عليه السَّلام على النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، بعدَ أنْ نزَلت في ليلة القَدْرِ في بيت العزَّة: مَحَلٌّ في سَماءِ الدُّنيا" (¬66). وقال الباجوريُّ: "مَذْهَبُ أهْل السُّنة -يريدُ الأشعريَّةَ- أنَّ القرآن بمعنى الكلامِ النَّفْسي ليسَ بمَخلوقٍ، وأمَّا القرآنُ بمعنى اللَّفْظ الذي نَقرؤه فهو مَخلوقٌ" (¬67) وقالَ: "مَنْ أضيفَ لَهُ كلامٌ لفظيٌّ دلَّ عُرْفًا أنَّ له كلامًا نفسيًّا، وقد أضيفَ له تعالي كلامٌ لفظيٌّ، كالقرآن، فإنَّه كلامُ الله قطعًا، بمعنى أنَّه خلقَهُ في اللَّوْح المَحْفوظ، فدلَّ التزامًا على أنَّ له تعالى كلامًا نفسيًّا، وهذا ¬

_ (¬65) "كفاية العوام" ص: 102 - 103. (¬66) "كفاية العوام" ص: 104 - 105. (¬67) "شرح الجوهرة" ص: 94.

هو المُراد بقولِهم: القرآنُ حادثٌ، ومَدلولُهُ قديمٌ، فأرادوا بمَدْلولهِ الكلامَ النَّفسيَّ، وتكفي الإِضافةُ الإِجماليةُ وإنْ لم يكن اللفظيُّ قائمًا بالذَّاتِ" (¬68). وقال صاحب "الجوهرة": فكلُّ لَفْظٍ للحَدوثِ دَلَّا ... احْمِلْ على اللَّفْظِ الذي قَدْ دَلَّا فقال الباجوري في "شرحهِ": " (على اللفظ) أي على القرآنِ، بمعنى: اللفظ المُنْزَل على نبيّنا -صلى الله عليه وسلم-، المُتَعَبَّد بتلاوتهِ المُتحدّى بأقصَرِ سورةٍ منه، والرَّاجحُ أنَّ المنزَلَ اللفظُ والمعنى، وقيل: المُنْزَل المعنى، وعبَّر عنه جبريلُ بألفاظٍ من عنده، وقيل: المنزَل المعنى، وعبَّر عنه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بألفاظٍ من عندِه، لكن التحقيق الأوَّلُ، لأنَّ الله خلقَهُ أوَّلًا في اللَّوْح المَحْفوظِ، ثمَّ أنزلَه في صحائفَ إلى سَماءِ الدنيا، في مَحَلٍّ يقالُ له: بيتُ العزَّة، في ليلةِ القَدْر، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ثمَّ أنزَلَهُ على النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- مُفَرَّقًا بحسب الوقائع". حتى قال: "والحاصِلُ أنَّ كلَّ ظاهرٍ من الكتابِ والسُّنَّة دلَّ على حدوثِ القرآن فهو مَحْمولٌ على اللفظِ المَقروء، لا على الكلام النَّفْسي" (¬69). قلت: يَعْنونَ بهذا قولَه تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وما في مَعناه مما ذكَرْناهُ عن أسْلافهم الجَهمية في الفصل ¬

_ (¬68) "شرح الجوهرة" ص: 73. (¬69) "شرح الجوهرة" ص: 95.

السابق، وأظهَرْنا زيفَهم فيه. فهذه نصوصُ بعض مُحَقِّقي الأشعريَّة، وهي أبْيَنُ مِنْ أنْ تُشْرَحَ، وأصرَحُ مِنْ أنْ تُوَضَّحَ، مُصَرِّحَةً بخَلْق هذا القرآنِ العربيّ الذي يقول الله تعالى فيه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37] والذي تحدَّى الخلقَ أنْ يأتوا بسورة مثله، فوافَقوا الجهميةَ في قولِهم، ونَبذوا مذهبَ السَّلفِ وأهْلِ السُّنَّةِ واعتقادَهم وَراء ظُهورهم، وكابَروا، فتظاهَروا بالرَّدِّ على الجَهمية، والانتسابِ لأهْل السُّنَّةِ، وسأذكرُ لك قريبًا مقالةَ أحَدِ فُحولهم في أنهم موافقونَ للمعتزلةِ في هذه القضية، تُنْبِيكَ عن بَراءتهم من اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ من السَّلَف والأئمَّة في مسألة كلام الله تعالى. ولقد أبطلتُ قولَ هؤلاء اللَّفظية في الباب السابق، بما فيه غُنْيَةٌ إنْ شاءَ الله. وأقولُ هُنا إلزامًا وإفحامًا: لقد صرَّحْتُم -معشرَ الأشعرية- في غير موضعٍ من كُتُبِكم في صَدَدِ الرَّدِّ على المُعتزلة، بأنَّ كلامَ الله لوكانَ مخلوقًا لكانَ مخلوقًا في مَحَلٍّ، ولَكانَ صفةً لذلك المَحَلِّ الذي خُلِقَ فيه، لا صفةً لله تعالى. وقولُكُم هذا صَوابٌ ومعقولٌ موافقٌ للمنقولِ، فإنَّه إذا خَلَقَ الله تعالى حركةً أو وَصْفًا في مَحَلٍّ كانَ ذلك المَحَلُّ هو المتحرّكَ الموصوفَ بذلك الوَصْفِ، لا الخالقُ تعالى، فإنَّه لا يوصَفُ بخَلْقهِ، فكلامُه تعالى المضاف إليه صفتهُ، فإن قيلَ: مخلوقةٌ، وجَبَ أن تكونَ قائمةً بمخلوقٍ لا بالله تعالى، وأنتم تُقرّون بهذا، فإذا كانت قائمةً بمخلوقٍ لم تَجُز إضافتُها لله

تعالى على أنَّها صفةً له، وهذا موافقٌ لإِلزامكم للمعتزلة. وهذا القرآنُ العربيُّ معلومُ الإِضافةِ إلى الله تعالى بالضَّرورة، فإنَّ الأمَّةَ مُتَّفقةٌ على ذلك، وقد تلَقَّتْ ذلك عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- على أنَّهُ كلامُ الله لا كلامُ غيره، ففي نَفْي إضافتهِ إلى الله تكذيبٌ للرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- بما جاءَ به، وتجهيلٌ للصَّحابة رضي الله عنهم، وهم أجَلُّ مِنْ أنْ يَجْهَلوا أنَّه لو كانَ مخلوقًا لكان مخلوقًا في مَحَلٍّ، فيكون بهذا صفةً لذلك المَحَلِّ لا لله تعالى. وأنتم -معشرَ الأشعرية- قُلْتُم: إنَّ الله خَلَقه، قال أكثرُكم: في اللَّوْح المَحْفوظ، وقال آخرون: في غيره. وهذا يُلْزِمُكم على أصلِكم الذي ألزَمْتُم به المعتزلةَ أنْ يكونَ كلامَ اللّوحِ، لا كلامَ الله، فلا يَحْسُنُ منكم إضافَتُه إلى الله بحالٍ من الأحوالِ، ولكنَّكُم أرَدْتم التَّشبيهَ على الأمَّةِ والتَّلبيسَ عليها، وسَتْر مقالتِكم الشَّنيعة التي هي في الحَقيقة مقالَة الجَهمية، فكَسَوْتُموها زورًا بِكساء أهْلِ السُّنَّةِ، لِتُخْفوا حقيقةَ أمْرِكم. فكذَّبتُمُ الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- في أنَّه كلامُ الله، وجَهَّلْتم أصحابَه والتَّابعينَ لهم بإحسان، الذين لَمْ يكونوا يعرفونَ هذا القرآنَ العربيّ إلَّا أنَّه كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُه. بل تَبَجَّحَ بعضُكُم فافترى، وزادَ إفْكاً أنَّه قَوْلُ جبريلَ، ولَبَّسَ على النَّاس بما لَمْ يَفْهَمْهُ هو من القرآنِ، وأضَلُّ منهُ وأكْفَرُ مَنْ قالَ منكُم: إنَّه مِنْ إنشاءِ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وأنتُم أيُّها المساكينُ تُورِدونَ خِلافَ أصحابِكم في كونِهِ

مَخلوقًا في اللَّوح، أو في الهَواءِ، أو في جِبريلَ، أو محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، مَوْرِدَ مسائل الفُروع الخِلافية. وأمَّا قولُ إمامكُم الجُوَيْني ومَن تَبِعَه: إنَّ إطلاقَ كَلام الله على الكَلام النَّفسي، والنَّظم العربيّ، حقيقةٌ فيَهما جميعًا (¬70)، فهو أبْعَدُ شَيْءٍ عن المَعقول الذي تدَّعونه، فإنَّه إنْ كانَ كلامَ الله على الحقيقةِ على هذه المقالةِ، بطلَ أن يكونَ مخلوقًا، سَواء كان ما سَمَّيْتُموه بالكلام النفسيّ، أو النّظمِ العربيّ، وهذا يُبْطِلُ أصلَكم، ولكنَّ الأمرَ ينطوي على سِرٍّ لا تُظْهِرونَه على كل حالٍ خشيةَ أن تبدوَ سوآتُكم، وتنكشفَ عَوْراتُكم، وهو الذي صرَّحَ به شارحُ الجَوْهرة حينَ قال: "إنَّه كلام الله قَطْعًا، بمعنى أنَّه خَلَقَهُ في اللَّوْح المَحْفوظ" فهذه الحقيقةُ المُرادَةُ عندَكم. قال شيخُ الإِسلام ابن تيمية: "فإن قيلَ: إنَّه كلّه كلام الله تكلّمَ به، وبلّغَه عنه جبريلُ إلى محمَّد -كما هو المَعلوم من دين المُرْسَلين- كانَ هذا صَريحًا بأنَّه لا فَرْقَ بين الحُروف والمَعاني، وأنَّ هذا من كلام الله، كما أنَّ هذا من كلامِ الله، وإنْ قيلَ؛ إنَّه خَلَقَ في غيرهِ حروفًا منظّمةً دَلَّتْ على معنى قائمٍ بذاتهِ، فقَدْ صرَّحَ بأنَّ تلكَ الحروفَ المؤلَّفةَ ليست كَلامَه، وأنَّهُ لم يتكلَّمْ بها بحالٍ، وإذا قيلَ: إنَّ تلكَ تُسَمَّى كلامًا حقيقةً، وقد خُلِقَتْ في غيره، لَزِمَ أنْ تكونَ كلامًا لذلك الغَيْر، فلا يكونُ كلامَ الله، وهو خِلافُ المَعلوم من دين الإِسلام، وإنْ قيلَ: لا يُسَمَّى كَلامًا حقيقةً كانَ خلافَ المعلومِ من اللُّغَةِ والشَّريعةِ ضَرورةً" (¬71). ¬

_ (¬70) انظر: "الإِرشاد" للجويني ص: 108. (¬71) "مجموع الفتاوى" 6/ 535.

فالتَّحقيقُ الذي لا مِرْيَةَ فيه أنَّ الأشعريةَ يعتقدونَ أنَّ القرآنَ العربيَّ مخلوقٌ، وهذا عَيْنُ قَوْلِ المُعْتزلةِ الجَهميةِ. شبهة: ومَعَ التَّحقيقِ الذي ذكَرْنا في اعتقادِهم، فإنِّهم نَصُّوا على أنَّ القرآنَ الذي نتلوهُ كلامُ الله، متلوٌّ بألْسِنَتِنا على الحَقيقةِ، مَكتوبٌ في مصاحِفنا على الحَقيقةِ، محفوظٌ في صدورِنا على الحقيقةِ، مسموعٌ بأسماعِنا على الحقيقةِ. وهذه شُبْهَةٌ التبسَت حقيقتُها على كثيرٍ من النَّاس، وخاصَّةً من بعض إخوانِنا السَّلَفيينَ، فإنَّهم لمَّا رَأوْا ذلك في "الإِبانة" للأَشْعَريّ، وغيره من أتباعهِ، حَسِبوها موافقةً منهم لاعتقادِ أهْلِ السُّنَّة. وليسَ الأمْرُ كذلك، فإنَّ القومَ حين فصَّلوا اعتقادهم بانَ حقيقةُ المعنى الذي أرادوا وراءَ هذه الألفاظِ المُجْمَلةِ، بل إنَّهم فسَّروها في غَيْرِ مَوْضع. قالَ أبو القاسم القشيريُّ -وهو من كِبار مُحقِّقيهم- في "شكاية أهل السُّنَّة" وهو يذبُّ عن الأشْعَريّ: "بل القرآنُ مكتوبٌ في المُصْحَفِ على الحَقيقةِ، والقرآنُ كلامُ الله، وهو قَديمٌ غيرُ مَخْلوقٍ، لم يَزَلْ الله به متكلِّمًا، ولا يزالُ به قائلًا، ولا يجوزُ انفصالُ القرآنِ عن ذاتِ القَديمِ سُبْحانه، ولا الحُلولُ في المَحالِّ، وكَوْنُ الكَلامِ مكتوبًا على الحَقيقة في أبْوابٍ لا يَقْتَضي حُلولَه فيه، ولا انفصالَه عنَ ذاتِ المُتكلِّم، قال الله تعالى: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الأعراف:

157] فالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الحَقيقةِ مكتوبٌ في التَّوْراةِ، فكذلك القرآنُ على الحَقيقةِ مكتوبٌ في المصاحفِ، مَحْفوظٌ في قلوبِ المؤمنين، مَقروءٌ متلوٌّ على الحَقيقةِ بألسنةِ القارئينَ من المُسْلمينَ، كما أنَّ الله على الحقيقةِ لا على المَجاز مَعْبودٌ في مساجِدنا، معلومٌ في قلوبِنا، مذكورٌ بألْسِنَتِنا" (¬72). قلتُ: فأفصَح بالمثَل الذي ضَرَبه عن حقيقةِ هذه المَقالةِ، فإنَّ الذي في التَّوْراةِ هو ذكْرُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم-، لا عَيْنُه، وهذا مِمَّا لا يَشُكُّ فيه أحَدٌ، فالمكتوبُ على الحقيقةِ في التَّوراةِ هو ذكْرُهُ -صلى الله عليه وسلم-، كما أنَّ المذكورَ بالألسنةِ على الحَقيقةِ هو اسْمُه تعالى، فليسَ مُرادُ القَوْمِ أنَّ القرآنَ الذي هو كلامُ الله عندَهم لا النَّظم العَربيّ مكتوبٌ في المصاحِف على الحَقيقةِ، بمَعنى أنَّ عَيْنَ كلامِ الله تعالى مكتوبٌ في المَصاحِفِ، أو عَيْنَ كلامهِ مَحْفوظٌ في الصُّدورِ، أو عَيْنَ كلامهِ مسموعٌ بالآذانِ، وإنَّما كتابةُ ذلك وقراءتُهُ وتلاوتُهُ، وهذه جَميعًا مَعاني مخلوقةٌ عندهم، إذ هي العِباراتُ عن الكلامِ القَديم. وأفْصَحَ عن ذلك ابنُ فَوْرَك، فقال: "كلامُ الله تعالى مَحْفوظٌ في القلوب، متلوٌّ بالألسنةِ، مكتوبٌ في المصاحِفِ، كما أنَّ الله جلَّ ذكرُه مذكورٌ بالألسنةِ، معبودٌ بالجَوارح، ولا يَجوزُ أنْ يكونَ في شَيْءٍ من ذلك حالًّا، ومثلُ هذا قولُهُ تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] والمُرادُ حُبُّ العِجْل، لأنَّ العِجْل لم يَحُلّ في قلوبهم، واعلم أنَّا لا نأبى أنَّ كلام الله تعالى مَحْفوظٌ على الحَقيقةِ بحِفْظٍ في القلوب، مَكتوبٌ على الحَقيقةِ في المَصاحف كتابةً حالّةً فيها، متلوٌّ بالألسنةِ بتِلاوةٍ فيها، مسموعٌ ¬

_ (¬72) "شكاية أهل السنَّة" ص: 40.

في الأسماعِ، غيرُ حالٍّ في شَيْءٍ مِنْ هذه المخلوقات، ولا نُجاوِز" (¬73). وقالَ عبدُ القاهر: "ونقولُ: كلامُ الله في المُصْحَفِ مكتوبٌ، وفي القَلْبِ مَحْفوظٌ، وباللِّسانِ مَتلوٌّ، ولا يقال: إنه في المَصاحفِ مُطْلقًا، ولا نقولُ على الإِطلاق: إنَّ كلامَ الله سُبْحانَه في مَحَلٍّ، ولكن نقولُ على التَّقييدِ: إنَّه مكتوبٌ في المَصاحفِ" (¬74). فهذا صَريحٌ منهم أنَّ ما بين الدَّفَّتَيْن كتابةُ كلام الله التي هيَ الألفاظُ العربيةُ، لا كلامُ الله، وما قد شرَحناه عنهم فيما مضى كافٍ في توضيح هذا المُرادِ، ورَفْع الإِشكال الوارد بسَبَبهِ. وقد ذكرَ شيخُ الإِسلام أنَّهم غَلَطوا في التَّمْثيلِ الذي ذكَروهُ غَلَطَيْنِ: غَلَطًا في تَصْويرِ مَذْهَبِهم، وغَلَطًا في الشَّريعةِ. قالَ رحمه الله: "أمَّا الغَلَطُ في تَصْوير مذْهَبِهم، فكانَ الواجبُ أنْ يقولوا: إنَّ القرآنَ في المُصْحَفِ مثْل ما إنَّ العلمَ والمَعانيَ في الوَرَق، فكما يُقال: العِلْمُ في هذا الكتابِ، يقال: الكلامُ في هذا الكتابِ، لأنَّ الكلامَ عندَهم هو المعنى القائمُ بالذَّاتِ، فيصوَّر له المَثَلُ بالعِلْم الَقائم بالذَّاتِ، لا بالذاتِ نفسِها. وأمَّا الغَلَطُ في الشَّريعة، فيقال لهم: إنَّ القرآنَ في المصاحفِ مِثْلما أنَّ اسمَ الله في المَصاحف، فإنَّ القُرآنَ كلامٌ، فهو محفوظٌ بالقُلوبِ، كما يُحْفظ الكلامُ بالقلوبِ، وهو مذكورٌ بالألسنةِ كما يُذْكَرُ الكلامُ بالألسنَةِ، وهو ¬

_ (¬73) "مشكل الحديث" ص: 130. (¬74) "أصول الدين" ص: 108.

مكتوبٌ في المَصَاحفِ والأَوْراقِ، كما أنَّ الكلامَ يُكْتَبُ في المَصاحفِ والأوْراقِ، والكلامُ الذي هو اللفظُ يُطابِقُ المَعنى ويدلُّ عليه، والمَعنى يُطابِقُ الحَقائقَ المَوْجودةَ. فمَنْ قالَ: إنَّ القرآنَ مَحْفوظٌ كما أنَّ الله معلومٌ، وهو متلوٌّ كما أنَّ الله مذكورٌ، ومكتوبٌ كما أنَّ الرسولَ مكتوبٌ، فقد أخْطأ القياسَ والتَّمْثيلَ بِدَرَجَتَيْن، فإنَّه جعَلَ وجودَ المَوجوداتِ القائمةِ بأنْفُسِها بمنزلةِ وجودِ العبارةِ الدالَّة على المعنى المُطابقِ لها، والمُسلمونَ يعلَمونَ الفرقَ بين قولِهِ تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] وبينَ قولِهِ تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] فإنَّ القرآنَ لم يَنْزِلْ على أحَدٍ قَبْلَ مُحمَّدٍ لا لفظُه ولا جَميعُ مَعانيهِ، ولكنْ أنْزَلَ الله ذِكْرَه، والخبرَ عنهُ، كما أنزَلَ ذِكرَ محمَّدٍ والخبرَ عنه. فذكْرُ القرآنِ في زُبُر الأوَّلينَ كما أنَّ ذكرَ محمَّدٍ في زُبُر الأوَّلين، وهو مكتوبٌ عندَهم في التَّوْراة والإِنْجيل، فالله ورسولُهُ معلومٌ بالقُلوبِ، مَذكورٌ بالألسُنِ، مكتوبٌ في المُصْحَف، كما أنَّ القرآنَ معلومٌ لمَنْ قبلَنَا، مذكورٌ لهم، مكتوبٌ عندَهم، وإنَّما ذاكَ ذكرُهُ والخبرُ عنه، وأمَّا نحنُ فنفسُ القرآن أنْزِلَ إلَيْنا، ونفسُ القرآنِ مكتوبٌ في مَصاحِفنا، كمَا أنَّ نفس القرآنِ في الكتابِ المَكْنونِ، وهو في الصُّحُفِ المُطهَّرةِ. ولهذا يجِبُ الفَرْقُ بين قولِهِ تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] وبين قولهِ تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 2 - 3] فإنَّ الأعمالَ في الزُّبُر كالرَّسولِ وكالقُرآنِ في زُبُرِ الأوَّلينَ، وأمَّا الكتابُ المَسطورُ في الرَّقِّ المَنْشور، فهو كما يُكْتَبُ الكَلام نفسُه [في]

الصَّحيفة، فأيْنَ هذا مِن هذا؟ " (¬75). قلتُ: فتأمَّل -أرشَدَك الله- مَدى تناقُض القَوْم المتَبجّحينَ بمعرفةِ المَعقولِ، المُجانبين لِما جاءَ به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-. تنبيه: تَرى في بعضِ نُصوصِ الأشعريةِ المَذكورة قَريبًا وغَيرِها، تَنْزيههم القرآنَ الذي هو كلامُ الله عن الحُلولِ في المُصْحَف، ولو طلبْتَ تفسيرَ الحُلولِ في كَلامهم وجَدْتهم يريدونَ تنزيهَ كلامِ الله تعالى الذي هو صفتهُ عن الكَوْنِ في الورَق، لأنَّ هذا بزَعْمِهم بَيْنونَةٌ للصِّفَة عن المَوْصوفِ ومُفارَقةٌ له، فيَرَوْن أنَّهم إنْ أقرّوا بأنَّ كلامَ الله على الحقيقةِ في المُصْحَف أبَطلوا أنْ تكونَ لله تعالى صفةُ الكَلام، لأنَّ كلامَهُ حينئذٍ يَنْتَقِلُ ويَحُلُّ في الوَرَق. وهذا منهم جَهْلٌ بحقيقةِ الأمْرِ، فإنَّ نقلَ الكلام ليسَ كنَقْل الحَجَر والصَّخْر، فنقلُ الحَجَر والصَّخْر يزيلُهُ عن مَوْضعهِ إلى المَوْضِع الذي نُقِلَ إليه، بخلافِ الكَلام، فهذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- كان يُحَدِّثُ أصحابَه بالسُّنَن والشَّرائع، وأصحابُهُ يَحْفَظونَ ذلك وينقلونه عنه، فهَل ما علَّمهم من قوله -صلى الله عليه وسلم- وَحَفِظُوُهُ زالَ عنه وفارقَه؟ لا يَعْقِلُ هذا عاقلٌ، وإلَّا كانَ ما يتكلَّمُ به المتكلِّم لا يَقْدِرُ أن يتكلَّمَ به أكثر مِن مَرَّة، وإن قُلْنا: فارَقَتْه صفةُ الكَلام وانتقلَتْ إلى غيرهِ بسمَاع ذلك الغَيْر هذا الكلامِ وحِفْظِهِ له، لَما صَحَّ أن يبقى وصفُ الكلام لازمًا له، ولعادَ أبْكَمَ بعدَ تكلُّمِهِ مرَّةً، وهذا غيرُ مَعقولٍ ولا مُتَصَوَّر. ¬

_ (¬75) "مجموع الفتاوى" 12/ 383 - 385 وانظر ص: 386 و 565.

ولو صَحَّ ما قالوهُ -أيضاً- لَما صحَّت إضافةُ الكَلام إلى مَن قاله إبتداءً، فالحَديث -مثلاً- سَمِعَه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه من النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، يُضافُ على قَوْلِ هؤلاء إلى أبي هُرَيْرَةَ لا إلى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-, لأنه فارقَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- بتكلّمهِ به وحَلَّ في أبي هُرَيْرَةَ فصار قَوْلاً لأبي هُرَيْرةَ، وهذا المعنى زَيْغٌ وضَلالٌ ومُجانَبةٌ للفَهم السَّليم، وبُعْدٌ عن الصَّراطِ المُستقيم. قال شيخ الإِسلام: "ولهذا يقالُ: فلانٌ يَنْقل علمَ فلان، ويَنقلُ كلامَه، ويُقالُ: العلمُ الذي كان عندَ فُلان صارَ إلى فلانٍ، وأمثالُ ذلك، كما يُقالُ: نقلتُ ما في الكتاب، ونسَخْتُ ما في الكتابِ، أو نقلتُ الكتابَ أو نسَختُه، وهم لا يُريدون أَنَّ نفسَ الحروف التي في الكتاب الأوَّلِ عُدِمَت منه، وحلَّتْ في الثاني، بل لَمَّا كانَ المقصودُ من نسخ الكتابِ من الكتُب ونَقْلِها من جنْس نقْل العِلْم والكلام، وذلك يَحْصُلُ بأن يُجعَلَ في الثاني مِثْلُ ما في الأوَّل، فيبقى المقصودُ بالأوَّلِ مَنْقولاً مَنسوخاً، وإنْ كانَ لم يتغيَّر الأوَّلُ؛ بخلافِ نَقْلِ الأجْسام وتَوابِعها، فإنَّ ذلكَ إذا نُقِلَ من مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ زالَ عن الأوَّل" (¬76). فهذا النَّظْمُ العَربيُّ مكتوبٌ فيما لا يُحصى من المَصاحفِ، ويحفظُه مَن لا يُحصيهم إلاَّ الله من الخَلائق، وهو نفسهُ الذي سَمِعَه الصَّحابةُ من رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قرآنٌ واحدٌ كما أنْزِلَ بسُوَرهِ وآياتهِ وحروفهِ وكلماتهِ، وهو نفسُهُ الَّذي في اللَّوْحِ المَحفوظِ، وهو نفسُهُ الذي تكلَّمَ الله تعالى به. قالَ شيخ الإِسلام: "بَلْ إذا قَرَأهُ الناسُ، أو كَتَبوهُ في المَصاحفِ، ¬

_ (¬76) "مجموع الفتاوي" 12/ 288 - 289.

لم يخرُجْ بذلكَ عن أنْ يكونَ كلامَ الله تعالى حقيقةً، فإنَّ الكلام إنَّما يُضافُ إلى مَن قالَه مبتدئاً، لا إلى مَن قالَهُ مُبَلَّغاً مُؤدَّياً، وهو كلامُ الله: حروفهُ ومعانيه، ليسَ كلامُ الله الحُروفَ دونَ المَعاني، ولا المَعانيَ دونَ الحُروفِ" (¬77). وقال الإِمام ابنُ قُتَيْبة: "والقرآنُ لا يقومُ بنفسهِ وحدَه، وإنَّما يقومُ بواحدةٍ من أرْبَع: كتابةٍ، أو قراءةٍ، أو حفظٍ، أو استماعٍ، فهو بالعَمَل في الكتابةِ قائمً، والعَملُ خَطٌّ وهو مَخلوقٌ، والمَكتوبُ قرآنٌ وهو غيرُ مَخلوقٍ، وهو بالعَمَل في القراءةِ قائمٌ، والعَمَلُ تَحريكٌ للًّسانِ واللَّهواتِ بالقرآنِ وهو مخلوقٌ، والمَقروءُ قُرآنً وهو غيرُ مخلوقٍ، وهو بحِفْظِ القَلْب قائمٌ، والحِفْظُ عَمَلٌ وهو مخلوقٌ، والمَحفوظُ قرآنٌ وهو غيرُ مَخلوقٍ، وهو بالاستماعِ قائِمٌ في السَّمْعِ، والاستماعُ عَمَلٌ وهو مَخلوقٌ، والمَسموعُ قرآنٌ وهو غيرُ مخلوقٍ" (¬78). وقال الحافظُ الذَّهَبيُّ: "إنَّك تَنْقلُ من المصْحَفِ مئةَ مصحَفٍ، وذاك الأوَّلُ لا يتحوَّلُ في نفسهِ ولا يتغيَّرُ، وتُلَقِّنُ القرآنَ ألفَ نفْسٍ، وما في صَدْرِكَ باقٍ بهَيئتِهِ لا يقصلُ عنكَ ولا يغيّرُ، وذاك لأنَّ المَكتوبَ واحدٌ، والكِتابةَ تعدَّدتْ، والذي في صَدْرِكَ واحدٌ وما في صُدورِ المقرئينَ هو عيْنُ ما في صَدْرِك سواءٌ، والمتلوُّ وإنْ تعدَّدَ التالونَ به واحدٌ، مَعَ كونهِ سوراً وآياتٍ وأجزاءً متعدَّدةٌ، وهو كلامُ الله ووحيُه وتنزيلُه وإنشاؤُهُ، ليسَ هُوَ بكلامِنا أصْلاً، نَعَمْ، وتكلُّمنا بهِ وتلاوتُنا له وَنُطْقُنا به مِن أفعالِنا، وكذلكَ كتابَتُنا لَهُ ¬

_ (¬77) "الواسطية" - "مجموع الفتاوى" 3/ 144. (¬78) "الاختلاف في اللفظ" ص: 248 - 249 - "عقائد السلف".

وأصواتُنا بهِ من أفْعالِنا، قالَ الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] ... " (¬79). وقال: "فالمُقرىءُ يُلَقِّنُ الختمةَ مئةَ نَفْسٍ ومِئَتَيْن فَيَحْفَظُونَه، وهو لا يَنْفصِلُ عنه منه شَيْءٌ، كسِراجٍ أوقدتَ منه سُرُجاً ولم يتغيَّر" (¬80). وذكَرَ شيخُ الإِسلام رحمه الله اعتقادهم هذا الذي ذكَرْنا، وقال: "بَل كلامُ المخلوقينَ يُكْتَبُ في الأَّوراقِ وهو لم يُفارِقْ ذواتهم، فكيفَ لا يُعْقَل مثلُ هذا في كلام الله تعالى" (¬81). فتفسيرُ القوْم للحُلولِ في المصْحَف على ما ذكَرْنا وإنكارُهم له باطلٌ، مَبْنيٌّ على أصلهم في نَفْي أنْ يكونَ ما بَيْنَ دَفَّتَي المصْحَف كلامَ الله على الحقيقةِ, لأنَّ هذا محصورٌ محدودٌ، وكلامَ الله لا نهايةَ له، وهو معنى واحدٌ، وهذا تلبيسٌ قد كشَفناه بفَضْل الله تعالى ومنّته. وأمَّا إطلاقُ اللَّفْظ: إنَّ كلام الله حالٌّ في المُصْحف، فليسَ مِمَّا جَرَتْ به ألسنةُ السَّلَفِ والأئمَّةِ، وإنْ كانَ قد ذكره بعضُ المُتأخِّرينَ من أهل السُّنَّةِ، إلاَّ أنَّ مذهب السَّلَف أولي بالاتّباعِ، وإنَّه يُخْشَى مِن الإِطلاقِ ورودُ معاني باطلةٍ، وإنَّما يُكْتفى بالقَوْلِ: إنَّ ما بينَ دَفَّتَي المُصْحفِ كلامُ الله بحُروفهِ ومَعانيهِ، منه بدأ وإليه يعودُ، وهو صِفَتُه، غيرُ بائنٍ منه. قالَ ابنُ قُتَيْبَة - رحمه الله -: "ولَسْنا نشُكُّ في أنَّ القرآنَ في ¬

_ (¬79) " العلوّ" ص: 141. (¬80) "العلوّ" ص: 124. (¬81) "مجموع الفتاوى" 12/ 276.

المَصاحفِ على الحَقيقةِ، لا على المَجاز، كما يقولُ أصحابُ الكَلام: إنَّ الذي في المُصْحف دليلٌ على القُرآن وليسَ به، والله تبارَك وتعالى يقول: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79] والنَّبى -صلى الله عليه وسلم- يقولُ: "لا تُسافِروا بالقُرآن إلى أرضِ العدوّ" (¬82) يريدُ المُصْحَفَ" (¬83). وقد شَرَحْتُ معنى هذا في الباب الأوَّل بما يُزيلُ تلبيسَ الأشعرية ومَن قالَ بقَوْلِهم. • تعظيم المصحف عند الأشعرية: اعتقادُ الأشعرية في كَلامِ الله تعالى أنَّه المعنى القائمُ بنفسهِ، وأنَّ هذا لم يَنْزِلْ، وإنَّما نزلَت العبَارةُ عنه، وهذه العبارةُ مخلوقةٌ تَحُلُّ في المَصاحفِ أدَّى بمتأخَّريهم إلى تَهْوين شأنِ المُصْحَف، بل أدَّى بجُهّالِهم إلى الاستهانةِ به، وهذا مِمَّا فاقوا به المعتزلةَ، وشَبهوا به غُلاةَ الجَهميةِ. وبيانُ ذلكَ: أنَّ تعظيمَه عندَ عُقَلائِهم والقُدَماءِ منهم على وَجْهِ الخُصوصِ، لأجْلِ كونهِ عبارَةً عن الكَلامِ النَّفْسى ودَلالةً عليهِ، فتعظيمُهُ لدَلالتهِ على العظيم. وبهذا يُفَسِّرونَ قَوْلَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لا تُسافروا بالقرآنِ إلى أرضِ العدوّ، فإنّي أخافُ أنْ ينالَه العَدُوُّ" (¬84). ¬

_ (¬82) حديث صحيح، سبق تخريجه ص: 201. (¬83) "مختلف الحديث" ص: 136. (¬84) انظر التعليق (82) المذكور قريباً.

والَّذي يُحْمَل إنَّما هو المَصاحفُ الَّتي فيها القرآنُ، وتَعْليلُ النَّهْي عن السَّفَر بها بَيِّنٌ في الخَبَر، وهو الخَوْفُ مِنْ أنْ تنالَهُ أيدِي الكفَّار، فلا تُؤمَنُ منهم إهانَتُه، وهذا المعنى حقٌّ وصَوابٌ، لكنَّه عندَ أهلِ السُّنَّة والأئمَّة لأنَّ فيه كلامَ الله على الحَقيقةِ بألفاظهِ ومَعانيهِ، وهذا وجْهُ النَّهي عندَهم، أمَّا الأشعرية فَلأنَّ فيه العبارةَ عن كلامِ الله. فجاءَ متأخِّروهُم وزادوا أنَّهُ مَخلوقٌ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ، أو غيرِه، أو قَوْلُ جبريلَ، أو محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، فهوَّنَ هذا مِنْ شأنِ المُصْحَفِ عندَهم، حتى فاضَلوا بينَه وبين رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، قالَ الباجوريُّ: "وهل القرآن بمعنى اللَّفظ المَقروء أفْضَل أو سيّدنا محمَّد -صلى الله عليه وسلم-؟ " فأشارَ إلى خِلافٍ عندَهم في ذلك، ثمَّ قالَ: "والحَقُّ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- أفْضَلُ لأنَّه أفضلُ من كلّ مخلوقٍ" (¬85). قلتُ: سُبْحانكَ هذا بُهْتانٌ عَظيمٌ، أيُّ جُرْأةٍ هذه الَّتي تُؤدّي بأصْحابِها إلى جَعْلِ صِفَةِ الرَّبِّ تعالى أدْنى من المَخلوقِ -مع شَرَف المَخلوقِ-؟!! بَلْ إنَّ بعضَهم لمَّا رأوا أنَّ لهذا القرآنَ الذي في المُصْحَف ليسَ كلامَ الله حقيقةً وإنَّما هو دَلالةٌ علَيهِ، رَأوْا أنَّ كلَّ المَخلوقاتِ سِواه أدلَّةٌ على الخالق وصفاتهِ، ومع ذلكَ فلا يَجِبُ احترامُها، وما دلَّ على الخالق أوْلى بالاحترام مِمَّا دلَّ على صِفَتهِ، وصَلَ بهم الحالُ حينئذٍ إلى أنْ قالوا في هذا القرآنِ العربيّ: ما هذا إلاَّ وَرَقٌ ومِدادٌ، فحَصَلَ بذلكَ شرٌّ أّعظمُ. قالَ شيخُ الإِسلام: "ثمَّ تَبِعَ أقوامٌ مِن أتباعِهم أحدَ أهْلِ المذهَب، ¬

_ (¬85) "شرح الجوهرة" ص: 94.

وأنَّ القرآنَ معنى قائمٌ بذاتِ الله فَقَط، وأنَّ الحروفَ ليسَتْ من كلام الله، بَلْ خَلَقَها الله في الهَواء، أو صنَّفها جبريلُ أو محمَّدٌ، فضمّوا إلى ذلك أنَّ المُصْحَفَ ليسَ فيه إلاَّ مِدادٌ ووَرَقٌ، وأعْرَضوا عمَّا قالَه سلَفُهم مِنْ أنَّ ذلك دليلٌ على كلام الله فيجبُ احترامُهُ، لَمَّا رَأوا أنَّ مُجَرد كونهِ دَليلاً لا يوجِبُ الاحترامَ، كالدَّليل على الخالِق المتكلِّمِ بالكلام، فإنَّ المَوْجوداتِ كُلَّها أدلَّةٌ عليه، ولا يجبُ احترامُها (¬86)، فصار هؤلاء يَمْتَهنونَ المُصْحَفَ حتى يَدوسوهُ بأرْجُلِهم، ومنهم من يكْتُبُ أسماءَ الله بالعَذْرة إسقاطاً لحُرْمَة ما كُتِبَ في المَصاحفِ والوَرَقِ مِنْ أسماءِ الله وآياتِهِ" (¬87). قلتُ: ومِمَّا يُصَدِّقُ ما حَكاهُ عنهم شيخُ الإِسلام، ما رَواه ابنُ حَزم في "الفصل" (¬88) قال: أخْبَرني عليُّ بن حَمْزَةَ المُرادي الصَّقَلِّيُّ الصَّوفيُّ أنَّه رأى بعضَ الأشعرية يَبْطحُ المُصْحَفَ برجلهِ، قالَ: فأكْبَرتُ ذلك، وقلتُ له: ويحَك! هكذا تصنَعُ بالمُصْحَف، وفيه كلامُ الله تعالى؟ فقالَ لي: ويلك! والله ما فيهِ إلاَّ السُّخامُ والسَّوادُ، وأمَّا كلامُ الله فلا، ونحو هذا من القَوْلِ الذي هذا مَعْناه (¬89). ¬

_ (¬86) قال شيخ الإِسلام في موضع آخر: "ولو كان ما في المصحف وجب احترامُه لمجرّد الدلالة، وجب احترام كلِّ دليل، بل الدليلُ على الصانع وصفاته أعظمُ من الدَّالِّ على كلامه، وليسَت له حرمةٌ كحرمة المصْحَف" "مجموع الفتاوى" 12/ 391. (¬87) "مجموع الفتاوي" 8/ 425. (¬88) 5/ 81 - طبع عكاظ- (¬89) قلتُ: وعليّ بن حمزة هذا يكنى أبا الحسن، ترجم له الحافظ الحُمَيدي في "جذوة المقتبس" ص: 313، وقد سَمِعَ منه، وقال: "كانَ يتكلَّم في فنونٍ، ويُشارك في علوم، ويتصوَّف".

وأنتَ -وفَّقك الله- قَدْ تَعْجَبُ من هذه الحالِ الَّتي وصَل إليها بعضُ الأشعريةِ، وقد لا تُصَدِّقُ ذلكَ ابتداءٌ وتَسْتَنْكِرُه، مِن أجْل ما تراهُ مِنْ تظاهُرهم بتكريمِ المَصاحفِ، وتَعْظيمِها، وتَقْبيلها، والقيامِ لها حين الإِتيان بها، ولكنَّكَ حينَ تُدْرِكُ ما شَرَحْناهُ من اعتقادِهم، فليسَ يبعُدُ وقوعُ ذلك من سَفلَتِهم الذين لم يَقْدروا الله تعالى قَدْرَه. ولهؤلاء السُّفَهاءِ سَلَفٌ في الاستهانةِ بالمُصْحفِ وعَدَمِ تَعْظيمهِ، ذلك هو الجَهْمُ بن صَفْوانَ -رأس الجَهميَّة- فقدْ قالَ أبو نُعَيْمٍ البَلْخِيُّ -وكانَ صدوقاً-: كانَ رَجُلٌ من أهْلِ مَرْوٍ صديقاً لِجَهْم، ثمَّ قَطَعَه وجَفاهُ، فقيلَ له: لِمَ جَفَوْتَه؟ فقال: جاءَ منه ما لا يُحْتَملُ، قرأتُ يوماً آيةَ كذا وكذا، فقالَ: ما كانَ أظرف محمَّداً، فاحتملْتُها، ثمَّ قرأ سورة طه، فلمَّا قالَ: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: أمَا والله لو وَجَدْتُ سَبيلاً إلى حَكِّها لَحَكَكْتُها من المُصْحَف، فاحْتَمَلْتُها، ثمَّ قرَأ سورةَ القَصَص، فلمَّا انتهى إلى ذِكْرِ موسى قال: ما هذا، ذكَرَ قصَّةً في مَوْضِع فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ ذكَرَ ههُنا فلمْ يُتِمَّها، ثمَّ رَمى بالمُصْحَفِ منْ حجرِهِ برِجْلَيْهِ، فوثبتُ علَيه (¬90). وهذا المَعنى الذي تَقْشَعِر منه الجلودُ، وتنفرُ منه القُلوب، ويأباه دينُ المُسلمينَ، لم يكن عِنْدَ قُدَماء الأشعريَّة، والله تعالى أمرَ بالعَدْلِ، فإنَّ أولئكَ -على ما ذَكَرْنا عنهم من الاعتقادِ في القرآن العَظيم- إلاَّ أنَّهم كانوا ¬

_ (¬90) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" رقم (70) وعبد الله بن أحمد في "السنَّة" رقم (190) وسنده صحيح.

يعظّمونَ المصْحَفَ، ويبجّلوله لدَلالته عندَهم على القديمِ النَّفسي، بل إنَّك تجدُ فيهم مَن يُصرِّح بتكفيرِ مَن استهانَ بالمصْحَف. ولكنَّ بدعةَ هؤلاء الأوائل ضرَّتْ بهؤلاء السُّفَهاء، فإنَّهم توسَّعوا فيها حتى أخْرَجَتْهم من الإِسلام، وهذا شأنُ البِدَع وتأثيرِها على أصحابِها. قال شيخُ الإِسلام: "فالبدَعُ تكونُ في أوَّلها شِبْراً، ثم تكثرُ في الأتباع حتى تصيرَ أذْرُعاً وأميالًا وفراسخَ" (¬91). وحين ذكرَ شيخُ الإِسْلام بدْعَة الأشعريّة واعتقادَهم الباطلَ الذي شَرَحْناه، قال: "وهذا القَوْلُ فيه نوعٌ من الضَّلالِ والنّفاقِ، والجَهْلِ بحُدودِ ما أنْزَل الله على رسُولهِ، وهو الذي أوقَعَ الجُهال في الاستخفافِ بحُرْمةِ آياتِ الله وأسْمائِهِ، حتى ألْحدوا في أسْمائِهِ وآياتِهِ" (¬92). وقال: "وقد اتَّفقَ المسلمونَ على أنَّ مَن استخفَّ بالمصْحَف، مثل أنْ بُلْقِيَه في الحُشّ، أو يركضهُ برجْلهِ، إهانةً له، أنَّه كافرٌ مباحُ الدَّم" (¬93). • • • • • ¬

_ (¬91) "مجموع الفتاوى" 8/ 425. (¬92) "مجموع الفتاوى" 12/ 382. (¬93) "مجموع الفتاوى" 8/ 425.

المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية

المبحث الرابع: أسماء الله تعالى عند الأشعرية إنَّ عقيدةَ الأشعريَّةِ في كلام الله تعالى جَرَّتْهم إلى إدخالِ أسمائِهِ الحُسْنى ضِمْنَ ما اعتقْدوهُ، ولكن في ألفاظِهم في ذلك لَبْسٌ لا يَفْطن له مَن لم يفهَمْ مرادَهم، فإنَّهم يُطلقونَ القولَ: أسماءُ الله غيرُ مخلوقةٍ، وهذا الإِطلاقُ لأهل السُّنَّة أيضاً، ولكنَّه عندَ الأشعريةِ خِلافُ ما هُوَ عليه عند أهل السُّنَّة. وبيانُ ذلك: أنَّ الأشعريةَ كانوا يقولونَ: الاسمُ هو المُسمَّى، ويُطْلقونَ القولَ بذلكَ، ومُرادُهم: أنَّ الاسمَ هو عَيْنُ المُسمَّى، فاسمُ الله عندَهم هو الله، فالاسمُ عندَهم هو الذَّات، وليس هو الدالَّ عليها، وهذا المعنى لمْ يَسْبِقهم أحدٌ إليه، ولا يَعْرِفُ النَّاسُ الاسمَ إلاَّ القَوْلَ الدالَّ على المُسمَّى. فلمَّا حُجّوا بتعدُّدِ أسماءِ الله تعالى، والذَّاتُ واحدةُ غيرُ متعدَّدةٍ، قالوا: المُرادُ بالأسماءِ حالَ التعدّدِ التَّسْميات لا الذَّوات، فحديثُ النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لله تسعةً وتسعينَ اسماً" معناه: تسعةً وتسعينَ تسميةً، وقوله تعالى: {ولِلهِ الأسْماءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] معناه: التَّسْميات،

والتَّسْمياتُ هي الأقوالُ المؤلَّفةُ من الحُروفِ، مثل: (الرَّحمن، الرَّحيم، السَّميع، العَليم) (¬1) وهذه مخلوقةٌ عندَهم؛ لأنَّها ألفاظٌ، والألفاظُ مخلوقةٌ. وهذا مِنْهم خَرْقٌ لِما دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ وكلامُ العَرَب، فإنَّ العربَ لا تَعْرِفُ التَّسميةَ إلاَّ النُّطْق بالاسم والتكلُّم به، وليسَتْ هي الاسمَ نفسَه، وأسماءُ الأشياءِ هي الألفاظُ المُعَرِّفةُ بها الدَّالَّةُ عليها، ليستْ هي أعيانَ الأشياءِ (¬2). فـ (زيد) اسمُ عَلَمٍ بلا نِزاعٍ، فإذا سُمّيَ أحدٌ به لم يكنْ هو عَيْنَ المسمّى، وإنَّما هو اللَّفْظُ الدَّالُّ عليه، وإطلاقُ هذا اللَّفظ على زيد هو تسميتهُ به، وهذا بَيَّنٌ لا يَخْفى إنْ شاء الله. وقد نَطَقَ الكتابُ والسُّنَّةُ بأنَّ لله تعالى الأسماءَ الحُسْنى، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] وقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وقالَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ لله تِسعةً وتسعينَ اسْماً، مئةً غير واحدٍ، مَن حفِظَها دخَلَ الجنَّةَ" (¬3). فقالت الجَهميةُ والمُعْتزلةُ: الاسمُ غيْرُ المسمَّى، فأسماءُ الله غيرُهُ، وكلُّ شَيْءٍ غيرُ الله مخْلوقٌ، فـ (الرَّحمن، الرَّحيم، الحَيّ، القيّوم ...) هذه الأسماءُ المؤلَّفةُ من الحُروفِ، وغيرُها من الأسماءِ الحُسنى مخلوقةٌ ¬

_ (¬1) انظر: " أصول الدين" لعبد القاهر ص: 114 - 115. (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 195. (¬3) حديث صحيح جليل. وقد تناولته بالتخريج والشرح في جزء مفرد.

عندَهم. فأرادَ الأشعرية ومَنْ على شاكِلَتِهم إبطالَ قولِهم، فقالوا: الاسْمُ هو المسمَّى، أي: عينُهُ، فاسْمُ الله هو الله، والله غيرُ مَخلوق، فاسمهُ غيرُ مَخْلوق، وهذا في الحَقيقة لا تُخالِفُ فيه الجَهْميةُ، فإنَّهم يعتقدونَ أنَّ الله تعالى غيرُ مخلوق وهم إنَّما قالوا بخَلْق الأسماءِ التي هي الأقوالُ الدَّالَّة على المُسمَّى كـ (الرَّحمن، الرَّحيم) وهذه عندَ الأشعريَّةِ تَسْمياتٌ، وهي ألفاظٌ مَخْلوقةٌ، فأيّ فَرْقٍ بين اعتقادِ الطائفتين من جِهَةِ الحَقيقة والمَعنى؟ قالَ شيخُ الإِسلام: "وافَقوا الجَهْميةَ والمعتزلةَ في المعنى، ووافقوا أهلَ السُّنَّة في اللَّفْظ" (¬4). والسَّلفُ لم يكونوا يَعْرِفونَ الكلامَ في الاسم والمسمَّى، وإنَّما يعلَمون أنَّ لله تعالى الأسماءَ الحُسنى، ولما ظهَرَت مقالةُ الجَهمية في ذلك أنكَرَها الأئمَّةُ، وكانَ في علماءِ السُّنَّةِ مَنْ أطلقَ القولَ في الرَّدّ علَيْهم، فقال: الاسمُ هو المُسمَّى، وهذا الِإطلاقُ مُوافقٌ لإِطلاقِ الأشعريةِ، لكن يُخالِفه في المَعنى، فإنَّ مَن أطْلق ذلكَ من أئمَّةِ السُّنَّة لم يُريدوا أنَّ الاسمَ هو عَيْنُ المسمَّى. وأكثرُ أئمةِ السُّنَّة على إنكار هذه المقالةِ نَفْياً وإثباتاً, لأنَّ كُلاًّ من الإِطلاقين بدْعَة تجرُّ إلى محاذيرَ، كما جرَّت الجَهمية والأشعرية إلى القولِ بخَلْق الأسماءِ الحُسنى (¬5). ¬

_ (¬4) "مجموع الفتاوى" 6/ 192. (¬5) انظر لتفصيل هذه المسألة (قاعدة في الاسم والمسمَّى) لشيخ الإِسلام ضمن "مجموع الفتاوى" 6/ 185.

ويُبْطلُ قولَ هؤلاء المُبتدعةِ أنَّ أسماءَ الله تعالى مِن كلامِهِ، وقَدْ بَيَّنا الاعتقادَ فيه، وأنَّه غيرُ مَخلوقٍ، فأسماؤُهُ تعالى غيرُ مخلوقةٍ. وعلى ذلك نَصَّ الأئمةُ رحمهم الله، واستدلّوا بذكْرِ الأسماءِ في كلام الله على بُطْلانِ قَوْل مَن يقولُ بخَلْق القُرآنِ العَربيّ المُبينِ. فمِنْ ذلك: 1 - قولُ الإِمام الشافعيّ رحمه الله: "مَن حلَف باسْم مِن أسماءِ الله فحنثَ فعليْهِ الكفَّارةُ, لأنَّ اسمَ الله غيُر مَخْلوقٍ، ومَن حَلَفَ بالكعبةِ أو بالصَّفا والمَرْوَة فليس عليه الكفَّارةُ, لأنَّه مخلوقٌ، وذاكَ غيرُ مخلوقٍ" (¬6). قلتُ: والحَلف إنَّما يقَعُ بالألفاظِ، كـ (والله، والرَّحمن، والخالق، والعزيز) ونحو ذلك، فلو قيلَ: هذه ألفاظٌ مخلوقةٌ، وغيرُ المَخلوقِ إنَّما هو مسمَّاها -كما يقولُه مُحَقِّقو الأشعرية- وهذه موضوعةٌ للدَّلالةِ عليه، فلا فَرْقَ حينئذ بين الحَلِفِ بها، والحَلِفِ بالكعبةِ والصَّفا والمَرْوَة, لأنَّ الجميعَ مخلوقٌ، وذلكَ لأنَّ الحالفَ إنَّما يحلِفُ بالاسْم الذي هو القَوْلُ واللَّفْظُ المؤلَّفُ من الحُروفِ، الذي يُرادُ به المُسمَّى، وهذه عندَ الأشعرية تَسْمِياتٌ مَخْلوقةٌ. 2 - وقَوْلُ أبي داودَ: سمعتُ أحمَدَ -يعني ابن حنبل- ذكَرَ له رَجُلٌ ¬

_ (¬6) أثر صحيح، سبق تخريجه ص 128. وعلَّق محقَّق "آداب الشافعي" -ذاكَ الأشعري- على قوله: "وذاك غير مخلوق" بقوله: "يعني مسمَّاه ومدلوله" كذا قال، وهو تفسير لِما ذَكَرْناه عنه وعن أشباههِ من الأشعرية مُدَّعي التَّحقيق من أنَّ أسماء الله المؤلَّفة من الحُروف المتعدِّدة الكثيرة هي تسميات مخلوقة لا أسماء.

أنَّ رَجُلًا قالَ: إنَّ أسماءَ الله مخلوقةٌ، والقُرْآنُ مَخْلوقٌ، قال أحمدُ: "كُفْرٌ بَيِّنٌ" (¬7). وقال عبد الله بن أحمدَ: سمعت أبي رحمه الله يَقُولُ: "مَن قالَ: القرآنُ مخلوقٌ، فهو عندَنا كافرٌ, لأنَّ القرآنَ من عِلْمِ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وفيه أسماءُ الله -عَزَّ وَجَلَّ- " (¬8). 3 - وقَوْل إسحاقَ بن راهُوَيْه: "أفْضَوا -يعني الجَهمية- إلى أنْ قالوا: أسماءُ الله مخلوقةٌ, لأنَّهُ كانَ ولا اسْمَ، وهذا الكفْرُ المَحْضُ, لأنَّ لله الأسماءَ الحُسْنى، فَمن فرَّقَ بين الله وبين أسْمائِهِ وبين علْمهِ ومشيئتهِ، فجعَل ذلك مخلوقاً كلَّه، والله خالِقُها، فقَدْ كَفَرَ، ولله -عَزَّ وَجَلَّ- تسعةٌ وتسعونَ اسماً، صحَّ ذلكَ عن النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قالَهُ، ولقَدْ تكلَّمَ بعضُ مَنْ ينْسَب إلى جَهْمٍ بالأمْرِ العَظيمِ، فقال: لو قُلْتُ: إنَّ للرَّبِّ تسعةً وتسعينَ اسْماَّ لَعَبَدْتُ تسعةً وتسعينَ إلهاً، حتى إنَّه قالَ: إنِّي لا أعبُدُ الله الواحدَ الصَّمَدَ، إنَّما أعْبُدُ المُرادَ به، فأيّ كلامٍ أشَدُّ فِريَةً وأعظمُ من هذا، أنْ يَنْطِقَ الرَّجلُ أنْ يقولَ: لا أعبُدُ الله؟ " (¬9). قلتُ: والجَهْميَّةُ أرادوا إنكارَ أسماء الله بدَعْوى أنَّ تعدْدَها تعدّدٌ للآلهة، فقالوا: هي غيرُ الله، وهي مَخْلوقةٌ، ليُبْطِلوا تعلُّقَها بالله تعالى، والأشعريَّةُ قالوا: التعدُّدُ دليلُ الحدَثِ والخَلْق، والقَديمُ لا يتعدَّدُ والأسماءُ ¬

_ (¬7) سبق تخريجه ص 128. (¬8) سبق تخريجه ص 128. (¬9) رواه ابن أبي حاتم -كما في "السنَّة" لابن الطبري رقم (352) - وسنده صحيح.

مَعدودةٌ، وقد قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ" وَلا يقعُ الحَصْرُ والإِحصاءُ إلاَّ لما هو مَخلوقٌ، فهذِهِ الأسماءُ مخلوقةٌ، وهي دالَّةٌ على المُسمَّى، كَما أنَّ الألفاظَ في الكلام دالَّةٌ على الكَلام الحَقيقيّ، ولَيْسَتْ هي الكلامَ، لكنَّهم عَسُرَ عليهم القولُ: إنَّ الأسماءَ مخلوقةٌ، فقالوا: هي غيرُ مخلوقةٍ, لأنَّ الاسْمَ هو المُسمَّى، والمتعدِّدَ هو التَّسْمياتُ لا الاسْمُ، فأبْطَلوا المعلومَ من اللُّغَة والشَّرْع بفاسدِ الرأي. ولقد أورَدَ البخاريّ رحمه الله إلزاماً على الجَهْمية، هو واردٌ على الأشعريَّةِ أيضاً، قال: "وقالوا: إنَّ اسمَ الله مخلوقٌ، ويلْزَمُهم أن يَقولوا إذا أذَّنَ المؤذِّنُ، لا إِشله إلاَّ الذي اسْمه الله، وأشْهَد أنَّ محمَّداً رسولُ الذي اسمه الله, لأنَّهم قالوا: إنَّ اسمَ الله مَخْلوق" (¬10). فتأمَّلْ -رحمك الله- مذهبَ الأشعرية في أسماءِ الله، واعْلَم أنَّهم يُنزّهونَ اسْمَ الله القَديم عن أنْ يكونَ مُؤلّفاً من حُروفٍ مَنْظومَةٍ. يقولُ ابنُ عَساكر -وهو منهم معَ ما لَه من العِلْم والجَلالة -وهو يَصِفُ المُشبّهةَ: "وَغَلَوا في إثبات كلامِهِ -أي الله تعالى- حتى حَسِبوهُ يَحْتمِلُ بجَهْلهم تجزّؤاً وانقساماً، وظنّوا اسمَ الله القَديم ألِفاً وهاءً تتلو لاماً ولاماً" (¬11). قلتُ: وهذه الجُمْلَة ليْسَت مِن مُعْتقَد المُشبّهةِ الضُّلاّل، وإنَّما هو ¬

_ (¬10) "خلق أفعال العباد" رقم (108). (¬11) "تبيين كذب المفتري" ص: 25 - 26.

معتقَدُ أهل السُّنَّة الأبرياءِ من اعتقادِ أصْحابِ البِدَع، وقد شَرَحْناه عنهم فيما سبَقَ في الباب الأوَّل، وبيَّنا أنَّ كلامَه تعالىَ يتجزَّأ ويتبعَّضُ، وهذا القرآنُ أبْيَنُ حُجَّةٍ عليه، ونبيّن هُنا أنَّ أسماءَ الله تعالى هي ألفاظٌ دالَّةٌ على المَعاني، عَرَّفَ الله بها نفسَه، كما عَرَّفَ نفْسَه بسائرِ صفاتهِ، فإنَّ أسماءَه صفاتٌ له تعالى، واسمُ (الله) هو المؤلَّف من ألف وهاء تتلو لاماً ولاماً، لأنَّ اسْمَ الله عندَنا ما دَلَّ على ذاتهِ تعالى، ألا ترى أنَّ الله أمرَ عبادَه بتسبيحهِ كما أمرهم بتسبيح اسْمهِ، فقال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42] وقالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقالَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74, 96 الحاقة: 52]؟ والعِبادُ يُجيبونَ: سُبْحان الله، سُبحانَ رَبّي الأعلى، سبحانَ ربي العظيم، فبيَّن تعالى أنَّ تسبيحَ اسمهِ تسبيحٌ له, لأنَّ الاسمَ إنَّما يُراد به المُسَمَّى، ومثل ذلك في دعائه تعالى بأسمائِهِ وذِكْره بها. وكذا بيَّنَ أنَّ اسمَه تعالى مُبارَكٌ، فقال: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78] وقال: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] فأسماؤهُ تعالى مباركَة لبَرَكةِ المُسمَّى بها، وهو الرَّبُّ تعالى. والمقصودُ هنا بيانُ أنَّ الأشعريَّة جانَبوا الصَّوابَ باعتقادِهم أنَّ الأسماءَ الحُسنى المتعدِّدَة لله تعالى إنَّما هي التَّسْميات، وهي ألفاظٌ مُحْدَثةٌ مَخلوقةٌ، واسْمُ الله القَديم هو ذاتُه تعالى. وبيان أنَّ هذا ليسَ بينَه وبين قَوْلِ الجَهْمية فرْقٌ في المعنى والحَقيقة، إذْ الجميعُ قالوا بخَلْق الأسْماءِ، التي هي الألفاظُ التي يُرادُ بها

المُسمَّى، ومَنعوا من ذلكَ للتَّعَدُّدِ، إلاَّ أنَّ الجهميةَ صَرَّحوا أنَّ التعدُّدَ في الأسماءِ تعدّدٌ في الذَّواتِ، وهذا عندَهم تعدّدٌ للآلهةِ، والأشعرية لم يُصَرِّحوا بذلك، فالخِلافُ بينَهم وبين الجَهميةِ في هذه القضيَّة خِلافٌ لَفْظيٌّ.

المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن

المبحث الخامس: وجه التوافق بين قولي المعتزلة والأشعرية في القرآن بَعْدَ هذا العَرْضِ لاعْتقادِ الأشعريَّةِ في كلام الله تعالى، وَمُقارنتهِ باعتقادِ السَّلَف، واعتقادِ الجَهمية المعتزلةِ، يتبيَّنُ لكَ مُجانَبتُهم في ذلك لاعتقادِ السَّلَف والأئمَّة ومُبايَنَتُهم فيه، ومُوافَقَةُ المُعتزلةِ الجَهميةِ في حقيقة الأمْرِ، وأنَّ الخلافَ بينهم وبين المعتزلةِ يشبهُ أن يكونَ خِلافاً لفظيّاً، بل هو فيما أرى كذلكَ، وقد صَرَّحَ بهذه الحَقيقةِ مُحقِّقُهم إمامُ الحَرَمينِ، فقال: "وقولُهم: إنَّه كلامُ الله تعالى، إذا رُدَّ إلى التَّحصيل آل الكلامُ إلى اللُّغاتِ والتَّسْمياتِ، فإنَّ معنى قولهم: هذه العباراتُ كَلامُ الله: أنَّها خَلْقُه، ونحنُ لا نُنْكِرُ أنَّها خَلْقُ الله، ولكنْ نمتنعُ من تسميةِ خالق الكلام مُتكلِّماً به، فقد أطْبَقْنا على المَعنى، وتَنازَعْنا بعد الاتفاق في تسميتهِ" (¬12). قلتُ: وبيانُ هذه المُوافقة لاعتقادِ المعتزلة من وَجْهين: الأوَّل: المُعتزلة لا يُجوّزونَ قيامَ الصِّفاتِ والأفعالِ بذاتهِ تعالى، فوافَقَهم الأشعريةُ في نَفْي قيام الأفْعال بذاتهِ تعالى، فَنَفَوْا لهذا أنْ يقومَ به تعالى ما يتعلَّقُ بمشيئتهِ واختيارهِ، فنتَجَ قولُهم: الكلامُ معنى واحدٌ أزليُّ ¬

_ (¬12) "الإِرشاد" ص: 116 - 117.

-وقد أبَنْتُ لكَ عن بُطْلانِ هذا المَذْهب- وقالوا: كلُّ ما تعلَّقَ بالمشيئةِ والقدرةِ فهو مخلوقٌ، فوافق الأشعريةُ المعتزلةَ في شَطْرِ قولِهم، فنفَوْا قيامَ الأفعالِ، وقالوا: هي مخلوقةٌ، وأثْبَتوا قيامَ الصِّفاتِ على تَفصيلٍ ليسَ هذا مَحَلُّه. والثاني: إنَّ ما تألَّفَ من الحُروفِ والألْفاظ فهو مخلوقٌ عندَ الأشعرية والمعتزلةِ، لكنَّ الأشعريةَ يقولونَ: هو عبارةٌ عن الكَلامِ القَديم، والمعتزلةَ يقولونَ: بل هو كلامُ الله على الحَقيقةِ، إذْ لَمْ يُقرّوا للأشعريَّةِ بقولِهم الذي شرَحْناهُ عنهم في إثباتِ الكَلام النَّفْسي لفَسادهِ. فرَجَعَ قولُهم إلى الاتّفاقِ على كوْنِ القُرآن العَربيّ مَخلوقاً، وفي قَوْلِ المعتزلةِ من المُوافَقَةِ اللَّفظية للسَّلَف في هذه القضيَّةِ أكثرُ من قَوْلِ الأشعريَّةِ، ذلكَ لأنَّهم سمَّوْهُ كلامَ الله حقيقةً، أمَّا الأشعريَّةُ فتحقيقُ قَوْلِهم أنْ ليسَ لله في الأرضِ كَلامٌ على الحَقيقةِ، ويُطْلِقونَ على القرآنِ كلامَ الله مَجازاً على أرْجَح أقْوالِهم. قالَ شيخ الإِسلام: "وهذا شرٌّ من قَوْلِ المُعْتزلةِ، وهذا حقيقةُ قَوْلِ الجَهْميَّة" (¬13). وقد تقرَّرَ أنَّ كلامَ الله تعالى، مَعاني وألفاظٌ يتكلَّمُ بها ربُّنا متى شاءَ، وكما شاءَ، والقرآن العربيُّ كَلامُه، والتَّوراة العِبْريَّةُ كلامه، وكلُّ ذلك على الحَقيقةِ لا على المَجاز، وهو غيرُ مَخلوقٍ كيفَ تصرَّفَ، ولا يَعْرِفُ المُسلمونَ منذُ عَهْد النُّبُوَّةِ قرآناً غيرَ هذا العربيّ، ولا يَعْرِفونَ ما بَيْنَ الدَّفَّتين ¬

_ (¬13) "مجموع الفتاوى" 12/ 121.

إلاَّ كلام الله على الحَقيقةِ، فنازَعَتْهم المعتزلةُ الجهميةُ في هذا القرآن لا في غيرهِ، فقالَتْ: مخلوقٌ، وقال أهلُ السُّنَّة: كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ولم يَخْطُرْ ببالِ أحَدٍ قبْلَ ابن كُلاّب -أصْلِ الأشعريَّةِ- أنَّ كلامِ الله هو الكلامُ النَّفْسيُّ وهو غيرُ مَخْلوقٍ، فالأئمةُ ابْتُلوا وحصَلَ البلاءُ للأمَّةِ جميعاً بسبَب هذا القرآنِ العربيّ لا الكلام النَّفسي الذي لم يَدْرِه الناسُ ولم يَعْرِفوهُ، ولقد كانَ أهْوَن عليهم أنْ يقول للناس بقَوْل الجَهْمية في هذا القرآنِ ويُوافِقوهم فيه, لأنَّ عوامَّ المُسْلمينَ لا يعلَمونَ الخِلافَ الواقعَ إلاَّ في هذا القرآن، إذ لا يَعْلَمون قرآناً سِواهُ، ولهذا أيْسَرُ عليهم في المحنةِ من القَتْلِ والتَّعْذيبِ، إذ لا مَحْظورَ فيه عندَ الأشعريَّةِ إلاَّ سدّ بابِ الذريعة، كما قالَه غيرُ واحد من أئمَّتهم. يقولُ الباجوريُّ الأشعريُّ: "ومعَ كَوْن اللَّفظ الذي نقرؤهُ حادثاً لا يَجوز أنْ يقال: القرآنُ حادثٌ إلاَّ في مَقام التَّعليم, لأنَّه يُطْلَقُ على الصِّفَةِ القائمةِ بذاتهِ أيضاً، لكن مَجازاً على الأرْجَح، فربَّما يُتَوهَّمُ من إطلاقِ أنَّ القرآنَ حادثٌ أنَّ الصِّفةَ القائمةَ بذاته تعالى حادثةٌ، ولذلك ضُرِبَ الإِمامُ أحمدُ بن حنبل وحُبِسَ على أن يقولَ بخَلْقِ القرآن، فلم يَرْضَ" (¬14). وقالَ أيضاً: "لكن لا يجوزُ أن يُقالَ: القرآنُ حادثٌ، أو كلامُ الله حادثٌ, لأنَّه وإن كانَ المرادُ به هذه الألفاظ، لكن يوهِمُ الصِّفَةَ القديمةَ، ولذلكَ لا يجوزُ أنْ يقالَ: القرآنُ مخلوقٌ، أو كلامُ الله مخلوقٌ، وقد امتُحنَ كثيرٌ من العُلماء على القَوْل بخَلْقِ القرآن" (¬15). ¬

_ (¬14) "شرح الجوهرة" ص: 72. (¬15) " حاشية الباجوري على كفاية العوام" ص: 102.

قلتُ: وهذه مقالَةٌ جائرةٌ، تضمَّنَت الكَذِبَ على الأئمَّةِ، والإِمام أحمدَ بالخُصوص، فإنَّه رحمه الله لم يأتِ عنهُ مجرَّد إطلاقِ: القرآنُ غيرُ مَخلوق، وإنَّما نصَّ على إبطالِ كلام أسْلافِ الأشعريَّةِ الذين ظَهَروا في أواخر حياتهِ كالكَرابيسيّ وابن كُلاّبٍ، وهم الَلَّفْظيَّةُ النافيةُ الذين شرحتُ اعتقادَهم في الباب الثاني، بَل نصَّ على أنَّهم جَهْمية، ونصوصُهُ أبْيَنُ مِنْ أنْ تُفسَّرَ وتُفصَّل في ذلك، بل هو وسائرُ إخوانهِ من الأئمَّة أبْعَدُ الناسِ عن اعتقادِ اللفظيَّةِ الذينَ يَعْتَقدونَ أنَّ الألفاظَ القرآنيةَ مخلوقةٌ. ولو كانَ الأمْرُ كما زَعَمْتُم أنَّ قولَ الأئمَّة: القرآنُ غيرُ مَخْلوق، سدّاً للذَّرِيعة، لئلاّ يُفهَم أنَّ الكلامَ النَّفسيَّ مَخلوقٌ، لكان هذا جَهْلاً منهم وعدَمَ فَهْم لأدنى مقاصدِ الشَّريعةِ -وحاشاهم من ذلك- لأنَّ الأمرَ على قولِكم يكونُ عندَ التَّحْقيق فَتْحاً لباب الذَّريعةِ لا سَدّاً له, لأنَّ اللَّبْسَ والتَّمْويهَ على الأمَّةِ بمقالةِ الأئمَّةِ: القرآنُ غيرُ مَخْلوق، أشدُّ وأعظمُ، وذلك لأنَّ الأمَّةَ أجْمَع تَتْبعُهم على هذه المقالةِ، والأمَّةُ لا تَعْرِفُ قَوْلَهم متوجّهاَّ إلاَّ إلى هذا القرآنِ الَّذي بين الدَّفتين، فيُضيفونَ الكلامَ المخلوقَ -عندَكم- لله، ويجعلونَه صفةٌ له، ويُكفِّرون مَن خالَفهم في ذلك تبَعاً لأئمَّتِهم، فهذا البابُ إذاً أحْوَجُ إلى السَّدِّ من باب الكَلام النَّفسي لِعِظَم البَلوى به، ولكنَّكم حُرِمْتُم التوفيق فلَمْ تَعُوا ما تَقولونَ، وهذا بعضُ ما تَسْتحقّونَه جزاءَ إعْراضِكم عن الوَحْي المَعْصوم، وإقبالِكم على الكَلام المَذموم. وإضافةً لهذا فإنَّنا -معشر أهل السُّنَّة- نُمْهِلُكم أعمارَكم جَميعاً- وقد أمْهَلْناكم قُروناً- على أنَّ تَأتوا بنَقْلٍ صَحيحٍ أو ضعيفٍ عن أحَدٍ من الأئمَّة زمَنَ المعتزلةِ وقَبْلَه إلى عَهْدِ النبُوة، يُصَرِّحُ لكم أنَّ كلامَ الله معنى واحدٌ

مجرَّدٌ عن الألفاظ، والألفاظ ليسَتْ كلامَ الله على الحقيقةِ، إن كُنتم صادقينَ. هذا ما نَقْطَعُ بعَجْزِكم عنه، بل إنَّكُم لا تُحبُّونَ الكلامَ فيه خَشْيَةَ الافتضاحِ وبُدُوْ العَوْراتِ، فهذا صاحبكُم الباجوريُّ يقول بمَنْع ذكرِ عقيدتكم لأحدٍ إلاَّ على وجْهِ الشَّرْح والتَّفصيل، ولو قيلَ: على وجهِ التَّلْبيس والتَّضليل لكان ألْيقَ، وإلاَّ فأيّ توحيدٍ هذا الذي يقومُ على الكِتْمان والتَّستُّرِ؟ فأيُّ معنى إذاً خالَفْتُم فيه المعتزلةَ وتتظاهرونَ بالرَّدِّ عليْهم فيه؟ ليسَ لكُم إلاَّ أنَّ المعتزلةَ لا يُثْبتونَ صفةَ الكَلام لله إلاَّ المَخْلوقِ، ولم يَفْصِلوا بين المَخلوقِ والكَلام النَّفَسي القَديم. وهذا تلبيسٌ قد انكشفَ بفضْلِ الله ومَنَّهِ، والمعتزلةُ خيْرٌ منكم حينَ أبْطَلوا هذا الكلامَ النَّفْسيَّ الذي ابتَدَعْتُموه، على ما هُمْ فيه من البِدْعَة والشَّرِّ، وأنتُمْ حَسِبْتم أنَّكُم وافَقْتُم السَّلَفَ والأئمَّةَ في إثباتِ صفة الكَلامِ، والسَّلَفُ لا يَعرفونَ كلامَ الله تعالى على تفسيركم، بل لا يَعرفونَ كلامَ الله إلاَّ الذي ادَّعَت المعتزلةُ الجَهميَّةُ أنَّه مخلوقٌ، وقوْلُ الجَهمية هذا هو قولُكم. فالسَّلَف وأهلُ السُّنَّة بَراءٌ من اعتقادِكم. وبهذا فإنِّي أحْسَبُكَ قَدْ فَهِمْتَ وجْهَ التَّوافُق بين قولَي المعتزلةِ والأشعريَّهِ، وأنَّه في الحقيقةِ قوْلٌ واحدٌ، لكن المعتزلةَ أتَوْا به صَريحاً لا لَبْسَ فيه، وهؤلاء قالوا به بطريقةٍ مُلْتويةٍ مُشَكِّكَة.

ولقد ذكرِتُ في الباب الثاني في مسألةِ اللَّفْظ أنَّ القَوْلَ بخَلْقِ الألفاظ المُنْزَلةِ قولٌ تستَّرت به الجَهْميَّة لِيَلْبِسوا على الناس دينَهم. قال شيخ الإِسلام: "جمهورُ الناس يقولونَ: إنَّ أصحابَ هذا القول عند التَّحقيق لم يُثْبِتوا له كلامًا حقيقةً غَيْرَ المخلوقِ" (¬16). • • • • • ¬

_ (¬16) "مجموع الفتاوى" 12/ 121.

المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن

المبحث السادس: الأشعرية وأهل السنة في مسألة القرآن لَقَدْ كانَ المعتزلةُ في الزَّمَن الغابرِ يصِفونَ أنْفُسَهم بـ (أهل السُّنَّة) وكثيرٌ من أهلِ البِدَع كانوا على هذا النَّحْو، والأشعريَّةُ ومثلُهم الماتُريديَّةُ مِمَّن تلقَّبوا بهَذا، فهُم يصِفونَ أنْفُسهم بـ (أهل السُّنَّة) ويقولونَ في اعتقادِهم: إنَّه (اعتقادُ أهل السُّنَّة) وربَّما عَزَّزوا ذلك بأنَّ فيهم كَثْرةً من أهْلِ الفِقْهِ والحَديث، ورُواة السُّنَنِ والآثار. يقولُ الزَّبِيديُّ: "إذا أطْلِقَ: أهلُ السُّنَّة والجَماعَةِ، فالمرادُ بهم الأشاعرةُ والماتُريديةُ" (¬17). قلتُ: وَيَنْصُرونَ ذلك بكَثْرَة الأتْباعِ، وهذا مِمَّا اغترَّ به كثيرٌ من أهْلِ زمانِنا ونَسوا غُرْبَة أهْلِ الحَقّ. ولَقَدْ كانَ الإِمامُ أحمدُ وأتباعُهُ قلَّةً بالنسبةِ إلى المُعتزلةِ لِما كانَ معهم من قوَّةِ السُّلْطان، ولم يكن هذا حجّةً في ميزانِ أهْل الحقِّ على صِحَّة اعتقادِهم، وكان فيهم مَن يُنْسَب إلى الفقهِ والحَديثِ والعِلْم. ¬

_ (¬17) "شرح الإحياء" 2/ 6.

وإنَّما الميزانُ عَرْضُ الآراءِ والأقوالِ والمَذاهبِ على الكتابِ والسُّنَّة وما كان عليه سَلَفُ الأمَّةِ، وهذا لا يَحتاج إلى إيضاحٍ، فإنَّه لا يخفى مثلُه على أهل الإِنْصافِ والإِخلاصِ والاتّباعِ، فما وافَقَ الشَّرْعَ منها قُبِلَ، وما لَم يوافِقْ طُرِحَ ونُبِذَ. والدَّعوى المجردَّةُ رَخيصةٌ لقائلها، ولم يكن لصاحب بدْعَةٍ في يوم من الدَّهْرِ أن يقولَ: إنِّي مُبْتَدعٌ، أو صاحبُ هَوى، خُصوصًا إذا أرادَ لدائهِ أن يَسْرِي في الناس، فإنَّه يتلقَّبُ بأحسن الألقابِ، ويتسمَّى بأحسَنِ الأسْماءِ. وكما بَطَلَتْ دَعْوى المعتزلةِ الجهميَّةِ في سالِفِ الزَّمان، بطَلَتْ دَعوى الأشعريةِ والماتُريديةِ عندَ أهل الحَقِّ والسُّنَّة، ولقد شَرَحْنا من ذلك ما فيه الدَّلالةُ القاطعةُ على مخالفةِ الأشعريَّةِ والماتُريديَّةِ لاعتقادِ أهْل السُّنَّة ولمَنْهَج السَّلَف، مع أنِّي تناوَلْتُ اعتقادَهم في مسألة القرآنِ وبعضِ ما يرتبطُ بها لا جَميع المَسائل التي خَرَجوا فيها عن الصِّراطِ المستقيم، فإنَّ لهُم من الاعتقاداتِ الباطلةِ سِوى ما بيَّنتُه شيئاً كثيراً. وأنتَ أيها الناظرُ في قَوْلي أحَدُ رجُلَين: إمَّا أن تكونَ مُنْصِفاً طالباً للحقّ ابتغاءَ وجهِ الله، وإمَّا أن لا تكونَ كذلكَ، فإنْ كنتَ الأوَّل أدركتَ الحقَّ إن شاء الله وبانَ لك، وإنْ كُنْتَ الثانيَ فلَسْتُ أرجوكَ فلا تُتْعِبْ نفسَك. ولو عُدْتَ للباب الثاني من كِتابي هذا ونظرْتَ بأدْنى تأمُّل ما أوردتُهُ في اللَّفظيةِ الذينَ جَهَّمَهم الإِمامُ أحمد وغيرُه من الأئمةِ، علمتَ أنَّ ذلك

مُنْصَبٌّ تماماً على الأشعريةِ والماتُريديةِ، بَلْ إنَّ اللَّفظيةَ الأوائلَ الذين أنكَرَ الإِمامُ أحمدُ وغيرُه من أئمَّة السُّنَّةِ مقالَتهم أفْضَلُ من هؤلاء وأقرَبُ إلى الحَقِّ منهم، فإنَّ أولئكَ لم يُحْفَظ عنهم تصريحٌ بأنَّ الله لا يتكلَّمُ بحَرْفٍ ولا صَوْتٍ (¬18)، ولا نَفْيُ تعلُّقِ الكلام بالمَشيئة والقُدْرَةِ، فجاءَ أصْلُ هؤلاء المُبتدعةِ ابنُ كُلاّب، فأدخَلَ على النَّاسِ هذه الأباطيلَ. وإنِّي ذاكرٌ لكَ بعضَ كلام الأئمَّةِ في إنكارِ قولِ الكُلْابية ومَن وافَقَهم كالأشعرية والماتُريديةِ في كلام الله تعالى، سوى ما سقتُه في الباب الثاني: 1 - الإِمام أحمد بن حنبل: كانت مقالَةُ ابن كُلاّب غيرَ ظاهرةٍ في عَصْر الإِمام أحمد، سوى القَوْل بخَلْق ألفاظِ القرآن، وقد سبَقَ بيانُ إنكارِ الإِمام أحمدَ ذلكَ أشدَّ الإنكار وتبديعِ مَن قال هذه المقالةَ، بل تكفيرِهِ وتجهيمهِ. ومع ذلك فَقَدْ عَلِمَ الِإمامُ أحمدُ بابن كُلاّب، وأنَّه من اللَّفْظيةِ القائلينَ: ألفاظُنا بالقرآنِ مَخلوقةٌ، فأنكَر بدعته، وشدَّدَ على أصحابهِ، مثل الحارثِ المُحاسبيّ، بسَبب ذلك. وقَدْ سأل بعضُ مَن كانَ يَميلُ إلى قَوْلِ ابن كُلّاب الامامَ أبا بكر بن خُزَيمة، فقال: ما الذي أنْكَرْتَ من مذاهِبنا أيُّها الإِمام حتى نرْجِعَ عنه؟ قال: "ميلَكم إلى مذْهَب الكُلّابية، فقد كانَ أحمدُ بن حنبل مِن أشدِّ النَّاس على عبد الله بن سَعيد (يعني ابنَ كُلّاب) وعلى أصحابهِ، مثل الحارث، ¬

_ (¬18) انظر: "مجموع الفتاوى" 12/ 379.

وغيره" (¬19). وقد نقَلَ الأشعريُّ نفسُه عن الإِمام أحمدَ قولَه: "نحنُ لا نَحْتاجُ أنْ نَشُكَّ في هذا القرآن عندَنا، فيه أسماءُ الله، وهو من عِلْمِ الله، فمَنْ قالَ لنا: إنَّه مخلوق، فهو عندَنا كافرٌ" (¬20). قُلْتُ: وهذا النَّصُّ متنزّلٌ على الأشعرية من وجُوهٍ: الأوَّل: أنَّ الكلامَ عندهم مُغايِرٌ للعِلْم، وليسَ به مطلقاً. قال الباجوريُّ الأشعريُّ: "والكلام: القوْلُ، وما كانَ مكتفياً بنفسهِ، والعلمُ هو المعرفةُ، كما يؤخَذُ من القاموس في مَواضع متعدّدةٍ، وإذا ثَبَتَ أنَّها متغايرةٌ لُغَةً كانت متغايرةً شَرْعاً، وبالجُمْلةِ فكُنْه كلِّ واحدةٍ غيرُ كُنْهِ الأخرى، ونفوّضُ علمَ ذلك لله تعالى" (¬21). قلتُ: نحنُ لا نرتابُ في أنَّ كلام الله تعالى مِن علْمهِ، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 1 - 2] وكما قال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ...} [البقرة: 145] وكما قال: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61] وكان هذا من حُجَّةِ الإِمام أحمد على الجَهْميَّة فيما ذكَرْناهُ عنه في الباب الأوَّل (¬22). ¬

_ (¬19) رواه الحاكم في "تاريخه" -كما في "مجموع الفتاوى" 6/ 171 - 172 - وسنده صحيح. (¬20) "الإِبانة" ص: 71. (¬21) "شرح الجوهرة" ص: 86. (¬22) انظر: ص 124 - 125.

والثاني: كلامُ الله عندَهم لا يتبعَّضُ، وكذا علْمُه، والإِمام أحمد جعَل القرآن بَعْضاً من علْمهِ تعالى. والثالث: قوله: "هذا القرآن" إشارةٌ إلى حاضِرٍ، وأكَّدَه بقولهِ: "عندَنا" وليس عندَنا إلاَّ هذا القرآنُ العربيُّ. والرابع: أثْبَتَ أنَّ أسماءَ الله تعالى في هذا القرآن المُشار إليهِ، ولا يفْهَم أحَدٌ من ذلك إلاَّ الأسماءَ الحُسنى، كـ (الله، الرَّحمن، الرَّحيم) وغير ذلك، وهذه عنْدَ الأشعريَّةِ تَسْمياتٌ مخلوقةٌ، لكَوْنِها مؤلَّفةً من الحُروف، والقرآنُ العربيُّ نفسُه عندَهم مَخْلوق, لأنَّه مؤلَّفٌ من الحُروفِ، إلى غير ذلك من أباطيلِهم. فالأشعربَّةُ خالَفوا نصَّ الإِمام أحمدَ من أوَّله إلى آخرهِ، فَتُرى على ماذا يَرِدُ قولُ أحمد رحمه الله: "فمن قالَ لنا: إنَّه مخلوق فهو عندنا كافر"؟ وعلى مَن؟! وقد ذكَرْت آنفاً قولَ أحمد بن سعيد الدَّارميّ: قلتُ لأحمدَ بن حنبل: أقولُ لك قَوْلي، وإن أنكرتَ منه شيئاً فقُلْ: إني أنكِرُه، قلتُ له: نحن نقول: القرآنُ كلامُ الله من أوَّلهِ إلى آخرهِ، ليسَ منه شيءٌ مخلوقٌ، ومَن زغمَ أنَّ شيئاً منه مخلوقٌ فهوكافرٌ، فما أنكرَ منه شيئاً، ورَضِيَه (¬23). قلتُ: والأشعريةُ يقولونَ: الكلامُ الذي له أوَّلٌ وآخِرٌ ويَتَبَعَّض فهو مخلوقٌ. فمَن المقصودُ إذاً بقولهِ: "ومَن زعَمَ أنَّ شيئاً منهُ مَخلوق فهوكافر"؟ ¬

_ (¬23) سبق ص 246 - 247.

2 - الإِمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: كان رحمه الله تعالى شديداً على الكُلَّابية (¬24) -أصلِ الأشعريَّةِ والماتُريدية-. وقد ذكرَ شيخُ الإِسلام أبو إسماعيلَ الأنْصاري في "مناقب الِإمام أحمد" فتنة الكُلَّابية، وقال: "فطارَ لتلك الفتنةِ ذاكَ الإِمام أبو بكْر -يعني ابنَ خُزَيمة- فلمْ يزَل يَصيحُ بتشويهها، ويُصَنِّفُ في ردِّها، كأنَّه مُنْذِر جيشٍ، حتى دَوَّنَ في الدَّفاتر، وتمكَّن في السَّرائر، ولقَّنَ في الكَتاتيب، ونقَشَ في المَحاريب: إنَّ الله متكلّمٌ، إن شاءَ تكلَّمَ، وإنْ شاءَ سكَتَ، فجَزى الله ذاك الِإمام، وأولئك النَّفرَ الغرَّ عن نُصْرة دينهِ وتوقير نبيِّه خَيراً" (¬25). وله قصَصٌ حصلَت له معَ الكُلّابية تُنْبىءُ عن شِدَّتهِ عليهم، وإنكارِه لاعتقادِهم في القُرآن. 3 - الحافظ الثقة أحمد بن سنان الواسطي: قالَ رحمه الله: "مَن زعَمَ أنَّ القرآنَ شَيئين، أو أنَّ القرآنَ حكايةٌ، فهو والله الذي لا إله إلاَّ هو زِنديقٌ، كافِرٌ بالله، هذا القرآنُ هو القرآنُ الذي أنزلَه الله على لسانِ جِبريلَ على محمَّد -صلى الله عليه وسلم-، لا يُغَيَّرُ ولا يُبَدَّل، لا يأتيهِ الباطلُ من بين يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفهِ ... " (¬26). ¬

_ (¬24) "مجموع الفتاوى" 6/ 169. (¬25) "مجموع الفتاوى" 6/ 178. (¬26) سبق سياقه بتمامه وتخريجه ص 198 - 199.

قلتُ: والذي كان يقولُ: شيئين، أوَّل الأمْر، داودُ الأصْبهاني، والذي كانَ يقول: حِكاية ابنُ كُلّاب -أصلُ الأشعرية والماتُريدية- لكنَّ الأشعريَّ خالفَه في إطلاق لفظ (حكاية) على القرآن العربيّ، ويقولُ: هو عبارةٌ, لأنَّه رأى أنَّ لفْظَ (حكاية) لا يُناسِبُ اعتقادَهم. قالَ الإِمام الفَقيهُ أبو حامدٍ الإسفرايينيُّ: "وكان ابنُ كُلّاب عبد الله ابن سَعيد القطَّانُ يقولُ: هي -أي الألفاظ- حكايةٌ عن الأمْرِ، وخالَفه أبو الحَسَنُ الأشعريُّ في ذلك، فقالَ: لا يَجوز أن يُقال: إنَّها حِكايةٌ, لأنَّ الحِكايةَ تَحْتاجُ إلى أن تكونَ مثْلَ المَحْكيّ، ولكنْ هو عِبارةٌ عن الأمْرِ القائم بالنَّفس، وتقرَّرَ مذهَبُهم على هذا" (¬27). 4 - الإِمام الفقيه الجبل أبو العباس بن سريج: أحمد بن عمر، إمام الشافعية في وقته: قال رحمه الله: "وقَدْ صَحَّ وتقرَّرَ واتَّضَحَ عند جَميع أهل الدِّيانةِ والسُّنَّة والجَماعةِ من السَّلَف الماضِينَ، والصَّحابة، والتَّابعينَ، من الأئمَّة المُهْتَدين الراشدينَ المشهورينَ إلى زمانِنا هذا: أنَّ جميعَ الآي الواردةِ عن الله تعالى في ذاتهِ وصفاتهِ، والأخبارِ الصادقةِ الصَّادرةِ عن رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- في الله وفي صفاتهِ التي صَحَّحها أهلُ النَّقْل، وقَبِلَها النقّادُ الأثباتُ، يَجِبُ علَى المَرءِ المُسْلِمِ المؤمنِ الموفَّقِ الِإيمانُ بكلٌ وَاحدٍ منه كما وردَ، وتسليمُ أمْرهِ إلى اللهِ سبحانَه وتعالى كما أمَر" فذكرَ جملةً من الصِّفاتِ، ثمَّ قال: "وإثباتُ الكلام بالحَرْفِ والصَّوْتِ، وباللُّغاتِ، وبالكَلِماتِ وبالسُّوَر، ¬

_ (¬27) قاله في كتابه "التعليق في أصول الفقه" كما في "درء التعارض" 2/ 107.

وكلامُهُ تعالى لجبريلَ والملائكةِ، ولمَلَكِ الأرْحام، وللرَّحِم، ولملَكِ الموتِ، ولرضْوان، ولمالكٍ، ولآدَم، ولموسى، ولمحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وللشُّهداء، وللمُؤمنينَ عنْدَ الحِساب، وفي الجنَّةِ، ونُزولُ القرآن إلى سَماءِ الدنيا، وكونُ القرآنِ في المَصاحف ... " فذكر أشياءَ حتى قال: "نَقْبَلُها، ولا نَرُدُّها، ولا نتأوَّلها بتأويل المُخالفينَ، ولا نَحْملُها على تشبيهِ المشبّهينَ، ولا نَزيدُ عليها، ولا نُنْقِصُ منها، ولا نفسِّرها، ولا نكيّفها، ولا نُتَرْجِمُ عن صفاتهِ بلغةٍ غير العربيَّةِ، ولا نشيرُ إليها بخَواطر القُلوب، ولا بحَرَكاتِ الجَوارح، بل نُطْلِق ما أطلقَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، ونفسّرُ ما فسَّرهُ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وأصحابُه، والتابعونَ، والأئمَّةُ المَرضيّونَ من السَّلَف المَعروفينَ بالدّينِ والأمانةِ، ونُجْمِعُ على ما أجْمَعوا عليه، ونُمْسِكُ عَمَّا أمْسَكوا عنه، ونُسَلِّمُ الخبرَ الظاهرَ، والآيةَ الظاهرَ تَنزيلُها، لا نقول بتأويلِ المُعتزلةِ والأشعريَّة والجَهميَّة والمُلْحِدَة والمُجسِّمَة والمُشبّهةِ والكَرّاميَّةِ والمُكيّفةِ، بل نقْبَلُها بلا تأويلٍ، ونؤمنُ بها بلا تمثيلٍ، ونقولُ: الِإيمانُ بها واجبٌ، والقولُ بها سُنَّةٌ، وابتغاءُ تأويلِها بدعَةٌ" (¬28). قلتُ: ابنُ سُرَيْج ذاك الِإمامُ الذي لا يُجْهَل قدرُهُ، ولا يُنْكَرُ فضلُهُ، به انتشَرَ فقهُ الشافعي رحمه الله، وربَّما فضّله بعضُ الأئمةِ على سائر أصحابِ الشافعي، حتى على المُزَنيّ تلميذِهِ، وقَدْ عُدَّ المُجدّدَ على رأس ثلاثِ مئةٍ، وأنْشَدَ فيه المنشِدُ: اثنانِ قَدْ ذَهَبا فَبُورِكَ فِيْهِما ... عُمَرُ الخَلِيفَةُ ثُمَّ حِلْفُ السُّؤْدَدِ الشَّافِعِيُّ الألْمَعِيُّ مُحَمَّدٌ ... إِرْثُ النُّبُوَّةِ وابنُ عَمِّ مُحَمَّدِ ¬

_ (¬28) نقله ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإِسلامية" ص: 62 - 64.

أبْشِرْ أَبَا العبَّاسِ إنَّكَ ثالِثٌ ... مِنْ بَعْدِهِمْ سُقْيا لِتُرْبَةِ أحمَدِ فهل تعدّونَه -معشرَ الأشعريَّة- مجسِّماً حين أثْبَتَ الكلامَ بالحُروفِ واللُّغاتِ، وشهِدَ عليكم بالتأويلِ المَذموم؟ أمْ ماذا أنتم قائلون؟ 5 - الإِمام الفقيه الحُجَّة أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرايينيّ، رأس الشافعية والمقدَّم فيهم: كان من أشدِّ الناس على الأشعريَّة، وبالخُصوص على مُحَقِّقهم الأكبر أبي بكر الباقلانيّ. قال الحافظُ أبو الحَسَن الكَرَجيُّ الشافعيُّ: "ولم يَزَل الأئمَّة الشافعيةُ يأنفونَ ويسْتَنكفونَ أنْ يُنْسَبوا إلى الأشعريّ، ويتبرَّؤونَ ممَّا بنى الأشعريُّ مذهَبَه عليْه، وينْهَوْنَ أصحابَهم وأحبابَهم عن الحَوْم حوالَيه، على ما سَمِعتُ عِدَّةً من المشايخ والأئمَّةِ -منهم الحافظ المؤتَمَن بن أحمد بن علي السَّاجيّ- يقولونَ: سَمِعْنَا جماعةً من المَشايخ الثّقاتِ قالوا: كانَ الشيخُ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإِسفراييني إمام الأئمَّة الذي طبقَ الأرضَ عِلْماً وأصْحاباً، إذا سعى إلى الجُمُعةِ من قطعيَّة الكَرَج إلى جامع المَنْصور، يدخُلُ الرّباطَ المَعروف بالزوزي، المُحاذِي للجامع، ويُقْبِل على مَنْ حضَرَ، ويقولُ: اشْهَدوا عليَّ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، كما قالَه الإِمامُ ابنُ حنبل، لا كما يقولُه الباقلانيّ، وتكرَّرَ ذلك منه جُمُعات، فقيلَ له في ذلك، فقال: حتى ينتشرَ في الناس، وفي أهْلِ الصَّلاحِ، ويشيعَ الخبرُ في أهل البلاد: أنِّي بَريءٌ ممَّا هم عليه -يعني الأشعريَّة- وبريءٌ من مَذْهَب أبي بكرَ بن الباقلّاني، فإنَّ جماعةً من المُتفقّهةِ الغُرَباءِ يدخلونَ على الباقلّاني خُفْيَةً، ويقرؤونَ عليه، فيُفْتَنونَ بمَذْهَبهِ، فإذا رجَعوا إلى

بلادهم أظهَروا بدْعَتَهم لا مَحالةَ، فيظنّ ظانٌّ أنَّهم مِنّي تعلَّموهُ قَبْلَه، وأنا ما قُلتُهُ، وأنا بَريءٌ من مَذْهَبِ الباقلّانيّ وعقيدتهِ" (¬29). قلتُ: فبالله عليكم معشرَ الأشعرية! أتُرَوْنَ الإِمامَ أبا حامد بَرِيء من التَّوحيدِ الصَّحيح حين بَرِىءَ من اعتقادِكم؟ أم هو مجسّمٌ يَدعو الناسَ إلى التشبيهِ وعدَم التنزيهِ؟ ولماذا فرق بين اعتقادِ الإِمام أحمد بن حنبل والباقلّاني، معَ أنَّه أفْضَلُ أئمَّتِكُم وأعظمُهم قَدراً؟ ولماذا يُشَهِّر به على رؤوسِ الناس؟ بل إنَّه قد شَهدَ عليه بأشدَّ من ذلك. قالَ الإِمام أبو بكر عُبَيد الله بن أحمدَ الزاذقانيُّ (وكانَ ثِقَةٌ فاضِلاً): "كنتُ في دَرْس الشَّيخ أبي حامدٍ الإِسفرايينيّ، وكانَ ينهى أصحابَه عن الكَلامٍ وعن الدُّخول على الباقلّاني، فبلَغَه أنَّ نَفراً من أصحابهِ يدخُلونَ عليه خُفْيَةً لقراءة الكَلام، فظنَّ أنّي معَهم ومنهم" -وذكر قصَّة قالَ في آخرها: "إنَّ الشيخ أبا حامد قالَ لي: يا بُنَيّ، قد بلغَني أنَّكَ تدخلُ على هذا الرَّجل -يعني الباقلّاني- فإيَّاك وإيَّاهُ، فإنَّه مُبْتَدعٌ يدعو الناس إلى الضَّلالة، وإلاَّ فلا تحضُرْ مَجْلِسي، فقلتُ: أنا عائذ بالله مما قيلَ وتائبٌ إليه، واشْهَدوا عليَّ أنِّي لا أدخُل إليه" (¬30). ¬

_ (¬29) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 96 - 97. (¬30) رواه أبو الحسن الكَرَجي -كما في "درء التعارض"2/ 97 - بسند صحيح.

رَحِمَ الله الشَّيخَ أبا حامد، ما أشبهه بالأئمَّة الأوائلِ في التَّحذيرِ من أهْل البِدَع، والنَّهْي عن مُجالَسَتِهم. وقال رحمه الله: "مَذْهَبي ومَذْهَبُ الشَّافعيّ وفُقَهاء الأمْصارِ: أنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومن قال: مخلوقٌ، فهو كافرٌ، والقرآنُ حملَهُ جبريلُ مَسْموعًا من الله تعالى، والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعهُ من جبريل، والصَّحابةُ سَمِعوهُ من رَسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي نتلوهُ نحنُ بألسنَتِنا، وفيما بينَ الدَّفَّتين، وما في صُدورنا، مَسْموعًا ومَكْتوبًا، ومَحْفوظًا ومَنْقوشًا، وكلّ حَرْفٍ منه كالباءِ، والتَّاءِ، كلّهُ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، ومَن قالَ: مَخلوقٌ، فهو كافرٌ، عليهِ لَعائنُ الله والملائكةِ والنَّاسِ أجمعينَ" (¬31). قلتُ: فانْهارَ بنيانُكم معشَر الأشعرية. وأمَّا أنْتُمْ أيُّها الأصحابُ السَّلفيونَ، فإنْ كانتْ تغرُّكم الكثرةُ من المُنْتسبينَ إلى الأشعري، فاعْلموا أنَّ الكثرةَ في أوَّلِ حالِ الأشعرية كانت على تبدِيعها وذمّ اعتقادِها، وهؤلاء الذين ذكَرْناهُم من الأئمَّةِ ومن يأتي ذكرُهم وما قالوه في حقّ الأشعريةِ، من أئمَّة الشافعيةِ والحنابلةِ وغيرهم، مِمَّن كانَ أصحابُهم إنَّما يصدرونَ عن أقوالِهم وكلامهم، لَهُوَ أكبرُ شاهدٍ على ما أقولُ، ولكن حين تباعَدَ الزَّمانُ ازدادَ الإعراضُ عن القرآنِ والسُّنَن وهَدْي السَّلَف والأئمَّةِ، فكَثُرَ أهلُ البِدَع. ¬

_ (¬31) رواه أبو الحسن الكَرَجي -كما في "درء التعارض" 2/ 95 - 96 - بسند صحيح.

6 - الإِمام أبو الحُسَين يحيى بن أبي الخَيْر العمرانيّ، فقيه الشَّافعية وإمامهم ببلاد اليمن: قالَ الإِمام ابن القيّم: "له كتابٌ لطيفٌ في السُّنَّة على مَذْهَب أهل الحديث، صرَّحَ فيه بمَسْألةِ الفَوْقيَّةِ والعُلُوّ، والاستواءِ حقيقةً، وتَكَلُّمِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا القرآن العربيّ المَسموع بالآذان حَقيقةً، وأنَّ جبرائيلَ عليه الصَّلاة والسَّلام سَمِعَه من الله سُبحانه حقيقةً، وصرَّحَ فيه بإثباتِ الصِّفاتِ الخبرية، واحتجَّ بذلك ونصَرَه، وصرَّحَ بمخالفةِ الجَهمية النُّفاة" (¬32). 7 - الإِمام أبو عبد الله الحسن بن حامد، شيخ الحنابلة: كان مِمَّن أنكرَ اعتقادَ الأشعرية (¬33). 8 - الإِمام الحافظ أبو نَصْر السِّجْزي، شيخ السنة: له في ذلك كتاب "الإِبانة الكبرى في أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوق" (¬34) وقد حكَيْتُ عنه بعضَ كلامه فيما سَبق في هذا الكتاب، وهو من أشدِّ الناس على الأشعريَّةِ، بل إنَّه قد بالغَ في ذلك حتى قال: "لم يكن خلافٌ بين الخَلْق على اخْتِلاف نِحَلِهم، من أوَّل الزَّمانِ إلى الوَقْتِ الذي ظهَر فيه ابن كُلّاب، والقَلانسيُّ، والأشعريُّ، وأقرانُهم، الذين يتظاهرونَ بالرَّدِّ على المُعتزلة وهم معَهم، بل أخسّ حالًا منهم في الباطن، من أنَّ الكلامَ لا يكونُ إلَّا حَرْفًا وصَوْتًا، ذا تأليفٍ واتّساقٍ، وإن اختلفتْ به اللُّغاتُ" (¬35). ¬

_ (¬32) "اجتماع الجيوش الإِسلامية" ص: 71. (¬33) "درء التعارض" 2/ 100. (¬34) "سير أعلام النبلاء" 17/ 654. (¬35) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 83.

9 - الإِمام الحُجَّة الحافظ أبو القاسم سعد بن علي الزَّنجاني: كان من مُنكري اعتقاد الأشعرية (¬36). 10 - الإِمام قِوَام السُّنَّة إسماعيل بن محمد بن الفَضْل الأصبَهاني: قال: "قال أصحابُ الحَديث وأهلُ السُّنَّة: إنَّ القرآنَ المكتوب الموجودَ في المَصاحفِ، والمحفوظَ الموجودَ في القلوبِ، هو حقيقةً كلامُ الله -عَزَّ وَجَلَّ-، بخلافِ ما زعَمَ قوْمٌ: أنَّه عبارةٌ عن حقيقةِ الكلام القائم بذاتِ الله -عَزَّ وَجَلَّ- ودَلالةٌ عليه، والَّذي هو في المُصْحَف مُحْدَثٌ وحُروفٌ مَخلوقةٌ، ومَذْهَبُ علماءِ السُّنَّةِ وفُقَهائهم: أنَّه الذي تكلَّمَ الله به، وسَمِعَه جبريلُ من الله، وأدَّى جبريلُ إلى النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وتحدَّى به النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وجعلَه الله -عَزَّ وَجَلَّ- دلالةً على صِدْقِ نبوَّتِهِ ومُعجزةً، وأدَّى النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى الصَّحابَةِ رضوانُ الله عليهم حسبَ ما سَمِعَه من جبريلَ عليه السَّلام، ونقَلَه السَّلَفُ إلى الخَلَفِ قَرْنًا بعدَ قَرْنٍ" (¬37). 11 - الحافظ الفقيه العَلَم موفّق الدين ابن قدامة المَقْدسيّ: ولا يخفى قدرُهُ وفضلُهُ، قد كانَ رحمه الله شديدًا جدًّا على الأشعريَّة، وله في ذلك تصانيف في الرَّدّ عليهم، وإظهار باطلهم، وقَدْ كانَ مشهورًا ما بين آل قُدامَة وآل عَساكِر من النَّفْرَةِ بسَبَبِ الاعتقادِ. وخلائق سِوى مَن ذَكَرْنا لا يُحصِيهم إلَّا الله من الأوائلِ والأواخِرِ، كانوا جَميعًا على إنكارِ اعتقادِ الأشعريَّةِ وأشباهِهم في مسألةِ القرآنِ، واعتقادِ ¬

_ (¬36) "درء تعارض العقل والنقل" 2/ 101. (¬37) "الحجَّة" ق 103/ ب - 104/ أ.

خلافِ ما يعتقدونَ، وهم في ميزانِ الأشعريَّةِ مُشَبّهةٌ مُجَسّمةٌ، معَ أنَّهم عالَةٌ على أكثرِهم في الفِقْهِ والعِلْمِ. وفي الجُمْلة فإنَّ قولَ الأشعريَّة والماتُريديَّة في كلام الله تعالى، ليسَ هو قولَ السَّلَف، بل ولا يعْرفُه السَّلَفُ، وإنَّما هو اعتقادٌ مبتَدَعٌ زائغٌ، موافِقٌ في حقيقةِ الحالِ لاعتقادِ الجَهْميَّة الذين كفَّرهم السَّلَفُ وهَجَروهم، وأمَروا بهَجْرِهم، وإظهارِ باطِلِهم والتَّحْذيرِ منهم. قال شيخُ الإِسلام: "وإنكارُ تَكَلُّمِ الله بالصَّوْتِ وجَعْلُ كلامهِ معنًى واحدًا قائمًا بالنفس بدْعَةٌ باطلةٌ لم يذهَبْ إليها أحدٌ من السَّلَف والأئمَّةِ" (¬38). وقال: "وهؤلاء يردُّونَ على الخلْقيَّةِ -يريدُ المعتزلةَ- الذينَ يقولونَ: القُرآن مخلوقٌ، ويقولونَ عن أنْفُسِهم: إنَّهم أهْلُ السُّنَّة المُوافقونَ للسَّلَف الذين قالوا: إنَّ القرآنَ كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وليسَ قولُهم قَوْلَ السَّلَف، لكنْ قَوْلُهم أقْرَبُ إلى قَولِ السَّلَفِ من وجهٍ، وقَوْلُ الخَلْقيةِ أقْرَبُ إلى قَوْلِ السَّلَفِ من وجْهٍ" (¬39). قُلْتُ: وهذا القرْبُ لا يَجْعَلُهم من أهْلِ السُّنَّة، كما أنَّ قُرْبَ المعتزلةِ لم يَجْعَلْهم من أهْل السُّنَّة. وقالَ شيخ الإِسلام أيضًا: "فكُلُّ من المُعتزلةِ والأشعريَّةِ في مسائل كلامِ الله وأفعالِ الله، بل وسائِر صفاتهِ، وافَقوا السَّلَفَ والأئمَّةَ من وجْهٍ، ¬

_ (¬38) "مجموع الفتاوى" 6/ 528. (¬39) "مجموع الفتاوى" 12/ 132.

وخالَفوهم من وجْهٍ، وليسَ قَوْلُ أحدِهما هو قولَ السَّلَف دونَ الآخَر، لكن الأشعريَّةَ في جِنْسِ مسائل الصِّفاتِ، بل وسائِرِ الصِّفاتِ والقَدَر أقْرَب إلى قَوْلِ السَّلَف والأئمَّةِ من المُعتزلة" (¬40). وكلامُ شيخ الإِسلام فيهم لا يُحصى كثرةً، وهذا من أسْبابِ نقمتِهم عليه، وقد ضمَّنتُ الكثيرَ من ذلك كتابي هذا. قلتُ: فالأشعريَّةُ والماتُريديَّةُ إذًا لا يصِحُّ أنْ يكونوا هم أهْلَ السُّنَّة، لِما جانبوا فيه السُّنَّة، وترَكوا فيه طريقَ السَّلَف والأئمَّة، إذْ بدعَتُهم من شرِّ أنواعِ البدَعِ، إنْ لم تكنْ شرَّها وأسوأها، ولولا التأويلُ الذي وقَعوا بسببهِ في مُخالفةِ اعتقادِ السَّلَف لكانَ للكلامِ معهُم صورةٌ أخرى!!. فتأمَّل أخي ذلك واحْذَرْ مخالفةَ ما جاءَ به الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-، وتَرْك سبيلِ المؤمنينَ من أهلِ خير القرون، ولا تَسْتَهوينَّكَ الأراءُ والظُّنون فتقول على الله غير الحقّ، وتُجادل في آياتهِ بالباطل. ومَن للذَّبّ عنِ السُّنَن والعَقيدةِ السَّلَفية إن نحنُ واطَأنا المُبتدِعَةَ واعْتذَرْنا لهم وجَادَلْنا عنهم؟ فالله المُستعانُ على ما آل إليه الحالُ من غُرْبَةِ السُّنَّة وظُهورِ البِدَع، وهو حسبنا ونعم الوكيل. • • • • • ¬

_ (¬40) "مجموع الفتاوى" 12/ 134 - 135.

خاتمة

خاتمة بعد هذا البَسْط للعَقيدة السَّلفية واعتقادِ أهل البدَع، وبه تمَّ المُراد، أذكرُ في الختام -بإيجاز- أهمَّ الأسباب التي وقعَ بسَببِها الاغترارُ بأهل البدَع -وخاصَّة الأشعرية والماتُريدية- مع الذَّبِّ المُوافقِ للشَّرْع عمَّن عُرِفَ بالإِمامةِ في الحَديثِ والفقْهِ وغير ذلكَ من علومِ الشَّريعةِ معَ انتسابهِ إلى هذه الطوائف. فمن أسبابِ الاغترار بأهل البدَع -كالأشعرية ونحوهم-: 1 - دَعْواهم الانتساب إلى أهْل السُّنَّة والحَدِيث، وتأكيدُهم ذلك باشتغالِهم بعلوم السُّنَّةِ، وإسنادِ الرِّوايات، مِمَّا هو شِعارُ السَّلَف والأئمَّة. 2 - انتصارُهم للسُّنن في المَسائل الفَرْعيَّة، والدِّفاع عنها، وتَصنيف المصنفات في ذلك. 3 - اشتهارُ الكثير منهم بالدِّيانةِ والصَّلاح، والأمْرِ بالمَعروفِ والنَّهي عن المُنْكَر، والجِهادِ في سبيل الله. 4 - اشتغالُهم بالرَّدِّ على الطَّوائفِ المُخالفةِ لشريعة الإِسلام،

كرُدودِ الأشعرية على المعتزلةِ، والرُّدودِ على الفَلاسِفة. 5 - كثرةُ الموافقينَ لهم على مَرّ الزَّمان. هذه أهمُّ الأسباب التي اغترَّ بها كثيرٌ من الناس، فهوّنوا من بدَع هؤلاء، بل إنَّهم جعَلوها ستْرًا يسترونَ به فضائحَ أهْلِ البدَع، وغفلَ هؤلاء عن كَوْنِ الضَّلالِ في الاعتقادِ أعْظَمَ الضَّلالِ، وقد كشَفْنا لكَ في قضيةٍ واحدةٍ، وهي قضية (الكلام) عن أباطيلَ مُذْهلةٍ، وضلالاتٍ مُهوّلةٍ. وهذه الأسبابُ التي ذكَرْنا يُعَدُّ أكثرُها حسَنات لهؤلاء المبتدعةِ، لا نَبْخَسُهم أشياءَهم، وربُّنا تعالى أمَرَ بالعَدْل في الحُكْم والقَوْل، فصاحبُ البِدْعَة قد يكونُ فاضلًا لمَعانٍ من الفَضْل فيه، ولكنْ لكَوْنِ ما زلَّ به عَظيمًا -بغَضّ النَّظَر عن قَصْدِهِ ومُرَادِهِ- لتعلُّقهِ بأصولِ الدِّين، وجبَ التنبيهُ على خَطَرِهِ نُصْحًا للأمَّةِ، لئلَّا يتضرَّرَ الناسُ ببدْعَتهِ، خاصَّةً إذا كانَ من ذَوي الفَضائل المَشهورةِ والخِصال المَحمودة، لأنَّ تأثُّرَ النَّاس بِمَن هذا وصفُه أشَدُّ من غيرهِ، ويبقى قصْدُهُ ومُرادُه فيما بينه وبينَ الله تعالى. وهذه طريقةُ السَّلَف، قال البَغَويُّ رحمه الله: "وقد مضَت الصَّحابةُ، والتابعونَ، وأتباعُهم، وعلماءُ السُّنَّة، على هذا مُجْمِعينَ، متَّفقينَ على مُعاداةِ أهْلِ البِدْعَةِ ومُهاجَرَتِهم" (¬1). ومَن طالَعَ كتبَ تراجم الرُّواة ثَبَتَ له صحِّةُ ذلك. فلا يَجوزُ للمُسلِم أنْ يُهَوِّنَ من شَأنِ البدَع، وإنْ وقعَتْ من فاضلٍ، فإنَّ ذلكَ مُنافٍ لِما أوجَبَ الله تعالى من النَّصيحةِ، ومُخالِفٌ لمَنْهج السَّلَف ¬

_ (¬1) "شرح السنَّة" 1/ 227.

ومواقِفهم من أهل البِدَع. وفي الأشعريَّة -مثلًا- علماءُ لهم قَدَمٌ في خِدْمَة الشَّريعةِ، أمثال: الحافِظَيْن أبي بكر البَيْهقي، وأبي القاسم بن عساكر، والإِمام العزّ بن عبد السَّلام، وغيرِهم من فُضَلاءِ الأشعرية، نذكُرُهم بما لَهم من المَحاسن، غير أنَّنا ننبّه على ما وَقعوا فيه من البِدْعَة، فإنَّ الحَقّ لا مُحاباةَ فيه، ولا تَمْنَعُنا بدعَتُهم من الانتفاعِ بعُلومهم في السُّنَنِ والفقهِ والتَّفْسيرِ والتَّاريخِ وغير ذلك، معَ الحَذَر. ولَنا أسْوةٌ بالسَّلَف والأئمَّة فإنَّهم رَوَوُا السُّنَنَ عن الكَثير من المبتَدعةِ لعِلْمهم بصِدْقِهم، مع نَعْتِهم لهم بالبدْعةِ. ونَجْتَنبُ التكفيرَ والتَّضليلَ والتَّفسيقَ للمُعَيَّن من هذا الصِّنْفِ من العُلماءِ، فإنَّ هذا ليسَ من مَنْهجِ السَّلَف، وإنَّما نكتفي ببيَانِ بِدْعَته وردِّها إذا تعرّضنا لها، أو خَشينا أن يتضرَّر بها الناس، مع اجتناب ذكْرهِ بالسُّوءِ في ذاتهِ بما يزيدُ على ذكر ما في بدعتهِ من مخالفة الدين لما قد يتعدَّى بنا إلى الغيبة المحرَّمة. وهذا كلُّهُ في حقّ العالِم إذا لَمْ تغْلِب عليه البِدَع والأهْواءُ، وعَلِمْنا منه حرصَهُ على متابعةِ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم-، وتحرّي الحقّ من الكتاب والسُّنَّة إلَّا أنَّه لم يُصِبْه لشُبْهة ما أو غير ذلك -شأن الكثير من متقدمي الأشَعريَّة خِلافًا لأكثرِ متأخّريهم، فإنَّ لكثيرٍ من مُتقدميهم اجتهادًا في طلَبِ الحقّ-. أمَّا إذا غلبَت عليه الأهواءُ ومُخالَفةُ صَريحِ الشَّريعةِ، ولم يكن متحرّيًا للحقّ من كتابِ الله وسُنَّة نبيّهِ -صلى الله عليه وسلم- فليسَ له توقيرٌ ولا حُرْمَةٌ ولا كرامةٌ.

نَسْألُ الله أن يهدينا الصِّراطَ المستقيمَ، وأن يُجنّبنا سُبُلَ الضَّلالَةِ، ونستغفرُهُ من زلَّةِ الفِكْر أو القلَم، هو حسْبُنا ونعْمَ الوكيل ولا حولَ ولا قُوَّةَ إلَّا به. وبهذا يَنْتهي ما أرَدْناه، والحَمْدُ لله ربِّ العالَمينَ.

§1/1