العقود الدرية من مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

ابن عبد الهادي

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم حسبي الله وَنعم الْوَكِيل قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْحَافِظ الْمُحَقق أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن احْمَد بن عبد الهادي الْمَقْدِسِي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وأثابه الْجنَّة بفضله وَرَحمته وإيانا وَسَائِر الْمُسلمين الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وَمن سيئات أَعمالنَا من يهده الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا أما بعد فَهَذِهِ نبذة يسيرَة مختصرة فِي ذكر حَال سيدنَا وَشَيخنَا شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس احْمَد بن تَيْمِية رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وأثابه الْجنَّة برحمته وَذكر بعض مناقبه وَبَعض مصنفاته

هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الربابي إِمَام الْأَئِمَّة ومفتي الْأمة وبحر الْعُلُوم سيد الْحفاظ وَفَارِس الْمعَانِي والألفاظ فريد الْعَصْر وقريع الدَّهْر شيخ الْإِسْلَام بركَة الْأَنَام وعلامة الزَّمَان وترجمان الْقُرْآن علم الزهاد وأوحد الْعباد قامع المبتدعين وَآخر الْمُجْتَهدين تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس احْمَد بن الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة شهَاب الدّين أبي المحاسن عبد الحليم ابْن الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين أبي البركات عبد السلام بن أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْقَاسِم الْخضر بن مُحَمَّد بن الْخضر بن عَليّ بن عبد الله ابْن تَيْمِية الْحَرَّانِي نزيل دمشق وَصَاحب التصانيف الَّتِي لم يسْبق إِلَى مثلهَا قيل إِن جده مُحَمَّد بن الْخضر حج على درب تيماء فَرَأى هُنَاكَ طفلة فَلَمَّا رَجَعَ وجد امْرَأَته قد ولدت لَهُ بِنْتا فَقَالَ يَا تَيْمِية يَا تَيْمِية فلقب بذلك قَالَ ابْن النجار ذكر لنا أَن جده مُحَمَّدًا كَانَت أمه تسمى تَيْمِية وَكَانَت واعظة فنسب إِلَيْهَا وَعرف بهَا ولد شَيخنَا أَبُو الْعَبَّاس بحران يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر وَقيل ثَانِي عشر [شهر] ربيع الأول سنة 661 هـ احدى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وسافر والداه بِهِ وبإخوته إِلَى الشأم عِنْد جور التتار فَسَارُوا بِاللَّيْلِ وَمَعَهُمْ الْكتب على عجلة لعدم الدَّوَابّ فكاد الْعَدو يلحقهم ووقفت العجلة فابتهلوا إِلَى الله واستغاثوا بِهِ فنجوا وسلموا

وَقدمُوا دمشق فِي أثْنَاء سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَسَمِعُوا من الشَّيْخ زين الدّين احْمَد بن عبد الدَّائِم بن نعْمَة الْمَقْدِسِي جُزْء ابْن عَرَفَة كُله ثمَّ سمع شَيخنَا الْكثير من ابْن أبي الْيُسْر والكمال ابْن عبد وَالْمجد بن عَسَاكِر وَأَصْحَاب الخشوعي وَمن الْجمال يحيى بن الصيرفى وَأحمد بن أبي الْخَيْر وَالقَاسِم الأربلي وَالشَّيْخ فَخر الدّين بن البُخَارِيّ والكمال عبد الرحيم وَأبي الْقَاسِم بن عَلان وَاحْمَدْ بن شَيبَان وَخلق كثير وشيوخه الَّذين سمع مِنْهُم أَكثر من مِائَتي شيخ وَسمع مُسْند الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل مَرَّات وَسمع الْكتب السِّتَّة الْكِبَار والأجزاء وَمن مسموعاته مُعْجم الطبرابي الْكَبِير وعني بِالْحَدِيثِ وَقَرَأَ وَنسخ وَتعلم الْخط والحساب فِي الْمكتب وَحفظ الْقُرْآن وَأَقْبل على الْفِقْه وَقَرَأَ الْعَرَبيَّة على ابْن عبد القوى ثمَّ فهمها وَأخذ يتَأَمَّل كتاب سِيبَوَيْهٍ حَتَّى فهم فِي النَّحْو وَأَقْبل على التَّفْسِير إقبالا كليا حَتَّى حَاز فِيهِ قصب السَّبق وَأحكم اصول الْفِقْه وَغير ذَلِك هَذَا كُله وَهُوَ بعد ابْن بضع عشرَة سنة فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وَقُوَّة حافظته وَسُرْعَة إِدْرَاكه

وَاتفقَ أَن بعض مَشَايِخ الْعلمَاء بحلب قدم إِلَى دمشق وَقَالَ سَمِعت فِي الْبِلَاد بصبي يُقَال لَهُ احْمَد بن تَيْمِية وَأَنه سريع الْحِفْظ وَقد جِئْت قَاصِدا لعَلي أرَاهُ فَقَالَ لَهُ خياط هَذِه طَرِيق كِتَابه وَهُوَ إِلَى الْآن مَا جَاءَ فَاقْعُدْ عندنَا السَّاعَة يَجِيء يعبر علينا ذَاهِبًا إِلَى الْكتاب فَجَلَسَ الشَّيْخ الْحلَبِي قَلِيلا فَمر صبيان فَقَالَ الْخياط للحلبي هذاك الصَّبِي الَّذِي مَعَه اللَّوْح الْكَبِير هُوَ احْمَد بن تَيْمِية فناداه الشَّيْخ فجَاء إِلَيْهِ فَتَنَاول الشَّيْخ اللَّوْح فَنظر فِيهِ ثمَّ قَالَ يَا وَلَدي امسح هَذَا حَتَّى أملي عَلَيْك شَيْئا تكتبه فَفعل فأملى عَلَيْهِ من متون الْأَحَادِيث أحد عشر أَو ثَلَاثَة عشر حَدِيثا وَقَالَ لَهُ اقْرَأ هَذَا فَلم يزدْ على أَن تَأمله مرّة بعد كِتَابَته إِيَّاه ثمَّ دَفعه إِلَيْهِ وَقَالَ اسْمَعْهُ عَليّ فقرأه عَلَيْهِ عرضا كأحسن مَا أَنْت سامع فَقَالَ لَهُ يَا وَلَدي امسح هَذَا فَفعل فأملى عَلَيْهِ عدَّة أَسَانِيد انتخبها ثمَّ قَالَ اقْرَأ هَذَا فَنظر فِيهِ كَمَا فعل أول مرّة فَقَامَ الشَّيْخ وَهُوَ يَقُول إِن عَاشَ هَذَا الصَّبِي لَيَكُونن لَهُ شَأْن عَظِيم فَإِن هَذَا لم ير مثله أَو كَمَا قَالَ وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ نَشأ يَعْنِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَحمَه الله فِي تصون تَامّ وعفاف وتأله وَتعبد واقتصاد فِي الملبس والمأكل وَكَانَ يحضر الْمدَارِس والمحافل فِي صغره ويناظر ويفحم الْكِبَار وَيَأْتِي بِمَا يتحير مِنْهُ أَعْيَان الْبَلَد فِي الْعلم فَأفْتى وَله تسع عشرَة سنة بل أقل وَشرع فِي الْجمع والتأليف من ذَلِك الْوَقْت وأكب على الِاشْتِغَال وَمَات

وَالِده وَكَانَ من كبار الْحَنَابِلَة وأئمتهم فدرس بعده بوظائفه وَله إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة واشتهر أمره وَبعد صيته فِي الْعَالم وَأخذ فِي تَفْسِير الْكتاب الْعَزِيز فِي الْجمع على كرْسِي من حفظه فَكَانَ يُورد الْمجْلس وَلَا يتعلثم وَكَذَا كَانَ الدَّرْس بتؤدة وَصَوت جَهورِي فصيح وَقَالَ بعض قدماء أَصْحَاب شَيخنَا وَقد ذكر نبذة من سيرته أما مبدأ أمره ونشأته فقد نَشأ من حِين نَشأ فِي حجور الْعلمَاء راشفا كؤوس الْفَهم راتعا فِي رياض التفقه ودوحات الْكتب الجامعة لكل فن من الْفُنُون لَا يلوي إِلَى غير المطالعة والاشتغال وَالْأَخْذ بمعالي الْأُمُور خُصُوصا علم الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة النَّبَوِيَّة ولوازمها وَلم يزل على ذَلِك خلفا صَالحا سلفيا متألها عَن الدُّنْيَا صينا تقيا برا بِأُمِّهِ ورعا عفيفا عابدا ناسكا صواما قواما ذَاكِرًا لله تَعَالَى فِي كل أَمر وعَلى كل حَال رجاعا إِلَى الله تَعَالَى فِي سَائِر الْأَحْوَال والقضايا وقافا عِنْد حُدُود الله تَعَالَى وأوامره ونواهيه آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر بِالْمَعْرُوفِ لَا تكَاد نَفسه تشبع من الْعلم فَلَا تروى من المطالعة وَلَا تمل من الأشتغال وَلَا تكل من الْبَحْث وَقل أَن يدْخل فِي علم من الْعُلُوم من بَاب من أبوابه إِلَّا وَيفتح لَهُ من ذَلِك الْبَاب أَبْوَاب ويستدرك مستدركات فِي ذَلِك الْعلم على حذاق اهله مَقْصُوده الْكتاب وَالسّنة وَلَقَد سمعته فِي مبادىء أمره يَقُول إِنَّه ليقف خاطري فِي الْمَسْأَلَة وَالشَّيْء

أَو الْحَالة الَّتِي تشكل على فأستغفر الله تَعَالَى ألف مرّة أوأكثر أَو أقل حَتَّى ينشرح الصَّدْر وينحل إِشْكَال مَا أشكل قَالَ وأكون اذ ذَاك فِي السُّوق أَو الْمَسْجِد أَو الدَّرْب أَو الْمدرسَة لَا يَمْنعنِي ذَلِك من الذّكر وَالِاسْتِغْفَار إِلَى أَن أنال مطلوبي قَالَ هَذَا الصاحب وَلَقَد كنت فِي تِلْكَ الْمدَّة وَأول النشأة إِذا اجْتمعت بِهِ فِي ختم أَو مجْلِس ذكر خَاص مَعَ أحد الْمَشَايِخ الْمَذْكُورين وتذاكروا وَتكلم مَعَ حَدَاثَة سنه أجد لكَلَامه صولة على الْقُلُوب وتأثيرا فِي النُّفُوس وهيبة مَقْبُولَة ونفعا يظْهر أَثَره وتنفعل لَهُ النُّفُوس الَّتِي سمعته أَيَّامًا كَثِيرَة بعقبه حَتَّى كَانَ مقاله بِلِسَان حَاله وحاله ظَاهر لَهُ فِي مقاله شهِدت ذَلِك مِنْهُ غير مرّة قلت ثمَّ لم يبرح شَيخنَا رَحمَه الله فِي ازدياد من الْعُلُوم وملازمة الِاشْتِغَال والاشغال وَبث الْعلم ونشره وَالِاجْتِهَاد فِي سبل الْخَيْر حَتَّى انْتَهَت إِلَيْهِ الامامة فِي الْعلم وَالْعَمَل والزهد والورع والشجاعة وَالْكَرم والتواضع والحلم والإنابة وَالْجَلالَة والمهابة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَسَائِر أَنْوَاع الْجِهَاد مَعَ الصدْق والعفة والصيانة وَحسن الْقَصْد وَالْإِخْلَاص والابتهال إِلَى الله وَكَثْرَة الْخَوْف مِنْهُ وَكَثْرَة المراقبة لَهُ وَشدَّة التَّمَسُّك بالأثر وَالدُّعَاء إِلَى الله وَحسن الْأَخْلَاق

ونفع الْخلق وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَالصَّبْر على من آذاه والصفح عَنهُ وَالدُّعَاء لَهُ وَسَائِر أَنْوَاع الْخَيْر وَكَانَ رَحمَه الله سَيْفا مسلولا على الْمُخَالفين وشجى فِي حلوق أهل الْأَهْوَاء المبتدعين وإماما قَائِما بِبَيَان الْحق ونصرة الدّين وَكَانَ بحرا لَا تكدره الدلاء وحبرا يَقْتَدِي بِهِ الأخيار الألباء طَنَّتْ بِذكرِهِ الْأَمْصَار وضنت بِمثلِهِ الْأَعْصَار قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج مَا رَأَيْت مثله وَلَا رأى هُوَ مثل نَفسه وَمَا رَأَيْت أحدا أعلم بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله وَلَا أتبع لَهما مِنْهُ وَقَالَ الْعَلامَة كَمَال الدّين بن الزملكاني كَانَ إِذا سُئِلَ عَن فن من الْعلم ظن الرَّائِي وَالسَّامِع أَنه لَا يعرف غير ذَلِك الْفَنّ وَحكم أَن أحدا لَا يعرفهُ مثله وَكَانَ الْفُقَهَاء من سَائِر الطوائف إِذا جَلَسُوا مَعَه استفادوا فِي مذاهبهم مِنْهُ مَا لم يَكُونُوا عرفوه قبل ذَلِك وَلَا يعرف أَنه نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَلَا تكلم فِي علم من الْعُلُوم سَوَاء أَكَانَ من عُلُوم الشَّرْع أم غَيرهَا إِلَّا فاق فِيهِ أَهله والمنسوبين إِلَيْهِ وَكَانَت لَهُ الْيَد الطُّولى فِي حسن

التصنيف وجودة الْعبارَة وَالتَّرْتِيب والتقسيم والتبيين وَوَقعت مَسْأَلَة فرعية فِي قسْمَة جرى فِيهَا اخْتِلَاف بَين الْمُفْتِينَ فِي الْعَصْر فَكتب فِيهَا مجلدة كَبِيرَة وَكَذَلِكَ وَقعت مَسْأَلَة فِي حد من الْحُدُود فَكتب فِيهَا مجلدة كَبِيرَة وَلم يخرج فِي كل وَاحِدَة عَن الْمَسْأَلَة وَلَا طول بتخليط الْكَلَام وَالدُّخُول فِي شَيْء وَالْخُرُوج من شَيْء وأتى فِي كل وَاحِدَة بِمَا لم يكن يجْرِي فِي الأوهام والخواطر وَاجْتمعت فِيهِ شُرُوط الِاجْتِهَاد على وَجههَا وقرأت بِخَط الشَّيْخ كَمَال الدّين أَيْضا على كتاب بَيَان الدَّلِيل على إبِْطَال التَّحْلِيل لشَيْخِنَا وَقد ذكر تَرْجَمته فَقَالَ من مصنفات سيدنَا وَشَيخنَا وقدوتنا الشَّيْخ السَّيِّد الإِمَام الْعَلامَة الأوحد البارع الْحَافِظ الزَّاهِد الْوَرع الْقدْوَة الْكَامِل الْعَارِف تَقِيّ الدّين شيخ الْإِسْلَام ومفتي الْأَنَام سيد الْعلمَاء قدوة الْأَئِمَّة الْفُضَلَاء نَاصِر السّنة قامع الْبِدْعَة حجَّة الله على الْعباد راد أهل الزيغ والعناد أوحد الْعلمَاء العاملين آخر الْمُجْتَهدين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي حفظ الله على الْمُسلمين طول حَيَاته وَأعَاد عَلَيْهِم من بركاته إِنَّه على كل شَيْء قدير وقرأت أَيْضا بِخَطِّهِ على كتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام

تأليف الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الأوحد الْحَافِظ الْمُجْتَهد الزَّاهِد العابد الْقدْوَة إِمَام الْأَئِمَّة قدوة الْأمة عَلامَة الْعلمَاء وَارِث الْأَنْبِيَاء آخر الْمُجْتَهدين أوحد عُلَمَاء الدّين بركَة الْإِسْلَام حجَّة الْأَعْلَام برهَان الْمُتَكَلِّمين قامع المبتدعين محيي السّنة وَمن عظمت بِهِ لله علينا الْمِنَّة وَقَامَت بِهِ على أعدائه الْحجَّة واستبانت ببركته وهديه المحجة تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السلام بن تَيْمِية الْحَرَّانِي أَعلَى الله مناره وشيد بِهِ من الدّين أَرْكَانه ... مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جلت عَن الْحصْر هُوَ حجَّة لله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الدَّهْر هُوَ آيَة لِلْخلقِ ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر ... وقرأت على آخر هَذَا الْكتاب طبقَة بِخَط الذَّهَبِيّ يَقُول فِيهَا سمع جَمِيع هَذَا الْكتاب على مُؤَلفه شَيخنَا الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الأوحد شيخ الْإِسْلَام مفتي الْفرق قدوة الْأمة أعجوبة الزَّمَان بَحر الْعُلُوم حبر الْقُرْآن تَقِيّ الدّين سيد الْعباد احْمَد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تَيْمِية الْحَرَّانِي رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ الشَّيْخ الْحَافِظ فتح الدّين أَبُو الْفَتْح بن سيد النَّاس الْيَعْمرِي

الْمصْرِيّ بعد أَن ذكر تَرْجَمَة شَيخنَا الْحَافِظ جمال الدّين أبي الْحجَّاج الْمزي وَهُوَ الَّذِي حداني على رُؤْيَة الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن الْحَلِيم بن عبد السلام بن تَيْمِية فَأَلْفَيْته مِمَّن أدْرك من الْعُلُوم حظا وَكَاد يستوعب السّنَن والْآثَار حفظا إِن تكلم فِي التَّفْسِير فَهُوَ حَامِل رايته أَو أفتى فِي الْفِقْه فَهُوَ مدرك غَايَته أَو ذَاكر بِالْحَدِيثِ فَهُوَ صَاحب علمه وَذُو رِوَايَته أَو حَاضر بالنحل والملل لم ير أوسع من نحلته فِي ذَلِك وَلَا أرفع من درايته برز فِي كل فن على أَبنَاء جنسه وَلم تَرَ عين من رَآهُ مثله وَلَا رَأَتْ عينه مثل نَفسه كَانَ يتَكَلَّم فِي التَّفْسِير فيحضر مَجْلِسه الجم الْغَفِير ويردون من بَحر علمه العذب النمير ويرتعون من ربيع فَضله فِي رَوْضَة وغدير إِلَى أَن دب إِلَيْهِ من أهل بَلَده دَاء الْحَسَد وألب أهل النّظر مِنْهُم على مَا ينْتَقد عَلَيْهِ [فِي] حنبليته من أُمُور المعتقد فحفظوا عَنهُ فِي ذَلِك كلَاما أَو سعوه بِسَبَبِهِ ملاما وفوفوا لتبديعه سهاما وَزَعَمُوا أَنه خَالف طريقهم وَفرق فريقهم فنازعهم ونازعوه وقاطع بَعضهم وقاطعوه ثمَّ نَازع طَائِفَة أُخْرَى ينتسبون من الْفقر إِلَى طَريقَة ويزعمون أَنهم على أدق بَاطِن مِنْهَا وَأجلى حَقِيقَة فكشف تِلْكَ الطرائق وَذكر لَهَا

على مَا زعم بوائق فآضت إِلَى الطَّائِفَة الأولى من منازعيه واستعانت بذوي الضغن عَلَيْهِ من مقاطعيه فوصلوا بالأمراء أمره وأعمل كل مِنْهُم فِي كفره فكره فَكَتَبُوا محَاضِر وألبوا الرويبضة للسعي بهَا بَين الأكابر وَسعوا فِي نَقله إِلَى حَضْرَة المملكة بالديار المصرية فَنقل وأودع السجْن سَاعَة حُضُوره واعتقل وعقدوا لإراقة دَمه مجَالِس وحشدوا لذَلِك قوما من عمار الزوايا وسكان الْمدَارِس من محامل فِي الْمُنَازعَة مخاتل بالمخادعة وَمن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة يسومونه ريب الْمنون {وَرَبك يعلم مَا تكن صُدُورهمْ وَمَا يعلنون} وَلَيْسَ المجاهر بِكُفْرِهِ بِأَسْوَأ حَالا من المخاتل وَقد دبت إِلَيْهِ عقارب مكره فَرد الله كيد كل فِي نَحره فَنَجَّاهُ على يَد من اصطفاه وَالله غَالب على أمره ثمَّ لم يخل بعد ذَلِك من فتْنَة بعد فتْنَة وَلم ينْتَقل طول عمره من محنة إِلَّا إِلَى محنة إِلَى أَن فوض أمره لبَعض الْقُضَاة فقلد مَا تقلد من اعتقاله وَلم يزل بمحبسه ذَلِك إِلَى حِين ذَهَابه إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وانتقاله وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور وَهُوَ المطلع على خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور وَكَانَ يَوْمه مشهودا ضَاقَتْ بجنازته الطَّرِيق وانتابها الْمُسلمُونَ من كل فج عميق يتبركون بمشهده يَوْم يقوم الأشهاد ويتمسكون بشرجعه حَتَّى كسروا تِلْكَ الأعواد وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الْعشْرين من ذِي الْقعدَة

سنة 728 ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة بقلعة دمشق المحروسة وَكَانَ مولده بحران فِي عَاشر شهر ربيع الأول من سنة 661 إِحْدَى وَسِتِّينَ وستماية رَحمَه الله وإيانا ثمَّ قَالَ قَرَأت على الشَّيْخ الإِمَام حَامِل راية الْعُلُوم ومدرك غَايَة الفهوم تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس احْمَد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تَيْمِية رَحمَه الله بِالْقَاهِرَةِ قدم علينا قلت لَهُ أخْبركُم الشَّيْخ الإِمَام زين الدّين أَبُو الْعَبَّاس احْمَد بن عبد الدَّائِم بن نعْمَة الْمَقْدِسِي ثمَّ ذكر حَدِيثا من جُزْء ابْن عَرَفَة وَقَالَ الشَّيْخ علم الدّين البرزالي فِي مُعْجم شُيُوخه احْمَد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس الإِمَام الْمجمع على فَضله ونبله وَدينه قَرَأَ الْفِقْه وبرع فِيهِ والعربية وَالْأُصُول وَمهر فِي علمي التَّفْسِير والْحَدِيث وَكَانَ إِمَامًا لَا يلْحق غباره فِي كل شَيْء وَبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد وَاجْتمعت فِيهِ شُرُوط الْمُجْتَهدين وَكَانَ إِذا ذكر التَّفْسِير بهت النَّاس من كَثْرَة محفوظه وَحسن إِيرَاده وإعطائه كل قَول

مَا يسْتَحقّهُ من التَّرْجِيح والتضعيف والإبطال وخوضه فِي كل علم كَانَ الْحَاضِرُونَ يقضون مِنْهُ الْعجب هَذَا مَعَ انْقِطَاعه إِلَى الزّهْد وَالْعِبَادَة والاشتغال بِاللَّه تَعَالَى والتجرد من أَسبَاب الدُّنْيَا وَدُعَاء الْخلق إِلَى الله تَعَالَى وَكَانَ يجلس فِي صَبِيحَة كل جُمُعَة على النَّاس يُفَسر الْقُرْآن الْعَظِيم فَانْتَفع بمجلسه وبركة دُعَائِهِ وطهارة أنفاسه وَصدق نِيَّته وصفاء ظَاهره وباطنه وموافقة قَوْله لعمله وأناب إِلَى الله خلق كثير وَجرى على طَريقَة وَاحِدَة من اخْتِيَار الْفقر والتقلل من الدُّنْيَا رَحمَه الله تَعَالَى ورد مَا يفتح بِهِ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي مَوضِع آخر كَانَ قد نظم شَيْئا يَسِيرا فِي صغره وكتبت عَنهُ إِذْ ذَاك ثمَّ إِنَّه ترك ذَلِك وَأعْرض عَنهُ وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة الْقدر بنظم فَأجَاب فِيهَا بنظم وَقد قرىء عَلَيْهِ وَسمع مِنْهُ وَحل لغز الرشيد الفارقي بِأَبْيَات تشْتَمل على نَحْو مائَة بَيت على وزن اللغز وَذَلِكَ فِي حَيَاة وَالِده رَحمَه الله تَعَالَى وَله نَحْو الْعشْرين من الْعُمر وَكَانَ حلّه فِي أسْرع وَقت قلت هَذَا اللغز الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ علم الدّين نظمه الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة رشيد الدّين أَبُو حَفْص عمر بن اسماعيل بن مَسْعُود الفارقي فِي اسْم ألغزه بِوَصْف أبرزه فِي لفظ أوجزه لفهم أعجزه ... مَا اسْم ثلاثي الْحُرُوف فثلثه ... مثل لَهُ وَالثلث ضعف جَمِيعه ...

.. وَالثلث الآخر جَوْهَر حلت بِهِ ال ... أَعْرَاض جمعا فَأُعْجِبُوا لبديعه وَهُوَ المثلث جذره مثل لَهُ ... وَإِذا يربع بَان فِي تربيعه جُزْء من الْفلك الْعلي وَإِنَّمَا ... بَاقِيه خوف أَو أَمَان مروعه حَيّ جماد سَاكن متحرك ... إِن كنت ذَا نظر إِلَى تنويعه وتراه مَعَ خمسيه عِلّة كَونه ... معلوله سرا بِغَيْر مذيعه وَبِغير خمسيه جَمِيع النَّحْو مو ... جود ومحمول على مَوْضُوعه وبحاله فعل مضى مُسْتَقْبلا ... حمدت صناعته لحمد صَنِيعه قيد لمطلقه خُصُوص عُمُومه ... زيد لمفرده على مَجْمُوعه شَيْء مُقيم فِي الرحيل وممكن ... كالمستحيل بطيئه كسريعه وأهم مَا فِي الشَّرْع وَالدّين اسْمه ... ومضافه بأصوله وفروعه ودقيق مَعْنَاهُ الْجَلِيل مُنَاسِب ... علم الْخَلِيل وَلَيْسَ من تقطيعه وَإِذا عروضي تطلب حلّه ... ألفاه فِي المفروق أَو مَجْمُوعه وَإِذا ترصعه بدر فريده ... عقدا يزين الدّرّ فِي ترصيعه للمنطقي وللحكيم نتاجه ... وعلاجه بذهابه ورجوعه وَله شعار أشعري واعتقا ... دحنبلي فاعجبوا لوُقُوعه وَتَمَامه فِي قَول شَاعِر كِنْدَة ... مَا حَافظ للْعهد مثل مضيعه يرويك فِي ظمأ ندى بوروده ... ويريك فِي ظلم هدى بطلوعه ...

.. وَلَقَد حللت اللغز إِجْمَالا وَفِي ... تَفْصِيله تَفْصِيل روض رَبِيعه فاستجل بكرا من ولي بالحلى ... تهدى لكفء الْفضل بَين ربوعه ... فَأجَاب العَبْد الْفَقِير لي ربه أَحْمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابْن تَيْمِية حلا لمعضله وفصلا لمجمله وفتحا لمقفله وشرحا لمشكله ... يَا عَالما قد فاق أهل زَمَانه ... بفنونه وبياته وبديعه وَغدا لأعلام الْعُلُوم منارهم ... يهدي الهداة إِلَى مُنِير ربوعه وأجاد نظما عقد جيد عقيلة ... من در بَحر الْعلم فِي ترصيعه وجلا المعارف فِي عوارف لَفظه ... أخذا لعرف الْعلم من ينبوعه وَأَبَان عَمَّا قد حوى من كل فذ ... ن قد أحَاط بِأَصْلِهِ وفروعه ببيانه السحر الْحَلَال وَلَفظه ... العذب الزلَال وَلَفظ حسن صَنِيعه بغزير علم وافتنان وَاسع ... ألغزت علما فِي فنون وسيعه حليته بدقيق وصف صنته ... بجليل لفظ ناء عَن مَوْضُوعه ووصفته بحلى الْعُلُوم وَأَهْلهَا ... ونعته بضروبه وضروعه وجمعت فِي أَوْصَافه الأضدا ... د حَتَّى استيأس الطلاب من تتبيعه وَالْعَبْد لما أَن تَأمل نظمكم ... بنظامه ألْقى لَهُ فِي روعه أَن الَّذِي ألغزتم علم وَلم ... ايجعل المظنون من مقطوعه لكنه أَمْسَى يحليه بِمَا ... حليته ويغوص فِي توقيعه حَتَّى تجلى الْحق من ظلمائه ... فِي لَيْلَة من قبل وَقت هجوعه ...

.. فَإِذا الَّذِي قد عَن أول مرّة ... حق تبلج فجره بطلوعه وَرَأَيْت فِيهِ الْوَصْف إِمَّا باديا ... أَو خافيا مَعْنَاهُ فِي مسموعه لدقيق مغزاه ولطف إِشَارَة ... وَبعد حلاه عَن مَوْضُوعه فَغَدَوْت أكشف عَنهُ كشفا موجزا ... باشارة تهدي لشطر بقيعه فاسمع لحل حلاه فِي تَفْصِيله ... واشهد بقلب مقبل بهطوعه الْعلم لفظ ذُو ثَلَاثَة أحرف ... وهجاء كل مثل مَا مَجْمُوعه فَإِذا يكون مركبا من تِسْعَة ... جذرا لَهَا فَانْظُر إِلَى تربيعه ومربعا ساواه جذر حسابه ... ومثلثا بِحُدُودِهِ وضلوعه وَيكون أَثلَاثًا فثلث مثله ... هُوَ لامه إِن خضت فِي توزيعه وَالْمِيم فِي الْجمل الْكَبِير حسابه ... هُوَ أَرْبَعُونَ بقول أهل رَبِيعه وَالْمِيم فِي الْجمل الصَّغِير حسابه ... عشرُون هَذَا الثُّلُث ضعف جَمِيعه وَالثلث عين عين كل ذَاته ... هُوَ جَوْهَر وَالْوَصْف فِي مَوْضُوعه إِذْ كَانَت الْأَعْيَان قَائِمَة بهاال ... أَعْرَاض جمعا فافطنوا لجموعه حكم يخص الْعين حرفا وَاحِدًا ... من بَين جنس الْحَرْف فِي تنويعه هُوَ تِسْعَة فِي أَصله والعالم العل ... وي مِنْهُ تِسْعَة برقيه الْعَرْش والكرسي والسبع السم ... وات الطباق فالاسم جُزْء رفيعه ...

.. من عَالم الملكوت أَعنِي الْغَيْب إِذْ ... عَنهُ كنى لعلو شَأْن صَنِيعه لم يبْق إِلَّا جنَّة أَو جاحم ... فِيهِ المخافة أَو أَمَان مروعه بِالْعلمِ يحيى الله قلبا مَيتا ... يسري كنور ضاء حِين سطوعه فُلَانُهُ يحيى اسْمه حَيّ إذال ... أَحيَاء فرع حَيَاة رب صَنِيعه وَلِأَنَّهُ يسري اسْمه متحرك ... لوحا تنقله بذهن قريعه ذَا الْوَصْف عَقْلِي وَفِي حسيه ... هُوَ جامد هُوَ سَاكن بربوعه إِذْ كَانَ نوع الْعلم معنى جنسه ... عرض يقوم بمستوى مَوْضُوعه والحي والمتحرك الوصفان يخ ... تصان شخصا جوهرا ببقيعه إِذْ كَانَ فِي المحسوس لَيْسَ بقائم ... عرض بآخر مثله وتبيعه أما إِذا مَا جرد الْمَعْقُول فال ... وصفان فِي المعني لَهُ بربيعه ثُلُثَاهُ حرفا الْعين وَالْمِيم هما ... فِي اللَّفْظ من عدم وَفِي تنويعه لَو إِذْ جمعت حسابه فِي أَكثر ... وأضفت خمسيه إِلَى مَجْمُوعه فمربعا يضحى ويضحى جذره ... مَعَ أَربع عشرا لذِي تربيعه فالجذر علته ومعلول لَهُ ... من حَيْثُ مَا هُوَ عِلّة لوُقُوعه فالجذر مَعْلُول لجذر كَائِن ... معلوله فَافْهَم مدَار رجيعه فلكونه مَعْلُول مَعْلُول لَهُ ... قد صَار معلولا لَهُ بِرُجُوعِهِ ...

.. وَيَقُول إِن الْعلم مِنْهُ النَّحْو هَذَا إِن ترد حملا على مَوْضُوعه فَإِذا يكون الضَّم عِلّة كَون هَذَا الْجمع عِلّة نَفسه وجميعه وَبِغير خمسيه يعود لأصله ... علما وَعلم النَّحْو بعض فروعه وَإِذا اعْتبرت حُرُوفه ألفيته ... فعلا مضى لُغَة وَفِي مَوْضُوعه حكم على المستقبلات وَغَيرهَا ... لعمومه مُتَعَلقا وذيوعه إِذْ من خَصَائِصه تعلقه بِكُل مُحَقّق مَعَ سبقه لوُقُوعه أكْرم بِهِ أمرا عَظِيما نَفعه ... حمدت صناعته بِحَمْد صَنِيعه وَالْفِعْل فِيهِ مصدر وزمانه ... وضعا وملزوم لرب صَنِيعه فلذاك كَانَ مُقَيّدا ومخصصا ... لعُمُوم جنس الْعلم فِي تنويعه هُوَ مُفردا نوع حوى أشخاصه ... فَإِذا تركب خص فِي تجميعه فَيصح حِينَئِذٍ مقَالَة قَائِل ... قد زَاد مفرده على مَجْمُوعه هُوَ ثَابت فِي كل حَال مُمكن ... ذُو عزة صَعب على مسطيعه حَتَّى ينَال فيحمد الْقَوْم السرى ... وَإِذا يُقَال بطيئه كسريعه فالبطء والإسراع لَيْسَ بِنَفسِهِ ... بل فِي الطَّرِيق وَفِي اقتناص منيعه وَالْعلم بالرحمن أول صَاحب ... وأهم فرض الله فِي مشروعه وأخو الدّيانَة طَالب لمزيده ... أبدا وَلما يَنْهَهُ بقطوعه والمرء فاقته إِلَيْهِ أَشد من ... فقر الْغذَاء لعلم حكم صَنِيعه ...

.. فِي كل وَقت وَالطَّعَام فَإِنَّمَا ... يَحْتَاجهُ فِي وَقت شدَّة جوعه وَهُوَ السَّبِيل إِلَى المحاسن كلهَا ... والصالحات فسوأة لمضيعه وَإِلَيْهِ يسند كل فن نَافِع ... بل فارع بأصوله وفروعه لجلالة الْمَعْلُوم واللطف الَّذِي ... للْعلم كَانَ مناسبا لبديعه فالعلم ميزَان الْحَقَائِق والعرو ... ض كَذَاك ميزَان لَدَى تقطيعه وَالِاسْم بِالتَّحْرِيكِ من مفروقه ... وَالْفِعْل بالتسكين من مَجْمُوعه هُوَ وَاسِط عقد الْفَضَائِل كلهَا ... وَبِه يزان الْحلِيّ فِي ترصيعه وعلاجه بالجد فِي تَحْصِيله ... بمقدمات نتاجه وينوعه وَلكُل قوم مِنْهُ حَظّ وافر ... وحقائق التَّحْقِيق فِي مشروعه بشعائر لمشاعر وقواعد ... لعقائد الْمَعْقُول فِي مسموعه وجميعه متفرق فِي قَوْله ... مَا حَافظ للْعهد مثل مضيعه فلعينه وللامه ولميمه ... من ذَا الْكَلَام الْحَظ فِي تبضيعه يرْوى بِمَاء حَيَاته فِي ورده ... ظمآن تَحْقِيق إِلَى ينبوعه وَيرى بِنور هداه فِي تبيينه ... حيران تدقيق طُلُوع سطيعه بطلوعه لما أبان بنوره ... قصد السَّبِيل لحل عقد بديعه جلى المجلي بعد بعد بدوه ... مَعَ قرب مقفله وَقرب مسوعه ...

.. وَأَبَان مجمله وَفصل عقده ... ولروضة الْأنف ارتعى برتوعه وحلى جمال الْبكر فِي الحلى ... قافتضها كُفْء ثوت بربوعه فَخذ الْجَواب مخلصا فِيهِ اللبا ... ب مُلَخصا فِي نظمه لسميعه مَعَ ان نظم الشّعْر غير مُحَصل ... لكَمَال مغزاه وَشرح جَمِيعه من خاطر مستعجل مستوفز ... لم يمعن التفكير فِي مرجوعه لم يَجْعَل التَّحْلِيل من مصنوعه ... كلا وَلَا الفضلات من مصنوعه إِذْ كَانَ مخلوقا لأكبر غَايَة ... دَار الْقَرار جميله وقطيعه وَعَلِيهِ من أَمر الْإِلَه وَنَهْيه ... مَا يلفت الْمَعْقُول عَن تضييعه لكنه لَا بُد للمصدور من ... نفث يرِيح فُؤَاده بنخوعه مَعَ أَنه مزجى البضاعة نظمه ... غر بِحكم اللَّفْظ فِي تسجيعه عبد ذليل عَاجز متضعف ... فِي حَال مبداه وَحَال رُجُوعه لكنه لما اسْتَعَانَ بربه ... ثمَّ استكان لَهُ بذل خضوعه فأعانه يسر الْجَواب فَإِن يكن ... حَقًا بِرِفْق الْوَصْف فِي توقيعه فَالْحَمْد وَالْفضل الْعَظِيم لربنا ... شكرا على مَحْمُود حسن صَنِيعه إِذْ مَا بِنَا من نعْمَة فبمنه ... وَالْخَيْر مِنْهُ جَمِيعه بهموعه أَو إِن يكن خطأ فمني حَيْثُ أَن ... لم أستطع متناولا لرفيعه فالنقص للْإنْسَان وصف لَازم ... إِن كَانَ يعرف نَفسه بنخوعه ...

.. وَالْحَمْد لله الرَّحِيم بخلقه الْبر الْوَدُود بِعَبْدِهِ ومطيعه وميسر الْخطب العسير بِلُطْفِهِ ... من بعد منعته وَبعد منيعه ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي وَآله ... والمصطفين من الْأَنَام جَمِيعه وَعَلَيْهِم التَّسْلِيم منا دَائِما ... مَا اهتز وَجه الأَرْض بعد خشوعه ... فَلَمَّا وقف الشَّيْخ رشيد على هَذَا الْجَواب كتب إِلَى منشئه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ ... أحسن فِي حل الْمُسَمّى وَمَا ... سمى وَلَكِن جَاءَ بِالْمثلِ وَجَاوَزَ الجوزاء بالنطق والشعرى بِشعر رائق جزل جلت مَعَانِيه فشكرا لَهُ ... مصحف والحل كالحل أَحْمد وزن الْفِعْل فِيهِ وَفِي التقى وزن القَوْل وَالْفِعْل كأنماأحرفه مثلت تملى عَلَيْهِ وَهُوَ يستملي وَحقّ بالفخر فَتى جده الْمجد وَقد بورك فِي النَّسْل فسهل الله لمن فِي اسْمه الْعدْل مكافآت على الْفضل ... فَنظر وَالِد الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية بعد ذَلِك فِي اللغز وحله فِي لَفْظَة أُخْرَى ونظم فِي ذَلِك قصيدة فَكتب إِلَيْهِ الشَّيْخ رشيد الدّين جَوَابا لَهَا

.. مَا مثل لغزي وَلم يسم بِهِ ... من لم يماثل فِي الْفضل وَالْأَدب بخاطر حَاضر يضيء وَلَا ... يُنكر ضوءا لوَاحِد الشهب شيخ شُيُوخ الْإِسْلَام قاطبة ... مفتي الْفَرِيقَيْنِ حجَّة الْعَرَب شنف سَمْعِي بالدر من كلم ... تروى فتروي بالدر من سحب وَكَانَ لغزي من فضَّة فعلا ... شعرًا وشعرا وَصَارَ من ذهب فالفخر للمجد بالشهاب وللشهاب بالمجد ذرْوَة النّسَب ذرْوَة والعنان يحسبها ... ذُرِّيَّة للشروق فِي السحب وَإِن تقفت رسوم بلدته ... وَهِي خِيَار الْبِلَاد والترب فبلدة الْأُفق حلهَا عوضا ... عَنْهَا بِفضل يسمو على الترب وَإِن قلبِي أضحى لَهُ وطنا ... وَفِيه أنس لَك مغترب هَذَا ثنائي مَعَ الخمول وَإِن ... نبه حظي أربى على الأرب وعش طَويلا مكملا أدبا ... بسيط فضل ناء ومقترب ... وَقَالَ الشَّيْخ علم الدّين رَأَيْت فِي إجَازَة لِابْنِ الشَّهْر زورى الْموصِلِي خطّ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية وَقد كتب تَحْتَهُ الشَّيْخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ هَذَا خطّ شَيخنَا الإِمَام شيخ الْإِسْلَام فَرد الزَّمَان بَحر الْعُلُوم تَقِيّ الدّين مولده عَاشر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَقَرَأَ الْقُرْآن وَالْفِقْه وناظر وَاسْتدلَّ وَهُوَ دون الْبلُوغ وبرع فِي الْعلم

وَالتَّفْسِير وَأفْتى ودرس وَله نَحْو الْعشْرين سنة وصنف التصانيف وَصَارَ من كبار الْعلمَاء فِي حَيَاة شُيُوخه وَله من المصنفات الْكِبَار الَّتِي سَارَتْ بهَا الركْبَان وَلَعَلَّ تصانيفه فِي هَذَا الْوَقْت تكون أَرْبَعَة آلَاف كراس وَأكْثر وَفسّر كتاب الله تَعَالَى مُدَّة سنتَيْن من صَدره أَيَّام الْجمع وَكَانَ يتوقد ذكاء وسماعاته من الحَدِيث كَثِيرَة وشيوخه أَكثر من مِائَتي شيخ ومعرفته بالتفسير إِلَيْهَا الْمُنْتَهى وَحفظه للْحَدِيث وَرِجَاله وَصِحَّته وسقمه فَمَا يلْحق فِيهِ وَأما نَقله للفقه ومذاهب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فضلا عَن الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ نَظِير وَأما مَعْرفَته بالملل والنحل وَالْأُصُول وَالْكَلَام فَلَا أعلم لَهُ فِيهِ نظيرا ويدري جملَة صَالِحَة من اللُّغَة وعربيته قَوِيَّة جدا ومعرفته بالتاريخ وَالسير فَعجب عَجِيب وَأما شجاعته وجهاده وإقدامه فَأمر يتَجَاوَز الْوَصْف ويفوق النَّعْت وَهُوَ أحد الأجواد الأسخياء الَّذين يضْرب بهم الْمثل وَفِيه زهد وقناعة باليسير فِي المأكل والملبس وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي مَوضِع آخر وَقد ذكر الشَّيْخ رَحمَه الله كَانَ آيَة فِي الذكاء وَسُرْعَة الْإِدْرَاك رَأْسا فِي معرفَة الْكتاب وَالسّنة وَالِاخْتِلَاف بحرا فِي النقليات هُوَ فِي زَمَانه فريد عصره علما وزهدا وشجاعة وسخاء وأمرا بِالْمَعْرُوفِ ونهيا عَن الْمُنكر وَكَثْرَة تصانيف

وَقَرَأَ وَحصل وبرع فِي الحَدِيث وَالْفِقْه وتأهل للتدريس وَالْفَتْوَى وَهُوَ ابْن سبع عشرَة سنة وَتقدم فِي علم التَّفْسِير وَالْأُصُول وَجَمِيع عُلُوم الْإِسْلَام أُصُولهَا وفروعها ودقها وجلها سوى علم الْقرَاءَات فَإِن ذكر التَّفْسِير فَهُوَ حَامِل لوائه وَإِن عد الْفُقَهَاء فَهُوَ مجتهدهم الْمُطلق وَإِن حضر الْحفاظ نطق وخرسوا وسرد وأبلسوا وَاسْتغْنى وأفلسوا وَإِن سمي المتكلمون فَهُوَ فردهم وَإِلَيْهِ مرجعهم وَإِن لَاحَ ابْن سينا يقدم الفلاسفة فَلهم وتيسهم وهتك أستارهم وكشف عوارهم وَله يَد طولى فِي معرفَة الْعَرَبيَّة وَالصرْف واللغة وَهُوَ أعظم من أَن يصفه كلمي أَو يُنَبه على شأوه قلمي فَإِن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته تحْتَمل أَن ترصع فِي مجلدتين وَهُوَ بشر من الْبشر لَهُ ذنُوب فَالله تَعَالَى يغْفر لَهُ ويسكنه أَعلَى جنته فَإِنَّهُ كَانَ رباني الْأمة وفريد الزَّمَان وحامل لِوَاء الشَّرِيعَة وَصَاحب معضلات الْمُسلمين وَكَانَ رَأْسا فِي الْعلم يُبَالغ فِي إطراء قِيَامه فِي الْحق وَالْجهَاد وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مُبَالغَة مَا رَأَيْتهَا وَلَا شاهدتها من أحد وَلَا لحظتها من فَقِيه وَقَالَ فِي مَكَان آخر ذكر فِيهِ تَرْجَمَة طَوِيلَة للشَّيْخ قبل وَفَاة الشَّيْخ بدهر طَوِيل قلت وَله خبْرَة تَامَّة بِالرِّجَالِ وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم وَمَعْرِفَة

بفنون الحَدِيث وبالعالي والنازل وبالصحيح والسقيم مَعَ حفظه لمتونه الَّذِي انْفَرد بِهِ فَلَا يبلغ أحد فِي الْعَصْر رتبته وَلَا يُقَارِبه وَهُوَ عجب فِي استحضاره واستخراج الْحجَج مِنْهُ وَإِلَيْهِ الْمُنْتَهى فِي عزوه إِلَى الْكتب السِّتَّة والمسند بِحَيْثُ يصدق عَلَيْهِ أَن يُقَال كل حَدِيث لَا يعرفهُ ابْن تَيْمِية فَلَيْسَ بِحَدِيث وَلَكِن الْإِحَاطَة لله غير أَنه يغترف من بَحر وَغَيره من الْأَئِمَّة يَغْتَرِفُونَ من السواقي وَأما التَّفْسِير فَمُسلم إِلَيْهِ وَله فِي استحضار الْآيَات من الْقُرْآن وَقت إِقَامَة الدَّلِيل بهَا على الْمَسْأَلَة قُوَّة عَجِيبَة وَإِذا رَآهُ المقرىء تحير فِيهِ ولفرط إِمَامَته فِي التَّفْسِير وعظمة اطِّلَاعه يبين خطأ كثير من أَقْوَال الْمُفَسّرين ويوهى أقوالا عديدة وينصر قولا وَاحِدًا مُوَافقا لما دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن والْحَدِيث وَيكْتب فِي الْيَوْم وَاللَّيْل من التَّفْسِير أَو من الْفِقْه اَوْ من الأصولين أَو من الرَّد على الفلاسفة والأوائل نَحوا من أَرْبَعَة كراريس أَو أَزِيد وَمَا أبعد ان تصانيفه إِلَى الْآن تبلغ خَمْسمِائَة مجلدة وَله فِي غير الْمَسْأَلَة مُصَنف مُفْرد فِي مُجَلد ثمَّ ذكر بعض تصانيفه وَقَالَ وَمِنْهَا كتاب فِي الْمُوَافقَة بَين الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول فِي مجلدين قلت هَذَا الْكتاب وَهُوَ كتاب دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل فِي أَربع مجلدات كبار وَبَعض النّسخ بِهِ فِي اكثر من أَربع مجلدات وَهُوَ

مصنفات الشيخ رحمه الله

كتاب حافل عَظِيم الْمِقْدَار رد الشَّيْخ فِيهِ على الفلاسفة والمتكلمين وَله كتاب فِي نَحْو مُجَلد أجَاب فِيهِ عَمَّا أوردهُ كَمَال الدّين بن الشريسى على هَذَا الْكتاب وللشيخ رَحمَه الله من المصنفات والفتاوى وَالْقَوَاعِد والأجوبة والرسائل وَغير ذَلِك من الْفَوَائِد مَالا يَنْضَبِط وَلَا أعلم أحدا من مُتَقَدِّمي الْأمة وَلَا متأخريها جمع مثل مَا جمع وَلَا صنف نَحْو مَا صنف وَلَا قَرِيبا من ذَلِك مَعَ أَن أَكثر تصانيفه إِنَّمَا أملاها من حفظه وَكثير مِنْهَا صنفه فِي الْحَبْس وَلَيْسَ عِنْده مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْكتب مصنفات الشَّيْخ رَحمَه الله وَهَا أَنا أذكر بعض مصنفاته ليقف عَلَيْهَا من أحب مَعْرفَتهَا فَمن ذَلِك مَا جمعه فِي تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم وَمَا جمعه من أَقْوَال مفسري السّلف الَّذين يذكرُونَ الْأَسَانِيد فِي كتبهمْ وَذَلِكَ فِي أَكثر من ثَلَاثِينَ مجلدا وَقد بيض أَصْحَابه بعض ذَلِك وَكَثِيرًا مِنْهُ لم يكتبوه بعد وَكَانَ رَحمَه الله يَقُول رُبمَا طالعت على الْآيَة الْوَاحِدَة نَحْو مائَة تَفْسِير ثمَّ أسأَل الله الْفَهم وَأَقُول يَا معلم آدم وَإِبْرَاهِيم عَلمنِي وَكنت أذهب إِلَى الْمَسَاجِد المهجورة وَنَحْوهَا وأمرغ وَجْهي فِي التُّرَاب وأسأل الله تَعَالَى وَأَقُول يَا معلم إِبْرَاهِيم فهمني وَيذكر قصَّة معَاذ بن جبل

وَقَوله لمَالِك بن يخَامر لما بَكَى عِنْد مَوته وَقَالَ إِنِّي لَا أبْكِي على دنيا كنت أصيبها مِنْك وَلَكِن أبْكِي على الْعلم وَالْإِيمَان الَّذين كنت أتعلمهما مِنْك فَقَالَ إِن الْعلم وَالْإِيمَان مكانهما من ابتغاهما وجدهما فاطلب الْعلم عِنْد أَرْبَعَة فَإِن أعياك الْعلم عِنْد هَؤُلَاءِ فَلَيْسَ هُوَ فِي الأَرْض فاطلبه من معلم ابراهيم قَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله بن رَشِيق وَكَانَ من أخص أَصْحَاب شَيخنَا وَأَكْثَرهم كِتَابَة لكَلَامه وحرصا على جمعه كتب الشَّيْخ رَحمَه الله نقُول السّلف مُجَرّدَة عَن الِاسْتِدْلَال على جَمِيع الْقُرْآن وَكتب فِي أَوله قِطْعَة كَبِيرَة بالاستدلال وَرَأَيْت لَهُ سورا وآيات يُفَسِّرهَا وَيَقُول فِي بَعْضهَا كتبته للتذكر وَنَحْو ذَلِك ثمَّ لما حبس فِي آخر عمره كتبت لَهُ أَن يكْتب على جَمِيع الْقُرْآن تَفْسِيرا مُرَتبا على السُّور فَكتب يَقُول إِن الْقُرْآن فِيهِ مَا هُوَ بَين بِنَفسِهِ وَفِيه مَا قد بَينه الْمُفَسِّرُونَ فِي غير كتاب وَلَكِن بعض الْآيَات أشكل تَفْسِيرهَا على جمَاعَة من الْعلمَاء فَرُبمَا يطالع الْإِنْسَان عَلَيْهَا عدَّة كتب وَلَا يتَبَيَّن لَهُ تَفْسِيرهَا وَرُبمَا كتب المُصَنّف الْوَاحِد فِي آيَة تَفْسِيرا ويفسر غَيرهَا بنظيره فقصدت تَفْسِير تِلْكَ الْآيَات بِالدَّلِيلِ لِأَنَّهُ أهم من غَيره

وَإِذا تبين معنى آيَة تبين مَعَاني نظائرها وَقَالَ قد فتح الله عَليّ فِي هَذِه الْمرة من مَعَاني الْقُرْآن وَمن أصُول الْعلم بأَشْيَاء كَانَ كثير من الْعلمَاء يتمنونها وندمت على تَضْييع أَكثر أوقاتي فِي غير مَعَاني الْقُرْآن أَو نَحْو هَذَا وَأرْسل إِلَيْنَا شَيْئا يَسِيرا مِمَّا كتبه فِي هَذَا الْحَبْس وَبَقِي شَيْء كثير فِي مَسْأَلَة الحكم عِنْد الْحُكَّام لما أخرجُوا كتبه من عِنْده وَتُوفِّي وَهِي عِنْدهم إِلَى هَذَا الْوَقْت نَحْو أَربع عشرَة رزمة ثمَّ ذكر الشَّيْخ أَبُو عبد الله مَا رَآهُ ووقف عَلَيْهِ من تَفْسِير الشَّيْخ قلت وَمن مصنفاته تَفْسِير سُورَة الصَّمد وَجَوَاب سُؤال عَن كَلَام الله تَعَالَى هَل يتفاضل وَمن مصنفاته كتاب بَيَان تلبيس الْجَهْمِية فِي تأسيس بدعهم الكلامية فِي سِتّ مجلات وَبَعض النّسخ مِنْهُ فِي أَكثر من ذَلِك وَهُوَ كتاب جليل الْمِقْدَار مَعْدُوم النظير كشف الشَّيْخ فِيهِ أسرار الْجَهْمِية وهتك أستارهم وَلَو رَحل طَالب الْعلم لأجل تَحْصِيله إِلَى الصين مَا ضَاعَت رحلته وَمِنْهَا كتاب منهاج السّنة النَّبَوِيَّة فِي نقض كَلَام الشِّيعَة الْقَدَرِيَّة فِي ثَلَاث مجلدات وَبَعض النّسخ فِي أَربع مجلدات رد فِيهِ على ابْن المطهر الرافضي وَبَين جهل الرافضة وضلالتهم وكذبهم وافتراءهم وَمِنْهَا كتاب

جَوَاب الاعتراضات المصرية على الْفتيا الحموية فِي أَربع مجلدات وَبَعض النّسخ مِنْهُ فِي أقل وَهُوَ كتاب عَزِيز الْفَوَائِد سهل التَّنَاوُل وَمِنْهَا كتاب الرَّد على النَّصَارَى سَمَّاهُ الْجَواب الصَّحِيح لمن بدل دين الْمَسِيح فِي مجلدين وَبَعض النّسخ مِنْهُ فِي ثَلَاث مجلدات وَبَعضهَا فِي أَكثر وَكَذَلِكَ كثير من كتبه الْكِبَار تخْتَلف النّسخ بهَا وَهَذَا الْكتاب من أجل الْكتب وأكثرها فَوَائِد ويشتمل على تثبيت النبوات وتقريرها بالبراهين النيرة الْوَاضِحَة وعَلى تَفْسِير آي كثير من الْقُرْآن وعَلى غير ذَلِك من الْمُهِمَّات وَمِنْهَا كتاب الْإِيمَان فِي مُجَلد وَهُوَ كتاب عَظِيم لم يسْبق إِلَى مثله وَمِنْهَا كتاب الاسْتقَامَة فِي مجلدين وَهُوَ من أجل الْكتب وأكثرها نفعا وَمِنْهَا كتاب تَنْبِيه الرجل الْعَاقِل على تمويه الجدل الْبَاطِل فِي مُجَلد وَهُوَ من أحسن الْكتب وأكثرها فَوَائِد قَالَ فِي خطبَته الْحَمد لله الْعَلِيم الْقَدِير الْخَالِق اللَّطِيف الْخَبِير الرَّزَّاق السَّمِيع الْبَصِير الْحَلِيم الصَّادِق الْعلي الْكَبِير الْفَائِق الرَّائِق الَّذِي يسن المناهج والشرائع وَيبين الطرائق وَينصب الْأَعْلَام الطوالع لكشف الْحَقَائِق وَينزل الْآيَات والدلائل لبَيَان الْجَوَامِع والفوارق ويقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق أَحْمَده ثَنَاء عَلَيْهِ بأسمائه الْحسنى وَصِفَاته العلى وشكرا لَهُ على نعمه

السوامق وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ رب المغارب والمشارق وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله الْمُؤَيد بالمعجزات الخوارق الموضح لسبيل الْحق فِي الجلائل والدقائق صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم صَلَاة وتسليما باقيين مَا بقيت الْخَلَائق أما بعد فَإِن الله سُبْحَانَهُ علم مَا عَلَيْهِ بَنو آدم من كَثْرَة الِاخْتِلَاف والافتراق وتباين الْعُقُول والأخلاق حَيْثُ خلقُوا من طبائع ذَات تنافر وابتلوا بتشعب الأفكار والخواطر فَبعث الله الرُّسُل مبشرين ومنذرين ومبينين للْإنْسَان مَا يضله ويهديه وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَأمرهمْ بالاعتصام بِهِ حذرا من التَّفَرُّق فِي الدّين وحضهم عِنْد التَّنَازُع على الرَّد إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُوله الْمُبين وَعذرهمْ بعد ذَلِك فِيمَا يتنازعون فِيهِ من دقائق الْفُرُوع العلمية لخفاء مدركها وخفة مسلكها وَعدم إفضائها إِلَى بلية وحضهم على المناظرة والمشاورة لاستخراج الصَّوَاب فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة حَيْثُ يَقُول لمن رَضِي دينهم {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} كَمَا أَمرهم بالمجادلة والمقاتلة لمن عدل عَن السَّبِيل العادلة حَيْثُ يَقُول آمرا وناهيا لنَبيه وَالْمُؤمنِينَ لبَيَان مَا يرضاه مِنْهُ وَمِنْهُم {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم} فَكَانَ أَئِمَّة الْإِسْلَام ممتثلين لأمر المليك

العلام يجادلون أهل الْأَهْوَاء المضلة حَتَّى يردوهم إِلَى سَوَاء الْملَّة كمجادلة ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا للخوارج المارقين حَتَّى رَجَعَ كثير مِنْهُم إِلَى مَا خرج عَنهُ من الدّين وكمناظرة كثير من السّلف الْأَوَّلين لصنوف المبتدعين الماضين وَمن فِي قلبه ريب يُخَالف الْيَقِين حَتَّى هدى الله من شَاءَ من الْبشر وأعلن الْحق وَظهر ودرس مَا أحدثه المبتدعون واندثر وَكَانُوا يتناظرون فِي الْأَحْكَام ومسائل الْحَلَال وَالْحرَام بالأدلة المرضية والحجج القوية حَتَّى كَانَ قل مجْلِس يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ إِلَّا ظهر الصَّوَاب وَرجع رَاجِعُون إِلَيْهِ لاستدلال الْمُسْتَدلّ بِالصَّحِيحِ من الدَّلَائِل وَعلم المنازع أَن الرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل كمجادلة الصّديق لمن نازعه فِي قتال مانعي الزَّكَاة حَتَّى رجعُوا إِلَيْهِ

ومناظرتهم فِي جمع الْمُصحف حَتَّى اجْتَمعُوا عَلَيْهِ وتناظرهم فِي حد الشَّارِب وجاحد التَّحْرِيم حَتَّى هُدُوا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهَذَا وَأَمْثَاله يجل عَن الْعد والإحصاء فَإِنَّهُ أَكثر من نُجُوم السَّمَاء ثمَّ صَار الْمُتَأَخّرُونَ بعد ذَلِك قد يتناظرون فِي أَنْوَاع التَّأْوِيل وَالْقِيَاس بِمَا يُؤثر فِي ظن بعض النَّاس وَإِن كَانَ عِنْد التَّحْقِيق يؤول إِلَى الإفلاس لكِنهمْ لم يَكُونُوا يقبلُونَ من المناظرة إِلَّا مَا يُفِيد وَلَو ظنا ضَعِيفا للنَّاظِر واصطلحوا على شَرِيعَة من الجدل للتعاون على إِظْهَار صَوَاب القَوْل وَالْعَمَل ضبطوا بهَا قوانين الِاسْتِدْلَال لتسلم عَن الانتشار والانحلال فطرائقهم وَإِن كَانَت بِالنِّسْبَةِ إِلَى طرائق الْأَوَّلين غير وافية بمقصود الدّين لَكِنَّهَا غير خَارِجَة عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا مُشْتَمِلَة على مَالا يُؤثر فِي الْقَضِيَّة وَرُبمَا كسوها من جودة الْعبارَة وتقريب الْإِشَارَة وَحسن الصياغة وصنوف البلاغة مَا يحليها

عِنْد الناظرين وينفقها عِنْد المتناظرين مَعَ مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْأَدِلَّة السمعية والمعاني الشَّرْعِيَّة وبنائها على الْأُصُول الْفِقْهِيَّة وَالْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة والتحاكم فِيهَا إِلَى حَاكم الشَّرْع الَّذِي لَا يعْزل وَشَاهد الْعقل المزكى الْمعدل وَبِالْجُمْلَةِ لَا تكَاد تشْتَمل على بَاطِل مَحْض ومكر صرف بل لَا بُد فِيهَا من محيل للحق ومشتمل على عرف ثمَّ إِن بعض طلبة الْعُلُوم من أَبنَاء فَارس الرّوم صَارُوا مولعين بِنَوْع من جدل المموهين استحدثه طَائِفَة من المشرقيين وألحقوه بأصول الْفِقْه فِي الدّين راوغوا فِيهِ مراوغة الثعالب وحادوا فِيهِ عَن المسلك اللاحب وزخرفوه بغبارات مَوْجُودَة فِي كَلَام الْعلمَاء قد نطقوا بهَا غير أَنهم وضعوها فِي غير موَاضعهَا الْمُسْتَحقَّة لَهَا وألفوا الْأَدِلَّة تأليفا غير مُسْتَقِيم وَعدلُوا عَن التَّرْكِيب الناتج إِلَى الْعَقِيم غير أَنهم بإطالة الْعبارَة وإبعاد الْإِشَارَة وَاسْتِعْمَال الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة والمجازية فِي الْمُقدمَات وَوضع الظنيات مَوضِع القطعيات وَالِاسْتِدْلَال بالأدلة الْعَامَّة حَيْثُ لَيست لَهَا دلَالَة على وَجه يسْتَلْزم الْجمع بَين النقيضين مَعَ الإحالة والإطالة وَذَلِكَ من فعل غالظ ومغالط للمجادل وَقد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

عَن أغلوطات الْمسَائِل نفق ذَلِك على الأغتام الطماطم وراج رواج البهرج على الغر العادم واغتر بِهِ بعض الأغمار الْأَعَاجِم حَتَّى ظنُّوا أَنه من الْعلم بِمَنْزِلَة الْمَلْزُوم من اللَّازِم وَلم يعلمُوا أَنه وَالْعلم المقرب من الله متعاندان متنافيان كَمَا أَنه وَالْجهل الْمركب متصاحبان متآخيان فَلَمَّا استبان لبَعْضهِم انه كَلَام لَيْسَ لَهُ حَاصِل لَا يقوم بإحقاق حق وَلَا إبِْطَال بَاطِل أَخذ يطْلب كشف مشكله وَفتح مقفله ثمَّ إبانة علله وإيضاح زلله وَتَحْقِيق خطئه وخطله حَتَّى يتَبَيَّن أَن سالكه يسْلك فِي الجدل مَسْلَك اللدد وينأى عَن مَسْلَك الْهدى والرشد وَيتَعَلَّق من الْأُصُول بأذيال لَا توصل إِلَى حَقِيقَة وَيَأْخُذ من الجدل الصَّحِيح رسوما يموه بهَا على أهل الطَّرِيقَة وَمَعَ ذَلِك فَلَا بُد أَن يدْخل فِي كَلَامهم قَوَاعِد صَحِيحَة ونكت من أصُول الْفِقْه مليحة لكِنهمْ إِنَّمَا أخذُوا

ألفاظها ومبانيها دون حقائقها ومعانيها بِمَنْزِلَة مَا فِي الدِّرْهَم الزائف من الْعين وَلَوْلَا ذَلِك لما نفق على من لَهُ عين فَلذَلِك آخذ فِي تَمْيِيز حَقه من باطله وحاليه من عاطله بِكَلَام مُخْتَصر مرتجل كتبه كَاتبه على عجل وَالله الْمُوفق لما يُحِبهُ ويرضاه وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه انْتَهَت خطْبَة هَذَا الْكتاب وَمن مصنفاته أَيْضا كتاب بَيَان الدَّلِيل على بطلَان التَّحْلِيل وَكتاب الصارم المسلول على شاتم الرَّسُول وَكتاب اقْتِضَاء الصِّرَاط الْمُسْتَقيم مُخَالفَة أَصْحَاب الْجَحِيم وَكتاب تَحْرِير الْكَلَام فِي حَادِثَة الْأَقْسَام وَسَماهُ بَعضهم كتاب التَّحْرِير فِي مَسْأَلَة حفير وَكتاب رفع الملام عَن الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وَكتاب السياسة الشَّرْعِيَّة فِي إصْلَاح الرَّاعِي والرعية وَكتاب تَفْضِيل صَالح النَّاس على سَائِر الْأَجْنَاس وَكتاب التُّحْفَة العراقية فِي الْأَعْمَال القلبية وَكتاب مسَائِل الْإسْكَنْدَريَّة فِي الرَّد على الْمَلَاحِدَة والاتحادية وتعرف بالسبعينية لاشتمالها على الرَّد على ابْن سبعين وَأَضْرَابه وَكتاب الْفرْقَان بَين أَوْلِيَاء الرَّحْمَن وأولياء الشَّيْطَان وَكتاب فَضَائِل الْقُرْآن

وَكتاب أَقسَام الْقُرْآن وَكتاب أَمْثَال الْقُرْآن وَهَذِه المصنفات بَعْضهَا مُجَلد كَبِير وَبَعضهَا مُجَلد صَغِير وَله كتاب فِي الرَّد على الْمنطق مُجَلد كَبِير وَله مصنفان آخرَانِ فِي الرَّد على الْمنطق نَحْو مُجَلد وَله كتاب فِي محنته بِمصْر مجلدان رد فِيهِ على الْقَائِلين بالْكلَام النَّفْسِيّ من نَحْو ثَمَانِينَ وَجها وَله فِي مَسْأَلَة الْقُرْآن مؤلفات كَثِيرَة وقواعد وأجوبة وَغير ذَلِك إِذا اجْتمعت بلغت مجلدات كَثِيرَة مِنْهَا مَا بيض وَمِنْهَا مَا لم يبيض فَمن مؤلفاته فِي ذَلِك الكيلانية والبغدادية والقادرية والأزهرية والبعلبكية والمصرية وَله فِي الرَّد على الفلاسفة مجلدات وقواعد أملاها مُفْردَة غير مَا تضمنته كتبه مِنْهَا إبِْطَال قَوْلهم بِإِثْبَات الْجَوَاهِر الْعَقْلِيَّة وَمِنْهَا إبِْطَال قَوْلهم بقدم الْعَالم وَإِبْطَال مَا احْتَجُّوا بِهِ وَمِنْهَا إبِْطَال قَوْلهم فِي أَن الْوَاحِد لَا يصدر عَنهُ إِلَّا وَاحِد وَله كتاب فِي الْوَسِيلَة مُجَلد

وَكتاب الرَّد على الْبكْرِيّ فِي الاستغاثة مُجَلد وَكتاب شرح أول كتاب الغزنوي فِي أصُول الدّين مُجَلد لطيف وَكتاب شرح عقيدة الْأَصْبَهَانِيّ يُسمى الأصبهانية وَكتاب شرح فِيهِ بضع عشرَة مَسْأَلَة من كتاب الْأَرْبَعين للفخر الرَّازِيّ أَكثر من مجلدين وَكتاب يعرف بالصفدية فِي الرَّد على الفلاسفة فِي قَوْلهم إِن معجزات الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام قوى نفسانية وَفِي إبِْطَال قَوْلهم بقدم الْعَالم وَله كتاب شرح أول المحصل مُجَلد وَكتاب الرَّد على أهل كسروان الرافضة مجلدان وَكتاب يُسمى الهلاونية وَهُوَ جَوَاب سُؤال ورد على لِسَان هولاكو ملك التتار مُجَلد وَله فِي الرَّد على من قَالَ إِن الْأَدِلَّة اللفظية لَا تفِيد الْيَقِين عدَّة مصنفات وَله فِي الرَّد على منكري الْمعَاد قَوَاعِد كَثِيرَة وَله تعليقة على كتاب الْمُحَرر فِي الْفِقْه لجده الشَّيْخ مجد الدّين فِي عدَّة مجلدات وَله كتاب شرح فِيهِ قِطْعَة من كتاب الْعُمْدَة فِي الْفِقْه للشَّيْخ موفق الدّين فِي مجلدات

وَله قَوَاعِد كَثِيرَة فِي فروع الْفِقْه لم تبيض بعد وَلَو بيضت كَانَت مجلدات عدَّة وَقد جمع بعض أَصْحَابه قِطْعَة كَبِيرَة من فَتَاوِيهِ الفروعية وبوبها على أَبْوَاب الْفِقْه فِي مجلدات كَثِيرَة تعرف بالفتاوي المصرية سَمَّاهَا بَعضهم الدُّرَر المضيية من فتاوي ابْن تَيْمِية وَله مؤلفات فِي صفة حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْجمع بَين النُّصُوص فِي ذَلِك وَالْكَلَام فِي مُتْعَة الْحَج وَالْعمْرَة المكية وَمَا يتَعَلَّق بذلك وَطواف الْحَائِض أَكثر من مجلدين وَله مصنفات فِي زِيَارَة الْقُبُور وَهل تُبَاح للنِّسَاء وَالْفرق بَين الزِّيَارَة الشَّرْعِيَّة والزيارة البدعية وَفِي الْمشَاهد مَتى حدثت وَفِي النّذر لَهَا وَفِي المشهد الْمَنْسُوب للحسين رَضِي الله عَنهُ وَفِي قبر عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَغير ذَلِك عدَّة مجلدات وَله فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال ولوازمها الَّتِي حبس وَمَات فِي السجْن بِسَبَبِهَا شَيْء كثير بيض مِنْهُ مجلدات عديدة وَله فِي الطَّلَاق ومسائل الْخلْع وَمَا يتَعَلَّق بذلك من الْأَحْكَام شَيْء كثير ومصنفات عديدة بيض الْأَصْحَاب من ذَلِك كثيرا وَكثير مِنْهُ لم يبيض ومجموع ذَلِك نَحْو الْعشْرين مجلدا وَله قَوَاعِد كَثِيرَة فِي سَائِر أَنْوَاع الْعُلُوم مِنْهَا قَاعِدَة فِي الصِّفَات

وَالْقدر تسمى تَحْقِيق الْإِثْبَات للأسماء وَالصِّفَات وَحَقِيقَة الْجمع بَين الْقدر وَالشَّرْع وَهِي الْمَعْرُوفَة بالتدمرية وَقَاعِدَة فِي أَن مُخَالفَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تكون إِلَّا عَن ظن وَاتِّبَاع هوى وَقَاعِدَة فِي أَن التَّوْحِيد وَالْإِيمَان يشْتَمل على مصَالح الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقَاعِدَة فِي إِثْبَات كرامات الْأَوْلِيَاء وَقَاعِدَة فِي أَن خوارق الْعَادَات لَا تدل على الْولَايَة وَقَاعِدَة فِي الصَّبْر وَالشُّكْر وَقَاعِدَة كَبِيرَة فِي الرِّضَا وَقَاعِدَة فِي الشُّكْر وَالرِّضَا وَقَاعِدَة فِي أَن كل آيَة يحْتَج بهَا مُبْتَدع فَفِيهَا دَلِيل على فَسَاد قَوْله وَقَاعِدَة فِي أَن كل دَلِيل عَقْلِي يحْتَج بِهِ مُبْتَدع فَفِيهِ دَلِيل على بطلَان قَوْله وَقَاعِدَة فِي الخلوات وَمَا يلقيه الشَّيْطَان لأَهْلهَا من الشّبَه وَالْفرق بَين الْخلْوَة الشَّرْعِيَّة والبدعية وَقَاعِدَة فِي الْفُقَرَاء والصوفية أَيهمْ أفضل وَقَاعِدَة فِي الْفَقِير الصابر والغني الشاكر أَيهمَا أفضل وَقَاعِدَة فِي أهل الصّفة ومراتبهم وأحوالهم وَقَاعِدَة كَبِيرَة فِي محبَّة الله للْعَبد ومحبة العَبْد لله وَقَاعِدَة فِي الْإِخْلَاص والتوكل

وَقَاعِدَة فِي الْإِخْلَاص وَتَقْدِيره بِالْعقلِ وَقَاعِدَة فِي الشُّيُوخ الأحمدية وَمَا يظهرونه من الإشارات وَله قَوَاعِد وأجوبة فِي تَحْرِيم السماع أَكثر من مجلدين وَقَاعِدَة فِي شرح أَسمَاء الله الْحسنى وَقَاعِدَة فِي الاسْتِغْفَار وَشَرحه وأسراره وَقَاعِدَة فِي أَن الشَّرِيعَة والحقيقة متلازمان وَقَاعِدَة فِي الْخلَّة والمحبة أَيهمَا أفضل وَقَاعِدَة فِي الْعلم الْمُحكم وقواعد وأجوبة فِي خلَافَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَقَاعِدَة فِي وجوب نصيحة أولي الْأَمر وَالدُّعَاء لَهُم وَقَاعِدَة فِي أَحْوَال الشَّيْخ يُونُس الْغَيْبِيِّ وَالشَّيْخ أَحْمد بن الرِّفَاعِي وَقَاعِدَة وأجوبة فِي عصمَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وَقَاعِدَة فِي الِاسْتِطَاعَة هَل هِيَ مَعَ الْفِعْل أَو قبله وَقَاعِدَة فِي الْعَدَم واستطاعته وَقَاعِدَة فِي وجوب الْعدْل على كل أحد لكل أحد فِي كل حَال وَقَاعِدَة فِي فضل السّلف على الْخلف فِي الْعلم وَقَاعِدَة فِي حق الله وَحقّ رَسُول وَحُقُوق عباده وَمَا وَقع فِي ذَلِك من التَّفْرِيط

وَقَاعِدَة فِي أَن مبدأ الْعلم الإلهي عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الْوَحْي وَعند أَتْبَاعه هُوَ الْإِيمَان وَقَاعِدَة فِي أَن الْحَمد والذم وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب بِالْجِهَادِ وَالْجد وَأَنَّهَا إِنَّمَا تتَعَلَّق بِأَفْعَال الْعباد لَا بأنسابهم وَقَاعِدَة فِي أَن كل حمد وذم للمقالات وَالْأَفْعَال لَا بُد أَن يكون بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَاعِدَة فِيمَا لكل أمة من الخصائص وخصائص هَذِه الْأمة وَقَاعِدَة فِي الكليات وقواعد فِي الفناء والاصطلام وَقَاعِدَة فِي الْعلم والحلم وَقَاعِدَة فِي الاقتصاص من الظَّالِم بِالدُّعَاءِ وَغَيره وَهل هُوَ أفضل من الْعَفو وَله قاعدتان فِي قرب الرب من عابديه وداعيه وَقَاعِدَة فِي تَزْكِيَة النَّفس وَقَاعِدَة على كَلَام ابْن العريف فِي التصوف وَقَاعِدَة فِي الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فِي الزّهْد والورع وَقَاعِدَة فِي الْإِيمَان والتوحيد وَبَيَان ضلال من ضل فِي هَذَا الأَصْل وَقَاعِدَة فِي امراض الْقُلُوب وشفائها

وَقَاعِدَة فِي السياحة وَمَعْنَاهَا فِي هَذِه الْأمة وَقَاعِدَة فِي خلة ابراهيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَأَنه الإِمَام الْمُطلق وقواعد عدَّة فِي الشَّهَادَتَيْنِ وقواعد كَثِيرَة فِيمَن امتحن فِي الله وصبر وَقَاعِدَة فِي الصَّبْر والصفح الْجَمِيل والهجر الْجَمِيل وَقَاعِدَة فِيمَا تتَعَلَّق بالوسيلة بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقِيَام بحقوقه الْوَاجِبَة على أمته فِي كل زمَان وَمَكَان وَبَيَان خَصَائِصه الَّتِي امتاز بهَا على جَمِيع الْعَالمين وَبَيَان فضل أمته على جَمِيع الْأُمَم وَقَاعِدَة تتَعَلَّق بِالصبرِ الْمَحْمُود والمذموم وَقَاعِدَة تتَعَلَّق برحمة الله تَعَالَى فِي إرْسَال مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن إرْسَاله أجل النعم وَقَاعِدَة فِي الشُّكْر لله وَأَنه يتَعَلَّق بالأفعال الاختيارية وَقَاعِدَة فِي المقربين هَل يسألهم مُنكر وَنَكِير وَقَاعِدَة فِي الفتوة الاصطلاحية وَأَنه لَيْسَ لَهَا أصل فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَقَاعِدَة فِي الْكَلَام على المرشدة الَّتِي ألفها ابْن تومرت وَله أجوبة تتَعَلَّق بهَا أَيْضا وَقَاعِدَة فِي كَلَام الْجُنَيْد لما سُئِلَ عَن التَّوْحِيد فَقَالَ هُوَ إِفْرَاد الْحُدُوث عَن الْقدَم

وَقَاعِدَة فِي التَّسْبِيح والتحميد والتهليل وَقَاعِدَة فِي أَن الله تَعَالَى إِنَّمَا خلق الْخلق لعبادته وَقَاعِدَة فِي الْكَلَام وَقَاعِدَة فِي الْكَلَام على قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اعبدوا ربكُم الَّذِي خَلقكُم} الْآيَة تسمى الْعُبُودِيَّة وَهِي جليلة الْقدر وَقَاعِدَة فِيمَا أحدثه الْفُقَرَاء المجردون وَقَاعِدَة فِي الْقَدَرِيَّة وَأَنَّهُمْ ثَلَاثَة أَقسَام مَجُوسِيَّة ومشركية وإبليسية وَقَاعِدَة فِي بَيَان طَريقَة الْقُرْآن فِي الدعْوَة وَالْهِدَايَة النَّبَوِيَّة وَمَا بَينهمَا وَبَين الطَّرِيقَة الكلامية والطريقة الصُّوفِيَّة وَقَاعِدَة فِي وَصِيَّة لُقْمَان لِابْنِهِ وَقَاعِدَة فِي تَسْبِيح الْمَخْلُوقَات من الجمادات وَغَيرهَا هَل هُوَ بِلِسَان الْحَال أم لَا وَقَاعِدَة تعرف بالصعيدية تتَعَلَّق بالثنوية وَقَاعِدَة فِي لِبَاس الْخِرْقَة هَل لَهُ أصل شَرْعِي وَفِي الأقطاب وَنَحْوهم وَقَاعِدَة فِي القضايا الوهمية وَقَاعِدَة فِيمَا يتناهى وَمَا لَا يتناهى وَقَاعِدَة فِي الْخلطَة وَالْعُزْلَة

وَقَاعِدَة فِي مَشَايِخ الْعلم ومشايخ الْفُقَرَاء أَيهمْ أفضل وَقَاعِدَة فِي تَعْذِيب المريد بذنب غَيره وَقَاعِدَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَتَفْتَرِقُ أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة وَقَاعِدَة فِي أَن جماع الْحَسَنَات الْعدْل وجماع السَّيِّئَات الظُّلم ومراتب الذُّنُوب فِي الدُّنْيَا وَقَاعِدَة فِي أَن الْحَسَنَات تعلل ببعلتين جلب الْمَنْفَعَة وَدفع الْمضرَّة والسيئات بِالْعَكْسِ وَقَاعِدَة فِي فَضَائِل عشر ذِي الْحجَّة وَقَاعِدَة فِي رِسَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْجِنّ وَالْإِنْس وَقَاعِدَة فِي أَن جَمِيع الْبدع ترجع إِلَى شُعْبَة من شعب الْكفْر وقواعد فِي الْكَلَام على السّنة والبدعة وَأَن كل بِدعَة ضَلَالَة وَقَاعِدَة فِي الْإِجْمَاع وَأَنه ثَلَاثَة أَقسَام وَقَاعِدَة كَبِيرَة فِي أصُول الْفِقْه غالبها نقل أَقْوَال الْفُقَهَاء وَقَاعِدَة فِيمَا يظنّ من تعَارض النَّص وَالْإِجْمَاع وقواعد فقهية فِي مسَائِل من النذور وَالْإِيمَان وَنِكَاح الشّغَار وَمَا يسْتَقرّ بِهِ الْمهْر وَنَحْو ذَلِك مُجَلد

وقواعد فِي المغالبات وَمَا يحل من الرَّهْن وَهل يفْتَقر إِلَى مُحَلل مُجَلد وقواعد فِي الْمَائِعَات والمياه وأحكامها وَفِي الْميتَة إِذا وَقعت فِي الْمَائِعَات وَالْكَلَام على حَدِيث الْقلَّتَيْنِ وَمَا يتَعَلَّق بذلك شَيْء كثير وقواعد فِي الْوَقْف وشروط الواقفين وَمَا يعْتَبر مِنْهَا وَفِي إِبْدَاله بأجود مِنْهُ وَفِي بَيْعه عِنْد تعذر الِانْتِفَاع وَنَحْو ذَلِك أَكثر من مُجَلد وَقَاعِدَة كَبِيرَة فِي تَفْضِيل مَذْهَب الإِمَام أَحْمد وَذكر محاسنه نَحْو مُجَلد وَقَاعِدَة فِي تَفْضِيل مَذْهَب أهل الْمَدِينَة تسمى الْمَالِكِيَّة وقواعد فِي الِاجْتِهَاد والتقليد وَفِي الْأَسْمَاء الَّتِي علق الشَّارِع بهَا الْأَحْكَام مُجَلد وقواعد فِي الْمُجْتَهد فِي الشَّرِيعَة هَل يَأْثَم إِذا أَخطَأ الْحق وَهل الْمُصِيب وَاحِد وَنَحْو ذَلِك أَكثر من مُجَلد وَقَاعِدَة فِي الْإِحْسَان وَقَاعِدَة فِي شُمُول النُّصُوص للْأَحْكَام وَقَاعِدَة فِي تَقْرِير الْقيَاس فِي مسَائِل عدَّة وَالرَّدّ على من يَقُول هِيَ على خلاف الْقيَاس

وَقَاعِدَة فِي شرح رِسَالَة ابْن عَبدُوس وَهِي متضمنة لكَلَام الإِمَام أَحْمد فِي أصُول الدّين وَقَاعِدَة فِي لعب الشطرنج وَأَنه حرَام وقواعد كَثِيرَة فِي السّفر الَّذِي يجوز فِيهِ الْقصر وَالْفطر هَل لَهُ حد وَفِي الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ وَفِي ذَوَات الْأَسْبَاب هَل تصلى فِي وَقت النَّهْي وَفِي مَوَاقِيت الصَّلَاة وَفِي أَن أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد الصَّلَاة وَفِي تَارِك الصَّلَاة وتفصيل القَوْل فِيهِ وَفِي أَن الصَّلَاة أول الْأَعْمَال وَفِي تَارِك الطُّمَأْنِينَة وَذَلِكَ شَيْء كثير جدا وقواعد فِي الْكَنَائِس وأحكامها وَمَا يجوز هَدمه مِنْهَا وإبقاؤه وَمَا يجب هَدمه وأجوبة تتَعَلَّق بذلك نَحْو مجلدين وقواعد فِي رُجُوع الْمَغْرُور على من غره وَفِي اسْتِقْرَار الضَّمَان وَفِي بيع الْغرَر وَالشّرط فِي البيع وَالنِّكَاح وَغير ذَلِك نَحْو مُجَلد وَقَاعِدَة فِي فَضَائِل الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمَا امتاز بِهِ كل إِمَام من الْفَضِيلَة وَقَاعِدَة فِي مِقْدَار الْكَفَّارَة فِي الْيَمين وَقَاعِدَة فِي لفظ الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَفِي الْعَام إِذا خص هَل يكون حَقِيقَة أَو مجَازًا والبحث مَعَ السَّيْف الْآمِدِيّ فِي ذَلِك وَقَاعِدَة كَبِيرَة فِي أَن جنس فعل الْمَأْمُور بِهِ أفضل من جنس ترك الْمنْهِي عَنهُ

وَقَاعِدَة فِي طَهَارَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه ذكر فِيهَا نَحْو ثَلَاثِينَ حجَّة على ذَلِك وَقَاعِدَة فِي فِي تَطْهِير الْعِبَادَات النَّفس من الْفَوَاحِش والمنكرات وقواعد وأجوبة فِي تَحْرِيم نِكَاح الزَّانِيَة وَقَاعِدَة فِي معاهدة الْكفَّار الْمُطلقَة والمقيدة وَقَاعِدَة فِي مفطرات الصَّائِم وَقَاعِدَة فِيمَا شَرعه الله تَعَالَى بِوَصْف الْعُمُوم وَالْإِطْلَاق هَل يكون مَشْرُوعا بِوَصْف الْخُصُوص وَالتَّقْيِيد وَقَاعِدَة فِي أَن الْعَاميّ هَل يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد مَذْهَب معِين أم لَا وَقَاعِدَة فِي تَعْلِيق الْعُقُود والفسوخ بِالشّرطِ وَقَاعِدَة فِي الْجِهَاد وَالتَّرْغِيب فِيهِ وَقَاعِدَة فِي ذمّ الوسواس وَقَاعِدَة فِي الأنبذة والمسكرات وَقَاعِدَة فِي الْحِسْبَة وَقَاعِدَة فِي الْمَسْأَلَة السريجية وَقَاعِدَة فِي حل الدّور ومسائل الْجَبْر والمقابلة وَقَاعِدَة فِي أَن كل عمل صَالح أَصله اتِّبَاع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَقَاعِدَة فِي الْأَطْعِمَة وَمَا يحل مِنْهَا وَمَا يحرم وتحرير الْكَلَام على الطَّيِّبَات والخبائث وَقَاعِدَة فِي اشْتِرَاط التَّسْمِيَة على الذَّبَائِح وَالصَّيْد وَقَاعِدَة فِي دم الشُّهَدَاء ومداد الْعلمَاء تَتَضَمَّن أَي الطَّائِفَتَيْنِ أفضل وَقَاعِدَة فِي الانغماس فِي الْعَدو وَهل يُبَاح وَقَاعِدَة فِي ضَمَان الْبَسَاتِين هَل يجوز أم لَا وَله قَوَاعِد فِي النهى هَل يَقْتَضِي فَسَاد المنهى عَنهُ وَقَاعِدَة فِي زَكَاة مَال الصَّبِي وَقَاعِدَة فِي الْإِيمَان المقرون بِالْإِحْسَانِ وَفِي الْإِحْسَان المقرون بِالْإِسْلَامِ وَقَاعِدَة فِي اقتران الْإِيمَان بالاحتساب وَقَاعِدَة وأجوبة فِي النُّجُوم هَل لَهَا تَأْثِير عِنْد الاقتران والمقابلة وَفِي الْكُسُوف هَل يقبل قَول المنجمين فِيهِ وَفِي رُؤْيَة الْهلَال وَنَحْو ذَلِك نَحْو مُجَلد وَقَاعِدَة فِي الْأَقْرَاء هَل هِيَ الْحيض أَو الاطهار وَاخْتَارَ أَنَّهَا الْحيض وَقَاعِدَة فِي السكر وأسبابه وَأَحْكَامه

وَقَاعِدَة فِي الاستفتاحات فِي الصَّلَاة وَقَاعِدَة تَتَضَمَّن ذكر ملابس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسلاحه ودوابه وَهِي القرمانية وَقَاعِدَة تتَعَلَّق بمسائل من التَّيَمُّم وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ تسمى تيسير الْعِبَادَات لأرباب الضرورات وَقَاعِدَة فِي النصيرية وحكمهم وَقَاعِدَة فِي تَحْرِيم الشبابة وَقَاعِدَة فِي الْعُقُود اللَّازِمَة والجائزة وَله قَاعِدَة جليلة فِي وجوب الِاعْتِصَام بالرسالة وَأَن كل خير فِي الْعَالم فأصله مُتَابعَة الرُّسُل وكل شَرّ فَمن مخالفتهم إِمَّا جهلا أَو عمدا وَقَاعِدَة فِي تحزيب الْقُرْآن وَمَا يتَعَلَّق بذلك وَمَا ورد فِيهِ من الْآثَار وَقَاعِدَة فِي الْكَلَام على الْمُمكن وَقَاعِدَة فِي ذَبَائِح أهل الْكتاب وَقَاعِدَة فِي تَعْلِيل الْأَفْعَال وَقَاعِدَة فِي الْكَلَام على الْعدَد

وَله رسائل تشْتَمل على عُلُوم كَثِيرَة مِنْهَا رِسَالَة كتبهَا إِلَى الشَّيْخ شمس الدّين الدباهي تسمى المدنية ورسالة كتبهَا إِلَى الشَّيْخ نصر المنيحي تسمى المصرية ورسالة كتبهَا إِلَى أهل بَغْدَاد ورسالة كتبهَا إِلَى أهل الْبَصْرَة ورسالة كتبهَا إِلَى القَاضِي شمس الدّين السرُوجِي قَاضِي الْحَنَفِيَّة بِمصْر ورسائل إِلَى غَيره من الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء ورسالة كتبهَا إِلَى بَيت الشَّيْخ عدي بن مُسَافر تسمى العدوية ورسالة كتبهَا إِلَى بَيت الشَّيْخ جاكير وَأرْسل إِلَيْهِم أجوبة فِي مُجَلد غير الرسَالَة ورسالة كتبهَا إِلَى ملك قبرص فِي مصَالح الْمُسلمين تَتَضَمَّن علوما نافعة وَله رسائل إِلَى الْبَحْرين وَإِلَى مُلُوك الْعَرَب وَإِلَى ثغور الشأم إِلَى طرابلس وَغَيرهَا بمصالح تتَعَلَّق بِالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر ورسالة لأهل تدمر

ورسالة إِلَى طبرستان وجيلان ورسائل للملوك ملك مصر وَملك حماة وَغَيرهمَا ورسائل إِلَى الْأُمَرَاء الْكِبَار ورسائل كَثِيرَة كتبهَا إِلَى الصلحاء من إخوانه من مصر إِلَى دمشق وَمن دمشق إِلَى غَيرهَا وَمن السجْن شَيْء كثير يحتوي على مجلدات عدَّة وَله من الْكَلَام على مسَائِل الْعُلُوّ والاستواء وَالصِّفَات الخبرية وَمَا يتَعَلَّق بذلك من الرَّد على الْجَهْمِية والقدرية والجبرية وَغَيرهم من أهل الْأَهْوَاء والبدع مَا يشْتَمل على مجلدات كَثِيرَة وَله من الْكَلَام على فروع الْفِقْه والأجوبة الْمُتَعَلّقَة بذلك شَيْء كثير يشق إحصاؤه ويعسر ضَبطه وَمن مؤلفاته الْكَلَام على دَعْوَة ذِي النُّون فِي مُجَلد لطيف وَكتاب فِيهِ الْكَلَام على إِرَادَة الرب تَعَالَى وَقدرته وتحرير القَوْل فِي ذَلِك على كَلَام الرَّازِيّ فِي المطالب الْعَالِيَة وَمَسْأَلَة فِي الْعُلُوّ أجَاب فِيهَا عَن شبه الْمُخَالفين وَهِي مفيدة وَأُخْرَى فِي الصِّفَات تسمى المراكشية وتشتمل على نقُول كَثِيرَة وَقَاعِدَة تَتَضَمَّن صِفَات الْكَمَال وَمَا الضَّابِط فِيهَا مِمَّا يسْتَحقّهُ الرب تَعَالَى تسمى الأكملية والإحاطة الْكُبْرَى

والإحاطة الصُّغْرَى وعقيدة الْفرْقَة النَّاجِية وتعرف بالواسطية وَالْجَوَاب عَمَّا أورد عَلَيْهَا عِنْد المناظرة بقصر الْإِمَارَة بِدِمَشْق وَالْكَلَام على حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن الَّذِي فِيهِ جِئْنَا نَسْأَلك عَن أول هَذَا الْأَمر وَهُوَ مؤلف مُفِيد وَالْكَلَام على حَدِيث عبد الله بن خَليفَة عَن عمر وَهل هُوَ ثَابت أم لَا وَأي أَلْفَاظه هُوَ الْمَحْفُوظ وَكتاب فِي نزُول الرب تبَارك وَتَعَالَى كل لَيْلَة إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا وَالْجَوَاب عَن اخْتِلَاف وقته باخْتلَاف الْبلدَانِ والمطالع وَجَوَاب فِي اللِّقَاء وَمَا ورد فِي الْقُرْآن وَغَيره وَجَوَاب فِي الاسْتوَاء وَالنُّزُول هَل هُوَ حَقِيقَة أم لَا تسمى الأربلية وَجَوَاب فِي الاسْتوَاء وَإِبْطَال قَول من تَأَوَّلَه بِالِاسْتِيلَاءِ من نَحْو عشْرين وَجها وَمَسْأَلَة فِي المباينة بَين الله وَبَين خلقه وَله أجوبة أخر فِي مباينة الله لخلقه وفيمن يَقُول إِنَّه سُبْحَانَهُ على عَرْشه بِذَاتِهِ وأقوال السّلف فِي ذَلِك وَله مسَائِل كَثِيرَة فِي الْأَفْعَال الاختيارية الْمُسَمَّاة عِنْد بعض الْمُتَكَلِّمين بحلول الْحَوَادِث

مِنْهَا كَلَام مُفْرد على كَلَام الرَّازِيّ فِي الْأَرْبَعين وَله مسَائِل وأجوبة فِي مَسْأَلَة الْقدر وَالرَّدّ على الْقَدَرِيَّة وعَلى الجبرية أَكثر من مُجَلد وَله مَسْأَلَة فِي مَحل الشّعْر والعلوم وَغَيرهَا هَل هُوَ وَاحِد أَو مُتَعَدد وَله درس السكرية بالبسملة جُزْء ودرس الحنبلية فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة} جُزْء حسن وَمَسْأَلَة فِيمَن يَدعِي أَن لِلْقُرْآنِ بَاطِنا إِلَى سَبْعَة أبطن وَمَسْأَلَة فِي عقل الْإِنْسَان وروحه والحلبية فِي الصِّفَات وَهل هِيَ زَائِدَة على الذَّات أم لَا وَالرَّدّ على ابْن سينا فِي رسَالَته الأصحوية نَحْو مُجَلد وَجَوَاب فِي الْعَزْم على الْمعْصِيَة هَل يُعَاقب عَلَيْهِ العَبْد وَجَوَاب على حزب الشاذلي وَمَا يُشبههُ مُجَلد لطيف وَجَوَاب فِي الْكفَّار من التتر وَغَيرهم وَهل لَهُم خفراء بقلوبهم لَهُم تَأْثِير وَله شرح كَلَام الشَّيْخ عبد القادر فِي غير مَوضِع نَحْو مُجَلد وَقَاعِدَة فِي قَوْله تَعَالَى {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ

وَله جَوَاب فِي يزِيد بن مُعَاوِيَة وَهل يجوز سبه ام لَا وَله قَاعِدَة فِي فضل مُعَاوِيَة وَجَوَاب فِي الْخضر هَل مَاتَ أَو هُوَ حَيّ وَاخْتَارَ أَنه مَاتَ وَله جَوَاب فِي أَن الذَّبِيح من ولد ابراهيم عَلَيْهِ السَّلَام هُوَ اسمعيل وَاحْتج لذَلِك بأدلة كَثِيرَة وَجَوَاب فِي زِيَارَة الْقُدس يَوْم عَرَفَة للتعريف بِهِ وَله أجوبة كَثِيرَة فِي هَذَا الْمَعْنى وَجَوَاب فِي احتجاج الْجَهْمِية وَالنَّصَارَى بِالْكَلِمَةِ وَجَوَاب فِيمَن عزم على فعل محرم ثمَّ تَابَ وَجَوَاب فِي الذَّوْق والوجد الَّذِي يذكرهُ الصُّوفِيَّة وَجَوَاب فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَالَ أَنا خير من يُونُس ابْن مَتى فقد كذب وَجَوَاب فِي التشاغل بِكَلَام الله وأسمائه وَذكره أَي ذَلِك أفضل وَجَوَاب فِي غض الْبَصَر وَحفظ الْفرج وَجَوَاب فِي الْمَعِيَّة وأحكامها وَله فِي مسَائِل الرّوح وَهل تعذب فِي الْقَبْر مَعَ الْجَسَد وَهل تفارق الْبدن بِالْمَوْتِ وَهل تتَصَوَّر بِصُورَة وتعقل بعد الْمَوْت وَنَحْو ذَلِك مُجَلد

وَله جَوَاب هَل كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الرسَالَة نَبيا وَهل يُسمى من صَحبه إِذْ ذَاك صحابيا وَجَوَاب هَل كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل الْوَحْي متعبدا بشرع من قبله من الْأَنْبِيَاء وَله جَوَاب فِي كفر فِرْعَوْن وَالرَّدّ على من لم يكفره وَجَوَاب فِي ذِي الفقار هَل كَانَ سَيْفا لعَلي رَضِي الله عَنهُ وَله قَوَاعِد وأجوبة فِي الْإِيمَان هَل يزِيد وَينْقص وَمَا يتبع ذَلِك نَحْو مُجَلد وَله جَوَاب فِي عقيدة الأشعرية وعقيدة الماتريدي وَغَيره من الْحَنَفِيَّة تسمى الماتريدية وَله عقيدة تسمى الحوفية وَله أجوبة فِي الْعَرْش والعالم هَل هُوَ كرى الشكل أم لَا وَفِي قصد الْقُلُوب الْعُلُوّ مَا سَببه وَله فِي الْكَلَام على تَوْحِيد الفلاسفة على نظم ابْن سينا مُجَلد لطيف وَله جَوَاب محيي الدّين الْأَصْبَهَانِيّ فِي عدَّة كراريس وَله جَوَاب فِي الْفرق بَين مَا يتَأَوَّل من النُّصُوص وَمَا لَا يتَأَوَّل

وَمَسْأَلَة فِي قَوْله أمرت أَن أخاطب النَّاس على قدر عُقُولهمْ هَل هُوَ كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَاعِدَة فِي الرَّد على أهل الِاتِّحَاد وَله مؤلف فِي الرَّد على ابْن غربي وَجَوَاب على حَال الحلاج وَرفع مَا وَقع فِيهِ من اللجاج وَله مسَائِل وقواعد فِي الاستغاثة غير مَا تقدم ذكره وَجَوَاب فِي الرِّضَا على كَلَام أبي سُلَيْمَان الدَّارَانِي وَجَوَاب فِي رُؤْيَة النِّسَاء رَبهم فِي الْجنَّة سَأَلَهُ عَنهُ الشَّيْخ ابراهيم الرقى رَحمَه الله وَجَوَاب فِي الْعَبَّاس وبلال رَضِي الله عَنْهُمَا أَيهمَا أفضل وَجَوَاب فِي الْكتاب الَّذِي هم بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرضه فِيمَن يَقُول إِن بعض المشايح أحيى مَيتا وَله أجوبه فِي مسَائِل وَردت من أَصْبَهَان وَجَوَاب عَن مسَائِل وَردت من الأندلس وَجَوَاب عَن سُؤال ورد من الرحبة عَن سُؤال ورد من ماردين وَجَوَاب عَن سُؤال ورد من أزرع

وأجوبه كَثِيرَة عَن مسَائِل وَردت من الصَّلْت وَجَوَاب فِي أَرض الْموَات أذا أَحْيَاهَا الرجل ثمَّ عَادَتْ مواتا هَل تملك بالأحياء مرّة أُخْرَى وَله وَصَايَا عدَّة يسْأَل عَنْهَا وَكتب مِنْهَا وَصِيَّة لِابْنِ الْمُهَاجِرِي فِي كراريس وَوَصِيَّة كتبهَا للتجيبي وَله إجازات مِنْهَا إجَازَة لأهل سبتة ذكر فِيهَا مسموعاته وإجازة كتبهَا لبَعض أهل توريز وإجازة لأهل غرناطة وإجازة لأهل أَصْبَهَان وَله قواععد وأجوبة فِي الْفِقْه كَثِيرَة جدا مِنْهَا قَاعِدَة فِي الْجُمُعَة هَل يشْتَرط لَهَا الاستيطان وَقَاعِدَة فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَهل يجوز على الْمَقْطُوع وَقَاعِدَة فِي حلق الرَّأْس هَل يجوز فِي غير النّسك لغير عذر وقواعد فِي الِاسْتِجْمَار وَفِي الأَرْض هَل تطهر بالشمس وَالرِّيح وقواعد فِي نواقض الْوضُوء وَفِي الْمُحرمَات فِي النِّكَاح

وَقَاعِدَة فِي الْجد هَل يجْبر الْبكر على النِّكَاح وَفِي الاسْتِئْذَان من الْأَب هَل يجب وَجَوَاب فِي الْمَظَالِم الْمُشْتَركَة وأحكامها وَجَوَاب عَن أهل الْبدع هَل يصلى خَلفهم ومسائل وأجوبتها فِي قتال التتار الَّذين قدمُوا مَعَ قازان وَغَيره وَفِي قتال أهل البيعات من النَّصَارَى ونصارى ملطية وقتال الأحلاف والمحاربين نَحْو مُجَلد وَقَاعِدَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله وَقَاعِدَة فِي الْعينَة والتورق وَنَحْوهمَا من البيعات وَقَاعِدَة فِي الْقِرَاءَة خلف الإِمَام وَقَاعِدَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بكر وابتكر وَغسل واغتسل وأجوبة فِي الصَّلَوَات المبتدعة كَصَلَاة الرغائب وَنصف شعْبَان وَنَحْو ذَلِك وأجوبة فِي النَّهْي عَن أعياد النَّصَارَى وَعَما يفعل من الْبدع يَوْم عَاشُورَاء نَحْو مُجَلد

وَله مَسْأَلَة فِي أَن الْجد يسْقط الْأُخوة وَقَاعِدَة فِي تَوْرِيث ذَوي الْأَرْحَام وَمَسْأَلَة فِي بيع الْمُسلم فِيهِ قبل قَبضه هَل يجوز وَله أجوبة فِي رُؤْيَة هِلَال ذِي الْحجَّة إِذا رَآهُ بعض النَّاس مَا حكمهم فِي الْأُضْحِية وَفِي قَوْله صومكم يَوْم تصومون وَفِيمَا إِذا غم هِلَال رَمَضَان لَيْلَة الثَّلَاثِينَ هَل يجب الصَّوْم أم لَا وَجَوَاب فِي الْإِجَارَة هَل الْمَعْقُود عَلَيْهِ تهيؤ الْعين وصلاحيتها لنفع الْمُسْتَأْجر وَهل مَا يحدث فِي الْعين على ملكه وَهل هِيَ على وفْق الْقيَاس وَله قَاعِدَة فِي أَن مَا كَانَ دَاعيا إِلَى الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف يجب النَّهْي عَنهُ وَجَوَاب فِي التَّسْمِيَة على الْوضُوء وقواعد فِي سباق الْخَيل وَرمي النشاب وقواعد وأجوبة فِي النِّيَّة فِي الصَّلَاة وَغير ذَلِك من الْعِبَادَات وأجوبة فِي صَلَاة بعض أَصْحَاب الْمذَاهب خلف بعض وَأَنه جَائِز وَجَوَاب فِيمَن تفقه على مَذْهَب ثمَّ يجد حَدِيثا صَحِيحا بِخِلَاف مذْهبه وَجَوَاب فِيمَن يَقُول أَنا مذهبي غير مُوَافق للأربعة

وَجَوَاب فِيمَن يَقُول من لَا شيخ لَهُ فشيخه الشَّيْطَان وَجَوَاب فِي المخلوقة من مَاء الزَّانِي هَل لَهُ أَن يتَزَوَّج بهَا وَجَوَاب فِي صَلَاة الرَّكْعَتَيْنِ جَالِسا بعد الْوتر وَجَوَاب فِي الْقُنُوت فِي الصُّبْح وَالْوتر وَجَوَاب عَن المرازقة وَمَا يَفْعَلُونَهُ من أَعمال وَالرَّدّ عَلَيْهِم فِيمَا أخطأوا فِيهِ وَقَاعِدَة فِي الْحمام والاغتسال وَقَاعِدَة فِي الصَّلَاة بَين الأذانين يَوْم الْجُمُعَة وَجَوَاب فِي قَوْله خير الْقُرُون الدوارس وَجَوَاب فِي نَصْرَانِيَّة مَاتَت وَفِي بَطنهَا ولد من مُسلم وَجَوَاب فِي امْرَأَة مسلمة مَاتَت وَفِي بَطنهَا إِذْ ذَاك ولد حَيّ متحرك وَجَوَاب مَبْسُوط فِي السجادة الَّتِي تفرش فِي الْمَسْجِد قبل الْجُمُعَة قبل مَجِيء الْمُصَلِّي وَجَوَاب فِي سَاعَة الْجُمُعَة هَل هِيَ مقدرَة بالدرج وَله أجوبة فِي الْوَقْف فِي مُنْقَطع الْوسط وَغَيره

وَله مَسْأَلَة تسمى الْوَاسِطَة وَله إبِْطَال الكيمياء وَمَسْأَلَة الشَّفَاعَة وَمَسْأَلَة الشَّهَادَة بالاستفاضة وَمَسْأَلَة فِي الْإِجَازَة على كتاب المصابيح لِلْبَغوِيِّ وَأُخْرَى على كتاب المصابيح أَيْضا وَله فِي الْأَحَادِيث وَشَرحهَا شَيْء كثير جدا مِنْهَا مَا بيض وَمِنْهَا مَا لم يبيض وَلَو بيض لبلغ مجلدات عديدة وَكتب كثيرا من مُسْند الإِمَام أَحْمد وَغَيره على أَبْوَاب الْفِقْه وَله مُخْتَصر فِي الْكَلم الطّيب جمع فِيهِ الْأَذْكَار المستعملة طرفِي النَّهَار وَغير ذَلِك وَشرح حَدِيث أبي ذَر الَّذِي أَوله يَا عبَادي إِنِّي حرمت الظُّلم على نَفسِي وَحَدِيث الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَحَدِيث بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا وَحَدِيث لايرث الْمُسلم الْكَافِر وَحَدِيث الدُّعَاء الَّذِي علمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر الصّديق اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا

وَحَدِيث جِبْرِيل فِي الْإِيمَان وَالْإِسْلَام غير كتاب الْإِيمَان الْمُتَقَدّم فِي مُجَلد لطيف وَحَدِيث لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يزنى وَهُوَ مُؤمن شَرحه مَرَّات عديدة وَحَدِيث أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف شَرحه غير مرّة وَحَدِيث النُّزُول شَرحه مَرَّات وَحَدِيث الْأَوْلِيَاء الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ مُنْفَردا بِهِ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة شَرحه مَرَّات تَارَة يسئل عَن مَجْمُوعه وَتارَة يسْأَل عَن التَّرَدُّد الْمَذْكُور فِيهِ وَحَدِيث حَكِيم بن حزَام أسلمت على مَا اسلفت من خير وَحَدِيث ابْن مَسْعُود فِي دَرْء الْهم

وَحَدِيث معَاذ وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتدعن دبر كل صَلَاة وَحَدِيث بَرِيرَة وَقَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة إشترطي لَهُم الْوَلَاء وَحَدِيث فحج آدم مُوسَى شَرحه مَرَّات وَحَدِيث لَا يضْرب فَوق عشرَة أسواط إِلَّا فِي حد من حُدُود الله وَحَدِيث اللَّهُمَّ صلي على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَمَا صليت على آل إِبْرَاهِيم وَشرح أَحَادِيث كَثِيرَة غير مَا ذكر وَشرح مَا رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ نعم العَبْد صُهَيْب لَو لم يخف الله لم يَعْصِهِ وَتكلم على لَو وَشرح قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ لَا يرجون عبد إِلَّا ربه وَلَا يخافن إِلَّا ذَنبه وَله أجوبة كَثِيرَة فِي أَحَادِيث يسئل عَنْهَا من صَحِيح يشرحه وَضَعِيف يبين ضعفه وباطل يُنَبه على بُطْلَانه

وَله من الْأَجْوِبَة وَالْقَوَاعِد شَيْء كثير غير مَا تقدم ذكره يشق ضَبطه وإحصاؤه ويعسر حصره واستقصاؤه وسأجتهد إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي ضبط مَا يمكنني من ضبط مؤلفاته فِي مَوضِع آخر غير هَذَا وَأبين مَا صنفه مِنْهَا بِمصْر وَمَا أَلفه مِنْهَا بِدِمَشْق وَمَا جمعه وَهُوَ فِي السجْن وأرتبه ترتيبا حسنا غير هَذَا التَّرْتِيب بعون الله تَعَالَى وقوته ومشيئته قَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله لَو أَرَادَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَحمَه الله أَو غَيره حصرها يَعْنِي مؤلفات الشَّيْخ لما قدرُوا لِأَنَّهُ مَا زَالَ يكْتب وَقد من الله عَلَيْهِ بِسُرْعَة الْكِتَابَة وَيكْتب من حفظه من غير نقل وَأَخْبرنِي غير وَاحِد انه كتب مجلدا لطيفا فِي يَوْم وَكتب غير مرّة أَرْبَعِينَ ورقة فِي جلْسَة وَأكْثر وأحصيت مَا كتبه وبيضه فِي يَوْم فَكَانَ ثَمَان كراريس فِي مَسْأَلَة من أشكل الْمسَائِل وَكَانَ يكْتب على السُّؤَال الْوَاحِد مجلدا

وَأما جَوَاب يكْتب فِيهِ خمسين ورقة وَسِتِّينَ وَأَرْبَعين وَعشْرين فكثير وَكَانَ يكْتب الْجَواب فَإِن حضر من يبيضه وَإِلَّا أَخذ السَّائِل خطه وَذهب وَيكْتب قَوَاعِد كَثِيرَة فِي فنون من الْعلم فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع وَالتَّفْسِير وَغير ذَلِك فَإِن وجد من نَقله من خطه وَإِلَّا لم يشْتَهر وَلم يعرف وَرُبمَا أَخذه بعض أَصْحَابه فَلَا يقدر على نَقله وَلَا يردهُ إِلَيْهِ فَيذْهب وَكَانَ كثيرا مَا يَقُول قد كتبت فِي كَذَا وَفِي كَذَا ويسئل عَن الشَّيْء فَيَقُول قد كتبت فِي هَذَا فَلَا يدْرِي أَيْن هُوَ فيلتفت إِلَى اصحابه وَيَقُول ردوا خطي وأظهروه لينقل فَمن حرصهم عَلَيْهِ لَا يردونه وَمن عجزهم لَا ينقلونه فَيذْهب وَلَا يعرف اسْمه فلهذه الْأَسْبَاب وغبرها تعذر إحصاء مَا كتبه وَمَا صنفه وَمَا كفى هَذَا إِلَّا أَنه لما حبس تفرق أَتْبَاعه وَتَفَرَّقَتْ كتبه وخوفوا أَصْحَابه من أَن يظهروا كتبه ذهب كل أحد بِمَا عِنْده وأخفاه وَلم يظهروا كتبه فَبَقيَ هَذَا يهرب بِمَا عِنْده وَهَذَا يَبِيعهُ أَو يَهبهُ وَهَذَا يخفيه ويودعه حَتَّى إِن مِنْهُم من تسرق كتبه أَو تجحد

فَلَا يَسْتَطِيع أَن يطْلبهَا وَلَا يقدر على تَخْلِيصهَا فبدون هَذَا تتمزق الْكتب والتصانيف وَلَوْلَا أَن الله تَعَالَى لطف وأعان وَمن وأنعم وَجَرت الْعَادة فِي حفظ أَعْيَان كتبه وتصانيفه لما أمكن لأحد أَن يجمعها وَلَقَد رَأَيْت من خرق الْعَادة فِي حفظ كتبه وَجَمعهَا وَإِصْلَاح مَا فسد مِنْهَا ورد مَا ذهب مِنْهَا مَا لَو ذكرته لَكَانَ عجبا يعلم بِهِ كل منصف أَن لله عناية بِهِ وبكلامه لِأَنَّهُ يذب عَن سنة نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وَتَأْويل الْجَاهِلين قلت وَمن مؤلفاته أَيْضا قَاعِدَة فِي تَقْرِير النبوات بِالْعقلِ وَالنَّقْل وَقَاعِدَة فِي تَبْدِيل السَّيِّئَات حَسَنَات وَقَاعِدَة فِي إبِْطَال المجردات وَقَاعِدَة فِي المتشابهات وَقَاعِدَة فِي إِثْبَات الرُّؤْيَة وَالرَّدّ على نفاتها وَقَاعِدَة فِي وجوب تَقْدِيم محبَّة الله تَعَالَى وَرَسُوله على النَّفس وَالْمَال والأهل وَقَاعِدَة فِي لفظ الْجِسْم وَاخْتِلَاف النَّاس واصطلاحاتهم فِي هَذَا الِاسْم

وَقَاعِدَة فِي تَحْرِيم الحشيشة وَبَيَان حكم آكلها وماذا يجب عَلَيْهِ وَقَاعِدَة فِي الرَّد على من قَالَ بِفنَاء الْجنَّة وَالنَّار وَله الحموية الْكُبْرَى والحموية الصُّغْرَى فَأَما الحموية الْكُبْرَى فأملاها بَين الظّهْر وَالْعصر وَهِي جَوَاب عَن سُؤال ورد من حماة سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَجرى بِسَبَب تأليفها أُمُور ومحن وَتكلم الشَّيْخ فِيهَا على آيَات الصِّفَات وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك وَقَالَ فِي مقدمتها وَهِي عَظِيمَة جدا قَوْلنَا فِيهَا مَا قَالَه الله وَرَسُوله وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان وَمَا قَالَه أَئِمَّة الْهدى من بعد هَؤُلَاءِ الَّذين أجمع الْمُسلمُونَ على هدايتهم ودرايتهم وَهَذَا هوالواجب على جَمِيع الْخلق فِي هَذَا الْبَاب وَفِي غَيره فَإِن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهدى وَدين الْحق ليخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد وَشهد لَهُ بِأَنَّهُ بَعثه دَاعيا إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا وَأمره أَن يَقُول {هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني}

فَمن الْمحَال فِي الْعقل وَالدّين أَن يكون السراج الْمُنِير الَّذِي أخرج الله بِهِ النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور وَأنزل مَعَه الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَأمر النَّاس أَن يردوا مَا تنازعوا فِيهِ من أَمر دينهم إِلَى مَا بعث بِهِ من الْكتاب وَالْحكمَة وَهُوَ يَدْعُو إِلَى الله وَإِلَى سَبيله بِإِذْنِهِ على بَصِيرَة وَقد أخبر الله أَنه أكمل لَهُ ولأمته دينهم وَأتم عَلَيْهِم نعْمَته محَال مَعَ هَذَا وَغَيره أَن يكون قد ترك بَاب الْإِيمَان بِاللَّه وَالْعلم بِهِ ملتبسا مشنبها وَلم يُمَيّز مَا يجب لله من الْأَسْمَاء الْحسنى وَالصِّفَات العلى وَمَا يجوز عَلَيْهِ وَمَا يمْتَنع عَلَيْهِ فَإِن معرفَة هَذَا أصل الدّين وأساس الْهِدَايَة وَأفضل وَأوجب مَا اكتسبته الْقُلُوب وحصلته النُّفُوس وأدركته الْعُقُول فَكيف يكون ذَلِك الْكتاب وَذَلِكَ الرَّسُول وَأفضل خلق الله بعد النَّبِيين لم يحكموا هَذَا الْبَاب اعتقادا وقولا وَمن الْمحَال أَيْضا أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد علم أمته كل شَيْء حَتَّى الخراءة

وَقَالَ تركتكم على المحجة الْبَيْضَاء لَيْلهَا كنهارها لَا يزِيغ عَنْهَا بعدِي إِلَّا هَالك وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنهُ أَيْضا مَا بعث الله من نَبِي إِلَّا كَانَ حَقًا عَلَيْهِ أَن يدل أمته على خير مَا يُعلمهُ لَهُم وينهاهم عَن شَرّ مَا يُعلمهُ لَهُم وَقَالَ أَبُو ذَر لقد توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا طَائِر يقلب جناحيه فِي السَّمَاء إِلَّا ذكر لنا مِنْهُ علما وَقَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَاما فَذكر بَدْء الْخلق حَتَّى دخل أهل الْجنَّة مَنَازِلهمْ وَأهل النَّار مَنَازِلهمْ حفظ ذَلِك من حفظه ونسيه من نَسيَه رَوَاهُ البُخَارِيّ محَال مَعَ هَذَا وَمَعَ تعليمهم كل شَيْء لَهُم فِيهِ مَنْفَعَة فِي الدّين وَإِن دق أَن يتْرك تعليمهم مَا يَقُولُونَهُ بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم فِي رَبهم ومعبودهم رب الْعَالمين الَّذِي مَعْرفَته غَايَة المعارف وعبادته أشرف الْمَقَاصِد والوصول إِلَيْهِ غَايَة المطالب بل هَذَا خُلَاصَة الدعْوَة النَّبَوِيَّة

وزبدة الرسَالَة الإلهية فَكيف يتَوَهَّم من فِي قلبه أدنى مسكة من إِيمَان وَحِكْمَة أَن لَا يكون بَيَان هَذَا الْبَاب قد وَقع من الرَّسُول على غَايَة التَّمام ثمَّ إِذا كَانَ قد وَقع ذَلِك مِنْهُ فَمن الْمحَال أَن يكون خير أمته وَأفضل قُرُونهَا قصروا فِي هَذَا الْبَاب زائدين فِيهِ أَو ناقصين عَنهُ ثمَّ من الْمحَال أَيْضا أَن تكون الْقُرُون الفاضلة الْقرن الَّذِي بعث فيهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ كَانُوا غير عَالمين بِهِ وَغير قائلين فِي هَذَا الْبَاب بِالْحَقِّ الْمُبين لِأَن ضد ذَلِك إِمَّا عدم الْعلم وَالْقَوْل وَإِمَّا اعْتِقَاد نقيض الْحق وَقَول خلاف الصدْق وَكِلَاهُمَا مُمْتَنع أما الأول فَلِأَن من فِي قلبه أدنى حَيَاة وَطلب للْعلم ونهمة فِي الْعِبَادَة يكون الْبَحْث عَن هَذَا الْبَاب وَالسُّؤَال عَنهُ وَمَعْرِفَة الْحق فِيهِ أكبر مقاصده وَأعظم مطالبه وَلَيْسَت النُّفُوس الصَّحِيحَة إِلَى شَيْء أشوق مِنْهَا إِلَى معرفَة هَذَا الْأَمر وَهَذَا أَمر مَعْلُوم بالفطرة الوجدية

فَكيف يتَصَوَّر مَعَ قيام هَذَا الْمُقْتَضى الَّذِي هُوَ من أقوى المقتضيات أَن يتَخَلَّف عَنهُ مُقْتَضَاهُ لأولئك السَّادة فِي مَجْمُوع عصرهم هَذَا لَا يكَاد يَقع فِي أبلد الْخلق وأشدهم إعْرَاضًا عَن الله وأعظمهم إكبابا على طلب الدُّنْيَا والغفلة عَن ذكر الله فَكيف يَقع فِي أُولَئِكَ وَأما كَونهم كَانُوا معتقدين فِيهِ غير الْحق أَو قائليه فَهَذَا لَا يَعْتَقِدهُ مُسلم وَلَا عَاقل عرف حَال الْقَوْم ثمَّ الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب عَنْهُم أَكثر من أَن يُمكن أَن يسطر فِي هَذِه الْفتيا أَو أضعافها يعرف ذَلِك من طلبه وتتبعه وَلَا يجوز أَيْضا أَن يكون الخالفون أعلم من السالفين كَمَا قد يَقُوله بعض الأغبياء مِمَّن لم يقدر قدر السّلف بل وَلَا عرف الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ بِهِ حَقِيقَة الْمعرفَة الْمَأْمُور بهَا من أَن طَريقَة السّلف أسلم وَطَرِيقَة الْخلف أعلم وَأحكم فَإِن هَؤُلَاءِ المبتدعة الَّذين يفضلون طَريقَة الْخلف من المتفلسفة وَمن حذا حذوهم على طَريقَة السّلف إِنَّمَا أَتَوا من حَيْثُ ظنُّوا أَن طَريقَة السّلف هِيَ مُجَرّد الْإِيمَان بِأَلْفَاظ الْقُرْآن والْحَدِيث من غير فقه لذَلِك بِمَنْزِلَة

الْأُمِّيين الَّذين قَالَ الله فيهم {وَمِنْهُم أُمِّيُّونَ لَا يعلمُونَ الْكتاب إِلَّا أماني} وَأَن طَريقَة الْخلف هِيَ اسْتِخْرَاج مَعَاني النُّصُوص المصروفة عَن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللُّغَات فَهَذَا الظَّن الْفَاسِد أوجب تِلْكَ الْمقَالة الَّتِي مضمونها نبذ الْإِسْلَام وَرَاء الظّهْر وَقد كذبُوا على طَريقَة السّلف وَضَلُّوا فِي تصويب طَريقَة الْخلف فَجمعُوا بَين الْجَهْل بطريقة السّلف فِي الْكَذِب عَلَيْهِم وَبَين الْجَهْل والضلال بتصويب طَريقَة الْخلف وَسبب ذَلِك اعْتِقَادهم أَنه لَيْسَ لله فِي نفس الْأَمر صفة دلّت عَلَيْهَا هَذِه النُّصُوص بِالشُّبُهَاتِ الْفَاسِدَة الَّتِي شاركوا فِيهَا إخْوَانهمْ من الْكَافرين فَلَمَّا اعتقدوا انْتِفَاء الصِّفَات فِي نفس الْأَمر وَكَانَ مَعَ ذَلِك لَا بُد للنصوص من معنى بقوا مترددين بَين الْإِيمَان بِاللَّفْظِ وتفويض الْمَعْنى وَهِي الَّتِي يسمونها طَريقَة السّلف وَبَين صرف اللَّفْظ إِلَى معَان أُخْرَى بِنَوْع تكلّف وَهِي الَّتِي يسمونها طَريقَة الْخلف فَصَارَ هَذَا الْبَاطِل مركبا من فَسَاد الْعقل وَالْكفْر بِالسَّمْعِ

فَإِن النَّفْي إِنَّمَا اعتمدوا فِيهِ على أُمُور عقلية ظنوها بَيِّنَات وَهِي شُبُهَات والسمع حرفوا فِيهِ الْكَلم عَن موَاضعه فَلَمَّا ابتنى أَمرهم على هَاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين كَانَت النتيجة استجهال السَّابِقين الْأَوليين واستبلاههم واعتقاد انهم كَانُوا أُمِّيين بِمَنْزِلَة الصَّالِحين من الْعَامَّة لم يتبحروا فِي حقائق الْعلم بِاللَّه وَلم يتفطنوا لدقيق الْعلم الإلهي وَأَن الْخلف الْفُضَلَاء حازوا قصب البسق فِي هَذَا كُله وهذاالقول إِذا تدبره الْإِنْسَان وجده فِي غَايَة الْجَهَالَة بل فِي غَايَة الضَّلَالَة كَيفَ يكون هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخّرُونَ لَا سِيمَا وَالْإِشَارَة بالخلف إِلَى ضرب من الْمُتَكَلِّمين الَّذين كثر فِي الدّين اضطرابهم وَغلظ عَن معرفَة الله حجابهم وَأخْبر الْوَاقِف على نِهَايَة إقدامهم بِمَا انْتهى إِلَيْهِ من مرامهم حَيْثُ يَقُول ... لعمري لقد طفت الْمعَاهد كلهَا ... وسيرت طرفِي بَين تِلْكَ المعالم فَلم أر إِلَّا وَاضِعا كف حائر ... على ذقن أَو قارعا سنّ نادم ... وأقروا على أنفسهم بِمَا قَالُوهُ متمثلين بِهِ أَو منشئين لَهُ فِيمَا صنفوه

من كتبهمْ كَقَوْل بعض رُؤَسَائِهِمْ ... نِهَايَة إقدام الْعُقُول عقال ... وَأكْثر سعي الْعَالمين ضلال وأرواحنا فِي وَحْشَة من جسومنا ... وَحَاصِل دُنْيَانَا أَذَى ووبال وَلم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أَن جَمعنَا فِيهِ قيل وَقَالُوا ... لقد تَأَمَّلت الطّرق الكلامية والمناهج الفلسفية فَمَا رَأَيْتهَا تشفي عليلا وَلَا تروي غليلا وَرَأَيْت أقرب الطّرق طَريقَة الْقُرْآن أَقرَأ فِي الْإِثْبَات {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب} {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وأقرأ فِي النَّفْي {لَيْسَ كمثله شَيْء} {وَلَا يحيطون بِهِ علما} قَالَ وَمن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وَيَقُول الآخر مِنْهُم لقد خضت الْبَحْر الخضم وَتركت أهل الْإِسْلَام وعلومهم وخضت فِي الَّذِي نهوني عَنهُ والآن إِن لم يتداركني رَبِّي برحمته فالويل لفُلَان وَهَا أَنا أَمُوت على عقيدة أُمِّي وَيَقُول الآخر مِنْهُم أَكثر النَّاس شكا عِنْد الْمَوْت اصحاب الْكَلَام

ثمَّ هَؤُلَاءِ المتكلمون المخالفون للسلف إِذا حقق الْأَمر عَلَيْهِم لم يُوجد عِنْدهم من حَقِيقَة الْعلم بِاللَّه وخالص الْمعرفَة بِهِ خبر وَلم يقعوا من ذَلِك على عين وَلَا أثر كَيفَ يكون هَؤُلَاءِ المحجوبون المنقوصون المسبوقون المفضولون الحيارى المتهوكون أعلم بِاللَّه وأسمائه وَصِفَاته وَأحكم فِي بَاب ذَاته وآياته من السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان من وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وخلفاء الرُّسُل وأعلام الْهدى ومصابيح الدجى الَّذين بهم قَامَ الْكتاب وَبِه قَامُوا وبهم نطق الْكتاب وَبِه نطقوا الَّذين وهبهم الله من الْعلم وَالْحكمَة مَا برزوا بِهِ على سَائِر أَتبَاع الْأَنْبِيَاء فضلا عَن سَائِر الْأُمَم الَّذين لَا كتاب لَهُم وَأَحَاطُوا من حقائق المعارف وبواطن الْحَقَائِق بِمَا لَو جمعت حِكْمَة غَيرهم إِلَيْهَا لاستحيى من يطْلب الْمُقَابلَة ثمَّ يكون خير قُرُون الْأمة أنقص فِي الْعلم وَالْحكمَة لَا سِيمَا الْعلم بِاللَّه وَأَحْكَام أَسْمَائِهِ وآياته من هَؤُلَاءِ الأصاغر بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم أم كَيفَ يكون أفراخ الفلاسفة وَأَتْبَاع الْهِنْد واليونان وورثة الْمَجُوس وَالْمُشْرِكين وضلال الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وأشكالهم وأشباههم أعلم بِاللَّه من وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وَأهل الْقُرْآن وَالْإِيمَان وَإِنَّمَا قدمت هَذِه الْمُقدمَة لِأَن من اسْتَقَرَّتْ عِنْده هَذِه الْمُقدمَة

علم طَرِيق الْهدى أَيْن هُوَ فِي هَذَا الْبَاب وَغَيره وَعلم أَن الضلال والتهوك إِنَّمَا استولى على كثير من الْمُتَأَخِّرين بنبذهم كتاب الله وَرَاء ظُهُورهمْ وإعراضهم عَمَّا بعث الله بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْبَينَات وَالْهدى وتركهم ال الْبَحْث عَن طَرِيق السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ والتماسهم علم معرفَة الله مِمَّن لم يعرف الله بِإِقْرَارِهِ على نَفسه وبشهادة الْأمة على ذَلِك وبدلالات كَثِيرَة وَلَيْسَ غرضي وَاحِدًا معينا وَإِنَّمَا أصف نوع هَؤُلَاءِ وَنَوع هَؤُلَاءِ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَهَذَا كتاب الله من أَوله إِلَى آخِره وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَولهَا إِلَى آخرهَا ثمَّ عَامَّة كَلَام الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ثمَّ كَلَام سَائِر الْأَئِمَّة مَمْلُوء بِمَا هُوَ إِمَّا نَص وَإِمَّا ظَاهر فِي أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعلي الْأَعْلَى وَهُوَ فَوق كل شَيْء وَهُوَ عَال على كل شَيْء وَأَنه فَوق الْعَرْش وَأَنه فَوق السَّمَاء مثل قَوْله {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ} {إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ} {أأمنتم من فِي السَّمَاء أَن يخسف بكم الأَرْض فَإِذا هِيَ تمور أم أمنتم من فِي السَّمَاء أَن يُرْسل عَلَيْكُم حاصبا} {بل رَفعه الله إِلَيْهِ} {تعرج الْمَلَائِكَة وَالروح إِلَيْهِ}

{يدبر الْأَمر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض ثمَّ يعرج إِلَيْهِ} {يخَافُونَ رَبهم من فَوْقهم} {ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش} فِي سِتَّة مَوَاضِع {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} {يَا هامان ابْن لي صرحا لعَلي أبلغ الْأَسْبَاب أَسبَاب السَّمَاوَات فَأطلع إِلَى إِلَه مُوسَى وَإِنِّي لأظنه كَاذِبًا} {تَنْزِيل من حَكِيم حميد} {منزل من رَبك} إِلَى أَمْثَال ذَلِك مِمَّا لَا يكَاد يُحْصى إِلَّا بكلفة وَفِي الْأَحَادِيث الصِّحَاح والحسان مَا لَا يُحْصى إِلَّا بكلفة مثل قصَّة مِعْرَاج الرَّسُول إِلَى ربه ونزول الْمَلَائِكَة من عِنْد الله وصعودها إِلَيْهِ وَقَوله فِي الْمَلَائِكَة الَّذين يتعاقبون فِيكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار فيعرج الَّذين باتوا فِيكُم إِلَى رَبهم فيسألهم وَهُوَ أعلم بهم وَفِي الصَّحِيح من حَدِيث الْخَوَارِج أَلا تأمنوني وَأَنا أَمِين من فِي السَّمَاء يأتيني خبر السَّمَاء صباحا وَمَسَاء وَفِي حَدِيث الرّقية الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره رَبنَا الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمك أَمرك فِي السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا رحمتك فِي السَّمَاء

اجْعَل رحمتك فِي الأَرْض اغْفِر لنا حوبنا وخطايانا أَنْت رب الطيبين أنزل رَحْمَة من رحمتك وشفاء من شفائك على هَذَا الوجع قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اشْتَكَى أحد مِنْكُم أَو اشْتَكَى أَخ لَهُ فَلْيقل رَبنَا الَّذِي فِي السَّمَاء وَذكره وَفِي حَدِيث الأوعال وَالْعرش فَوق ذَلِك وَالله فَوق عَرْشه وَهُوَ يعلم مَا أَنْتُم عَلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَغَيرهمَا وَقَوله فِي الحَدِيث الصَّحِيح لِلْجَارِيَةِ أَيْن الله قَالَت فِي السَّمَاء قَالَ من أَنا قَالَت أَنْت رَسُول الله قَالَ أعْتقهَا فَإِنَّهَا مُؤمنَة وَقَوله فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِن الله لما خلق الْخلق كتب فِي كتاب فَهُوَ مَوْضُوع عِنْده فَوق الْعَرْش إِن رَحْمَتي سبقت غَضَبي وَقَوله فِي حَدِيث قبض الرّوح حَتَّى يعرج بهَا إِلَى السَّمَاء الَّتِي فِيهَا الله عز وَجل وَقَول عبد الله بن رَوَاحَة الَّذِي أنْشدهُ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقرهُ عَلَيْهِ

.. شهِدت بِأَن وعد الله حق ... وَأَن النَّار مثوى الْكَافرين وَأَن الْعَرْش فَوق المَاء طَاف ... وَفَوق الْعَرْش رب الْعَالمين ... وَقَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت الَّذِي أنْشد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وَغَيره من شعره فَاسْتَحْسَنَهُ وَقَالَ آمن شعره وَكفر قلبه ... مجدوا الله فَهُوَ للمجد أهل ... رَبنَا فِي السَّمَاء أَمْسَى كَبِيرا بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سبق الن ... اس وَسوى فَوق السَّمَاء سريرا شرجعا مَا يَنَالهُ بصر ال ... عين ترى دونه الملائك صورا ... وَقَوله فِي الحَدِيث الَّذِي فِي السّنَن إِن الله حَيّ كريم يستحي من عَبده إِذا رفع يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَن يردهما صفرا وَقَوله فِي الحَدِيث يمد يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء يَا رب يَا رب إِلَى أَمْثَال ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصِيه إِلَّا الله مِمَّا هُوَ من أبلغ التواترات اللفظية والمعنوية الَّتِي تورث علما يقينيا من أبلغ الْعُلُوم الضرورية أَن الرَّسُول الْمبلغ عَن الله ألْقى إِلَى أمته المدعوين أَن الله سُبْحَانَهُ على الْعَرْش وَأَنه فَوق السَّمَاء كَمَا فطر الله على ذَلِك جَمِيع الْأُمَم عربهم

وعجمهم فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام إِلَّا من احتالته الشَّيَاطِين عَن فطرته ثمَّ عَن السّلف فِي ذَلِك من الْأَقْوَال مَا لَو جمع لبلغ مئين وألوفا ثمَّ لَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أحد من سلف الْأمة لَا من الصَّحَابَة وَلَا من التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان وَلَا عَن الْأَئِمَّة الَّذين أدركوا زمن الْأَهْوَاء وَالِاخْتِلَاف حرف وَاحِد يُخَالف ذَلِك لَا نصا وَلَا ظَاهرا وَلم يقل أحد مِنْهُم قطّ إِن الله لَيْسَ فِي السَّمَاء وَلَا أَنه لَيْسَ على الْعَرْش وَلَا أَنه بِذَاتِهِ فِي كل مَكَان وَلَا أَن جَمِيع الْأَمْكِنَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاء وَلِأَنَّهُ لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا مُتَّصِل وَلَا مُنْفَصِل وَلَا أَنه لَا تحوز إِلَيْهِ الأشارة الحسية الْأَصَابِع وَنَحْوهَا بل قد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن جَابر بن عبد الله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما خطب خطبَته الْعَظِيمَة يَوْم عَرَفَات فِي أعظم مجمع حَضَره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل يَقُول أَلا هَل بلغت فَيَقُولُونَ نعم فيرفع إصبعه إِلَى السَّمَاء وينكتها إِلَيْهِم وَيَقُول اللَّهُمَّ اشْهَدْ غير مرّة وأمثال ذَلِك كثير فَإِن كَانَ الْحق مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ السالبون النافون للصفات الثَّابِتَة بِالْكتاب وَالسّنة من هَذِه الْعبارَات وَنَحْوهَا دون مَا يفهم من الْكتاب وَالسّنة إِمَّا نصا وَإِمَّا ظَاهرا فَكيف يجوز على الله تَعَالَى ثمَّ على

رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ على خير الْأمة أَنهم يَتَكَلَّمُونَ دَائِما بِمَا هُوَ إِمَّا نَص أَو ظَاهر فِي خلاف الْحق ثمَّ الْحق الَّذِي يجب اعْتِقَاده لَا يبوحون بِهِ قطّ وَلَا يدلون عَلَيْهِ لَا نصا وَلَا ظَاهرا حَتَّى تَجِيء أَنْبَاط الْفرس وَالروم وفروخ الْيَهُود وَالنَّصَارَى والفلاسفة يبينون للْأمة العقيدة الصَّحِيحَة الَّتِي يجب على كل مُكَلّف أَو كل فَاضل أَن يعتقدها لَئِن كَانَ الْحق مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ المتكلمون المتكلفون وَهُوَ الِاعْتِقَاد الْوَاجِب وهم مَعَ ذَلِك أحيلوا فِي مَعْرفَته على مُجَرّد عُقُولهمْ وَأَن يدفعوا بِمُقْتَضى قِيَاس عُقُولهمْ مَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة نصا أَو ظَاهرا لقد كَانَ ترك النَّاس بِلَا كتاب وَلَا سنة أهْدى لَهُم وأنفع على هَذَا التَّقْدِير بل كَانَ وجود الْكتاب وَالسّنة ضَرَرا مَحْضا فِي أصل الدّين فَإِن حَقِيقَة الْأَمر على مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ إِنَّكُم يَا معشر الْعباد لَا تَطْلُبُوا معرفَة الله وَمَا يسْتَحقّهُ من الصِّفَات نفيا وإثباتا لَا من الْكتاب وَلَا من السّنة وَلَا من طَرِيق سلف الْأمة وَلَكِن انْظُرُوا أَنْتُم فَمَا وجدتموه مُسْتَحقّا لَهُ من الصِّفَات فصفوه بِهِ سَوَاء كَانَ مَوْجُودا فِي الْكتاب وَالسّنة أَو لم يكن وَمَا لم تَجِدُوهُ مُسْتَحقّا لَهُ فِي عقولكم فَلَا تصفوه بِهِ ثمَّ هم هَهُنَا فريقان أَكْثَرهم يَقُولُونَ مَا لم تثبته عقولكم فانفوه وَمِنْهُم من يَقُول بل توقفوا فِيهِ وَمَا نَفَاهُ قِيَاس عقولكم الَّذِي أَنْتُم

فِيهِ مُخْتَلفُونَ ومضطربون اخْتِلَافا أَكثر من جَمِيع اخْتِلَاف على وَجه الأَرْض فانفوه وَإِلَيْهِ عِنْد التَّنَازُع فَارْجِعُوا فَإِنَّهُ الْحق الَّذِي تعبدتكم بِهِ وَمَا كَانَ مَذْكُورا فِي الْكتاب وَالسّنة مِمَّا يُخَالف قياسكم هَذَا أَو يثبت مَا لم تُدْرِكهُ عقولكم على طَريقَة أَكْثَرهم فاعلموا أَنِّي امتحنتكم بتنزيله لَا لِتَأْخُذُوا الْهدى مِنْهُ لَكِن لتجتهدوا فِي تَخْرِيجه على شواذ اللُّغَة وَوَحْشِي الْأَلْفَاظ وغرائب الْكَلَام أَو أَن تسكتوا عَنهُ مفوضين علمه إِلَى الله مَعَ نفي دلَالَته على شَيْء من الصِّفَات هَذَا حَقِيقَة الْأَمر على رَأْي هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمين وَهَذَا الْكَلَام قد رَأَيْته صرح بِمَعْنَاهُ طَائِفَة مِنْهُم وَهُوَ لَازم لجماعتهم لُزُوما لَا محيد عَنهُ ومضمونه أَن كتاب الله لَا يهتدى بِهِ فِي معرفَة الله وَأَن الرَّسُول مَعْزُول عَن التَّعْلِيم والإخبار بِصِفَات من أرْسلهُ وَأَن النَّاس عِنْد التَّنَازُع لَا يردون مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الله وَالرَّسُول بل إِلَى مثل مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة وَإِلَى مثل مَا يتحاكم إِلَيْهِ من لَا يُؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة وهم الْمُشْركُونَ وَالْمَجُوس وَبَعض الصابئين وَإِن كَانَ هَذَا الرَّد لَا يزِيد الْأَمر إِلَّا شدَّة وَلَا يرْتَفع الْخلاف بِهِ إِذْ لكل فريق طواغيت يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَيْهِم وَقد أمروا أَن يكفروا بهم

وَمَا أشبه حَال هَؤُلَاءِ المتكلفين بقوله سُبْحَانَهُ {ألم تَرَ إِلَى الَّذين يَزْعمُونَ أَنهم آمنُوا بِمَا أنزل إِلَيْك وَمَا أنزل من قبلك يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقد أمروا أَن يكفروا بِهِ وَيُرِيد الشَّيْطَان أَن يضلهم ضلالا بَعيدا وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا فَكيف إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة بِمَا قدمت أَيْديهم ثمَّ جاؤوك يحلفُونَ بِاللَّه إِن أردنَا إِلَّا إحسانا وتوفيقا} فَإِن هَؤُلَاءِ إِذا دعوا إِلَى مَا أنزل الله من الْكتاب وَإِلَى الرَّسُول وَالدُّعَاء إِلَيْهِ بعد وَفَاته هُوَ الدُّعَاء إِلَى سنته أَعرضُوا عَن ذَلِك وهم يَقُولُونَ إِنَّا قصدنا الْإِحْسَان علما وَعَملا بِهَذِهِ الطَّرِيق الَّتِي سلكناها والتوفيق بَين الدَّلَائِل الْعَقْلِيَّة والنقلية ثمَّ عَامَّة هَذِه الشُّبُهَات الَّتِي يسمونها دَلَائِل إِنَّمَا تقلدوا أَكْثَرهَا عَن طاغوت من طواغيت الْمُشْركين وَالصَّابِئِينَ أَو بعض ورثتهم الَّذين أمروا أَن يكفروا بهم مثل فلَان وَفُلَان أَو عَمَّن قَالَ كَقَوْلِهِم فِي تشابه قُلُوبهم {فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا} {كَانَ النَّاس أمة وَاحِدَة فَبعث الله النَّبِيين مبشرين ومنذرين وَأنزل مَعَهم الْكتاب بِالْحَقِّ ليحكم بَين النَّاس فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ وَمَا اخْتلف فِيهِ إِلَّا الَّذين أوتوه من بعد مَا جَاءَتْهُم الْبَينَات بغيا بَينهم فهدى الله الَّذين آمنُوا لما اخْتلفُوا فِيهِ من الْحق بِإِذْنِهِ}

ولازم هَذِه الْمقَالة أَن لَا يكون الْكتاب هدى للنَّاس وَلَا بَيَانا وَلَا شِفَاء لما فِي الصُّدُور وَلَا نورا وَلَا مردا عِنْد التَّنَازُع لأَنا نعلم بالاضطرار أَن مَا يَقُول هَؤُلَاءِ المتكلفون إِنَّه الْحق الَّذِي يجب اعْتِقَاده لم يدل عَلَيْهِ الْكتاب وَلَا السّنة لَا نصا وَلَا ظَاهرا وَإِنَّمَا غَايَة المتحذلق مِنْهُم أَن يستنتج هَذَا من قَوْله تَعَالَى {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} {هَل تعلم لَهُ سميا} وبالاضطرار يعلم كل عَاقل أَن من دلّ الْخلق على أَن الله لَيْسَ فَوق الْعَرْش وَلَا فَوق السَّمَوَات وَنَحْو ذَلِك بقوله {هَل تعلم لَهُ سميا} لقد أبعد النجعة وَهُوَ إِمَّا ملغز وَإِمَّا مُدَلّس لم يخاطبهم بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين ولازم هَذِه الْمقَالة أَن يكون ترك النَّاس بِلَا رِسَالَة خيرا لَهُم فِي أصل دينهم لِأَن مردهم قبل الرسَالَة وَبعدهَا وَاحِد وَإِنَّمَا الرسَالَة زادتهم عمى وضلالا

يَا سُبْحَانَ الله كَيفَ لم يقل الرَّسُول يَوْمًا من الدَّهْر وَلَا أحد من سلف الْأمة هَذِه الْآيَات وَالْأَحَادِيث لَا تعتقدوا مَا دلّت عَلَيْهِ لَكِن اعتقدوا الَّذِي تَقْتَضِيه مقاييسكم واعتقدوا كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ الْحق وَمَا خَالفه ظَاهره فَلَا تعتقدوا ظَاهره وانظروا فِيهَا فَمَا وَافق قِيَاس عقولكم فاعتقدوه وَمَا لَا فتوقفوا فِيهِ وانفوه ثمَّ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أخبر بِأَن أمته سَتَفْتَرِقُ ثَلَاثًا وَسبعين فرقة فقد علم مَا سَيكون ثمَّ قَالَ إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا كتاب الله وروى عَنهُ أَنه قَالَ فِي صفة الْفرْقَة النَّاجِية هِيَ من كَانَ على مثل مَا أَنا عَلَيْهِ الْيَوْم وأصحابي فَهَلا قَالَ من تمسك بِالْقُرْآنِ أَو بِدلَالَة الْقُرْآن أَو بِمَفْهُوم الْقُرْآن أَو بِظَاهِر الْقُرْآن فِي بَاب الِاعْتِقَاد فَهُوَ ضال وَإِنَّمَا الْهدى فِي رجوعكم إِلَى مقاييس عقولكم وَمَا يحدثه المتكلمون مِنْكُم بعد الْقُرُون الثَّلَاثَة وَإِن كَانَ نبغ أصل هَذِه الْمقَالة فِي أَوَاخِر عصر التَّابِعين ثمَّ أصل هَذِه الْمقَالة مقَالَة التعطيل للصفات إِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذ عَن تلامذة الْيَهُود وَالْمُشْرِكين وضلال الصابئين فَأول من حفظ عَنهُ أَنه قَالَ هَذِه الْمقَالة فِي الْإِسْلَام هُوَ الْجَعْد

ابْن دِرْهَم فَأَخذهَا عَنهُ الجهم بن صَفْوَان وأظهرها فنسبت مقَالَة الْجَهْمِية إِلَيْهِ وَقد قيل إِن الْجَعْد أَخذ مقَالَته عَن أبان بن سمْعَان وَأَخذهَا أبان من طالوت ابْن أُخْت لبيد بن الأعصم وَأَخذهَا طالوت من لبيد بن الأعصم الْيَهُودِيّ السَّاحر الَّذِي سحر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أَطَالَ الشَّيْخ رَحمَه الله الْكَلَام إِلَى أَن قَالَ وَالْفَتْوَى لَا تحْتَمل الْبسط فِي هَذَا الْبَاب وَإِنَّمَا أُشير إِشَارَة إِلَى مبادىء الْأُمُور والعاقل يسير فَينْظر وَكَلَام السّلف فِي هَذَا الْبَاب مَوْجُود فِي كتب كَثِيرَة لَا يُمكن أَن نذْكر هُنَا إِلَّا قَلِيلا مِنْهُ إِلَى أَن قَالَ وَإِذا كَانَ أصل هَذِه الْمقَالة مقَالَة التعطيل والتأويل مَأْخُوذ عَن تلامذة الْمُشْركين وَالصَّابِئِينَ وَالْيَهُود فَكيف تطيب نفس مُؤمن بل نفس عَاقل أَن يَأْخُذ سَبِيل هَؤُلَاءِ المغضوب عَلَيْهِم

والضالين ويدع سَبِيل الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ قَالَ ثمَّ القَوْل الشَّامِل فِي جَمِيع هَذَا الْبَاب أَن يُوصف الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه أَو وَصفه بِهِ رَسُوله أَو بِمَا وَصفه بِهِ السَّابِقُونَ الْأَولونَ لَا يتَجَاوَز الْقُرْآن والْحَدِيث قَالَ الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ لَا يُوصف الله إِلَّا بِمَا وصف بِهِ نَفسه أَو وَصفه بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَجَاوَز الْقُرْآن والْحَدِيث وَمذهب السّلف أَنهم يصفونَ الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل ثمَّ ذكر الشَّيْخ رَحمَه الله جملا نافعة وأصولا جَامِعَة فِي إِثْبَات الصِّفَات وَالرَّدّ على الْجَهْمِية وَذكر من النقول عَن سلف الْأمة وأئمتها فِي إِثْبَات الْعُلُوّ وَغَيره مَا يضيق هَذَا الْموضع عَن ذكره ثمَّ قَالَ فِي آخر كَلَامه وجماع الْأَمر أَن الْأَقْسَام الممكنة فِي آيَات الصِّفَات وأحاديثها

سِتَّة أَقسَام كل قسم عَلَيْهِ طَائِفَة من اهل الْقبْلَة قِسْمَانِ يَقُولُونَ تجرى على ظَاهرهَا وقسمان يَقُولُونَ هِيَ على خلاف ظَاهرهَا وقسمان يسكتون أما الْأَولونَ فقسمان أَحدهمَا من يجريها على ظَاهرهَا وَيجْعَل ظَاهرهَا من جنس صِفَات المخلوقين فَهَؤُلَاءِ هم المشبهة ومذهبهم بَاطِل أنكرهُ السّلف وإليهم توجه الرَّد بِالْحَقِّ وَالثَّانِي من يجريها على ظَاهرهَا اللَّائِق بِجلَال الله تَعَالَى كَمَا يجْرِي اسْم الْعَلِيم والقدير والرب والإله وَالْمَوْجُود والذات وَنَحْو ذَلِك على ظَاهرهَا اللَّائِق بِجلَال الله تَعَالَى فَإِن ظواهر هَذِه الصِّفَات فِي حق المخلوقين إِمَّا جَوْهَر مُحدث وَإِمَّا عرض قَائِم بِهِ فالعلم وَالْكَلَام وَالْقُدْرَة والمشيئة وَالرَّحْمَة وَالرِّضَا وَنَحْو ذَلِك فِي حق العَبْد أَعْرَاض وَالْوَجْه وَالْيَد وَالْعين فِي حَقه أجسام فَإِذا كَانَ الله مَوْصُوفا عِنْد عَامَّة أهل الْإِثْبَات بِأَن لَهُ علما وقدرة وكلاما ومشيئة وَإِن لم تكن أعراضا يجوز عَلَيْهَا مَا يجوز على صِفَات المخلوقين جَازَ أَن يكون وَجه الله ويداه لَيست أجساما يجوز عَلَيْهَا مَا يجوز على صِفَات المخلوقين وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي حَكَاهُ الْخطابِيّ وَغَيره عَن السّلف وَعَلِيهِ يدل كَلَام جمهوره وَكَلَام البَاقِينَ لَا يُخَالِفهُ وَهُوَ أَمر وَاضح

فَإِن الصِّفَات كذات فَكَمَا أَن ذَات الله ثَابِتَة حَقِيقَة من غير أَن تكون من جنس صِفَات المخلوقين فصفاته ثَابِتَة حَقِيقَة من غير أَن تكون من جنس صِفَات المخلوقين فَمن قَالَ لَا أَعقل علما ويدا إِلَّا من جنس الْعلم وَالْيَد المعهودين قيل لَهُ فَكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذَوَات المخلوقين وَمن الْمَعْلُوم أَن صِفَات كل مَوْصُوف تناسب ذَاته وتلائم حَقِيقَته فَمن لم يفهم من صِفَات الرب الَّذِي لَيْسَ كمثله شَيْء إِلَّا مَا يُنَاسب الْمَخْلُوق فقد ضل فِي عقله وَدينه وَمَا أحسن مَا قَالَ بَعضهم إِذا قَالَ لَك الجهمي كَيفَ اسْتَوَى وَكَيف ينزل إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا وَكَيف يَدَاهُ وَنَحْو ذَلِك فَقل لَهُ كَيفَ هُوَ فِي نَفسه فَإِذا قَالَ لَا يعلم مَا هُوَ إِلَّا هُوَ وكنه الْبَارِي غير مَعْلُوم للبشر فَقل لَهُ فالعلم بكيفية الصّفة مُسْتَلْزم للْعلم بكيفية الْمَوْصُوف فَكيف يُمكن أَن تعلم كَيْفيَّة صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وَإِنَّمَا تعلم الذَّات وَالصِّفَات من حَيْثُ الْجُمْلَة على الْوَجْه الَّذِي يَنْبَغِي لَك بل هَذِه الْمَخْلُوقَات فِي الْجنَّة قد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجنَّة إِلَّا الْأَسْمَاء وَقد أخبر الله تَعَالَى أَنه

{فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله تَعَالَى أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فَإِذا كَانَ نعيم الْجنَّة وَهُوَ خلق من خلق الله كَذَلِك فَمَا الظَّن بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَذِه الرّوح الَّتِي فِي بني آدم قد علم الْعَاقِل اضْطِرَاب النَّاس فِيهَا وإمساك النُّصُوص عَن بَيَان كيفيتها أَفلا يعْتَبر الْعَاقِل بهَا عَن الْكَلَام فِي كَيْفيَّة الله تَعَالَى مَعَ أَنا نقطع أَن الرّوح فِي الْبدن وَأَنَّهَا تخرج مِنْهُ وتعرج إِلَى السَّمَاء وَأَنَّهَا تسل مِنْهُ وَقت النزع كَمَا نطقت بذلك النُّصُوص الصَّحِيحَة لَا نغالي فِي تجريدها غلو المتفلسفة وَمن وافقهم حَيْثُ نفوا عَنْهَا الصعُود وَالنُّزُول والاتصال بِالْبدنِ والانفصال عَنهُ وتخبطوا فِيهَا حَيْثُ رأوها من غير جنس الْبدن وَصِفَاته فَعدم مماثلتها للبدن لَا يَنْفِي أَن تكون هَذِه الصِّفَات ثَابِتَة لَهَا بحسبها إِلَّا أَن يفسروا كَلَامهم بِمَا يُوَافق النُّصُوص فَيَكُونُوا قد أخطأوا فِي اللَّفْظ وأنى لَهُم بذلك وَأما القسمان اللَّذَان ينفيان ظَاهره أَعنِي الَّذين يَقُولُونَ لَيْسَ

لَهَا فِي الْبَاطِن مَدْلُول هُوَ صفة لله تَعَالَى قطّ وَأَن الله لَا صفة لَهُ ثبوتية بل صِفَاته إِمَّا سلب وَإِمَّا إِضَافَة وَإِمَّا مركبة مِنْهُمَا أَو يثبتون بعض الصِّفَات وَهِي السَّبْعَة أَو الثَّمَانِية أَو الْخَمْسَة عشر أَو يثبتون الْأَحْوَال دون الصِّفَات على مَا قد عرف من مَذَاهِب الْمُتَكَلِّمين فَهَؤُلَاءِ قِسْمَانِ قسم يتأولونها ويعينون المُرَاد مثل قَوْلهم اسْتَوَى بِمَعْنى استولى أَو بِمَعْنى علو المكانة وَالْقُدْرَة أَو بِمَعْنى ظُهُور نوره للعرش أَو بِمَعْنى انْتِهَاء الْخلق إِلَيْهِ إِلَى غير ذَلِك من مَعَاني المتكلفين وَقسم يَقُولُونَ الله أعلم بِمَا أَرَادَ بهَا لَكِن نعلم أَنه لم يرد إِثْبَات صفة خَارِجَة عَمَّا علمناه وَأما القسمان الواقفان فقسم يَقُولُونَ يجوز أَن يكون المُرَاد ظَاهرهَا اللَّائِق بِاللَّه وَيجوز أَن لَا يكون المُرَاد صفة لله وَنَحْو ذَلِك وَهَذِه طَريقَة كثير من الْفُقَهَاء وَغَيرهم وَقسم يمسكون عَن هَذَا كُله وَلَا يزِيدُونَ على تِلَاوَة الْقُرْآن وَقِرَاءَة الحَدِيث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عَن هَذِه التقديرات فَهَذِهِ الْأَقْسَام السِّتَّة لَا يُمكن أَن يخرج الرجل عَن قسم مِنْهَا وَالصَّوَاب فِي كثير من آيَات الصِّفَات وأحاديثها الْقطع بالطريقة الثَّانِيَة كالآيات وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على أَنه سُبْحَانَهُ فَوق عَرْشه وَيعلم طَرِيق الصَّوَاب فِي هَذَا وَأَمْثَاله بِدلَالَة الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع على

ذَلِك دلَالَة لَا تحْتَمل النقيض وَفِي بَعْضهَا قد يغلب على الظَّن ذَلِك مَعَ احْتِمَال النقيض وَتردد الْمُؤمن فِي ذَلِك هُوَ بِحَسب مَا يؤتاه من الْعلم وَالْإِيمَان {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} وَمن اشْتبهَ عَلَيْهِ ذَلِك أَو غَيره فَليدع بِمَا رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من اللَّيْل يُصَلِّي يَقُول اللَّهُمَّ رب جِبْرِيل وميكائل وإسرافيل فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهدني لما اخْتلف فِيهِ من الْحق بإذنك إِنَّك تهدي من تشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد أَنه كَانَ يكبر فِي صلَاته ثمَّ يَقُول ذَلِك فَإِذا افْتقر العَبْد إِلَى الله تَعَالَى وَدعَاهُ وأدمن النّظر فِي كَلَام الله تَعَالَى وَكَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلَام الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأئمة الْمُسلمين انْفَتح لَهُ طَرِيق الْهدى ثمَّ إِن كَانَ قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين فِي هَذَا الْبَاب وَعرف غَالب مَا يزعمونه برهانا وَهُوَ شُبْهَة وَرَأى أَن غَالب مَا يعتمدونه يؤول إِلَى دَعْوَى لَا حَقِيقَة لَهَا أَو شُبْهَة مركبة من قِيَاس فَاسد أَو قَضِيَّة كُلية لَا تصح إِلَّا جزئية أَو دَعْوَى إِجْمَاع لَا حَقِيقَة لَهُ والتمثيل فِي الْمَذْهَب وَالدَّلِيل بالألفاظ الْمُشْتَركَة

ثمَّ إِن ذَلِك إِذا ركب بِأَلْفَاظ كَثِيرَة طَوِيلَة غَرِيبَة عَمَّن لم يعرف اصطلاحهم أوهمت الغر مَا يُوهِمهُ السراب للعطشان ازْدَادَ إِيمَانًا وعلما بِمَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة فَإِن الضِّدّ يظْهر حسنه الضِّدّ وكل من كَانَ بِالْبَاطِلِ أعلم كَانَ للحق أَشد تَعْظِيمًا وبقدره أعرف فَأَما الْمُتَوَسّط من الْمُتَكَلِّمين فيخاف عَلَيْهِ مَا لَا يخَاف على من لم يدْخل فِيهِ وعَلى من قد أنهاه نهايته فَإِن من لم يدْخل فِيهِ هُوَ فِي عَافِيَة وَمن أنهاه فقد عرف الْغَايَة فَمَا بَقِي يخَاف عَلَيْهِ من شَيْء آخر فَإِذا ظهر لَهُ الْحق وَهُوَ عطشان إِلَيْهِ قبله وَأما الْمُتَوَسّط فمتوهم بِمَا يلقاه من المقالات الْمَأْخُوذَة تقليدا لمعظمه وتهويلا وَقد قَالَ النَّاس أَكثر مَا يفْسد الدُّنْيَا نصف مُتَكَلم وَنصف متفقه وَنصف متطبب وَنصف نحوي هَذَا يفْسد الْأَدْيَان وَهَذَا يفْسد الْبلدَانِ وَهَذَا يفْسد الْأَبدَان وَهَذَا يفْسد اللِّسَان وَمن علم أَن الْمُتَكَلِّمين من المتفلسفة وَغَيرهم فِي الْغَالِب فِي قَول مُخْتَلف يؤفك عَنهُ من أفك يعلم الذكي مِنْهُم الْعَاقِل أَنه لَيْسَ هُوَ فِيمَا يَقُوله على بَصِيرَة وَأَن حجَّته لَيست بِبَيِّنَة وَإِنَّمَا هِيَ كَمَا قيل فِيهَا ... حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حَقًا وكل كاسر مكسور ...

وَيعلم الْبَصِير الْعَالم أَنهم من وَجه مستحقون مَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ قَالَ حكمي فِي أهل الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَيُطَاف بهم فِي الْقَبَائِل والعشائر وَيُقَال هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأَقْبل على الْكَلَام وَمن وَجه آخر إِذا نظرت إِلَيْهِم بِعَين الْقدر والحيرة مستولية عَلَيْهِم والشيطان مستحوذ عَلَيْهِم رحمتهم ورفقت عَلَيْهِم أُوتُوا ذكاء وَمَا أُوتُوا زكاء وأعطوا فهوما وَمَا أعْطوا علوما وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة {فَمَا أغْنى عَنْهُم سمعهم وَلَا أَبْصَارهم وَلَا أفئدتهم من شَيْء إِذْ كَانُوا يجحدون بآيَات الله وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤون} وَمن كَانَ عَالما بِهَذِهِ الْأُمُور تبين لَهُ بذلك حذق السّلف وعلمهم وخبرتهم حَيْثُ حذروا عَن الْكَلَام ونهوا عَنهُ وذموا أَهله وعابوهم وَعلم أَن من ابْتغى الْهدى من غير الْكتاب وَالسّنة لم يَزْدَدْ إِلَّا بعدا فنسأل الله الْعَظِيم أَن يهدينا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين آمين

تلخيص مبحث

هَذَا آخر الحموية الْكُبْرَى وَهِي سِتّ كراريس بِقطع نصف الْبَلَدِي ألفها الشَّيْخ رَحمَه الله قبل سنة سَبْعمِائة وعمره إِذْ ذَاك دون الْأَرْبَعين سنة ثمَّ انْفَتح لَهُ بعد ذَلِك من الرَّد على الفلاسفة والجهمية وَسَائِر أهل الْأَهْوَاء والبدع مَا لَا يُوصف وَلَا يعبر عَنهُ وَجرى لَهُ من المناظرات العجيبة والمباحثات الدقيقة فِي كتبه وَغير كتبه مَعَ أقرانه وَغَيرهم فِي سَائِر أَنْوَاع الْعُلُوم مَا تضيق الْعبارَة عَنهُ وَقد ذكرنَا عَن ابْن الزملكاني فِيمَا تقدم أَنه قَالَ وَلَا يعرف نَاظر أحدا فَانْقَطع مَعَه وَقد رَأَيْت بِخَط بعض أَصْحَابه مَا صورته تَلْخِيص مَبْحَث جرى بَين شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رَحمَه الله وَبَين ابْن المرحل كَانَ الْكَلَام فِي الْحَمد وَالشُّكْر وَأَن الشُّكْر يكون بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح وَالْحَمْد لَا يكون إِلَّا بِاللِّسَانِ

فَقَالَ ابْن المرحل قد نقل بعض المصنفين وَسَماهُ أَن مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن الشُّكْر لَا يكون إِلَّا بالاعتقاد وَمذهب الْخَوَارِج أَنه يكون بالاعتقاد وَالْقَوْل وَالْعَمَل وبنوا على هَذَا أَن من ترك الْأَعْمَال يكون كَافِرًا لِأَن الْكفْر نقيض الشُّكْر فَإِذا لم يكن شاكرا كَانَ كَافِرًا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا الْمَذْهَب المحكى عَن أهل السّنة خطأ وَالنَّقْل عَن أهل السّنة خطأ فَإِن مَذْهَب أهل السّنة أَن الشُّكْر يكون بالاعتقاد وَالْقَوْل وَالْعَمَل قَالَ الله تَعَالَى {اعْمَلُوا آل دَاوُد شكرا} وَقَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تورمت قدماه فَقيل لَهُ أتفعل هَذَا وَقد غفر الله لَك مَا تقدم من ذَنْبك وَمَا تَأَخّر قَالَ أَفلا أكون عبدا شكُورًا قَالَ ابْن المرحل أَنا لَا أَتكَلّم فِي الدَّلِيل وَأسلم ضعف هَذَا القَوْل لَكِن أَنا أنقل أَنه مَذْهَب أهل السّنة قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين نِسْبَة هَذَا إِلَى أهل السّنة خطأ فَإِن القَوْل إِذا ثَبت ضعفه كَيفَ ينْسب إِلَى أهل الْحق ثمَّ قد صرح من شَاءَ الله من الْعلمَاء المعروفين بِالسنةِ أَن الشُّكْر

يكون بالاعتقاد وَالْقَوْل وَالْعَمَل وَقد دلّ على ذَلِك الْكتاب وَالسّنة قلت وَبَاب وَبَاب سُجُود الشُّكْر فِي الْفِقْه أشهر من أَن يذكر وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سَجْدَة سُورَة (ص) سجدها دَاوُد تَوْبَة وَنحن نسجدها شكرا ثمَّ من الَّذِي قَالَ من أَئِمَّة السّنة إِن الشُّكْر لَا يكون إِلَّا بالاعتقاد قَالَ ابْن المرحل هَذَا قد نقل وَالنَّقْل لَا يمْنَع لَكِن يسْتَشْكل وَيُقَال هَذَا مَذْهَب مُشكل قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية النَّقْل نَوْعَانِ أَحدهمَا أَن ينْقل مَا سمع أَو رأى وَالثَّانِي مَا ينْقل بِاجْتِهَاد واستنباط وَقَول الْقَائِل مَذْهَب فلَان كَذَا أَو مَذْهَب أهل السّنة كَذَا قد يكون نسبه إِلَيْهِ لاعْتِقَاده أَن هَذَا مُقْتَضى أُصُوله وَإِن لم يكن فلَان قَالَ ذَلِك وَمثل هَذَا يدْخلهُ الْخَطَأ كثيرا أَلا ترى أَن كثيرا من المصنفين يَقُولُونَ مَذْهَب الشَّافِعِي أَو غَيره كَذَا وَيكون منصوصه بِخِلَافِهِ وَعذرهمْ فِي ذَلِك أَنهم رَأَوْا أَن أُصُوله تَقْتَضِي ذَلِك القَوْل فنسبوه إِلَى مذْهبه

من جِهَة الاستنباط لَا من جِهَة النَّص وَكَذَلِكَ هَذَا لما كَانَ أهل السّنة لَا يكفرون بِالْمَعَاصِي والخوارج يكفرون بِالْمَعَاصِي ثمَّ رأى المُصَنّف الْكفْر ضد الشُّكْر أعتقد أَنا إِذا جعلنَا الْأَعْمَال شكرا لزم انْتِفَاء الشُّكْر بانتفائها وَمَتى انْتَفَى الشُّكْر خَلفه الْكفْر وَلِهَذَا قَالَ إِنَّهُم بنوا على ذَلِك التَّكْفِير بِالذنُوبِ فَلهَذَا عزى إِلَى أهل السّنة إِخْرَاج الْأَعْمَال عَن الشُّكْر قلت كَمَا أَن كثيرا من الْمُتَكَلِّمين أخرج الْأَعْمَال عَن الْإِيمَان لهَذِهِ الْعلَّة قَالَ وَهَذَا خطأ لِأَن التَّكْفِير نَوْعَانِ أَحدهمَا كفر النِّعْمَة وَالثَّانِي الْكفْر بِاللَّه وَالْكفْر الَّذِي هُوَ ضد الشُّكْر إِنَّمَا هُوَ كفر النِّعْمَة لَا الْكفْر بِاللَّه فَإِذا زَالَ الشُّكْر خَلفه كفر النِّعْمَة لَا الْكفْر بِاللَّه فَإِذا زَالَ الشُّكْر خَلفه كفر النِّعْمَة لَا الْكفْر بِاللَّه قلت على أَنه لَو كَانَ ضد الْكفْر بِاللَّه فَمن ترك الْأَعْمَال شاكرا بِقَلْبِه وَلسَانه فقد أَتَى بِبَعْض الشُّكْر وَأَصله وَالْكفْر إِنَّمَا يثبت إِذا عدم الشُّكْر بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ أهل السّنة إِن من ترك فروع الْإِيمَان لَا يكون كَافِرًا حَتَّى يتْرك أصل الْإِيمَان وَهُوَ الِاعْتِقَاد وَلَا يلْزم من زَوَال فروع الْحَقِيقَة الي هِيَ ذَات شعب وأجزاء زَوَال اسْمهَا كالإنسان إِذا قطعت يَده أَو الشَّجَرَة إِذا قطع بعض فروعها

قَالَ الصَّدْر ابْن المرحل فَإِن أَصْحَابك قد خالفوا الْحسن الْبَصْرِيّ فِي تَسْمِيَة الْفَاسِق كَافِر النِّعْمَة كَمَا خالفوا الْخَوَارِج فِي جعله كَافِرًا بِاللَّه قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَصْحَابِي لم يخالفوا الْحسن فِي هَذَا فعمن تنقل من أَصْحَابِي هَذَا بل يجوز عِنْدهم أَن يُسمى الْفَاسِق كَافِر النِّعْمَة حَيْثُ أطلقته الشَّرِيعَة قَالَ ابْن المرحل إِنِّي أَنا ظَنَنْت أَن أَصْحَابك قد قَالُوا هَذَا لَكِن أَصْحَابِي قد خالفوا الْحسن فِي هَذَا

قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَلَا أَصْحَابك خالفوه فَإِن أَصْحَابك قد تأولوا أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّتِي أطلق فِيهَا الْكفْر على بعض الفسوق مثل ترك الصَّلَاة وقتال الْمُسلمين على أَن المُرَاد بِهِ كفر النِّعْمَة فَعلم أَنهم يطلقون على الْمعاصِي فِي الْجُمْلَة أَنَّهَا كفر النِّعْمَة فَعلم أَنهم موافقو الْحسن لَا مخالفوه ثمَّ عَاد ابْن المرحل فَقَالَ أَنا أنقل هَذَا عَن المُصَنّف وَالنَّقْل مَا يمْنَع لَكِن يسْتَشْكل قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين إِذا دَار الْأَمر بَين أَن ينْسب إِلَى أهل السّنة مَذْهَب بَاطِل أَو ينْسب النَّاقِل عَنْهُم إِلَى تصرفه فِي النَّقْل كَانَ نِسْبَة النَّاقِل إِلَى التَّصَرُّف أولى من نِسْبَة الْبَاطِل إِلَى طَائِفَة أهل الْحق مَعَ انهم صَرَّحُوا فِي غير مَوضِع أَن الشُّكْر يكون بالْقَوْل وَالْعَمَل والاعتقاد وَهَذَا أظهر من أَن ينْقل عَن وَاحِد بِعَيْنِه ثمَّ إِنَّا نعلم بالاضطرار أَنه لَيْسَ من أصُول أهل الْحق إِخْرَاج الْأَعْمَال أَن تكون شكرا لله بل قد نَص الْفُقَهَاء على أَن الزَّكَاة شكر نعْمَة المَال وشواهد هَذَا أَكثر من أَن تحْتَاج إِلَى نقل وَتَفْسِير الشُّكْر بِأَنَّهُ يكون بالْقَوْل وَالْعَمَل فِي الْكتب الَّتِي يتَكَلَّم فِيهَا على لفظ الْحَمد وَالشُّكْر مثل كتب التَّفْسِير واللغة

وشروح الحَدِيث يعرفهُ آحَاد النَّاس وَالْكتاب وَالسّنة قد دلا على ذَلِك فَخرج ابْن المرحل إِلَى شَيْء غير هَذَا فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ يُسَمِّي الْفَاسِق منافقا وَأَصْحَابك لَا يسمونه منافقا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين لَهُ بل يُسمى منافقا النِّفَاق الْأَصْغَر لَا النِّفَاق الْأَكْبَر والنفاق يُطلق على النِّفَاق الْأَكْبَر الَّذِي هُوَ إِضْمَار الْكفْر وعَلى النِّفَاق الْأَصْغَر الَّذِي هُوَ اخْتِلَاف السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فِي الْوَاجِبَات قَالَ لَهُ ابْن المرحل وَمن أَيْن قلت إِن الِاسْم يُطلق على هَذَا وعَلى هَذَا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا مَشْهُور عِنْد الْعلمَاء وَبِذَلِك فسروا قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا ائْتمن خَان وَقد ذكر التِّرْمِذِيّ وَغَيره وحكوه عَن الْعلمَاء

وَقَالَ غير وَاحِد من السّلف كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وَإِذا كَانَ النِّفَاق جِنْسا تَحْتَهُ نَوْعَانِ فالفاسق دَاخل فِي أحد نوعيه قَالَ ابْن المرحل كَيفَ تجْعَل النِّفَاق اسْم جنس وَقد جعلته لفظا مُشْتَركا وَإِذا كَانَ اسْم جنس كَانَ متواطئا والأسماء المتواطئة غير الْمُشْتَركَة فَكيف تَجْعَلهُ مُشْتَركا متواطئا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أَنا لم أذكر أَنه مُشْتَرك وَإِنَّمَا قلت يُطلق على هَذَا وعَلى هَذَا وَالْإِطْلَاق أَعم ثمَّ لَو قلت إِنَّه مُشْتَرك لَكَانَ الْكَلَام صَحِيحا فَإِن اللَّفْظ الْوَاحِد قد يُطلق على شَيْئَيْنِ بطرِيق التواطؤ وبطريق الِاشْتِرَاك فأطلقت

لفظ النِّفَاق على إبطان الْكفْر وإبطان الْمعْصِيَة تَارَة بطرِيق الِاشْتِرَاك وَتارَة بطرِيق التواطؤ كَمَا أَن لفظ الْوُجُود يُطلق على الْوَاجِب والممكن عِنْد قوم بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك وَعند قوم بِاعْتِبَار التواطؤ وَلِهَذَا سمي مشككا قَالَ ابْن المرحل كَيفَ يكون هَذَا وَأخذ فِي كَلَام لَا يحسن ذكره قَالَ لَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْمعَانِي الدقيقة تحْتَاج إِلَى إصغاء واستماع وتدبر وَذَلِكَ أَن الماهيتين إِذا كَانَ بَينهمَا قدر مُشْتَرك وَقدر مُمَيّز وَاللَّفْظ يُطلق على كل مِنْهُمَا فقد يُطلق عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَار مَا بِهِ تمتاز كل مَاهِيَّة عَن الْأُخْرَى فَيكون مُشْتَركا كالاشتراك اللَّفْظِيّ وَقد يكون مُطلقًا بِاعْتِبَار الْقدر الْمُشْتَرك بَين الماهيتين فَيكون لفظا متواطئا قلت ثمَّ إِنَّه فِي اللُّغَة يكون مَوْضُوعا للقدر الْمُشْتَرك ثمَّ يغلب عرف الِاسْتِعْمَال على اسْتِعْمَاله فِي هَذَا تَارَة وَفِي هَذَا تَارَة فَيبقى دَالا بعرف الِاسْتِعْمَال على مَا بِهِ الِاشْتِرَاك والامتياز وَقد يكون قرينَة مثل لَام التَّعْرِيف أَو الْإِضَافَة تكون هِيَ الدَّالَّة على مَا بِهِ الامتياز

مِثَال ذَلِك اسْم الْجِنْس إِذا غلب فِي الْعرف على بعض أَنْوَاعه كَلَفْظِ الدَّابَّة إِذا غلب على الْفرس قد نطلقه على الْفرس بِاعْتِبَار الْقدر الْمُشْتَرك بَينهَا وَبَين سَائِر الدَّوَابّ فَيكون متواطئا وَقد نطلقه بِاعْتِبَار خُصُوصِيَّة الْفرس فَيكون مُشْتَركا بَين خُصُوص الْفرس وَعُمُوم سَائِر الدَّوَابّ وَيصير اسْتِعْمَاله فِي الْفرس تَارَة بطرِيق التواطؤ وَتارَة بطرِيق الِاشْتِرَاك وَهَكَذَا اسْم الْجِنْس إِذا غلب على بعض الْأَشْخَاص وَصَارَ علما بالغلبة مثل ابْن عمر والنجم فقد نطلقه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار الْقدر الْمُشْتَرك بَينه وَبَين سَائِر النُّجُوم وَسَائِر بني عمر فَيكون إِطْلَاقه عَلَيْهِ بطرِيق التواطؤ وَقد نطلقه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار مَا بِهِ يمتاز عَن غَيره من النُّجُوم وَمن بني عمر فَيكون بطرِيق الِاشْتِرَاك بَين هَذَا الْمَعْنى الشخصي وَبَين الْمَعْنى النوعي وَهَكَذَا كل اسْم عَام غلب على بعض أَفْرَاده يَصح اسْتِعْمَاله فِي ذَلِك الْفَرد بِالْوَضْعِ الأول الْعَام فَيكون بطرِيق التواطؤ بِالْوَضْعِ الثَّانِي فَيصير بطرِيق الِاشْتِرَاك وَلَفظ النِّفَاق من هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ فِي الشَّرْع إِظْهَار الدّين وإبطان خِلَافه وَهَذَا الْمَعْنى الشَّرْعِيّ أخص من مُسَمّى النِّفَاق فِي اللُّغَة فَإِنَّهُ فِي اللُّغَة أَعم من إِظْهَار الدّين ثمَّ إبطان مَا يُخَالف الدّين إِمَّا أَن يكون كفرا أَو فسقا فَإِذا أظهر أَنه مُؤمن وأبطن التَّكْذِيب فَهَذَا هُوَ النقاق الْأَكْبَر الَّذِي

أوعد صَاحبه بِأَنَّهُ فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار وَإِن أظهر أَنه صَادِق أَو موف أَو أَمِين وأبطن الْكَذِب والغدر والخيانة وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا هُوَ النِّفَاق الْأَصْغَر الَّذِي يكون صَاحبه فَاسِقًا فإطلاق النِّفَاق عَلَيْهِمَا فِي الأَصْل بطرِيق التواطؤ وعَلى هَذَا فالنفاق اسْم جنس تَحْتَهُ نَوْعَانِ ثمَّ إِنَّه قد يُرَاد بِهِ النِّفَاق فِي أصل الدّين مثل قَوْله {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل} و {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ قَالُوا نشْهد إِنَّك لرَسُول الله وَالله يعلم إِنَّك لرَسُوله وَالله يشْهد إِن الْمُنَافِقين لَكَاذِبُونَ} وَالْمُنَافِق هُنَا الْكَافِر وَقد يُرَاد بِهِ النِّفَاق فِي فروعه مثل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث وَقَوله أَربع من كن فِيهِ كَانَ منافقا خَالِصا وَقَول ابْن عمر فِيمَن يتحدث عِنْد الْأُمَرَاء بِحَدِيث ثمَّ يخرج فَيَقُول بِخِلَافِهِ كُنَّا نعد هَذَا على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نفَاقًا فَإِذا أردْت بِهِ أحد النَّوْعَيْنِ فإمَّا أَن يكون تَخْصِيصه لقَرِينَة لفظية مثل لَام الْعَهْد والأضافة فَهَذَا لَا يُخرجهُ عَن أَن يكون متواطئا كَمَا إِذا قَالَ الرجل جَاءَ القَاضِي وعنى بِهِ قَاضِي بَلَده لكَون اللَّام للْعهد كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ {فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول} إِن اللَّام هِيَ أوجبت قصر الرَّسُول على مُوسَى لَا نفس لفظ رَسُول

وَإِمَّا أَن يكون لغَلَبَة الِاسْتِعْمَال عَلَيْهِ فَيصير مُشْتَركا بَين اللَّفْظ الْعَام وَالْمعْنَى الْخَاص فَكَذَلِك قَوْله {إِذا جَاءَك المُنَافِقُونَ} فَإِن تَخْصِيص هَذَا اللَّفْظ بالكافر إِمَّا أَن يكون لدُخُول اللَّام الَّتِي تفِيد الْعَهْد وَالْمُنَافِق الْمَعْهُود هُوَ الْكَافِر أَو تكون لغَلَبَة هَذَا الإسم فِي الشَّرْع على نفاق الْكفْر وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث من كن فِيهِ كَانَ منافقا يَعْنِي بِهِ منافقا بِالْمَعْنَى الْعَام وَهُوَ إِظْهَاره من الدّين خلاف مَا يبطن فإطلاق لفظ النِّفَاق على الْكَافِر وعَلى الْفَاسِق إِن أطلقته بِاعْتِبَار مَا يمتاز بِهِ عَن الْفَاسِق كَانَ إِطْلَاقه عَلَيْهِ وعَلى الْفَاسِق بِاعْتِبَار الِاشْتِرَاك وَكَذَلِكَ يجوز أَن يُرَاد بِهِ الْكَافِر خَاصَّة وَيكون متواطئا إِذا كَانَ الدَّال على الخصوصية غير لفظ مُنَافِق بل لَام التَّعْرِيف وَهَذَا الْبَحْث الشريف جَار فِي كل لفظ عَام اسْتعْمل فِي بعض أَنْوَاعه إِمَّا لغَلَبَة الِاسْتِعْمَال أَو لدلَالَة لفظية خصته بذلك النَّوْع مثل تَعْرِيف الْإِضَافَة أَو تَعْرِيف اللَّام فَإِن كَانَ لغَلَبَة الِاسْتِعْمَال صَحَّ ان يُقَال إِن اللَّفْظ مُشْتَرك وَإِن كَانَ لدلَالَة لفظية كَانَ اللَّفْظ بَاقِيا على مواطأته فَلهَذَا صَحَّ أَن يُقَال النِّفَاق اسْم جنس تَحْتَهُ نَوْعَانِ لكَون اللَّفْظ فِي الأَصْل عَاما متواطئا

بحث ثان جرى

وَصَحَّ أَن يُقَال هُوَ مُشْتَرك بَين النِّفَاق فِي أصل الدّين وَبَين مُطلق النِّفَاق فِي الدّين لكَونه فِي عرف الِاسْتِعْمَال الشَّرْعِيّ غلب على نفاق الْكفْر بحث ثَان جرى إِن الْحَمد وَالشُّكْر بَينهمَا عُمُوم وخصوص فَالْحَمْد أَعم من جِهَة أَسبَابه الَّتِي يَقع عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يكون على جَمِيع الصِّفَات وَالشُّكْر لَا يكون إِلَّا على الْإِحْسَان وَالشُّكْر أَعم من جِهَة مَا بِهِ يَقع فَإِنَّهُ يكون بالاعتقاد وَالْقَوْل وَالْفِعْل وَالْحَمْد يكون بِالْفِعْلِ أَو بالْقَوْل أَو بالاعتقاد أورد الشَّيْخ الإِمَام زين الدّين ابْن المنجى الْحَنْبَلِيّ أَن هَذَا الْفرق إِنَّمَا هُوَ من جِهَة مُتَعَلق الْحَمد وَالشُّكْر لِأَن كَونه يَقع على كَذَا وَيَقَع بِكَذَا خَارج عَن ذَاته فَلَا يكون فرقا فِي الْحَقِيقَة وَالْحُدُود إِنَّمَا يتَعَرَّض فِيهَا لصفات الذَّات لَا لما خرج عَنْهَا فَقَالَ شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية الْمعَانِي على قسمَيْنِ مُفْردَة ومضافة فالمعاني المفردة حُدُودهَا لَا تُوجد فِيهَا بتعلقاتها وَأما الْمعَانِي الإضافية فَلَا بُد أَن يُوجد فِي حُدُودهَا تِلْكَ الإضافات فَإِنَّهَا دَاخِلَة فِي حَقِيقَتهَا وَلَا يُمكن تصورها إِلَّا بتصور تِلْكَ المتعلقات فَتكون المتعلقات جُزْءا من حَقِيقَتهَا فَتعين ذكرهَا فِي الْحُدُود

وَالْحَمْد وَالشُّكْر معينان بالمحمود عَلَيْهِ والمشكور عَلَيْهِ فَلَا يتم حقيقتهما ذكر إِلَّا بِذكر متعلقهما فَيكون متعلقهما دَاخِلا فِي حقيقتهما فَاعْترضَ الصَّدْر ابْن المرحل بِأَنَّهُ لَيْسَ للمتعلق من الْمُتَعَلّق صفة ثبوتية فَلَا يكون للحمد وَالشُّكْر من متعلقهما صفة ثبوتية فَإِن الْمُتَعَلّق صفة نسبية وَالنّسب أُمُور عدمية وَإِذا لم تكن صفة ثبوتية لم تكن دَاخِلَة فِي الْحَقِيقَة لِأَن الْعَدَم لَا يكون جُزْءا من الْوُجُود فَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين قَوْلك لَيْسَ للمتعلق من الْمُتَعَلّق صفة ثبوتية لَيْسَ على الْعُمُوم بل قد يكون للمتعلق من الْمُتَعَلّق صفة ثبوتية وَقد لَا يكون وَإِنَّمَا الَّذِي يَقُوله أَكثر الْمُتَكَلِّمين لَيْسَ لمتعلق القَوْل من القَوْل صفة ثبوتية ثمَّ الصِّفَات الْمُتَعَلّقَة نَوْعَانِ احدهما إِضَافَة مَحْضَة مثل الْأُبُوَّة والبنوة والفوقية والتحتية وَنَحْوهَا فَهَذِهِ الصّفة هِيَ الَّتِي يُقَال فِيهَا هِيَ مُجَرّد نِسْبَة وَإِضَافَة وَالنّسب أُمُور عدمية وَالثَّانِي صفة ثبوتية مُضَافَة إِلَى غَيرهَا كالحب والبغض والإرادة وَالْكَرَاهَة وَالْقُدْرَة وَغير ذَلِك من الصِّفَات فَإِن الْحبّ صفة ثبوتية مُتَعَلقَة بالمحبوب فالحب

معروض للإضافة بِمَعْنى أَن الْإِضَافَة صفة عرضت لَهُ لَا أَن نفس الْحبّ هُوَ الْإِضَافَة فَفرق بَين مَا هُوَ إِضَافَة وَبَين مَا هُوَ صفة مُضَافَة فالإضافة يُقَال فِيهَا إِنَّهَا عدمية قَالَ وَأما الصّفة المضافة فقد تكون ثبوتية كالحب قَالَ ابْن المرحل الْحبّ أَمر عدمي لِأَن الْحبّ نِسْبَة وَالنّسب عدمية قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين كَون الْحبّ والبغض والإرادة وَالْكَرَاهَة أمرا عدميا بَاطِلا بِالضَّرُورَةِ وَهُوَ خلاف إِجْمَاع الْعُقَلَاء ثمَّ هُوَ مَذْهَب بعض الْمُعْتَزلَة فِي أرادة الله فَإِنَّهُ زعم أَنَّهَا صفة سلبية بِمَعْنى أَنه غير مغلوب وَلَا مستكره وأطبق النَّاس على بطلَان هَذَا القَوْل وَأما إِرَادَة الْمَخْلُوق وحبه وبغضه فَلم نعلم أحدا من الْعُقَلَاء قَالَ إِنَّه عدمي فأصر ابْن المرحل على أَن الْحبّ الَّذِي هُوَ ميل الْقلب إِلَى المحبوب أَمر عدمي وَقَالَ الْمحبَّة أَمر وجودي قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْمحبَّة هِيَ الْحبّ فَإِنَّهُ يُقَال أحبه وحبه حبا ومحبة وَلَا فرق وَكِلَاهُمَا مصدر

قَالَ ابْن المرحل وَأَنا أَقُول إنَّهُمَا إِذا كَانَا مصدرين فهما أَمر عدمي قَالَ لَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الْكَلَام إِذا انْتهى إِلَى الْمُقدمَات الضرورية فقد انْتهى ووتم وَكَون الْحبّ والبغض أمرا وجوديا مَعْلُوم بالاضطرار فَأن كل أحد يعلم أَن الْحَيّ إِن كَانَ خَالِيا عَن الْحبّ كَانَ هَذَا الْخُلُو صفة عدمية فاذا صَار محبا فقد تغير الْمَوْصُوف وَصَارَ لَهُ صفة ثبوتية زَائِدَة على مَا كَانَ قبل أَن يقوم بِهِ الْحبّ وَمن يحس ذَلِك من نَفسه يجده كَمَا يجد شَهْوَته ونفرته وَرضَاهُ وغضبه ولذته وألمه وَدَلِيل ذَلِك أَنَّك تَقول أحب يحب محبَّة ونقيض أحب لم يحب وَلم يحب صفة عدمية ونقيض الْعَدَم الاثبات قَالَ ابْن المرحل هَذَا ينْتَقض بقَوْلهمْ امْتنع يمْتَنع فان نقيض الِامْتِنَاع لَا امْتنَاع وَامْتِنَاع صفة عدمية قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الِامْتِنَاع أَمر اعتباري عَقْلِي فان المتنع لَيْسَ لَهُ وجود خارجي حَتَّى تقوم بِهِ صفة وَإِنَّمَا هُوَ مَعْلُوم بِالْعقلِ وَبِاعْتِبَار كَونه مَعْلُوما لَهُ ثُبُوت علمي وسلب هَذَا الثُّبُوت العلمي عدم هَذَا الثُّبُوت فَلم ينْقض هَذَا قَوْلنَا نقيض الْعَدَم ثُبُوت وَأما الْحبّ فَأَنَّهُ صفة قَائِمَة بالمحب فأنك تُشِير إِلَى عين خارجية وَتقول هَذَا الْحَيّ

صَار محبا بعد أَن لم يكن محبا فتخبر عَن الْوُجُود الْخَارِجِي فَإِذا كَانَ نقيضها عدما خارجيا كَانَت وجودا خارجيا وَفِي الْجُمْلَة فكون الْحبّ والبغض صفة ثبوتية وجودية مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ فَلَا يقبل فِيهِ نزاع وَلَا يناظر صَاحبه إِلَّا مناظرة السوفسطائية قلت وَإِذا كَانَ الْحبّ والبغض وَنَحْوهمَا من الصِّفَات المضافة الْمُتَعَلّقَة بِالْغَيْر صِفَات وجودية وَظهر الْفرق بَين الصِّفَات الَّتِي هِيَ إِضَافَة وَنسبَة وَبَين الصِّفَات الَّتِي هِيَ مُضَافَة منسوبة فَالْحَمْد وَالشُّكْر من الْقسم الثَّانِي فَإِن الْحَمد أَمر وجودي مُتَعَلق بالمحمود عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الشُّكْر أَمر وجودي مُتَعَلق بالمشكور عَلَيْهِ فَلَا يتم فهم حقيقتهما إِلَّا بفهم الصّفة الثبوتية لَهما الَّتِي هِيَ مُتَعَلقَة بِالْغَيْر وَتلك الصّفة دَاخِلَة فِي حقيقتهما فَإِذا كَانَ مُتَعَلق أَحدهمَا أكبر من مُتَعَلق الآخر وَذَلِكَ التَّعَلُّق إِنَّمَا هُوَ عَارض لصفة ثبوتية لَهما وَجب ذكر تِلْكَ الصّفة الثبوتية فِي ذكر حقيقتهما وَالدَّلِيل على هَذَا أَن من لم يفهم الْإِحْسَان امْتنع أَن يفهم الشُّكْر فَعلم أَن تصور مُتَعَلق الشُّكْر دَاخل فِي تصور الشُّكْر قلت وَلَو قيل إِنَّه لَيْسَ هَذَا إِلَّا أمرا عدميا فالحقيقة إِن

كَانَت مركبة من وجود وَعدم وَجب ذكرهمَا فِي تَعْرِيف الْحَقِيقَة كَمَا أَن من عرف الْأَب من حَيْثُ هُوَ أَب فان تصَوره مَوْقُوف على تصور الْأُبُوَّة الَّتِي هِيَ نِسْبَة وَإِضَافَة وَإِن كَانَ الْأَب أمرا وجوديا فَالْحَمْد وَالشُّكْر متعلقان بالمحمود عَلَيْهِ والمشكور عَلَيْهِ وَإِن لم يكن هَذَا الْمُتَعَلّق عارضا لصفة ثبوتية فَلَا يفهم الْحَمد وَالشُّكْر إِلَّا بفهم هَذَا الْمُتَعَلّق كَمَا لَا يفهم معنى الْأَب إِلَّا بفهم معنى الْأُبُوَّة الَّذِي هُوَ التَّعَلُّق وَكَذَلِكَ الْحَمد وَالشُّكْر أَمْرَانِ متعلقان بالمحمود عَلَيْهِ والمشكور عَلَيْهِ وَهَذَا التَّعَلُّق جُزْء من هَذَا الْمُسَمّى بِدَلِيل أَن من لم يفهم الصِّفَات الجميلة لم يفهم الْحَمد وَمن لم يفهم الْإِحْسَان لم يفهم الشُّكْر فَإِذا كَانَ فهمهما مَوْقُوفا على فهم متعلقهما فوقوفه على فهم التَّعَلُّق أولى فَإِن التَّعَلُّق فرع على الْمُتَعَلّق وَتبع لَهُ فَإِذا توقف فهمهما على فهم الْمُتَعَلّق الَّذِي هُوَ أبعد عَنْهُمَا من التَّعَلُّق فتوقفه على فهم التَّعَلُّق أولى وَإِن كَانَ التَّعَلُّق أمرا عدميا وَالله أعلم

قَالَ لَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية قَوْله {وَأحل الله البيع} قد أتبع بقوله {وَحرم الرِّبَا} وَعَامة أَنْوَاع الرِّبَا يُسمى بيعا والربا وَإِن كَانَ اسْما مُجملا فَهُوَ مَجْهُول واستثناء الْمَجْهُول من الْمَعْلُوم يُوجب جَهَالَة الْمُسْتَثْنى فَيبقى المُرَاد إحلال البيع الَّذِي لَيْسَ بربا فَمَا لم يثبت أَن الْفَرد الْمعِين لَيْسَ بربا لم يَصح إِدْخَاله فِي البيع الْحَلَال وَهَذَا يمْنَع دَعْوَى الْعُمُوم وَإِن كَانَ الرِّبَا اسْما عَاما فَهُوَ مُسْتَثْنى من البيع أَيْضا فَيبقى البيع لفظا مَخْصُوصًا فَلَا يَصح ادِّعَاء الْعُمُوم على الْإِطْلَاق قَالَ ابْن المرحل هَذَا من بَاب التَّخْصِيص وَهنا عمومان تَعَارضا وَلَيْسَ من بَاب الِاسْتِثْنَاء فَإِن صِيغ الِاسْتِثْنَاء مَعْلُومَة وَإِذا كَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لم يمْنَع ادِّعَاء الْعُمُوم فِيهِ قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا كَلَام مُتَّصِل بعضه بِبَعْض وَهُوَ من بَاب التَّخْصِيص الْمُتَّصِل وتسميه الْفُقَهَاء اسْتثِْنَاء كَقَوْلِه لَهُ هَذِه الدَّار ولي مِنْهَا هَذَا الْبَيْت فَإِن هَذَا بِمَنْزِلَة قَوْله إِلَّا هَذَا الْبَيْت وَكَذَلِكَ لَو قَالَ أكْرم هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَلَا تكرم فلَانا وَهُوَ مِنْهُم كَانَ بِمَنْزِلَة قَوْله إِلَّا فلَانا وَإِذا كَانَ كَذَلِك صَار بِمَنْزِلَة قَوْله أحل الله البيع إِلَّا مَا كَانَ مِنْهُ رَبًّا

فَمن ادّعى بعد هَذَا أَنه عَام فِي كل مَا يُسمى بيعا فَهُوَ مخطىء قَالَ أبن المرحل أَنا أسلم أَنه إِنَّمَا هُوَ عَام فِي كل بيع لَا يُسمى رَبًّا قَالَ لَهُ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَهَذَا كَانَ الْمَقْصُود وَلَكِن بَطل بِهَذَا دَعْوَى عُمُومه على الْإِطْلَاق فَإِن دَعْوَى الْعُمُوم على الْإِطْلَاق يُنَافِي دَعْوَى الْعُمُوم فِي بعض الْأَنْوَاع دون بعض وَهَذَا كَلَام بَين وَادّعى مُدع أَن فِيهِ قَوْلَيْنِ احدهما انه عَام مَخْصُوص وَالثَّانِي أَنه عُمُوم مُرَاد فَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَإِن دَعْوَى أَنه عُمُوم مُرَاد بَاطِل قطعا فَإنَّا نعلم أَن كثيرا من أَفْرَاد البيع حرَام فَاعْترضَ ابْن المرحل بِأَن تِلْكَ الْأَفْرَاد حرمت بعد مَا أحلّت فَيكون نسخا قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَيلْزم من هَذَا أَن لَا نحرم شَيْئا من الْبيُوع بِخَبَر وَاحِد وَلَا بِقِيَاس فَإِن نسخ الْقُرْآن لَا يجوز بذلك وَإِنَّمَا يجوز تَخْصِيصه بِهِ وَقد اتّفق الْفُقَهَاء على التَّحْرِيم بِهَذِهِ الطَّرِيقَة قَالَ ابْن المرحل رجعت عَن هَذَا السُّؤَال لَكِن أَقُول هُوَ عُمُوم مُرَاد فِي كل مَا يُسمى بيعا فِي الشَّرْع فَإِن البيع من الْأَسْمَاء المنقولة إِلَى كل بيع صَحِيح شَرْعِي

قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين البيع لَيْسَ من الْأَسْمَاء المنقولة فَإِن مُسَمَّاهُ فِي الشَّرْع وَالْعرْف هُوَ الْمُسَمّى اللّغَوِيّ لَكِن الشَّارِع اشْترط لِحلِّهِ وَصِحَّته شُرُوطًا كَمَا قد كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَهُم شُرُوط أَيْضا بِحَسب اصطلاحهم وَهَكَذَا سَائِر أَسمَاء الْعُقُود مثل الْإِجَارَة وَالرَّهْن وَالْهِبَة وَالْقَرْض وَالنِّكَاح إِذا أُرِيد بِهِ العقد وَغير ذَلِك هِيَ بَاقِيَة على مسمياتها وَالنَّقْل إِنَّمَا يحْتَاج إِلَيْهِ إِذا أحدث الشَّارِع مَعَاني لم تكن الْعَرَب تعرفها مثل الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالتَّيَمُّم فَحِينَئِذٍ يحْتَاج إِلَى النَّقْل ومعاني هَذِه الْعُقُود مَا زَالَت مَعْرُوفَة قَالَ ابْن المرحل أَصْحَابِي قد قَالُوا إِنَّهَا منقولة قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين لَو كَانَ لفظ البيع فِي الْآيَة المُرَاد بِهِ البيع الصَّحِيح الشَّرْعِيّ لَكَانَ التَّقْدِير أحل الله البيع الصَّحِيح الشَّرْعِيّ أَو أحل الله البيع الَّذِي هُوَ عِنْده حَلَال وَهَذَا مَعَ أَنه مُكَرر فَإِنَّهُ يمْنَع الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ فَإنَّا لَا نعلم دُخُول بيع من الْبيُوع فِي الْآيَة حَتَّى نعلم أَنه بيع صَحِيح شَرْعِي وَمَتى علمنَا ذَلِك استغنينا عَن الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ قَالَ ابْن المرحل مَتى ثَبت أَن هَذَا الْفَرد يُسمى بيعا فِي اللُّغَة قلت هُوَ بيع فِي الشَّرْع لِأَن الأَصْل عدم النَّقْل وَإِذا كَانَ بيعا فِي الشَّرْع دخل فِي الْآيَة

قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين هَذَا إِنَّمَا يَصح لَو لم يثبت أَن الِاسْم مَنْقُول أما إِذا ثَبت أَنه مَنْقُول لم يَصح إِدْخَال فَرد فِيهِ حَتَّى يثبت أَن الِاسْم الْمَنْقُول وَاقع عَلَيْهِ وَإِلَّا فَيلْزم من هَذَا أَن كل مَا سمي فِي اللُّغَة صَلَاة وَزَكَاة وتيمما وصوما وبيعا وَإِجَارَة ورهنا أَنه يجوز إِدْخَاله فِي الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ بِهَذَا الِاعْتِبَار وعَلى هَذَا التَّقْدِير فَلَا يبْقى فرق بَين الْأَسْمَاء المنقولة وَغَيرهَا وَإِنَّمَا يُقَال الأَصْل عدم النَّقْل إِذا لم يثبت بل مَتى ثَبت النَّقْل فَالْأَصْل عدم دُخُول هَذَا الْفَرد فِي الِاسْم الْمَنْقُول حَتَّى يثبت أَنه دَاخل فِيهِ بعد النَّقْل فلتتأمل هَذِه الأبحاث الثَّلَاثَة وكل مَا فِيهَا قلت فَإِنَّهُ من كَلَام الشَّيْخ تَقِيّ الدّين قَرَّرَهُ بعد المناظرة وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله الذَّهَبِيّ فِي أثْنَاء كَلَامه فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ رَحمَه الله وَله بَاعَ طَوِيل فِي معرفَة مَذَاهِب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَقل أَن يتَكَلَّم فِي مَسْأَلَة إِلَّا وَيذكر فِيهَا مَذَاهِب الْأَرْبَعَة وَقد خَالف الْأَرْبَعَة فِي مسَائِل مَعْرُوفَة وصنف فِيهَا وَاحْتج لَهَا بِالْكتاب وَالسّنة

وَلما كَانَ معتقلا بالاسكندرية التمس مِنْهُ صَاحب سبتة أَن يُجِيز لَهُ مروياته وينص على أَسمَاء جملَة مِنْهَا فَكتب فِي عشر وَرَقَات جملَة من ذَلِك بأسانيدها من حفظه بِحَيْثُ يعجز أَن يعْمل بعضه أكبر مُحدث وَله الْآن عدَّة سِنِين لَا يُفْتِي بِمذهب معِين بل بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيل عِنْده وَلَقَد نصر السّنة الْمَحْضَة والطريقة السلفية وَاحْتج لَهَا ببراهين ومقدمات وَأُمُور لم يسْبق إِلَيْهَا وَأطلق عِبَارَات أحجم عَنْهَا الْأَولونَ وَالْآخرُونَ وهابوا وجسر هُوَ عَلَيْهَا حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ خلق من عُلَمَاء مصر والشأم قيَاما لَا مزِيد عَلَيْهِ وبدعوه وناظروه وكابروه وَهُوَ ثَابت لَا يداهن وَلَا يحابي بل يَقُول الْحق المر الَّذِي أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَاده وحدة ذهنه وسعة دائرته فِي السّنَن والأقوال مَعَ مَا اشْتهر عَنهُ من الْوَرع وَكَمَال الفكرة وَسُرْعَة الْإِدْرَاك وَالْخَوْف من الله والتعظيم لحرمات الله فَجرى بَينه وَبينهمْ حملات حربية ووقائع شامية ومصرية وَكم من نوبَة قد رَمَوْهُ عَن قَوس وَاحِدَة فينجيه الله

فَإِنَّهُ دَائِم الابتهال كثير الاستغاثة قوي التَّوَكُّل ثَابت الجأش لَهُ أوراد وأذكار يدمنها بكيفية وجعية وَله من الطّرف الآخر محبون من الْعلمَاء والصلحاء وَمن الْجند والأمراء وَمن التُّجَّار والكبراء وَسَائِر الْعَامَّة تحبه لِأَنَّهُ منتصب لنفعهم لَيْلًا وَنَهَارًا بِلِسَانِهِ وقلمه وَأما شجاعته فِيهَا تضرب الْأَمْثَال وببعضها يتشبه أكَابِر الْأَبْطَال فَلَقَد أَقَامَهُ الله فِي نوبَة غازان والتقى أعباء الْأَمر بِنَفسِهِ وَقَامَ وَقعد وطلع وَخرج وَاجْتمعَ بِالْملكِ مرَّتَيْنِ وبقطلوشاه وببولاي وَكَانَ قبجق يتعجب من إقدامه وجرأته على المغول وَله حِدة قَوِيَّة تعتريه فِي الْبَحْث حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْث حَرْب وَهُوَ أكبر من أَن يُنَبه مثلي على نعوته فَلَو حَلَفت بَين الرُّكْن وَالْمقَام لحلفت أَنى مَا رَأَيْت بعيني مثله وَلَا وَالله مَا رأى هُوَ مثل نَفسه فِي الْعلم قلت مَا فعله الشَّيْخ رَحمَه الله فِي نوبَة غازان من جَمِيع أَنْوَاع الْجِهَاد وَسَائِر أَنْوَاع الْخَيْر من إِنْفَاق الأمول وإطعام الطَّعَام وَدفن الْمَوْتَى وَغير ذَلِك مَعْرُوف مَشْهُور

ثمَّ بعد ذَلِك بعام سنة سَبْعمِائة لما قدم التتار إِلَى أَطْرَاف الْبِلَاد وَبَقِي الْخلق فِي شدَّة عَظِيمَة وَغلب على ظنهم أَن عَسْكَر مصر قد تخلوا عَن الشأم ركب الشَّيْخ وَسَار على الْبَرِيد إِلَى الْجَيْش الْمصْرِيّ فِي سَبْعَة أَيَّام وَدخل الْقَاهِرَة فِي الْيَوْم الثَّامِن يَوْم الْإِثْنَيْنِ حادي عشر جمادي الأولى وأطلاب المصريين دَاخِلَة وَقد دخل السُّلْطَان الْملك النَّاصِر فَاجْتمع بأركان الدولة واستصرخ بهم وحضهم على الْجِهَاد وتلا عَلَيْهِم الْآيَات وَالْأَحَادِيث وَأخْبرهمْ بِمَا أعد الله للمجاهدين من الثَّوَاب فاستفاقوا وقويت هممهم وأبدوا لَهُ الْعذر فِي رجوعهم مِمَّا قاسوا من الْمَطَر وَالْبرد مُنْذُ عشْرين وَنُودِيَ بالغزاة وقوى الْعَزْم وعظموه وأكرموه وَتردد الْأَعْيَان إِلَى زيارته وَاجْتمعَ بِهِ فِي هَذِه السّنة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد وَسمع كَلَامه وَذكر أَنهم سَأَلُوهُ بعد انْقِضَاء الْمجْلس فَقَالَ هُوَ رجل حفظَة قيل لَهُ فَهَلا تَكَلَّمت مَعَه فَقَالَ هَذَا رجل يحب الْكَلَام وَأَنا أحب السُّكُوت وَلَقَد أَخْبرنِي الذَّهَبِيّ عَن الشَّيْخ رَحمَه الله أَنه أخبرهُ أَن ابْن دَقِيق الْعِيد قَالَ لَهُ بعد سَماع كَلَامه مَا كنت أَظن أَن الله بقى يخلق مثلك

صورة كتاب

وَفِي الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر جُمَادَى الْمَذْكُور وصل الشَّيْخ إِلَى دمشق على الْبَرِيد وَكتب فِي هَذِه الْحَادِثَة كتابا وَصورته هَذَا صُورَة كتاب كتبه شيخ الْإِسْلَام عَلامَة الزَّمَان تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِلَى من يصل إِلَيْهِ من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين سَلام الله عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَإنَّا نحمد إِلَيْكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ للحمد أهل وَهُوَ على كل شَيْء قدير ونسأله أَن يُصَلِّي على صفوته من خليقته وَخيرته من بريته مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد فقد صدق الله وعده وَنصر عَبده وأعز جنده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده {ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا} وَالله تَعَالَى يُحَقّق لنا تَمام

الْكَلَام بقوله {وَأنزل الَّذين ظاهروهم من أهل الْكتاب من صياصيهم وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ وأرضا لم تطؤوها وَكَانَ الله على كل شَيْء قَدِيرًا} فَإِن هَذِه الْفِتْنَة الَّتِي ابْتُلِيَ بهَا الْمُسلمُونَ مَعَ هَذَا الْعَدو الْمُفْسد الْخَارِج عَن شَرِيعَة الْإِسْلَام قد جرى فِيهَا شَبيه مَا جرى للْمُسلمين مَعَ عدوهم على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَغَازِي الَّتِي أنزل الله فِيهَا كِتَابه وابتلى بهَا نبيه وَالْمُؤمنِينَ مَا هُوَ أُسْوَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا إِلَى يَوْم القايمة فَإِن نُصُوص الْكتاب وَالسّنة اللَّذين هما دَعْوَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتناولان عُمُوم الْخلق بِالْعُمُومِ اللَّفْظِيّ والمعنوي أَو بِالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيّ وعهود الله فِي كِتَابه وَسنة رَسُوله تنَال آخر هَذِه الآمة كَمَا نَالَتْ أَولهَا وَإِنَّمَا قصّ الله علينا قصَص من قبلنَا من الْأُمَم لتَكون عِبْرَة لنا فنشبه حَالنَا بحالهم ونقيس أَوَاخِر الْأُمَم بأوائلها فَيكون لِلْمُؤمنِ من الْمُتَأَخِّرين شبه بِمَا كَانَ لِلْمُؤمنِ من الْمُتَقَدِّمين وَيكون للْكَافِرِ وَالْمُنَافِق من الْمُتَأَخِّرين شبه بِمَا كَانَ

للْكَافِرِ وَالْمُنَافِق من الْمُتَقَدِّمين كَمَا قَالَ تَعَالَى لما قصّ قصَّة يُوسُف مفصلة وأجمل ذكر قصَص الْأَنْبِيَاء ثمَّ قَالَ {لقد كَانَ فِي قصصهم عِبْرَة لأولي الْأَلْبَاب مَا كَانَ حَدِيثا يفترى} أَي هَذِه الْقَصَص الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب لَيست بِمَنْزِلَة مَا يفترى من الْقَصَص المكذوبة كنحو مَا يذكر فِي الحروب وَفِي السّير المكذوبة وَقَالَ تَعَالَى لما ذكر قصَّة فِرْعَوْن {فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} وَقَالَ فِي سيرة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أعدائه ببدر وَغَيرهَا {قد كَانَ لكم آيَة فِي فئتين التقتا فِئَة تقَاتل فِي سَبِيل الله وَأُخْرَى كَافِرَة يرونهم مثليهم رَأْي الْعين وَالله يُؤَيّد بنصره من يَشَاء إِن فِي ذَلِك لعبرة لأولي الْأَبْصَار} وَقَالَ تَعَالَى فِي محاصرته لبني النَّضِير {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر مَا ظننتم أَن يخرجُوا وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار}

فَأمرنَا أَن نعتبر بأحوال الْمُتَقَدِّمين علينا من هَذِه الْأمة وَمِمَّنْ قبلهَا من الْأُمَم وَذكر فِي غير مَوضِع أَن سنته فِي ذَلِك سنة مطردَة وعادته مستمرة فَقَالَ تَعَالَى {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة لنغرينك بهم ثمَّ لَا يجاورونك فِيهَا إِلَّا قَلِيلا ملعونين أَيْنَمَا ثقفوا أخذُوا وَقتلُوا تقتيلا سنة الله فِي الَّذين خلوا من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو قاتلكم الَّذين كفرُوا لولوا الأدبار ثمَّ لَا يَجدونَ وليا وَلَا نَصِيرًا سنة الله الَّتِي قد خلت من قبل وَلنْ تَجِد لسنة الله تبديلا} وَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن دأب الْكَافرين من الْمُسْتَأْخِرِينَ كدأب

الْكَافرين من الْمُسْتَقْدِمِينَ فَيَنْبَغِي للعقلاء أَن يعتبروا بِسنة الله وأيامه فِي عباده ودأب الْأُمَم وعاداتهم لَا سِيمَا فِي مثل هَذِه الْحَادِثَة الْعَظِيمَة الَّتِي طبق الغافقين خَيرهَا واستطار فِي جَمِيع ديار الْإِسْلَام شررها وأطلع فِيهَا النِّفَاق نَاصِيَة رَأسه وكشر فِيهَا الْكفْر عَن أنيابه وأضراسه وَكَاد فِيهِ عَمُود الْكتاب أَن يجتث ويخترم وحبل الْإِيمَان أَن يَنْقَطِع ويصطلم وعقر دَار الْمُؤمنِينَ أَن يحل بهَا الْبَوَار وَأَن يَزُول هَذَا الدّين باستيلاء الفجرة التتار وَظن المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَن مَا وعدهم الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا وَأَن لن يَنْقَلِب حزب الله وَرَسُوله إِلَى أَهْليهمْ أبدا وزين ذَلِك فِي قُلُوبهم وظنوا ظن السوء وَكَانُوا قوما بورا وَنزلت فتْنَة تركت الْحَلِيم فِيهَا حيران وأنزلت الرجل الصاحي منزلَة السَّكْرَان وَتركت الرجل اللبيب لِكَثْرَة الوسواس لَيْسَ بالنائم وَلَا الْيَقظَان وتناكرت فِيهَا قُلُوب المعارف والإخوان حَتَّى بَقِي للرجل بِنَفسِهِ شغل عَن أَن يغيث اللهفان وميز الله فِيهَا أهل البصائر والايقان من الَّذين فِي قُلُوبهم مرض أَو نفاق وَضعف إِيمَان وَرفع بهَا أَقْوَامًا إِلَى الدَّرَجَات

الْعَالِيَة كَمَا خفض بهَا أَقْوَامًا إِلَى الْمنَازل الهاوية وَكفر بهَا عَن آخَرين أَعْمَالهم الْخَاطِئَة وَحدث من أَنْوَاع الْبلوى مَا جعلهَا قِيَامَة مختصرة من الْقِيَامَة الْكُبْرَى فَإِن النَّاس تفَرقُوا فِيهَا مَا بَين شقي وَسَعِيد كَمَا يتفرقون كَذَلِك فِي الْيَوْم الْمَوْعُود وفر الرجل فِيهَا من اخيه وَأمه وَأَبِيهِ إِذْ كَانَ لكل امرىءمنهم شَأْن يُغْنِيه وَكَانَ من النَّاس من أقْصَى همته النجَاة بِنَفسِهِ لَا يلوي على مَاله وَلَا وَلَده وَلَا عرسه كَمَا أَن مِنْهُم من فِيهِ قُوَّة على تَخْلِيص الْأَهْل وَالْمَال وَآخر فِيهِ زِيَادَة مَعُونَة لمن هُوَ مِنْهُ ببال وَآخر مَنْزِلَته منزلَة الشَّفِيع المطاع وهم دَرَجَات عِنْد الله فِي الْمَنْفَعَة والدفاع وَلم تَنْفَع الْمَنْفَعَة الْخَالِصَة من الشكوى إِلَّا الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَالْبر وَالتَّقوى وبليت فِيهَا السرائر وَظَهَرت الخبايا الَّتِي كَانَت تكتمها الضمائر وَتبين أَن البهرج من الْأَقْوَال والأعمال يخون صَاحبه أحْوج مَا كَانَ إِلَيْهِ فِي الْمَآل وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السَّبِيل كَمَا حمد ربه من صدق فِي إيمَانه فَاتخذ مَعَ الرَّسُول سَبِيلا وَبَان صدق مَا جَاءَت بِهِ الْآثَار النَّبَوِيَّة من الْأَخْبَار بِمَا يكون وواطأتها قُلُوب الَّذين هم فِي هَذِه الْأمة محدثون كَمَا تواطأت عَلَيْهِ الْمُبَشِّرَات الَّتِي

أريها الْمُؤْمِنُونَ وَتبين فِيهَا الطَّائِفَة المنصورة الظَّاهِرَة على الدّين الَّذين لَا يضرهم من خالفهم وَلَا من خذلهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة حَيْثُ تحزب النَّاس ثَلَاثَة أحزاب حزب مُجْتَهد فِي نصر الدّين وَآخر خاذل لَهُ وَآخر خَارج عَن شَرِيعَة الْإِسْلَام وانقسم النَّاس مَا بَين مأجور ومعذور وَآخر قد غره بِاللَّه الْغرُور وَكَانَ هَذَا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما ليجزي الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما وَوجه الِاعْتِبَار فِي هَذِه الْحَادِثَة الْعَظِيمَة أَن الله بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَشرع لَهُ الْجِهَاد إِبَاحَة لَهُ أَولا ثمَّ إِيجَابا لَهُ ثَانِيًا لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَصَارَ لَهُ فِيهَا أنصار ينْصرُونَ الله وَرَسُوله فغزا بِنَفسِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُدَّة مقَامه بدار الْهِجْرَة وَهُوَ نَحْو عشر سِنِين بضعا وَعشْرين غَزْوَة أَولهَا بدر وَآخِرهَا تَبُوك أنزل الله فِي أول مغازيه سُورَة الْأَنْفَال وَفِي آخرهَا سُورَة بَرَاءَة وَجمع بَينهمَا فِي الْمُصحف لتشابه أول الْأَمر وَآخره كَمَا قَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عُثْمَان لما سُئِلَ عَن الْقرَان بَين السورتين من غير فصل بالبسملة

وَكَانَ الْقِتَال مِنْهَا فِي تسع غزوات فَأول غزوات الْقِتَال بدر وَآخِرهَا حنين والطائف وَأنزل الله فِيهَا مَلَائكَته كَمَا أخبر بِهِ الْقُرْآن وَلِهَذَا صَار النَّاس يجمعُونَ بَينهمَا فِي القَوْل وَإِن تبَاعد مَا بَين الغزوتين مَكَانا وزمانا فَإِن بَدْرًا كَانَت فِي رَمَضَان فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة مَا بَين الْمَدِينَة وَمَكَّة شَامي مَكَّة وغزوة حنين فِي آخر شَوَّال من السّنة الثَّامِنَة وحنين وَاد قريب من الطَّائِف شَرْقي مَكَّة ثمَّ قسم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غنائمها بالجعرانة وَاعْتمر عمْرَة الْجِعِرَّانَة ثمَّ حاصر الطَّائِف فَلم يقاتله أهل الطَّائِف زحفا وصفوفا وَإِنَّمَا قَاتلُوهُ من وَرَاء جِدَار فآخر غَزْوَة كَانَ فِيهَا الْقِتَال زحفا واصطفافا هِيَ غَزْوَة حنين

وَكَانَت غَزْوَة بدر أول غَزْوَة ظهر فِيهَا الْمُسلمُونَ على صَنَادِيد الْكفَّار وَقتل الله وَأسر رؤوسهم مَعَ قلَّة الْمُسلمين وضعفهم فَإِنَّهُم كَانُوا ثَلَاثمِائَة وَبضْعَة عشر لَيْسَ مَعَهم إِلَّا فرسَان وَكَانَ يعتقب الِاثْنَان وَالثَّلَاثَة على الْبَعِير الْوَاحِد وَكَانَ عدوهم بقدرهم أَكثر من ثَلَاث مَرَّات فِي قُوَّة وعدة وهيأة وخيلاء فَلَمَّا كَانَ من الْعَام الْمقبل غزا الْكفَّار الْمَدِينَة وفيهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فَخرج إِلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فِي نَحْو من ربع الْكفَّار وَتركُوا عِيَالهمْ بِالْمَدِينَةِ لم ينقلوهم إِلَى مَوضِع آخر وَكَانَت أَولا الكرة للْمُسلمين عَلَيْهِم ثمَّ صَارَت للْكفَّار فَانْهَزَمَ عَامَّة عَسْكَر الْمُسلمين إِلَّا نَفرا قَلِيلا حول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُم من قتل وَمِنْهُم من جرح وحرصوا على قتل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى كسروا رباعيته وشجوا جَبينه وهشموا الْبَيْضَة على رَأسه وَأنزل الله فِيهَا نَحوا من شطر سُورَة أل عمرَان من قَوْله {وَإِذ غَدَوْت من أهلك تبوئ الْمُؤمنِينَ مقاعد لِلْقِتَالِ}

قَالَ فِيهَا {إِن الَّذين توَلّوا مِنْكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم إِن الله غَفُور حَلِيم} وَقَالَ فِيهَا {وَلَقَد صدقكُم الله وعده إِذْ تحسونهم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فشلتم وتنازعتم فِي الْأَمر وعصيتم من بعد مَا أَرَاكُم مَا تحبون مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم وَلَقَد عَفا عَنْكُم وَالله ذُو فضل على الْمُؤمنِينَ} وَقَالَ فِيهَا {أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم إِن الله على كل شَيْء قدير} وَكَانَ الشَّيْطَان قد نفق فِي النَّاس أَن مُحَمَّدًا قد قتل فَمنهمْ من تزلزل لذَلِك فهرب وَمِنْهُم من ثَبت فقاتل فَقَالَ الله تَعَالَى {وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يضر الله شَيْئا وسيجزي الله الشَّاكِرِينَ}

وَكَانَ هَذَا مثل حَال الْمُسلمين لما انكسروا فِي الْعَام الْمَاضِي وَكَانَت هزيمَة الْمُسلمين فِي الْعَام الْمَاضِي بذنوب ظَاهِرَة وخطايا وَاضِحَة من فَسَاد النيات وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَالظُّلم وَالْفَوَاحِش والإعراض عَن حكم الْكتاب وَالسّنة وَعَن الْمُحَافظَة على فَرَائض الله وَالْبَغي على كثير من الْمُسلمين الَّذين بِأَرْض الجزيرة وَالروم وَكَانَ عدوهم فِي أول الْأَمر رَاضِيا مِنْهُم بالموادعة والمسالمة شَارِعا فِي الدُّخُول فِي الْإِسْلَام وَكَانَ مبتدئا فِي الْإِيمَان والأمان وَكَانُوا هم قد أَعرضُوا عَن كثير من أَحْكَام الْإِيمَان فَكَانَ من حِكْمَة الله وَرَحمته بِالْمُؤْمِنِينَ أَن ابْتَلَاهُم بِمَا ابْتَلَاهُم بِهِ ليمحص الله الَّذين آمنُوا وينيبوا إِلَى رَبهم وليظهر من عدوهم مَا ظهر مِنْهُ من الْبَغي وَالْمَكْر والنكث وَالْخُرُوج عَن شرائع الْإِسْلَام فَيقوم بهم مَا يستوجبون بِهِ النَّصْر وبعدوهم مَا يسْتَوْجب بِهِ الانتقام فقد كَانَ فِي نفوس كثير من مقاتلة الْمُسلمين ورعيتهم من الشَّرّ

الْكَبِير مَا لَو يقْتَرن بِهِ ظفر بعدوهم الَّذِي هُوَ على الْحَال الْمَذْكُورَة لأوجب لَهُم ذَلِك من فَسَاد الدّين وَالدُّنْيَا مَالا يُوصف كَمَا أَن نصر الله الْمُسلمين يَوْم بدر كَانَ رَحْمَة ونعمة وهزيمتهم يَوْم أحد كَانَ نعْمَة وَرَحْمَة على الْمُؤمنِينَ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يقْضِي الله لِلْمُؤمنِ قَضَاء إِلَّا كَانَ خيرا لَهُ وَلَيْسَ ذَلِك لأحد إِلَّا لِلْمُؤمنِ إِن أَصَابَته سراء فَشكر الله كَانَ خيرا لَهُ وَإِن أَصَابَته ضراء فَصَبر كَانَ خيرا لَهُ فَلَمَّا كَانَت حَادِثَة الْمُسلمين عَام أول شَبيهَة بِأحد وَكَانَ بعد أحد بِأَكْثَرَ من سنة وَقيل بِسنتَيْنِ قد ابْتُلِيَ الْمُسلمُونَ بغزوة الخَنْدَق كَذَلِك فِي هَذَا الْعَام ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ بعدوهم كنحو مَا ابْتُلِيَ الْمُسلمُونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الخَنْدَق وَهِي غَزْوَة الْأَحْزَاب الَّتِي أنزل الله فِيهَا سُورَة الْأَحْزَاب وَهِي سُورَة تَضَمَّنت ذكر هَذِه الْغُزَاة الَّتِي نصر الله فِيهَا عَبده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعز فِيهَا جنده الْمُؤمنِينَ وَهزمَ الْأَحْزَاب الَّذين تحزبوا عَلَيْهِ وَحده بِغَيْر قتال بل بثبات الْمُؤمنِينَ بلقاء

عدوهم ذكر فِيهَا خَصَائِص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحقوقه وحرمته وَحُرْمَة أهل بَيته لما كَانَ هُوَ الْقلب الَّذِي نَصره الله فِيهَا بِغَيْر قتال كَمَا كَانَ ذَلِك فِي غزوتنا هَذِه سَوَاء وَظهر فِيهَا سر تأييد الدّين كَمَا ظهر فِي غَزْوَة الخَنْدَق وانقسم النَّاس فِيهَا كانقسامهم عَام الخَنْدَق وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى مُنْذُ بعث مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأعزه بِالْهِجْرَةِ والنصرة صَار النَّاس ثَلَاثَة أَقسَام قسما مُؤمنين وهم الَّذين آمنُوا بِهِ ظَاهرا وَبَاطنا وقسما كفَّارًا وهم الَّذين أظهرُوا الْكفْر بِهِ وقسما منافقين وهم الَّذين آمنُوا ظَاهرا لَا بَاطِنا وَلِهَذَا افْتتح سُورَة الْبَقَرَة بِأَرْبَع آيَات فِي صفة الْمُؤمنِينَ وآيتين فِي صفة الْكَافرين وَثَلَاث عشر آيَة فِي صفة الْمُنَافِقين وكل وَاحِد من الْإِيمَان وَالْكفْر والنفاق لَهُ دعائم وَشعب كَمَا دلّت عَلَيْهِ دَلَائِل الْكتاب وَالسّنة وكما فسره أَمِير الْمُؤمنِينَ على بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي الحَدِيث الْمَأْثُور عَنهُ فِي الْإِيمَان ودعائمه وشعبه فَمن النِّفَاق مَا هُوَ أكبر يكون صَاحبه فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار كنفاق عبد الله بن أبي وَغَيره بِأَن يظْهر تَكْذِيب الرَّسُول أَو

جحود بعض مَا جَاءَ بِهِ أَو بغضه أَو عدم اعْتِقَاد وجوب اتِّبَاعه أَو المسرة بانخفاض دينه أَو المساءة بِظُهُور دينه وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يكون صَاحبه إِلَّا عدوا لله وَرَسُوله وَهَذَا الْقدر كَانَ مَوْجُودا فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا زَالَ بعده بل هُوَ بعده أَكثر مِنْهُ على عَهده لكَون مُوجبَات الْإِيمَان على عَهده أقوى فَإِذا كَانَت مَعَ قوتها كَانَ النِّفَاق مَوْجُودا فوجوده فِيمَا دون ذَلِك أولى وكما أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعلم بعض الْمُنَافِقين وَلَا يعلم بَعضهم كَمَا بَينه قَوْله {وَمِمَّنْ حَوْلكُمْ من الْأَعْرَاب مُنَافِقُونَ وَمن أهل الْمَدِينَة مَرَدُوا على النِّفَاق لَا تعلمهمْ نَحن نعلمهُمْ} كَذَلِك خلفاؤه بعده وورثته قد يعلمُونَ بعض الْمُنَافِقين وَلَا يعلمُونَ بَعضهم وَفِي المنتسبين إِلَى الْإِسْلَام من عَامَّة الطوائف مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فِي الْخَاصَّة والعامة ويسمون الزَّنَادِقَة وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي قبُول تَوْبَتهمْ فِي الظَّاهِر لكَون ذَلِك لَا يعلم إِذْ هم دَائِما يظهرون الْإِسْلَام

وَهَؤُلَاء يكثرون فِي المتفلسفة مِمَّن المنجمين وَنَحْوهم ثمَّ فِي الْأَطِبَّاء ثمَّ فِي الْكتاب أقل من ذَلِك ويوجدون فِي المتصوفة والمتفقهة وَفِي الْمُقَاتلَة والأمراء وَفِي الْعَامَّة أَيْضا وَلَكِن يوجدون كثيرا فِي نحل اهل الْبدع لَا سِيمَا الرافضة ففيهم من الزَّنَادِقَة وَالْمُنَافِقِينَ مَا لَيْسَ فِي أحد من اهل النَّحْل وَلِهَذَا كَانَت الخرمية والباطنية والقرامطة والإسماعيلية والنصيرية وَنَحْوهم من الْمُنَافِقين الزَّنَادِقَة منتسبة إِلَى الرافضة وَهَؤُلَاء المُنَافِقُونَ فِي هَذِه الْأَوْقَات لكثير مِنْهُم ميل إِلَى دولة هَؤُلَاءِ التتار لكَوْنهم لَا يلزمونهم شَرِيعَة الْإِسْلَام بل يتركونهم وَمَا هم عَلَيْهِ وَبَعْضهمْ إِنَّمَا ينفرون عَن التتار لفساد سيرتهم فِي الدُّنْيَا واستيلائهم على الْأَمْوَال واجترائهم على الدِّمَاء والسبي لَا لأجل الدّين فَهَذَا ضرب النِّفَاق الْأَكْبَر وَأما النِّفَاق الْأَصْغَر فَهُوَ النِّفَاق فِي الْأَعْمَال وَنَحْوهَا مثل أَن يكذب إِذا حدث ويخلف إِذا وعد ويخون إِذا ائْتمن أَو يفجر إِذا خَاصم فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ آيَة الْمُنَافِق

ثَلَاث إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا ائْتمن خَان وَفِي رِوَايَة صَحِيحَة وَإِن صلى وَصَامَ وَزعم أَنه مُسلم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عَمْرو عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَربع من كن فِيهِ كَانَ منافقا خَالِصا وَمن كَانَت فِيهِ خصْلَة مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خصْلَة من النِّفَاق حَتَّى يَدعهَا إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا عَاهَدَ غدر وَإِذا خَاصم فجر وَمن هَذَا الْبَاب الْإِعْرَاض عَن الْجِهَاد فَإِنَّهُ من خِصَال الْمُنَافِقين قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مَاتَ وَلم يغز وَلم يحدث نَفسه بالغزو مَاتَ على شُعْبَة من نفاق رَوَاهُ مُسلم وَقد أنزل الله سُورَة بَرَاءَة الَّتِي تسمى الفاضحة لِأَنَّهَا فضحت الْمُنَافِقين أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ هِيَ الفاضحة مَا زَالَت تنزل (وَمِنْهُم وَمِنْهُم) حَتَّى ظنُّوا أَن لَا يبْقى أحد إِلَّا ذكر فِيهَا وَعَن الْمِقْدَاد بن الْأسود قَالَ هِيَ سُورَة البحوث لِأَنَّهَا بحثت عَن سرائر الْمُنَافِقين وَعَن قَتَادَة قَالَ هِيَ المثيرة لِأَنَّهَا أثارت مخازي الْمُنَافِقين وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ هِيَ المبعثرة والبعثرة والإثارة متقاربان وَعَن ابْن عمر انها المقشقشة لِأَنَّهَا تبرىء من مرض النِّفَاق يُقَال تقشقش الْمَرِيض إِذا برأَ

وَقَالَ الْأَصْمَعِي وَكَانَ يُقَال لسورتي الْإِخْلَاص المقشقشتان لِأَنَّهُمَا يبرئان من النِّفَاق وَهَذِه السُّورَة نزلت فِي آخر مغازي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَزْوَة تَبُوك عَام تسع من الْهِجْرَة وَقد عز الْإِسْلَام وَظهر فكشف الله فِيهَا أَحْوَال الْمُنَافِقين ووصفهم فِيهَا بالجبن وَترك الْجِهَاد ووصفهم بالبخل عَن النَّفَقَة فِي سَبِيل الله وَالشح على المَال وَهَذَانِ داءان عظيمان الْجُبْن وَالْبخل قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرّ مَا فِي الْمَرْء شح هَالِع وَجبن خَالع حَدِيث صَحِيح وَلِهَذَا قد يكونَانِ من الْكَبَائِر الْمُوجبَة للنار كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله {وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله هُوَ خيرا لَهُم بل هُوَ شَرّ لَهُم سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير}

وَأما وَصفهم بالجبن والفزع فَقَالَ تَعَالَى {ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم وَمَا هم مِنْكُم وَلَكنهُمْ قوم يفرقون لَو يَجدونَ ملْجأ أَو مغارات أَو مدخلًا لولوا إِلَيْهِ وهم يجمحون} فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَنهم وَإِن حلفوا أَنهم من الْمُؤمنِينَ فَمَا هم مِنْهُم وَلَكِن يفزعون من الْعَدو فَلَو يَجدونَ ملْجأ يلجأون إِلَيْهِ من المعاقل والحصون الَّتِي يفر إِلَيْهَا من يتْرك الْجِهَاد أَو مغارات وَهِي جمع مغارة ومغارات سميت بذلك لِأَن الدَّاخِل يغور فِيهَا أَي يسْتَتر كَمَا يغور المَاء أَو مدخلًا وَهُوَ الَّذِي يتَكَلَّف الدُّخُول إِلَيْهِ إِمَّا لضيق بَابه أَو لغير ذَلِك أَي مَكَانا يدْخلُونَ إِلَيْهِ وَلَو كَانَ الدُّخُول بكلفة ومشقة لولوا عَن الْجِهَاد إِلَيْهِ وهم يجحمون أَي يسرعون إسارعا لَا يردهم شَيْء كالفرس الجموح الَّذِي إِذا حمل لَا يردهُ اللجام

وَهَذَا وصف منطبق على أَقوام كثيرين فِي حادثتنا وَفِيمَا قبلهَا من الْحَوَادِث وَبعدهَا وَكَذَلِكَ قَالَ فِي سُورَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت فَأولى لَهُم} أَي فبعدا لَهُم {طَاعَة وَقَول مَعْرُوف فَإِذا عزم الْأَمر فَلَو صدقُوا الله لَكَانَ خيرا لَهُم} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} فحصر الْمُؤمنِينَ فِيمَن آمن وجاهد وَقَالَ تَعَالَى {لَا يستأذنك الَّذين يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يجاهدوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم وَالله عليم بالمتقين إِنَّمَا يستأذنك الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وارتابت قُلُوبهم فهم فِي ريبهم يَتَرَدَّدُونَ} فَهَذَا إِخْبَار من الله بِأَن الْمُؤمن لَا يسْتَأْذن الرَّسُول فِي ترك الْجِهَاد

وَإِنَّمَا يَسْتَأْذِنهُ الَّذِي لَا يُؤمن فَكيف بالتارك من غير اسْتِئْذَان وَمن تدبر الْقُرْآن وجد نَظَائِر هَذَا متضافرة على هذاالمعنى وَقَالَ فِي وَصفهم بالشح {وَمَا مَنعهم أَن تقبل مِنْهُم نفقاتهم إِلَّا أَنهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا وهم كسَالَى وَلَا يُنْفقُونَ إِلَّا وهم كَارِهُون} فَهَذِهِ حَال من أنْفق كَارِهًا فَكيف بِمن ترك النَّفَقَة رَأْسا وَقَالَ {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون} وَقَالَ {وَمِنْهُم من عَاهَدَ الله لَئِن آتَانَا من فَضله لنصدقن ولنكونن من الصَّالِحين فَلَمَّا آتَاهُم من فَضله بخلوا بِهِ وتولوا وهم معرضون} وَقَالَ فِي السُّورَة {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِن كثيرا من الْأَحْبَار والرهبان ليأكلون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم هَذَا مَا كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا مَا كُنْتُم تكنزون}

فانتظمت هَذِه الْآيَة حَال من أَخذ المَال بِغَيْر حَقه أَو مَنعه عَن مُسْتَحقّه من جَمِيع النَّاس فَإِن الْأَحْبَار هم الْعلمَاء والرهبان هم الْعباد وَقد أخبر أَن كثيرا مِنْهُم يَأْكُلُون أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ ويصدون أَي يعرضون وَيمْنَعُونَ يُقَال صد عَن الْحق صدودا وَصد غَيره وَهَذَا ينْدَرج فِيهِ مَا يُؤْكَل بِالْبَاطِلِ من وقف أَو عَطِيَّة على الدّين كَالصَّلَاةِ وَالنُّذُور الَّتِي تنذر لأهل الدّين وَمن الْأَمْوَال الْمُشْتَركَة كأموال بَيت المَال وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا فِيمَن يَأْكُل المَال بِالْبَاطِلِ بِشُبْهَة دين ثمَّ قَالَ {وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله} فَهَذَا ينْدَرج فِيهِ من كنز المَال عَن النَّفَقَة الْوَاجِبَة فِي سَبِيل الله وَالْجهَاد أَحَق الْأَعْمَال باسم سَبِيل الله سَوَاء كَانَ ملكا أَو مقدما أَو غَنِيا أَو غير ذَلِك

فصل

وَإِذا دخل فِي هَذَا مَا كنز من المَال الْمَوْرُوث والمكسوب فَمَا كنز من الْأَمْوَال الْمُشْتَركَة الَّتِي يَسْتَحِقهَا عُمُوم الْأمة ومستحقها مصالحهم أولى وَأَحْرَى فصل فَإِذا تبين بعض معنى الْمُؤمن وَالْمُنَافِق فَإِذا قَرَأَ الْإِنْسَان سُورَة الْأَحْزَاب وَعرف من المنقولات فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَالْفِقْه والمغازي كَيفَ كَانَت صفة الْوَاقِعَة الَّتِي نزل بهَا الْقُرْآن ثمَّ اعْتبر هَذِه الْحَادِثَة بِتِلْكَ وجد مصداق مَا ذكرنَا وَأَن النَّاس انقسموا فِي هَذِه الْحَادِثَة إِلَى الْأَقْسَام الثَّلَاثَة كَمَا انقسموا فِي تِلْكَ وَتبين لَهُ كثير من المتشابهات افْتتح الله السُّورَة بقوله {يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} وَذكر فِي أَثْنَائِهَا قَوْله {وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن لَهُم من الله فضلا كَبِيرا وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ} ثمَّ قَالَ {وَاتبع مَا يُوحى إِلَيْك من رَبك إِن الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا وتوكل على الله وَكفى بِاللَّه وَكيلا} فَأمره بِاتِّبَاع مَا أوحى إِلَيْهِ من الْكتاب وَالْحكمَة الَّتِي هِيَ سنته وَبِأَن يتوكل على الله

فبالأولى تحقق قَوْله {إياك نعْبد} وبالثانية تحقق قَوْله {وَإِيَّاك نستعين} وَمثل ذَلِك قَوْله {فاعبده وتوكل عَلَيْهِ} وَقَوله {عَلَيْهِ توكلت وَإِلَيْهِ أنيب} وَهَذَا وَإِن كَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي جَمِيع الدّين فَإِن ذَلِك فِي الْجِهَاد أوكد لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى أَن يُجَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ لَا يتم إِلَّا بتأييد قوي من الله وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَاد سَنَام الْعَمَل وانتظم سَنَام جَمِيع الْأَحْوَال الشَّرِيفَة

فَفِيهِ سَنَام الْمحبَّة كَمَا فِي قَوْله {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم} وَفِيه سَنَام التَّوَكُّل وسنام الصَّبْر فَإِن الْمُجَاهِد أحْوج النَّاس إِلَى الصَّبْر والتوكل وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا لنبوئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجر الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ} {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّه واصبروا إِن الأَرْض لله يُورثهَا من يَشَاء من عباده وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين}

وَلِهَذَا كَانَ الصَّبْر وَالْيَقِين اللَّذين هما أصل التَّوَكُّل يوجبان الْإِمَامَة فِي الدّين كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} ) وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَاد مُوجبا للهداية الَّتِي هِيَ مُحِيطَة بِأَبْوَاب الْعلم كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين جاهدوا فِينَا لنهدينهم سبلنا} وَفِي الْجِهَاد أَيْضا حَقِيقَة الزّهْد فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الدَّار الدُّنْيَا وَفِيه أَيْضا حَقِيقَة الْإِخْلَاص فَإِن الْكَلَام فِيمَن جَاهد فِي سَبِيل الله لَا فِي سَبِيل لراياسة وَلَا فِي سَبِيل المَال وَلَا فِي سَبِيل الحمية وَهَذَا لَا يكون إِلَّا لمن قَاتل ليَكُون الدّين كُله لله ولتكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَأعظم مَرَاتِب الْإِخْلَاص تَسْلِيم النَّفس وَالْمَال للمعبود كَمَا قا تَعَالَى {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة يُقَاتلُون فِي سَبِيل الله فيقتلون وَيقْتلُونَ} وَالْجنَّة اسْم للدَّار الَّتِي حوت كل نعيم أَعْلَاهُ النّظر إِلَى الله إِلَى مَا دون ذَلِك مِمَّا تشتهيه الآنفس وتلذ الْأَعْين مِمَّا قد نعرفه

وَقد لَا نعرفه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَعدَدْت لعبادي الصَّالِحين مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر فقد تبين بعض أَسبَاب افْتِتَاح هَذِه السُّورَة بِهَذَا ثمَّ إِنَّه تَعَالَى قَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اذْكروا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ جاءتكم جنود فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرًا} وَكَانَ مُخْتَصر الْقِصَّة أَن الْمُسلمين يحزب عَلَيْهِم عَامَّة الْمُشْركين الَّذين حَولهمْ وَجَاءُوا بجموعهم إِلَى الْمَدِينَة ليستأصلوا الْمُؤمنِينَ فاجتمعت قُرَيْش وحلفاؤها من بني أَسد وَأَشْجَع وفزارة وَغَيرهم من قبائل نجد وَاجْتمعت أَيْضا الْيَهُود من قُرَيْظَة وَالنضير فَإِن بني النَّضِير كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد أجلاهم قبل ذَلِك كَمَا ذكره الله تَعَالَى فِي سُورَة الْحَشْر فَجَاءُوا فِي الْأَحْزَاب إِلَى قُرَيْظَة وهم معاهدون للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومجاورون لَهُ قَرِيبا من الْمَدِينَة فَلم يزَالُوا

حَتَّى نقضت قُرَيْظَة الْعَهْد ودخلوا فِي الْأَحْزَاب فاجتمعت هَذِه الْأَحْزَاب الْعَظِيمَة وهم بِقدر الْمُسلمين مَرَّات مُتعَدِّدَة فَرفع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الذُّرِّيَّة من النِّسَاء وَالصبيان فِي آطام الْمَدِينَة وَهِي مثل الجواسق وَلم ينقلهم إِلَى مَوَاضِع أخر وَجعل ظهْرهمْ إِلَى سلع وَهُوَ الْجَبَل الْقَرِيب من الْمَدِينَة من نَاحيَة الغرب والشأم وَجعل بَينه وَبَين الْعَدو خَنْدَقًا والعدو قد أحَاط بهم من الْعَالِيَة والسافلة وَكَانَ عدوا شَدِيد الْعَدَاوَة لَو تمكن من الْمُؤمنِينَ لكَانَتْ نكايته فيهم أعظم النكايات وَفِي هَذِه الْحَادِثَة تحزب هَذَا الْعَدو من مغل وَغَيرهم من أَنْوَاع التّرْك وَمن فرس ومستعربة وَنَحْوهم من أَجنَاس المرقدة وَمن

نَصَارَى من الأرمن وَغَيرهم وَنزل هَذَا الْعَدو بِجَانِب ديار الْمُسلمين وَهُوَ بَين الْإِقْدَام والإحجام مَعَ قلَّة من بإزائهم من الْمُسلمين ومقصودهم الِاسْتِيلَاء على الدَّار واصطلام أَهلهَا كَمَا نزل أُولَئِكَ بنواحي الْمَدِينَة بِإِزَاءِ الْمُسلمين ودام الْحصار على الْمُسلمين عَام الخَنْدَق على مَا قيل بضعا وَعشْرين لَيْلَة وَقيل عشْرين لَيْلَة وَهَذَا الْعَدو عبر الْفُرَات سَابِع عشر ربيع الآخر وَكَانَ أول انْصِرَافه رَاجعا عَن حلب لما رَجَعَ مقدمهم الْكَبِير قازان بِمن مَعَه يَوْم الأثنين حادي أَو ثَانِي عشر جمادي الأولى يَوْم دخل الْعَسْكَر عَسْكَر الْمُسلمين إِلَى مصر المحروسة وَاجْتمعَ بهم الدَّاعِي وخاطبهم فِي هَذِه الْقَضِيَّة وَكَانَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما ألْقى فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ مَا ألْقى من الاهتمام والعزم ألْقى فِي قُلُوب عدوهم الروع والانصراف وَكَانَ عَام الخَنْدَق برد شَدِيد وريح شَدِيدَة مُنكرَة بهَا صرف الله الْأَحْزَاب عَن الْمَدِينَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَأَرْسَلنَا عَلَيْهِم ريحًا وجنودا لم تَرَوْهَا} وَهَكَذَا هَذَا الْعَام أَكثر الله فِيهِ الثَّلج والمطر وَالْبرد على خلاف

أَكثر الْعَادَات حَتَّى كره أَكثر النَّاس ذَلِك وَكُنَّا نقُول لَهُم لَا تكْرهُوا ذَلِك فَإِن لله فِيهِ حِكْمَة وَرَحْمَة وَكَانَ ذَلِك من أعظم الْأَسْبَاب الَّتِي صرف الله بِهِ الْعَدو فَإِنَّهُ كثر عَلَيْهِم الثَّلج والمطر وَالْبرد حَتَّى هلك من خيلهم مَا شَاءَ الله وَهلك أَيْضا مِنْهُم من شَاءَ الله وَظهر فيهم وَفِي بَقِيَّة خيلهم من الضعْف وَالْعجز بِسَبَب الْبرد والجوع مَا رَأَوْا أَنهم لَا طَاقَة لَهُم مَعَه بِقِتَال حَتَّى بَلغنِي عَن بعض كبار المقدمين فِي أَرض الشأم أَنه قَالَ لَا بيض الله وُجُوهنَا عدونا فِي الثَّلج إِلَى شعره وَنحن قعُود لَا نأخذهم وَحَتَّى علمُوا أَنهم كَانُوا صيدا للْمُسلمين لَو يصطادونهم لَكِن فِي تَأْخِير الله اصطيادهم حِكْمَة عَظِيمَة وَقَالَ الله فِي شَأْن الْأَحْزَاب {إِذْ جاؤوكم من فَوْقكُم وَمن أَسْفَل مِنْكُم وَإِذ زاغت الْأَبْصَار وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر وتظنون بِاللَّه الظنونا هُنَالك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا} وَهَكَذَا هَذَا الْعَام جَاءَ الْعَدو من ناحيتي علو الشأم وَهُوَ شمال الْفُرَات وَهُوَ قبلي الْفُرَات فزاغت الْأَبْصَار زيغا عَظِيما وَبَلغت الْقُلُوب الْحَنَاجِر لعظم الْبلَاء لَا سِيمَا لما استفاض الْخَبَر بانصراف

الْعَسْكَر إِلَى مصر وتقرب الْعَدو وتوجهه إِلَى دمشق وَظن النَّاس بِاللَّه الظنونا هَذَا يظنّ أَنه لَا يقف قدامهم أحد من جند الشأم حَتَّى يصطلموا أهل الشَّام وَهَذَا يظنّ أَنهم لَو وقفُوا لكسروهم كسرة وَأَحَاطُوا بهم إحاطة الهالة بالقمر وَهَذَا يظنّ أَن أَرض الشأم مَا بقيت تسكن وَلَا بقيت تكون تَحت مملكة الْإِسْلَام وَهَذَا يظنّ أَنهم يأخذونها ثمَّ يذهبون إِلَى مصر فيستولون عَلَيْهَا فَلَا يقف قدامهم أحد فَيحدث نَفسه بالفرار إِلَى الْيمن وَنَحْوهَا وَهَذَا إِذا أحسن ظَنّه قَالَ إِنَّهُم يملكونها الْعَام كَمَا ملكوها عَام هولاكو سنة سبع وَخمسين ثمَّ قد يخرج الْعَسْكَر من مصر فيستنقذها مِنْهُم كَمَا خرج ذَلِك الْعَام وهذ ظن خيارهم وَهَذَا يظنّ أَن مَا أخبرهُ بِهِ أهل الْآثَار النَّبَوِيَّة وَأهل التحديث والمبشرات أماني كَاذِبَة وخرافات لاغية وَهَذَا قد استولى عَلَيْهِ الرعب والفزع حَتَّى يمر الظَّن بفؤاده مر السَّحَاب لَيْسَ لَهُ عقل يتفهم وَلَا لِسَان يتَكَلَّم

وَهَذَا قد تَعَارَضَت عِنْده الإمارات وتقابلت عِنْده الإرادات لَا سِيمَا وَهُوَ لَا يفرق من الْمُبَشِّرَات بَين الصَّادِق والكاذب وَلَا يُمَيّز فِي التحديث بَين المخطىء والصائب وَلَا يعرف النُّصُوص الأثرية معرفَة الْعلمَاء بل إِمَّا أَن يكون جَاهِلا بهَا وَقد سَمعهَا سَماع العبر ثمَّ قد لَا يتفطن لوجوه دلالتها الْخفية وَلَا يَهْتَدِي لدفع مَا يتخيل أَنه معَارض لَهَا فِي بادىء الرُّؤْيَة فَلذَلِك استولت الْحيرَة على من كَانَ متسما بالاهتداء وتراجمت بِهِ الآراء تراجم الصّبيان بالحصباء هُنَالك ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزلزلوا زلزالا شَدِيدا ابْتَلَاهُم الله بِهَذَا الِابْتِلَاء الَّذِي يكفر بِهِ خطيئاتهم وَيرْفَع بِهِ درجاتهم وزلزلوا بِمَا يحصل لَهُم من الرجفات مَا استوجبوا بِهِ أَعلَى الدَّرَجَات قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض مَا وعدنا الله وَرَسُوله إِلَّا غرُورًا} وَهَكَذَا قَالُوا فِي هَذِه الْفِتْنَة فِيمَا وعدهم أهل الوراثة النَّبَوِيَّة والخلافة الرسالية وحزب الله المحدثون عَنهُ حَتَّى حصل لهَؤُلَاء التأسي برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة}

فَأَما المُنَافِقُونَ فقد مضى التَّنْبِيه عَلَيْهِم وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فقد تكَرر ذكرهم فِي هَذِه السُّورَة فَذكرُوا هُنَا وَفِي قَوْله {لَئِن لم ينْتَه المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض والمرجفون فِي الْمَدِينَة} وَفِي قَوْله {فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض} وَذكر الله مرض الْقلب فِي مَوَاضِع فَقَالَ تَعَالَى {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم} وَالْمَرَض فِي الْقلب كالمرض فِي الْجَسَد فَكَمَا أَن هَذَا هُوَ إِحَالَة عَن الصِّحَّة والاعتدال من غير موت فَكَذَلِك قد يكون فِي الْقلب مرض يحيله عَن الصِّحَّة والاعتدال من غير أَن يَمُوت الْقلب سَوَاء أفسد إحساس الْقلب وإدراكه أَو أفسد عمله وحركته وَذَلِكَ كَمَا فسروه هُوَ من ضعف الْإِيمَان إِمَّا بِضعْف علم الْقلب واعتقاده وَإِمَّا بِضعْف عمله وحركته فَيدْخل فِيهِ من ضعف تَصْدِيقه وَمن غلب عَلَيْهِ الْجُبْن والفزع فَإِن أدواء الْقلب من الشَّهْوَة الْمُحرمَة والحسد والجبن وَالْبخل وَغير ذَلِك كلهَا أمراض وَكَذَلِكَ الْجَهْل والشكوك والشبهات الَّتِي فِيهِ وعَلى هَذَا قَوْله {فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض} هُوَ إِرَادَة الْفُجُور

وشهوة الزِّنَا كَمَا فسروه بِهِ وَمِنْه قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأي دَاء أدوى من الْبُخْل وَقد جعل الله تَعَالَى كِتَابه شِفَاء لما فِي الصُّدُور وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا شِفَاء العي بالسؤال وَكَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من مُنكرَات الْأَخْلَاق والأهواء والأدواء وَلنْ يخَاف الرجل غير الله إِلَّا لمَرض فِي قلبه كَمَا ذكرُوا أَن رجلا شكا إِلَى احْمَد بن حَنْبَل خَوفه من بعض الْوُلَاة فَقَالَ لَو صححت لم تخف أحدا أَي خوفك من أجل زَوَال الصِّحَّة من قَلْبك وَلِهَذَا أوجب الله على عباده أَن لَا يخَافُوا حزب الشَّيْطَان بل لَا يخَافُونَ غَيره تَعَالَى فَقَالَ {إِنَّمَا ذَلِكُم الشَّيْطَان يخوف أولياءه فَلَا تخافوهم وخافون إِن كُنْتُم مُؤمنين} أَي يخوفكم أولياءه وَقَالَ لعُمُوم بني إِسْرَائِيل تَنْبِيها لنا {وإياي فارهبون}

وَقَالَ {فَلَا تخشوا النَّاس واخشون} وَقَالَ {لِئَلَّا يكون للنَّاس عَلَيْكُم حجَّة إِلَّا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فَلَا تخشوهم واخشوني} وَقَالَ تَعَالَى {الْيَوْم يئس الَّذين كفرُوا من دينكُمْ فَلَا تخشوهم واخشون} وَقَالَ {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وَأقَام الصَّلَاة وَآتى الزَّكَاة وَلم يخْش إِلَّا الله} وَقَالَ {الَّذين يبلغون رسالات الله ويخشونه وَلَا يَخْشونَ أحدا إِلَّا الله} وَقَالَ {أَلا تقاتلون قوما نكثوا أَيْمَانهم وهموا بِإِخْرَاج الرَّسُول وهم بدؤوكم أول مرّة أتخشونهم فَالله أَحَق أَن تخشوه} فدلت هَذِه الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض} على أَن الْمَرَض والنفاق فِي الْقلب يُوجب الريب فِي الأنباء الصادقة الَّتِي توجب كفر الْإِنْسَان من الْخَوْف حَتَّى يَظُنُّوا

أَنَّهَا كَانَت غرُورًا لَهُم كَمَا وَقع فِي حادثتنا هَذِه سَوَاء ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِذ قَالَت طَائِفَة مِنْهُم يَا أهل يثرب لَا مقَام لكم فَارْجِعُوا} وَكَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد عَسْكَر بِالْمُسْلِمين عِنْد سلع وَجعل الخَنْدَق بَينه وَبَين الْعَدو فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم لَا مقَام لكم هُنَا لِكَثْرَة الْعَدو فَارْجِعُوا إِلَى الْمَدِينَة وَقيل لَا مقَام لكم على دين مُحَمَّد فَارْجِعُوا إِلَى دين الشّرك

وَقيل لَا مقَام لكم على الْقِتَال فَارْجِعُوا إِلَى الاستئمان والاستجارة بهم وَهَكَذَا لما قدم هَذَا الْعَدو كَانَ من الْمُنَافِقين من قَالَ مَا بقيت الدولة الإسلامية تقوم فَيَنْبَغِي الدُّخُول فِي دولة التتار وَقَالَ بعض الْخَاصَّة مَا بقيت أَرض الشَّام تسكن بل ننتقل عَنْهَا إِمَّا إِلَى الْحجاز واليمن وَإِمَّا إِلَى مصر وَقَالَ بَعضهم بل الْمصلحَة الاستسلام لهَؤُلَاء كَمَا قد استسلم لَهُم أهل الْعرَاق وَالدُّخُول تَحت حكمهم فَهَذِهِ المقالات الثَّلَاث قد قيلت فِي هَذِه النَّازِلَة كَمَا قيلت فِي تِلْكَ وَهَكَذَا قَالَ طَائِفَة من الْمُنَافِقين وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض لأهل دمشق خَاصَّة والشأم عَامَّة لَا مقَام لكم بِهَذِهِ الأَرْض وَنفى الْمقَام بهَا أبلغ من نفي الْمقَام وَإِن كَانَت قد قُرِئت بِالضَّمِّ أَيْضا فَإِن من لم يقدر أَن يقوم بِالْمَكَانِ فَكيف يُقيم بِهِ

قَالَ الله تَعَالَى {ويستأذن فريق مِنْهُم النَّبِي يَقُولُونَ إِن بُيُوتنَا عَورَة وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} كَانَ قوم من هَؤُلَاءِ المذمومين يَقُولُونَ وَالنَّاس مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد سلع دَاخل الخَنْدَق وَالنِّسَاء وَالصبيان فِي آطام الْمَدِينَة يَا رَسُول الله إِن بُيُوتنَا عَورَة أَي مكشوفة فَلَيْسَ بَينهَا وَبَين الْعَدو حَائِل وأصل الْعَوْرَة الْخَالِي الَّذِي يحْتَاج إِلَى حفظ وَستر يُقَال أَعور مجلسك إِذا ذهب ستره أَو سقط جِدَاره وَمِنْه عَورَة الْعَدو وَقَالَ مُجَاهِد وَالْحسن أَي ضائعة يخْشَى عَلَيْهَا السراق وَقَالَ قَتَادَة قَالُوا بُيُوتنَا مِمَّا يَلِي الْعَدو فَلَا نَأْمَن على أهلنا فائذن لنا أَن نَذْهَب إِلَيْهَا لحفظ النِّسَاء وَالصبيان قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا هِيَ بِعَوْرَة} لِأَن الله يحفظها {إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} فهم يقصدون الْفِرَار من الْجِهَاد ويحتجون بِحجَّة العائلة وَهَكَذَا أصَاب كثيرا من النَّاس فِي هَذِه الْغُزَاة صَارُوا يفرون من الثغر إِلَى المعاقل والحصون وَإِلَى الْأَمَاكِن الْبَعِيدَة كمصر وَيَقُولُونَ

مَا مقصودنا إِلَّا حفظ الْعِيَال وَمَا يُمكن إرسالهم مَعَ غَيرنَا وهم يكذبُون فقد كَانَ يُمكنهُم جعلهم فِي حصن دمشق لودنا الْعَدو كَمَا فعل الْمُسلمُونَ على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ يُمكنهُم إرسالهم وَالْمقَام للْجِهَاد فَكيف بِمن فر بعد إرْسَال عِيَاله قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو دخلت عَلَيْهِم من أقطارها ثمَّ سئلوا الْفِتْنَة لآتوها وَمَا تلبثوا بهَا إِلَّا يَسِيرا} فَأخْبر أَنه لَو دخلت عَلَيْهِم الْمَدِينَة من جوانبها ثمَّ طلبت مِنْهُم الْفِتْنَة وَهِي الافتنان عَن الدّين بالْكفْر أَو النِّفَاق لأعطوا الْفِتْنَة ولجاءوها من غير توقف وَهَذِه حَال أَقوام لَو دخل عَلَيْهِم هَذَا الْعَدو الْمُنَافِق المجرم ثمَّ طلب مِنْهُم مُوَافَقَته على مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْخُرُوج عَن شَرِيعَة الْإِسْلَام وَتلك فتْنَة عَظِيمَة لكانوا مَعَه على ذَلِك كَمَا ساعدهم فِي الْعَام الْمَاضِي أَقوام بأنواع من الْفِتْنَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا مَا بَين ترك وَاجِبَات وَفعل مُحرمَات إِمَّا فِي حق الله وَإِمَّا فِي حق الْعباد كَتَرْكِ الصَّلَاة وَشرب الْخُمُور وَسَب السّلف وَسَب جنود الْمُسلمين والتجسس لَهُم على الْمُسلمين ودلالتهم على أَمْوَال الْمُسلمين وحريمهم وَأخذ أَمْوَال النَّاس وتعذيبهم وتقوية دولتهم الملعونة وإرجاف قُلُوب الْمُسلمين مِنْهُم إِلَى غير ذَلِك من أَنْوَاع الْفِتْنَة ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلَقَد كَانُوا عَاهَدُوا الله من قبل لَا يولون الأدبار وَكَانَ عهد الله مسؤولا}

وَهَذِه حَال أَقوام عَاهَدُوا ثمَّ نكثوا قَدِيما وحديثا فِي هَذِه الْغَزْوَة فَإِن فِي الْعَام الْمَاضِي وَفِي هَذَا الْعَام فِي أول الْأَمر كَانَ من أَصْنَاف النَّاس من عَاهَدَ على أَن يُقَاتل وَلَا يفر ثمَّ فر مُنْهَزِمًا لما اشْتَدَّ الْأَمر ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى {قل لن ينفعكم الْفِرَار إِن فررتم من الْمَوْت أَو الْقَتْل وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} فَأخْبر الله أَن الْفِرَار لَا ينفع لَا من الْمَوْت وَلَا من الْقَتْل فالفرار من الْمَوْت كالفرار من الطَّاعُون وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا وَقع بِأَرْض وَأَنْتُم بهَا فَلَا تخْرجُوا فِرَارًا مِنْهُ والفرار من الْقَتْل كالفرار من الْجِهَاد وحرف لن يَنْفِي الْفِعْل فِي الزَّمن الْمُسْتَقْبل وَالْفِعْل نكرَة والنكرة فِي سِيَاق النَّفْي تعم جَمِيع أفرادها فَاقْتضى ذَلِك أَن الْفِرَار من الْمَوْت أَو الْقَتْل لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة أبدا وَهَذَا خبر الله الصَّادِق فَمن اعْتقد أَن ذَلِك يَنْفَعهُ فقد كذب الله فِي خَبره

والتجربة تدل على مثل مَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَإِن هَؤُلَاءِ الَّذين فروا فِي هَذَا الْعَام لم يَنْفَعهُمْ فرارهم بل خسروا الدّين وَالدُّنْيَا وتفاوتوا فِي المصائب والمرابطون الثابتون نفعهم ذَلِك فِي الدّين وَالدُّنْيَا حَتَّى الْمَوْت الَّذِي فروا مِنْهُ كثر فيهم وَقل فِي المقيمين فَمَاتَ مَعَ الْهَرَب من شَاءَ الله والطالبون لِلْعَدو والمعاقبون لَهُ لم يمت مِنْهُم أحد وَلَا قتل بل الْمَوْت قل فِي الْبَلَد من حِين خرج الفارون وَهَكَذَا سنة الله قَدِيما وحديثا ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَإِذا لَا تمتعون إِلَّا قَلِيلا} يَقُول لَو كَانَ الْفِرَار ينفعكم لم ينفعكم إِلَّا حَيَاة قَليلَة ثمَّ تموتون فَإِن الْمَوْت لَا بُد مِنْهُ وَقد حكى عَن بعض الحمقى أَنه قَالَ فَنحْن نُرِيد ذَلِك الْقَلِيل وَهَذَا جهل مِنْهُ بِمَعْنى الْآيَة فَإِن الله لم يقل إِنَّهُم يتمتعون بالفرار قَلِيلا لكنه ذكر أَنه لَا مَنْفَعَة فِيهِ أبدا ثمَّ ذكر جَوَابا ثَانِيًا أَنه لَو كَانَ ينفع لم يكن فِيهِ إِلَّا مَتَاع قَلِيل ثمَّ إِنَّه ذكر جَوَابا ثَالِثا وَهُوَ أَن الفار يَأْتِيهِ مَا قضي لَهُ من الْمضرَّة وَيَأْتِي الثَّابِت مَا قضي لَهُ من المسرة فَقَالَ {قل من ذَا الَّذِي يعصمكم من الله إِن أَرَادَ بكم سوءا أَو أَرَادَ بكم رَحْمَة وَلَا يَجدونَ لَهُم من دون الله وليا وَلَا نَصِيرًا}

وَنَظِيره قَوْله فِي سِيَاق آيَات الْجِهَاد {أَيْنَمَا تَكُونُوا يدرككم الْمَوْت وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة} وَقَوله {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِين كفرُوا وَقَالُوا لإخوانهم إِذا ضربوا فِي الأَرْض أَو كَانُوا غزى لَو كَانُوا عندنَا مَا مَاتُوا وَمَا قتلوا ليجعل الله ذَلِك حسرة فِي قُلُوبهم وَالله يحيي وَيُمِيت وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} فمضمون الْأَمر أَن المنايا محتومة فكم مِمَّن حضر الصُّفُوف فَسلم وَكم مِمَّن فر من الْمنية فصادفته كَمَا قَالَ خَالِد بن الْوَلِيد لما احْتضرَ لقد حضرت كَذَا وَكَذَا صفا وَإِن ببدني بضعا وَثَمَانِينَ مَا بَين ضَرْبَة بِسيف وطعنة بِرُمْح ورمية بِسَهْم وهأنذا أَمُوت على فِرَاشِي كَمَا يَمُوت العنز فَلَا قرت أعين الْجُبَنَاء

ثمَّ قَالَ تَعَالَى {قد يعلم الله المعوقين مِنْكُم والقائلين لإخوانهم هَلُمَّ إِلَيْنَا} قَالَ الْعلمَاء كَانَ من الْمُنَافِقين من يرجع من الخَنْدَق فَيدْخل الْمَدِينَة فَإِذا جَاءَهُم أحد قَالُوا لَهُ وَيحك اجْلِسْ فَلَا تخرج ويكتبون بذلك إِلَى إخْوَانهمْ الَّذين بالعسكر أَن ائتونا بِالْمَدِينَةِ فَإنَّا ننتظركم يثبطونهم عَن الْقِتَال وَكَانُوا لَا يأْتونَ الْعَسْكَر إِلَّا أَن لَا يَجدوا بدا فَيَأْتُونَ الْعَسْكَر ليرى النَّاس وُجُوههم فَإِذا غفل عَنْهُم عَادوا إِلَى الْمَدِينَة فَانْصَرف بَعضهم من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأمه وَعِنْده شواء ونبيذ فَقَالَ أَنْت هَهُنَا وَرَسُول الله صلى الله

عَلَيْهِ وَسلم بَين الرماح وَالسُّيُوف فَقَالَ هَلُمَّ إِلَيّ فقد أحيط بك وبصاحبك فوصف المثبطين عَن الْجِهَاد وهم صنفان بِأَنَّهُم إِمَّا أَن يَكُونُوا فِي بلد الْغُزَاة أَو فِي غَيره فَإِن كَانُوا فِيهِ عوقوهم عَن الْجِهَاد بالْقَوْل أَو بِالْعَمَلِ أَو بهما وَإِن كَانُوا فِي غَيره راسلوهم أَو كاتبوهم بِأَن يخرجُوا إِلَيْهِم من بلد الْغُزَاة ليكونوا مَعَهم بالحصون أَو بالبعد كَمَا جرى فِي هَذِه الْغُزَاة فَإِن أَقْوَامًا فِي الْعَسْكَر وَالْمَدينَة وَغَيرهَا صَارُوا يعوقون من أَرَادَ الْغَزْو وأقواما بعثوا من المعاقل والحصون أَو غَيرهَا إِلَى إخْوَانهمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {وَلَا يأْتونَ الْبَأْس إِلَّا قَلِيلا أشحة عَلَيْكُم} أَي بخلاء عَلَيْكُم بِالْقِتَالِ مَعكُمْ وَالنَّفقَة فِي سَبِيل الله وَقَالَ مُجَاهِد بخلاء عَلَيْكُم بِالْخَيرِ وَالظفر وَالْغنيمَة وَهَذِه حَال من بخل على الْمُؤمنِينَ بِنَفسِهِ وَمَاله أَو شح عَلَيْهِم

بِفضل الله من نَصره ورزقه الَّذِي يجريه بِفعل غَيره فَإِن أَقْوَامًا يشحون بمعروفهم وأقواما يشحون بِمَعْرُوف الله وفضله وهم الحساد ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَإِذا جَاءَ الْخَوْف رَأَيْتهمْ ينظرُونَ إِلَيْك تَدور أَعينهم كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت} من شدَّة الرعب الَّذِي فِي قُلُوبهم يشبهون الْمغمى عَلَيْهِ وَقت النزع فَإِنَّهُ يخَاف وَيذْهل عقله ويشخص بَصَره وَلَا يطرف فَكَذَلِك هَؤُلَاءِ لأَنهم يخَافُونَ الْقَتْل {فَإِذا ذهب الْخَوْف سلقوكم بألسنة حداد} وَيُقَال فِي اللُّغَة صلقوكم وَهُوَ رفع الصَّوْت بالْكلَام المؤذي وَمِنْه الصالقة وَهِي الَّتِي ترفع صَوتهَا بالمصيبة يُقَال صلقه وسلقه وَقد قَرَأَ طَائِفَة من السّلف بهَا لَكِنَّهَا خَارِجَة عَن الْمُصحف إِذا خاطبه خطابا شَدِيدا قَوِيا وَيُقَال خطيب مسلاق إِذا كَانَ بليغا فِي خطبَته لَكِن الشدَّة هُنَا فِي الشَّرّ لَا فِي الْخَيْر كَمَا قَالَ بألسنة حداد (أشحة على الْخَيْر) وَهَذَا السلق بالألسنة الحادة وَهَذَا يكون بِوُجُوه تَارَة يَقُول المُنَافِقُونَ للْمُؤْمِنين هَذَا الَّذِي جرى علينا بشؤمكم فَإِنَّكُم أَنْتُم الَّذين دعوتم النَّاس إِلَى هَذَا الدّين وقاتلتم عَلَيْهِ وخالفتموهم فَإِن هَذَا مقَالَة الْمُنَافِقين للْمُؤْمِنين من الصَّحَابَة وَتارَة يَقُولُونَ أَنْتُم الَّذين أشرتم علينا بالْمقَام هُنَا والثبات بِهَذَا

الثغر إِلَى هَذَا الْوَقْت وَإِلَّا فَلَو كُنَّا سافرنا قبل هَذَا لما أَصَابَنَا هَذَا وَتارَة يَقُولُونَ أَنْتُم مَعَ قلتكم وضعفكم تُرِيدُونَ أَن تكسروا الْعَدو وَقد غركم دينكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِذْ يَقُول المُنَافِقُونَ وَالَّذين فِي قُلُوبهم مرض غر هَؤُلَاءِ دينهم وَمن يتوكل على الله فَإِن الله عَزِيز حَكِيم} وَتارَة يَقُولُونَ أَنْتُم مجانين لَا عقل لكم تُرِيدُونَ أَن تهلكوا أَنفسكُم وَالنَّاس مَعكُمْ وَتارَة يَقُولُونَ أنواعا من الْكَلَام المؤذي الشَّديد وهم مَعَ ذَلِك أشحة على الْخَيْر أَي حراص على الْغَنِيمَة وَالْمَال الَّذِي قد حصل لكم قَالَ قَتَادَة إِن كَانَ وَقت قسْمَة الْغَنِيمَة بسطوا ألسنتهم فِيكُم يَقُولُونَ أعطونا فلستم بِأَحَق بهَا منا افأما عِنْد الْبَأْس فأجبن قوم وأخذلهم للحق وَأما عِنْد الْغَنِيمَة فأشح قوم وَقيل أشحة على الْخَيْر أَي بخلاء بِهِ لَا ينفعون لَا بنفوسهم وَلَا بِأَمْوَالِهِمْ وأصل الشُّح شدَّة الْحِرْص الَّذِي يتَوَلَّد عَنهُ الْبُخْل وَالظُّلم من منع الْحق وَأخذ الْبَاطِل كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إيَّاكُمْ وَالشح فَإِن الشُّح أهلك من كَانَ قبلكُمْ أَمرهم بالبخل فبخلوا

وَأمرهمْ بالظلم فظلموا وَأمرهمْ بالقطيعة فَقطعُوا فَهَؤُلَاءِ أشحاء على إخْوَانهمْ أَي بخلاء عَلَيْهِم وأشحاء على الْخَيْر أَي حراص عَلَيْهِ فَلَا ينفقونه كَمَا قَالَ {وَإنَّهُ لحب الْخَيْر لشديد} ثمَّ قَالَ تَعَالَى {يحسبون الْأَحْزَاب لم يذهبوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَاب يودوا لَو أَنهم بادون فِي الْأَعْرَاب يسْأَلُون عَن أنبائكم وَلَو كَانُوا فِيكُم مَا قَاتلُوا إِلَّا قَلِيلا} فوصفهم بِثَلَاثَة أَوْصَاف أَحدهَا أَنهم لفرط خوفهم يحسبون الْأَحْزَاب لم ينصرفوا عَن الْبَلَد وَهَذِه حَال الجبان الَّذِي فِي قلبه مرض فَإِن قلبه يُبَادر إِلَى تَصْدِيق الْخَبَر الْمخوف وَتَكْذيب خبر الْأَمْن الْوَصْف الثَّانِي أَن الْأَحْزَاب إِذا جَاءُوا تمنوا أَن لَا يَكُونُوا بَيْنكُم بل يكونُونَ فِي الْبَادِيَة بَين الْأَعْرَاب يسْأَلُون عَن أنبائكم إيش خبر الْمَدِينَة وإيش جرى للنَّاس وَالْوَصْف الثَّالِث أَن الْأَحْزَاب إِذا أَتَوا وهم فِيكُم لم يقاتلوا إِلَّا قَلِيلا

وَهَذِه الصِّفَات الثَّلَاث منطبقة على كثير من النَّاس فِي هَذِه الْغَزْوَة كَمَا يعرفونه من أنفسهم ويعرفه مِنْهُم من خبرهم ثمَّ قَالَ تَعَالَى {لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا} فَأخْبر سُبْحَانَهُ أَن الَّذين يبتلون بالعدو كَا ابْتُلِيَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلهم فِيهِ أُسْوَة حَسَنَة حَيْثُ أَصَابَهُم مثل مَا أَصَابَهُ فليتأسوا بِهِ فِي التَّوَكُّل وَالصَّبْر وَلَا يظنون أَن هَذِه نقم لصَاحِبهَا وإهانة لَهُ فَإِنَّهُ لَو كَانَ كَذَلِك مَا ابْتُلِيَ بهَا خير الْخَلَائق بل بهَا ينَال الدَّرَجَات الْعَالِيَة وَبهَا يكفر الله الْخَطَايَا لمن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْم الآخر وَذكر الله كثيرا وَإِلَّا فقد يبتلى بذلك من لَيْسَ كَذَلِك فَيكون فِي حَقه عذَابا كالكفار وَالْمُنَافِقِينَ ثمَّ قَالَ تَعَالَى {وَلما رأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَاب قَالُوا هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما} قَالَ الْعلمَاء كَانَ الله قد أنزل فِي سُورَة الْبَقَرَة {أم حسبتم أَن تدْخلُوا الْجنَّة وَلما يأتكم مثل الَّذين خلوا من قبلكُمْ مستهم البأساء وَالضَّرَّاء وزلزلوا حَتَّى يَقُول الرَّسُول وَالَّذين آمنُوا مَعَه مَتى نصر الله أَلا إِن نصر الله قريب} فَبين الله سُبْحَانَهُ مُنْكرا على من حسب خلاف ذَلِك أَنهم لَا يدْخلُونَ الْجنَّة إِلَّا بعد أَن يبتلوا

مثل هَذِه الْأُمَم قبلهم بالبأساء وَهِي الْحَاجة والفاقة وَالضَّرَّاء وَهِي الوجع وَالْمَرَض والزلزال وَهِي زَلْزَلَة الْعَدو فَلَمَّا جَاءَ الْأَحْزَاب عَام الخَنْدَق فرأوهم قَالُوا {هَذَا مَا وعدنا الله وَرَسُوله وَصدق الله وَرَسُوله} وَعَلمُوا أَن الله قد ابْتَلَاهُم بالزلزال وأتاهم مثل الَّذين خلوا من قبلهم وَمَا زادهم إِلَّا إِيمَانًا وتسليما لحكم الله وَأمره وَهَذِه حَال أَقوام فِي هَذِه الْغَزْوَة قَالُوا ذَلِك وَكَذَلِكَ قَوْله {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه} أَي عَهده الَّذِي عَاهَدَ الله عَلَيْهِ فقاتل حَتَّى قتل أَو عَاشَ والنحب النّذر والعهد وَأَصله من النحيب وَهُوَ الصَّوْت وَمِنْه الانتحاب فِي الْبكاء وَهُوَ الصَّوْت الَّذِي تكلم بِهِ فِي الْعَهْد ثمَّ لما كَانَ عَهدهم هُوَ نذرهم الصدْق فِي اللِّقَاء وَمن صدق فِي اللِّقَاء فقد يقتل صَار يفهم من قَوْله {قضى نحبه} أَنه اسْتشْهد لَا سِيمَا إِذا كَانَ النحب نذر الصدْق فِي جَمِيع المواطن فَإِنَّهُ لَا يَقْضِيه إِلَّا بِالْمَوْتِ وَقَضَاء النحب هُوَ الْوَفَاء بالعهد كَمَا قَالَ {من الْمُؤمنِينَ رجال صدقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمنهمْ من قضى نحبه} أَي أكمل الْوَفَاء وَذَلِكَ لمن كَانَ عَهده مُطلقًا بِالْمَوْتِ اَوْ الْقَتْل

{وَمِنْهُم من ينْتَظر} قَضَاءَهُ إِذا كَانَ قد وفى الْبَعْض فَهُوَ ينْتَظر تَمام الْعَهْد وأصل الْقَضَاء الْإِتْمَام والإكمال {ليجزي الله الصَّادِقين بصدقهم ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} بَين الله سُبْحَانَهُ أَنه أَتَى بالأحزاب ليجزي الصَّادِقين بصدقهم حَيْثُ صدقُوا فِي إِيمَانهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ثمَّ لم يرتابوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم فِي سَبِيل الله أُولَئِكَ هم الصادقون} فحصر الْإِيمَان فِي الْمُؤمنِينَ الْمُجَاهدين وَأخْبر انهم هم الصادقون فِي قَوْلهم آمنا لَا من قَالَ كَمَا قَالَت الْأَعْرَاب آمنا وَالْإِيمَان لم يدْخل فِي قُلُوبهم بل انقادوا واستسلموا وَأما المُنَافِقُونَ فهم بَين امرين إِمَّا أَن يعذبهم وَإِمَّا أَن يَتُوب عَلَيْهِم فَهَذَا حَال النَّاس فِي الخَنْدَق وَفِي هَذِه الْغَزْوَة وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى ابتلى النَّاس بِهَذِهِ الْفِتْنَة ليجزي المصادقين بصدقهم وهم الثابتون الصَّابِرُونَ لينصروا الله وَرَسُوله ويعذب الْمُنَافِقين إِن شَاءَ أَو يَتُوب عَلَيْهِم

وَنحن نرجو من الله أَن يَتُوب على خلق كثير من هَؤُلَاءِ المذمومين فَإِن مِنْهُم من نَدم وَالله سُبْحَانَهُ يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات وَقد فتح الله للتَّوْبَة بَابا من قبل الْمغرب عرضه أَرْبَعُونَ سنة لَا يغلقه حَتَّى تطلع الشَّمْس من قبله وَقد ذكر أهل الْمَغَازِي مِنْهُم ابْن اسحق أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الخَنْدَق الْآن نغزوهم وَلَا يغزونا فَمَا غزت قُرَيْش وَلَا غطفان وَلَا الْيَهُود الْمُسلمين بعْدهَا بل غزاهم الْمُسلمُونَ ففتحوا خَيْبَر ثمَّ فتحُوا مَكَّة كَذَلِك إِن شَاءَ الله هَؤُلَاءِ الْأَحْزَاب من الْمغل وأصناف التّرْك وَمن الْفرس والمستعربة وَالنَّصَارَى وَنَحْوهم من أَصْنَاف الخارجين عَن شَرِيعَة الْإِسْلَام الْآن نغزوهم وَلَا يغزونا وَيَتُوب الله على من شَاءَ من الْمُسلمين الَّذين خالط قُلُوبهم مرض أَو نفاق بِأَن ينيبوا إِلَى رَبهم

وَيحسن ظنهم فِي الْإِسْلَام وتقوى عزيمتهم على جِهَاد عدوهم فقد أَرَاهُم الله من الْآيَات مَا فِيهِ عِبْرَة لأولي الْأَبْصَار كَمَا قَالَ {ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال وَكَانَ الله قَوِيا عَزِيزًا} فان الله صرف الْأَحْزَاب عَام الخَنْدَق بِمَا أرسل عَلَيْهِم من ريح الصِّبَا ريح شَدِيدَة بَارِدَة وَبِمَا فرق بِهِ بَين قُلُوبهم حَتَّى شتت شملهم وَلم ينالوا خيرا إِذْ كَانَ هَمهمْ فتح الْمَدِينَة والاستيلاء على الرَّسُول وَالصَّحَابَة كَمَا كَانَ هم هَذَا الْعَدو فتح الشَّام والاستيلاء على من بهَا من الْمُؤمنِينَ فردهم الله بغيظهم حَيْثُ أَصَابَهُم من الثَّلج الْعَظِيم وَالْبرد الشَّديد وَالرِّيح العاصف والجوع المزعج مَا الله بِهِ عليم وَقد كَانَ بعض النَّاس يكره تِلْكَ الثلوج والأمطار الْعَظِيمَة الَّتِي وَقعت فِي هَذَا الْعَام حَتَّى طلبُوا الاستصحاء غير مرّة وَكُنَّا نقُول لَهُم هَذَا فِيهِ خيرة عَظِيمَة وَفِيه لله حِكْمَة وسر فَلَا تكرهوه فَكَانَ من حكمته أَنه فِيمَا قيل أصَاب قازان وَجُنُوده حَتَّى أهلكهم وَهُوَ كَانَ فِيمَا قيل سَبَب رحيلهم وابتلي بِهِ الْمُسلمُونَ ليتبين من يصبر على

أَمر الله وَحكمه مِمَّن يفر عَن طَاعَته وَجِهَاد عدوه وَكَانَ مبدأ رحيل قازان فِيمَن مَعَه من ارْض الشأم وأراضي حلب يَوْم الِاثْنَيْنِ حادي عشر جمادي الأولى يَوْم دخلت مصر عقيب الْعَسْكَر وَاجْتمعت بالسلطان وأمراء الْمُسلمين وَألقى الله فِي قُلُوبهم من الاهتمام بِالْجِهَادِ مَا أَلْقَاهُ فَلَمَّا ثَبت الله قُلُوب الْمُسلمين صرف الْعَدو جَزَاء مِنْهُ وبيانا أَن النِّيَّة الْخَالِصَة والهمة الصادقة ينصر الله بهَا وَإِن لم يَقع الْفِعْل وَإِن تَبَاعَدت الديار وَذكر أَن الله فرق بَين قُلُوب هَؤُلَاءِ الْمغل والكرج وَألقى بَينهم تباغضا وتعاديا كَمَا القى سُبْحَانَهُ عَام الْأَحْزَاب بَين قُرَيْش وغَطَفَان وَبَين الْيَهُود كَمَا ذكر ذَلِك أهل الْمَغَازِي فَإِنَّهُ لم يَتَّسِع هَذَا الْمَكَان لِأَن نصف فِيهِ قصَّة الخَنْدَق بل من طالعها علم صِحَة ذَلِك كَمَا ذكره أهل الْمَغَازِي مثل عُرْوَة بن الزبير وَالزهْرِيّ ومُوسَى بن عقبَة وَسَعِيد بن يحيى الْأمَوِي وَمُحَمّد بن عَائِذ وَمُحَمّد بن اسحق والواقدي وَغَيرهم ثمَّ تبقى بالشأم مِنْهُم بقايا سَار إِلَيْهِم من عَسْكَر دمشق أَكْثَرهم مُضَافا إِلَى عَسْكَر حماة وحلب وَمَا هُنَالك وَثَبت الْمُسلمُونَ بإزائهم وَكَانُوا أَكثر من الْمُسلمين بِكَثِير لَكِن فِي ضعف شَدِيد تقربُوا إِلَى حماة

وأذلهم الله تَعَالَى فَلم يقدموا على الْمُسلمين قطّ وَصَارَ من الْمُسلمين من يُرِيد الْإِقْدَام عَلَيْهِم فَلم يُوَافقهُ غَيره فجرت مناوشات صغَار كَمَا قد كَانَ يجْرِي فِي غَزْوَة الخَنْدَق حَيْثُ قتل عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِيهَا عَمْرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخَنْدَق هُوَ وَنَفر قَلِيل من الْمُشْركين كَذَلِك صَار يتَقرَّب بعض الْعَدو فيكسرهم الْمُسلمُونَ مَعَ كَون الْعَدو المتقرب أَضْعَاف من قد سرى إِلَيْهِ من الْمُسلمين وَمَا من مرّة إِلَّا وَقد كَانَ الْمُسلمُونَ مستظهرين عَلَيْهِم وسَاق الْمُسلمُونَ خَلفهم فِي آخر النوبات فَلم يدركوهم إِلَّا عِنْد عبور الْفُرَات وَبَعْضهمْ فِي جَزِيرَة فِيهَا فَرَأَوْا أَوَائِل الْمُسلمين فَهَرَبُوا مِنْهُم وخالطوهم وَأصَاب الْمُسلمُونَ بَعضهم وَقيل إِنَّه غرق بَعضهم وَكَانَ عبورهم وخلو الشأم مِنْهُم فِي أَوَائِل رَجَب بعد أَن جرى مَا بَين عبور قازان أَولا وَهَذَا العبور رجفات ووقعات صغَار وعزمنا على الذّهاب إِلَى حماة غير مرّة لأجل الْغُزَاة لما بلغنَا أَن الْمُسلمين يُرِيدُونَ غَزْو الَّذين بقوا وَثَبت بإزائهم الْمُقدم الَّذِي بحماة وَمن مَعَهم من الْعَسْكَر وَمن أَتَاهُ من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عَظِيما وَقد قيل إِنَّهُم كَانُوا عدَّة لحمانات إِمَّا ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة وَكَانَ من الْمُقدر أَنه إِذا عزم الْأَمر وَصدق الْمُؤْمِنُونَ الله يلقى فِي

قُلُوب عدوهم الرعب فيهربون لَكِن أَصَابُوا من البليدات بالشمال مثل تيزين والفوعة ومعرة مصرين وَغَيرهَا مَا لم يَكُونُوا وطئوه فِي الْعَام الْمَاضِي وَقيل إِن كثيرا من تِلْكَ الْبِلَاد كَانَ فيهم ميل إِلَيْهِم بِسَبَب الرَّفْض وَأَن عِنْد بَعضهم فرامين مِنْهُم لَكِن هَؤُلَاءِ ظلمَة وَمن أعَان ظَالِما بلي بِهِ وَالله تَعَالَى يَقُول {وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَقد ظَاهِرهمْ على الْمُسلمين الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من أهل سيس والأفرنح فَنحْن نرجو من الله أَن ينزلهم من صياصيهم وَهِي الْحُصُون وَيُقَال للقرون الصياصى ويقذف قُلُوبهم الرعب وَقد فتح الله تِلْكَ الْبِلَاد ويغزوهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَيفتح أَرض الْعرَاق وَغَيرهَا وَتَعْلُو كلمة الله وَيظْهر دينه فَإِن هَذِه الْحَادِثَة كَانَ فِيهَا

أُمُور عَظِيمَة جَازَت حد الْقيَاس وَخرجت عَن سنَن الْعَادة وَظهر لكل ذِي عقل من تأييد الله لهَذَا الدّين وعنايته بِهَذِهِ الْأمة وَحفظه للْأَرْض الَّتِي بَارك فِيهَا للْعَالمين بعد أَن كَاد الْإِسْلَام أَن وكر الْعَدو كرة فَلم يلوعن وخذل الناصرون فَلم يلووا على وتحير السائرون فَلم يدروا من وَلَا إِلَى وانقطعت الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة وأهطعت الْأَحْزَاب الْقَاهِرَة وانصرفت الفئة الناصرة وتخاذلت الْقُلُوب المتناصرة وَثبتت الفئة الناصرة وأيقنت بالنصر الْقُلُوب الطاهرة واستنجزت من الله وعده الْعِصَابَة المنصورة الظَّاهِرَة فَفتح الله أَبْوَاب سمواته لجنوده الْقَاهِرَة وَأظْهر على الْحق آيَاته الباهرة وَأقَام عَمُود الْكتاب بعد ميله وَثَبت لِوَاء الدّين بقوته وَحَوله وأرغم معاطس أهل الْكفْر والنفاق وَجعل ذَلِك آيَة للْمُؤْمِنين إِلَى يَوْم التلاق فَالله يتم هَذِه النِّعْمَة بِجمع قُلُوب أهل الْإِيمَان على جِهَاد اهل الطغيان وَيجْعَل هَذِه الْمِنَّة الجسيمة مبدأ لكل منحة كَرِيمَة وأساسا لإِقَامَة الدعْوَة النَّبَوِيَّة القويمة ويشفي صُدُور الْمُؤمنِينَ من أعاديهم ويمكنهم من

دانيهم وقاصيهم وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله كتبت أول هَذَا الْكتاب بعد رحيل قازان وَجُنُوده لما رجعت من مصر فِي جمادي الْآخِرَة وأشاعوا أَنه لم يبْق مِنْهُم أحد ثمَّ لما بقيت تِلْكَ الطَّائِفَة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم وَقصد الذّهاب إِلَى إِخْوَاننَا بحماة وتحريض الْأُمَرَاء على ذَلِك حَتَّى جَاءَنَا الْخَبَر بانصراف المتبقين مِنْهُم فكملته فِي رَجَب وَالله أعلم وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على أشرف الْخلق مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين قلت وَفِي أول شهر رَمَضَان من سنة اثْنَتَيْنِ وَسَبْعمائة كَانَت وقْعَة شقحب الْمَشْهُورَة وَحصل للنَّاس شدَّة عَظِيمَة وَظهر فِيهَا من كرامات الشَّيْخ وَإجَابَة دُعَائِهِ وعظيم جهاده وَقُوَّة إيمَانه وَشدَّة نصحه لِلْإِسْلَامِ وفرط شجاعته وَنِهَايَة كرمه وَغير ذَلِك من صِفَاته مَا يفوق النَّعْت ويتجاوز الْوَصْف وَلَقَد قَرَأت بِخَط بعض اصحابه وَقد ذكر هَذِه الْوَاقِعَة وَكَثْرَة من حضرها من جيوش الْمُسلمين قَالَ

واتفقت كلمة إِجْمَاعهم على تَعْظِيم الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ومحبته وَسَمَاع كَلَامه ونصيحته واتعظوا بمواعظه وَسَأَلَهُ بَعضهم مسَائِل فِي أَمر الدّين وَلم يبْق من مُلُوك الشأم تركي وَلَا عَرَبِيّ إِلَّا وَاجْتمعَ بالشيخ فِي تِلْكَ الْمدَّة واعتقد خَيره وصلاحه ونصحه لله وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ قَالَ ثمَّ سَاق الله سُبْحَانَهُ جَيش الْإِسْلَام العرمرم الممصري صُحْبَة أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالسُّلْطَان الْملك النَّاصِر وولاة الْأَمر وزعماء الْجَيْش وَعُظَمَاء المملكة والأمراء المصريين عَن آخِرهم بجيوش الْإِسْلَام سوقا حثيثا للقاء التتار المخذولين فَاجْتمع الشَّيْخ الْمَذْكُور بالخليفة وَالسُّلْطَان وأرباب الْحل وَالْعقد وأعيان الْأُمَرَاء عَن آخِرهم وَكلهمْ بمرج الصفر قبلي دمشق المحروسة وَبينهمْ وَبَين التتار أقل من مِقْدَار ثَلَاث سَاعَات مَسَافَة وَدَار بَين الشَّيْخ الْمَذْكُور وَبينهمْ مَا دَار بَين الشاميين وَبَينه وَكَانَ بَينهم وَمَعَهُمْ كَأحد أعيانهم وَاتفقَ لَهُ من اجْتِمَاعهم مَا لم يتَّفق لأحد قبله من أَبنَاء جنسه حَيْثُ اجْتَمعُوا بجملتهم فِي مَكَان وَاحِد فِي يَوْم وَاحِد على أَمر جَامع لَهُم وَله مُهِمّ عَظِيم يَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى سَماع كَلَامه هَذَا توفيق عَظِيم كَانَ من الله

شجاعة الشيخ وبأسه عند قتال الكفار

تَعَالَى لَهُ لم يتَّفق لمثله وَبَقِي الشَّيْخ الْمَذْكُور رَضِي الله عَنهُ هُوَ وَأَخُوهُ وَأَصْحَابه وَمن مَعَه من الْغُزَاة قَائِما بظهوره وجهاده وَلأمة حربه يُوصي النَّاس بالثبات ويعدهم بالنصر ويبشرهم بِالْغَنِيمَةِ والفوز بِإِحْدَى الحسنيين إِلَى أَن صدق الله وعده وأعز جنده وَهزمَ التتار وَحده وَنصر الْمُؤمنِينَ وَهزمَ الْجمع وولوا الدبر وَكَانَت كلمة الله هِيَ الْعليا وَكلمَة الْكفَّار هِيَ السُّفْلى وَقطع دابر الْقَوْم الْكفَّار وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَدخل جَيش الْإِسْلَام الْمَنْصُور إِلَى دمشق المحروسة وَالشَّيْخ فِي أَصْحَابه شاكيا فِي سلاحه دَاخِلا مَعَهم عالية كَلمته قَائِمَة حجَّته ظَاهِرَة ولَايَته مَقْبُولَة شَفَاعَته مجابة دَعوته ملتمسة بركته مكرما مُعظما ذَا سُلْطَان وَكلمَة نَافِذَة وَهُوَ مَعَ ذَلِك يَقُول للمداحين لَهُ أَنا رجل مِلَّة لَا رجل دولة شجاعة الشَّيْخ وبأسه عِنْد قتال الْكفَّار وَلَقَد أَخْبرنِي حَاجِب من الْحجاب الشاميين أَمِير من أمرائهم ذُو دين متين وَصدق لهجة مَعْرُوف فِي الدولة قَالَ قَالَ لي الشَّيْخ يَوْم اللِّقَاء وَنحن بمرج الصفر وَقد ترَاءى الْجَمْعَانِ يَا فلَان أوقفني موقف الْمَوْت

قَالَ فسقته إِلَى مُقَابلَة الْعَدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تَحت الْغُبَار المنعقد عَلَيْهِم ثمَّ قلت لَهُ يَا سَيِّدي هَذَا موقف الْمَوْت وَهَذَا الْعَدو قد أقبل تَحت هَذِه الغبرة المنعقدة فدونك وَمَا تُرِيدُ قَالَ فَرفع طرفه إِلَى السَّمَاء وأشخص بَصَره وحرك شَفَتَيْه طَويلا ثمَّ انْبَعَثَ وأقدم على الْقِتَال وَأما أَنا فخيل إِلَيّ أَنه دَعَا عَلَيْهِم وَأَن دعاءه اسْتُجِيبَ مِنْهُ فِي تِلْكَ السَّاعَة قَالَ ثمَّ حَال الْقِتَال بَيْننَا والالتحام وَمَا عدت رَأَيْته حَتَّى فتح الله وَنصر وانحاز التتار إِلَى جبل صَغِير عصموا نُفُوسهم بِهِ من سيوف الْمُسلمين تِلْكَ السَّاعَة وَكَانَ آخر النَّهَار قَالَ وَإِذا أَنا بالشيخ وأخيه يصيحان بِأَعْلَى صوتيهما تحريضا على الْقِتَال وتخويفا للنَّاس من الْفِرَار فَقلت يَا سَيِّدي لَك الْبشَارَة بالنصر فَإِنَّهُ قد فتح الله وَنصر وَهَا هم التتار محصورون بِهَذَا السفح وَفِي غَد إِن شَاءَ الله تَعَالَى يؤخذون عَن آخِرهم قَالَ فَحَمدَ الله تَعَالَى وَأثْنى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهله ودعا لي فِي ذَلِك الموطن دُعَاء وجدت بركته فِي ذَلِك الْوَقْت وَبعده

هَذَا كَلَام الْأَمِير الْحَاجِب قَالَ ثمَّ لم يزل الشَّيْخ بعد ذَلِك على زِيَادَة فِي الْحَال والقال والجاه وَالتَّحْقِيق فِي الْعلم والعرفان حَتَّى حرك الله سُبْحَانَهُ عَزمَات نفوس وُلَاة الْأَمر لقِتَال أهل جبل كسروان وهم الَّذين بغوا وَخَرجُوا على الإِمَام وأخافوا السبل وعارضوا المارين بهم من الْجَيْش بِكُل سوء فَقَامَ الشَّيْخ فِي ذَلِك اتم قيام وَكتب إِلَى أَطْرَاف الشأم فِي الْحَث على قتال الْمَذْكُورين وَأَنَّهَا غزَاة فِي سَبِيل الله ثمَّ تجهز هُوَ بِمن مَعَه لغزوهم بِالْجَبَلِ صَحبه ولي الْأَمر نَائِب المملكة المعظمة أعز الله نَصره والجيوش الشآمية المنصورة وَمَا زَالَ مَعَ ولي الْأَمر فِي حصارهم وقتالهم حَتَّى فتح الله الْجَبَل وَأجلى أَهله وَكَانَ من أصعب الْجبَال وأشقها ساحة وَكَانَت الْمُلُوك الْمُتَقَدّمَة لَا تقدم على حصاره مَعَ علمهَا بِمَا عَلَيْهِ أَهله من الْبَغي وَالْخُرُوج على الإِمَام والعصيان وَلَيْسَ إِلَّا لصعوبة المسلك ومشقة النُّزُول عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ لما حَاصَرَهُمْ بيدرا بالجيش رَحل عَنْهُم وَلم ينل مِنْهُم منالا لذَلِك السَّبَب وَلغيره وَذَلِكَ عقيب فتح قلعة الرّوم ففتحه الله على يَدي ولي الْأَمر نَائِب الشَّام المحروس أعز الله نَصره

وَكَانَ فَتحه أحد المكرمات والكرامات المعدودة للشَّيْخ لسببين على مَا يَقُوله النَّاس أَحدهمَا لكَون أهل هَذَا الْجَبَل بغاة رافضة سبابة تعين قِتَالهمْ وَالثَّانِي لِأَن جبل الصالحية لما استولت الرافضة عَلَيْهِ فِي حَال اسْتِيلَاء الطاغية قازان أَشَارَ بعض كبرائهم بِنَهْب الْجَبَل وَسبي أَهله وقتلهم وتحريق مساكنهم انتقاما مِنْهُم لكَوْنهم سنية وَسَمَّاهُمْ ذَلِك المشير نواصب فَكَانَ مَا كَانَ من أَمر جبل الصالحية بذلك القَوْل وَتلك الْإِشَارَة قَالُوا فكوفىء الرافضة بِمثل ذَلِك بِإِشَارَة كَبِير من كبراء أهل السّنة وزنا يُوزن جَزَاء على يَد ولي الْأَمر وجيوش الْإِسْلَام والمشير الْمَذْكُور هُوَ الشَّيْخ الْمشَار إِلَيْهِ وَلما فتح الْجَبَل وَصَارَ الْجَيْش بعد الْفَتْح إِلَى دمشق المحروسة عكف خَاص النَّاس وعامهم على الشَّيْخ بالزيارة وَالتَّسْلِيم عَلَيْهِ والتهنئة بسلامته وَالْمَسْأَلَة لَهُ مِنْهُم عَن كَيْفيَّة الْحصار للجبل وَصُورَة قتال أَهله وَعَما وَقع بَينهم وَبَين الجيوش من المراسلات وَغَيرهَا فَحكى

بحث للشيخ مع أحد الرافضة في عصمة غير الأنبياء

بحث للشَّيْخ مَعَ أحد الرافضة فِي عصمَة غير الْأَنْبِيَاء وَحكى أَيْضا أَنه تجَادل مَعَ كَبِير من كبراء أهل جبل كسروان لَهُ اطلَاع على مَذْهَب الرافضة قَالَ وَكَانَ الجدل والبحث فِي عصمَة الإِمَام وَعدم عصمته وَفِي أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ على بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ مَعْصُوم من الصَّغَائِر والكبائر فِي كل قَول وَفعل وَهَذِه دَعْوَى الجليلي وَأَن الشَّيْخ حاجه فِي أَن الْعِصْمَة لم تثبت إِلَّا للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام قَالَ وإنني قلت لَهُ إِن عليا وَعبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا اخْتلفَا فِي مسَائِل وَقعت وفتاوى أفتى بهَا كل مِنْهُمَا وَأَن تِلْكَ الْفَتَاوَى والمسائل عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصوب فِيهَا قَول ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ هَذَا معنى كَلَام الشَّيْخ فِي حَدِيثه عَن المجادلة مَعَ الرافضي الجيلي وَإِن اخْتلفت الْعبارَة انْتهى مَا ذكره وَكَانَ توجه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَضِي الله عَنهُ إِلَى الكروانيين فِي مستهل ذِي الْحجَّة من سنة أَربع وَسَبْعمائة وصحبته الْأَمِير قراقوش وَتوجه نَائِب السلطنة الْأَمِير جمال الدّين الأفرم بِمن تَأَخّر من

رسالة الشيخ إلى السلطان الملك الناصر

عَسْكَر دمشق إِلَيْهِم لغزوهم واستئصالهم فِي ثَانِي شهر الْمحرم من سنة خمس وَسَبْعمائة وَكَانَ قد توجه قبله الْعَسْكَر طَائِفَة بعد طَائِفَة فِي ذِي الْحجَّة وَفِي يَوْم الْخَمِيس سَابِع عشر وصل النَّائِب والعسكر مَعَه إِلَى دمشق بعد أَن نَصرهم الله تَعَالَى على حزب الضلال من الروافض والنصيرية وَأَصْحَاب العقائد الْفَاسِدَة وأبادهم الله من تِلْكَ الأَرْض وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين رِسَالَة الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان الْملك النَّاصِر ثمَّ إِن الشَّيْخ رَحمَه الله بعد وقْعَة جبل كسروان أرسل رِسَالَة إِلَى السُّلْطَان الْملك النَّاصِر يذكر فِيهَا مَا أنعم الله على السُّلْطَان وعَلى أهل الْإِسْلَام بِسَبَب فتوح الْجَبَل الْمَذْكُور وَهِي هَذِه بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من الدَّاعِي احْمَد بن تَيْمِية إِلَى سُلْطَان الْمُسلمين وَمن أيد الله فِي دولته الدّين أَو عز بهَا عباده الْمُؤمنِينَ وقمع فِيهَا الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ والخوارج المارقين نَصره الله وَنصر بِهِ الْإِسْلَام وَأصْلح لَهُ وَبِه أُمُور الْخَاص وَالْعَام وأحيى بِهِ معالم الْإِيمَان وَأقَام بِهِ شرائع الْقُرْآن وأذل بِهِ أهل الْكفْر والفسوق والعصيان سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَإنَّا نحمد إِلَيْكُم الله الَّذِي

لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ للحمد أهل وَهُوَ على كل شَيْء قدير ونسأله أَن يصلى على خَاتم النَّبِيين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا أما بعد فقد صدق الله وعده وَنصر عَبده وأعز جنده وَهزمَ الْأَحْزَاب وَحده وأنعم الله على السُّلْطَان وعَلى الْمُؤمنِينَ فِي دولته نعما لم تعهد فِي الْقُرُون الخالية وجدد الْإِسْلَام فِي أَيَّامه تجديدا بَانَتْ فضيلته على الدول الْمَاضِيَة وَتحقّق فِي ولَايَته خبر الصَّادِق المصدوق أفضل الْأَوَّلين والآخرين الَّذِي أخبر فِيهِ عَن تَجْدِيد الدّين فِي رُءُوس المئين وَالله تَعَالَى يوزعه وَالْمُسْلِمين شكر هَذِه النعم الْعَظِيمَة فِي الدُّنْيَا وَالدّين ويتمها بِتمَام النَّصْر على سَائِر الْأَعْدَاء المارقين وَذَلِكَ أَن السُّلْطَان أتم الله نعْمَته حصل للْأمة بيمن ولَايَته وَحسن نِيَّته وَصِحَّة إِسْلَامه وعقيدته وبركة إيمَانه ومعرفته وَفضل همته وشجاعته وَثَمَرَة تَعْظِيمه للدّين وشرعته ونتيجة اتِّبَاعه لكتاب الله وحكمته مَا هُوَ شَبيه بِمَا كَانَ يجْرِي فِي أَيَّام الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمَا كَانَ يَقْصِدهُ أكَابِر الْأَئِمَّة العادلين من جِهَاد أَعدَاء الله المارقين من الدّين وهم صنفان أهل الْفُجُور والطغيان وذوو الغي والعدوان الخارجون عَن

شرائع الْإِيمَان طلبا للعلو فِي الأَرْض وَالْفساد وتركا لسبيل الْهدى والرشاد وَهَؤُلَاء هم التتار وَنَحْوهم من كل خَارج عَن شرائع الْإِسْلَام وَإِن تمسك بِالشَّهَادَتَيْنِ أَو بِبَعْض سياسة الْإِسْلَام والصنف الثَّانِي أهل الْبدع المارقون وذوو الضلال المُنَافِقُونَ الخارجون عَن السّنة وَالْجَمَاعَة المفارقون للشرعة وَالطَّاعَة مثل هَؤُلَاءِ الَّذين غزوا بِأَمْر السُّلْطَان من أهل الْجَبَل والجرد والكسروان فَإِن مَا من الله بِهِ من الْفَتْح والنصر على هَؤُلَاءِ الطغام هُوَ من عزائم الْأُمُور الَّتِي أنعم الله بهَا على السُّلْطَان وَأهل الْإِسْلَام وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ وجنسهم من أكَابِر المفسدين فِي أَمر الدُّنْيَا وَالدّين فَإِن اعْتِقَادهم أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وَأهل بدر وبيعة الرضْوَان وَجُمْهُور الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان وأئمة الْإِسْلَام وعلماءهم اهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم ومشايخ الْإِسْلَام وعبادهم وملوك الْمُسلمين وأجنادهم وعوام الْمُسلمين وأفرادهم كل هَؤُلَاءِ عِنْدهم كفار مرتدون أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى لأَنهم مرتدون عِنْدهم وَالْمُرْتَدّ شَرّ من الْكَافِر الْأَصْلِيّ وَلِهَذَا السَّبَب يقدمُونَ الفرنج والتتار على أهل الْقُرْآن وَالْإِيمَان وَلِهَذَا لما قدم التتار إِلَى الْبِلَاد وفعلوا بعسكر الْمُسلمين مَالا يُحْصى

من الْفساد وَأَرْسلُوا إِلَى أهل قبرص فملكوا بعض السَّاحِل وحملوا راية الصَّلِيب وحملو إِلَى قبرص من خيل الْمُسلمين وسلاحهم وأسراهم مَالا يُحْصى عدده إِلَّا الله وَأقَام سوقهم بالسَّاحل عشْرين يَوْمًا يبيعون فِيهِ الْمُسلمين وَالْخَيْل وَالسِّلَاح على أهل قبرص وفرحوا بمجيء التتار هم وَسَائِر أهل هَذَا الْمَذْهَب الملعون مثل أهل جزين وَمَا حواليها وجبل عَامل ونواحيه وَلما خرجت العساكر الإسلامية من الديار المصرية ظهر فيهم من الخزي والنكال مَا عرفه النَّاس مِنْهُم وَلما نصر الله الْإِسْلَام النُّصْرَة الْعُظْمَى عِنْد قدوم السُّلْطَان كَانَ بَينهم شَبيه بالعزاء كل هَذَا وَأعظم مِنْهُ عِنْد هَذِه الطَّائِفَة الَّتِي كَانَت من أعظم الْأَسْبَاب فِي خُرُوج جنكسخان إِلَى بِلَاد الْإِسْلَام وَفِي اسْتِيلَاء هولاكو على بَغْدَاد وَفِي قدومه إِلَى حلب وَفِي نهب الصالحية وَفِي غير ذَلِك من أَنْوَاع الْعَدَاوَة لِلْإِسْلَامِ وَأَهله لَان عِنْدهم أَن كل من لم يوافقهم على ضلالهم فَهُوَ كَافِر مُرْتَد وَمن اسْتحلَّ الفقاع فَهُوَ كَافِر وَمن مسح على الْخُفَّيْنِ فَهُوَ عِنْدهم كَافِر وَمن حرم الْمُتْعَة فَهُوَ عِنْدهم كَافِر وَمن أحب أَبَا بكر أَو عمر أَو عُثْمَان

أَو ترضي عَنْهُم أَو عَن جَمَاهِير الصَّحَابَة فَهُوَ عِنْدهم كَافِر وَمن لم يُؤمن بمنتظرهم فَهُوَ عِنْدهم كَافِر وَهَذَا المنتظر صبي عمره سنتَانِ أَو ثَلَاث أَو خمس يَزْعمُونَ أَنه دخل السرداب بسامرا من أَكثر من أَرْبَعمِائَة سنة وَهُوَ يعلم كل شَيْء وَهُوَ حجَّة الله على أهل الأَرْض فَمن لم يُؤمن بِهِ فَهُوَ عِنْدهم كَافِر وَهُوَ شَيْء لَا حَقِيقَة لَهُ وَلم يكن هَذَا فِي الْوُجُود قطّ وَعِنْدهم من قَالَ إِن الله يرى فِي الْآخِرَة فَهُوَ كَافِر وَمن قَالَ إِن الله تكلم بِالْقُرْآنِ حَقِيقَة فَهُوَ كَافِر وَمن قَالَ إِن الله فَوق السَّمَوَات فَهُوَ كَافِر وَمن آمن بِالْقضَاءِ وَالْقدر وَقَالَ إِن الله يهدي من يَشَاء ويضل من يَشَاء وَأَن الله يقلب قُلُوب عباده وَأَن الله خَالق كل شَيْء فَهُوَ عِنْدهم كَافِر وَعِنْدهم أَن من آمن بِحَقِيقَة أَسمَاء الله وَصِفَاته الَّتِي أخبر بهَا فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله فَهُوَ عِنْدهم كَافِر هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي تلقنه لَهُم أئمتهم مثل بني الْعود فَإِنَّهُم شُيُوخ أهل هَذَا الْجَبَل وهم الَّذين كَانُوا يأمرونهم بِقِتَال الْمُسلمين ويفتونهم بِهَذِهِ الْأُمُور وَقد حصل بأيدي الْمُسلمين طَائِفَة من كتبهمْ تصنيف ابْن الْعود وَغَيره وفيهَا هَذَا وَأعظم مِنْهُ وهم اعْتَرَفُوا لنا بِأَنَّهُم الَّذين علموهم وَأمرُوهُمْ لكِنهمْ مَعَ هَذَا يظهرون التقية والنفاق ويتقربون ببذل الْأَمْوَال إِلَى

من يقبلهَا مِنْهُم وَهَكَذَا كَانَ عَادَة هَؤُلَاءِ الجبلية فَإِنَّمَا أَقَامُوا بجبلهم لما كَانُوا يظهرونه من النِّفَاق ويبذلونه من الْبر طيل لمن يقصدهم وَالْمَكَان الَّذِي لَهُم فِي غَايَة الصعوبة ذكر أهل الْخِبْرَة أَنهم لم يرَوا مثله وَلِهَذَا كثر فسادهم فَقتلُوا من النُّفُوس وَأخذُوا من الْأَمْوَال مَالا يُعلمهُ إِلَّا الله وَلَقَد كَانَ جيرانهم من أهل الْبِقَاع وَغَيرهَا مَعَهم فِي أَمر لَا يضْبط شَره كل لَيْلَة تنزل عَلَيْهِم مِنْهُم طَائِفَة ويفعلون من الْفساد مَالا يُحْصِيه إِلَّا رب الْعباد كَانُوا فِي قطع الطرقات وإخافة سكان البيوتات على أقبح سيرة عرفت من أهل الْجِنَايَات يرد إِلَيْهِم النَّصَارَى من أهل قبرص فيضيفونهم ويعطونهم سلَاح الْمُسلمين ويقعون بِالرجلِ الصَّالح من الْمُسلمين فإمَّا أَن يقتلوه أَو يسلبوه وَقَلِيل مِنْهُم من يفلت مِنْهُم بالحيلة فَأَعَانَ الله وَيسر بِحسن نِيَّة السُّلْطَان وهمته فِي إِقَامَة شرائع الْإِسْلَام وعنايته بجهاد المارقين أَن غزوا غَزْوَة شَرْعِيَّة كَمَا أَمر الله وَرَسُوله بعد أَن كشفت أَحْوَالهم وأزيحت عللهم وأزيلت شبههم وبذل لَهُم من الْعدْل والإنصاف مَا لم يَكُونُوا يطمعون بِهِ وَبَين لَهُم أَن غزوهم اقْتِدَاء بسيرة أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ فِي قتال الحرورية

المارقين الَّذين تَوَاتر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمر بقتالهم ونعت حَالهم من وُجُوه مُتعَدِّدَة أخرج مِنْهَا أَصْحَاب الصَّحِيح عشرَة أوجه من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَسَهل بن حنيف وَأبي ذَر الْغِفَارِيّ وَرَافِع بن عَمْرو وَغَيرهم من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فيهم يحقر أحدكُم صلَاته مَعَ صلَاتهم وصيامه مَعَ صِيَامهمْ وقراءته مَعَ قراءتهم يقرأون الْقُرْآن لَا يُجَاوز حَنَاجِرهمْ يَمْرُقُونَ من الْإِسْلَام كَمَا يَمْرُق السهْم من الرَّمية لَئِن أدركتهم لأقتلنهم قتل عَاد لَو يعلم الَّذين يقاتلونهم مَاذَا لَهُم على لِسَان مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتكلوا عَن الْعَمَل يقتلُون أهل الْإِسْلَام وَيدعونَ أهل الْأَوْثَان يقرأون الْقُرْآن يحسبون أَنه لَهُم وَهُوَ عَلَيْهِم شَرّ قَتْلَى تَحت أَدِيم السَّمَاء خير قَتْلَى من قَتَلُوهُ وَأول مَا خرج هَؤُلَاءِ زمن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ لَهُم من الصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْقِرَاءَة وَالْعِبَادَة والزهادة مَا لم يكن لعُمُوم الصَّحَابَة لَكِن كَانُوا خَارِجين عَن سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ

وَسلم وَعَن جمَاعَة الْمُسلمين وَقتلُوا من الْمُسلمين رجلا اسْمه عبد الله بن خباب وأغاروا على دَوَاب للْمُسلمين وَهَؤُلَاء الْقَوْم كَانُوا أقل صَلَاة وصياما وَلم نجد فِي جبلهم مُصحفا وَلَا فيهم قَارِئًا لِلْقُرْآنِ وَإِنَّمَا عِنْدهم عقائدهم الَّتِي خالفوا فِيهَا الْكتاب وَالسّنة وأباحوا بهَا دِمَاء الْمُسلمين وهم مَعَ هَذَا فقد سَفَكُوا من الدِّمَاء وَأخذُوا من الْأَمْوَال مَا لَا يُحْصى عدده إِلَّا الله تَعَالَى فَإِذا كَانَ عَليّ بن أبي طَالب قد أَبَاحَ لعسكره أَن ينهبوا مَا فِي عَسْكَر الْخَوَارِج مَعَ انه قَتلهمْ جَمِيعهم كَانَ هَؤُلَاءِ أَحَق بِأخذ أَمْوَالهم وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَة المتأولين الَّذين نَادَى فيهم عَليّ بن أبي طَالب يَوْم الْجمل إِنَّه لَا يقتل مدبرهم وَلَا يُجهز على جريحهم وَلَا يغم لَهُم مَالا وَلَا يسبى لَهُم ذُرِّيَّة لِأَن مثل أُولَئِكَ لَهُم تَأْوِيل سَائِغ وَهَؤُلَاء لَيْسَ

لَهُم تَأْوِيل سَائِغ وَمثل أُولَئِكَ إِنَّمَا يكونُونَ خَارِجين عَن طَاعَة الإِمَام وَهَؤُلَاء خَرجُوا عَن شَرِيعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وسنته وهم شَرّ من التتار من وُجُوه مُتعَدِّدَة لَكِن التتر أَكثر وَأقوى فَلذَلِك يظْهر كَثْرَة شرهم وَكثير من فَسَاد التتر هُوَ لمخالطة هَؤُلَاءِ لَهُم كَمَا كَانَ فِي زمن قازان وهولاكو وَغَيرهمَا فَإِنَّهُم أخذُوا من أَمْوَال الْمُسلمين أَضْعَاف مَا أخذُوا من أَمْوَالهم وأرضهم فَيْء لبيت المَال وَقد قَالَ كثير من السّلف إِن الرافضة لَا حق لَهُم من الْفَيْء لِأَن الله إِنَّمَا جعل الْفَيْء للمهاجرن وَالْأَنْصَار {وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم} فَمن لم يكن قلبه سليما لَهُم وَلسَانه مُسْتَغْفِرًا لَهُم لم يكن من هَؤُلَاءِ وَقطعت أَشْجَارهم لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما حاصر بني النَّضِير قطع أَصْحَابه نَخْلهمْ وحرقوه فَقَالَ الْيَهُود هَذَا فَسَاد وَأَنت يَا مُحَمَّد تنْهى عَن الْفساد فَأنْزل الله {مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله وليخزي الْفَاسِقين} وَقد اتّفق الْعلمَاء على جَوَاز قطع الشّجر وتخريب العامر عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ فَلَيْسَ ذَلِك بِأولى من قتل النُّفُوس وَمَا أمكن غير ذَلِك

فَإِن الْقَوْم لم يحضروا كلهم من الْأَمَاكِن الَّتِي اختفوا فِيهَا وَأَيِسُوا من الْمقَام فِي الْجَبَل إِلَّا حِين قطعت الْأَشْجَار وَإِلَّا كَانُوا يختفون حَيْثُ لَا يُمكن الْعلم بهم وَمَا أمكن أَن يسكن الْجَبَل غَيرهم لِأَن التركمان إِنَّمَا قصدهم الرعى وَقد صَار لَهُم مرعى وَسَائِر الفلاحين لَا يتْركُوا عمَارَة أَرضهم ويجيئون إِلَيْهِ فَالْحَمْد لله الَّذِي يسر هَذَا الْفَتْح فِي دولة السُّلْطَان بهمته وعزمه وَأمره وإخلاء الْجَبَل مِنْهُم وإخراجهم من دِيَارهمْ وهم يشبهون مَا ذكره الله فِي قَوْله {هُوَ الَّذِي أخرج الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب من دِيَارهمْ لأوّل الْحَشْر مَا ظننتم أَن يخرجُوا وظنوا أَنهم مانعتهم حصونهم من الله فَأَتَاهُم الله من حَيْثُ لم يحتسبوا وَقذف فِي قُلُوبهم الرعب يخربون بُيُوتهم بِأَيْدِيهِم وأيدي الْمُؤمنِينَ فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار وَلَوْلَا أَن كتب الله عَلَيْهِم الْجلاء لعذبهم فِي الدُّنْيَا وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب النَّار ذَلِك بِأَنَّهُم شاقوا الله وَرَسُوله وَمن يشاق الله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب مَا قطعْتُمْ من لينَة أَو تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَة على أُصُولهَا فبإذن الله وليخزي الْفَاسِقين} وَأَيْضًا فَإِنَّهُ بِهَذَا قد انْكَسَرَ من أهل الْبدع والنفاق بالشأم ومصر والحجاز واليمن وَالْعراق مَا يرفع الله بِهِ دَرَجَات السُّلْطَان ويعز بِهِ أهل الْإِيمَان

فصل

فصل تَمام هَذَا الْفَتْح وبركته تقدم مراسم السُّلْطَان بحسم مَادَّة أهل الْفساد وَإِقَامَة الشَّرِيعَة فِي الْبِلَاد فَإِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَهُم من الْمَشَايِخ والإخوان فِي قرى كَثِيرَة من يقتدون بهم وينتصرون لَهُم وَفِي قُلُوبهم غل عَظِيم وإبطان معاداة شَدِيدَة لَا يُؤمنُونَ مَعهَا على مَا يُمكنهُم وَلَو أَنه مباطنة الْعَدو فَإِذا أمسك رؤوسهم الَّذين يضلونهم مثل بني الْعود زَالَ بذلك من الشَّرّ مَا لَا يُعلمهُ إِلَّا الله ويتقدم إِلَى قراهم وَهِي قرى مُتعَدِّدَة بأعمال دمشق وصفد وطرابلس وحماة وحمص وحلب بِأَن يُقَام فيهم شرائع الْإِسْلَام وَالْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَيكون لَهُم خطباء ومؤذنون كَسَائِر قرى الْمُسلمين وتقرأ فيهم الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة وتنشر فيهم المعالم الإسلامية ويعاقب من عرف مِنْهُم بالبدعة والنفاق بِمَا توجبه شَرِيعَة الْإِسْلَام فَإِن هَؤُلَاءِ الْمُحَاربين وأمثالهم قَالُوا نَحن قوم جبال وَهَؤُلَاء كَانُوا يعلموننا وَيَقُولُونَ لنا أَنْتُم إِذا قاتلتم هَؤُلَاءِ تَكُونُونَ مجاهدين وَمن قتل مِنْكُم فَهُوَ شَهِيد وَفِي هَؤُلَاءِ خلق كثير لَا يقرونَ بِصَلَاة وَلَا صِيَام وَلَا حج

وَلَا عمْرَة وَلَا يحرمُونَ الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَلَا يُؤمنُونَ بِالْجنَّةِ وَالنَّار من جنس الإسماعيلية والنصيرية والحاكمية والباطنية وهم كفار أكفر من الْيَهُود وَالنَّصَارَى بِإِجْمَاع الْمُسلمين فَتقدم المارسيم السُّلْطَانِيَّة بِإِقَامَة شَعَائِر الْإِسْلَام من الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَقِرَاءَة الْقُرْآن وتبليغ أَحَادِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قرى هَؤُلَاءِ من أعظم الْمصَالح الإسلامية وأبلغ الْجِهَاد فِي سَبِيل الله وَذَلِكَ سَبَب لانقماع من يباطن الْعَدو من هَؤُلَاءِ ودخولهم فِي طَاعَة الله وَرَسُوله وَطَاعَة أولي الْأَمر من الْمُسلمين وَهُوَ من الْأَسْبَاب الَّتِي يعين الله بهَا على قمع الْأَعْدَاء فان مَا فَعَلُوهُ بِالْمُسْلِمين فِي أَرض سيس نوع من غدرهم الَّذِي بِهِ ينصر الله الْمُسلمين عَلَيْهِم وَفِي ذَلِك لله حِكْمَة عَظِيمَة ونصرة لِلْإِسْلَامِ جسيمة قَالَ ابْن عَبَّاس مَا نقض قوم الْعَهْد إِلَّا أديل عَلَيْهِم الْعَدو وَلَوْلَا هَذَا وَأَمْثَاله مَا حصل للْمُسلمين من الْعَزْم بِقُوَّة الْإِيمَان وللعدو من الخذلان مَا ينصر الله بِهِ الْمُؤمنِينَ ويذل بِهِ الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَالله هُوَ الْمَسْئُول أَن يتم نعْمَته على سُلْطَان الْإِسْلَام خَاصَّة وعَلى عباده الْمُؤمنِينَ عَامَّة

عنوان الكتاب ظاهره

وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا عنوان الْكتاب ظَاهره سُلْطَان الْمُسلمين وَمن أيد الله فِي دولته الدّين وقمع الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ أيد الله بِهِ الْإِسْلَام وَنشر عدله فِي الْأَنَام موقف من مَوَاقِف الشَّيْخ فِي إبِْطَال أهل الطر الدجالين وَفِي يَوْم السبت تَاسِع جُمَادَى الأولى من هَذِه السّنة سنة خمس وَسَبْعمائة اجْتمع جمَاعَة من الأحمدية الرفاعية عِنْد نَائِب السلطنة بِالْقصرِ وَحضر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وطلبوا أَن يسلم إِلَيْهِم حَالهم وَأَن الشَّيْخ تَقِيّ الدّين لَا يعارضهم وَلَا يُنكر عَلَيْهِم وَأَرَادُوا أَن يظهروا شَيْئا مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فَانْتدبَ لَهُم الشَّيْخ وَتكلم بِاتِّبَاع الشَّرِيعَة وَأَنه لَا يسع أحدا الْخُرُوج عَنْهَا بقول وَلَا فعل وَذكر أَن لَهُم حيلا يتحيلون بهَا فِي دُخُول النَّار وَإِخْرَاج الزّبد من الحلوق وَقَالَ لَهُم من أَرَادَ دُخُول النَّار فليغسل جسده فِي الْحمام ثمَّ

محنة الشيخ وقيام المبتدعين عليه لتأليفه الحموية

يدلكه بالخل ثمَّ يدْخل وَلَو دخل لَا يلْتَفت إِلَى ذَلِك بل هُوَ نوع من فعل الدَّجَّال عندنَا وَكَانُوا جمعا كثيرا وَقَالَ الشَّيْخ صَالح شيخ المنيبيع نَحن أحوالنا تنْفق عِنْد التتار مَا تنْفق قُدَّام الشَّرْع وانفصل الْمجْلس على أَنهم يخلعون أطواق الْحَدِيد وعَلى أَن من خرج عَن الْكتاب وَالسّنة ضربت رقبته وَحفظ هَذِه الْكَلِمَة الْحَاضِرُونَ من الْأُمَرَاء والأكابر وأعيان الدولة وَكتب الشَّيْخ عقيب هَذِه الْوَاقِعَة جُزْءا فِي حَال الأحمدية ومبدئهم وأصل طريقتهم وَذكر شيخهم وَمَا فِي طريقهم من الْخَيْر وَالشَّر وأوضح الْأَمر فِي ذَلِك محنة الشَّيْخ وَقيام المبتدعين عَلَيْهِ لتأليفه الحموية وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي أثْنَاء كَلَامه فِي تَرْجَمَة الشَّيْخ وَلما صنف الْمَسْأَلَة الحموية فِي الصِّفَات سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة تحزبوا لَهُ وَآل بهم الْأَمر إِلَى أَن طافوا بِهِ على قَصَبَة من جِهَة القَاضِي الْحَنَفِيّ وَنُودِيَ عَلَيْهِ بِأَن لَا يستفتى ثمَّ قَامَ بنصره طَائِفَة آخَرُونَ وَسلم الله

فَلَمَّا كَانَ سنة خمس وَسَبْعمائة جَاءَ الْأَمر من مصر بِأَن يسئل عَن معتقده فَجمع لَهُ الْقُضَاة وَالْعُلَمَاء بِمَجْلِس نَائِب دمشق الأفرم فَقَالَ أَنا كنت سُئِلت عَن مُعْتَقد أهل السّنة فأجبت عَنهُ فِي جُزْء من سِنِين وَطَلَبه من دَاره فأحضر وقرأه فنازعوه فِي موضِعين أَو ثَلَاثَة مِنْهُ وَطَالَ الْمجْلس فَقَامُوا واجتمعوا مرَّتَيْنِ أَيْضا لتتمة الْجُزْء وحاققوه ثمَّ وَقع الِاتِّفَاق على أَن هَذَا مُعْتَقد سلفي جيد وَبَعْضهمْ قَالَ ذَلِك كرها وَكَانَ المصريون قد سعوا فِي أَمر اشيخ وملأوا الْأَمِير ركن الدّين الجاشنكير الَّذِي تسلطن عَلَيْهِ فَطلب إِلَى مصر على الْبَرِيد فثاني يَوْم دُخُوله اجْتمع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء بقلعة مصر وانتصب ابْن عَدْلَانِ لَهُ خصما وَادّعى عَلَيْهِ عِنْد ابْن مخلوف القَاضِي الْمَالِكِي أَن هَذَا يَقُول إِن الله تكلم بِالْقُرْآنِ بِحرف وَصَوت وَأَنه تَعَالَى على الْعَرْش بِذَاتِهِ وَأَن الله يشار إِلَيْهِ الْإِشَارَة الحسية وَقَالَ أطلب عُقُوبَته على ذَلِك فَقَالَ القَاضِي مَا تَقول يَا فَقِيه فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ

فَقيل لَهُ أسْرع مَا أحضرناك لتخطب فَقَالَ أومنع الثَّنَاء على الله فَقَالَ القَاضِي أجب فقد حمدت الله فَسكت فألح عَلَيْهِ فَقَالَ من الحكم فِي فَأَشَارَ لَهُ إِلَى القَاضِي ابْن مخلوف فَقَالَ أَنْت خصمي كَيفَ تحكم فِي وَغَضب وانزعج وأسكت القَاضِي فأقيم الشَّيْخ وأخواه وسجنوا بالجب بقلعة الْجَبَل وَجَرت أُمُور طَوِيلَة وَكتب إِلَى الشأم كتاب سلطاني بالخط عَلَيْهِ فقرىء بالجامع وتألم النَّاس لَهُ ثمَّ بَقِي سنة وَنصفا وَأخرج وَكتب لَهُم ألفاظا اقترحوها عَلَيْهِ وهدد وتوعد بِالْقَتْلِ إِن لم يَكْتُبهَا وَأقَام بِمصْر يقرىء الْعلم ويجتمع عِنْده خلق إِلَى أَن تكلم فِي الاتحادية الْقَائِلين بوحدة الْوُجُوه وهم ابْن سبعين وَابْن عَرَبِيّ والقونوي وأشباههم فتحزب عَلَيْهِ صوفية وفقراء وَسعوا فِيهِ وَأَنه تكلم فِي صفوة الْأَوْلِيَاء فَعمل لَهُ محفل ثمَّ اخرجوه على الْبَرِيد ثمَّ ردُّوهُ على مرحلة من مصر وَرَأَوا مصلحتهم فِي اعتقاله فسجنوه

محنة الشيخ بدمشق

فِي حبس الْقُضَاة سنة وَنصفا فَجعل أَصْحَابه يدْخلُونَ إِلَيْهِ فِي السِّرّ ثمَّ تظاهروا فَأَخْرَجته الدولة على الْبَرِيد إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَحبس ببرج مِنْهَا وشنع بِأَنَّهُ قتل وَأَنه غرق غير مرّة فَلَمَّا عَاد السُّلْطَان أيده الله تَعَالَى من الكرك وأباد أضداده بَادر باستحضار الشَّيْخ إِلَى الْقَاهِرَة مكرما وَاجْتمعَ بِهِ وحادثه وساره بِحَضْرَة الْقُضَاة والكبار وَزَاد فِي إكرامه ثمَّ نزل وَسكن فِي دَار وَاجْتمعَ بعد ذَلِك بالسلطان وَلم يكن بعد السُّلْطَان يجْتَمع بِهِ فَلَمَّا قدم السُّلْطَان لكشف الْعَدو عَن الرحبة جَاءَ الشَّيْخ إِلَى دمشق سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَسَبْعمائة ثمَّ جرت أُمُور ومحن انْتهى كَلَامه محنة الشَّيْخ بِدِمَشْق وَقَالَ الشَّيْخ علم الدّين وَفِي شهر ربيع الأول من سنة ثَمَان وَتِسْعين وسِتمِائَة وَقع بِدِمَشْق محنة للشَّيْخ الإِمَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية وَكَانَ الشُّرُوع فِيهَا من أول الشَّهْر وَظَهَرت يَوْم الْخَامِس مِنْهُ واستمرت إِلَى آخر الشَّهْر وملخصها أَنه كَانَ كتب جَوَابا سُئِلَ عَنهُ من حماة فِي الصِّفَات فَذكر فِيهِ مَذْهَب السّلف وَرجحه على مَذْهَب الْمُتَكَلِّمين وَكَانَ قبل

ذَلِك بِقَلِيل أنكر أَمر المنجمين وَاجْتمعَ بِسيف الدّين جاغان فِي ذَلِك فِي حَال نيابته بِدِمَشْق وقيامه فَقَامَ نَائِب السلطنة وامتثل أمره وَقبل قَوْله وَالْتمس مِنْهُ كَثْرَة الِاجْتِمَاع بِهِ فَحصل بِسَبَب ذَلِك ضيق لجَماعَة مَعَ مَا كَانَ عِنْدهم قبل ذَلِك من كَرَاهِيَة الشَّيْخ وتألمهم لظُهُوره وَذكره الْحسن فانضاف شَيْء إِلَى أَشْيَاء وَلم يَجدوا مساغا إِلَى الْكَلَام فِيهِ لزهده وَعدم إقباله على الدُّنْيَا وَترك الْمُزَاحمَة على المناصب وَكَثْرَة علمه وجودة أجوبته وفتاويه وَمَا يظْهر فِيهَا من غزارة الْعلم وجودة الْفَهم فعمدوا إِلَى الْكَلَام فِي العقيدة لكَوْنهم يرجحون مَذْهَب

الْمُتَكَلِّمين فِي الصِّفَات وَالْقُرْآن على مَذْهَب السّلف ويعتقدونه الصَّوَاب فَأخذُوا الْجَواب الَّذِي كتبه وَعمِلُوا عَلَيْهِ أوراقا فِي رده ثمَّ سعوا السَّعْي الشَّديد إِلَى الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَاحِدًا وَاحِدًا وَأغْروا خواطرهم وحرفوا الْكَلَام وكذبوا الْكَذِب الْفَاحِش وجعلوه يَقُول بالتجسيم حاشاه من ذَلِك وَأَنه قد أوعز ذَلِك الْمَذْهَب إِلَى أَصْحَابه وَأَن الْعَوام قد فَسدتْ عقائدهم بذلك وَلم يَقع من ذَلِك شَيْء وَالْعِيَاذ بِاللَّه وَسعوا فِي ذَلِك سعيا شَدِيدا فِي أَيَّام كَثِيرَة الْمَطَر والوحل وَالْبرد وَسعوا فِي ذَلِك سعيا شَدِيدا فوافقهم جلال الدّين الْحَنَفِيّ قَاضِي الْحَنَفِيَّة يَوْمئِذٍ على ذَلِك وَمَشى مَعَهم إِلَى دَار الحَدِيث الأشرفية وَطلب حُضُوره وَأرْسل إِلَيْهِ فَلم يحضر وَأرْسل إِلَيْهِ فِي الْجَواب إِن العقائد لَيْسَ أمرهَا إِلَيْك وَإِن السُّلْطَان إِنَّمَا ولاك لتَحكم بَين النَّاس وَإِن إِنْكَار الْمُنْكَرَات لَيْسَ مِمَّا يخْتَص بِهِ القَاضِي فوصلت إِلَيْهِ هَذِه الرسَالَة فأغروا خاطره وشوشوا قلبه وَقَالُوا لم يحضر ورد عَلَيْك

فَأمر بالنداء على بطلَان عقيدته فِي الْبَلدة فَأجَاب إِلَى ذَلِك فَنُوديَ فِي بعض الْبَلَد ثمَّ بَادر سيف الدّين جاغان وَأرْسل طَائِفَة فَضرب الْمُنَادِي وَجَمَاعَة مِمَّن حوله وأخرق بهم فَرَجَعُوا مضروبين فِي غَايَة الإهانة ثمَّ طلب سيف الدّين جاغان من قَامَ فِي ذَلِك وسعي فِيهِ فدارت الرُّسُل والأعوان عَلَيْهِم فِي الْبَلَد فاختفوا واحتمى مقدمهم ببدر الدّين الأتابكي وَدخل عَلَيْهِ فِي دَاره وَسَأَلَ مِنْهُ أَن يجيره من ذَلِك فترفق فِي أمره إِلَى أَن سكن غضب سيف الدّين جاغان ثمَّ إِن الشَّيْخ جلس يَوْم الْجُمُعَة على عَادَته ثَالِث عشر الشَّهْر وَكَانَ تَفْسِيره فِي قَوْله تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَذكر الْحلم وَمَا يَنْبَغِي اسْتِعْمَاله وَكَانَ ميعادا جَلِيلًا ثمَّ إِنَّه اجْتمع بِالْقَاضِي إِمَام الدّين الشَّافِعِي وواعده لقِرَاءَة جزئه الَّذِي أجَاب فِيهِ وَهُوَ الْمَعْرُوف بالحموية فَاجْتمعُوا يَوْم السبت رَابِع عشر الشَّهْر من بكرَة النَّهَار إِلَى نَحْو الثُّلُث من لَيْلَة الْأَحَد ميعادا طَويلا مستمرا وقرئت فِيهِ جَمِيع العقيدة وَبَين مُرَاده من مَوَاضِع أشكلت وَلم يحصل إِنْكَار عَلَيْهِ من الْحَاكِم

وَلَا مِمَّن حضر الْمجْلس بِحَيْثُ انْفَصل عَنْهُم وَالْقَاضِي يَقُول كل من تكلم فِي الشَّيْخ يُعَزّر وانفصل عَنْهُم عَن طيبَة وَخرج وَالنَّاس ينتظرون مَا يسمعُونَ من طيب أخباره فوصل إِلَى دَاره فِي مَلأ كثير من النَّاس وَعِنْدهم استبشار وسرور بِهِ وَهُوَ فِي ذَلِك كُله ثَابت الجأش قوي الْقلب واثق بالنصر الإلهي لَا يلْتَفت إِلَى نصر مَخْلُوق وَلَا يعول عَلَيْهِ وَكَانَ سَعْيهمْ فِي حَقه أتم السَّعْي لم يبقوا مُمكنا من الِاجْتِمَاع بِمن يرتجون مِنْهُ أدنى نصر لَهُم وَتَكَلَّمُوا فِي حَقه بأنواع الْأَذَى وبأمور يستحي الْإِنْسَان من الله سُبْحَانَهُ أَن يحكيها فضلا عَن أَن يختلقها ويلفقها فَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَالَّذين سعوا فِيهِ معروفون عندنَا وَعند كل أحد قد اشْتهر عَنْهُم هَذَا الْفِعْل الفظيع وَكَذَلِكَ من ساعدهم بقول أَو تشنيع أَو إغراء أَو إرْسَال رِسَالَة إو إِفْتَاء أَو شَهَادَة أَو أَذَى لبَعض أَصْحَاب الشَّيْخ وَمن يلوذ بِهِ أَو شتم أَو غيبَة أَو تشويش بَاطِن فَإِنَّهُ وَقع من ذَلِك شَيْء كثير من جمَاعَة كَثِيرَة وَرَأى جمَاعَة من الصَّالِحين والأخيار فِي هَذِه الْوَاقِعَة وعقيبها للشَّيْخ مرائي حَسَنَة جليلة لَو ضبطت كَانَت مجلدا تَاما انْتهى مَا ذكره

إحضار الشيخ بمجلس نائب السلطنة ومناقشته في العقيدة

إِحْضَار الشَّيْخ بِمَجْلِس نَائِب السلطنة ومناقشته فِي العقيدة ثمَّ بعد هَذِه الْوَاقِعَة بِمدَّة كَثِيرَة وَذَلِكَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن رَجَب من سنة خمس وَسَبْعمائة طلب الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وَطلب الشَّيْخ تَقِيّ الدّين إِلَى الْقصر إِلَى مجْلِس نَائِب السلطنة الأفرم فَاجْتمعُوا عِنْده وَسَأَلَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَحده عَن عقيدته وَقَالَ لَهُ هَذَا الْمجْلس عقد لَك وَقد ورد مرسوم السُّلْطَان أَن أَسأَلك عَن اعتقادك فأحضر الشَّيْخ عقيدته الواسطية وَقَالَ هَذِه كتبتها من نَحْو سبع سِنِين قبل مَجِيء التتار إِلَى الشأم فقرئت فِي الْمجْلس وَبحث فِيهَا وَبَقِي مَوَاضِع أخرت إِلَى مجْلِس آخر ثمَّ اجْتَمعُوا يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة ثَانِي عشر رَجَب الْمَذْكُور وَحضر المخالفون وَمَعَهُمْ الشَّيْخ صفي الدّين الْهِنْدِيّ وَاتَّفَقُوا على أَنه يتَوَلَّى المناظرة مَعَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَتكلم مَعَه

ثمَّ أَنهم رجعُوا عَنهُ وَاتَّفَقُوا على الشَّيْخ كَمَال الدّين بن الزملكاني فناظر الشَّيْخ وَبحث مَعَه وَطَالَ الْكَلَام وَخَرجُوا من هُنَاكَ وَالْأَمر قد انْفَصل وَقد أظهر الله من قيام الْحجَّة مَا أعز بِهِ أهل السّنة وَانْصَرف الشَّيْخ تَقِيّ الدّين إِلَى منزله وَاخْتلفت نقُول الْمُخَالفين للمجلس وحرفوه وَوَضَعُوا مقَالَة الشَّيْخ على غير موضعهَا وشنع ابْن الْوَكِيل وَأَصْحَابه بِأَن الشَّيْخ قد رَجَعَ عَن عقيدته فَالله الْمُسْتَعَان وَالَّذِي حمل نَائِب السلطنة على هَذَا الْفِعْل كتاب ورد عَلَيْهِ من مصر فِي هَذَا الْمَعْنى وَكَانَ الْقَائِم فِي ذَلِك بِمصْر القَاضِي ابْن مخلوف الْمَالِكِي وَالشَّيْخ نصر المنبجي والقروي واستعانوا بِرُكْن الدّين الجاشنكير ثمَّ بعد ذَلِك عزّر بعض الْقُضَاة بِدِمَشْق شخصا يلوذ بالشيخ تَقِيّ الدّين وَطلب جمَاعَة ثمَّ أطْلقُوا وَوَقع هرج فِي الْبَلَد وَكَانَ الْأَمِير نَائِب السلطنة قد خرج للصَّيْد وَغَابَ نَحْو جُمُعَة ثمَّ حضر وَكَانَ الْحَافِظ جمال الدّين الْمزي يقْرَأ صَحِيح البُخَارِيّ لأجل الاسْتِسْقَاء فَقَرَأَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب فِي أثْنَاء ذَلِك فصلا فِي الرَّد على الْجَهْمِية وَأَن الله فَوق الْعَرْش من كتاب أَفعَال

الْعباد تأليف البُخَارِيّ تَحت النسْر فَغَضب لذَلِك بعض الْفُقَهَاء الْحَاضِرين وَقَالُوا نَحن المقصودون بِهَذَا وَرفعُوا الْأَمر إِلَى قَاضِي الْقُضَاة الشَّافِعِي فَطَلَبه ورسم بحبسه فَبلغ ذَلِك الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فتألم لَهُ وَأخرجه من الْحَبْس بِيَدِهِ وَخرج إِلَى الْقصر إِلَى ملك الْأُمَرَاء وتخاصم هُوَ وَالْقَاضِي هُنَاكَ وَأثْنى على الشَّيْخ جمال الدّين وَغَضب القَاضِي وانزعج وَقَالَ لَئِن لم يرد إِلَى حبسي عزلت نَفسِي فأرضاه ملك الْأُمَرَاء بِأَن أعَاد الشَّيْخ جمال الدّين إِلَى حَبسه فاعتقله بالقوصية أَيَّامًا وَذكر الشَّيْخ تَقِيّ الدّين للنائب مَا وَقع فِي غيبته فِي حق بعض أَصْحَابه من الْأَذَى فرسم بِحَبْس جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن الْوَكِيل وَأمر فَنُوديَ فِي الْبَلَد إِنَّه من تكلم فِي العقائد حل دَمه وَمَاله وَنهب دَاره وحانوته وَقصد بذلك تسكين الْفِتَن وَالشَّر وَفِي يَوْم الثُّلَاثَاء سَابِع شعْبَان عقد للشَّيْخ تَقِيّ الدّين مجْلِس ثَالِث بِالْقصرِ وَرَضي الْجَمَاعَة بالعقيدة وَفِي هَذَا الْيَوْم عزل قَاضِي الْقُضَاة نجم الدّين بن صصرى نَفسه عَن الحكم بِسَبَب كَلَام سَمعه من الشَّيْخ كَمَال الدّين بن الزملكاني لَا أحب حكايته

ملخص ما حصل للشيخ في تلك المجالس

وَفِي الْيَوْم السَّادِس وَالْعِشْرين من شعْبَان ورد كتاب السُّلْطَان إِلَى القَاضِي باعادته إِلَى الحكم وَفِيه إِنَّا كُنَّا رسمنا بِعقد مجْلِس للشيوخ تَقِيّ الدّين وَقد بلغنَا مَا عقد لَهُ من الْمجَالِس وَأَنه على مَذْهَب السّلف وَمَا قصدنا بذلك إِلَّا بَرَاءَة ساحته ملخص مَا حصل للشَّيْخ فِي تِلْكَ الْمجَالِس وَقد ذكر الشَّيْخ رَحمَه الله صُورَة مَا جرى فِي هَذِه الْمجَالِس مُلَخصا وعلق فِي ذَلِك شَيْئا مُخْتَصرا فَقَالَ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَلَا ظهير وَلَا معِين وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُول الَّذِي أرْسلهُ إِلَى الْخلق أَجْمَعِينَ صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وعَلى سَائِر عباد الله الصَّالِحين أما بعد فقد سُئِلت غير مرّة أَن أكتب مَا حضرني ذكره مِمَّا جرى فِي الْمجَالِس الثَّلَاثَة المعقودة للمناظرة فِي أَمر الِاعْتِقَاد بِمُقْتَضى مَا ورد بِهِ كتاب السُّلْطَان من الديار المصرية إِلَى نَائِبه أَمِير الْبِلَاد لما سعى إِلَيْهِ قوم من الْجَهْمِية والاتحادية والرافضة وَغَيرهم من ذَوي

الأحقاد فَأمر الْأَمِير بِجمع الْقُضَاة الْأَرْبَعَة فضاة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من نوابهم والمفتين والمشايخ مِمَّن لَهُ حُرْمَة وَبِه اعْتِدَاد وهم لَا يَدْرُونَ مَا قصد بِجَمْعِهِمْ فِي هَذَا الميعاد وَذَلِكَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن رَجَب الْمُبَارك عَام خمس وَسَبْعمائة فَقَالَ لي هَذَا الْمجْلس عقد لَك فقد ورد مرسوم السُّلْطَان أَن أَسأَلك عَن اعتقادك وَعَما كتبت بِهِ إِلَى الديار المصرية من الْكتب الَّتِي تَدْعُو بهَا النَّاس إِلَى الِاعْتِقَاد وَأَظنهُ قَالَ وَأَن أجمع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء وتتباحثون فِي ذَلِك فَقلت أما الِاعْتِقَاد فَلَا يُؤْخَذ عني وَلَا عَمَّن هُوَ أكبر مني بل يُؤْخَذ عَن الله وَرَسُوله وَمَا أجمع عَلَيْهِ سلف الْأمة فَمَا كَانَ فِي الْقُرْآن وَجب اعْتِقَاده وَكَذَلِكَ مَا ثَبت فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مثل صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَأما الْكتب فَمَا كتبت إِلَى أحد كتابا ابْتِدَاء أَدْعُوهُ بِهِ إِلَى شَيْء من ذَلِك ولكنني كتبت أجوبة أجبْت بهَا من يسألني من أهل الديار المصرية وَغَيرهم وَكَانَ قد بَلغنِي أَنه زور عَليّ كتاب إِلَى الْأَمِير ركن الدّين الجاشنكير أستاذ دَار السُّلْطَان يتَضَمَّن ذكر عقيدة محرفة وَلم أعلم بحقيقته لَكِن علمت أَن هَذَا مَكْذُوب وَكَانَ يرد عَليّ من مصر وَغَيرهَا من يسألني

مسَائِل فِي الِاعْتِقَاد أَو غَيره فَأُجِيبَهُ بِالْكتاب وَالسّنة وَمَا كَانَ عيه سلف الْأمة فَقَالَ نُرِيد أَن تكْتب لنا عقيدتك فَقلت اكتبوا فَأمر الشَّيْخ كَمَال الدّين أَن يكْتب وكتبت لَهُ جمل الِاعْتِقَاد فِي أَبْوَاب الصِّفَات وَالْقدر ومسائل الْإِيمَان والوعيد والإمامة والتفضيل وَهُوَ أَن اعْتِقَاد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة الْإِيمَان بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَلَا تكييف وَلَا تَمْثِيل وَأَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود وَالْإِيمَان بِأَن الله خَالق كل شَيْء من أَفعَال الْعباد وَغَيرهَا وَأَنه مَا شَاءَ الله كَانَ ومالم يَشَأْ لم يكن وَأَنه أَمر بِالطَّاعَةِ ورضيها وأحبها وَنهى عَن الْمعْصِيَة وكرهها وَالْعَبْد فَاعل حَقِيقَة وَالله خَالق فعله وَأَن الْأَيْمَان وَالدّين قَول وَعمل يزِيد وَينْقص وَأَن لَا نكفرأحدا من أهل الْقبْلَة بِالذنُوبِ وَلَا نخلد فِي النَّار من أهل الْإِيمَان أحدا وَأَن الْخُلَفَاء بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبُو بكرثم عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ عَليّ

رَضِي الله عَنْهُم وَأَن مرتبتهم فِي الْفضل كمرتبتهم فِي الْخلَافَة وَمن قدم عليا على عُثْمَان فقد أزرى بالمهاجرين وَالْأَنْصَار وَذكرت هَذَا وَنَحْوه فَإِنِّي الْآن قد بعد عهدي وَلم أحفظ لفظ مَا أمليته إِذْ ذَاك ثمَّ قلت للأمير والحاضرين أَنا أعلم أَن أَقْوَامًا يكذبُون عَليّ كَمَا قد كذبُوا عَليّ غير مرّة وَإِن أمليت الِاعْتِقَاد من حفظي رُبمَا يَقُولُونَ كتم بعضه أَو داهن ودارى فانا احضر عقيدة مَكْتُوبَة من نَحْو سبع سِنِين قبل مَجِيء التتر إِلَى الشأم قلت قبل حُضُورهَا كلَاما قد بعد عهدي بِهِ وغضبت غَضبا شَدِيدا لكني أذكر أَنِّي قلت أَنا أعلم أَن أَقْوَامًا كذبُوا عَليّ وَقَالُوا للسطان أَشْيَاء وتكلمت بِكَلَام احتجت إِلَيْهِ مثل أَن قلت من قَامَ بِالْإِسْلَامِ فِي أَوْقَات الْحَاجة غَيْرِي وَمن الَّذِي أوضح دلائله وَبَينه وجاهد أعداءه وأقامه لما مَال حِين تخلى عَنهُ كل أحد فَلَا أحد ينْطق بحجته وَلَا أحد يُجَاهد عَنهُ وَقمت مظْهرا لحجته مُجَاهدًا عَنهُ مرغبا فِيهِ فَإِذا كَانَ هَؤُلَاءِ يطمعون فِي الْكَلَام فِي فَكيف يصنعون بغيري

وَلَو أَن يَهُودِيّا طلب من السُّلْطَان الْإِنْصَاف لوَجَبَ عَلَيْهِ أَن ينصفه وَأَنا قد أعفو عَن حَقي وَقد لَا أعفو بل قد أطلب الْإِنْصَاف مِنْهُ وَأَن يحضر هَؤُلَاءِ الَّذين يكذبُون ليحاققوا على افترائهم وَقلت كلَاما أطول من هَذَا من هَذَا الْجِنْس لَكِن بعد عهدي بِهِ فَأَشَارَ الْأَمِير إِلَى كَاتب الدرج محيي الدّين أَن يكْتب ذَلِك وَقلت أَيْضا كل من خالفني فِي شَيْء مِمَّا كتبته فَأَنا أعلم بمذهبه مِنْهُ وَمَا أَدْرِي هَل قلت هَذَا قبل حُضُورهَا أَو بعْدهَا لكنني قلت أَيْضا بعد حُضُورهَا وقراءتها مَا ذكرت فِيهَا فصلا إِلَّا وَفِيه مُخَالف من المنتسبين إِلَى الْقبْلَة وكل جملَة فِيهَا خلاف لطائفة من الطوائف ثمَّ أرْسلت من أحضرها وَمَعَهَا كراريس بخطي من الْمنزل فَحَضَرت العقيدة الواسطية وَقلت لَهُم هَذِه كَانَ سَبَب كتَابَتهَا أَنه قدم من ارْض وَاسِط بعض قُضَاة نَوَاحِيهَا شيخ يُقَال لَهُ رَضِي الدّين الوَاسِطِيّ قدم علينا حَاجا وَكَانَ من أهل الخيروالدين وشكا مَا النَّاس فِيهِ بِتِلْكَ الْبِلَاد

وَفِي دولة التتر من غَلَبَة الْجَهْل وَالظُّلم ودروس الدّين وَالْعلم وسألني أَن أكتب لَهُ عقيدة تكون عُمْدَة لَهُ وَلأَهل بَيته فاستغفيت من ذَلِك وَقلت قد كتب النَّاس عقائد مُتعَدِّدَة فَخذ بعض عقائد أَئِمَّة السّنة فألح فِي السُّؤَال وَقَالَ مَا أحب إِلَّا عقيدة تَكْتُبهَا أَنْت فَكتبت لَهُ هَذِه العقيدة وَأَنا قَاعد بعد الْعَصْر وَقد انتشرت بهَا نسخ كَثِيرَة فِي مصر وَالْعراق وَغَيرهمَا فَأَشَارَ الْأَمِير بِأَن لَا أقرأها أَنا لرفع الرِّيبَة وَأَعْطَاهَا لكَاتبه الشَّيْخ كَمَال الدّين فقرأها على الْحَاضِرين حرفا حرفا وَالْجَمَاعَة الْحَاضِرُونَ يسمعونها ويورد المورد مِنْهُم مَا شَاءَ ويعارض فِيمَا شَاءَ والأمير أَيْضا يسْأَل عَن مَوَاضِع فِيهَا وَقد علم النَّاس مَا كَانَ فِي نفوس طَائِفَة من الْحَاضِرين من الْخلاف والهوى مَا قد علم النَّاس بعضه وَبَعضه بِسَبَب الِاعْتِقَاد وَبَعضه بِغَيْر ذَلِك وَلَا يُمكن ذكر مَا جرى من الْكَلَام والمناظرات فِي هَذِه الْمجَالِس فَإِنَّهُ كثير لَا يَنْضَبِط لَكِن أكتب ملخص مَا حضرني من ذَلِك مَعَ بعد الْعَهْد بذلك

وَمَعَ أَنه كَانَ يجْرِي رفع أصوات ولغط لَا يَنْضَبِط فَكَانَ مِمَّا اعْترض عَلَيْهِ بَعضهم لما ذكر فِي أَولهَا وَمن الْإِيمَان بِاللَّه الْإِيمَان بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَوَصفه بِهِ رَسُوله مُحَمَّد ص من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَلَا تكييف وَلَا تَمْثِيل فَقَالَ مَا المُرَاد بالتحريف والتعطيل ومقصوده أَن هَذَا يَنْفِي التَّأْوِيل الَّذِي يُثبتهُ أهل التَّأْوِيل الَّذِي هُوَ صرف اللَّفْظ عَن ظَاهره إِمَّا وجوبا وَإِمَّا جَوَازًا فَقلت تَحْرِيف الْكَلم عَن موَاضعه كَمَا ذمه الله فِي كِتَابه وَهُوَ إِزَالَة اللَّفْظ عَمَّا دلّ عَلَيْهِ من الْمَعْنى مثل تَأْوِيل بعض الْجَهْمِية لقَوْله تَعَالَى {وكلم الله مُوسَى تكليما} أَي جرحه بأظافير الْحِكْمَة تجريحا وَمثل تأويلات القرامطة والباطنية وَغَيرهم من الْجَهْمِية والرافضة والقدرية وَغَيرهم فَسكت وَفِي نَفسه مَا فِيهَا وَذكرت فِي غير هَذَا الْمجْلس أَنِّي عدلت عَن لفظ التَّأْوِيل إِلَى لفظ التحريف لِأَن التحريف اسْم جَاءَ الْقُرْآن بذمه وَأَنا تحريت فِي هَذِه العقيدة اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة فنفيت مَا ذمه الله من التحريف وَلم أذكر فِيهَا لفظ التَّأْوِيل بِنَفْي وَلَا إِثْبَات لِأَنَّهُ لفظ لَهُ عدَّة معَان كَمَا بَينته فِي مَوْضِعه من الْقَوَاعِد فَإِن معنى لفظ التَّأْوِيل

فِي كتاب الله غير معنى لفظ التَّأْوِيل فِي اصْطِلَاح الْمُتَأَخِّرين من أهل الْأُصُول وَالْفِقْه وَغير معنى لفظ التَّأْوِيل فِي اصْطِلَاح كثير من أهل التَّفْسِير وَالسَّلَف وَلِأَن من الْمعَانِي الَّتِي قد تسمى تَأْوِيلا مَا هُوَ

صَحِيح مَنْقُول عَن بعض السّلف فَلم أنف مَا تقوم الْحجَّة على صِحَّته إِذْ مَا قَامَت الْحجَّة على صِحَّته وَهُوَ مَنْقُول عَن السّلف فَلَيْسَ من التحريف وَقلت لَهُ أَيْضا ذكرت فِي النَّفْي التَّمْثِيل وَلم أذكر التَّشْبِيه

لِأَن التَّمْثِيل نَفَاهُ الله بِنَصّ كِتَابه حَيْثُ قَالَ {لَيْسَ كمثله شَيْء} وَقَالَ {هَل تعلم لَهُ سميا} فَكَانَ أحب إِلَيّ من لفظ لَيْسَ فِي كتاب الله وَلَا فِي سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن كَانَ قد يعْنى بنفيه معنى صَحِيح كَمَا قد يعْنى بِهِ معنى فَاسد وَلما ذكرت أَنهم لَا ينفون عَنهُ مَا وصف بِهِ نَفسه وَلَا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه وَلَا يلحدون فِي أَسمَاء الله وآياته جعل بعض الْحَاضِرين يمتعض من ذَلِك لاستشعاره مَا فِي ذَلِك من الرَّد لما هُوَ عَلَيْهِ وَلَكِن لم يتَوَجَّه لَهُ مَا يَقُوله وَأَرَادَ أَن يَدُور عَليّ بالأسئلة الَّتِي أعلمها فَلم يتَمَكَّن لعلمه بِالْجَوَابِ وَلما ذكرت آيَة الْكُرْسِيّ أَظن سَأَلَ الْأَمِير عَن قَوْلنَا لَا يقربهُ شَيْطَان حَتَّى يصبح فَذكرت لَهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ فِي الَّذِي كَانَ يسرق صَدَقَة الْفطر وَذكرت أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ فِي صَحِيحه

وَأخذُوا يذكرُونَ نفي التَّشْبِيه والتجسيم ويطنبون فِي هَذَا ويعرضون بِمَا ينْسبهُ بعض النَّاس إِلَيْنَا من ذَلِك فَقلت قولي من غير تكييف وَلَا تَمْثِيل يَنْفِي كل بَاطِل وَإِنَّمَا أخذت هذَيْن الاسمين لِأَن التكييف مأثور نَفْيه عَن السّلف كَمَا قَالَ ربيعَة وَمَالك وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهم الْمقَالة الَّتِي تلقاها الْعلمَاء بِالْقبُولِ الاسْتوَاء مَعْلُوم والكيف مَجْهُول وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب وَالسُّؤَال عَنهُ بِدعَة فاتفق هَؤُلَاءِ على أَن الكيف غير مَعْلُوم لنا فنفيت ذَلِك

اتبَاعا لسلف الْأمة وَهُوَ أَيْضا منفي بِالنَّصِّ فَإِن تَأْوِيل آيَات الصِّفَات يدْخل فِيهَا حَقِيقَة الْمَوْصُوف وَحَقِيقَة صِفَاته وَهَذَا من التَّأْوِيل الَّذِي لَا يُعلمهُ إِلَّا الله كَمَا قد قررت ذَلِك فِي قَاعِدَة مُفْردَة ذكرتها فِي التَّأْوِيل وَالْمعْنَى وَالْفرق بَين علمنَا بِمَعْنى الْكَلَام وَبَين علمنَا بتأويله وَكَذَلِكَ التَّمْثِيل ينفى بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع الْقَدِيم مَعَ دلَالَة الْعقل على نَفْيه وَنفي التكييف إِذْ كنه الْبَارِي تَعَالَى غير مَعْلُوم للبشر وَذكرت فِي ضمن ذَلِك كَلَام الْخطابِيّ الَّذِي نقل أَنه مَذْهَب السّلف وَهُوَ إِجْرَاء آيَات الصِّفَات وأحاديثها على ظَاهرهَا مَعَ نفي الْكَيْفِيَّة والتشبيه عَنْهَا إِذْ الْكَلَام فِي الصِّفَات فرع عَن الْكَلَام فِي الذَّات يحتذى فِيهِ حذوه وَيتبع فِيهِ مِثَاله فَإِذا كَانَ إِثْبَات الذَّات إِثْبَات وجود لَا إِثْبَات تكييف فَكَذَلِك إِثْبَات الصِّفَات إِثْبَات وجود لَا إِثْبَات تكييف فَقَالَ أحد كبراء الْمُخَالفين فَحِينَئِذٍ يجوز أَن يُقَال هُوَ جسم لَا كالأجسام فَقلت لَهُ أَنا وَبَعض الْفُضَلَاء الْحَاضِرين إِنَّمَا قيل إِنَّه يُوصف الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ فِي الْكتاب وَالسّنة أَن الله جسم حَتَّى يلْزم هَذَا السُّؤَال وَأخذ بعض الْقُضَاة الْحَاضِرين والمعروفين بالديانة يُرِيد إِظْهَار أَن

يَنْفِي عَنَّا مَا يَقُوله فَجعل يزِيد فِي الْمُبَالغَة فِي نفي التَّشْبِيه والتجسيم فَقلت قد ذكر فِيهَا فِي غير مَوضِع من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل وَقلت فِي صدرها وَمن الْإِيمَان بِاللَّه الْإِيمَان بِمَا وصف الله بِهِ نَفسه فِي كِتَابه وَبِمَا وَصفه بِهِ رَسُوله مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل ثمَّ قلت وَمَا وصف الرَّسُول بِهِ ربه من الْأَحَادِيث الصِّحَاح الَّتِي تلقاها أهل الْمعرفَة بِالْقبُولِ وَجب الْإِيمَان بهَا كَذَلِك إِلَى أَن قلت إِلَى امثال هَذِه الْأَحَادِيث الصِّحَاح الَّتِي يخبر فِيهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا يخبر بِهِ فَإِن الْفرْقَة النَّاجِية أهل السّنة وَالْجَمَاعَة يُؤمنُونَ بذلك كَمَا يُؤمنُونَ بِمَا أخبر الله بِهِ فِي كِتَابه من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَمن غير تكييف وَلَا تَمْثِيل بل هم الْوسط فِي فرق الْأمة كَمَا أَن الْأمة هِيَ الْوسط فِي الْأُمَم فَهُوَ وسط فِي بَاب صِفَات الله بَين أهل التعطيل الْجَهْمِية وَأهل التَّمْثِيل المشبهة وَلما رأى هَذَا الْحَاكِم الْعدْل تمالؤهم وتعصبهم وَرَأى قلَّة المعاون مِنْهُم والناصر وخافهم قَالَ أَنْت قد صنفت اعْتِقَاد الإِمَام أَحْمد فَنَقُول هَذَا اعْتِقَاد أَحْمد

يَعْنِي وَالرجل يصنف على مذْهبه فَلَا يعْتَرض عَلَيْهِ فَإِن هَذَا مَذْهَب متبوع وغرضه بذلك قطع مخاصمة الْخُصُوم فَقلت مَا جمعت إِلَّا عقيدة السّلف الصَّالح جَمِيعهم لَيْسَ للْإِمَام أَحْمد اخْتِصَاص بِهَذَا وَالْإِمَام أَحْمد إِنَّمَا هُوَ مبلغ الْعلم الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو قَالَ أَحْمد من تِلْقَاء نَفسه مَا لم يجىء بِهِ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم نقبله وَهَذِه عقيدة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقلت مَرَّات قد أمهلت كل من خالفني فِي شَيْء مِنْهَا ثَلَاث سِنِين فَإِن جَاءَ بِحرف وَاحِد عَن الْقُرُون الثَّلَاثَة الَّتِي أثنى عَلَيْهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ خير الْقُرُون الْقرن الَّذِي بعثت فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ يُخَالف مَا ذكرته فَأَنا أرجع عَن ذَلِك وَعلي أَن آتِي بنقول جَمِيع الطوائف من الْقُرُون الثَّلَاثَة توَافق مَا ذكرته من الْحَنَفِيَّة والمالكية وَالشَّافِعِيَّة والحنبلية والأشعرية والصوفية وَأهل الحَدِيث وَغَيرهم

وَقلت أَيْضا فِي غير هَذَا الْمجْلس الإِمَام أَحْمد رَضِي الله عَنهُ لما انْتهى إِلَيْهِ من السّنة ونصوص رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكثر مِمَّا انتهي إِلَى غَيره وابتلي بالمحنة وَالرَّدّ على أهل الْبدع أَكثر من غَيره كَانَ كَلَامه وَعَمله فِي هَذَا الْبَاب أَكثر من غَيره فَصَارَ إِمَامًا فِي السّنة أظهر من غَيره وَإِلَّا فَالْأَمْر كَمَا قَالَه بعض شُيُوخ المغاربة الْعلمَاء الصلحاء قَالَ الْمَذْهَب لمَالِك وَالشَّافِعِيّ والظهور لِأَحْمَد بن حَنْبَل يَعْنِي أَن الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَحْمد عَلَيْهِ جَمِيع أَئِمَّة الْإِسْلَام وَإِن كَانَ لبَعْضهِم من زِيَادَة الْعلم وَالْبَيَان وَإِظْهَار الْحق وَدفع الْبَاطِل مَا لَيْسَ لبَعض وَلما جَاءَ حَدِيث أبي سعيد الْمُتَّفق عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الله يَوْم الْقِيَامَة يَا آدم فَيَقُول لبيْك وَسَعْديك فينادى بِصَوْت إِن الله يَأْمُرك أَن تبْعَث بعثا إِلَى النَّار الحَدِيث

سَأَلَهُمْ الْأَمِير هَل هَذَا الحَدِيث صَحِيح فَقلت نعم هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلم يخالفوا فِي ذَلِك وَاحْتَاجَ المنازع إِلَى الْإِقْرَار بِهِ وَطلب الْأَمِير الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الْحَرْف وَالصَّوْت لِأَن ذَلِك طلب مِنْهُ فَقلت هَذَا الَّذِي يحكيه كثير من النَّاس عَن الإِمَام احْمَد وَأَصْحَابه أَن صَوت القارئين ومداد الْمَصَاحِف قديم أزلي كذب مفترى لم يقل ذَلِك أَحْمد وَلَا أحد من عُلَمَاء الْمُسلمين وأخرجت كراسا كَانَ قد أحضر مَعَ العقيدة وَفِيه مَا ذكره

الشَّيْخ أَبُو بكر الْحَلَال فِي كتاب السّنة عَن الإِمَام أَحْمد وَمَا جمعه صَاحبه أَبُو بكر الْمروزِي من كَلَام أَحْمد وَكَلَام أَئِمَّة زَمَانه فِي أَن من قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي وَمن قَالَ غير مَخْلُوق فَهُوَ مُبْتَدع قلت فَكيف بِمن يَقُول لَفْظِي قديم فَكيف بِمن يَقُول صوتي غير مَخْلُوق فَكيف بِمن يَقُول صوتي قديم وأحضرت جَوَاب مَسْأَلَة كنت سُئِلت قَدِيما عَنْهَا فِيمَن حلف بِالطَّلَاق فِي مَسْأَلَة الْحَرْف وَالصَّوْت وَمَسْأَلَة الظَّاهِر فِي الْعَرْش وَقلت هَذَا جوابي

وَكَانَت هَذِه الْمَسْأَلَة قد أرسل بهَا طَائِفَة من المعاندين المتجهمة مِمَّن كَانَ بَعضهم حَاضرا فِي الْمجْلس فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم الْجَواب أسكتهم وَكَانُوا قد ظنُّوا أَنِّي إِن أجبْت بِمَا فِي ظنهم أَن أهل السّنة تَقوله حصل مقصودهم من الشناعة وَإِن أجبْت بِمَا يَقُولُونَهُ هم حصل مقصودهم من الْمُوَافقَة فَلَمَّا أجِيبُوا بالفرقان الَّذِي عَلَيْهِ أهل السّنة وَلَيْسَ هُوَ مَا يَقُولُونَهُ هم وَلَا مَا ينقلونه عَن أهل السّنة إِذْ يَقُوله بعض الْجُهَّال بهتُوا لذَلِك وَفِيه إِن الْقُرْآن كَلَام الله حُرُوفه ومعانيه لَيْسَ الْقُرْآن إسما لمُجَرّد الْحُرُوف وَلَا لمُجَرّد الْمعَانِي وَلما جَاءَت مَسْأَلَة الْقُرْآن فَقلت وَمن الْإِيمَان بِهِ الْإِيمَان بِأَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود نَازع بَعضهم فِي كَونه مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود وطلبوا تَفْسِير ذَلِك فَقلت أما هَذَا القَوْل فَهُوَ الْمَأْثُور الثَّابِت عَن السّلف مثل مَا نَقله عَمْرو بن دِينَار قَالَ أدْركْت النَّاس مُنْذُ سبعين سنة يَقُولُونَ الله الْخَالِق وَمَا سواهُ مَخْلُوق إِلَّا الْقُرْآن فَإِنَّهُ كَلَام الله غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود وَقد جمع غير وَاحِد مَا فِي ذَلِك من الْآثَار عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ

وَأما مَعْنَاهُ فَإِن قَوْله مِنْهُ بَدَأَ أَي هُوَ الْمُتَكَلّم بِهِ وَهُوَ الَّذِي أنزلهُ من لَدنه لَيْسَ هُوَ كَمَا تَقوله الْجَهْمِية إِنَّه خلق فِي الْهَوَاء أَو غَيره أَو بَدَأَ من عِنْد غَيره وَأما إِلَيْهِ يعود فَإِنَّهُ يسري بِهِ فِي آخر الزَّمَان من الْمَصَاحِف والصدور فَلَا يبْقى فِي الصُّدُور مِنْهُ كلمة وَلَا فِي الْمَصَاحِف مِنْهُ حرف وَوَافَقَ على ذَلِك غَالب الْحَاضِرين وَسكت المنازعون وخاطبت بَعضهم فِي غير هَذَا الْمجْلس بِأَن أريته العقيدة الَّتِي جمعهَا الإِمَام الْقَادِر بِاللَّه الَّتِي فِيهَا إِن الْقُرْآن كَلَام الله خرج مِنْهُ فتوقف فِي هَذَا اللَّفْظ فَقلت هَكَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا تقرب الْعباد إِلَى الله بِمثل مَا خرج مِنْهُ يَعْنِي الْقُرْآن

وَقَالَ خباب بن الْأَرَت يَا هنتاه تقرب إِلَى الله بِمَا اسْتَطَعْت فَلَنْ تتقرب إِلَيْهِ بِشَيْء أحب إِلَيْهِ مِمَّا خرج مِنْهُ وَقَالَ أَبُو بكرالصديق رَضِي الله عَنهُ لما قرىء عَلَيْهِ قُرْآن مُسَيْلمَة الْكذَّاب فَقَالَ إِن هَذَا الْكَلَام لم يخرج من إل يَعْنِي رب وَمِمَّا فِيهَا وَمن الْإِيمَان بِهِ الْإِيمَان بِأَن الْقُرْآن كَلَام الله منزل غير مَخْلُوق مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يعود وَأَن الله تكلم بِهِ حَقِيقَة وَأَن هَذَا الْقُرْآن الَّذِي أنزلهُ الله على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ كَلَام الله حَقِيقَة لَا كَلَام غَيره وَلَا يجوز إِطْلَاق القَوْل بِأَنَّهُ حِكَايَة أَو عبارَة عَن كَلَام الله بل إِذا قَرَأَ النَّاس الْقُرْآن أَو كتبوه فِي الْمَصَاحِف لم يخرج بذلك عَن أَن يكون كَلَام الله فَإِن الْكَلَام إِنَّمَا يُضَاف حَقِيقَة إِلَى من قَالَه مبتدئا لَا إِلَى من قَالَه مبلغا مُؤديا فامتعض بَعضهم من كَونه إِثْبَات كَلَام الله حَقِيقَة بعد تَسْلِيمه أَن الله تكلم بِهِ حَقِيقَة ثمَّ إِنَّه سلم ذَلِك لما بَين لَهُ أَن الْمجَاز يَصح نَفْيه وَهَذَا لَا يَصح نَفْيه وَلما بَين لَهُ أَن أَقْوَال الْمُتَقَدِّمين المأثورة

عَنْهُم وَشعر الشُّعَرَاء الْمُضَاف إِلَيْهِم هُوَ كَلَامهم حَقِيقَة فَلَا يكون نِسْبَة الْقُرْآن إِلَى الله بِأَقَلّ من ذَلِك وَلما ذكر فِيهَا أَن الْكَلَام إِنَّمَا يُضَاف حَقِيقَة إِلَى من قَالَه مبتدئا لَا إِلَى من قَالَه مبلغا مُؤديا استحسنوا هَذَا الْكَلَام وعظموه وَأخذ أحد كبراء الْخُصُوم يظْهر تَعْظِيم هَذَا الْكَلَام وَأَنه أَزَال عَنهُ الشُّبُهَات وَيذكر أَشْيَاء من هَذَا النمط وَلما جَاءَ ذكر مَا ذكر من الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر وتفصيله ونظمه استحسنوا ذَلِك وعظموه وَكَذَلِكَ لما جَاءَ ذكر الْإِيمَان بِالْقدرِ وَأَنه على دَرَجَتَيْنِ إِلَى غير ذَلِك مِمَّا فِيهِ من الْقَوَاعِد الجليلة وَكَذَلِكَ لما جَاءَ الْكَلَام فِي الْفَاسِق الملي وَفِي الْإِيمَان لَكِن اعْترضُوا على ذَلِك بِمَا سأذكره وَكَانَ مَجْمُوع مَا اعْترض بِهِ المنازعون المعاندون بعد انْقِضَاء قِرَاءَة جَمِيعهَا والبحث فِيهِ أَرْبَعَة أسئلة السُّؤَال الأول قَوْلنَا وَمن أصُول الْفرْقَة النَّاجِية أَن الْإِيمَان وَالدّين قَول وَعمل يزِيد وَينْقص قَول الْقلب وَاللِّسَان وَعمل الْقلب وَاللِّسَان والجوارح

قَالُوا إِذا قيل إِن هَذَا من اصول الْفرْقَة النَّاجِية خرج عَن الْفرْقَة النَّاجِية من لم يقل بذلك مثل أَصْحَابنَا الْمُتَكَلِّمين الَّذين يَقُولُونَ إِن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق وَمن يَقُول إِن الْإِيمَان هُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار وَإِذا لم يَكُونُوا ناجين لزم أَن يَكُونُوا هالكين وَأما الأسئلة الثَّلَاثَة وَهِي الَّتِي كَانَت عمدتهم فأوردوها على قَوْلنَا وَقد دخل فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْإِيمَان بِاللَّه الْإِيمَان بِمَا أخبر الله بِهِ فِي كِتَابه وتواتر عَن رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأجْمع عَلَيْهِ سلف الْأمة وَمن أَنه سُبْحَانَهُ فَوق سمواته وَأَنه على عَرْشه عَليّ على خلقه هُوَ مَعَهم أَيْنَمَا كَانُوا يعلم مَا هم عاملون كَمَا جمع بَين ذَلِك فِي قَوْله {هُوَ الَّذِي خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِي سِتَّة أَيَّام ثمَّ اسْتَوَى على الْعَرْش يعلم مَا يلج فِي الأَرْض وَمَا يخرج مِنْهَا وَمَا ينزل من السَّمَاء وَمَا يعرج فِيهَا وَهُوَ مَعكُمْ أَيْن مَا كُنْتُم وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} وَلَيْسَ معنى قَوْله {وَهُوَ مَعكُمْ} أَنه مختلط بالخلق فَإِن هَذَا لَا توجبه اللُّغَة وَهُوَ خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ سلف الْأمة وَخلاف مَا فطر الله عَلَيْهِ الْخلق بل الْقَمَر آيَة من آيَات الله من أَصْغَر مخلوقاته وَهُوَ مَوْضُوع السَّمَاء وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِر وَغير الْمُسَافِر أَيْنَمَا كَانَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوق

الْعَرْش رَقِيب على خلقه مهيمن عَلَيْهِم مطلع عَلَيْهِم إِلَى غير ذَلِك من مَعَاني ربوبيته وكل هَذَا الْكَلَام الَّذِي ذكره الله من أَنه فَوق الْعَرْش وَأَنه مَعنا حق على حَقِيقَته لَا يحْتَاج إِلَى تَحْرِيف وَلَكِن يصان عَن الظنون الكاذبة وَالسُّؤَال الأول قَالَ بَعضهم نقر بِاللَّفْظِ الْوَارِد مثل حَدِيث الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ حَدِيث الأوعال وَالله فَوق الْعَرْش

وَلَا نقُول فَوق السَّمَوَات وَلَا نقُول على الْعَرْش وَقَالُوا أَيْضا نقُول {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} وَلَا نقُول الله على الْعَرْش اسْتَوَى وَلَا قَول مستو وأعادوا هَذَا الْمَعْنى مرَارًا أَي إِن اللَّفْظ الَّذِي ورد يُقَال اللَّفْظ بِعَيْنِه وَلَا يُبدل بِلَفْظ يرادفه وَلَا يفهم لَهُ معنى أصلا وَلَا يُقَال إِنَّه يدل على صفة لله أصلا وانبسط الْكَلَام فِي هَذَا الْمجْلس الثَّانِي كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالسُّؤَال الثَّانِي قَالُوا التَّشْبِيه بالقمر فِيهِ تَشْبِيه كَون الله فِي السَّمَاء يكون الْقَمَر فِي السَّمَاء السُّؤَال الثَّالِث قَالُوا قَوْلك حق على حَقِيقَته الْحَقِيقَة هِيَ الْمَعْنى اللّغَوِيّ وَلَا يفهم من الحقية إِلَّا اسْتِوَاء الْأَجْسَام وفوقيتها وَلم تضع الْعَرَب ذَلِك إِلَّا لَهَا فإثبات الْحَقِيقَة هُوَ مَحْض التجسيم وَنفي التجسيم مَعَ هَذَا تنَاقض أَو مصانعة

فأجبتهم عَن الأسئلة بِأَن قولي اعْتِقَاد الْفرْقَة النَّاجِية هِيَ الْفرْقَة الَّتِي وصفهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالنجاة حَيْثُ قَالَ تفترق أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّار وَوَاحِدَة فِي الْجنَّة وَهِي من كَانَ على مثل مَا أَنا عَلَيْهِ الْيَوْم وأصحابي فَهَذَا الِاعْتِقَاد هُوَ الْمَأْثُور عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واصحابه وهم وَمن اتبعهم الْفرْقَة النَّاجِية فَإِنَّهُ قد ثَبت عَن غير وَاحِد من الصَّحَابَة أَنه قَالَ الْإِيمَان يزِيد وَينْقص وكل مَا ذكرته فِي ذَلِك فَإِنَّهُ مأثور عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَة لَفظه أَو مَعْنَاهُ وَإِذا خالفهم من بعدهمْ لم يضرني ذَلِك ثمَّ قلت لَهُم وَلَيْسَ كل مُخَالف فِي شَيْء من هَذَا الِاعْتِقَاد يجب ان يكون هَالكا فَإِن المنازع قد يكون مُجْتَهدا مخطئا يغْفر الله لَهُ خطأه وَقد لَا يكون بلغه فِي ذَلِك من الْعلم مَا تقوم بِهِ عَلَيْهِ الْحجَّة وَقد يكون لَهُ من الْحَسَنَات مَا يمحو الله بِهِ سيئاته وَإِذا كَانَت أَلْفَاظ الْوَعيد المتناولة

لَهُ لَا يجب أَن يدْخل فِيهَا المتأول والتائب وَذُو الْحَسَنَات الماحية والمغفور لَهُ وَغير ذَلِك فَهَذَا أولى بل مُوجب هَذَا الْكَلَام أَن من اعْتقد ذَلِك نجا فِي هَذَا الِاعْتِقَاد وَمن اعْتقد ضِدّه فقد يكون ناجيا وَقد لَا يكون ناجيا كَمَا قَالَ من صمت نجا وَأما السُّؤَال الثَّانِي فأجبتهم أَولا بِأَن كل لفظ قلته فَهُوَ مأثور عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثل لفظ فَوق السَّمَوَات وَلَفظ على الْعَرْش وَفَوق الْعَرْش وَقلت اكتبوا الْجَواب فَأخذ الْكَاتِب فِي كِتَابَته ثمَّ قَالَ بعض الْجَمَاعَة قد طَال الْمجْلس الْيَوْم فيؤخر هَذَا إِلَى مجْلِس آخر فتكتبون أَنْتُم الْجَواب وتحضرونه فِي ذَلِك الْمجْلس وَأَشَارَ بعض الموافقين بِأَن يتمم الْكَلَام بِكِتَابَة الْجَواب لِئَلَّا تَنْتَشِر أسئلتهم واعتراضهم وَكَأن الْخُصُوم كَانَ لَهُم غَرَض فِي تَأْخِير كِتَابَة الْجَواب ليستعدوا لأَنْفُسِهِمْ ويطالعوا ويحضروا من غَابَ من أَصْحَابهم ويتأملوا العقيدة فِيمَا بَينهم ليتمكنوا من الطعْن والاعتراض

فصل

فَحصل الِاتِّفَاق على أَن يكون تَمام الْكَلَام يَوْم الْجُمُعَة وقمنا على ذَلِك وَقد أظهر الله من قيام الْحجَّة وَبَيَان المحجة مَا أعز الله بِهِ السّنة وَالْجَمَاعَة وأرغم بِهِ أهل الْبِدْعَة والضلالة وَفِي نفوس كثير من النَّاس أُمُور لما يحدث فِي الْمجْلس الثَّانِي وَأخذُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّام يتأملونها ويتأملون مَا أُجِيب بِهِ فِي مسَائِل تتَعَلَّق بالاعتقاد مثل الْمَسْأَلَة الحموية فِي الاسْتوَاء وَالصِّفَات الخبرية وَغَيرهَا فصل فَلَمَّا كَانَ فِي الْمجْلس الثَّانِي يَوْم الْجُمُعَة بعد الصَّلَاة ثَانِي عشر رَجَب وَقد أحضروا أكبر شيوخهم مِمَّن لم يكن حَاضرا ذَلِك الْيَوْم وَبَحَثُوا فِيمَا بَينهم وَاتَّفَقُوا وتواطأوا وحضروا بِقُوَّة واستعداد غير مَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَن الْمجْلس الأول أَتَاهُم بَغْتَة وَإِن كَانَ أَيْضا بَغْتَة للمخاطب الَّذِي هُوَ الْمَسْئُول والمجيب والمناظر

فَلَمَّا اجْتَمَعنَا وَقد أحضرت مَا كتبته من الْجَواب على أسئلتهم الْمُتَقَدّمَة الَّتِي طلب تَأْخِيره إِلَى هَذَا الْيَوْم حمدت الله بِخطْبَة الْحَاجة خطْبَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثمَّ قلت إِن الله أمرنَا بِالْجَمَاعَة والائتلاف ونهانا عَن الْفرْقَة وَالِاخْتِلَاف وَقَالَ لنا فِي الْقُرْآن {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} وَقَالَ {إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء} وَقَالَ {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات} وربنا وَاحِد وَكِتَابنَا وَاحِد وَنَبِينَا وَاحِد وأصول الدّين لَا تحْتَمل التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَأَنا أَقُول مَا يُوجب الْجَمَاعَة بَين الْمُسلمين وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ بَين السّلف فَإِن وَافق الْجَمَاعَة فَالْحَمْد لله وَإِلَّا فَمن خالفني بعد ذَلِك كشفت لَهُ الْأَسْرَار وهتكت الأستار وبينت الْمذَاهب الْفَاسِدَة الَّتِي أفسدت الْملَل والدول وَأَنا أذهب إِلَى سُلْطَان الْوَقْت على الْبَرِيد وأعرفه

من الْأُمُور مَالا أقوله فِي هَذَا الْمجْلس فَإِن للسلم كلَاما وللحرب كلَاما وَقلت لَا شكّ أَن النَّاس يتنازعون فَيَقُول هَذَا أَنا حنبلي وَيَقُول هَذَا أَنا أشعري وَيجْرِي بَينهم تفرق وَاخْتِلَاف على أُمُور لَا يعْرفُونَ حَقِيقَتهَا وَأَنا قد أحضرت مَا بَين اتِّفَاق الْمذَاهب فِيمَا ذكرته وأحضرت كتاب تَبْيِين كذب المفتري فِيمَا ينْسب الى الشَّيْخ أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ تأليف الْحَافِظ أبي الْقَاسِم ابْن عَسَاكِر وَقلت لم ينصف فِي أَخْبَار الْأَشْعَرِيّ المحمودة كتاب مثل هَذَا وَقد ذكر فِيهِ لَفظه الَّذِي ذكره فِي كتاب الْإِبَانَة فَلَمَّا انْتَهَيْت الى ذكر الْمُعْتَزلَة سَأَلَ الْأَمِير عَن معنى الْمُعْتَزلَة فَقلت كَانَ النَّاس فِي قديم الزَّمَان قد اخْتلفُوا فِي الْفَاسِق الملى وَهُوَ أول اخْتِلَاف حدث فِي الْملَّة هَل هُوَ كَافِر أَو مُؤمن فَقَالَت الْخَوَارِج إِنَّه كَافِر وَقَالَت الْجَمَاعَة إِنَّه مُؤمن فَقَالَت طَائِفَة نقُول هُوَ فَاسق لَا كَافِر وَلَا مُؤمن ننزله منزلَة بَين منزلتين وخلدوه فِي النَّار واعتزلوا حَلقَة الْحسن الْبَصْرِيّ وَأَصْحَابه فسمووا معتزلة فَقَالَ الشَّيْخ الْكَبِير بحبه ورد لَيْسَ كَمَا قلت وَلَكِن

وَأول من ابتدعها وَمَا كَانَ سَبَب ابتداعها وَأَيْضًا فَمَا ذكره الشهرستاني لَيْسَ بِصَحِيح فِي اسْم الْمُتَكَلِّمين فَإِن الْمُتَكَلِّمين كَانُوا يسمون بِهَذَا الإسم قبل تنازعهم فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَكَانُوا يَقُولُونَ عَن وَاصل بن عَطاء إِنَّه مُتَكَلم ويصفونه بالْكلَام وَلم يكن النَّاس اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَقلت أَنا وغيري إِنَّمَا هُوَ وَاصل بن عَطاء قلت وواصل لم يكن بعد موت عَمْرو بن عبيد وَإِنَّمَا كَانَ قَرِيبه وَقد رُوِيَ أَن واصلا تكلم مرّة بِكَلَام فَقَالَ عَمْرو بن عبيد لَو بعث نَبِي مَا كَانَ يتَكَلَّم بِأَحْسَن من هَذَا وفصاحته مَشْهُورَة حَتَّى قيل انه كَانَ ألثغ فَكَانَ يحْتَرز عَن الرَّاء حَتَّى قيل لَهُ أَمر الْأَمِير أَن يحْفر بِئْر فِي قَارِعَة الطَّرِيق فَقَالَ أوعز الْقَائِد أَن يقلب قليب فِي الجادة قَالَ الشَّيْخ الْمُتَقَدّم فيهم لَا ريب أَن الإِمَام أَحْمد إِمَام عَظِيم الْقدر وَمن أكبر أَئِمَّة الْإِسْلَام لَكِن قد إنتسب إِلَيْهِ أنَاس ابتدعوا أَشْيَاء فَقلت أما هَذَا فَحق وَلَيْسَ هَذَا من خَصَائِص أَحْمد بل مَا من إِمَام إِلَّا وَقد انتسب إِلَيْهِ اقوام هُوَ مِنْهُم بَرِيء قد إنتسب إِلَى مَالك

أول مَسْأَلَة إختلف فِيهَا الْمُسلمُونَ مَسْأَلَة الْكَلَام وَسمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم فِي ذَلِك وَكَانَ أول من قَالَهَا عَمْرو بن عبيد ثمَّ خَلفه بعد مَوته عَطاء بن وَاصل هَكَذَا قَالَ وَذكر نَحوا من هَذَا فَغضِبت عَلَيْهِ وَقلت أَخْطَأت وَهَذَا كذب مُخَالف للْإِجْمَاع وَقلت لَهُ لَا أدب وَلَا فَضِيلَة لَا تأدبت معي فِي الْخطاب وَلَا أصبت فِي الْجَواب ثمَّ قلت النَّاس اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام فِي خلَافَة الْمَأْمُون وَبعدهَا فِي أَوَاخِر الْمِائَة الثَّانِيَة وَأما الْمُعْتَزلَة فقد كَانُوا قبل ذَلِك بِكَثِير فِي زمن عَمْرو بن عبيد بعد موت الْحسن الْبَصْرِيّ فِي أَوَائِل الْمِائَة الثَّانِيَة وَلم يكن أُولَئِكَ قد تكلمُوا فِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَلَا تنازعوا فِيهَا وَإِنَّمَا أول بدعتهم تكلمهم فِي مسَائِل الْأَحْكَام والأسماء والوعيد فَقَالَ هَذَا ذكره الشهرستاني فِي كتاب الْملَل والنحل فَقلت الشهرستاني ذكر ذَلِك فِي اسْم الْمُتَكَلِّمين لم سموا متكلمين لم يذكرهُ فِي اسْم الْمُعْتَزلَة والأمير انما سَأَلَ عَن اسْم الْمُعْتَزلَة وَأنكر الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ وَقَالَ غَلطت وَقلت فِي ضمن كَلَامي أَنا أعلم كل بِدعَة حدثت فِي الْإِسْلَام

أنَاس مَالك بَرِيء مِنْهُم وانتسب الى الشَّافِعِي أنَاس هُوَ مِنْهُم بَرِيء وانتسب الى أبي حنيفَة أنَاس هُوَ بَرِيء مِنْهُم وَقد انتسب الى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أنَاس هُوَ بَرِيء مِنْهُم وانتسب الى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أنَاس هُوَ بَرِيء مِنْهُم وَقد انتسب الى عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أنَاس هُوَ برِئ مِنْهُم وَنَبِينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد انتسب اليه القرامطة والباطنية وَغَيرهم من أَصْنَاف الملحدة وَالْمُنَافِقِينَ من هُوَ بَرِيء مِنْهُم وَذكر فِي كَلَامه أَنه انتسب الى أَحْمد أنَاس من الحشوية والمشبهة وَنَحْو هَذَا الْكَلَام فَقلت المشبهة والمجسمة فِي غير أَصْحَاب أَحْمد أَكثر مِنْهُم فيهم هَؤُلَاءِ أَصْنَاف الأكراد وَكلهمْ شافعية وَفِيهِمْ من التَّشْبِيه والتجسيم مَا لَا يُوجد فِي صنف آخر وَأهل جيلان فيهم شافعية وحنبلية قلت وَأما الحنبلية الْمَحْضَة فَلَيْسَ فيهم من ذَلِك مَا فِي غَيرهم وَكَانَ من تَمام الْجَواب أَن الكرامية المجسمة كلهم حنفية وتكلمت على لفظ الحشوية مَا أَدْرِي جَوَابا عَن سُؤال الْأَمِير أَو غَيره أَو عَن غير جَوَاب

فَقلت هَذَا اللَّفْظ أول من ابتدعه الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم يسمون الْجَمَاعَة والسواد الْأَعْظَم الحشو كَمَا تسميهم الرافضة الْجُمْهُور وحشو النَّاس هم عُمُوم النَّاس وجمهورهم وهم غير الْأَعْيَان المتميزين يَقُولُونَ هَذَا من حَشْو النَّاس كَمَا يُقَال هَذَا من جمهورهم وَأول من تكلم بِهَذَا عَمْرو بن عبيد وَقَالَ كَانَ عبد الله بن عمر حشويا فالمعتزلة سموا الْجَمَاعَة حَشْوًا كَمَا تسميهم الرافضة الْجُمْهُور وَقلت لَا أَدْرِي فِي الْمجْلس الأول أَو الثَّانِي أول من قَالَ إِن الله جسم هِشَام بن الحكم الرافضي وَقلت لهَذَا الشَّيْخ من فِي أَصْحَاب أَحْمد من الْأَعْيَان حشوي بِالْمَعْنَى الَّذِي تريده الْأَثْرَم أَبُو دَاوُد الْمروزِي الْخلال أَبُو بكر بن عبد الْعَزِيز أَبُو الْحسن التَّمِيمِي ابْن حَامِد القَاضِي أَبُو يعلى أَبُو الْخطاب ابْن عقيل وَرفعت صوتي وَقلت سمهم قل لي من هم من هم أيكذب ابْن الْخَطِيب وافترائه على النَّاس فِي مذاهبهم تبطل الشَّرِيعَة وتندرس معالم الدّين كَمَا نقل هُوَ وَغَيره عَنْهُم أَنهم يَقُولُونَ إِن الْقُرْآن الْقَدِيم هُوَ أصوات القارئين ومداد الْكَاتِبين وَأَن الصَّوْت

والمداد قديم أزلي من قَالَ هَذَا وَفِي أَي كتاب وجد هَذَا عَنْهُم قل لي وكما نقل عَنْهُم أَن الله لَا يرى فِي الْآخِرَة باللزوم الَّذِي ادَّعَاهُ والمقدمة الَّتِي نقلهَا عَنْهُم وَأخذت أذكر مَا يسْتَحقّهُ هَذَا الشَّيْخ من أَنه كَبِير الْجَمَاعَة وشيخهم وَأَن فِيهِ من الْعقل وَالدّين مَا يسْتَحق أَن يُعَامل بِمُوجبِه وَأمرت بِقِرَاءَة العقيدة جَمِيعهَا عَلَيْهِ فانه لم يكن حَاضرا فِي الْمجْلس الأول وَإِنَّمَا أحضروه فِي الثَّانِي انتصارا بِهِ وحَدثني الثِّقَة عَنهُ بعد خُرُوجه من الْمجْلس أَنه إجتمع بِهِ وَقَالَ لَهُ أَخْبرنِي عَن هَذَا الْمجْلس فَقَالَ مَا لفُلَان ذَنْب وَلَا لي فان الْأَمِير سَأَلَ عَن شَيْء فَأَجَابَهُ عَنهُ فظننته سَأَلَ عَن شَيْء آخر وَقَالَ قلت لَهُم مَا لكم على الرجل اعْتِرَاض فانه نصر ترك التَّأْوِيل وَأَنْتُم تنْصرُونَ قَول التَّأْوِيل وهما قَولَانِ للأشعري وَقَالَ أَنا أخْتَار قَول ترك التَّأْوِيل وَأخرج وَصيته الَّتِي أوصى بهَا وفيهَا قَول ترك التَّأْوِيل

قَالَ الحاكي لي فَقلت لَهُ بَلغنِي عَنْك أَنَّك قلت فِي آخر الْمجْلس لما أشهد الْجَمَاعَة على أنفسهم بالموافقة لَا تكْتبُوا عني نفيا وَلَا إِثْبَاتًا فَلم ذَاك فَقَالَ لوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَنِّي لم أحضر قِرَاءَة جَمِيع العقيدة فِي الْمجْلس الأول وَالثَّانِي لِأَن أَصْحَابِي طلبوني لينتصروا بِي فَمَا كَانَ يَلِيق أَن أظهر مخالفتهم فَسكت على الطَّائِفَتَيْنِ وَأمرت غير مرّة أَن تُعَاد قِرَاءَة العقيدة جَمِيعهَا على هَذَا الشَّيْخ فَرَأى بعض الْجَمَاعَة أَن ذَلِك يطول وَأَنه لَا يقْرَأ عَلَيْهِ إِلَّا الْموضع الَّذِي لَهُم عَلَيْهِ سُؤال وأعظمه لفظ (الْحَقِيقَة) فقرأوه عَلَيْهِ وَذكر هُوَ بحثا حسنا يتَعَلَّق بِدلَالَة اللَّفْظ فحسنته ومدحته عَلَيْهِ وَقلت لَا ريب أَن الله حَيّ حَقِيقَة سميع حَقِيقَة بَصِير حَقِيقَة وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين أهل السّنة والصفاتية من جَمِيع الطوائف وَلَو نَازع بعض أهل الْبدع فِي بعض ذَلِك فَلَا ريب أَن الله مَوْجُود والمخلوق مَوْجُود وَلَفظ الْوُجُود سَوَاء كَانَ مقولا عَلَيْهِمَا بطرِيق الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فَقَط أَو بطرِيق التواطىء المتضمن للإشتراك لفظا وَمعنى أَو بالتشكيك الَّذِي هُوَ نوع من التواطىء فعلى كل قَول فَالله مَوْجُود حَقِيقَة والمخلوق مَوْجُود حَقِيقَة وَلَا يلْزم من اطلاق الإسم

على الْخَالِق والمخلوق بطرِيق الْحَقِيقَة مَحْذُور وَلم أرجح فِي ذَلِك الْمقَام قولا من هَذِه الثَّلَاثَة على الآخر لِأَن غرضي يحصل على كل مَقْصُود وَكَانَ مقصودي تَقْرِير مَا ذكرته على قَول جَمِيع الطوائف وَأَن أبين إتفاق السّلف وَمن تَبِعَهُمْ على مَا ذكرته وَأَن أَعْيَان الْمذَاهب الْأَرْبَعَة والأشعري وأكابر أَصْحَابه على مَا ذكرته فانه قبل الْمجْلس الثَّانِي اجْتمع بِي من أكَابِر الشَّافِعِيَّة والمنتسبين الى الأشعرية وَالْحَنَفِيَّة وَغَيرهم مِمَّن عظم خوفهم من هَذَا الْمجْلس وخافوا إنتصار الْخُصُوم فِيهِ وخافوا على نُفُوسهم أَيْضا من تفرق الْكَلِمَة فَلَو أظهرت الْحجَّة الَّتِي ينتصر بهَا مَا ذكرته أولم يكن من أَئِمَّة أَصْحَابهم من يُوَافِقهَا لَصَارَتْ فرقة ولصعب عَلَيْهِم أَن يظهروا فِي الْمجَالِس الْعَامَّة الْخُرُوج عَن أَقْوَال طوائفهم لما فِي ذَلِك من تمكن أعدائهم من أغراضهم فاذا كَانَ من أَئِمَّة مذاهبهم من يَقُول ذَلِك وَقَامَت الْحجَّة عَلَيْهِ وَبَان أَنه مَذْهَب السّلف أمكنهم إِظْهَار القَوْل بِهِ مَعَ مَا يعتقدونه فِي الْبَاطِن من أَنه الْحق حَتَّى قَالَ لي بعض الأكابر من الْحَنَفِيَّة وَقد إجتمع بِي

لَو قلت هَذَا مَذْهَب أَحْمد بن حَنْبَل وَثَبت على ذَلِك لانقطع النزاع ومقصوده أَنه يحصل دفع الْخُصُوم عَنْك بِأَنَّهُ مَذْهَب متبوع ويستريح الْمُنْتَصر والمنازع من إِظْهَار الْمُوَافقَة فَقلت لَا وَالله لَيْسَ لِأَحْمَد بن حَنْبَل بِهَذَا إختصاص وَإِنَّمَا هَذَا إعتقاد سلف الْأمة وأئمة أهل الحَدِيث وَقلت أَيْضا هَذَا إعتقاد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكل لفظ ذكرته فَأَنا أذكر بِهِ آيَة أَو حَدِيثا أَو إِجْمَاعًا سلفيا وأذكر من ينْقل الْإِجْمَاع عَن السّلف من جَمِيع طوائف الْمُسلمين أَتبَاع الْفُقَهَاء الْأَرْبَعَة والمتكلمين وَأهل الحَدِيث والصوفية وَقلت لمن خاطبني من أكبر الشَّافِعِيَّة لأبين أَن مَا ذكرته هُوَ قَول السّلف وَقَول أَئِمَّة أَصْحَاب الشَّافِعِي وأذكر قَول الْأَشْعَرِيّ وأئمة أَصْحَابه الَّتِي ترد على هَؤُلَاءِ الْخُصُوم ولينتصرن كل شَافِعِيّ وكل من قَالَ بقول الْأَشْعَرِيّ الْمُوَافق لمَذْهَب السّلف وَأبين أَن القَوْل المحكي عَنهُ فِي تَأْوِيل الصِّفَات الخبرية قَول لَا أصل لَهُ فِي كَلَامه وَإِنَّمَا هُوَ قَول طَائِفَة من أَصْحَابه فللأشعرية قَولَانِ لَيْسَ للأشعري قَولَانِ

فَلَمَّا ذكرت فِي الْمجْلس أَن جَمِيع أَسمَاء الله الَّتِي يُسمى بهَا الْمَخْلُوق كَلَفْظِ الْوُجُود الَّذِي هُوَ مقول بِالْحَقِيقَةِ على الْوَاجِب والممكن على الْأَقْوَال الثَّلَاثَة تنَازع كبيران هَل هُوَ مقول بالإشتراك أَو بالتواطىء فَقَالَ أَحدهمَا هُوَ متواطىء وَقَالَ الآخر هُوَ مُشْتَرك لِئَلَّا يلْزم التَّرْكِيب وَقَالَ هَذَا قد ذكر فَخر الدّين أَن هَذَا النزاع مَبْنِيّ على أَن وجوده هَل هُوَ عين مَا هيته أم لَا فَمن قَالَ إِن وجود كل شَيْء عين ماهيته قَالَ إِنَّه مقول بالاشتراك وَمن قَالَ إِن وجوده قدر زَائِد على ماهيته قَالَ إِنَّه مقول بالتواطىء فَأخذ الأول يرجح قَول من يَقُول إِن الْوُجُود زَائِد على أَن الْمَاهِيّة لينصر أَنه مقول بالتواطىء فَقَالَ الثَّانِي لَيْسَ مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ وَأهل السّنة أَن وجوده عين ماهيته فَأنْكر الأول ذَلِك فَقلت أما متكلموا أهل السّنة فعندهم أَن وجود كل شَيْء عين ماهيته وَأما القَوْل الآخر فَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة إِن وجود كل شَيْء

قدر زَائِد على ماهيته وكل مِنْهُمَا أصَاب من وَجه فان الصَّوَاب أَن هَذِه الْأَسْمَاء مقولة بالتواطىء كَمَا قد قَرّرته فِي غير هَذَا الْموضع وأجبت عَن شُبْهَة التَّرْكِيب بالجوابين المعروفين وَأما بِنَاء ذَلِك على كَون وجود الشَّيْء عين ماهيته أَو لَيْسَ عينهَا فَهُوَ من الْغَلَط الْمُضَاف إِلَى ابْن الْخَطِيب فانا وَإِن قُلْنَا إِن وجود الشَّيْء عين ماهيته لَا يجب أَن يكون الإسم مقولا عَلَيْهِ وعَلى نَظِيره الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ فَقَط كَمَا فِي جَمِيع أَسمَاء الْأَجْنَاس فان إسم السوَاد مقول على هَذَا السوَاد وَهَذَا السوَاد بالتواطىء وَلَيْسَ عين هَذَا السوَاد هُوَ عين هَذَا السوَاد إِذْ الإسم دَال على الْقدر الْمُشْتَرك بَينهمَا وَهُوَ الْمُطلق الْكُلِّي لكنه لَا يُوجد مُطلقًا كليا بِشَرْط الاطلاق إِلَّا فِي الذِّهْن وَلَا يلْزم من ذَلِك نفي الْقدر الْمُشْتَرك بَين الْأَعْيَان الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج فانه على ذَلِك تَنْتفِي الْأَسْمَاء المتواطئة وَهِي جُمْهُور الْأَسْمَاء الْمَوْجُودَة فِي اللُّغَات وَهِي أَسمَاء الْأَجْنَاس اللُّغَوِيَّة وَهُوَ الإسم الْمُطلق على الشَّيْء وعَلى كل مَا أشبهه سَوَاء كَانَ إسم عين أَو إسم صفة جَامِدا أَو مشتقا وَسَوَاء كَانَ جِنْسا منطقيا أَو فقهيا أَو لم يكن بل إسم الْجِنْس فِي اللُّغَة يدْخل فِيهِ الْأَصْنَاف والأجناس والأنواع وَنَحْو ذَلِك وَكلهَا أَسمَاء متواطئة وأعيان

مسمياتها فِي الْخَارِج متميزة وَطلب بَعضهم إِعَادَة قِرَاءَة الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِي العقيدة ليطعن فِي بَعْضهَا فَعرفت مَقْصُوده فَقلت كَأَنَّك إستعددت لِلطَّعْنِ فِي حَدِيث الأوعال حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانُوا قد تعنتوا حَتَّى ظفروا بِمَا تكلم بِهِ زكي الدّين عبد الْعَظِيم من قَول البُخَارِيّ فِي تَارِيخه عبد الله بن عميرَة لَا يعرف لَهُ سَماع من الْأَحْنَف

فَقلت هَذَا الحَدِيث مَعَ أَنه رَوَاهُ أهل السّنَن كَأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَغَيرهم فَهُوَ مَرْوِيّ من طَرِيقين مشهورين فالقدح فِي أَحدهمَا لَا يقْدَح فِي الآخر فَقَالَ أَلَيْسَ مَدَاره على ابْن عميرَة وَقد قَالَ البُخَارِيّ لَا يعرف لَهُ سَماع من الْأَحْنَف فَقلت قد رَوَاهُ إِمَام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة فِي كتاب التَّوْحِيد الَّذِي إشترط فِيهِ أَنه لَا يحْتَج فِيهِ إِلَّا بِمَا نَقله الْعدْل عَن الْعدْل مَوْصُولا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

قلت وَالْإِثْبَات مقدم على النَّفْي وَالْبُخَارِيّ إِنَّمَا نفى مَعْرفَته لسماعه من الْأَحْنَف لم ينف معرفَة النَّاس بِهَذَا فاذا عرف غَيره كإمام الْأَئِمَّة ابْن خُزَيْمَة الْإِسْنَاد كَانَت مَعْرفَته وإثباته مقدما على نفي غَيره وَعدم مَعْرفَته وَوَافَقَ الْجَمَاعَة على ذَلِك وَأخذ بعض الْجَمَاعَة يذكر من الْمَدْح مَا لَا يَلِيق أَن أحكيه وَأخذُوا يناظرون فِي أَشْيَاء لم تكن فِي العقيدة وَلَكِن لَهَا تعلق بِمَا أجبْت بِهِ فِي مسَائِل وَلها تعلق بِمَا قد يفهمونه من العقيدة فأحضر بعض أكابرهم كتاب الْأَسْمَاء وَالصِّفَات للبيهقي فَقَالَ هَذَا فِيهِ تَأْوِيل الْوَجْه عَن السّلف فَقلت لَعَلَّك تَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} فَقَالَ نعم قد قَالَ مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ يَعْنِي قبْلَة الله

كتاب السلطان بإرسال الشيخ إلى مصر

فَقلت نعم هَذَا صَحِيح عَن مُجَاهِد وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهمَا وَهَذَا حق وَلَيْسَت هَذِه الْآيَة من آيَات الصِّفَات وَمن عدهَا فِي الصِّفَات فقد غلط كَمَا فعل طَائِفَة فان سِيَاق الْكَلَام يدل على المُرَاد حَيْثُ قَالَ {وَللَّه الْمشرق وَالْمغْرب فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} والمشرق وَالْمغْرب الْجِهَات وَالْوَجْه هُوَ الْجِهَة يُقَال أَي وَجه تُرِيدُ أَي أَي جِهَة وَأَنا أُرِيد هَذَا الْوَجْه أَي هَذِه الْجِهَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلكُل وجهة هُوَ موليها} وَلِهَذَا قَالَ {فأينما توَلّوا فثم وَجه الله} أَي تستقبلوا وتتوجهوا وَالله أعلم هَذَا آخر مَا علقه الشَّيْخ فِيمَا يتَعَلَّق بالمناظرة بِحَضْرَة نَائِب السُّلْطَان والقضاة وَالْفُقَهَاء وَغَيرهم بِالْقصرِ كتاب السُّلْطَان بإرسال الشَّيْخ إِلَى مصر وَفِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ خَامِس شهر رَمَضَان من سنة خمس وَسَبْعمائة وصل كتاب السُّلْطَان بالكشف عَمَّا كَانَ وَقع للشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي ولَايَة سيف الدّين جاغان وَفِي ولَايَة القَاضِي إِمَام الدّين وبإحضاره وإحضار القَاضِي نجم الدّين بن صصري إِلَى الديار المصرية

فَطلب نَائِب السلطنة الشَّيْخ وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء وسألهم عَن تِلْكَ الْوَاقِعَة وقرىء عَلَيْهِم المرسوم فَأجَاب كل مِنْهُم بِمَا كَانَ عِنْده من تِلْكَ الْقَضِيَّة وَكتبه عَنْهُم صَاحب الدِّيوَان مُحي الدّين وَالْقَاضِي نجم الدّين إِلَى مصر على الْبَرِيد وَخرج مَعَ الشَّيْخ خلق كثير وَبكوا وخافوا عَلَيْهِ من أعدائه واخبرت أَن نَائِب السلطنة كَانَ قد أَشَارَ على الشَّيْخ بترك التَّوَجُّه إِلَى مصر وَأَنه يُكَاتب فِي ذَلِك فَامْتنعَ الشَّيْخ من ذَلِك وَلم يقبل وَذكر أَن فِي توجهه إِلَى مصر مصَالح كَثِيرَة وقرأت بِخَط بعض أَصْحَاب الشَّيْخ قَالَ وَلما توجه الشَّيْخ فِي الْيَوْم الَّذِي توجه فِيهِ من دمشق المحروسة كَانَ يَوْمًا مشهودا غَرِيب الْمثل فِي كَثْرَة إزدحام النَّاس لوداعه ورؤيته حَتَّى إنتشروا من بَاب دَاره إِلَى قريب للجسورة فِيمَا بَين دمشق وَالْكِسْوَة الَّتِي هِيَ أول منزلَة مِنْهَا وهم مَا بَين باك وحزين ومتعجب ومتنزه ومزاحم متغال فِيهِ وَدخل الشَّيْخ مَدِينَة غَزَّة يَوْم السبت وَعمل فِي جَامعهَا مَجْلِسا عَظِيما وَفِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَمَضَان وصل الشَّيْخ وَالْقَاضِي

إِلَى الْقَاهِرَة وَفِي ثَانِي يَوْم بعد صَلَاة الْجُمُعَة جمع الْقُضَاة وأكابر الدولة بالقلعة لمحفل وَأَرَادَ الشَّيْخ أَن يتَكَلَّم فَلم يكن من الْبَحْث وَالْكَلَام على عَادَته وانتدب لَهُ الشَّمْس ابْن عَدْلَانِ خصما احتسابا وَادّعى عَلَيْهِ القَاضِي ابْن مخلوف الْمَالِكِي أَنه يَقُول إِن الله فَوق الْعَرْش حَقِيقَة وَإِن الله يتَكَلَّم بِحرف وَصَوت وَسَأَلَ جَوَابه فَأخذ الشَّيْخ فِي حمد الله وَالثنَاء عَلَيْهِ فَقيل لَهُ أجب مَا جِئْنَا بك لتخطب فَقَالَ وَمن الْحَاكِم فِي فَقيل لَهُ القَاضِي الْمَالِكِي قَالَ كَيفَ يحكم فِي وَهُوَ خصمي وَغَضب غَضبا شَدِيدا وانزعج فاقيم مرسما عَلَيْهِ وَحبس فِي برح أَيَّامًا ثمَّ نقل مِنْهُ لَيْلَة عيد الْفطر إِلَى الْحَبْس الْمَعْرُوف بالجب هُوَ وأخواه شرف الدّين عبد الله وزين الدّين عبد الرَّحْمَن ثمَّ إِن نَائِب السلطنة سيف الدّين سلارا بعد أَكثر من سنة

إرسال الشيخ كتابا من سجنه إلى دمشق

وَذَلِكَ لَيْلَة عيد الْفطر من سنة سِتّ وَسَبْعمائة أحضر الْقُضَاة الثَّلَاثَة الشَّافِعِي والمالكي والحنفي وَمن الْفُقَهَاء الْبَاجِيّ والجزري والنمراوي وَتكلم فِي إِخْرَاج الشَّيْخ من الْحَبْس فاتفقوا على أَنه يشْتَرط عَلَيْهِ امور وَيلْزم بِالرُّجُوعِ عَن بعض العقيدة فأرسلوا إِلَيْهِ من يحضرهُ ليتكلموا مَعَه فِي ذَلِك فَلم يجب إِلَى الْحُضُور وتكرر الرَّسُول إِلَيْهِ فِي ذَلِك مَرَّات وصمم على عدم الْحُضُور فطال عَلَيْهِم الْمجْلس وَانْصَرفُوا عَن غير شَيْء إرْسَال الشَّيْخ كتابا من سجنه إِلَى دمشق وَفِي الْيَوْم الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة من سنة سِتّ وَسَبْعمائة أخبر نَائِب السلطنة بِدِمَشْق بوصول كتاب إِلَيْهِ من الشَّيْخ تَقِيّ الدّين من الْجب وَأعلم بذلك جمَاعَة مِمَّن حضر مَجْلِسه وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ مَا رَأَيْت مثله وَلَا أَشْجَع مِنْهُ وَذكر مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي السجْن من التَّوَجُّه إِلَى الله تَعَالَى وَأَنه لم يقبل شَيْئا من الْكسْوَة السُّلْطَانِيَّة وَلَا من الادرار السلطاني وَلَا تدنس بِشَيْء من ذَلِك

إخراج ابن مهنا الشيخ من الجب

وَفِي هَذَا الشَّهْر أَيْضا شهر ذِي الْحجَّة فِي يَوْم الْخَمِيس الْيَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ طلب أخوا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين عبد الله وزين الدّين عبد الرَّحْمَن إِلَى مجْلِس نَائِب السلطة سلار وَحضر القَاضِي زين الدّين بن مخلوف الْمَالِكِي وَجرى بَينهم كَلَام كثير وأعيدا على موضعهما بعد أَن بحث الشَّيْخ شرف الدّين مَعَ القَاضِي الْمَالِكِي وَظهر عَلَيْهِ فِي النَّقْل والمعرفة وَخَطأَهُ فِي مَوَاضِع إدعى فِيهَا الْإِجْمَاع وَكَانَ الْكَلَام فِي مَسْأَلَة الْعَرْش وَفِي مَسْأَلَة الْكَلَام وَفِي مَسْأَلَة النُّزُول وَفِي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي الْيَوْم الْمَذْكُور أحضر الشَّيْخ شرف الدّين وَحده إِلَى مجْلِس نَائِب السلطنة وَحضر ابْن عَدْلَانِ وَتكلم مَعَه الشَّيْخ شرف الدّين وناظره وَبحث مَعَه وَظهر عَلَيْهِ وَفِي الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من صفر من سنة سبع وَسَبْعمائة اجْتمع القَاضِي بدر الدّين بن جمَاعَة بالشيخ تَقِيّ الدّين فِي دَار الأوحدي بالقلعة بكرَة الْجُمُعَة وتفرقا قبل الصَّلَاة وَطَالَ بَينهمَا الْكَلَام إِخْرَاج ابْن مهنا الشَّيْخ من الْجب وَفِي شهر ربيع الأول من سنة سبع وَسَبْعمائة دخل الْأَمِير حسام الدّين مهنا بن عِيسَى ملك الْعَرَب إِلَى مصر وَحضر بِنَفسِهِ إِلَى الْجب

فَأخْرج الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بعد أَن إستأذن فِي ذَلِك فَخرج يَوْم الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من الشَّهْر إِلَى دَار نَائِب السلطنة بالقلعة وَحضر بعض الْفُقَهَاء وَحصل بَينهم بحث كثير وَفرقت صَلَاة الْجُمُعَة بَينهم ثمَّ اجْتَمعُوا إِلَى الْمغرب وَلم ينْفَصل الْأَمر ثمَّ اجْتَمعُوا يَوْم الْأَحَد بعد يَوْمَيْنِ بمرسوم السُّلْطَان مَجْمُوع النَّهَار وَحضر جمَاعَة أَكثر من الْأَوَّلين حضر نجم الدّين بن الرّفْعَة وعلاء الدّين الْبَاجِيّ وفخر الدّين ابْن بنت أبي سعد وَعز الدّين النمراوي وشمس الدّين بن عَدْلَانِ وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء وَلم يحضر الْقُضَاة وطلبوا فَاعْتَذر بَعضهم بِالْمرضِ وَبَعْضهمْ بِغَيْرِهِ وَقبل عذرهمْ نَائِب السلطنة وَلم يكلفهم الْحُضُور بعد أَن رسم السُّلْطَان بحضورهم وانفصل الْمجْلس على خير وَبَات الشَّيْخ عِنْد نَائِب السلطنة وَكتب كتابا إِلَى دمشق بكرَة الْإِثْنَيْنِ السَّادِس وَالْعِشْرين من الشَّهْر يتَضَمَّن خُرُوجه وَأَنه أَقَامَ بدار ابْن شقير بِالْقَاهِرَةِ وَأَن الْأَمِير سيف الدّين سلار رسم بِتَأْخِيرِهِ عَن مُدَّة مقَام الشَّيْخ فِي الْجب ثَمَانِيَة عشر شهرا ففرح خلق كثير بِخُرُوجِهِ وسروا بذلك سُرُورًا عَظِيما وحزن آخَرُونَ وغضبوا

وامتدحه الشَّيْخ الإِمَام نجم الدّين سُلَيْمَان بن عبد الْقوي بقصيدة مِنْهَا ... فاصبر فَفِي الصَّبْر مَا يُغْنِيك عَن حيل ... وكل صَعب إِذا صابرته هانا وَلست تعدم من خطب رميت بِهِ ... إِحْدَى إثنتين فأيقن ذَاك إيقانا تمحيص ذَنْب لتلقى الله خَالِصَة ... أَو إمتحانا بِهِ تزداد قربانا يَا سعد إِنَّا لنَرْجُو أَن تكون لنا ... سَعْدا ومرعاك للوراد سعدانا وَأَن يَضْرِبك الرَّحْمَن طَائِفَة ... ولت وينفع من بالود والانا يَا أهل تَيْمِية العالين مرتبَة ... ومنصبا فرع الافلاك تبيانا جَوَاهِر الْكَوْن أَنْتُم غير أَنكُمْ ... فِي معشر أشربوا فِي الْعقل نُقْصَانا لَا يعْرفُونَ لكم فضلا وَلَو عقلوا ... لصيروا لكم الأجفان أوطانا يَا من حوى من عُلُوم الْخلق مَا قصرت ... عَنهُ الْأَوَائِل مذ كَانُوا إِلَى الآنا إِن تبتلى بلئام النَّاس يرفعهم ... دهر عَلَيْك لأهل الْفضل قد خَانا ...

.. إِنِّي لأقسم وَالْإِسْلَام معتقدي ... وإنني من ذَوي الْإِيمَان أيمانا لم الق قبلك إنْسَانا أسر بِهِ ... فَلَا بَرحت لعين الْمجد إنْسَانا ... فِي أَبْيَات كَثِيرَة غير هَذِه يمدح فِيهَا الشَّيْخ ويذم أعداءه وَفِي يَوْم الْجُمُعَة صلى الشَّيْخ فِي جَامع الْحَاكِم وَجلسَ فَاجْتمع إِلَيْهِ خلق عَظِيم وَسَأَلَهُ بَعضهم أَن يتَكَلَّم بِشَيْء يسمعونه مِنْهُ فَلم يجبهم إِلَى ذَلِك بل كَانَ يتبسم وَينظر يمنه ويسره فَقَالَ لَهُ رجل قَالَ الله فِي كِتَابه الْكَرِيم {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} فَنَهَضَ الشَّيْخ قَائِما وابتدأ بِخطْبَة الْحَاجة خطْبَة ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ثمَّ إستعاذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم وَقَرَأَ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك يَوْم الدّين إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} وَتكلم على تَفْسِير قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَفِي معنى الْعِبَادَة والاستعانة إِلَى أَن أذن مُؤذن الْعَصْر

وَفِي يَوْم الْخَمِيس السَّادِس من شهر ربيع الآخر سنة سبع وَسَبْعمائة عقد للشَّيْخ مجْلِس آخر بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بِالْقَاهِرَةِ وَاجْتمعَ فِيهِ الْقُضَاة وَغَيرهم وَكَانَ مِمَّا جرى فِي الْمجْلس فِيمَا بَلغنِي أَنه قيل للشَّيْخ نَسْتَغْفِر الله الْعَظِيم ونتوب إِلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخ كلنا نَسْتَغْفِر الله الْعَظِيم ونتوب إِلَيْهِ والتفت إِلَى رجل مِنْهُم فَقَالَ لَهُ إستغفر الله الْعَظِيم وَتب إِلَيْهِ فَقَالَ أسْتَغْفر الله الْعَظِيم واتوب إِلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ لآخر وَلآخر وَكلهمْ يَقُول كَذَلِك فَقيل للشَّيْخ تب إِلَى الله عز وَجل من كَذَا وَكَذَا وَذكر لَهُ كَلَام فَقَالَ إِن كنت قلت كلَاما يسْتَوْجب التَّوْبَة فَأَنا تائب مِنْهُ فَقَالَ لَهُ قَائِل هَذِه لَيست تَوْبَة فَرد عَلَيْهِ الشَّيْخ وجهله وَوَقع كَلَام يطول ذكره وَوصل كتاب الشَّيْخ مُؤَخرا بليلة الْجُمُعَة الرَّابِع عشر من الشَّهْر يذكر فِيهِ أَنه عقد لَهُ مجْلِس ثَالِث بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بِالْقَاهِرَةِ بعد خُرُوج مهنا فِي يَوْم الْخَمِيس سادس الشَّهْر وَأَنه حصل فِيهِ خير وَأَن فِي إِقَامَته مصَالح وفوائد

كتاب الشيخ إلى والدته وإلى غيرها

كتاب الشَّيْخ إِلَى والدته وَإِلَى غَيرهَا وَقد وقفت على عدَّة كتب بِخَط الشَّيْخ بعثها من مصر إِلَى والدته وَإِلَى أَخِيه لأمه بدر الدّين وَإِلَى غَيرهمَا مِنْهَا كتاب إِلَى والدته يَقُول فِيهِ من أَحْمد بن تَيْمِية إِلَى الوالدة السعيدة أقرّ الله عينهَا بنعمه وأسبغ عَلَيْهَا جزيل كرمه وَجعلهَا من خِيَار إمائه وخدمه سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَإنَّا نحمد إِلَيْكُم الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ للحمد أهل وَهُوَ على كل شَيْء قدير ونسأله أَن يُصَلِّي على خَاتم النَّبِيين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كتابي إِلَيْكُم عَن نعم من الله عَظِيمَة ومنن كَرِيمَة وآلاء جسيمة نشكر الله عَلَيْهَا ونسأله الْمَزِيد من فَضله وَنعم الله كلما جَاءَت فِي نمو وازدياد وأياديه جلت عَن التعداد وتعلمون أَن مقامنا السَّاعَة فِي هَذِه الْبِلَاد إِنَّمَا هُوَ لأمور ضَرُورِيَّة مَتى أهملناها فسد علينا امْر الدّين وَالدُّنْيَا ولسنا وَالله مختارين للبعد عَنْكُم وَلَو حملتنا الطُّيُور لسرنا إِلَيْكُم وَلَكِن الْغَائِب عذره مَعَه وَأَنْتُم لَو اطلعتم

على بَاطِن الْأُمُور فانكم وَللَّه الْحَمد مَا تختارون السَّاعَة إِلَّا ذَلِك وَلم نعزم على الْمقَام والإستيطان شهرا وَاحِدًا بل كل يَوْم نستخير الله لنا وَلكم وَادعوا لنا بالخيرة فنسأل الله الْعَظِيم ان يُخَيّر لنا وَلكم وللمسلمين مَا فِيهِ الْخيرَة فِي خير وعافية وَمَعَ هَذَا فقد فتح الله من أَبْوَاب الْخَيْر وَالرَّحْمَة وَالْهِدَايَة وَالْبركَة مَا لم يكن يخْطر بالبال وَلَا يَدُور فِي الخيال وَنحن فِي كل وَقت مهمومون بِالسَّفرِ مستخيرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يظنّ الظَّان أَنا نؤثر على قربكم شَيْئا من أُمُور الدُّنْيَا قطّ بل وَلَا نؤثر من أُمُور الدّين مَا يكون قربكم أرجح مِنْهُ وَلَكِن ثمَّ أُمُور كبار نَخَاف الضَّرَر الْخَالِص وَالْعَام من إهمالها وَالشَّاهِد يرى مَا لَا يرى الْغَائِب وَالْمَطْلُوب كَثْرَة الدُّعَاء بالخيرة فان الله يعلم وَلَا نعلم وَيقدر وَلَا نقدر وَهُوَ علام الغيوب وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((من سَعَادَة ابْن آدم إستخارته الله وَرضَاهُ بِمَا يقسم الله لَهُ وَمن شقاوة ابْن آدم ترك إستخارته الله وَسخطه بِمَا يقسم الله لَهُ)) والتاجر يكون

كتاب آخر للشيخ بعثه من مصر إلى دمشق

مُسَافِرًا فيخاف ضيَاع بعض مَاله فَيحْتَاج أَن يُقيم حَتَّى يَسْتَوْفِيه وَمَا نَحن فِيهِ أَمر يجل عَن الْوَصْف وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته كثيرا كثيرا وعَلى سَائِر من فِي الْبَيْت من الْكِبَار وَالصغَار وَسَائِر الْجِيرَان والأهل وَالْأَصْحَاب وَاحِدًا وَاحِدًا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كتاب آخر للشَّيْخ بَعثه من مصر إِلَى دمشق وَمِنْهَا كتاب قَالَ فِيهِ بعد حمد الله تَعَالَى وَالصَّلَاة على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما بعد فان الله وَله الْحَمد قد أنعم عَليّ من نعمه الْعَظِيمَة ومننه الجسيمة وآلائه الْكَرِيمَة مَا هُوَ مستوجب لعَظيم الشُّكْر والثبات على الطَّاعَة واعتياد حسن الصَّبْر على فعل الْمَأْمُور وَالْعَبْد مَأْمُور بِالصبرِ فِي السَّرَّاء أعظم من الصَّبْر فِي الضراء قَالَ تَعَالَى {وَلَئِن أذقنا الْإِنْسَان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ إِنَّه ليؤوس كفور وَلَئِن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني إِنَّه لفرح فخور إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير}

وتعلمون أَن الله سُبْحَانَهُ من فِي هَذِه الْقَضِيَّة من المنن الَّتِي فِيهَا من أَسبَاب نصر دينه وعلو كَلمته وَنصر جنده وَعزة أوليائه وَقُوَّة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وذل أهل الْبِدْعَة والفرقة وَتَقْرِير مَا قرر عنْدكُمْ من السّنة وزيادات على ذَلِك بانفتاح أَبْوَاب من الْهدى والنصر والدلائل وَظُهُور الْحق لأمم لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى وإقبال الْخَلَائق إِلَى سَبِيل السّنة وَالْجَمَاعَة وَغير ذَلِك من المنن مَالا بُد مَعَه من عَظِيم الشُّكْر وَمن الصَّبْر وَإِن كَانَ صبرا فِي سراء وتعلمون أَن من الْقَوَاعِد الْعَظِيمَة الَّتِي هِيَ من جماع الدّين تأليف الْقُلُوب واجتماع الْكَلِمَة وَصَلَاح ذَات الْبَين فان الله تَعَالَى يَقُول {فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم} وَيَقُول {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} وَيَقُول {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم}

وامثال ذَلِك من النُّصُوص الَّتِي تَأمر بِالْجَمَاعَة والإئتلاف وتنهى عَن الْفرْقَة والإختلاف وَأهل هَذَا الأَصْل هم أهل الْجَمَاعَة كَمَا أَن الخارجين عَنهُ هم أهل الْفرْقَة وجماع السّنة طَاعَة الرَّسُول وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن ابي هُرَيْرَة ((إِن الله يرضى لكم ثَلَاثًا ان تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا وَأَن تناصحوا من ولاه الله أُمُوركُم)) وَفِي السّنَن من حَدِيث زيد بن ثَابت وَابْن مَسْعُود فقيهي الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انه قَالَ ((نضر الله امْرأ سمع منا حَدِيثا فَبَلغهُ إِلَى من لم يسمعهُ فَرب حَامِل فقه غير فَقِيه وَرب حَامِل فقه إِلَى من هُوَ أفقه مِنْهُ ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم إخلاص الْعَمَل لله وَمنا صِحَة وُلَاة الْأَمر وَلُزُوم جمَاعَة الْمُسلمين فان دعوتهم تحيط من وَرَاءَهُمْ))

وَقَوله لايغل أَي لَا يحقد عَلَيْهِنَّ فَلَا يبغض هَذِه الْخِصَال قلب الْمُسلم بل يحبهن ويرضاهن وَأول مَا أبدأ بِهِ من هَذَا الأَصْل مَا يتَعَلَّق بِي فتعلمون رضى الله عَنْكُم أَنِّي لَا أحب أَن يُؤْذى أحد من عُمُوم الْمُسلمين فضلا عَن أَصْحَابنَا بِشَيْء أصلا لَا بَاطِنا وَلَا ظَاهرا وَلَا عِنْدِي عتب على أحد مِنْهُم وَلَا لوم أصلا بل لَهُم عِنْدِي من الْكَرَامَة والاجلال والمحبة والتعظيم أَضْعَاف أَضْعَاف مَا كَانَ كل بِحَسبِهِ وَلَا يَخْلُو لرجل إِمَّا أَن يكون مُجْتَهدا مصيبا أَو مخطئا أَو مذنبا فَالْأول مأجور مشكور وَالثَّانِي مَعَ أجره على الإجتهاد فمعفو عَنهُ مغْفُور لَهُ وَالثَّالِث فَالله يغْفر لنا وَله ولسائر الْمُؤمنِينَ فنطوي بِسَاط الْكَلَام الْمُخَالف لهَذَا الأَصْل

كَقَوْل الْقَائِل فلَان قصر فلَان مَا عمل فلَان أوذي الشَّيْخ بِسَبَبِهِ فلَان كَانَ سَبَب هَذِه الْقَضِيَّة فلَان كَانَ يتَكَلَّم فِي كيد فلَان وَنَحْو هَذِه الْكَلِمَات الَّتِي فِيهَا مذمة لبَعض الْأَصْحَاب والإخوان فَإِنِّي لَا أسامح من آذاهم من هَذَا الْبَاب وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه بل مثل هَذَا يعود على قَائِله بالملام إِلَّا أَن يكون لَهُ من حَسَنَة وَمِمَّنْ يغْفر الله لَهُ إِن شَاءَ وَقد عَفا الله عَمَّا سلف وتعلمون أَيْضا أَن مَا يجْرِي من نوع تَغْلِيظ أَو تخشين على بعض الْأَصْحَاب والإخوان مَا كَانَ يجْرِي بِدِمَشْق وَمِمَّا جرى الْآن بِمصْر فَلَيْسَ ذَلِك غَضَاضَة وَلَا نقصا فِي حق صَاحبه وَلَا حصل بِسَبَب ذَلِك تغير منا وَلَا بغض بل هُوَ بعد مَا عومل بِهِ من التَّغْلِيظ والتخشين أرفع قدرا وأنبه ذكرا وَأحب وَأعظم وَإِنَّمَا هَذِه الْأُمُور هِيَ من مصَالح الْمُؤمنِينَ الَّتِي يصلح الله بهَا بَعضهم بِبَعْض فَإِن الْمُؤمن لِلْمُؤمنِ كاليدين تغسل إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى وَقد لَا ينقلع الْوَسخ إِلَّا بِنَوْع من الخشونة لَكِن ذَلِك يُوجب من النَّظَافَة والنعومة مَا نحمد مَعَه ذَلِك التخشين وتعلمون أَنا جَمِيعًا متعاونون على الْبر وَالتَّقوى وَاجِب علينا

نصر بَعْضنَا بَعْضًا أعظم مِمَّا كَانَ وَأَشد فَمن رام أَن يُؤْذِي بضع الْأَصْحَاب أَو الإخوان لما قد يَظُنّهُ من نوع تخشين عومل بِهِ بِدِمَشْق أَو بِمصْر السَّاعَة أَو غير ذَلِك فَهُوَ الغالط وَكَذَلِكَ من ظن أَن الْمُؤمنِينَ يَبْخلُونَ عَمَّا أمروا بِهِ من التعاون والتناصر فقد ظن سوء {وَإِن الظَّن لَا يُغني من الْحق شَيْئا} وَمَا غَابَ عَنَّا أحد من الْجَمَاعَة أَو قدم إِلَيْنَا السَّاعَة أَو قبل السَّاعَة إِلَّا ومنزلته عندنَا الْيَوْم أعظم مِمَّا كَانَت وَأجل وَأَرْفَع وتعلمون رَضِي الله عَنْكُم أَن مَا دون هَذِه الْقَضِيَّة من الْحَوَادِث يَقع فِيهَا من اجْتِهَاد الآراء وَاخْتِلَاف الْأَهْوَاء وتنوع أَحْوَال اهل الْإِيمَان وَمَا لَا بُد مِنْهُ من نزغات الشَّيْطَان مَالا يتَصَوَّر أَن يعرى عَنهُ نوع الْإِنْسَان وَقد قَالَ تَعَالَى {وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا ليعذب الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْمُشْرِكين والمشركات وَيَتُوب الله على الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات وَكَانَ الله غَفُورًا رحِيما} بل أَنا أَقُول مَا هُوَ أبلغ من ذَلِك تَنْبِيها بالأدنى على الْأَعْلَى وبالأقصى على الْأَدْنَى فَأَقُول تعلمُونَ كَثْرَة مَا وَقع فِي هَذِه الْقَضِيَّة من الأكاذيب المفتراة والأغاليط المظنونة والأهواء الْفَاسِدَة وَأَن ذَلِك أَمر يحل عَن

الْوَصْف وكل مَا قيل من كذب وزور فَهُوَ فِي حَقنا خير ونعمة قَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين جاؤوا بالإفك عصبَة مِنْكُم لَا تحسبوه شرا لكم بل هُوَ خير لكم لكل امْرِئ مِنْهُم مَا اكْتسب من الْإِثْم وَالَّذِي تولى كبره مِنْهُم لَهُ عَذَاب عَظِيم} وَقد أظهر الله من نور الْحق وبرهانه مَا رد بِهِ إفْك الْكَاذِب وبهتانه فَلَا أحب أَن ينتصر من أحد بِسَبَب كذبه عَليّ أَو ظلمه وعدوانه فَإِنِّي قد أحللت كل مُسلم وَأَنا أحب الْخَيْر لكل الْمُسلمين وَأُرِيد بِكُل مُؤمن من الْخَيْر مَا أحبه لنَفْسي وَالَّذين كذبُوا وظلموا فهم فِي حل من جهتي وَأما مَا يتَعَلَّق بِحُقُوق الله فَإِن تَابُوا أتاب الله عَلَيْهِم وَإِلَّا فَحكم الله نَافِذ فيهم فَلَو كَانَ الرجل مشكورا على سوء عمله لَكُنْت أشكر كل من كَانَ سَببا فِي هَذِه الْقَضِيَّة لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَكِن الله هُوَ المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه الَّتِي لَا يقْضى لِلْمُؤمنِ قَضَاء إِلَّا كَانَ خيرا لَهُ وَأهل الْقَصْد الصَّالح يشكرون على قصدهم وَأهل الْعَمَل الصَّالح يشكرون على عَمَلهم وَأهل السَّيِّئَات نسْأَل الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم

وَأَنْتُم تعلمُونَ هَذَا من خلقي وَالْأَمر أَزِيد مِمَّا كَانَ وأوكد لَكِن حُقُوق النَّاس بَعضهم مَعَ بعض وَحُقُوق الله عَلَيْهِم هم فِيهَا تَحت حكم الله وَأَنْتُم تعلمُونَ أَن الصّديق الْأَكْبَر فِي قَضِيَّة الْإِفْك الَّتِي أنزل الله فِيهَا الْقُرْآن حلف لَا يصل مسطح بن أَثَاثَة لِأَنَّهُ كَانَ من الخائضين فِي الأفك فَأنْزل الله تعال {وَلَا يَأْتَلِ أولُوا الْفضل مِنْكُم وَالسعَة أَن يؤتوا أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين فِي سَبِيل الله وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم وَالله غَفُور رَحِيم} فَلَمَّا نزلت قَالَ أَبُو بكر بلَى وَالله إِنِّي لأحب أَن يغْفر الله لي فَأَعَادَ إِلَى مسطح النَّفَقَة الَّتِي كَانَ ينْفق وَمَعَ مَا ذكر من الْعَفو وَالْإِحْسَان وَأَمْثَاله وأضعافه وَالْجهَاد على مَا بعث الله بِهِ رَسُوله من الْكتاب وَالْحكمَة أَمر لَا بُد مِنْهُ {فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله وَاسع عليم إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون}

شكوى الصوفية الشيخ إلى السلطان وأمره بحبسه

وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا وَقد بعث الشَّيْخ رَحمَه الله إِلَى أَقَاربه وَأَصْحَابه بِدِمَشْق كتبا غير هَذِه شكوى الصُّوفِيَّة الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان وَأمره بحبسه وَلم يزل بِمصْر يعلم النَّاس ويفتيهم وَيذكر بِاللَّه وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَيتَكَلَّم فِي الْجَوَامِع على المنابر بتفسير الْقُرْآن وَغَيره من بعد صَلَاة الْجُمُعَة إِلَى الْعَصْر إِلَى أَن ضَاقَ مِنْهُ وانحصر وَاجْتمعَ خلق كثير من أهل الخوانق والرط والزوايا وَاتَّفَقُوا على أَن يشكو الشَّيْخ إِلَى السُّلْطَان فطلع مِنْهُم خلق إِلَى القلعة وَكَانَ مِنْهُم خلق تَحت القلعة فَكَانَت لَهُم ضجة شَدِيدَة حَتَّى قَالَ السُّلْطَان مَا لهَؤُلَاء فَقيل لَهُ هَؤُلَاءِ كلهم قد جَاءُوا من أجل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية يَشكونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ إِنَّه يسب مشايخهم وَيَضَع من قدرهم عِنْد النَّاس واستغاثوا مِنْهُ وأجلبوا عَلَيْهِ ودخلوا على الْأُمَرَاء فِي أمره وَلم يبقوا مُمكنا وَكَانَ بعض النَّاس يأْتونَ إِلَى الشَّيْخ فَيَقُولُونَ لَهُ إِن النَّاس قد جمعُوا لَك جمعا كثيرا

فَيَقُول حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَأمر من يعْقد لَهُ مَجْلِسا بدار الْعدْل فعقد مجْلِس يَوْم الثُّلَاثَاء فِي الْعشْر الأول من شَوَّال من سنة سبع وَسَبْعمائة وَظهر فِي ذَلِك الْمجْلس من علم الشَّيْخ وشجاعته وَقُوَّة قلبه وَصدق توكله وَبَيَان حجَّته مَا يتَجَاوَز الْوَصْف وَكَانَ وقتا مشهودا ومجلسا عَظِيما وَقَالَ لَهُ كَبِير من الْمُخَالفين من أَيْن لَك هَذَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ من أَيْن لَا تعلمه وَذكر بعض من حضر ذَلِك الْمجْلس أَن النَّاس لما تفَرقُوا مِنْهُ قَامَ الشَّيْخ وَمَعَهُ جمَاعَة من أَصْحَابه قَالَ فجَاء وَجئْت مَعَه إِلَى مَوضِع ذكره فِي دَار الْعدْل قَالَ فَلَمَّا جلسنا اسْتلْقى الشَّيْخ على ظَهره وَكَانَ هُنَاكَ حجر لأجل تثقيل الْحَصِير فَأَخذه وَوَضعه تَحت رَأسه فاضطجع قَلِيلا ثمَّ جلس وَقَالَ لَهُ إِنْسَان يَا سَيِّدي قد أَكثر النَّاس عَلَيْك فَقَالَ إِن هم إِلَّا كالذباب وَرفع كَفه إِلَى فِيهِ وَنفخ فِيهِ قَالَ وَقَامَ وقمنا مَعَه حَتَّى خرجنَا فَأتي بحصان فَرَكبهُ ويختل بذؤابته فَلم أر أحدا أقوى قلبا وَلَا أَشد بَأْسا مِنْهُ

قَالَ فَلَمَّا أَكْثرُوا الشكاية مِنْهُ والملام وأوسعوا من أَجله الْكَلَام رسم بتسفيره إِلَى بِلَاد الشأم فَخرج للسَّفر لَيْلَة الْخَمِيس ثَانِي عشر الشَّهْر إِلَى جِهَة الشأم ثمَّ رد فِي يَوْم الْخَمِيس الْمَذْكُور وَحبس بسجن الْحَاكِم بحارة الديلم فِي لَيْلَة الْجُمُعَة تَاسِع عشر شَوَّال قَالَ وَلما دخل الْحَبْس وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللّعب يلتهون بهَا عَمَّا هم فِيهِ كالشطرنج والنرد وَنَحْو ذَلِك من تَضْييع الصَّلَوَات فَأنْكر الشَّيْخ عَلَيْهِم ذَلِك أَشد الْإِنْكَار وَأمرهمْ بملازمة الصَّلَاة والتوجه إِلَى الله بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَة وَالتَّسْبِيح وَالِاسْتِغْفَار وَالدُّعَاء وعلمهم من السّنة مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ ورغبهم فِي أَعمال الْخَيْر وحضهم على ذَلِك حَتَّى صَار الْحَبْس بِمَا فِيهِ من الِاشْتِغَال بِالْعلمِ وَالدّين خيرا من الزوايا والربط والخوانق والمدارس وَصَارَ خلق من المحابيس إِذا أطْلقُوا يختارون الْإِقَامَة عِنْده وَكثر المترددون إِلَيْهِ حَتَّى كَانَ السجْن يمتلىء مِنْهُم فَلَمَّا كثر اجْتِمَاع النَّاس بِهِ وترددهم إِلَيْهِ سَاءَ ذَلِك أعداءه وحصرت صُدُورهمْ فسألوا نَقله إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وظنوا أَن قُلُوب أَهلهَا عَن محبته عرية وَأَرَادُوا أَن يبعد عَنْهُم خَبره أَو لَعَلَّهُم يقتلونه فَيَنْقَطِع أَثَره

ما ذكره البرزالي في حبس الشيخ بالإسكندرية

فَأرْسل بِهِ إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة فِي لَيْلَة يسفر صباحها عَن يَوْم الْجُمُعَة سلخ صفر من سنة تسع وَسَبْعمائة مَا ذكره البرزالي فِي حبس الشَّيْخ بالإسكندرية وَذكر الشَّيْخ البرزالي وَغَيره أَن فِي شهر شَوَّال من سنة سبع وَسَبْعمائة شكا شيخ الصُّوفِيَّة بِالْقَاهِرَةِ كريم الدّين الأبلى وَابْن عَطاء وَجَمَاعَة نَحْو الْخَمْسمِائَةِ من الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَكَلَامه فِي ابْن عَرَبِيّ وَغَيره إِلَى الدولة فَرد الْأَمر فِي ذَلِك إِلَى القَاضِي الشَّافِعِي وَعقد لَهُ مجْلِس وَادّعى عَلَيْهِ ابْن عَطاء بأَشْيَاء لم يثبت شَيْء مِنْهَا لكنه قَالَ إِنَّه لَا يستغاث إِلَّا بِاللَّه حَتَّى لَا يستغاث بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استغاثة بِمَعْنى الْعِبَادَة وَلكنه يتوسل بِهِ ويتشفع بِهِ إِلَى الله فبعض الْحَاضِرين قَالَ لَيْسَ فِي هَذَا شَيْء وَرَأى قَاضِي الْقُضَاة بدر الدّين أَن هَذَا فِيهِ قلَّة أدب فَحَضَرت رِسَالَة إِلَى القَاضِي أَن يعْمل مَعَه مَا تَقْتَضِيه الشَّرِيعَة فِي ذَلِك فَقَالَ القَاضِي قد قلت لَهُ مَا يُقَال لمثله ثمَّ إِن الدولة خيروه بَين أَشْيَاء وَهِي الْإِقَامَة بِدِمَشْق أَو الْإسْكَنْدَريَّة بِشُرُوط أَو الْحَبْس فَاخْتَارَ الْحَبْس

فَدخل عَلَيْهِ جمَاعَة فِي السّفر إِلَى دمشق مُلْتَزما مَا شَرط فأجابهم فأركبوهم خيل الْبَرِيد لَيْلَة الثَّامِن عشر من شَوَّال ثمَّ أرسل خَلفه من الْغَد بريدا آخر فَرده وَحضر عِنْد قَاضِي الْقُضَاة بِحُضُور جمَاعَة من الْفُقَهَاء فَقَالَ بَعضهم لَهُ مَا ترْضى الدولة إِلَّا بِالْحَبْسِ وَقَالَ قَاضِي الْقُضَاة وَفِيه مصلحَة لَهُ واستناب شمس الدّين التّونسِيّ الْمَالِكِي وَأذن لَهُ أَن يحكم عَلَيْهِ فتحير فَقَالَ الشَّيْخ أَنا أمضي إِلَى الْحَبْس وأتبع مَا تَقْتَضِيه الْمصلحَة فَقَالَ نور الدّين الْمَأْذُون لَهُ فِي الحكم فَيكون فِي مَوضِع يصلح لمثله فَقيل لَهُ مَا ترْضى الدولة إِلَّا بمسمى الْحَبْس فَأرْسل إِلَى حبس القَاضِي وأجلس فِي الْموضع الَّذِي أَجْلِس فِيهِ القَاضِي تَقِيّ الدّين ابْن بنت الْأَعَز لما حبس وَأذن أَن يكون عِنْده من يَخْدمه وَكَانَ جَمِيع ذَلِك بِإِشَارَة الشَّيْخ نصر المنبجي ووجاهته فِي الدولة وَاسْتمرّ الشَّيْخ فِي الْحَبْس يستفتى ويقصده النَّاس ويزورونه وتأتيه الْفَتَاوَى المشكلة من الْأُمَرَاء وأعيان النَّاس قَالَ علم الدّين وَفِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء الْعشْرين من شَوَّال من سنة ثَمَان وَسَبْعمائة طلب أخوا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَوجدَ زين الدّين وَعِنْده

كتاب الشيخ شرف الدين إلى أخيه بدر الدين

جمَاعَة فرسم عَلَيْهِم وَلم يُوجد شرف الدّين ثمَّ أطلق الْجَمَاعَة سوى زين الدّين فَإِنَّهُ حمل إِلَى الْمَكَان الَّذِي فِيهِ الشَّيْخ وَهُوَ قاعة الترسيم بِالْقَاهِرَةِ ثمَّ إِنَّه أخرج فِي خَامِس صفر سنة تسع وَسَبْعمائة قَالَ وَفِي اللَّيْلَة الْأَخِيرَة من شهر صفر هَذَا وَهِي لَيْلَة الْجُمُعَة توجه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين من الْقَاهِرَة إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة مَعَ أَمِير مقدم وَلم يُمكن أحد من جماعته من السّفر مَعَه وَوصل هَذَا الْخَبَر إِلَى دمشق بعد عشرَة أَيَّام فَحصل التألم لأَصْحَابه ومحبيه وَضَاقَتْ الصُّدُور وتضاعف الدُّعَاء لَهُ وبلغنا أَن دُخُوله الْإسْكَنْدَريَّة كَانَ يَوْم الْأَحَد دخل من بَاب الخوخة إِلَى دَار السُّلْطَان وَنقل لَيْلًا إِلَى برج فِي شَرْقي الْبَلَد ثمَّ وصلت الْأَخْبَار أَن جمَاعَة من أَصْحَابه توجهوا إِلَيْهِ بعد ذَلِك وَصَارَ النَّاس يدْخلُونَ إِلَيْهِ ويقرأون عَلَيْهِ وَيَتَحَدَّثُونَ مَعَه وَكَانَ الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ فسيحا متسعا كتاب الشَّيْخ شرف الدّين إِلَى أَخِيه بدر الدّين وَقد رَأَيْت كتابا بِخَط الشَّيْخ شرف الدّين كتبه إِلَى أَخِيه بدر الدّين بعد توجه الشَّيْخ إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة يَقُول فِيهِ

من أَخِيه عبد الله بن تَيْمِية سَلام الله وَرَحمته وَبَرَكَاته على الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْجَلِيل الْكَبِير بدر الدّين وَإِلَى الله عَلَيْهِ آلاءه وأتبعها وأسبغ عَلَيْهِ نعمه ونوعها ومنحه مننه وأينعها وأيده بِالْقُوَّةِ والتأييد لإِقَامَة الْحق على الْقَرِيب والبعيد غير مقصر وَلَا وان وَلَا مفتر وَلَا متوان بِالرَّأْيِ السديد والعزم الوكيد وجمعنا وإياه فِي هَذِه الدَّار على طَاعَته وَفِي دَار الْقَرار فِي دَار كرامته مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ أهل ولَايَته إِنَّه ذُو الْفضل الْعَظِيم والمن الجسيم والطول العميم أما بعد فَإِنِّي أَحْمد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَهُوَ للحمد أهل وَهُوَ على كل شَيْء قدير وأصلي على سيد ولد آدم وَخير خلق الله أَجْمَعِينَ وَسيد رسل رب الْعَالمين إِلَى الْأسود والأحمر وَالْجِنّ وَالْإِنْس بشيرا للْمُؤْمِنين وَنَذِيرا للْكَافِرِينَ أتم الصَّلَاة وأفضلها وَأَشْرَفهَا وأكملها دائمة إِلَى يَوْم الدّين وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا وَبعد فَنحْن وَالْجَمَاعَة فِي نعم الله الْكَامِلَة ومننه الشاملة الَّتِي تفوت الْعد والإحصاء وتعجز الْعُقُول عَن تصورها ودركها وتحصر

الألسن عَن نعتها ووصفها فضلا عَن كتَابَتهَا فنسأل الله الْعَظِيم أَن يوزعنا شكرها وَأَن يديمها علينا وعَلى جَمِيع الإخوان وَالْمُؤمنِينَ إِنَّه الْجواد الْكَرِيم فَمِنْهَا نزُول الْأَخ الْكَرِيم بالثغر المحروس فَإِن أَعدَاء الله قصدُوا بذلك أمورا يكيدون بهَا الْإِسْلَام وَأَهله وظنوا أَن ذَلِك يحصل عَن قريب فَانْقَلَبت عَلَيْهِم مقاصدهم الخبيثة الْمَعْلُومَة وانعكست من كل الْوُجُوه وَأَصْبحُوا وَمَا زَالُوا عِنْد الله وَعند العارفين من الْمُؤمنِينَ سود الْوُجُوه يَتَقَطَّعُون حسرات وندما على مَا فَعَلُوهُ وَأَقْبل أهل الثغر أَجْمَعُونَ إِلَى الْأَخ متقبلين لما يذكرهُ وينشره من كتاب الله وَسنة رَسُوله والحط والوقيعة فِي أعدائهما من أهل الْبدع والضلالات وَالْكفْر والجهالات خُصُوصا أَخبث الْمَلَاحِدَة والاتحادية ثمَّ الْجَهْمِية وَاتفقَ أَنه وجد بهَا إِبْلِيس إلحادهم قد باض وفرخ وَنصب بهَا عَرْشه ودوخ وأضل بهَا فريقي السبعينية والعربية فمزق الله بهَا بقدومه الثغر جموعهم شذر مذر وهتك أستارهم وكشف رمزهم إلحاد وَالْكفْر وأسرارهم وَفَضَحَهُمْ واستتاب جماعات مِنْهُم وتوب رَئِيسا من رُؤَسَائِهِمْ وَإِن كَانَ عِنْد عباد الله الْمُؤمنِينَ حَقِيرًا وصنف هَذَا

التائب كتابا فِي كشف كفرهم وإلحادهم وَكَانَ من خَواص خَواص اللعين عَدو الله وَرَسُوله نصير الْمُلْحِدِينَ واشتهر ذَلِك وَاسْتقر عِنْد عُمُوم الْمُؤمنِينَ وخواصهم من أَمِير وقاض وفقيه ومفت وَشَيخ وَعُمُوم الْمُجَاهدين إِلَّا من شَذَّ من الأغمار الْجُهَّال مَعَ الذلة وَالصغَار حذرا على نَفسه من أَيدي الْمُؤمنِينَ وألسنتهم وعلت كلمة الله بهَا على أَعدَاء الله وَرَسُوله ولعنوا لعنا ظَاهرا فِي مجامع النَّاس بِالِاسْمِ الْخَاص وَصَارَ بذلك عِنْد نصير الْمُلْحِدِينَ الْمُقِيم المقعد وَنزل بِهِ من الْخَوْف والذل مَا لَا يعبر عَنهُ وهم أَن يكيد كيدا آخر فَوَقع مَا وَقع عنْدكُمْ بالشأم من الْأَمر المزعج وَالْكرب المقلق وَالْبَلَاء الْعَظِيم والذل واستعطاف من كَانُوا لَا يلتفتون إِلَيْهِ بالأموال والأنفس والتذلل حَتَّى رق بعض الْأَصْحَاب لَهُم فزجر عَن ذَلِك وَقيل لَهُ {وَلَا تأخذكم بهما رأفة فِي دين الله} إِلَى أُمُور كَثِيرَة من المحن وَالْبَلَاء مِمَّا لَا يُمكن وَصفه فنسأل الله الْعَظِيم أَن يعجل تَمام النقمَة عَلَيْهِم وَأَن يقطع دابرهم وَأَن يرِيح عباده وبلاده مِنْهُم وَأَن ينصر دينه وَكتابه وَرَسُوله وعباده عَلَيْهِم وَأَن يوزعنا شكر هَذِه النِّعْمَة وَأَن يُتمهَا علينا وعَلى سَائِر الْمُؤمنِينَ

وَغير خَافَ عَنْك سيرتنا ... إِذا أعجبتك خِصَال امرىء ... فكنه يكن مَا يُعْجِبك فَلَيْسَ لَدَى الْمجد والمكرما ... ت إِذا جِئْتهَا حَاجِب يحجبك ... فأسأل الله الْعَظِيم أَن يعينك ويمدك ويؤيدك بِروح مِنْهُ وَأَن يقربك أعين الْمُؤمنِينَ وَأَن يخزي بك الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأَن يوفقك لما يُحِبهُ ويرضاه وَأَن يتولاك فِي جَمِيع الْأُمُور ويعينك على الْقيام فِيهَا بِمَا يُرْضِي الله وَرَسُوله وَالسَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وعَلى السعيدة الْكَرِيمَة الطّيبَة الَّتِي رَضِي الله عَنْهَا وأرضاها وَجعل بعد اجتماعنا بهَا الْجنَّة دارها ومأواها وأراها وَجهه الْكَرِيم فِي دَار النَّعيم الوالدة الَّتِي منحها الله تَعَالَى فِي آخرعمرها هَذِه الْكَرَامَة الْعَظِيمَة والمنزلة الرفيعة والدرجة الْعلية وأكمل السَّلَام وأنماه وعَلى جَمِيع الْأَهْل والإخوان وَالْأَصْحَاب والمعارف وَالْجِيرَان كَبِيرهمْ وصغيرهم قريبهم وبعيدهم كل فَرد فَرد لَهُ السَّلَام

وَغير خَافَ عَنْهُم الْعَجز عَن حصرهم فَالله تَعَالَى يرضى عَن جَمِيعهم ويجمعنا وإياهم بعد نصر دين الله وَرَسُوله على مَا يُحِبهُ ويرضاه وَكتب والخاطر مَشْغُول بِأَمْر الْمُسلمين لحدوث أَمر يذكرهُ لكم الشَّيْخ عبد الله وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا قلت بَقِي الشَّيْخ بثغر الْإسْكَنْدَريَّة ثَمَانِيَة أشهر مُقيما ببرج مليح نظيف لَهُ شباكان أَحدهمَا إِلَى جِهَة الْبَحْر يدْخل إِلَيْهِ من شَاءَ ويتردد إِلَيْهِ الأكابر والأعيان وَالْفُقَهَاء يقرأون عَلَيْهِ ويبحثون مَعَه ويستفيدون مِنْهُ

إحضار الشيخ من سجن الإسكندرية إلى القاهرة

إِحْضَار الشَّيْخ من سجن الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة فَلَمَّا دخل السُّلْطَان النَّاصِر إِلَى مصر بعد خُرُوجه من الكرك وقدومه إِلَى دمشق وَتوجه مِنْهَا إِلَى مصر وَكَانَ قدومه إِلَيْهَا يَوْم عيد الْفطر من سنة تسع وَسَبْعمائة نفذ لإحضار الشَّيْخ من الْإسْكَنْدَريَّة فِي الْيَوْم الثَّامِن من شَوَّال وَخرج الشَّيْخ مِنْهَا مُتَوَجها إِلَى مصر وَمَعَهُ خلق من أَهلهَا يودعونه ويسألون الله أَن يردهُ إِلَيْهِم وَكَانَ وقتا مشهودا وَوصل إِلَى الْقَاهِرَة يَوْم السبت ثامن عشر الشَّهْر وَاجْتمعَ بالسلطان فِي يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ وأكرمه وتلقاه فِي مجْلِس حفل فِيهِ قُضَاة المصريين والشاميين وَالْفُقَهَاء وَأصْلح بَينه وَبينهمْ وَلَقَد أَخْبرنِي بعض أَصْحَابنَا قَالَ أَخْبرنِي القَاضِي جمال الدّين بن القلانسي قَاضِي العساكر المنصورة فِيمَا تذاكرت أَنا وَهُوَ ذَات لَيْلَة حِين كَانَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين معتقلا فِي القلعة المنصورة يَعْنِي قلعة دمشق وَقد أشاع بعض الجهلة

وأرجف بعض المبغضين للسّنة بأخبار مُخْتَلفَة لَا حَقِيقَة لَهَا لَكِن وَقع فِي نفوس أَصْحَاب الشَّيْخ من ذَلِك مَا يلقيه الشَّيْطَان فِي قلب الْإِنْسَان وَمَا ذَاك إِلَّا من شدَّة الشَّفَقَة والمحبة فَقلت لَهُ فِيمَا تحدثنا بِهِ إِن النَّاس يَقُولُونَ كَيْت وَكَيْت وَأَن الشَّيْخ رُبمَا يخرج من القلعة ويدعى عَلَيْهِ وَيُعَزر وَيُطَاف بِهِ فَقَالَ يَا فلَان هَذَا لَا يَقع مِنْهُ شَيْء وَلَا يسمح السُّلْطَان خلد الله سعادته بِشَيْء من ذَلِك وَهُوَ أعلم بالشيخ من كل هَؤُلَاءِ وبعلمه وَدينه ثمَّ قَالَ أخْبرك بِأَمْر عَجِيب وَقع من السُّلْطَان فِي حق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَذَلِكَ حِين توجه السُّلْطَان إِلَى الديار المصرية وَمَعَهُ الْقُضَاة والأعيان ونائب الشأم الأفرم فَلَمَّا دخل الديار المصرية وَعَاد إِلَى مَمْلَكَته وهرب سلار والشنكير وَاسْتقر أَمر السُّلْطَان جلسا يَوْمًا دست السلطنة وأبهة الْملك وأعيان الْأُمَرَاء من الشاميين والمصريين حضورعنده وقضاة مصر عَن يَمِينه وقضاة الشَّام عَن يسَاره وَذكر لي كَيْفيَّة جلوسهم مِنْهُ كحسب مَنَازِلهمْ قَالَ وَكَانَ من جملَة من هُنَاكَ ابْن صصرى عَن يسَار السُّلْطَان وَتَحْته الصَّدْر عَليّ قَاضِي الْحَنَفِيَّة ثمَّ بعده الْخَطِيب جلال الدّين ثمَّ بعده ابْن

الزملكاني قَالَ وَأَنا إِلَى جَانب ابْن الزملكاني وَالنَّاس جُلُوس خَلفه وَالسُّلْطَان على مقْعد مُرْتَفع فَبَيْنَمَا النَّاس على ذَلِك جُلُوس إِذْ نَهَضَ السُّلْطَان قَائِما فَقَامَ النَّاس ثمَّ مَشى السُّلْطَان فَنزل عَن تِلْكَ المقعدة وَلَا نَدْرِي مَا بِهِ وَإِذا بالشيخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رَحمَه الله مقبل من الْبَاب وَالسُّلْطَان قَاصد إِلَيْهِ فَنزل السُّلْطَان عَن الإيوان وَالنَّاس قيام والقضاة والأمراء والدولة فتسالم هُوَ وَالسُّلْطَان وتكارشا وذهبا إِلَى صفة فِي ذَلِك الْمَكَان فِيهَا شباك إِلَى بُسْتَان فَجَلَسَا فِيهَا حينا ثمَّ أَقبلَا وَيَد الشَّيْخ فِي يَد السُّلْطَان فَقَامَ النَّاس وَكَانَ قد جَاءَ فِي غيبَة السُّلْطَان تِلْكَ الْوَزير فَخر الدّين بن الْخَلِيل فَجَلَسَ عَن يسَار السُّلْطَان فَوق ابْن صصرى فَلَمَّا جَاءَ السُّلْطَان جلس على مقعدته وَجَاء الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فَجَلَسَ بَين يَدي السُّلْطَان على طرف مقعدته متربعا فشرع السُّلْطَان يثني على الشَّيْخ عِنْد الْأُمَرَاء والقضاة بثناء مَا سمعته من غَيره قطّ وَقَالَ كلَاما كثيرا وَالنَّاس تَقول مَعَه وَمثله الْقُضَاة والأمراء وَكَانَ وقتا عجيبا وَذَلِكَ مِمَّا يسوء كثيرا من الْحَاضِرين من أَبنَاء جنسه

وَقَالَ فِي الشَّيْخ من الثَّنَاء وَالْمُبَالغَة مَالا يقدر أحد من أخص أَصْحَابه أَن يَقُوله ثمَّ إِن الْوَزير أنهى إِلَى السُّلْطَان أَن أهل الذِّمَّة قد بذلوا للديوان فِي كل سنة سَبْعمِائة ألف دِرْهَم زِيَادَة على الجالية على أَن يعودوا إِلَى لبس العمائم الْبيض المعلمة بالحمرة والصفرة والزرقة وَأَن يعفوا من هَذِه العمائم المصبغة كلهَا بِهَذِهِ الألوان الَّتِي ألزمهم بهَا ركن الدّين الشاشنكير فَقَالَ السُّلْطَان للقضاة وَمن هُنَاكَ مَا تَقولُونَ فَسكت النَّاس فَلَمَّا رَآهُمْ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين سكتوا جثا على رُكْبَتَيْهِ وَشرع يتَكَلَّم مَعَ السُّلْطَان فِي ذَلِك بِكَلَام غليظ وَيرد مَا عرضه الْوَزير عَنْهُم ردا عنيفا وَالسُّلْطَان يسكته بترفق وتؤدة وتوقير فَبَالغ الشَّيْخ فِي الْكَلَام وَقَالَ مَالا يَسْتَطِيع أحد أَن يقوم بِمثلِهِ وَلَا بقريب مِنْهُ حَتَّى رَجَعَ السُّلْطَان عَن ذَلِك وألزمهم بِمَا هم عَلَيْهِ واستمروا على هَذِه الصّفة فَهَذِهِ من حَسَنَات الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رَحمَه الله وَرَضي الله عَنهُ آمين

حلم الشيخ وعفوه عمن ظلمه

قَالَ هَذَا ملخص مَا أَخْبرنِي بِهِ رَحمَه الله وَكنت جَلَست يَوْمًا إِلَى قَاضِي الْقُضَاة صدر الدّين قَاضِي الْحَنَفِيَّة فَقَالَ لي وَهُوَ يضْحك تحب الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية فَقلت نعم فَقَالَ وَالله تحب شَيْئا مليحا وَحكى لي قَرِيبا مِمَّا ذكر ابْن القلانسي لَكِن سِيَاق ابْن القلانسي أبسط وَأتم حلم الشَّيْخ وعفوه عَمَّن ظلمه وَسمعت الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رَحمَه الله يذكر أَن السُّلْطَان لما جلسا بالشباك أخرج من جيبه فَتَاوَى لبَعض الْحَاضِرين فِي قَتله واستفتاه فِي قتل بَعضهم قَالَ ففهمت مَقْصُوده وَأَن عِنْده حنقا شَدِيدا عَلَيْهِم لما خلعوه وَبَايَعُوا الْملك المظفر ركن الدّين بيبرس الجاشنكير فشرعت فِي مدحهم وَالثنَاء عَلَيْهِم وشكرهم وَأَن هَؤُلَاءِ لَو ذَهَبُوا لم تَجِد مثلهم فِي دولتك أما أَنا فهم فِي حل من حَقي وَمن جهتي وسكنت مَا عِنْده عَلَيْهِم

قَالَ فَكَانَ القَاضِي زيد الدّين ابْن مخلوف قَاضِي الْمَالِكِيَّة يَقُول بعد ذَلِك مَا رَأينَا أتقى من ابْن تَيْمِية لم نبق مُمكنا فِي السَّعْي فِيهِ وَلما قدر علينا عَفا عَنَّا ثمَّ إِن الشَّيْخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إِلَى الْقَاهِرَة وَسكن بِالْقربِ من مشْهد الْحُسَيْن وَعَاد إِلَى بَث الْعلم ونشره والخلق يشتغلون عَلَيْهِ ويقرأون ويستفتونه ويجيبهم بالْكلَام وَالْكِتَابَة والأمراء والأكابر وَالنَّاس يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ وَفِيهِمْ من يعْتَذر إِلَيْهِ ويتنصل مِمَّا وَقع فَقَالَ قد جعلت الْكل فِي حل مِمَّا جرى وَبعث الشَّيْخ كتابا إِلَى أَقَاربه وَأَصْحَابه بِدِمَشْق يذكر مَا هُوَ فِيهِ من النعم الْعَظِيمَة وَالْخَيْر الْكثير وَيطْلب فِيهِ جملَة من كتب الْعلم يُرْسل بهَا إِلَيْهِ وَقَالَ فِي هَذَا الْكتاب

كتاب الشيخ إلى أقاربه بدمشق

كتاب الشَّيْخ إِلَى أَقَاربه بِدِمَشْق تعلمُونَ أَنا بِحَمْد الله فِي نعم عَظِيمَة ومنن جسيمة وآلاء متكاثرة وأياد متظاهرة لم تكن تخطر لأكْثر الْخلق ببال وَلَا تَدور لَهُم فِي خيال وَالْحَمْد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يحب رَبنَا ويرضى إِلَى أَن قَالَ وَالْحق دَائِما فِي انتصار وعلو وازدياد وَالْبَاطِل فِي انخفاض وسفال ونفاد وَقد أخضع الله رِقَاب الْخُصُوم وأذلهم غَايَة الذل وَطلب أكابرهم من السّلم والانقياد مَا يطول وَصفه وَنحن وَللَّه الْحَمد قد اشترطنا عَلَيْهِم فِي ذَلِك من الشُّرُوط مَا فِيهِ عز الْإِسْلَام وَالسّنة وانقماع الْبَاطِل والبدعة وَقد دخلُوا فِي ذَلِك كُله وامتنعنا حَتَّى يظْهر ذَلِك إِلَى الْفِعْل فَلم نثق لَهُم بقول وَلَا عهد وَلم نجبهم إِلَى مطلوبهم حَتَّى يصير الْمَشْرُوط مَعْمُولا وَالْمَذْكُور مَفْعُولا وَيظْهر من عز الْإِسْلَام وَالسّنة للخاصة والعامة مَا يكون من الْحَسَنَات الَّتِي تمحو سيئاتهم وَقد أمد الله من الْأَسْبَاب الَّتِي فِيهَا عز الْإِسْلَام وَالسّنة وقمع الْكفْر والبدعة بِأُمُور يطول وصفهَا فِي كتاب وَكَذَلِكَ جرى من الأسبات الَّتِي هِيَ عز الْإِسْلَام وقمع الْيَهُود وَالنَّصَارَى بعد أَن كَانُوا قد استطالوا وحصلت لَهُم

قيام جماعة من الغوغاء على الشيخ بجامع مصر وضربه وقيام أهل الحسينية وغيرهم انتصارا للشيخ ثم صفحه هو عمن آذوه

شَوْكَة وَأَعَانَهُمْ من أعانهم على امْر فِي ذل كَبِير من النَّاس فلطف الله باستعمالنا فِي بعض مَا أَمر الله بِهِ وَرَسُوله وَجرى فِي ذَلِك مِمَّا فِيهِ عز الْمُسلمين وتأليف قُلُوبهم وقيامهم على الْيَهُود وَالنَّصَارَى وذل الْمُشْركين وَأهل الْكتاب مِمَّا هُوَ من أعظم نعم الله على عباده الْمُؤمنِينَ وَوصف هَذَا يطول وَقد أرْسلت إِلَيْكُم كتابا أطلب مَا صنفته فِي أَمر الْكَنَائِس وَهِي كراريس بخطي قطع النّصْف الْبَلَدِي فترسلون ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وتستعينون على ذَلِك بالشيخ جمال الدّين الْمزي فَإِنَّهُ يقلب الْكتب وَيخرج الْمَطْلُوب وترسلون أَيْضا من تَعْلِيق القَاضِي أبي يعلى الَّذِي بِخَط القَاضِي أبي الْحُسَيْن إِن أمكن الْجَمِيع وَهُوَ أحد عشر مجلدا وَإِلَّا فَمن أَوله مجلدا أَو مجلدين أَو ثَلَاثَة وَذكر كتبا يطْلبهَا مِنْهُم وَلم يزل الشَّيْخ مستمرا على عَادَته من الِاشْتِغَال بتعليم النَّاس ونفعهم وموعظتهم وَالِاجْتِهَاد فِي سبل الْخَيْر قيام جمَاعَة من الغوغاء على الشَّيْخ بِجَامِع مصر وضربه وَقيام أهل الحسينية وَغَيرهم انتصارا للشَّيْخ ثمَّ صفحه هُوَ عَمَّن آذوه فَلَمَّا كَانَ فِي رَابِع شهر رَجَب من سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة جَاءَ

رجل فِيمَا بَلغنِي إِلَى أَخِيه الشَّيْخ شرف الدّين وَهُوَ فِي مَسْكَنه بِالْقَاهِرَةِ فَقَالَ لَهُ إِن جمَاعَة بِجَامِع مصر قد تعصبوا على الشَّيْخ وتفردوا بِهِ وضربوه فَقَالَ حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَكَانَ بعض أَصْحَاب الشَّيْخ جَالِسا عِنْد شرف الدّين قَالَ فَقُمْت من عِنْده وَجئْت إِلَى مصر فَوجدت خلقا كثيرا من الحسينية وَغَيرهَا رجَالًا وفرسانا يسْأَلُون عَن الشَّيْخ فَجئْت فَوَجَدته بِمَسْجِد الْفَخر كَاتب المماليك على الْبَحْر وَاجْتمعَ عِنْده جمَاعَة وتتابع النَّاس وَقَالَ لَهُ بَعضهم يَا سَيِّدي قد جَاءَ خلق من الحسينية وَلَو أَمرتهم أَن يهدموا مصر كلهَا لفعلوا فَقَالَ لَهُم الشَّيْخ لأي شَيْء قَالَ لِأَجلِك فَقَالَ لَهُم هَذَا مَا يحِق فَقَالُوا نَحن نَذْهَب إِلَى بيُوت هَؤُلَاءِ الَّذين آذوك فنقتلهم ونخرب دُورهمْ فَإِنَّهُم شوشوا على الْخلق وأثاروا هَذِه الْفِتْنَة على النَّاس فَقَالَ لَهُم هَذَا مَا يحل قَالُوا فَهَذَا الَّذِي قد فَعَلُوهُ مَعَك يحل هَذَا شَيْء لَا نصبر عَلَيْهِ وَلَا بُد أَن نروح إِلَيْهِم ونقاتلهم على مَا فعلوا وَالشَّيْخ ينهاهم ويزجرهم

فَلَمَّا أَكْثرُوا فِي القَوْل قَالَ لَهُم إِمَّا أَن يكون الْحق لي أَو لكم أَو لله فَإِن كَانَ الْحق لي فهم فِي حل مِنْهُ وَإِن كَانَ لكم فَإِن لم تسمعوا مني وَلَا تستفتوني فافعلوا مَا شِئْتُم وَإِن كَانَ الْحق لله فَالله يَأْخُذ حَقه إِن شَاءَ كَمَا يَشَاء قَالُوا فَهَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مَعَك هُوَ حَلَال لَهُم قَالَ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ قد يكونُونَ مثابين عَلَيْهِ مَأْجُورِينَ فِيهِ قَالُوا فَتكون أَنْت على الْبَاطِل وهم على الْحق فَإِذا كنت تَقول إِنَّهُم مَأْجُورِينَ فاسمع مِنْهُم وَوَافَقَهُمْ على قَوْلهم فَقَالَ لَهُم مَا الْأَمر كَمَا تَزْعُمُونَ فَإِنَّهُم قد يكونُونَ مجتهدين مخطئين فَفَعَلُوا ذَلِك باجتهادهم والمجتهد المخطىء لَهُ أجر فَلَمَّا قَالَ لَهُم ذَلِك قَالُوا فَقُمْ واركب مَعنا حَتَّى نجيء إِلَى الْقَاهِرَة فَقَالَ لَا وَسَأَلَ عَن وَقت الْعَصْر فَقيل لَهُ إِنَّه قريب فَقَامَ قَاصِدا إِلَى الْجَامِع لصَلَاة الْعَصْر فَقيل لَهُ يَا سَيِّدي قد تواصوا عَلَيْك ليقتلوك وَفِي الْجَامِع قد يتمكنون مِنْك بِخِلَاف غَيره فصل حَيْثُ كَانَ فَأبى إِلَّا الْمُضِيّ إِلَى الْجَامِع وَالصَّلَاة فِيهِ فَخرج وَتَبعهُ خلق كثير لَا يرجعُونَ عَنهُ فضاقت الطَّرِيق بِالنَّاسِ

فَقَالَ لَهُ من كَانَ قَرِيبا مِنْهُ ادخل إِلَى هَذَا الْمَسْجِد مَسْجِد فِي الطَّرِيق واقعد فِيهِ حَتَّى يخف النَّاس لِئَلَّا يَمُوت أحد من الزحام فَدخل وَلم يجلس فِيهِ ووقف وَأَنا مَعَه فَلَمَّا خف النَّاس خرج يطْلب الْجَامِع الْعَتِيق فَمر فِي طَرِيقه على قوم يَلْعَبُونَ بالشطرنج على مسطبة بعض حوانيت الحدادين فنفض الرقعة وقلبها فبهت الَّذِي يلْعَب بهَا وَالنَّاس من فعله ذَلِك ثمَّ مَشى قَاصِدا للجامع وَالنَّاس يَقُولُونَ هُنَا يقتلونه السَّاعَة يقتلونه فَلَمَّا وصل إِلَى الْجَامِع قيل السَّاعَة يغلق الْجَامِع عَلَيْهِ وعَلى أَصْحَابه وَيقْتلُونَ فَدخل الْجَامِع ودخلنا مَعَه فصلى رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا سلم مِنْهَا أذن الْمُؤَذّن بالعصر فصلى الْعَصْر ثمَّ افْتتح بِقِرَاءَة {الْحَمد لله رب الْعَالمين} ثمَّ تكلم فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي كَانَت الْفِتْنَة بِسَبَبِهَا إِلَى أَذَان الْمغرب فَخرج أَتبَاع خصومه وهم يَقُولُونَ وَالله لقد كُنَّا غالطين فِي هَذَا الرجل لقيامنا عَلَيْهِ وَالله إِن الَّذِي يَقُوله هَذَا هُوَ الْحق وَلَو تكلم هَذَا بِغَيْر الْحق لم نمهله إِلَى أَن يسكت بل كُنَّا نبادر إِلَى قَتله وَلَو كَانَ هَذَا يبطن خلاف مَا يظْهر لم يخف علينا وصاروا فرْقَتَيْن يُخَاصم بَعضهم بَعْضًا

واقعة أخرى في أذى الشيخ بمصر

قَالَ ورحنا مَعَ الشَّيْخ إِلَى بَيت ابْن عَمه على الْبَحْر فبتنا عِنْده وَاقعَة أُخْرَى فِي أَذَى الشَّيْخ بِمصْر وَقَالَ الشَّيْخ علم الدّين وَفِي الْعشْر الْأَوْسَط من رَجَب من سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة وَقع أَذَى فِي حق الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بِمصْر وظفر بِهِ بعض المبغضين لَهُ فِي مَكَان خَال وأساء عَلَيْهِ الْأَدَب وَحضر جمَاعَة كَثِيرَة من الْجند وَغَيرهم إِلَى الشَّيْخ بعد ذَلِك لأجل الِانْتِصَار لَهُ فَلم يجب إِلَى ذَلِك وَكتب إِلَيّ المقاتلي يذكر أَن ذَلِك وَقع من فَقِيه بِمصْر يعرف بالمبدي حصل مِنْهُ إساءة أدب ثمَّ بعد ذَلِك طلب وتودد وشفع فِيهِ جمَاعَة الشَّيْخ مَا تكلم وَلَا اشْتَكَى وَلَو حصل من شكوى أهين ذَلِك غَايَة الإهانة لَكِن قَالَ أَنا مَا أنتصر لنَفْسي وَأقَام الشَّيْخ بعد هَذَا مُدَّة بالديار المصرية خُرُوج الشَّيْخ إِلَى الشَّام مَعَ الْجَيْش الْمصْرِيّ ثمَّ إِنَّه توجه إِلَى الشأم صُحْبَة الْجَيْش الْمصْرِيّ قَاصِدا الْغُزَاة

ترجمة الشيخ عماد الدين ابن شيخ الحزاميين

فَلَمَّا وصل مَعَهم إِلَى عسقلان توجه إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَتوجه مِنْهُ إِلَى دمشق وَجعل طَرِيقه على عجلون وَبَعض بِلَاد السوَاد وَزرع وَوصل إِلَى دمشق فِي أول يَوْم من شهر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَسَبْعمائة وَمَعَهُ أَخَوَاهُ وَجَمَاعَة من أَصْحَابه وَخرج خلق كثير لتلقيه وسروا سُرُورًا عَظِيما بمقدمه وسلامته وعافيته وَكَانَ مجموغ غيبته عَن دمشق سبع سِنِين وَسبع جمع وَقد توفّي فِي أثْنَاء غيبَة الشَّيْخ عَن دمشق غير وَاحِد من كبار أَصْحَابه وساداتهم تَرْجَمَة الشَّيْخ عماد الدّين ابْن شيخ الحزاميين مِنْهُم الشَّيْخ الإِمَام الْقدْوَة الزَّاهِد الْعَارِف عماد الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ابراهيم بن عبد الرحمن الوَاسِطِيّ الْمَعْرُوف بِابْن شيخ الحزاميين توفّي يَوْم السبت السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر ربيع الآخر من سنة إِحْدَى عشرَة وَسَبْعمائة وَكَانَ رجلا صَالحا ورعا كَبِير الشَّأْن مُنْقَطِعًا إِلَى الله متوفرا على الْعِبَادَة والسلوك وَكَانَ قد كتب رِسَالَة وبعثها إِلَى جمَاعَة من أَصْحَاب الشَّيْخ وأوصاهم فِيهَا بملازمة الشَّيْخ والحث على اتِّبَاع طَرِيقَته وَأثْنى فِيهَا على الشَّيْخ ثَنَاء عَظِيما

كتاب نفيس جدا للشيخ عماد الدين في الثناء على الشيخ ابن تيمية والوصاية به

وَهَذِه نُسْخَة الرسَالَة الَّتِي كتبهَا كتاب نَفِيس جدا للشَّيْخ عماد الدّين فِي الثَّنَاء على الشَّيْخ ابْن تَيْمِية والوصاية بِهِ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله وَسُبْحَان الله وَبِحَمْدِهِ تقدس فِي علوه وجلاله وَتَعَالَى فِي صِفَات كَمَاله وتعاظم فِي سبحات فردانيته وجماله وتكرم فِي إفضاله وجمال نواله جلّ أَن يمثل بِشَيْء من مخلوقاته أَو يحاط بِهِ بل هُوَ الْمُحِيط بمبتدعاته لَا تصَوره الأوهام وَلَا تقله الأجرام وَلَا يعقل كنه ذَاته البصائر وَلَا الأفهام الْحَمد لله مؤيد الْحق وناصره ودافع الْبَاطِل وكاسره ومعز الطائع وجابره ومذل الْبَاغِي وداثره الَّذِي سعد بحظوة الاقتراب من قدسه من قَامَ بأعباء الِاتِّبَاع فِي بنانه وأسه وفاز بمحبوبيته فِي ميادين أنسه من بذل مايهواه فِي طلبه من قلبه وحسه وَتثبت فِي مهامه الشكوك منتظرا زَوَال لبسه سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ لَهُ الْمثل الْأَعْلَى والنور الأتم الأجلى والبرهان الظَّاهِر فِي الشَّرِيعَة المثلى

وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الَّذِي شهِدت لوحدانيته الْفطر وَأسلم لربوبيته ذُو الْعقل وَالنَّظَر وَظَهَرت أَحْكَامه فِي الْآي والسور وَتمّ اقتداره فِي تنزل الْقدر وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله الَّذِي شهِدت بنبوته الهواتف والأحبار فَكَانَ قبل ظُهُوره ينْتَظر وتلاحقت عِنْد مبعثه معجزاته من حنين الْجذع وانقياد الشّجر صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه أهل الخشية والحذر وَالْعلم الْمنور فهم قدوة التَّابِع للأثر وَبعد فَهَذِهِ رِسَالَة سطرها العَبْد الضَّعِيف الراجي رَحْمَة ربه وغفرانه وَكَرمه وامتنانه أَحْمد بن ابراهيم الوَاسِطِيّ عَامله الله بِمَا هُوَ أَهله فَإِنَّهُ أهل التَّقْوَى وَأهل الْمَغْفِرَة إِلَى إخوانه فِي الله السَّادة الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة الأتقياء ذَوي الْعلم النافع وَالْقلب الخاشع والنور الساطع الَّذين كساهم الله كسْوَة الِاتِّبَاع وَأَرْجُو من كرمه أَن يحققهم بحقائق الِانْتِفَاع السَّيِّد الْأَجَل الْعَالم الْفَاضِل فَخر الْمُحدثين ومصباح المتعبدين المتوجه إِلَى رب الْعَالمين تَقِيّ الدّين أبي حَفْص عمر بن عبد الله بن عبد الْأَحَد بن شقير

وَالشَّيْخ الْأَجَل الْعَالم الْفَاضِل السالك الناسك ذِي الْعلم وَالْعَمَل المكتسى من الصِّفَات الحميدة أجمل الْحلَل الشَّيْخ شمس الدّين مُحَمَّد بن عبد الْأَحَد الْآمِدِيّ وَالسَّيِّد الْأَخ الْعَالم الْفَاضِل السالك الناسك التقي الصَّالح الَّذِي سيماء نور قلبه لائح على صفحات وَجهه شرف الدّين مُحَمَّد بن المنجى وَالسَّيِّد الْأَخ الْفَقِيه الْعَالم النَّبِيل الْفَاضِل فَخر المحصلين زين الدّين عبد الرحمن بن مَحْمُود بن عُبَيْدَان البعلبكي وَالسَّيِّد الْأَخ الْعَالم الْفَاضِل السالك الناسك ذِي اللب الرَّاجِح وَالْعَمَل الصَّالح والسكينة الوافرة والفضيلة الغامرة نور الدّين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن الصَّائِغ وأخيه السَّيِّد الْأَخ الْعَالم التقي الصَّالح الْخَيْر الدّين الْعَالم الثِّقَة الْأمين الرَّاجِح ذِي السمت الْحسن وَالدّين المتين فِي اتِّبَاع السّنَن فَخر الدّين مُحَمَّد وَالْأَخ الْعَزِيز الصَّالح الطَّالِب لطريق ربه والراغب فِي مرضاته وحبه الْعَالم الْفَاضِل الْوَلَد شرف الدّين مُحَمَّد بن سعد الدّين سعد الله ابْن نجيح

وَغَيرهم من اللائذين بِحَضْرَة شيخهم وَشَيخنَا السَّيِّد الإِمَام الْأمة الْهمام محيي السّنة وقامع الْبِدْعَة نَاصِر الحَدِيث مفتي الْفرق الْفَائِق عَن الْحَقَائِق وموصلها بالأصول الشَّرْعِيَّة للطَّالِب الذائق الْجَامِع بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَهُوَ يقْضِي بِالْحَقِّ ظَاهرا وَقَلبه فِي العلى قاطن أنموذج الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَالْأَئِمَّة المهديين الَّذين غَابَتْ عَن الْقُلُوب سيرهم ونسيت الْأمة حذوهم وسبلهم فَذكرهمْ بهَا الشَّيْخ فَكَانَ فِي دارس نهجهم سالكا ولموات حذوهم محييا ولأعنة قواعدهم مَالِكًا الشَّيْخ الإِمَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الحيم بن عبد السلام ابْن تَيْمِية أعَاد الله علينا بركته وَرفع إِلَى مدارج العلى دَرَجَته وأدام توفيق السَّادة المبدو بذكرهم وتسديدهم وأجزل لَهُم حظهم ومزيدهم السَّلَام عَلَيْكُم معشر الإخوان وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته جعلنَا الله وَإِيَّاكُم مِمَّن ثَبت على قرع نَوَائِب الْحق جأشه واحتسب لله مَا بذله من نَفسه فِي إِقَامَة دينه وَمَا احتوشته من ذَلِك وحاشه واحتذى حَذْو السَّبق الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين لم تأخذهم فِي الله لومة لائم

فَمَا ضرهم من خذلهم وَلَا من خالفهم مَعَ قلَّة عَددهمْ فِي أول الْأَمر فَكَانُوا مَعَ ذَلِك كل مِنْهُم مُجَاهِد بدين الله قَائِم وَنَرْجُو من كرم الله تَعَالَى أَن يوفقنا لأعمالهم ويرزق قُلُوبنَا قسطا من أَحْوَالهم وينظمنا فِي سلكهم تَحت سجفتهم ولوائهم مَعَ قائدهم وإمامهم سيد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ مُحَمَّد صلوَات الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ أذكركم رحمكم الله بِمَا أَنْتُم بِهِ عالمون عملا بقوله تَعَالَى {وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ} وأبدأ من ذَلِك بِأَن أوصِي نَفسِي وَإِيَّاكُم بتقوى الله وَهِي وَصِيَّة الله تَعَالَى إِلَيْنَا وَإِلَى الْأُمَم من قبلنَا كَمَا بَين سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَائِلا وموصيا {وَلَقَد وصينا الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَإِيَّاكُم أَن اتَّقوا الله} وَقد علمْتُم تفاصيل التَّقْوَى على الْجَوَارِح والقلوب بِحَسب الْأَوْقَات وَالْأَحْوَال من الْأَقْوَال والأعمال والإرادات والنيات وَيَنْبَغِي لنا جَمِيعًا أَن لَا نقنع من الْأَعْمَال بصورها حَتَّى نطالب قُلُوبنَا بَين يَدي الله تَعَالَى بحقائقها وَمَعَ ذَلِك فلتكن لنا همة علوِيَّة تترامى إِلَى أوطان الْقرب ونفحات المحبوبية وَالْحب فالسعيد من حظي من ذَلِك بِنَصِيب وَكَانَ مَوْلَاهُ مِنْهُ على سَائِر الْأَحْوَال قَرِيبا بِخُصُوص التَّقْرِيب مِنْهُ

فيكتسى العَبْد من ذَلِك ثَمَرَة الخشية والتعظيم للعزيز الْعَظِيم فالحب والخشية ثابتان فِي الْكتاب الْعَزِيز وَالسّنة المأثورة قَالَ تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} وَفِي الحَدِيث أَسأَلك حبك وَحب من أحبك وَحب عمل يقربنِي إِلَى حبك وَفِي الحَدِيث لَو تعلمُونَ مَا أعلم لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إِلَى الصعدات تجأرون إِلَى الله وَمَعْلُوم أَن النَّاس يتفاوتون فِي مقامات الْحبّ والخشية فِي مقَام أَعلَى من مقَام وَنصِيب أرفع من نصيب فلتكن همة أَحَدنَا من مقامات الْحبّ والخشية أَعْلَاهُ وَلَا يقنع إِلَّا بذروته وذراه فالهمم القصيرة

تقنع بأيسر نصيب والهمم الْعلية تعلو مَعَ الأنفاس إِلَى قريب الحبيب لَا يشغلنا عَن ذَلِك مَا هُوَ دونه من الْفَضَائِل والعاقل لَا يقنع بِأَمْر مفضول عَن حَال فَاضل ولتكن الهمة منقسمة على نيل الْمَرَاتِب الظَّاهِرَة وَتَحْصِيل المقامات الْبَاطِنَة فَلَيْسَ من الْإِنْصَاف الانصباب إِلَى الظَّوَاهِر والتشاغل عَن المطالب العلوية ذَوَات الْأَنْوَار البواهر وَليكن لنا جَمِيعًا بَين اللَّيْل وَالنَّهَار سَاعَة نخلو فِيهَا بربنا جلّ اسْمه وَتَعَالَى قدسه نجمع بَين يَدَيْهِ فِي تِلْكَ السَّاعَة همومنا ونطرح أشغال الدُّنْيَا من قُلُوبنَا فنزهد فِيمَا سوى الله سَاعَة من نَهَار فبذلك يعرف الْإِنْسَان حَاله مَعَ ربه فَمن كَانَ لَهُ مَعَ ربه حَال تحركت فِي تِلْكَ السَّاعَة عَزَائِمه وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره وطارت إِلَى العلى زفراته وكوامنه وَتلك السَّاعَة أنموذج لحالة العَبْد فِي قَبره حِين خلوه عَن مَاله وحبه فَمن لم يخل قلبه لله سَاعَة من نَهَار لما احتوشه من الهموم الدُّنْيَوِيَّة وَذَوَات الآصار فَليعلم أَنه لَيْسَ لَهُ ثمَّ رابطة علوِيَّة وَلَا نصيب من الْمحبَّة وَلَا المحبوبية فليبك على نَفسه وَلَا يرضى مِنْهَا إِلَّا بِنَصِيب من قرب ربه وأنسه فَإِذا حصلت لله تِلْكَ السَّاعَة أمكن إِيقَاع الصَّلَوَات الْخمس على نمطها من الْحُضُور والخشوع والهيبة للرب الْعَظِيم فِي السُّجُود وَالرُّكُوع

فَلَا يَنْبَغِي لنا أَن نبخل على أَنْفُسنَا فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة من أَربع وَعشْرين سَاعَة بساعة وَاحِدَة لله الْوَاحِد القهار نعبده فِيهَا حق عِبَادَته ثمَّ نجتهد على إِيقَاع الْفَرَائِض على ذَلِك النهج فِي رعايته وَذَلِكَ طَرِيق لنا جَمِيعًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِلَى النّفُوذ فالفقيه إِذا لم ينفذ فِي علمه حصل لَهُ الشّطْر الظَّاهِر وَفَاته الشّطْر الْبَاطِن لإتصاف قلبه بالجمود وَبعده فِي الْعباد والتلاوة عَن لين الْقُلُوب والجلود كَمَا قَالَ تَعَالَى {تقشعر مِنْهُ جُلُود الَّذين يَخْشونَ رَبهم ثمَّ تلين جُلُودهمْ وَقُلُوبهمْ إِلَى ذكر الله} وَبِذَلِك يرتقي الْفَقِيه عَن فُقَهَاء عصرنا ويتميز بِهِ عَنْهُم فالنافذ من الْفُقَهَاء لَهُ البصيرة المنورة والذوق الصَّحِيح والفراسة الصادقة والمعرفة التَّامَّة وَالشَّهَادَة على غَيره بِصَحِيح الْأَعْمَال وسقيمها وَمن لم ينفذ لم تكن لَهُ هَذِه الخصوصية وَأبْصر بعض الْأَشْيَاء وَغَابَ عَنهُ بَعْضهَا فَيتَعَيَّن علينا جَمِيعًا طلب النّفُوذ إِلَى حَضْرَة قرب المعبود ولقائه بذوق الإيقان لنعبده كأننا نرَاهُ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث

وَبعد ذَلِك الحظوة فِي هَذِه الدَّار بلقاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غيبا فِي غيب وسرا فِي سر بالعكوف على معرفَة أَيَّامه وسننه واتباعها فَتبقى البصيرة شاخصة إِلَيْهِ ترَاهُ عيَانًا فِي الْغَيْب كَأَنَّهَا مَعَه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي أَيَّامه فيجاهد على دينه ويبذل مَا اسْتَطَاعَ من نَفسه فِي نصرته وَكَذَلِكَ من سلك فِي طَرِيق النّفُوذ يُرْجَى لَهُ أَن يلقى ربه بِقَلْبِه غيبا فِي غيب وسرا فِي سر فيرزق الْقلب قسطا من الْمحبَّة والخشية والتعظيم اليقيني فَيرى الْحَقَائِق بِقَلْبِه من وَرَاء ستر رَقِيق وَذَلِكَ هُوَ الْمعبر عَنهُ بالنفوذ ويصل إِلَى قلبه من وَرَاء ذَلِك السّتْر مَا يغمره من أنوار العظمة والجلال والبهاء والكمال فيتنور الْعلم الَّذِي اكْتَسبهُ العَبْد وَيبقى لَهُ كَيْفيَّة أُخْرَى زَائِدَة على الْكَيْفِيَّة الْمَعْهُودَة من الْبَهْجَة والأنوار وَالْقُوَّة فِي الإعلان والإسرار فَلَا يَنْبَغِي لنا أَن نتشاغل عَن نيل هَذِه الموهبة السّنيَّة بشواغل الدُّنْيَا وهمومها فننقطع بذلك كَمَا تقدم بالشَّيْء الْمَفْضُول عَن الْأَمر المهم الْفَاضِل فَإِذا سلكنا فِي ذَلِك بُرْهَة من الزَّمَان ورزقنا الله تَعَالَى نفوذا وتمكنا فِي ذَلِك النّفُوذ فَلَا تعود هَذِه الْعَوَارِض الجزئيات الكونيات تُؤثر فِينَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى

فصل

وَليكن شَأْن أَحَدنَا الْيَوْم التَّعْدِيل بَين الْمصَالح الدُّنْيَوِيَّة والفضائل العلمية والتوجهات القلبية وَلَا يقنع أَحَدنَا بِأحد هَذِه الثَّلَاثَة عَن الآخرين فيفوته الْمَطْلُوب وَمَتى اجْتهد فِي التَّعْدِيل فَإِنَّهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى بِقدر مَا يحصل للْعَبد جُزْء من احدهم حصل جُزْءا من الآخر ثمَّ بِالصبرِ عل ذَلِك تَجْتَمِع الْأَجْزَاء المحصلة فَتَصِير مرتبَة عالية عِنْد النِّهَايَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى هَذَا وَإِن كُنْتُم أيدكم الله تَعَالَى بذلك عَالمين لَكِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ فصل وَاعْلَمُوا أيدكم الله أَنه يجب عَلَيْكُم أَن تشكروا ربكُم تَعَالَى فِي هَذَا الْعَصْر حَيْثُ جعلكُمْ بَين جَمِيع أهل هَذَا الْعَصْر كَالشَّامَةِ الْبَيْضَاء فِي الْحَيَوَان الْأسود لَكِن من لم يُسَافر إِلَى الأقطار وَلم يتعرف أَحْوَال النَّاس لَا يدْرِي قدر مَا هُوَ فِيهِ من الْعَافِيَة فَأنْتم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي حق هَذِه الْأمة الأولى كَمَا قَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه} وكما

قَالَ تَعَالَى {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور} أَصْبَحْتُم إخْوَانِي تَحت سنجق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ الله تَعَالَى مَعَ شيخكم وإمامكم وَشَيخنَا وإمامنا المبدوء بِذكرِهِ رَضِي الله عَنهُ قد تميزتم عَن جَمِيع أهل الأَرْض فقهائها وفقرائها وصوفيتها وعوامها بِالدّينِ الصَّحِيح وَقد عَرَفْتُمْ مَا أحدث النَّاس من الْأَحْدَاث فِي الْفُقَهَاء والفقراء والصوفية والعوام فَأنْتم الْيَوْم فِي مُقَابلَة الْجَهْمِية من الْفُقَهَاء نصرتم الله وَرَسُوله فِي حفظ مَا أضاعوه من دين الله تصلحون مَا أفسدوه من تَعْطِيل صِفَات الله وَأَنْتُم أَيْضا فِي مُقَابلَة من لم ينفذ فِي علمه من الْفُقَهَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وجمد على مُجَرّد تَقْلِيد الْأَئِمَّة فَإِنَّكُم قد نصرتم الله وَرَسُوله فِي تَنْفِيذ الْعلم إِلَى أُصُوله من الْكتاب وَالسّنة واتحاد أَقْوَال الْأَئِمَّة تأسيا بهم لَا تقليدا لَهُم وَأَنْتُم أَيْضا فِي مُقَابلَة مَا أحدثته أَنْوَاع الْفُقَرَاء من الأحمدية والحريرية

من إِظْهَار شعار المكاء والتصدية ومؤاخاة النِّسَاء وَالصبيان والإعراض عَن دين الله إِلَى خرافات مكذوبة عَن مشايخهم واستنادهم إِلَى شيوخهم وتقليدهم فِي صائب حركاتهم وخطائها وإعراضهم عَن دين الله الَّذِي أنزلهُ من السَّمَاء فَأنْتم بِحَمْد الله تجاهدون هَذَا الصِّنْف أَيْضا كَمَا تجاهدون من سبق حفظتم من دين الله مَا أضاعوه وعرفتم مَا جهلوه تقومون من الدّين مَا عوجوه وتصلحون مِنْهُ مَا أفسدوه

وَأَنْتُم أَيْضا فِي مُقَابلَة رسمية الصُّوفِيَّة وَالْفُقَهَاء وَمَا أحدثوه من الرسوم الوضعية والآصار الابتداعية من التصنع باللباس والإطراق والسجادة لنيل الرزق من الْمَعْلُوم وَلبس البقيار والأكمام الواسعة فِي حَضْرَة الدَّرْس وتنميق الْكَلَام والعدو بَين يَدي الْمدرس راكعين حفظا للمناصب واستجلابا للرزق والإدرار فخلط هَؤُلَاءِ فِي عبَادَة الله غَيره وتألهوا سواهُ ففسدت قُلُوبهم من حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ يَجْتَمعُونَ لغير الله بل للمعلوم وَيلبسُونَ للمعلوم وَكَذَلِكَ فِي أغلب حركاتهم يراعون وُلَاة الْمَعْلُوم فضيعوا كثيرا من دين الله وأماتوه وحفظتم أَنْتُم مَا ضيعوه وقومتم مَا عوجوه وَكَذَلِكَ أَنْتُم فِي مُقَابلَة مَا أحدثته الزَّنَادِقَة من الْفُقَرَاء والصوفية من قَوْلهم بالحلول والاتحاد وتأله الْمَخْلُوقَات كاليونسية والعربية والصدرية والسبعينية والتلمسانية فَكل هَؤُلَاءِ بدلُوا دين الله تَعَالَى وقلبوه وأعرضوا عَن شَرِيعَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاليونسية يتألهون شيخهم ويجعلونه مظْهرا للحق ويستهينون بالعبادات ويظهرون بالفرعنة والصولة والسفاهة والمحالات لما وقر فِي بواطنهم من الخيالات الْفَاسِدَة وقبلتهم الشَّيْخ يُونُس وَرَسُول الله

وبالله المستعان

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْقُرْآن الْمجِيد عَنْهُم بمعزل يُؤمنُونَ بِهِ بألسنتهم ويكفرون بِهِ بأفعالهم وَكَذَلِكَ الاتحادية يجْعَلُونَ الْوُجُود مظْهرا للحق بِاعْتِبَار أَن لَا متحرك فِي السّكُون سواهُ وَلَا نَاطِق فِي الْأَشْخَاص غَيره وَفِيهِمْ من لَا يفرق بَين الظَّاهِر والمظهر فَيجْعَل الْأَمر كموج الْبَحْر فَلَا يفرق بَين عين الموجة وَبَين عين الْبَحْر حَتَّى إِن أحدهم يتَوَهَّم أَنه الله فينطق على لِسَانه ثمَّ يفعل مَا أَرَادَ من الْفَوَاحِش والمعاصي لِأَنَّهُ يعْتَقد ارْتِفَاع الثنوية فَمن العابد وَمن المعبود صَار الْكل وَاحِدًا اجْتَمَعنَا بِهَذَا الصِّنْف فِي الرَّبْط والزوايا فَأنْتم بِحَمْد الله قائمون فِي وَجه هَؤُلَاءِ أَيْضا تنْصرُونَ الله وَرَسُوله وتذبون عَن دينه وتعملون على إصْلَاح مَا أفسدوا وعَلى تَقْوِيم مَا عوجوا فَإِن هَؤُلَاءِ محوا رسم الدّين وقلعوا أَثَره فَلَا يُقَال أفسدوا وَلَا عوجوا بل بالغوا فِي هدم الدّين ومحوا أَثَره وَلَا قربَة أفضل عِنْد الله من الْقيام بجهاد هَؤُلَاءِ بمهما أمكن وتبيين مذاهبهم للخاص وَالْعَام وَكَذَلِكَ جِهَاد كل من ألحد فِي دين الله وزاغ عَن حُدُوده وشريعته كَائِنا فِي ذَلِك مَا كَانَ من فتْنَة وَقَول كَمَا قيل ... إِذا رَضِي الحبيب فَلَا أُبَالِي ... أَقَامَ الْحَيّ أم جد الرحيل ... وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان

وَكَذَلِكَ أَنْتُم بِحَمْد الله قائمون بجهاد الْأُمَرَاء والأجناد تصلحون مَا أفسدوا من الْمَظَالِم والإجحافات وَسُوء السِّيرَة الناشئة عَن الْجَهْل بدين الله بِمَا أمكن وَذَلِكَ لبعد الْعَهْد عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْيَوْم لَهُ سَبْعمِائة سنة فَأنْتم بِحَمْد الله تجددون مَا دثر من ذَلِك ودثر وَكَذَلِكَ أَنْتُم بِحَمْد الله قائمون فِي وُجُوه الْعَامَّة مِمَّا أَحْدَثُوا من تَعْظِيم الميلادة والقلندس وخميس الْبيض والشعانين وتقبيل الْقُبُور والأحجار والتوسل عِنْدهَا وَمَعْلُوم أَن ذَلِك كُله من شَعَائِر النَّصَارَى والجاهلية وَإِنَّمَا بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليوحد الله ويعبد وَحده وَلَا يأله مَعَه شَيْء من مخلوقاته بَعثه الله تَعَالَى نَاسِخا لجَمِيع الشَّرَائِع والأديان والأعياد فَأنْتم بِحَمْد الله قائمون بإصلاح مَا أفسد النَّاس من ذَلِك وقائمون فِي وُجُوه من ينصر هَذِه الْبدع من مارقي الْفُقَهَاء أهل الكيد والضرار لأولياء الله أهل الْمَقَاصِد الْفَاسِدَة والقلوب الَّتِي هِيَ عَن نصر الْحق حائدة وَإِنَّمَا أعرض هَذَا الضَّعِيف عَن ذكر قيامكم فِي وُجُوه التتر وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود والرافضة والمعتزلة والقدرية وأصناف أهل الْبدع والضلالات

لِأَن النَّاس متفقون على ذمهم يَزْعمُونَ أَنهم قائمون برد بدعتهم وَلَا يقومُونَ بتوفية حق الرَّد عَلَيْهِم كَمَا تقومون بل يعلمُونَ ويجبنون عَن اللِّقَاء فَلَا يجاهدون وتأخذهم فِي الله اللائمة لحفظ مناصبهم وإبقاء على أعراضهم سافرنا الْبِلَاد فَلم نر من يقوم بدين الله فِي وُجُوه مثل هَؤُلَاءِ حق الْقيام سواكم فَأنْتم القائمون فِي وُجُوه هَؤُلَاءِ إِن شَاءَ الله بقيامكم بنصرة شيخكم وَشَيخنَا أيده الله حق الْقيام بِخِلَاف من ادّعى من النَّاس أَنهم يقومُونَ بذلك فصبرا يَا إخْوَانِي على مَا أقامك الله فِيهِ من نصْرَة دينه وتقويم اعوجاجه وخذلان أعدائه وَاسْتَعِينُوا بِاللَّه وَلَا تأخذكم فِيهِ لومة لائم وَإِنَّمَا هِيَ أَيَّام قَلَائِل وَالدّين مَنْصُور قد تولى الله إِقَامَته وَنَصره ونصرة من قَامَ بِهِ من أوليائه إِن شَاءَ الله ظَاهرا وَبَاطنا وابذلوا فِيمَا أقمتم فِيهِ مَا أمكنكم من الْأَنْفس وَالْأَمْوَال وَالْأَفْعَال والأقوال عَسى أَن تلحقوا بذلك بسلفكم أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَقَد عَرَفْتُمْ مَا لقوا فِي ذَات الله كَمَا قَالَ خبيب حِين صلب على الْجذع

.. وَذَلِكَ فِي ذَات الْإِلَه وَإِن يَشَأْ ... يُبَارك على أوصال شلو ممزع ... وَقد عَرَفْتُمْ مَا لَقِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الضّر والفاقة فِي شعب بني هَاشم وَمَا لَقِي السَّابِقُونَ الْأَولونَ من التعذيب وَالْهجْرَة

فصل

إِلَى الْحَبَشَة وَمَا لَقِي الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فِي أحد وَفِي بِئْر مَعُونَة وَفِي قتال أهل الرِّدَّة وَفِي جِهَاد الشأم وَالْعراق وَغير ذَلِك وانظروا كَيفَ بذلوا نُفُوسهم وَأَمْوَالهمْ لله حبا لَهُ وشوقا إِلَيْهِ فَكَذَلِك أَنْتُم رحمكم الله كل مِنْكُم على قدر إِمْكَانه واستطاعته بِفِعْلِهِ وَبِقَوْلِهِ وبخطه وبقلبه وبدعائه كل ذَلِك جِهَاد أَرْجُو أَن لَا يخيب من عَامل الله بِشَيْء من ذَلِك إِذْ لَا عَيْش إِلَّا فِي ذَلِك وَلَو لم يكن فِيهِ إِلَّا هممكم مزاحمة لأهل الزيغ مشوشة لَهُم تبغضونهم فِي الله وتطلبون استقامتهم فِي دين الله وَذَلِكَ من الْجِهَاد الْبَاطِن إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل ثمَّ اعرفوا إخْوَانِي حق مَا أنعم الله عَلَيْكُم من قيامكم بذلك واعرفوا طريقكم إِلَى ذَلِك واشكروا الله تَعَالَى عَلَيْهَا وَهُوَ أَن أَقَامَ لكم وَلنَا فِي هَذَا الْعَصْر مثل سيدنَا الشَّيْخ الَّذِي فتح الله بِهِ أقفال الْقُلُوب وكشف بِهِ عَن البصائر عمى الشُّبُهَات وحيرة الضلالات حَيْثُ تاه الْعقل بَين هَذِه الْفرق وَلم يهتد إِلَى حَقِيقَة دين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن الْعجب أَن كلا مِنْهُم يَدعِي أَنه على دين الرَّسُول حَتَّى

فصل

كشف الله لنا وَلكم بِوَاسِطَة هَذَا الرجل عَن حَقِيقَة دينه الَّذِي أنزلهُ من السَّمَاء وارتضاه لِعِبَادِهِ وَاعْلَمُوا أَن فِي آفَاق الدُّنْيَا أَقْوَامًا يعيشون أعمارهم بَين هَذِه الْفرق يَعْتَقِدُونَ أَن تِلْكَ الْبدع حَقِيقَة الْإِسْلَام فَلَا يعْرفُونَ الْإِسْلَام إِلَّا هَكَذَا فاشكروا الله الَّذِي أَقَامَ لكم فِي رَأس السبعمائة من الْهِجْرَة من بَين لكم أَعْلَام دينكُمْ وهداكم الله بِهِ وإيانا إِلَى نهج شَرِيعَته وَبَين لكم بِهَذَا النُّور المحمدي ضلالات الْعباد وانحرافاتهم فصرتم تعرفُون الزائغ من الْمُسْتَقيم وَالصَّحِيح من السقيم وَأَرْجُو أَن تَكُونُوا أَنْتُم الطَّائِفَة المنصورة الَّذين لَا يضرهم من خذلهم وَلَا من خالفهم وهم بالشأم إِن شَاءَ الله تَعَالَى فصل ثمَّ إِذا علمْتُم ذَلِك فاعرفوا حق هَذَا الرجل الَّذِي هُوَ بَين أظْهركُم وَقدره وَلَا يعرف حَقه وَقدره إِلَّا من عرف دين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحقه وَقدره فَمن وَقع دين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قلبه بموقع يسْتَحقّهُ عرف حق مَا قَامَ بِهِ هَذَا الرجل بَين أظهر عباد الله يقوم معوجهم وَيصْلح فسادهم ويلم شعثهم جهد إِمْكَانه فِي الزَّمَان المظلم الَّذِي انحرف فِيهِ الدّين وجهلت السّنَن

وعهدت الْبدع وَصَارَ الْمَعْرُوف مُنْكرا وَالْمُنكر مَعْرُوفا والقابض على دينه كالقابض على الْجَمْر فَإِن أجر من قَامَ بِإِظْهَار هَذَا النُّور فِي هَذِه الظُّلُمَات لَا يُوصف وخطره لَا يعرف هَذَا إِذا عرفتموه أَنْتُم من حيثية الْأَمر الشَّرْعِيّ الظَّاهِر فَهُنَا قوم عرفوه من حيثية أُخْرَى من الْأَمر الْبَاطِن وَمن يَقُودهُ إِلَى معرفَة أَسمَاء الله تَعَالَى وَصِفَاته وعظمة ذَاته واتصال قلبه بأشعة أنوارها والاحتظاء من خصائصها وَأَعْلَى أذواقها ونفوذه من الظَّاهِر إِلَى الْبَاطِن وَمن الشَّهَادَة إِلَى الْغَيْب وَمن الْغَيْب إِلَى الشَّهَادَة وَمن عَالم الْخلق إِلَى عَالم الْأَمر وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يُمكن شَرحه فِي كتاب فشيخكم أيدكم الله تَعَالَى عَارِف بذلك عَارِف بِأَحْكَام الله الشَّرْعِيَّة عَارِف بأحكامه الْقَدَرِيَّة عَارِف بِأَحْكَام أَسْمَائِهِ وَصِفَاته الذاتية وَمثل هَذَا الْعَارِف قد يبصر ببصيرته تنزل الْأَمر بَين طَبَقَات السَّمَاء وَالْأَرْض كَمَا قَالَ تَعَالَى {الله الَّذِي خلق سبع سماوات وَمن الأَرْض مِثْلهنَّ يتنزل الْأَمر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَن الله على كل شَيْء قدير وَأَن الله قد أحَاط بِكُل شَيْء علما}

فَالنَّاس يحسون بِمَا يجْرِي فِي عَالم الشَّهَادَة وَهَؤُلَاء بصائرهم شاخصة إِلَى الْغَيْب ينتظرون مَا تجْرِي بِهِ الأقدار يَشْعُرُونَ بهَا أَحْيَانًا عِنْد تنزلها فَلَا تهونوا أَمر مثل هَؤُلَاءِ فِي انبساطهم مَعَ الْخلق واشتغال أوقاتهم بهم فَإِنَّهُم كَمَا حكى عَن الْجُنَيْد رَحمَه الله أَنه قيل لَهُ كم تنادى على الله تَعَالَى بَين الْخلق فَقَالَ أَنا أنادي على الْخلق بَين يَدي الله فَالله الله فِي حفظ الْأَدَب مَعَه والانفعال لأوامره وَحفظ حرماته فِي الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَحب من أحبه ومجانبة من أبغضه وتنقصه ورد غيبته والانتصار لَهُ فِي الْحق وَاعْلَمُوا رحمكم الله أَن هُنَا من سَافر إِلَى الأقاليم وَعرف النَّاس وأذواقهم وأشرف على غَالب أَحْوَالهم فوَاللَّه ثمَّ وَالله ثمَّ وَالله لم ير أَدِيم تَحت السَّمَاء مثل شيخكم علما وَعَملا وَحَالا وخلفا واتباعا وكرما وحلما فِي حق نَفسه وقياما فِي حق الله عِنْد انتهاك حرماته أصدق النَّاس عقدا وأصحهم علما وعزما وأنفذهم وَأَعْلَاهُمْ فِي انتصار الْحق وقيامه همة وأسخاهم كفا وأكملهم اتبَاعا لنَبيه مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

مَا رَأينَا فِي عصرنا هَذَا من تستجلى النُّبُوَّة المحمدية وسنتها من أَقْوَاله وأفعاله إِلَّا هَذَا الرجل بِحَيْثُ يشْهد الْقلب الصَّحِيح أَن هَذَا هُوَ الِاتِّبَاع حَقِيقَة وَبعد ذَلِك كُله فَقَوْل الْحق فَرِيضَة فَلَا ندعي فِيهِ الْعِصْمَة عَن الْخَطَأ وَلَا ندعي إكماله لغايات الخصائص الْمَطْلُوبَة فقد يكون فِي بعض الناقصين خُصُوصِيَّة مَقْصُودَة مَطْلُوبَة لَا يتم الْكَمَال إِلَّا بهاتيك الخصوصية وَهَذَا الْقدر لَا يجهله منصف عَارِف وَلَوْلَا أَن قَول الْحق فَرِيضَة والتعصب للْإنْسَان هوى لأعرضت عَن ذكر هَذَا لَكِن يجب قَول الْحق إِن سَاءَ أَو سر وَالله الْمُسْتَعَان إِذا علمْتُم ذَلِك أيدكم الله تَعَالَى فاحفظوا قلبه فَإِن مثل هَذَا قد يدعى عَظِيما فِي ملكوت السَّمَاء وَاعْمَلُوا على رِضَاهُ بِكُل مُمكن واستجلبوا وده لكم وحبه إيَّاكُمْ بمهما قدرتم عَلَيْهِ فَإِن مثل هَذَا يكون شَهِيدا وَالشُّهَدَاء فِي الْعَصْر تبع لمثله فَإِن حصلت لكم محبته رَجَوْت لكم بذلك خُصُوصِيَّة أكتمها وَلَا أذكرها وَرُبمَا يفْطن لَهَا الأذكياء مِنْكُم وَرُبمَا سمحت نَفسِي بذكرها كَيْلا أكتم عَنْكُم نصحي وَتلك الخصوصية هِيَ أَن تُرْزَقُوا قسطا من نصِيبه الْخَاص المحمدي

فصل

مَعَ الله تَعَالَى فَإِن ذَلِك إِنَّمَا يسري بِوَاسِطَة محبَّة الشَّيْخ للمريد واستجلاب المريد محبَّة الشَّيْخ بتأتيه مَعَه وَحفظ قلبه وخاطره واستجلاب وده ومحبته فأرجو بذلك لكم قسطا مِمَّا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فضلا عَمَّا تكسبونه من ظَاهر علمه وفوائده وسياسته إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأَرْجُو أَنكُمْ إِذا فتحتم بَيْنكُم وَبَين ربكُم تَعَالَى بِصَحِيح الْمُعَامَلَة بِحِفْظ تِلْكَ السَّاعَة فِي الصَّلَوَات الْخمس والتهجد أَن ينفتح لكم معرفَة حَقِيقَة هَذَا الرجل ونبأه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِنَّمَا ذكرت حفظ السَّاعَة وَإِن كَانَ فِي الصَّلَوَات الْخمس كِفَايَة إِذا قَامَ العَبْد فِيهَا لحق الله تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَن الصَّلَوَات قد تهجم على العَبْد وَقَلبه مَأْخُوذ فِي جواذب الظَّاهِر فَلَا يعرف نصيب قلبه من ربه فِيهَا فَإِذا كَانَ للْعَبد سَاعَة بَين اللَّيْل وَالنَّهَار عرف فِيهَا نصيب قلبه من ربه فَإِذا جَاءَت الصَّلَوَات عرف فِيهَا حَاله وزياديه ونقصانه بِاعْتِبَار حَالَته مَعَ ربه فِي تِلْكَ السَّاعَة وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَان فصل وَإِذا عَرَفْتُمْ قدر دين الله تَعَالَى الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ

وَسلم وعرفتم قدر حقائق الدّين الَّذِي يعبر عَنهُ بالنفوذ إِلَى الله تَعَالَى والحظوة بِقُرْبِهِ ثمَّ عَرَفْتُمْ اجْتِمَاع الْأَمريْنِ فِي شخص معِين ثمَّ عَرَفْتُمْ انحراف الْأمة عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَقيام الرجل الْمعِين الْجَامِع للظَّاهِر وَالْبَاطِن فِي وُجُوه المنحرفين بنصر الله تَعَالَى وَدينه وَيقوم معوجهم ويلم شعثهم وَيصْلح فاسدهم ثمَّ سَمِعْتُمْ بعد ذَلِك طعن طَاعن عَلَيْهِ من اصحابه أَو من غَيرهم فَإِنَّهُ لَا يخفى عَنْك محق هُوَ أَو مُبْطل إِن شَاءَ الله وبرهان ذَلِك أَن المحق طَالب الْهدى وَالْحق بغرض عِنْد من أنكر عَلَيْهِ ذَلِك الْفِعْل الَّذِي أنكرهُ إِمَّا بِصِيغَة السُّؤَال أَو الِاسْتِفْهَام بالتلطف عَن ذَلِك النَّقْص الَّذِي رَآهُ فِيهِ أَو بلغه عَنهُ فَإِن وجد هُنَاكَ اجْتِهَادًا أَو رَأيا أَو حجَّة قنع بذلك وَأمْسك وَلم يفش ذَلِك إِلَى غَيره إِلَّا مَعَ إِقَامَة مَا بَينه من الِاجْتِهَاد أَو الرَّأْي أَو الْحجَّة ليسد الْخلَل بذلك فَمثل هَذَا يكون طَالب هدى محبا ناصحا يطْلب الْحق ويروم تَقْوِيم أستاذه عَن انحرافه بتعريفه وتفويضه كَمَا يروم أستاذه تقويمه كَمَا قَالَ بعض الْخُلَفَاء الرشدين وَلَا يحضرني اسْمه إِذا اعوججت فقوموني

فَهَذَا حق وَاجِب بَين الْأُسْتَاذ والطالب فَإِن الْأُسْتَاذ يطْلب إِقَامَة الْحق على نَفسه ليقوم بِهِ ويتهم نَفسه أَحْيَانًا ويتعرف أَحْوَاله من غَيره مِمَّا عِنْده من النصفة وَطلب الْحق والحذر من الْبَاطِل كَمَا يطْلب المريد ذَلِك من شَيْخه من التَّقْوِيم وَإِصْلَاح الْفَاسِد من الْأَعْمَال والأقوال وَمن براهين المحق أَن يكون عدلا فِي مدحه عدلا فِي ذمه لَا يحملهُ الْهوى عِنْد وجود المُرَاد على الإفراط فِي الْمَدْح ولايحمله الْهوى عِنْد تعذر الْمَقْصُود على نِسْيَان الْفَضَائِل والمناقب وتعديد المساوىء والمثالب فالمحق فِي حالتي غَضَبه وَرضَاهُ ثَابت على مدح من مدحه وَأثْنى عَلَيْهِ ثَابت على ذمّ من ثلبه وَحط عَلَيْهِ وَأما من عمل كراسة فِي عد مثالب هَذَا الرجل الْقَائِم بِهَذِهِ الصِّفَات الْكَامِلَة بَين أَصْنَاف هَذَا الْعَالم المنحرف فِي هَذَا الزَّمَان المظلم ثمَّ ذكر مَعَ ذَلِك شَيْئا من فضائله وَيعلم أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود ذكر الْفَضَائِل بل الْمَقْصُود تِلْكَ المثالب ثمَّ أَخذ الكراسة يقْرؤهَا على أَصْحَابه وَاحِدًا وَاحِدًا فِي خلْوَة يُوقف بذلك هَمهمْ عَن شيخهم وَيُرِيهمْ قدحا فِيهِ فَإِنِّي أستخير الله تَعَالَى وأجتهد رَأْيِي فِي مثل هَذَا الرجل وَأَقُول

انتصارا لمن ينصر دين الله بَين اعداء الله فِي رَأس السبعمائة فَإِن نصْرَة مثل هَذَا الرجل وَاجِبَة على كل مُؤمن كَمَا قَالَ ورقة بن نَوْفَل لَئِن أدركني يَوْمك لأنصرنك نصرا مؤزرا ثمَّ أسأَل الله تَعَالَى الْعِصْمَة فِيمَا أَقُول عَن تعدِي الْحُدُود والإخلاد إِلَى الْهوى أَقُول مثل هَذَا وَلَا أعين الشَّخْص الْمَذْكُور بِعَيْنِه لَا يَخْلُو من أُمُور أَحدهَا أَن يكون ذَا سنّ تغير رَأْيه لسنه لَا بِمَعْنى أَنه اضْطربَ بل بِمَعْنى أَن السن إِذا كبر يجْتَهد صَاحبه للحق ثمَّ يَضَعهُ فِي غير موَاضعه مثلا يجْتَهد أَن إِنْكَار الْمُنكر وَاجِب وَهَذَا مُنكر وَصَاحبه قد راج على النَّاس فَيجب عَليّ تَعْرِيف النَّاس مَا راج عَلَيْهِم وتغيب عَلَيْهِ الْمَفَاسِد فِي ذَلِك فَمِنْهَا تخذيل الطّلبَة وهم مضطرون إِلَى محبَّة شيخهم ليأخذوا عَنهُ فَمَتَى تَغَيَّرت قُلُوبهم عَلَيْهِ وَرَأَوا فِيهِ نقصا حرمُوا فَوَائده الظَّاهِرَة والباطنة وَخيف عَلَيْهِم المقت من الله أَولا ثمَّ من الشَّيْخ ثَانِيًا الْمفْسدَة الثَّانِيَة إِذا شعر أهل الْبدع الَّذين نَحن وَشَيخنَا قائمون اللَّيْل وَالنَّهَار بِالْجِهَادِ والتوجه فِي وُجُوههم لنصرة الْحق أَن فِي أَصْحَابنَا

فصل

من ثلب رَئِيس الْقَوْم بِمثل هَذَا فَإِنَّهُم يتطرقون بذلك إِلَى الاشتفاءمن أهل الْحق ويجعلونه حجَّة لَهُم الْمفْسدَة الثَّالِثَة تعديد المثالب فِي مُقَابلَة مَا يستغرفها وَيزِيد عَلَيْهَا بأضعاف كَثِيرَة من المناقب فَإِن ذَلِك ظلم وَجَهل وَالْأَمر الثَّانِي من الْأُمُور الْمُوجبَة لذَلِك تغير حَاله وَقَلبه وَفَسَاد سلوكه بحسد كَانَ كامنا فِيهِ وَكَانَ يَكْتُمهُ بُرْهَة من الزَّمَان فَظهر ذَلِك الكمين فِي قالب صورته حق وَمَعْنَاهُ بَاطِل فصل وَفِي الْجُمْلَة أيدكم الله إِذا رَأَيْتُمْ طاعنا على صَاحبكُم فافتقدوه فِي عقله أَولا ثمَّ فِي فهمه ثمَّ فِي صدقه ثمَّ فِي سنه فَإِذا وجدْتُم الِاضْطِرَاب فِي عقله دلكم على جَهله بصاحبكم وَمَا يَقُول فِيهِ وَعنهُ وَمثله قلَّة الْفَهم وَمثله عدم الصدْق أَو قصوره لِأَن نُقْصَان الْفَهم يُؤَدِّي إِلَى نُقْصَان الصدْق بِحَسب مَا غَابَ عقله عَنهُ وَمثله الْعُلُوّ فِي السن فَإِنَّهُ يشيخ فِيهِ الرَّأْي وَالْعقل كَمَا تشيخ فِيهِ القوى الظَّاهِرَة الحسية فاتهموا مثل هَذَا الشَّخْص واحذروه وأعرضوا عَنهُ إِعْرَاض مداراة بِلَا جدل وَلَا خُصُومَة وَصفَة الامتحان بِصِحَّة إِدْرَاك الشَّخْص وعقله وفهمه أَن تسألوه

عَن مَسْأَلَة سلوكية أَو علمية فَإِذا أجَاب عَنْهَا فأوردوا على الْجَواب إشْكَالًا مُتَوَجها بتوجيه صَحِيح فَإِن رَأَيْتُمْ الرجل يروح يَمِينا وَشمَالًا وَيخرج عَن ذَلِك الْمَعْنى إِلَى معَان خَارِجَة وحكايات لَيست فِي الْمَعْنى حَتَّى ينسى رب الْمَسْأَلَة سُؤَاله حَيْثُ توهه عَنهُ بِكَلَام لَا فَائِدَة فِيهِ فَمثل هَذَا لَا تعتمدوا على طعنه وَلَا على مدحه فَإِنَّهُ نَاقص الْفطْرَة كثير الخيال لَا يثبت على تحري المدارك العلمية وَلَا تنكروا مثل إِنْكَار هَذَا فَإِنَّهُ اشْتهر قيام ذِي الْخوَيْصِرَة التَّمِيمِي إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله لَهُ اعْدِلْ فَإنَّك لم تعدل إِن هَذِه قسْمَة لم يرد بهَا وَجه الله تَعَالَى أَو نَحْو ذَلِك فوقوع هَذَا وَأَمْثَاله من بعض معجزات الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ قَالَ لتركبن سنَن من كَانَ قبلكُمْ حَذْو القذة بالقذة وَإِن كَانَ ذَلِك فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَكِن لما كَانُوا منحرفين عَن نهج الصَّوَاب فَكَذَلِك يكون فِي هَذِه الْأمة من يحذو حَذْو كل منحرف وجد فِي الْعَالم مُتَقَدما كَانَ أَو مُتَأَخِّرًا حَذْو القذة بالقذة حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلوه يَا سُبْحَانَ الله الْعَظِيم أَيْن عقول هَؤُلَاءِ أعميت أَبْصَارهم وبصائرهم أَفلا يرَوْنَ مَا النَّاس فِيهِ من الْعَمى والحيرة فِي الزَّمَان المظلم المدلهم الَّذِي قد ملكت فِيهِ الْكفَّار مُعظم الدُّنْيَا وَقد بقيت هَذِه الخطة الضيقة

يشم الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا رَائِحَة الْإِسْلَام وَفِي هَذِه الخطة الضيقة من الظُّلُمَات من عُلَمَاء السوء والدعاة إِلَى الْبَاطِل وإقامته ودحض الْحق وَأَهله مَالا يحصر فِي كتاب ثمَّ إِن الله تَعَالَى قد رحم هَذِه الْأمة بِإِقَامَة رجل قوي الهمة ضَعِيف التَّرْكِيب قد فرق نَفسه وهمه فِي مصَالح الْعَالم وَإِصْلَاح فسادهم وَالْقِيَام بمهماتهم وحوائجحهم ضمن مَا هُوَ قَائِم بصدد الْبدع والضلالات وَتَحْصِيل مواد الْعلم النَّبَوِيّ الَّذِي يصلح بِهِ فَسَاد الْعَالم ويردهم إِلَى الدّين الأول الْعَتِيق جهد إِمْكَانه وَإِلَّا فَأَيْنَ حَقِيقَة الدّين الْعَتِيق فَهُوَ مَعَ هَذَا كُله قَائِم بجملة ذَلِك وَحده وَهُوَ مُنْفَرد بَين أهل زَمَانه قَلِيل ناصره كثير خاذله وحاسده والشامت فِيهِ فَمثل هَذَا الرجل فِي هَذَا الزَّمَان وقيامه بِهَذَا الْأَمر الْعَظِيم الخطير فِيهِ أيقال لَهُ لم يرد على الأحمدية لم لَا تعدل فِي الْقِسْمَة لم تدخل على الْأُمَرَاء لم تقرب زيدا وعمرا أَفلا يستحيي العَبْد من الله يذكر مثل هَذِه الجزئيات فِي مُقَابلَة هَذَا العبء الثقيل وَلَو حوقق الرجل على هَذِه الجزئيات وجد عِنْده نُصُوص صَحِيحَة ومقاصد صَحِيحَة ونيات صَحِيحَة تغيب عَن الضُّعَفَاء الْعُقُول بل عَن الكمل مِنْهُم حَتَّى يسمعوها أما رده على الطَّائِفَة الْفُلَانِيَّة أَيهَا المفرط التائه الَّذِي لَا يدْرِي

مَا يَقُول أفيقوم دين مُحَمَّد بن عبد الله الَّذِي أنزل من السَّمَاء إِلَّا بالطعن على هَؤُلَاءِ وَكَيف يظْهر الْحق إِن لم يخذل الْبَاطِل لَا يَقُول مثل هَذَا إِلَّا تائه أَو مسن أَو حَاسِد وَكَذَا الْقِسْمَة للرجل فِي ذَلِك اجْتِهَاد صَحِيح وَنظر إِلَى مصَالح تترتب على إِعْطَاء قوم دون قوم كَمَا خص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطُّلَقَاء بِمِائَة من الْإِبِل وَحرم الْأَنْصَار حَتَّى قَالَ مِنْهُم أحداثهم شَيْئا فِي ذَلِك لاذووا أحلامهم وفيهَا قَامَ ذُو الْخوَيْصِرَة فَقَالَ مَا قَالَ وَأما دُخُوله على الْأُمَرَاء فَلَو لم يكن كَيفَ كَانَ شم الْأُمَرَاء رَائِحَة الدّين الْعَتِيق الْخَاص وَلَو فتش المفتش لوجد هَذِه الْكَيْفِيَّة الَّتِي عِنْدهم من رَائِحَة الدّين وَمَعْرِفَة الْمُنَافِقين إِنَّمَا اقتبسوها من صَاحبكُم وَأما تقريب زيد وَعَمْرو فلمصلحة باطنة لَو فتش عَنْهَا مَعَ الْإِنْصَاف وجد هُنَالك مَا يرى أَن ذَلِك من الْمصلحَة ونفرض أَنَّك مُصِيب فِي ذَلِك إِذْ لَا نعتقد الْعِصْمَة إِلَّا فِي الْأَنْبِيَاء وَالْخَطَأ جَار على غَيرهم أيذكر مثل هَذَا الْخَطَأ فِي مُقَابلَة مَا تقدم من الْأُمُور الْعِظَام الجسام لَا يذكر مثل هَذَا فِي كراسة ويعددها ثمَّ يَدُور بهَا على وَاحِد وَاحِد كَأَنَّهُ يَقُول شَيْئا إِلَّا رجل يسْأَل الله الْعَافِيَة فِي عقله

فتاوى الشيخ بدمشق وبعض اختياراته التي خالف فيها المذاهب الأربعة أو بعضها

وخاتمة الْخَيْر على عمله وَأَن يردهُ عَن انحرافه إِلَى نهج الصَّوَاب بِحَيْثُ لَا يبْقى معشره يعِيبهُ بِعِلْمِهِ وتصنيفه من أولى الْعُقُول والأحلام ونستغفر الله الْعَظِيم من الْخَطَأ والزلل فِي القَوْل وَالْعَمَل وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم هَذَا آخر الرسَالَة الَّتِي سَمَّاهَا مؤلفها (التَّذْكِرَة وَالِاعْتِبَار والانتصار للأبرار) فرحم الله من قَامَ بِحمْل الْإِصْرَار وَتَصْحِيح التَّوْبَة النصوح بالاستغفار إِلَى عَالم الْأَسْرَار نفع الله من وقف عَلَيْهَا وأصغى إِلَى مَا يفتح مِنْهَا ولديها آمين فَتَاوَى الشَّيْخ بِدِمَشْق وَبَعض اختياراته الَّتِي خَالف فِيهَا الْمذَاهب الْأَرْبَعَة أَو بَعْضهَا ثمَّ إِن الشَّيْخ رَحمَه الله بعد وُصُوله من مصر إِلَى دمشق واستقراره بهَا لم يزل ملازما للاشتغال والإشغال وَنشر الْعلم وتصنيف الْكتب وإفتاء النَّاس بالْكلَام وَالْكِتَابَة المطولة وَغَيرهَا ونفع الْخلق وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَالِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة

فَفِي بعض الْأَحْكَام يُفْتِي بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده من مُوَافقَة أَئِمَّة الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَفِي بَعْضهَا قد يُفْتِي بخلافهم أَو بِخِلَاف الْمَشْهُور من مذاهبهم وَمن اختياراته الَّتِي خالفهم فِيهَا أَو خَالف الْمَشْهُور من اقوالهم القَوْل بقصر الصَّلَاة فِي كل مَا يُسمى سفرا طَويلا كَانَ أَو قَصِيرا كَمَا هُوَ مَذْهَب الظَّاهِرِيَّة وَقَول بعض الصَّحَابَة وَالْقَوْل بِأَن الْبكر لَا تستبرأ وَإِن كَانَت كَبِيرَة كَمَا هُوَ قَول ابْن عمر وَاخْتَارَهُ البُخَارِيّ صَاحب الصَّحِيح وَالْقَوْل بِأَن سُجُود التِّلَاوَة لَا يشْتَرط لَهُ وضوء كَمَا يشْتَرط للصَّلَاة كَمَا هُوَ مَذْهَب ابْن عمر وَاخْتِيَار البُخَارِيّ أَيْضا وَالْقَوْل بِأَن من أكل فِي شهر رَمَضَان مُعْتَقدًا أَنه ليل فَبَان نَهَارا لَا قَضَاء عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الصَّحِيح عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَإِلَيْهِ ذهب بعض التَّابِعين وَبَعض الْفُقَهَاء بعدهمْ وَالْقَوْل بِأَن الْمُتَمَتّع يَكْفِيهِ سعي وَاحِد بَين الصَّفَا والمروة كَمَا هُوَ فِي حق الْقَارِن والمفرد كَمَا هُوَ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَرِوَايَة عَن الإِمَام بن حَنْبَل رَوَاهَا عَنهُ ابْنه عبد الله وَكثير من أَصْحَاب الإِمَام أَحْمد لَا يعرفونها

وَالْقَوْل بِجَوَاز الْمُسَابقَة بِلَا مُحَلل وَإِن خرج المتسابقان وَالْقَوْل باستبراء المختلعة بِحَيْضَة وَكَذَلِكَ الْمَوْطُوءَة بِشُبْهَة والمطلقة آخر ثَلَاث تَطْلِيقَات وَالْقَوْل بِإِبَاحَة وَطْء الوثنيات بِملك الْيَمين وَالْقَوْل بِجَوَاز عقد الرِّدَاء فِي الْإِحْرَام وَلَا فديَة فِي ذَلِك وَجَوَاز طواف الْحَائِض وَلَا شَيْء عَلَيْهَا إِذا لم يُمكنهَا أَن تَطوف طَاهِرا وَالْقَوْل بِجَوَاز بيع الأَصْل بالعصير كالزيتون بالزيت والسمسم بالشيرج وَالْقَوْل بِجَوَاز الْوضُوء بِكُل مَا يُسمى مَاء مُطلقًا كَانَ أَو مُقَيّدا وَالْقَوْل بِجَوَاز بيع مَا يتَّخذ من الْفضة للتحلي وَغَيره كالخاتم وَنَحْوه بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضلا وَجعل الزَّائِد من الثّمن فِي مُقَابلَة الصَّنْعَة وَالْقَوْل بِأَن الْمَائِع لَا ينجس بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ إِلَّا أَن يتَغَيَّر قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا وَالْقَوْل بِجَوَاز التَّيَمُّم لمن خَافَ فَوَات الْعِيد وَالْجُمُعَة بِاسْتِعْمَال المَاء وَالْقَوْل بِجَوَاز التَّيَمُّم فِي مَوَاضِع مَعْرُوفَة وَالْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي أَمَاكِن مَشْهُورَة وَغير ذَلِك من الْأَحْكَام الْمَعْرُوفَة من أَقْوَاله

وَكَانَ يمِيل أخيرا لتوريث الْمُسلم من الْكَافِر الذِّمِّيّ وَله فِي ذَلِك مُصَنف وَبحث طَوِيل وَمن أَقْوَاله الْمَعْرُوفَة الْمَشْهُورَة الَّتِي جرى بِسَبَب الْإِفْتَاء بهَا محن وقلاقل قَوْله بالتكفير فِي الْحلف بِالطَّلَاق وَأَن الطَّلَاق الثَّلَاث لَا يَقع إِلَّا وَاحِدَة وَأَن الطَّلَاق الْمحرم لَا يَقع وَله فِي ذَلِك مصنفات ومؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا قَاعِدَة كَبِيرَة سَمَّاهَا تَحْقِيق الْفرْقَان بَين التَّطْلِيق وَالْإِيمَان نَحْو أَرْبَعِينَ كراسة وَقَاعِدَة سَمَّاهَا الْفرق الْمُبين بَين الطَّلَاق وَالْيَمِين بِقدر النّصْف من ذَلِك وَقَاعِدَة فِي أَن جَمِيع أَيْمَان الْمُسلمين مكفرة مُجَلد لطيف وَقَاعِدَة فِي تَقْرِير أَن الْحلف بِالطَّلَاق من الْأَيْمَان حَقِيقَة وَقَاعِدَة سَمَّاهَا التَّفْصِيل بَين التَّكْفِير والتحليل وَقَاعِدَة سَمَّاهَا اللمْعَة

وَغير ذَلِك من الْقَوَاعِد والأجوبة فِي ذَلِك لَا ينْحَصر وَلَا يَنْضَبِط وَله فِي ذَلِك جَوَاب اعْتِرَاض ورد عَلَيْهِ من الديار المصرية وَهُوَ جَوَاب طَوِيل فِي ثَلَاث مجلدات بِقطع نصف الْبَلَدِي وَكَانَ القَاضِي شمس الدّين بن مُسلم الْحَنْبَلِيّ رَحمَه الله فِي يَوْم الْخَمِيس منتصف شهر ربيع الآخر من سنة ثَمَان عشرَة وَسَبْعمائة قد اجْتمع بالشيخ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بترك الْإِفْتَاء فِي مَسْأَلَة الْحلف بِالطَّلَاق فَقبل الشَّيْخ إِشَارَته وَعرف نصيحته وَأجَاب إِلَى ذَلِك وَكَانَ قد اجْتمع إِلَى القَاضِي جمَاعَة من الْكِبَار حَتَّى فعل ذَلِك فَلَمَّا كَانَ يَوْم السبت مستهل جمادي الأولى من هَذِه السّنة ورد الْبَرِيد إِلَى دمشق وَمَعَهُ كتاب السُّلْطَان بِالْمَنْعِ من الْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة الْحلف بِالطَّلَاق الَّتِي رَآهَا الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية وَأفْتى فِيهَا وصنف فِيهَا وَالْأَمر بِعقد مجْلِس فِي ذَلِك فعقد يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثَالِث الشَّهْر الْمَذْكُور بدار السَّعَادَة وانفصل الْأَمر على مَا أَمر بِهِ السُّلْطَان وَنُودِيَ بذلك فِي الْبَلَد يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع الشَّهْر الْمَذْكُور ثمَّ إِن الشَّيْخ عَاد إِلَى الْإِفْتَاء بذلك وَقَالَ لَا يسعني كتمان الْعلم فَلَمَّا كَانَ يَوْم الثُّلَاثَاء التَّاسِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة

سجن الشيخ بسبب فتياه في الطلاق

تسع عشرَة وَسَبْعمائة جمع الْقُضَاة وَالْفُقَهَاء عِنْد نَائِب السلطنة بدار السَّعَادَة وقرىء عَلَيْهِم كتاب السُّلْطَان وَفِيه فصل يتَعَلَّق بالشيخ بِسَبَب الْفَتْوَى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وأحضر وَعُوتِبَ على فتياه بعد الْمَنْع وأكد عَلَيْهِ فِي الْمَنْع من ذَلِك سجن الشَّيْخ بِسَبَب فتياه فِي الطَّلَاق فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك بِمدَّة فِي يَوْم الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من رَجَب من سنة عشْرين وَسَبْعمائة عقد مجْلِس بدار السَّعَادَة حَضَره النَّائِب والقضاة وَجَمَاعَة من الْمُفْتِينَ وَحضر الشَّيْخ وعاودوه فِي الْإِفْتَاء بِمَسْأَلَة الطَّلَاق وعاتبوه على ذَلِك وحبسوه بالقلعة فَبَقيَ فِيهَا خَمْسَة أشهر وَثَمَانِية عشر يَوْمًا ثمَّ ورد مرسوم السُّلْطَان بِإِخْرَاجِهِ فَأخْرج مِنْهَا يَوْم الْإِثْنَيْنِ يَوْم عَاشُورَاء من سنة إِحْدَى وَعشْرين وَسَبْعمائة وَتوجه إِلَى دَاره ثمَّ لم يزل بعد ذَلِك يعلم النَّاس ويلقي الدَّرْس بالحنبلية أَحْيَانًا وَيقْرَأ عَلَيْهِ فِي مدرسته بالقصاصين فِي أَنْوَاع من الْعلم وَكنت أتردد إِلَيْهِ فِي هَذِه الْمدَّة احيانا وقرأت عَلَيْهِ قِطْعَة من

الكلام على شد الرحال إلى القبور

الْأَرْبَعين للرازي وَشَرحهَا لي وَكتب لي على بَعْضهَا شَيْئا وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمدَّة من كتبه وَهُوَ يصلح فِيهَا وَيزِيد وَينْقص وَلَقَد حضرت مَعَه يَوْمًا فِي بُسْتَان الْأَمِير فَخر الدّين بن الشَّمْس لُؤْلُؤ وَكَانَ قد عمل وَلِيمَة وقرأت على الشَّيْخ فِي ذَلِك الْيَوْم أَرْبَعِينَ حَدِيثا وَكتب بعض الْجَمَاعَة أَسمَاء الْحَاضِرين وَأخذ الشَّيْخ بعد ذَلِك فِي الْكَلَام فِي أَنْوَاع الْعُلُوم فنهت الْحَاضِرُونَ لكَلَامه وَاشْتَغلُوا بذلك عَن الْأكل وَمِمَّا حفظت من كَلَامه فِي الْمجْلس قَوْله يَقُول الله تَعَالَى فِي بعض الْكتب أهل ذكري أهل مشاهدتي وَأهل شكري أهل زيارتي وَأهل طَاعَتي أهل كَرَامَتِي وَأهل معصيتي لَا أؤيسهم من رَحْمَتي إِن تَابُوا فَأَنا حبيبهم وَإِن لم يتوبوا فَأَنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب وَحصل فِي ذَلِك الْمجْلس خير كثير وَكَانَ فِيهِ غير وَاحِد من الْمَشَايِخ وَاسْتمرّ الشَّيْخ بعذ ذَلِك على عَادَته الْكَلَام على شدّ الرّحال إِلَى الْقُبُور فَلَمَّا كَانَ فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَقع الْكَلَام فِي مَسْأَلَة شدّ

الرّحال وإعمال الْمطِي إِلَى قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وظفروا للشَّيْخ بِجَوَاب سُؤال فِي ذَلِك كَانَ قد كتبه من سِنِين كَثِيرَة يتَضَمَّن حِكَايَة قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَة وَحجَّة كل قَول مِنْهُمَا وَكَانَ للشَّيْخ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَلَام مُتَقَدم أقدم من الْجَواب الْمَذْكُور بِكَثِير ذكره فِي كتاب اقْتِضَاء الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَغَيره وَفِيه مَا هُوَ أبلغ من هَذَا الْجَواب الَّذِي ظفروا بِهِ وَكثر الْكَلَام والقيل والقال بِسَبَب العثور على الْجَواب الْمَذْكُور وَعظم التشنيع على الشَّيْخ وحرف عَلَيْهِ وَنقل عَنهُ مَا لم يقلهُ وَحصل فتْنَة طَار شررها فِي الْآفَاق وَاشْتَدَّ الْأَمر وَخيف على الشَّيْخ من كيد القائمين فِي هَذِه الْقَضِيَّة بالديار المصرية والشامية وَكثر الدُّعَاء والتضرع والابتهال إِلَى الله تَعَالَى وَضعف من أَصْحَاب الشَّيْخ من كَانَ عِنْده قُوَّة وَجبن مِنْهُم من كَانَت لَهُ همة وَأما الشَّيْخ رَحمَه الله فَكَانَ ثَابت الجأش قوي الْقلب وَظهر صدق توكله واعتماده على ربه وَلَقَد اجْتمع جمَاعَة معروفون بِدِمَشْق وضربوا مشورة فِي حق الشَّيْخ فَقَالَ أحدهم ينفى فنفي الْقَائِل وَقَالَ آخر يقطع لِسَانه فَقطع لِسَان الْقَائِل

أمر السلطان بحبس الشيخ بقلعة دمشق

وَقَالَ آخر يُعَزّر فعزر الْقَائِل وَقَالَ آخر يحبس فحبس الْقَائِل أَخْبرنِي بذلك من حضر هَذِه المشورة وَهُوَ كَارِه لَهَا وَاجْتمعَ جمَاعَة آخَرُونَ بِمصْر وَقَامُوا فِي هَذِه الْقَضِيَّة قيَاما عَظِيما واجتمعوا بالسلطان وَأَجْمعُوا أَمرهم على قتل الشَّيْخ فَلم يوافقهم السُّلْطَان على ذَلِك أَمر السُّلْطَان بِحَبْس الشَّيْخ بقلعة دمشق وَلما كَانَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ بعد الْعَصْر السَّادِس من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة حضر إِلَى الشَّيْخ من جِهَة نَائِب السلطنة بِدِمَشْق مشد الْأَوْقَاف وَابْن خطير أحد الْحجاب وأخبراه أَن مرسوم السُّلْطَان ورد بِأَن يكون فِي القلعة وأحضرا مَعَهُمَا مركوبا فأظهر الشَّيْخ السرُور بذلك وَقَالَ أَنا كنت منتظرا ذَلِك وَهَذَا فِيهِ خير عَظِيم وركبوا جَمِيعًا من دَاره إِلَى بَاب القلعة وأخليت لَهُ قاعة حَسَنَة

وأجرى إِلَيْهَا المَاء ورسم لَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا وَأقَام مَعَه أَخُوهُ زين الدّين يَخْدمه بِإِذن السُّلْطَان ورسم لَهُ بِمَا يقوم بكفايته وَفِي يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الشَّهْر الْمَذْكُور قرىء بِجَامِع دمشق الْكتاب السلطاني الْوَارِد بذلك وبمنعه من الْفتيا وَفِي يَوْم الْأَرْبَعَاء منتصف شعْبَان أَمر القَاضِي الشَّافِعِي بِحَبْس جمَاعَة من اصحاب الشَّيْخ بسجن الحكم وَذَلِكَ بمرسوم النَّائِب وإذنه لَهُ فِي فعل مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْع فِي أَمرهم وأوذي جمَاعَة من أَصْحَابه واختفى آخَرُونَ وعزر جمَاعَة وَنُودِيَ عَلَيْهِم ثمَّ أطْلقُوا سوى الإِمَام شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر إِمَام الجوزية فَإِنَّهُ حبس بالقلعة وسكنت الْقَضِيَّة وَهَذَا صُورَة الْفتيا وموافقة البغاددة لَهُ وَغَيرهم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين وصلواته وَسَلَامه على مُحَمَّد وَآله أما بعد فَهَذِهِ فتيا أفتى بهَا الشَّيْخ الإِمَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ

ثمَّ بعد مُدَّة نَحْو سبع عشرَة سنة أنكرها بعض النَّاس وشنع بهَا جمَاعَة عِنْد بعض وُلَاة الْأُمُور وَذكرت بعبارات شنيعة ففهم مِنْهَا جمَاعَة غير مَا هِيَ عَلَيْهِ وانضم إِلَى الْإِنْكَار والشناعة وَتغَير الْأَلْفَاظ أُمُور أوجب ذَلِك كُله مُكَاتبَة السُّلْطَان سُلْطَان الْإِسْلَام بِمصْر أيده الله تَعَالَى فَجمع قُضَاة بَلَده ثمَّ اقْتضى الرَّأْي حَبسه فحبس بقلعة دمشق المحروسة بِكِتَاب ورد سَابِع شعْبَان الْمُبَارك سنة سِتّ وَعشْرين وَسَبْعمائة وَفِي ذَلِك كُله لم يحضر الشَّيْخ الْمَذْكُور بِمَجْلِس حكم وَلَا وقف على خطه الَّذِي أنكر وَلَا ادعِي عَلَيْهِ بِشَيْء فَكتب بعض الغرباء من بَلَده هَذِه الْفتيا وأوقف عَلَيْهَا بعض عُلَمَاء بَغْدَاد فَكَتَبُوا عَلَيْهَا بعد تأملها وَقِرَاءَة ألفاظها وَسُئِلَ بعض مالكية دمشق عَنْهَا فَكَتَبُوا كَذَلِك وبلغنا أَن بِمصْر من وقف عَلَيْهَا فَوَافَقَ ونبدأ الْآن بِذكر السُّؤَال الَّذِي كتب عَلَيْهِ أهل بَغْدَاد وبذكر الْفتيا وَجَوَاب الشَّيْخ الْمَذْكُور عَلَيْهَا وَجَوَاب الْفُقَهَاء بعده وَهَذِه صُورَة السُّؤَال والأجوبة الْمَسْئُول من إنعام السَّادة الْعلمَاء والهداة الْفُضَلَاء أَئِمَّة الدّين وَهُدَاة الْمُسلمين وفقهم الله لمرضاته وأدام بهم الْهِدَايَة أَن ينعموا ويتأملوا

الجواب

الْفَتْوَى وجوابها الْمُتَّصِل بِهَذَا السُّؤَال الْمَنْسُوخ عقبه وَصُورَة ذَلِك مَا يَقُول السَّادة الْعلمَاء أَئِمَّة الدّين نفع الله بهم الْمُسلمين فِي رجل نوى السّفر إِلَى زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ مثل نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره فَهَل يجوز لَهُ فِي سَفَره أَن يقصر الصَّلَاة وَهل هَذِه الزِّيَارَة شَرْعِيَّة أم لَا وَقد روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من حج وَلم يزرني فقد جفاني وَمن زارني بعد موتِي كمن زارني فِي حَياتِي وَقد رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا أَنه قَالَ لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام ومسجدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى افتونا مَأْجُورِينَ رحمكم الله الْجَواب الْحَمد لله رب الْعَالمين أما من سَافر لمُجَرّد زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فَهَل يجوز لَهُ قصر الصَّلَاة على قَوْلَيْنِ معروفين أَحدهمَا وَهُوَ قَول مُتَقَدِّمي الْعلمَاء الَّذين لَا يجوزون الْقصر فِي سفر الْمعْصِيَة كَأبي عبد الله بن بطة وَأبي الْوَفَاء بن عقيل وَطَوَائِف كَثِيرَة

من الْعلمَاء الْمُتَقَدِّمين أَنه لَا يجوز الْقصر فِي مثل هَذَا السّفر لِأَنَّهُ سفر منهى عَنهُ وَمذهب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَن السّفر المنهى عَنهُ فِي الشَّرِيعَة لَا يقصر فِيهِ وَالْقَوْل الثَّانِي أَنه يقصر وَهَذَا يَقُوله من يجوز الْقصر فِي السّفر الْمحرم كَأبي حنيفَة ويقوله بعض الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَاحْمَدْ مِمَّن يجوز السّفر لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ كَأبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي الْحسن ابْن عَبدُوس الْحَرَّانِي وَأبي مُحَمَّد بن قدامَة الْمَقْدِسِي وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ إِن هَذَا السّفر لَيْسَ بِمحرم لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زوروا الْقُبُور وَقد يحْتَج بعض من لَا يعرف الحَدِيث بالأحاديث المروية فِي زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَقَوْلِه من زارني بعد مماتي فَكَأَنَّمَا زارني فِي حَياتِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَأما مَا ذكره بعض النَّاس من قَوْله من حج وَلم يزرني فقد جفاني فَهَذَا لم يروه أحد من الْعلمَاء وَهُوَ مثل قَوْله من زارني وزار أبي إِبْرَاهِيم فِي عَام وَاحِد ضمنت لَهُ على الله الْجنَّة فَإِن هَذَا أَيْضا بِاتِّفَاق الْعلمَاء لم يروه أحد وَلم يحْتَج بِهِ أحد وَإِنَّمَا يحْتَج بَعضهم بِحَدِيث الدَّارَقُطْنِيّ وَنَحْوه

وَقد احْتج أَبُو مُحَمَّد الْمَقْدِسِي على جَوَاز السّفر لزيارة الْقُبُور بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يزور مَسْجِد قبَاء وَأجَاب عَن حَدِيث لَا تشد الرّحال بِأَن ذَلِك مَحْمُول على نفي الِاسْتِحْبَاب وَأما الْأَولونَ فَإِنَّهُم يحتجون بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام ومسجدي هَذَا وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى وَهَذَا الحَدِيث مِمَّا اتّفق الْأَئِمَّة على صِحَّته وَالْعَمَل بِهِ فَلَو نذر أَن يشد الرحل ليُصَلِّي بِمَسْجِد أَو مشْهد أَو يعْتَكف فِيهِ ويسافر إِلَيْهِ غير هَذِه الثَّلَاثَة لم يجب عَلَيْهِ ذَلِك بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة وَلَو نذر أَن يُسَافر وَيَأْتِي الْمَسْجِد الْحَرَام لحج أَو عمْرَة وَجب عَلَيْهِ ذَلِك بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَلَو نذر أَن يَأْتِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو الْمَسْجِد الْأَقْصَى لصَلَاة أَو اعْتِكَاف وَجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بِهَذَا النّذر عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَأحمد وَلم يجب عَلَيْهِ عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَا يجب عِنْده بِالنذرِ إِلَّا مَا كَانَ جنسه وَاجِبا بِالشَّرْعِ أما الْجُمْهُور فيوجبون الْوَفَاء بِكُل طَاعَة كَمَا ثَبت فِي صَحِيح

البُخَارِيّ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَالسّفر إِلَى المسجدين طَاعَة فَلهَذَا وَجب الْوَفَاء بِهِ وَأما السّفر إِلَى بقْعَة غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة فَلم يُوجب اُحْدُ من الْعلمَاء السّفر غليه إِذا نَذره حَتَّى نَص الْعلمَاء على أَنه لَا يُسَافر إِلَى مسسجد قبَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة مَعَ أَن مَسْجِد قبَاء يسْتَحبّ زيارته لمن كَانَ فِي الْمَدِينَة لِأَن ذَلِك لَيْسَ بشد رَحل كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح من تطهر فِي بَيته ثمَّ أَتَى مَسْجِد قبَاء لَا يُرِيد إِلَّا الصَّلَاة فِيهِ كَانَ كعمرة قَالُوا وَلِأَن السّفر إِلَى زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ بِدعَة لم يَفْعَلهَا أحد من الصَّحَابَة وَلَا التَّابِعين وَلَا أَمر بهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا اسْتحبَّ ذَلِك أحد من أَئِمَّة الْمُسلمين فَمن اعْتقد ذَلِك عبَادَة وَفعله فَهُوَ مُخَالف للسّنة ولإجماع الْأَئِمَّة وَهَذَا مَا ذكره أَبُو عبد الله بن بطة فِي الْإِبَانَة الصُّغْرَى من الْبدع الْمُخَالفَة للسّنة وَالْإِجْمَاع وَبِهَذَا يظْهر بطلَان حجَّة أبي مُحَمَّد الْمَقْدِسِي لِأَن زِيَارَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَسْجِد قبَاء لم تكن بشد رَحل وَلِأَن السّفر إِلَيْهِ لَا يجب بِالنذرِ

وَقَوله بِأَن الحَدِيث الَّذِي مضمونه لَا تشد الرّحال مَحْمُول على نفي الِاسْتِحْبَاب يُجَاب عَنهُ بِوَجْهَيْنِ أَحدهمَا أَن هَذَا إِن سلم فِيهِ أَن هَذَا السّفر لَيْسَ بِعَمَل صَالح وَلَا قربَة وَلَا طَاعَة وَلَا هُوَ من الْحَسَنَات فَإِذا من اعْتقد أَن السّفر لزيارة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ قربَة وَعبادَة وَطَاعَة فقد خَالف الْإِجْمَاع وَإِذا سَافر لاعتقاد أَن ذَلِك طَاعَة كَانَ ذَلِك محرما بِإِجْمَاع الْمُسلمين فَصَارَ التَّحْرِيم من جِهَة اتِّخَاذه قربَة وَمَعْلُوم أَن أحدا لَا يُسَافر إِلَيْهَا إِلَّا لذَلِك وَأما إِذا نذر الرجل أَن يُسَافر إِلَيْهَا لغَرَض مُبَاح فَهَذَا جَائِز وَلَيْسَ من هَذَا الْبَاب الْوَجْه الثَّانِي أَن هَذَا الحَدِيث يَقْتَضِي النَّهْي وَالنَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم وَمَا ذَكرُوهُ من الْأَحَادِيث فِي زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكلهَا ضَعِيفَة بِاتِّفَاق أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ بل هِيَ مَوْضُوعَة لم يرو أحد من أهل السّنَن الْمُعْتَمدَة شَيْئا مِنْهَا وَلم يحْتَج أحد من الْأَئِمَّة بِشَيْء مِنْهَا بل مَالك إِمَام أهل الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة الَّذين هم أعلم النَّاس بِحكم هَذِه الْمَسْأَلَة كره أَن يَقُول الرجل زرت قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو كَانَ هَذَا اللَّفْظ مَعْرُوفا عِنْدهم أَو مَشْرُوعا أَو مأثورا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكرههُ عَالم أهل الْمَدِينَة وَالْإِمَام أَحْمد أعلم النَّاس فِي زَمَانه بِالسنةِ لما سُئِلَ عَن ذَلِك لم

يكن عِنْده مَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي ذَلِك من الْأَحَادِيث إِلَّا حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مَا من رجل يسلم عَليّ إِلَّا رد الله عَليّ روحي حَتَّى أرد عَلَيْهِ السَّلَام وعَلى هَذَا اعْتمد أَبُو دَاوُد فِي سنَنه وَكَذَلِكَ مَالك فِي الْمُوَطَّأ رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه كَانَ إِذا دخل الْمَسْجِد قَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَت ثمَّ ينْصَرف وَفِي سنَن أبي دَاوُد عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ لاتتخذوا قَبْرِي عيدا وصلوا عَليّ فَإِن صَلَاتكُمْ تبلغني حَيْثُمَا كُنْتُم وَفِي سنَن سعيد بن مَنْصُور أَن عبد الله بن حسن بن حسن بن عَليّ بن أبي طَالب رأى رجلا يخْتَلف إِلَى قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهُ إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيدا وصلوا عَليّ فَإِن صَلَاتكُمْ حَيْثُمَا كُنْتُم تبلغني فَمَا أَنْت وَرجل بالأندلس مِنْهُ إِلَّا سَوَاء وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي مرض مَوته لعن الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد

يحذر مَا فعلوا وَلَوْلَا ذَلِك لابرز قَبره وَلَكِن كره أَن يتَّخذ مَسْجِدا وهم دفنوه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجرَة عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا خلاف مَا اعتادوه من الدّفن فِي الصَّحرَاء لِئَلَّا يُصَلِّي أحد عِنْد قَبره ويتخذه مَسْجِدا فيتخذ قَبره وثنا وَكَانَ الصَّحَابَة والتابعون لما كَانَت الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة مُنْفَصِلَة عَن الْمَسْجِد إِلَى زمن الْوَلِيد بن عبد الملك لَا يدْخل أحد إِلَيْهِ لَا لصَلَاة هُنَاكَ وَلَا تمسح بالقبر وَلَا دُعَاء هُنَاكَ بل هَذَا جَمِيعه إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِد وَكَانَ السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ إِذا سلمُوا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَرَادُوا الدُّعَاء دعوا مستقبلي الْقبْلَة وَلم يستقبلوا الْقَبْر وَأما الْوُقُوف للسلام عَلَيْهِ صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه فَقَالَ أَبُو حنيفَة يسْتَقْبل الْقبْلَة أَيْضا وَلَا يسْتَقْبل الْقَبْر وَقَالَ أَكثر الْأَئِمَّة يسْتَقْبل الْقَبْر عِنْد الدُّعَاء وَلَيْسَ فِي ذَلِك إِلَّا حِكَايَة مكذوبة تروى عَن مَالك ومذهبه بِخِلَافِهَا وَاتفقَ الْأَئِمَّة على أَنه لَا يمس قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا يقبله

وَهَذَا كُله مُحَافظَة على التَّوْحِيد فَإِن من أصُول الشّرك بِاللَّه اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد كَمَا قَالَ طَائِفَة من السّلف فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تذرن ودا وَلَا سواعا وَلَا يَغُوث ويعوق ونسرا} قَالُوا هَؤُلَاءِ كَانُوا قوما صالحين فِي قوم نوح فَلَمَّا مَاتُوا عكفوا على قُبُورهم ثمَّ صوروا على صورهم تماثيل ثمَّ طَال عَلَيْهِم الأمد فعبدوها وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي صَحِيحه هَذَا الْمَعْنى عَن ابْن عَبَّاس وَذكره مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره فِي التَّفْسِير عَن غير وَاحِد من السّلف وَذكره وثيمة وَغَيره فِي قصَص الْأَنْبِيَاء من عدَّة طرق وَقد بسطت الْكَلَام على أصُول هَذِه الْمسَائِل فِي غير هَذَا الْموضع وَأول من وضع هَذِه الْأَحَادِيث فِي السّفر لزيارة الْمشَاهد الَّتِي على الْقُبُور أهل الْبدع من الرافضة وَنَحْوهم الَّذين يعطلون الْمَسَاجِد ويعظمون الْمشَاهد يدعونَ بيُوت الله الَّتِي أَمر الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه ويعبد

وَحده لَا شريك لَهُ ويعظمون الْمشَاهد الَّتِي يُشْرك فِيهَا ويكذب ويبتدع فِيهَا دين لم ينزل الله بِهِ سُلْطَانا فَإِن الْكتاب وَالسّنة إِنَّمَا فيهمَا ذكر الْمَسَاجِد دون الْمشَاهد كَمَا قَالَ تَعَالَى {قل أَمر رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأقِيمُوا وُجُوهكُم عِنْد كل مَسْجِد وادعوه مُخلصين لَهُ الدّين} وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد الله من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} وَقَالَ تَعَالَى {وَأَن الْمَسَاجِد لله فَلَا تدعوا مَعَ الله أحدا} وَقَالَ تَعَالَى {وَمن أظلم مِمَّن منع مَسَاجِد الله أَن يذكر فِيهَا اسْمه وسعى فِي خرابها} وَقد ثَبت عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّحِيح أَنه كَانَ يَقُول إِن من كَانَ قبلكُمْ كَانُوا يتخذون الْقُبُور مَسَاجِد أَلا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُور مَسَاجِد فَإِنِّي أنهاكم عَن ذَلِك هَذَا آخر مَا أجَاب بِهِ شيخ الْإِسْلَام وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم وَله من الْكَلَام فِي مثل هَذَا كثير كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْجَواب وَلما ظفروا فِي دمشق بِهَذَا الْجَواب كتبوه وبعثوا بِهِ إِلَى الديار المصرية وَكتب عَلَيْهِ قَاضِي الشَّافِعِيَّة

قابلت الْجَواب عَن هَذَا السُّؤَال الْمَكْتُوب على خطّ ابْن تَيْمِية فصح إِلَى أَن قَالَ وَإِنَّمَا المحرف جعله زِيَارَة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقبور الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم مَعْصِيّة بِالْإِجْمَاع مَقْطُوع بهَا هَذَا كَلَامه فَانْظُر إِلَى هَذَا التحريف على شيخ الْإِسْلَام وَالْجَوَاب لَيْسَ فِيهِ الْمَنْع من زِيَارَة قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ قَوْلَيْنِ فِي شدّ الرحل وَالسّفر إِلَى مُجَرّد زِيَارَة الْقُبُور وزيارة الْقُبُور من غير شدّ رَحل إِلَيْهَا مَسْأَلَة وَشد الرحل لمُجَرّد الزِّيَارَة مَسْأَلَة أُخْرَى وَالشَّيْخ لَا يمْنَع الزِّيَارَة الخالية عَن شدّ رَحل بل يستحبها وَينْدب إِلَيْهَا وَكتبه ومناسكه تشهد بذلك وَلم يتَعَرَّض الشَّيْخ إِلَى هَذِه الزِّيَارَة فِي الْفتيا وَلَا قَالَ إِنَّهَا مَعْصِيّة وَلَا حكى الْإِجْمَاع على الْمَنْع مِنْهَا وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تخفى عَلَيْهِ خافية وَلما وصل خطّ القَاضِي الْمَذْكُور إِلَى الديار المصرية كثر الْكَلَام وعظمت الْفِتْنَة وَطلب الْقُضَاة بهَا فَاجْتمعُوا وَتَكَلَّمُوا وَأَشَارَ بَعضهم بِحَبْس الشَّيْخ فرسم السُّلْطَان بِهِ وَجرى مَا تقدم ذكره ثمَّ جرى بعد ذَلِك أُمُور على القائمين فِي هَذِه الْقَضِيَّة لَا يُمكن ذكرهَا فِي هَذَا الْموضع

انتصار علماء بغداد للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور

انتصار عُلَمَاء بَغْدَاد للشَّيْخ فِي مَسْأَلَة شدّ الرّحال للقبور وَقد وصل مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى عُلَمَاء بَغْدَاد فَقَامُوا فِي الِانْتِصَار لَهُ وَكَتَبُوا بموافقته وَرَأَيْت خطوطهم بذلك وَهَذَا صُورَة مَا كتبُوا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم يَقُول العَبْد الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى بعد حمد الله السابغة نعمه السَّابِقَة مننه وَالصَّلَاة على أشرف الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ إِنَّه حَيْثُ قد من الله تَعَالَى على عباده وتفضل برحمته على بِلَاده بِأَن وسد أُمُور الْأمة المحمدية وَأسْندَ أزمة الْملَّة الحنيفية إِلَى من خصصه الله تَعَالَى بِأَفْضَل الكمالات النفسانية وخصص بأكمل السعادات الروحانية محيي سنَن الْعدْل ومبدي سنَن الْفضل المعتصم بِحَبل الله المتَوَكل على الله المكفتي بنعم الله الْقَائِم بأوامر الله المستظهر بِقُوَّة الله المستضيء بِنور الله أعز الله سُلْطَانه وَأَعْلَى على سَائِر الْمُلُوك شَأْنه وَلَا زَالَت رِقَاب الْأُمَم خاضعة لأوامره وأعناق الْعباد طَائِعَة لمراسمه وَلَا زَالَ موَالِي دولته بِطَاعَتِهِ مجبورا ومعادي صولته بخزيه مذموما مَدْحُورًا

فالمرجو من ألطاف الحضرة المقدسة زَادهَا الله تَعَالَى علوا وشرفا أَن يكون للْعُلَمَاء الَّذين هم وَرَثَة الْأَنْبِيَاء وصفوة الأصفياء وعماد الدّين ومدار أهل الْيَقِين حَظّ من الْعِنَايَة السُّلْطَانِيَّة وافر وَنصِيب من الرَّحْمَة والشفقة فَإِنَّهَا منقبة لَا يعادلها فَضِيلَة وحسنة لَا يحيطها سَيِّئَة لِأَنَّهَا حَقِيقَة التَّعْظِيم لأمر الله تَعَالَى وخلاصة الشَّفَقَة على خلق الله تَعَالَى وَلَا ريب أَن الْمَمْلُوك وقف على مَا سُئِلَ عَنهُ الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة وحيد دهره وفريد عصره تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية وَمَا أجَاب بِهِ فَوَجَدته خُلَاصَة مَا قَالَه الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب حسب مَا اقْتَضَاهُ الْحَال من نَقله الصَّحِيح وَمَا أدّى إِلَيْهِ الْبَحْث من الْإِلْزَام والالتزام لَا يداخله تحامل وَلَا يَعْتَرِيه تجاهل وَلَيْسَ فِيهِ وَالْعِيَاذ بِاللَّه مَا يَقْتَضِي الإزراء والتنقيص بِمَنْزِلَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَيف يجوز للْعُلَمَاء أَن يحملهم العصبية أَن يتفوهوا بالإزراء والتنقيص فِي حق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهل يجوز أَن يتَصَوَّر مُتَصَوّر أَن زِيَارَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزيد فِي قدره وَهل تَركهَا مِمَّا ينقص من تَعْظِيمه حاشا للرسول من ذَلِك

نعم لَو ذكر ذَلِك ذَاكر ابْتِدَاء وَكَانَ هُنَاكَ قَرَائِن تدل على الإزراء والتنقيص أمكن حمله على ذَلِك مَعَ أَنه كَانَ يكون كِنَايَة لَا صَرِيحًا فَكيف وَقد قَالَه فِي معرض السُّؤَال وَطَرِيق الْبَحْث والجدل مَعَ أَن الْمَفْهُوم من كَلَام الْعلمَاء وأنظار الْعُقَلَاء أَن الزِّيَارَة لَيست عبَادَة وَطَاعَة لمجردها حَتَّى لَو حلف أَنه يَأْتِي بِعبَادة أَو طَاعَة لم يبر بهَا لَكِن القَاضِي ابْن كج من متأخري أَصْحَابنَا ذكر أَن نذر هَذِه الزِّيَارَة عِنْده قربَة تلْزم ناذرها وَهُوَ مُنْفَرد بِهِ لَا يساعده فِي ذَلِك نقل صَرِيح وَلَا قِيَاس صَحِيح وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ مُطلق الْخَبَر النَّبَوِيّ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال إِلَى آخِره أَنه لَا يجوز شدّ الرّحال إِلَى غير مَا ذكر أَو وُجُوبه أَو ند بَيته فَإِن فعله كَانَ مُخَالفا لصريح النَّهْي وَمُخَالفَة النَّهْي مَعْصِيّة إِمَّا كفر أَو غَيره على قدر المنهى عَنهُ ووجوبه وتحريمه وَصفَة النَّهْي والزيارة أخص من وَجه فالزيارة بِغَيْر شدّ غير مَنْهِيّ عَنْهَا وَمَعَ الشد مَنْهِيّ عَنْهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا ذكره الشَّيْخ تَقِيّ الدّين على الْوَجْه الْمَذْكُور الْمَوْقُوف عَلَيْهِ لم يسْتَحق عَلَيْهِ عقَابا وَلَا يُوجب عتابا

جواب

والمراحم السُّلْطَانِيَّة أَحْرَى بالتوسعة وَالنَّظَر بِعَين الرأفة وَالرَّحْمَة إِلَيْهِ وللآراء الملكية علو الْمَزِيد حَرَّره ابْن الكتبي الشَّافِعِي حامدا لله على نعمه اه جَوَاب الله الْمُوفق مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ الْأَجَل الأوحد بَقِيَّة السّلف وقدوة الْخلف رَئِيس الْمُحَقِّقين وخلاصة المدققين تَقِيّ الْملَّة وَالْحق وَالدّين من الْخلاف فِي هَذِه الْمَسْأَلَة صَحِيح مَنْقُول فِي غير مَا كتاب من كتب أهل الْعلم لَا اعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي ذَلِك إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِك ثلب لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا غض من قدره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد نَص الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي كتبه على تَحْرِيم السّفر لزيارة الْقُبُور وَهَذَا اخْتِيَار القَاضِي الإِمَام عِيَاض بن مُوسَى بن عِيَاض فِي إكماله وَهُوَ من أفضل الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَابنَا

وَمن الْمُدَوَّنَة وَمن قَالَ على الْمَشْي إِلَى الْمَدِينَة أَو بَين الْمُقَدّس فَلَا يأتيهما أصلا إِلَّا أَن يُرِيد الصَّلَاة فِي مسجديهما فليأتهما فَلم يَجْعَل نذر زِيَارَة قَبره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاعَة يجب الْوَفَاء بهَا إِذْ من أصلنَا أَن من نذر طَاعَة لزمَه الْوَفَاء بهَا كَانَ من جِنْسهَا مَا هُوَ وَاجِب بِالشَّرْعِ كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَو لم يكن

قَالَ القَاضِي أَبُو اسحق اسمعيل بن اسحق عقيب هَذِه الْمَسْأَلَة وَلَوْلَا الصَّلَاة فيهمَا لما لزمَه إتيانهما وَلَو كَانَ نذر زِيَارَة طَاعَة لما لزمَه ذَلِك وَقد ذكر ذَلِك القيرواني فِي تقريبه وَالشَّيْخ ابْن سِيرِين فِي تنبيهه وَفِي الْمَبْسُوط قَالَ مَالك وَمن نذر الْمَشْي إِلَى مَسْجِد من الْمَسَاجِد ليُصَلِّي فِيهِ قَالَ فَإِنِّي أكره ذَلِك لَهُ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاتعمل الْمطِي إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام وَمَسْجِد بَيت الْمُقَدّس ومسجدي هَذَا وروى مُحَمَّد بن الْمَوَّاز فِي الْمُوازِية إِلَّا أَن يكون قَرِيبا فَيلْزمهُ الْوَفَاء لِأَنَّهُ لَيْسَ بشد رَحل وَقد قَالَ الشَّيْخ أَبُو عمر بن عبد الْبر فِي كِتَابه التَّمْهِيد يحرم على الْمُسلمين أَن يتخذوا قُبُور الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِد وَحَيْثُ تقرر هَذَا فَلَا يجوز أَن ينْسب من أجَاب فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِأَنَّهُ سفر مَنْهِيّ عَنهُ إِلَى الْكفْر فَمن كفره بذلك من غير مُوجب فَإِن كَانَ مستبيحا ذَلِك فَهُوَ كَافِر وَإِلَّا فَهُوَ فَاسق قَالَ الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الْمَازرِيّ فِي كتاب الْمعلم من كفر أحدا من أهل الْقبْلَة فَإِن كَانَ مستبيحا ذَلِك فقد كفر وَإِلَّا فَهُوَ فَاسق يجب على الْحَاكِم إِذا رفع أمره إِلَيْهِ أَن يؤدبه ويعزره بِمَا يكون رادعا لأمثاله فَإِن ترك مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَهُوَ آثم وَالله تَعَالَى أعلم أه

أجاب غيره فقال

كتبه مُحَمَّد بن عبد الرحمن الْبَغْدَادِيّ الْخَادِم للطائفة الْمَالِكِيَّة بِالْمَدْرَسَةِ الشَّرِيفَة المستنصرية رَحْمَة الله على منشئها أجَاب غَيره فَقَالَ الْحَمد لله رب الْعَالمين وصلواته على سيدنَا مُحَمَّد وعَلى آله الطاهرين مَا ذكره مَوْلَانَا الإِمَام الْعَالم الْعَامِل جَامع الْفَضَائِل والفوائد بَحر الْعُلُوم ومنشأ الْفضل جمال الدّين كَاتب خطه أَمَام خطى هَذَا جمل الله بِهِ الْإِسْلَام وأسبغ عَلَيْهِ سوابغ الْأَنْعَام أَتَى فِيهِ بِالْحَقِّ الْجَلِيّ الْوَاضِح وَأعْرض فِيهِ عَن إغضاء الْمَشَايِخ إِذْ السُّؤَال وَالْجَوَاب اللَّذَان تقدماه لَا يخفى على ذِي فطنة وعقل أَنه أَتَى فِي الْجَواب المطابق للسؤال بحكاية أَقْوَال الْعلمَاء الَّذين تقدموه وَلم يبْق عَلَيْهِ فِي ذَلِك إِلَّا أَن يَعْتَرِضهُ معترض فِي نَقله فيبرزه لَهُ من كتب الْعلمَاء الَّذين حكى أَقْوَالهم والمعترض لَهُ بالتشنيع إِمَّا جَاهِل لَا يعلم مَا يَقُول أَو متجاهل يحملهُ حسده وحمية الْجَاهِلِيَّة على رد مَا هُوَ عِنْد الْعلمَاء مَقْبُول أعاذنا الله تَعَالَى من غوائل الْحَسَد وعصمنا من مخائل النكد بِمُحَمد وَآله الطيبين الطاهرين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين كتبه الْفَقِير إِلَى عَفْو ربه ورضوانه عبد المؤمن بن عبد الحق الْخَطِيب غفر الله لَهُ وللمسلمين أَجْمَعِينَ

وأجاب غيره فقال

وَأجَاب غَيره فَقَالَ بعد حمد الله الَّذِي هُوَ فاتح كل كَلَام وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على رَسُوله مُحَمَّد خير الْأَنَام وعَلى آله وَأَصْحَابه البررة الْكِرَام أَعْلَام الْهدى ومصابيح الظلام يَقُول أفقر عباد الله وأحوجهم إِلَى عَفوه مَا حَكَاهُ الشَّيْخ الإِمَام البارع الْهمام افتخار الْأَنَام جمال الْإِسْلَام ركن الشَّرِيعَة نَاصِر السّنة قامع الْبِدْعَة جَامع أشتات الْفَضَائِل قدوة الْعلمَاء الأماثل فِي هَذَا الْجَواب من أَقْوَال الْعلمَاء وَالْأَئِمَّة النبلاء رَحْمَة الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ بَين لَا يدْفع ومكشوف لَا يتقنع بل أوضج من النيرين وَأظْهر من فرق الصُّبْح لذِي عينين والعمدة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته ومنشأ الْخلاف بَين الْعلمَاء من احتمالي صيغته وَذَلِكَ أَن صِيغَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشد الرّحال ذَات وَجْهَيْن نفي وَنهي لاحتمالهما فَإِن لحظ معنى النَّفْي فمقتضاه نفي فَضِيلَة واستحباب شدّ الرّحال وإعمال الْمطِي إِلَى غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة إِذْ لَو فرض وقوعهما لامتنع رفعهما فَتعين توجه النَّفْي إِلَى فضيلتهما

واستحبابهما دون ذاتهما وَهَذَا عَام فِي كل مَا يعْتَقد أَن إِعْمَال الْمطِي وَشد الرّحال إِلَيْهِ قربَة وفضيلة من الْمَسَاجِد وزيارة قُبُور الصَّالِحين وَمَا جرى هَذَا المجرى بل أَعم من ذَلِك وَإِثْبَات ذَلِك بِدَلِيل ضَرُورَة إِثْبَات ذَلِك الْمَنْفِيّ الْمُقدر فِي صدر الْجُمْلَة لما بعد إِلَّا وَإِلَّا لما افترق الحكم بَين مَا قبلهَا وَمَا بعْدهَا وَهُوَ مفترق حِينَئِذٍ لَا يلْزم من نفي الْفَضِيلَة والاستحباب نفي الْإِبَاحَة فَهَذَا وَجه متمسك من قَالَ بِإِبَاحَة هَذَا السّفر بِالنّظرِ إِلَى أَن هَذِه الصِّيغَة نفي وَبنى على ذَلِك جَوَاز الْقصر وَإِن كَانَ النَّهْي ملحوظا فَالْمَعْنى نَهْيه عَن إِعْمَال الْمطِي وَشد الرّحال إِلَى غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة إِذْ الْمُقَرّر عِنْد عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ أَن النَّهْي عَن الشَّيْء قَاض بِتَحْرِيمِهِ أَو كَرَاهَته على حسب مُقْتَضى الْأَدِلَّة فَهَذَا وَجه متمسك من قَالَ بِعَدَمِ جَوَاز الْقصر فِي هَذَا السّفر لكَونه مَنْهِيّا عَنهُ وَمِمَّنْ قَالَ بحرمته الشَّيْخ الإِمَام أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ من الشَّافِعِيَّة وَالشَّيْخ أَبُو الْوَفَاء ابْن عقيل من الْحَنَابِلَة وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ القَاضِي عِيَاض من الْمَالِكِيَّة إِلَى اخْتِيَاره وَمَا جَاءَ من الْأَحَادِيث فِي اسْتِحْبَاب زِيَارَة الْقُبُور فَمَحْمُول على مَا لم يكن فِيهِ شدّ رَحل وإعمال مطي جمعا بَينهمَا

وَيحْتَمل أَن يُقَال لَا يصلح أَن يكون غير حَدِيث لَا تشد الرّحال مُعَارضا لَهُ لعدم مساواته إِيَّاه فِي الدرجَة لكَونه من أَعلَى أَقسَام الصَّحِيح وَالله اعْلَم وَقد بَلغنِي أَنه رزىء وضيق على الْمُجيب وَهَذَا أَمر يحار فِيهِ اللبيب ويتعجب مِنْهُ الأريب وَيَقَع بِهِ فِي شكّ مريب فَإِن جَوَابه فِي هَذِه الْمَسْأَلَة قَاض بِذكر خلاف الْعلمَاء وَلَيْسَ حَاكما بالغض من الصَّالِحين والأنبياء فَإِن الْأَخْذ بِمُقْتَضى كَلَامه صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَة رَفعه إِلَيْهِ هُوَ الْغَايَة القصوى فِي تتبع أوامره ونواهيه والعدول عَن ذَلِك مَحْذُور وَذَلِكَ مِمَّا لَا مرية فِيهِ وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَأَي حرج على من سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَذكر فِيهَا خلاف الْفُقَهَاء وَمَال فِيهَا إِلَى بعض أَقْوَال الْعلمَاء فَإِن الْأَمر لم يزل كَذَلِك على ممر العصور وتعاقب الدهور وَهل ذَلِك مَحْمُول من القادح إِلَّا على امتطاء نضو الْهوى المفضي بِصَاحِبِهِ إِلَى التوى فَإِن من يقتبس من فَوَائده ويلتقط من فرائده لحقيق بالتعظيم وخليق بالتكريم مِمَّن لَهُ الْفَهم السَّلِيم والذهن الْمُسْتَقيم وَهل حكم الْمظَاهر عَلَيْهِ فِي الظَّاهِر إِلَّا كَمَا قيل فِي الْمثل السائر وَقَول الشَّاعِر الشّعير يُؤْكَل ويذم

.. جزى بنوه أَب الغيلان عَن كبر ... وَحسن فعل كَمَا يجزى سنمار ... غَيره ... وَحَدِيث ألذه وَهُوَ مِمَّا ... ينعَت الناعتون يُوزن وزنا منطق رائع ويلحن أَحْيَا ... نَا وَخير الحَدِيث مَا كَانَ لحناك ... وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى وَاتَّقوا الله إِن الله خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان وَاتَّقوا الله إِن الله شَدِيد الْعقَاب} وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى {ولينصرن الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز} وَلَوْلَا خشيَة الملالة لما نكبت عَن الإطالة نسْأَل الله الْكَرِيم أَن يسْلك بِنَا وبكم سَبِيل الْهِدَايَة وَأَن يجنبنا وَإِيَّاكُم مَسْلَك الغواية إِنَّه على كل شَيْء قدير وبالإجابة جدير حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَنعم النصير وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وصلوات الله وَسَلَامه على سيد الْمُرْسلين مُحَمَّد النَّبِي وَآله الطاهرين وَأَصْحَابه الْكِرَام المنتخبين

الحمد لله وهو حسبي

هَذَا جَوَاب الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة جمال الدّين يُوسُف بن عبد الْمَحْمُود ابْن عبد السلام بن البتي الْحَنْبَلِيّ رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ الْمُؤلف وَمن خطه نقلت آخر لبَعض عُلَمَاء أهل الشأم الْمَالِكِيَّة الْحَمد لله وَهُوَ حسبي السّفر إِلَى غير الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة لَيْسَ بمشروع وَأما من سَافر إِلَى مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُصَلِّي فِيهِ وَيسلم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى صَاحِبيهِ رَضِي الله عَنْهُمَا فمشروع كَمَا ذكر بِاتِّفَاق الْعلمَاء وَأما لَو قصد إِعْمَال الْمطِي لزيارته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يقْصد الصَّلَاة فَهَذَا السّفر إِذا ذكر رجل فِيهِ خلافًا للْعُلَمَاء وَأَن مِنْهُم من قَالَ إِنَّه مَنْهِيّ عَنهُ وَمِنْهُم من قَالَ أَنه مُبَاح وَأَنه على الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ بِطَاعَة وَلَا قربَة فَمن جعله طَاعَة وقربة على مُقْتَضى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ كَانَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاع وَذكر حجَّة كل قَول مِنْهُمَا أَو رجح أحد الْقَوْلَيْنِ لم يلْزمه مَا يلْزم من تنقص إِذْ لَا تنقص وَلَا إزراء بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

وَقد قَالَ مَالك رَحمَه الله لسائل سَأَلَهُ أَنه نذر أَن يَأْتِي قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ إِن كَانَ أَرَادَ مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فليأته وَليصل فِيهِ وَإِن كَانَ أَرَادَ الْقَبْر فَلَا يفعل للْحَدِيث الَّذِي جَاءَ لَا تعْمل الْمطِي إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد وَالله أعلم كتبه أَبُو عَمْرو بن أبي الْوَلِيد الْمَالِكِي كَذَلِك يَقُول عبد الله بن أبي الْوَلِيد الْمَالِكِي قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله نقلت هَذِه الْأَجْوِبَة كلهَا من خطّ الْمُفْتِينَ بهَا قَالَ ووقفت على كتاب ورد مَعَ أجوبة أهل بَغْدَاد وَصورته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله نَاصِر الْملَّة الإسلامية ومعز الشَّرِيعَة المحمدية بدوام أَيَّام الدولة الْمُبَارَكَة السُّلْطَانِيَّة الْمَالِكِيَّة الناصرية ألبسها الله تَعَالَى لِبَاس الْعِزّ المقرون بالدوام وحلاها بحلية النَّصْر المستمر بمرور اللَّيَالِي وَالْأَيَّام وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على النَّبِي الْمَبْعُوث إِلَى جَمِيع الْأَنَام صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله البررة الْكِرَام اللَّهُمَّ إِن بابك لم يزل مَفْتُوحًا للسائلين ورفدك مَا برح مبذولا للوافدين من عودته مسألتك وَحدك لم يسْأَل أحدا سواك وَمن

منحته منائح رفدك لم يفد على غَيْرك وَلم يحتم إِلَّا بحماك أَنْت الرب الْعَظِيم الْكَرِيم الأكرم قصد بَاب غَيْرك على عِبَادك محرم أَنْت الَّذِي لَا إِلَه غَيْرك وَلَا معبود سواك عز جَارك وَجل ثناؤك وتقدست أسماؤك وَعظم بلاؤك وَلَا إِلَه غَيْرك وَلم تزل سنتك فِي خلقك جَارِيَة بامتحان أوليائك وأحبابك تفضلا مِنْك عَلَيْهِم وإحسانا من لَدُنْك إِلَيْهِم ليزدادوا لَك فِي جَمِيع الْحَالَات ذكرا ولإنعامك فِي جَمِيع التقلبات شكرا وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} اللَّهُمَّ وَأَنت الْعَالم الَّذِي لَا تعلم وَأَنت الْكَرِيم الَّذِي لَا تبخل قد علمت يَا عَالم السِّرّ وَالْعَلَانِيَة أَن قُلُوبنَا لم تزل ترفع إخلاص الدُّعَاء صَادِقَة وألسنتنا فِي حالتي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة ناطقة أَن تسعفنا بإمداد هَذِه الدولة الْمُبَارَكَة الميمونة السُّلْطَانِيَّة الناصرية بمزيد الْعلَا والرفعة والتمكين وَأَن تحقق آمالنا فِيهَا بإعلاء الْكَلِمَة فِي ذَلِك بِرَفْع قَوَاعِد دعائم الدّين وقمع مكايد الْمُلْحِدِينَ لِأَنَّهَا الدولة الَّتِي بَرِئت من غشيان الجنف والحيف وسلمت من طغيان الْقَلَم وَالسيف وَالَّذِي ينطوي عَلَيْهِ ضمائر الْمُسلمين ويشتمل عَلَيْهِ سرائر الْمُؤمنِينَ أَن السُّلْطَان الْملك النَّاصِر للدّين مِمَّن قَالَ فِيهِ رب

الْعَالمين وإله السَّمَوَات وَالْأَرضين الَّذِي بتمكينه فِي أرضه حصل التَّمْكِين لملوك الأَرْض وَعُظَمَاء السلاطين فِي كِتَابه الْعَزِيز الَّذِي يُتْلَى فَمن شَاءَ فليتدبر {الَّذين إِن مكناهم فِي الأَرْض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر} وَهُوَ مِمَّن مكنه الله تَعَالَى فِي الأَرْض تمكينا يَقِينا لَا ظنا وَهُوَ مِمَّن يَعْنِي بقوله تَعَالَى {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم وليمكنن لَهُم دينهم الَّذِي ارتضى لَهُم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لَا يشركُونَ بِي شَيْئا} وَالَّذِي عهد الْمُسلمُونَ وتعوده الْمُؤْمِنُونَ من المراحم الْكَرِيمَة والعواطف الرحيمة إكرام أهل الدّين وإعظام عُلَمَاء الْمُسلمين وَالَّذِي حمل على رفع هَذِه الْأَدْعِيَة الصَّرِيحَة إِلَى الحضرة الشَّرِيفَة وَإِن كَانَت لم تزل مَرْفُوعَة إِلَى الله سُبْحَانَهُ بِالنِّيَّةِ الصَّحِيحَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدّين النَّصِيحَة قيل لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ فهذان الحديثان مشهوران بِالصِّحَّةِ ومستفاضان فِي الْأمة ثمَّ إِن هَذَا الشَّيْخ الْمُعظم الْجَلِيل وَالْإِمَام المكرم النَّبِيل أوحد

الدَّهْر وفريد الْعَصْر طراز المملكة الملكية وَعلم الدولة السُّلْطَانِيَّة لَو أقسم مقسم بِاللَّه الْعَظِيم الْقَدِير أَن هَذَا الإِمَام الْكَبِير لَيْسَ لَهُ فِي عصره مماثل وَلَا نَظِير لكَانَتْ يَمِينه برة غنية عَن التَّكْفِير وَقد خلت من وجود مثله السَّبع الأقاليم إِلَّا هَذَا الإقليم يُوَافق على ذَلِك كل منصف جبل على الطَّبْع السَّلِيم وَلست بالثناء عَلَيْهِ أطريه بل لَو أطنب مطنب فِي مدحه وَالثنَاء عَلَيْهِ لما أَتَى على بعض الْفَضَائِل الَّتِي هِيَ فِيهِ أَحْمد بن تَيْمِية درة يتيمة يتنافس فِيهَا تشترى وَلَا تبَاع لَيْسَ فِي خَزَائِن الْمُلُوك درة تماثلها وتؤاخيها انْقَطَعت عَن وجود مثله الأطماع لقد أَصمّ الأسماع وأوهى قوى المتبوعين والأتباع سَماع رفع أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية إِلَى القلاع وَلَيْسَ يَقع من مثله أَمر ينقم مِنْهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنه يكون أمرا قد لبس عَلَيْهِ وَنسب إِلَى مَا لَا ينْسب مثله إِلَيْهِ والتطويل على الحضرة الْعَالِيَة لَا يَلِيق إِن يكن فِي الدُّنْيَا قطب فَهُوَ القطب على التَّحْقِيق قد نصب الله السُّلْطَان أَعلَى الله شَأْنه فِي هَذَا الزَّمَان منصب يُوسُف الصّديق صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ لما صرف الله وُجُوه أهل الْبِلَاد إِلَيْهِ حِين أَمْحَلت الْبِلَاد وَاحْتَاجَ أَهلهَا إِلَى الْقُوت المدخر لَدَيْهِ وَالْحَاجة بِالنَّاسِ والآن إِلَى قوت الْأَرْوَاح الْمشَار فِي ذَلِك الزَّمَان إِلَيْهَا لإخفاء أَنَّهَا للعلوم الشَّرِيفَة والمعان اللطيفة

وَقد كَانَت فِي بِلَاد المملكة السُّلْطَانِيَّة حرسها الله تَعَالَى تكال إِلَيْنَا جزَافا بِغَيْر أَثمَان منحة عَظِيمَة من الله للسُّلْطَان ونعمة جسيمة إِذْ خص بِلَاد مَمْلَكَته وإقليم دولته بِمَا لَا يُوجد فِي غَيرهَا من الأقاليم والبلدان وَكَانَ قد وَفد الوافدون من سَائِر الْأَمْصَار إِلَى تِلْكَ الديار فوجدوا صَاحب صواع الْملك قد رفع إِلَى القلاع وَمثل هَذِه الْميرَة لَا تُوجد فِي غير تِلْكَ الْبِلَاد لتشترى أَو تبَاع فصادف ذَلِك جَدب الأَرْض ونواحيها جدبا أعطب أهاليها حَتَّى صَارُوا من شدَّة حَاجتهم إِلَى الأقوات كالأموات وَالَّذِي عرض للْملك بالتضييق على صَاحب صواعه مَعَ شدَّة الْحَاجة إِلَى غذَاء الْأَرْوَاح لَعَلَّه لم يتَحَقَّق عِنْده أَن هَذَا الإِمَام من أكَابِر الْأَوْلِيَاء وأعيان أهل الصّلاح وَهَذِه نزغة من نزغات الشَّيْطَان قَالَ الله سُبْحَانَهُ {وَقل لعبادي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحسن إِن الشَّيْطَان ينزغ بَينهم إِن الشَّيْطَان كَانَ للْإنْسَان عدوا مُبينًا} وَأما إزراء بعض الْعلمَاء عَلَيْهِ فِي فتواه وَجَوَابه عَن مَسْأَلَة شدّ الرّحال إِلَى الْقُبُور فقد حمل جَوَاب عُلَمَاء هَذِه الْبِلَاد إِلَى نظرائهم من الْعلمَاء وقرنائهم من الْفُضَلَاء وَكلهمْ أفتى أَن الصَّوَاب فِي الَّذِي بِهِ أجَاب وَالظَّاهِر بَين الْأَنَام أَن إكرام هَذَا الإِمَام ومعاملته بالتبجيل والاحترام فِيهِ قوام الْملك ونظام الدولة وإعزاز الْملَّة واستجلاب

الدُّعَاء وكبت الْأَعْدَاء وإذلال أهل الْبدع والأهواء وإحياء الْأمة وكشف الْغُمَّة ووفور الْأجر وعلو الذّكر وَرفع الْبَأْس ونفع النَّاس ولسان حَال الْمُسلمين تال قَول الْكَبِير المتعال {فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيهَا الْعَزِيز مسنا وأهلنا الضّر وَجِئْنَا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الْكَيْل وَتصدق علينا إِن الله يَجْزِي المتصدقين} والبضاعة المزجاة هِيَ هَذِه الأوراق المرقومة بالأقلام والميرة الْمَطْلُوبَة هِيَ الإفراج عَن شيخ الْإِسْلَام وَالَّذِي حمل على هَذَا الْإِقْدَام قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الدّين النَّصِيحَة وَالسَّلَام وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله الطيبين الْكِرَام وَسلم تَسْلِيمًا هَذَا آخر هَذَا الْكتاب قَالَ الْمُؤلف ووقفت على كتاب آخر من بَغْدَاد أَيْضا صورته بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على الْمُرْسلين مُحَمَّد النَّبِي وَآله وَصَحبه اجمعين اللَّهُمَّ فَكَمَا أيدت مُلُوك الْإِسْلَام وولاة الْأُمُور بِالْقُوَّةِ والأيد وشيدت لَهُم ذكرا وجعلتهم للمقهور اللائذ بجنابهم ذخْرا وللمكسور العائذ بِأَكْنَافِ بابهم جبرا فاشدد اللَّهُمَّ مِنْهُم بِحسن معونتك لَهُم

أزرا وأعل لَهُم جدا وارفع قدرا وزدهم عزا وزودهم على أعدائك نصرا وامنحهم تَوْفِيقًا مُسَددًا وتمكينا مستمرا وَبعد فَإِنَّهُ لما قرع أسماع أهل الْبِلَاد المشرقية والنواحي العراقية التَّضْيِيق على شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية سلمه الله عظم ذَلِك على الْمُسلمين وشق على ذَوي الدّين وَارْتَفَعت رُؤُوس الْمُلْحِدِينَ وجابت نفوس أهل الْأَهْوَاء والمبتدعين وَلما رأى عُلَمَاء أهل هَذِه النَّاحِيَة عظم هَذِه النَّازِلَة من شماتة أهل الْبدع وَأهل الْأَهْوَاء بأكابر الأفاضر وأئمة الْعلمَاء أنهوا حَال هَذَا الْأَمر الفظيع وَالْأَمر الشنيع إِلَى الحضرة الشَّرِيفَة السُّلْطَانِيَّة زَادهَا الله شرفا وَكَتَبُوا أجوبتهم فِي تصويب مَا أجَاب بِهِ الشَّيْخ سلمه الله فِي فَتَاوَاهُ وَذكروا من علمه وفضائله بعض مَا هُوَ فِيهِ وحملوا ذَلِك إِلَى بَين يَدي مَوْلَانَا ملك الْأُمَرَاء أعز الله أنصاره وضاعف اقتداءه غيرَة مِنْهُم على هَذَا الدّين ونصيحة لِلْإِسْلَامِ وأمراء الْمُؤمنِينَ والآراء المولوية الْعَالِيَة أولى بالتقديم لِأَنَّهَا ممنوحة بالهداية إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَأفضل الصَّلَاة وأشرف التَّسْلِيم على النَّبِي الْأُمِّي صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه الطيبين الطاهرين وَسلم تَسْلِيمًا

وفاة الشيخ رحمه الله بالقلعة وما كتب بها قبل موته

وَفَاة الشَّيْخ رَحمَه الله بالقلعة وَمَا كتب بهَا قبل مَوته ثمَّ إِن الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى بَقِي مُقيما بالقلعة سنتَيْن وَثَلَاثَة أشهر وأياما ثمَّ توفّي إِلَى رَحْمَة الله ورضوانه وَمَا برح فِي هَذِه الْمدَّة مكبا على الْعِبَادَة والتلاوة وتصنيف الْكتب وَالرَّدّ على الْمُخَالفين وَكتب على تَفْسِير الْقُرْآن الْعَظِيم جملَة كَثِيرَة تشْتَمل نفائس جليلة ونكت دقيقة وَمَعَان لَطِيفَة وَبَين فِي ذَلِك مَوَاضِع كَثِيرَة أشكلت على خلق من عُلَمَاء أهل التَّفْسِير وَكتب فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي حبس بِسَبَبِهَا عدَّة مجلدات مِنْهَا كتاب فِي الرَّد على ابْن الأخنائي قَاضِي الْمَالِكِيَّة بِمصْر تعرف بالأخنائية وَمِنْهَا كتاب كَبِير حافل فِي الرَّد على بعض قُضَاة الشَّافِعِيَّة وَأَشْيَاء كَثِيرَة فِي هَذَا الْمَعْنى أَيْضا وَفَاة الشَّيْخ عبد الله أخي الشَّيْخ وَفِي هَذِه الْمدَّة الَّتِي كَانَ الشَّيْخ فِيهَا بالقلعة توفّي أَخُوهُ الشَّيْخ الإِمَام

الْعَالم الْعَلامَة البارع الْحَافِظ الزَّاهِد الْوَرع جمال الْإِسْلَام شرف الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الله توفّي يَوْم الْأَرْبَعَاء الرَّابِع عشر من جمادي الأولى من سنة سبع وَعشْرين وَسَبْعمائة وَصلى عَلَيْهِ ظهر الْيَوْم الْمَذْكُور بِجَامِع دمشق وَحمل إِلَى بَاب القلعة فصلى عَلَيْهِ مرّة أُخْرَى وَصلى عَلَيْهِ أَخُوهُ وَخلق من دَاخل القلعة وَكَانَ الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ يبلغهما وَكثر الْبكاء فِي تِلْكَ السَّاعَة وَكَانَ وقتا مشهودا ثمَّ صلي عَلَيْهِ مرّة ثَالِثَة ورابعة وَحمل على الرؤوس والأصابع إِلَى مَقْبرَة الصُّوفِيَّة فَدفن بهَا وَحضر جنَازَته جمع كثير وعالم عَظِيم وَكثر الثَّنَاء والتأسف عَلَيْهِ وَكَانَ رَحمَه الله صَاحب صدق وإخلاص قانعا باليسير شرِيف النَّفس شجاعا مقداما مُجَاهدًا بارعا فِي الْفِقْه إِمَامًا فِي النَّحْو مستحضرا لتراجم السّلف ووفياتهم لَهُ فِي ذَلِك يَد طولى عَالما بالتواريخ الْمُتَقَدّمَة والمتأخرة وَكَانَ رَحمَه الله شَدِيد الْخَوْف والشفقة على أَخِيه شيخ الْإِسْلَام وَكَانَ يخرج من بَيته لَيْلًا وَيرجع إِلَيْهِ لَيْلًا وَلَا يجلس فِي مَكَان معِين بِحَيْثُ يقْصد فِيهِ وَلكنه يأوي إِلَى الْمَسَاجِد المهجورة والأماكن الَّتِي لَيست بمشهورة وَكَانَ كثير الْعِبَادَة والتأله والمراقبة وَالْخَوْف من الله وَلم يزل على ذَلِك إِلَى حِين مَرضه ووفاته

معاملة الشيخ في سجنه بالقلعة

ومولده فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر من الْمحرم سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بحران وَسمع من أبي الْيُسْر وَالْجمال عبد الرحمن الْبَغْدَادِيّ وَابْن الصَّيْرَفِي وَالشَّيْخ شمس الدّين وَابْن البُخَارِيّ وَخلق كثير وَحدث وَسمع الْكتب الْكِبَار وَقد سُئِلَ عَنهُ الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن الزملكاني فَقَالَ هُوَ بارع فِي فنون عديدة من الْفِقْه والنحو وَالْأُصُول ملازم لأنواع الْخَيْر وَتَعْلِيم الْعلم حسن الْعِبَادَة قوي فِي دينه جيد التفقه مستحضر لمذهبه استحضارا جيدا مليح الْبَحْث صَحِيح الذِّهْن قوي الْفَهم مُعَاملَة الشَّيْخ فِي سجنه بالقلعة قلت وَمَا زَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَحمَه الله فِي هَذِه الْمدَّة مُعظما مكرما يُكرمهُ نقيب القلعة ونائبها إِكْرَاما كثيرا ويستعرضان حَوَائِجه ويبالغان فِي قَضَائهَا وَكَانَ مَا صنفه فِي هَذِه الْمدَّة قد خرج بعضه من عِنْده وَكتبه بعض أَصْحَابه واشتهر وَظهر فَلَمَّا كَانَ قبل وَفَاته بأشهر ورد مرسوم السُّلْطَان بِإِخْرَاج مَا عِنْده كُله وَلم يبْق عِنْده كتاب وَلَا ورقة وَلَا دَوَاة وَلَا قلم وَكَانَ بعد

ذَلِك إِذا كتب ورقة إِلَى بعض أَصْحَابه يَكْتُبهَا بفحم وَقد رايت أوراقا عدَّة بعثها إِلَى أَصْحَابه وَبَعضهَا مَكْتُوب بفحم مِنْهَا ورقة يَقُول فِيهَا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَنحن لله الْحَمد وَالشُّكْر فِي نعم متزايدة متوافرة وَجَمِيع مَا يَفْعَله الله فِيهِ نصر الْإِسْلَام وَهُوَ من نعم الله الْعِظَام {هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله وَكفى بِاللَّه شَهِيدا} فَإِن الشَّيْطَان اسْتعْمل حزبه فِي إِفْسَاد دين الله الَّذِي بعث بِهِ رسله وَأنزل كتبه وَمن سنة الله أَنه إِذا إراد إِظْهَار دينه أَقَامَ من يُعَارضهُ فيحق الْحق بكلماته ويقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق وَالَّذِي سعى فِيهِ حزب الشَّيْطَان لم يكن مُخَالفَة لشرع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده بل مُخَالفَة لدين جَمِيع الْمُرْسلين إِبْرَاهِيم ومُوسَى والمسيح وَمُحَمّد خَاتم النَّبِيين صلى الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَكَانُوا قد سعوا فِي أَن لَا يظْهر من جِهَة حزب الله وَرَسُوله خطاب وَلَا كتاب وجزعوا من ظُهُور الأخنائية فاستعملهم الله تَعَالَى حَتَّى أظهرُوا أَضْعَاف ذَلِك وَأعظم وألزمهم بتفتيشه ومطالعته ومقصودهم إِظْهَار عيوبه وَمَا يحتجون بِهِ فَلم يَجدوا فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ حجَّة عَلَيْهِم

وَظهر لَهُم جهلهم وكذبهم وعجزهم وشاع هَذَا فِي الأَرْض وَأَن هَذَا مِمَّا لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الله وَلم يُمكنهُم أَن يظهروا علينا فِيهِ عَيْبا فِي الشَّرْع وَالدّين بل غَايَة مَا عِنْدهم أَنه خُولِفَ مرسوم بعض المخلوقين والمخلوق كَائِنا من كَانَ إِذا خَالف أَمر الله تَعَالَى وَرَسُوله لم يجب بل وَلَا يجوز طَاعَته فِي مُخَالفَة أَمر الله وَرَسُوله بِاتِّفَاق الْمُسلمين وَقَول الْقَائِل إِنَّه يظْهر الْبدع كَلَام يظْهر فَسَاده لكل مستبصر وَيعلم أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ فَإِن الَّذِي يظْهر الْبِدْعَة إِمَّا أَن يكون لعدم علمه بِسنة الرَّسُول أَو لكَونه لَهُ غَرَض وَهوى يُخَالف ذَلِك وَهُوَ أولى بِالْجَهْلِ بِسنة الرَّسُول وَاتِّبَاع هواهم بِغَيْر هدى من الله {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} مِمَّن هُوَ أعلم بِسنة الرَّسُول مِنْهُم وَأبْعد عَن الْهوى وَالْغَرَض فِي مخالفتها {ثمَّ جعلناك على شَرِيعَة من الْأَمر فاتبعها وَلَا تتبع أهواء الَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّهُم لن يغنوا عَنْك من الله شَيْئا وَإِن الظَّالِمين بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَالله ولي الْمُتَّقِينَ} وَهَذِه قَضِيَّة كَبِيرَة لَهَا شَأْن عَظِيم ولتعلمن نبأه بعد حِين ثمَّ ذكر الشَّيْخ فِي الورقة كلَاما لَا يُمكن قِرَاءَة جَمِيعه لانطماسه وَقَالَ بعده وَكَانُوا يطْلبُونَ تَمام الأخنائية فعندهم مَا يطمهم أضعافها وَأقوى فقها مِنْهَا وَأَشد مُخَالفَة لأغراضهم فَإِن الزملكانية قد بَين فِيهَا من

ورقة أخرى مما كتبه الشيخ في السجن

نَحْو خمسين وَجها أَن مَا حكم بِهِ ورسم بِهِ مُخَالف لإِجْمَاع الْمُسلمين وَمَا فَعَلُوهُ لَو كَانَ مِمَّن يعرف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول ويتعمد مُخَالفَته لَكَانَ كفرا وردة عَن الْإِسْلَام لكِنهمْ جهال دخلُوا فِي شَيْء مَا كَانُوا يعرفونه وَلَا ظنُّوا أَنه يظْهر مِنْهُ أَن السلطنة تخَالف مُرَادهم وَالْأَمر أعظم مِمَّا ظهر لكم وَنحن وَللَّه الْحَمد على عَظِيم الْجِهَاد فِي سَبيله ثمَّ ذكر كلَاما وَقَالَ بل جهادنا فِي هَذَا مثل جهادنا يَوْم قازان والجبلية والجهمية والاتحادية وأمثال ذَلِك وَذَلِكَ من أعظم نعم الله علينا وعَلى النَّاس وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ وَمِنْهَا ورقة قَالَ فِيهَا ورقة أُخْرَى مِمَّا كتبه الشَّيْخ فِي السجْن وَنحن وَللَّه الْحَمد وَالشُّكْر فِي نعم عَظِيمَة تتزايد كل يَوْم ويجدد الله تَعَالَى من نعمه نعما أُخْرَى وَخُرُوج الْكتب كَانَ من اعظم النعم فَإِنِّي كنت حَرِيصًا على خُرُوج شَيْء مِنْهَا لتقفوا عَلَيْهِ وهم كَرهُوا خُرُوج الأخنائية فاستعملهم الله تَعَالَى فِي إِخْرَاج الْجَمِيع وإلزام المنازعين بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَبِهَذَا يظْهر مَا أرسل الله بِهِ رَسُوله من الْهدى وَدين الْحق

فَإِن هَذِه الْمسَائِل كَانَت خُفْيَة على أَكثر النَّاس فَإِذا ظَهرت فَمن كَانَ قَصده الْحق هداه الله وَمن كَانَ قَصده الْبَاطِل قَامَت عَلَيْهِ حجَّة الله وَاسْتحق أَن يذله الله ويخزيه وَمَا كتبت شَيْئا من هَذَا ليكتم عَن اُحْدُ وَلَو كَانَ مبغضا والأوراق الَّتِي فِيهَا جواباتكم غسلت وَأَنا طيب وعيناي طيبتان أطيب مَا كَانَتَا وَنحن فِي نعم عَظِيمَة لَا تحصى وَلَا تعد وَالْحَمْد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ ثمَّ ذكر كلَاما وَقَالَ كل مَا يَقْضِيه الله تَعَالَى فِيهِ الْخَيْر وَالرَّحْمَة وَالْحكمَة إِن رَبِّي لطيف لما يَشَاء إِنَّه هُوَ الْقوي الْعَزِيز {الْعَلِيم الْحَكِيم} وَلَا يدْخل على أحد ضَرَر إِلَّا من ذنُوبه {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} فَالْعَبْد عَلَيْهِ أَن يشْكر الله وَيَحْمَدهُ دَائِما على كل حَال ويستغفر من ذنُوبه فالشكر يُوجب الْمَزِيد من النعم وَالِاسْتِغْفَار يدْفع النقم وَلَا يقْضِي الله لِلْمُؤمنِ قَضَاء إِلَّا كَانَ خيراله إِن أَصَابَته سراء شكر وَإِن أَصَابَته ضراء صَبر فَكَانَ خيرا لَهُ

وَهَذِه الورقة كتبهَا الشَّيْخ وأرسلها بعد خُرُوج الْكتب من عِنْده بِأَكْثَرَ من ثَلَاثَة أشهر فِي شهر شَوَّال قبل وَفَاته بِنَحْوِ شهر وَنصف وَلما أخرج مَا عِنْده من الْكتب والأوراق حمل إِلَى القَاضِي عَلَاء الدّين القونوي وَجعل تَحت يَده فِي الْمدرسَة العادلية وَأَقْبل الشَّيْخ بعد إخْرَاجهَا على الْعِبَادَة والتلاوة والتذكر والتهجد حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِين وَختم الْقُرْآن مُدَّة إِقَامَته بالقلعة ثَمَانِينَ أَو إِحْدَى وَثَمَانِينَ ختمة انْتهى فِي آخر ختمة إِلَى آخر اقْتَرَبت السَّاعَة {إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات ونهر فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر} ثمَّ كملت عَلَيْهِ بعد وَفَاته وَهُوَ مسجى كَانَ كل يَوْم يقْرَأ ثَلَاثَة أَجزَاء يخْتم فِي عشرَة أَيَّام هَكَذَا أَخْبرنِي أَخُوهُ زين الدّين وَكَانَت مُدَّة مَرضه بضعَة وَعشْرين يَوْمًا وَأكْثر النَّاس مَا علمُوا بمرضه فَلم يفجأ الْخلق إِلَّا نعيه فَاشْتَدَّ التأسف عَلَيْهِ وَكثر الْبكاء والحزن وَدخل إِلَيْهِ أَقَاربه وَأَصْحَابه وازدحم الْخلق على بَاب القلعة والطرقات وامتلأ جَامع دمشق وصلوا عَلَيْهِ وَحمل على الرؤوس رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ

ما كتبه العلماء في وفاة الشيخ

مَا كتبه الْعلمَاء فِي وَفَاة الشَّيْخ قَالَ الشَّيْخ علم الدّين وَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ لعشرين من ذِي الْقعدَة من سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة توفّي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْفَقِيه الْحَافِظ الزَّاهِد الْقدْوَة شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن شَيخنَا الإِمَام الْمُفْتِي شهَاب الدّين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشَّيْخ الإِمَام شيخ الْإِسْلَام مجد الدّين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي ثمَّ الدِّمَشْقِي بقلعة دمشق الَّتِي كَانَ مَحْبُوسًا فِيهَا وَحضر جمع إِلَى القلعة فَأذن لَهُم فِي الدُّخُول وَجلسَ جمَاعَة قبل الْغسْل وقرأوا الْقُرْآن وتبركوا بِرُؤْيَتِهِ وَتَقْبِيله ثمَّ انصرفوا

وَحضر جمَاعَة من النِّسَاء ففعلن مثل ذَلِك ثمَّ انصرفن وَاقْتصر على من يغسل ويعين فِي غسله فَلَمَّا فرغ من ذَلِك أخرج وَقد اجْتمع النَّاس بالقلعة وَالطَّرِيق إِلَى جَامع دمشق وامتلأ الْجَامِع وصحنه والكلاسة وَبَاب الْبَرِيد وَبَاب السَّاعَات إِلَى اللبادين والفوارة وَحَضَرت الْجِنَازَة فِي السَّاعَة الرَّابِعَة من النَّهَار أَو نَحْو ذَلِك وَوضعت فِي الْجَامِع والجند يحفظونها من النَّاس من شدَّة الزحام وَصلى عَلَيْهِ أَولا بالقلعة تقدم فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ الشَّيْخ مُحَمَّد بن تَمام ثمَّ صلى عَلَيْهِ بِجَامِع دمشق عقيب صَلَاة الظّهْر وَحمل من بَاب الْبَرِيد وَاشْتَدَّ الزحام وَألقى النَّاس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك وَصَارَ النعش على الرؤوس تَارَة يتَقَدَّم وَتارَة يتَأَخَّر وَخرج النَّاس من الْجَامِع من أبوابه كلهَا من شدَّة الزحام وكل بَاب أعظم زحمة من الآخر ثمَّ خرج النَّاس من أَبْوَاب الْبَلَد جَمِيعهَا من شدَّة الزحام لَكِن كَانَ الْمُعظم من الْأَبْوَاب الْأَرْبَعَة بَاب الْفرج الَّذِي أخرجت مِنْهُ الْجِنَازَة

وَمن بَاب الفراديس وَمن بَاب النَّصْر وَبَاب الْجَابِيَة وَعظم الْأَمر بسوق الْخَيل وَتقدم فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ هُنَاكَ أَخُوهُ زين الدّين عبد الرحمن وَحمل إِلَى مَقْبرَة الصُّوفِيَّة فَدفن إِلَى جَانب أَخِيه شرف الدّين عبد الله رحمهمَا الله وَكَانَ دَفنه وَقت الْعَصْر أَو قبلهَا بِيَسِير وأغلق النَّاس حوانيتهم وَلم يتَخَلَّف عَن الْحُضُور إِلَّا الْقَلِيل من النَّاس أَو من أعجزه الزحام وحضرها نسَاء كثير بِحَيْثُ حزرن بِخَمْسَة عشر ألفا وَأما الرِّجَال فحزروا بستين ألفا وَأكْثر إِلَى مِائَتي الف وَشرب جمَاعَة المَاء الَّذِي فضل من غسله واقتسم جمَاعَة بَقِيَّة السدر الَّذِي غسل بِهِ وَقيل إِن الطاقية الَّتِي كَانَت على رَأسه دفع فِيهَا خَمْسمِائَة دِرْهَم وَقيل إِن الْخَيط الَّذِي فِيهِ الزئبق الَّذِي كَانَ فِي عُنُقه بِسَبَب الْقمل دفع فِيهِ مائَة وَخَمْسُونَ درهما وَحصل فِي الْجِنَازَة ضجيج وبكاء وتضرع وختمت لَهُ ختم كَثِيرَة بالصالحية والبلد وَتردد النَّاس إِلَى قَبره أَيَّامًا كَثِيرَة لَيْلًا وَنَهَارًا ورؤيت لَهُ منامات كَثِيرَة صَالِحَة ورثاه جمَاعَة بقصائد جمة

وَكَانَ مولده يَوْم الْإِثْنَيْنِ عَاشر ربيع الأول بحران سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَقدم مَعَ وَالِده وَأَهله إِلَى دمشق وَهُوَ صَغِير فَسمع الحَدِيث من ابْن عبد الدايم وَابْن أبي الْيُسْر وَابْن عَبْدَانِ وَالشَّيْخ شمس الدّين الْحَنْبَلِيّ وَالْقَاضِي شمس الدّين بن عَطاء الْحَنَفِيّ وَالشَّيْخ جمال الدّين ابْن الصَّيْرَفِي ومجد الدّين بن عَسَاكِر وَالشَّيْخ جمال الدّين الْبَغْدَادِيّ والنجيب الْمِقْدَاد وَابْن أبي الْخَيْر وَابْن عَلان وَأبي بكر الْهَرَوِيّ والكمال عبد الرحيم وَالْفَخْر عَليّ وَابْن شَيبَان والشرف ابْن القواس وَزَيْنَب بنت مكي وَخلق كثير وَقَرَأَ بِنَفسِهِ الْكثير وَطلب الحَدِيث وَكتب الطباق والأثبات ولازم السماع بِنَفسِهِ مُدَّة سِنِين واشتغل بالعلوم وَكَانَ ذكيا كثير الْمَحْفُوظ فَصَارَ إِمَامًا فِي التَّفْسِير وَمَا يتَعَلَّق بِهِ عَارِفًا بالفقه وَاخْتِلَاف الْعلمَاء والأصلين والنحو واللغة وَغير ذَلِك من الْعُلُوم النقلية والعقلية وَمَا تكلم مَعَه فَاضل فِي فن إِلَّا ظن أَن ذَلِك الْفَنّ فنه وَرَآهُ عَارِفًا بِهِ متقنا لَهُ وَأما الحَدِيث فَكَانَ حَافِظًا لَهُ مُمَيّزا بَين صَحِيحه وسقيمه عَارِفًا بِرِجَالِهِ متضلعا من ذَلِك

وَله تصانيف كَثِيرَة وتعاليق مفيدة فِي الْفُرُوع وَالْأُصُول كمل مِنْهَا جملَة وبيضت وكتبت عَنهُ وَجُمْلَة كَثِيرَة لم يكملها وَجُمْلَة كملها وَلَكِن لم تبيض وَأثْنى عَلَيْهِ وعَلى فضائله جمَاعَة من عُلَمَاء عصره مثل القَاضِي الخوى وَابْن دَقِيق الْعِيد وَابْن النّحاس وَابْن الزملكاني وَغَيرهم وَوجدت بِخَط الشَّيْخ جمال الدّين بن الزملكاني أَنه اجْتمعت فِيهِ شُرُوط الِاجْتِهَاد على وَجههَا وَأَن لَهُ الْيَد الطُّولى فِي حسن التصنيف وجودة الْعبارَة وَالتَّرْتِيب والتقسيم والتبيين وَكتب على تصنيف لَهُ هَذِه الأبيات الثَّلَاثَة من نظمه وَهِي ... مَاذَا يَقُول الواصفون لَهُ ... وَصِفَاته جالت عَن الْحصْر هُوَ حجَّة لله قاهرة ... هُوَ بَيْننَا أعجوبة الدَّهْر هُوَ آيَة لِلْخلقِ ظَاهِرَة ... أنوارها أربت على الْفجْر ... وهذاالثناء عَلَيْهِ وَكَانَ عمره نَحْو الثَّلَاثِينَ سنة وَكَانَ بيني وَبَينه مَوَدَّة وصحبة من الصغر وَسَمَاع الحَدِيث والطلب من نَحْو خمسين سنة وَله فَضَائِل كَثِيرَة

وَأَسْمَاء مصنفاته وَمَا جرى بَينه وَبَين الْفُقَهَاء والدولة وحبسه مَرَّات وأحواله لَا يحْتَمل ذكر جَمِيعهَا هَذَا الْكتاب وَلما مَاتَ كنت غَائِبا عَن دمشق بطرِيق الْحجاز الشريف وبلغنا خَبره بعد مَوته بِأَكْثَرَ من خمسين يَوْمًا لما وصلنا إِلَى تَبُوك وَحصل التأسف لفقده رَحمَه الله تَعَالَى قلت وَقد قيل إِن الْخلق الَّذين حَضَرُوا جَنَازَة الشَّيْخ كَانُوا أَزِيد مِمَّا ذكر وَمن الْجَنَائِز الْعَظِيمَة فِي الْإِسْلَام جَنَازَة الإِمَام أبي عبد الله أَحْمد بن حَنْبَل فَإِن الَّذين حضروها وصلوا عَلَيْهِ كَانُوا أَكثر من ألف ألف إِنْسَان وَقد قَالَ الإِمَام أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي سَمِعت أَبَا عبد الرحمن السّلمِيّ يَقُول حضرت جَنَازَة أبي الْفَتْح القواس الزَّاهِد مَعَ الشَّيْخ أبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ فَلَمَّا بلغ إِلَى ذَلِك الْجمع الْكثير أقبل علينا وَقَالَ سَمِعت أَبَا سهل بن زِيَاد الْقطَّان يَقُول سَمِعت عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول سَمِعت أبي يَقُول قُولُوا لأهل الْبدع بَيْننَا وَبَيْنكُم يَوْم الْجَنَائِز قَالَ أَبُو عبد الرحمن على إِثْر هَذِه الْحِكَايَة أَنه حزر الحزارون

الْمُصَلِّين على جَنَازَة أَحْمد فَبلغ الْعدَد بحزرهم ألف ألف وَسَبْعمائة ألف سوى الَّذين كَانُوا فِي السفن وَقد وجد بِخَط الشَّيْخ أَبْيَات قَالَهَا بالقلعة وَهِي ... أَنا الْفَقِير إِلَى رب السَّمَاوَات ... أَنا الْمِسْكِين فِي مَجْمُوع حالاتي أناالظلوم لنَفْسي وَهِي ظالمتي ... وَالْخَيْر إِن جَاءَنَا من عِنْده ياتي لَا أَسْتَطِيع لنَفس جلب مَنْفَعَة ... وَلَا عَن النَّفس فِي دفع المضرات وَلَيْسَ لي دونه مولى يدبرني ... وَلَا شَفِيع إِلَى رب البريات إِلَّا بِإِذن من الرَّحْمَن خالقنا ... رب السَّمَاء كَمَا قد جَاءَ فِي الْآيَات وَلست أملك شَيْئا دونه أبدا ... وَلَا شريك أَنا فِي بعض ذراتي وَلَا ظهير لَهُ كَيْمَا أعاونه ... كَمَا يكون لأرباب الولايات والفقر لي وصف ذَات لَازم أبدا ... كَمَا الْغنى أبدا وصف لَهُ ذاتي وَهَذِه الْحَال حَال الْخلق أجمعهم ... وَكلهمْ عِنْده عبد لَهُ آتِي فَمن بغى مطلبا من دون خالقه ... فَهُوَ الجهول الظلوم الْمُشرك العاتي وَالْحَمْد لله ملْء الْكَوْن أجمعه ... مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا من بعده ياتي ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار من مُضر ... خير الْبَريَّة من مَاض وَمن آتِي ...

وَله أَيْضا ... إِن لله علينا أنعما ... يعجز الْحصْر عَن الْعد لَهَا فَلهُ الْحَمد على أنعمه ... وَله الْحَمد على الشُّكْر لَهَا ... وَقد مدح الشَّيْخ رَحمَه الله بقصائد كَثِيرَة فِي حَيَاته ورثي بِأَكْثَرَ مِنْهَا بعد وَفَاته فَمن القصائد الَّتِي مدح بهَا قصيدة نجم الدّين اسحق بن أبي بكر ابْن ألمى التركي وَهِي ... ذراني من ذكرى سعاد وَزَيْنَب ... وَمن ندب أطلال اللوى والمحصب وَمن مدح آرام سنحن برامة ... وَمن غزل فِي وصف سرب وربرب وَلَا تنشداني غير شعر إِلَى الْعلَا ... يظل ارتياحا يزدهيني ويطبي وَإِن أَنْتُمَا طارحتماني فَلْيَكُن ... حديثكما فِي ذكر مجد ومنصب بحب الأعالي لَا بحب أم جُنْدُب ... أقضى لبانات الْفُؤَاد المعذب ...

.. خلقت امْرَءًا جلدا على حمل الْهوى ... فلست أُبَالِي بالقلى والتجنب سَوَاء أرى للوصل تَعْرِيض جؤذر ... وإعراض ظَبْي ألعس الثغر أشنب وَلم أصب فِي عصر الشبيبة وَالصبَا ... فَهَل أصبون كهلا بلمة أشيب يعنفني فِي بغيتي رتب الْعلَا ... جهول أرَاهُ رَاكِبًا غير مركبي لَهُ همة دون الحضيض محلهَا ... ولي همة تسمو على كل كَوْكَب فَلَو كَانَ ذَا جهل بسيط عذرته ... وَلكنه يُدْلِي بِجَهْل مركب يَقُول علام اخْتَرْت مَذْهَب أَحْمد ... فَقلت لَهُ إِذْ كَانَ أَحْمد مَذْهَب ...

.. وَهل فِي ابْن شَيبَان مقَال لقَائِل ... وَهل فِيهِ من طعن لصَاحب مضرب أَلَيْسَ الَّذِي قد طَار فِي الأَرْض ذكره ... فطبقها مَا بَين شَرق ومغرب إِمَام الْهدى الدَّاعِي إِلَى سنَن الْهدى ... وَقد فاضت الْأَهْوَاء من كل مسغب أَتَوا بعظيم الْإِفْك وانتصروا لَهُ ... بِكُل مقَال بِالدَّلِيلِ مكذب وَقَالُوا كَلَام الله خلقا وكذبوا ... بِمَا صَحَّ نقلا عَن أبي وَمصْعَب وَأصْبح أهل الْحق بَين معاقب ... وَبَين معد للأذى مترقب فَقَامَ بِمَا يوهي ثبيرا ويذبلا ... قيام هزبر للفريسة مغضب ...

.. وَلم ينْتَه عَنْهُم وَلما يصده ... عُقُوبَة ذِي ظلم وجور معذب إِلَى أَن بدا الْإِسْلَام أَبْلَج ساطعا ... وكشف عَن ظلمائهم كل غيهب وَهدم من أركانهم كل شامخ ... ودوخ من شجعانهم كل قرهب ومزقهم أَيدي سبا فتفرقت ... كتائبهم مَا بَين شَرق ومغرب وَأَصْحَابه أهل الْهدى لَا يضرهم ... على دينهم طعن امرىء جَاهِل غبي هم الظاهرون القائمون بدينهم ... إِلَى الْحَشْر لم يَغْلِبهُمْ ذُو تغلب لنا مِنْهُم فِي كل عصر أَئِمَّة ... هداة إِلَى الْعليا مصابيح مرقب فأيدهم رب الْعلَا من عِصَابَة ... لإِظْهَار دين الله أهل تعصب ...

.. وَقد علم الرَّحْمَن أَن زَمَاننَا ... تشعب فِيهِ الرَّأْي أَي تشعب فجَاء بحبر عَالم من سراتهم ... لسبع مئين بعد هِجْرَة يثرب يُقيم قناة الدّين بعد اعوجاجها ... وينقذها من قَبْضَة المتغصب فَذَاك فَتى تَيْمِية خير سيد ... نجيب أَتَانَا من سلالة منجب عليم بأدواء النُّفُوس يسوسها ... بِحِكْمَتِهِ فعل الطَّبِيب المجرب بعيد من الْفَحْشَاء وَالْبَغي والأذى ... قريب إِلَى أهل التقى ذُو تحبب يغيب وَلَكِن عَن مسَاوٍ وغيبة ... وَعَن مشْهد الْإِحْسَان لم يتغيب حَلِيم كريم مُشفق بيد أَنه ... إِذا لم يطع فِي الله لله يغْضب يرى نصْرَة الْإِسْلَام أكْرم مغنم ... وَإِظْهَار دين الله أربح مكسب ...

.. لُيُوث أذا أهل الضلال تجمعُوا ... لكل فَتى مِنْهُم يعد بمقنب لَئِن جحدت علياء فضلك حسد ... لعمر أبي قد زَاد مِنْهُم تعجبي وَهل مُمكن فِي الْعقل أَن يجْحَد السنا ... ضحى وضياء الشَّمْس لم يتحجب أيا مطلبا حزناه من غير مهلك ... وَكم مهلك صد الورى دون مطلب بعزم تَقِيّ الدّين أَحْمد تتقى ... صروف زمَان بالفوادح مرعب وَفِي الجدب نستسقي الْغَمَام بِوَجْهِهِ ... فنصبح فِي روض كناديه مخصب ربيب المعالى يافع الْجُود والندى ... فَتى الْعلم كهل الْحلم شيخ التأدب مفصل مَا قد جَاءَ من جمل النهى ... وإيضاحه للفهم غير مقرب بسيط معَان فِي وجيز عبارَة ... بتهذيبه تعجيز كل مهذب وَلَيْسَ لَهُ فِي الْعلم والزهد مشبه ... سوى الْحسن الْبَصْرِيّ وَابْن الْمسيب وَمن رام حبرًا غَيره الْيَوْم فِي الورى ... فَذَاك الَّذِي قد رام عنقاء مغرب أَلَيْسَ هُوَ النّدب الَّذِي بانتصاره ... حبا الدّين حبي بِالْإِمَامَةِ قد حبي وجاهد فِي ذَات الْإِلَه بِنَفسِهِ ... وبالمال والأهلين وَالأُم وَالْأَب ووازره فِي حالتيه ابْن أمه ... فَذَلِك عبد الله نعم الْفَتى الأبي عِقَاب الْمَعَالِي ضيغم الغابة الَّذِي ... فرى كل ذِي غير بناب ومخلب هما ناصرا دين الْإِلَه وحاميا ... حمى خير خلق الله من نسل يعرب مقيمان كالإسلام فِي دَار غربَة ... فيا حبذا فِي الله حسن التغرب ...

.. وَكم قد غَدا بالْقَوْل وَالْفِعْل مُبْطلًا ... ضَلَالَة كَذَّاب ورأي مكذب وَلم تلق من عَادَاهُ غير مُنَافِق ... وَآخر عَن نهج السَّبِيل منْكب لقد حاولوا مِنْهُ الَّذِي كَانَ رامه ... من الْمُصْطَفى قدما حييّ بن أَخطب وَلَكِن رأى من بأسه مِثْلَمَا رأى ... من الْمُصْطَفى فِي حربه رَأس مرحب تمسك أَبَا الْعَبَّاس بِالدّينِ واعتصم ... بِحَبل الْهدى تقهر عداك وتغلب وَلَا تخش من كيد الأعادي فَمَا هم ... سوى حائر فِي أمره ومذبذب جنودهم من طامع ومذلل ... مُسَيْلمَة مِنْهُم يلوذ بأشعب وجند من أهل السَّمَاء ملائك ... يمدك مِنْهُم موكب بعد موكب وكل امرىء قد بَاعَ لله نَفسه ... فَلَيْسَ إِذا يصغي لقَوْل مؤنب ...

السؤال

.. خدمتهما مني بِعقد منضد ... بفكر سوائي دره لم يثقب تشنف سمع الدهرحسنا إِذا اغتدى ... بِهِ النَّاظِم التركي أفْصح مُعرب وَمَا جِئْت فِي مدحيهما متطلعا ... بِهِ عرضا يفنى وَلَا نيل منصب ولكنني أبغي رضَا الله خالقي ... وَأَرْجُو بِهِ غفران زلَّة مذنب وأجعله لي فِي الْمعَاد ذخيرة ... أفوز بهَا فِي الْحَشْر من خطبه الوبي ... نجزت وَهِي سَبْعَة وَسِتُّونَ بَيْتا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم صُورَة فتيا قدمت فِي مجْلِس تقى الدّين رَضِي الله عَنهُ فَأجَاب فِي الْمجْلس بِهَذَا الْجَواب وَهُوَ تَقْدِير الْقدر السُّؤَال ... أيا عُلَمَاء الدّين ذمِّي دينكُمْ ... تحير دلوه بأوضح حجتي إِذا مَا قضى رَبِّي بكفري بزعمكم ... وَلم يرضه مني فَمَا وَجه حيلتي دَعَاني وسد الْبَاب عني فَهَل إِلَى ... دخولي سَبِيل بينوا لي قضيتي قضى بضلالي ثمَّ قَالَ ارْض بالقضا ... فَمَا أَنا رَاض بِالَّذِي فِيهِ شقوتي ...

الحمد لله رب العالمين سؤالك يا هذا سؤال معاند تخاصم رب العرش باري البرية وهذا سؤال خاصم الملأ العلا قديما به إبليس أصل البلية ومن يك خصما للمهيمن يرجعن على أم رأس هاويا في الحفيرة ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طرا معشر

.. فَإِن كنت بالمقضي يَا قوم رَاضِيا ... فربي لَا يرضى بشؤم شكيتي فَهَل لي رضَا مَا لَيْسَ يرضاه سَيِّدي ... فقد حرت دلوني على كشف حيرتي إِذا شَاءَ رَبِّي الْكفْر مني مَشِيئَة ... فَهَل أَنا عَاص فِي اتِّبَاع الْمَشِيئَة وَهل لي اخْتِيَار ان أُخَالِف حكمه ... فبالله فاشفوا بالبراهين علتي ... الْجَواب الْحَمد لله رب الْعَالمين ... سؤالك يَا هَذَا سُؤال معاند ... تخاصم رب الْعَرْش باري الْبَريَّة وَهَذَا سُؤال خَاصم الْمَلأ الْعلَا ... قَدِيما بِهِ إِبْلِيس أصل البلية وَمن يَك خصما للمهيمن يرجعن ... على أم رَأس هاويا فِي الحفيرة ويدعى خصوم الله يَوْم معادهم ... إِلَى النَّار طرا معشر الْقَدَرِيَّة سَوَاء نفوه أَو سعوا ليخاصموا ... بِهِ الله أَو ماروا بِهِ للشريعة وأصل ضلال الْخلق من كل فرقة ... هُوَ الْخَوْض فِي فعل الْإِلَه بعلة فإنهمو لم يفهموا حِكْمَة لَهُ ... فصاروا على نوع من الْجَاهِلِيَّة وَإِن مبادي الشَّرّ فِي كل أمة ... ذَوي مِلَّة قدسية نبوية بخوضهم فِي ذَلِك صَار شركهم ... وَجَاء دروس الْبَينَات بفترة فَإِن جَمِيع الْكَوْن أوجب فعله ... مَشِيئَة رب الْخلق باري الخليقة وَذَات إِلَه الْخلق وَاجِبَة بِمَا ... لَهَا من صِفَات وَاجِبَات قديمَة ...

.. مَشِيئَته مَعَ علمه ثمَّ قدرَة ... لَوَازِم ذَات الله قَاضِي الْقَضِيَّة فقولك لم قد شَاءَ مثل سُؤال من ... يَقُول فَلم قد كَانَ فِي الأزلية وَذَاكَ سُؤال يبطل الْعقل وَجهه ... وتحريمه قد جَاءَ فِي كل شرعة وَفِي الْكَوْن تَخْصِيص كثير يدل من ... لَهُ نوع عقل أَنه بِإِرَادَة وإصداره عَن وَاحِد بعد وَاحِد ... أَو القَوْل بالتجويز رمية حيرة ولاريب فِي تَعْلِيق كل مسبب بِمَا قبله من عِلّة موجبية بل الشَّأْن فِي الْأَسْبَاب أَسبَاب مَا ترى ... ومصدرها عَن حكم مَحْض الْمَشِيئَة وقولك لم شَاءَ الْإِلَه هُوَ الَّذِي ... أزل عقول الْخلق فِي قَعْر حُفْرَة فَإِن الْمَجُوس الْقَائِلين بخالق ... لنفع وَرب مبدع للمضرة سُؤَالهمْ عَن عِلّة الشَّرّ أوقعت ... رؤوسهم فِي شُبْهَة المثنوية وَإِن ملاحيد الفلاسفة الأولى ... يَقُولُونَ بِالْفِعْلِ الْقَدِيم بعلة بغوا عِلّة للكون بعد انعدامه ... فَلم يَجدوا ذاكم فضلوا بضلة وَإِن مبادي الشَّرّ فِي كل أمة ... ذَوي مِلَّة مَيْمُونَة نبوية بخوضهمو فِي ذاكم صَار شركهم ... وَجَاء دروس الْبَينَات بفترة ...

.. وَيَكْفِيك نقضا أَن مَا قد سَأَلته ... من الْعذر مَرْدُود لَدَى كل فطْرَة فَأَنت تعيب الطاعنين جَمِيعهم ... عَلَيْك وترميهم بِكُل مذمة وتنحل من والاك صفو مَوَدَّة ... وَتبْغض من ناواك من كل فرقة وحالهم فِي كل قَول وفعلة ... كحالك يَا هَذَا بأرجح حجَّة وهبك كَفَفْت اللوم عَن كل كَافِر ... وكل غوي خَارج عَن محجة فيلزمك الْإِعْرَاض عَن كل ظَالِم ... على النَّاس فِي نفس وَمَال وَحُرْمَة وَلَا تغضبن يَوْمًا على سافك دَمًا ... وَلَا سَارِق مَالا لصَاحب فاقة وَلَا شاتم عرضا مصونا وَإِن علا ... وَلَا ناكح فرجا على وَجه غية وَلَا قَاطع للنَّاس نهج سبيلهم ... وَلَا مُفسد فِي الأَرْض فِي كل وجهة وَلَا شَاهد بالزور إفكا وفرية ... وَلَا قَاذف للمحصنات بريبة وَلَا مهلك للحرث والنسل عَامِدًا ... وَلَا حَاكم للْعَالمين برشوة وكف لِسَان اللوم عَن كل مُفسد ... وَلَا تأخذن ذَا جرمة بعقوبة وَسَهل سَبِيل الْكَاذِبين تعمدا ... على رَبهم من كل جَاءَ بفرية ...

.. وَإِن قصدُوا إضلال من تستجيبهم ... بروم فَسَاد النَّوْع ثمَّ الرياسة وجادل عَن الملعون فِرْعَوْن إِذْ طَغى ... فأغرق فِي اليم انتقاما بعصية وكل كفور مُشْرك بإلهه ... وَآخر طاغ كَافِر بنبوة كعاد ونمروذ وَقوم لصالح ... وَقوم لنوح ثمَّ أَصْحَاب الايكة وَخَاصم لمُوسَى ثمَّ سَائِر من أَتَى ... من الْأَنْبِيَاء محييا للشريعة على كَونهم إِذْ جاهدوا النَّاس إِذْ بغوا ... ونالوا من العَاصِي بُلُوغ الْعقُوبَة وَإِلَّا فَكل الْخلق فِي كل لَفْظَة ... ولحظة عين أَو تحرّك شَعْرَة وبطشة كف أَو تخطي قديمَة ... وكل حراك بل بِكُل سكينَة همو تَحت أقدار الْإِلَه وَحكمه ... كَمَا أَنْت فِيمَا قد أتيت بِحجَّة وهبك رفعت اللوم عَن كل فَاعل ... فعال ردي طردا لهذي المقيسة فَهَل يمكنن رفع الملام جَمِيعه ... عَن النَّاس طرا عِنْد كل قبيحة وَترك عقوبات الَّذين قد اعتدوا ... وَترك الورى الْإِنْصَاف بَين الرّعية فَلَا تضمنن نفس وَمَال بِمثلِهِ ... وَلَا تعقبن عَاد بِمثل الجريمة ...

.. وَهل فِي عقول النَّاس أَو فِي طباعهم ... قبُول لقَوْل النذل مَا وَجه حيلتي وَيَكْفِيك نفضا مَا بجسم ابْن آدم ... صبي وَمَجْنُون وكل بَهِيمَة من الْأَلَم الْمقْضِي فِي غير حِيلَة ... وَفِيمَا يَشَاء الله أكمل حِكْمَة إِذا كَانَ فِي هَذَا لَهُ حِكْمَة فَمَا ... يظنّ بِخلق الْفِعْل ثمَّ الْعقُوبَة وَكَيف وَمن هَذَا عَذَاب مخلد ... عَن الْفِعْل فعل العَبْد عبد الطبيعة كآكل سم أوجب الْمَوْت أكله ... وكل بِتَقْدِير لرب الْبَريَّة فكفرك يَا هَذَا كسم أَكلته ... وتعذيب نَار مثل جرعة غُصَّة أَلَسْت ترى فِي هَذِه الدَّار من جنى ... يُعَاقب إِمَّا بالقضا أَو بشرعة وَلَا عذر للجاني بِتَقْدِير خَالق ... كَذَلِك فِي الْأُخْرَى بِلَا مثنوية وَتَقْدِير رب الْخلق للذنب مُوجب ... كتقدير عُقبى الذَّنب إِلَّا بتوبة وَمن كَانَ من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أَفعَال الْعباد الخبيثة ...

.. كجبرية تمحى الذُّنُوب ودعوة ... تجاب من الْجَانِي وَرب شَفَاعَة وَقَول حَلِيف الشّعْر إِنِّي مُقَدّر ... عَليّ كَقَوْل الذيب هذي طبيعتي وَتَقْدِيره للْفِعْل يجلب نقمة ... كتقديره الْآثَار طرا بعلة فَهَل ينفعن عذر الملوم لِأَنَّهُ ... كَذَا طبعه أم هَل يُقَال لعثرة أم الذَّنب والتعذيب أوكد للَّذي ... طَبِيعَته فعل الشرور الشنيعة فَإِن كنت ترجو أَن تجاب بِمَا عَسى ... ينجيك من نَار الْإِلَه الْعَظِيمَة فدونك رب الْخلق فاقصده ضارعا ... مرِيدا بِأَن يهديك نَحْو الْحَقِيقَة وذلل قياد النَّفس للحق واسمعن ... وَلَا تعرضن عَن فكرة مُسْتَقِيمَة وَمَا بَان من حق فَلَا تتركنه ... وَلَا تعص من يَدْعُو لأَقوم ريعة ...

.. ودع دين ذَا الْعَادَات لَا تتبعنه ... وعج عَن سَبِيل الْأمة الغضبية وَمن ضل عَن حق فَلَا تقفونه ... وزن مَا عَلَيْهِ النَّاس بالمعدلية هُنَالك تبدو طالعات من الْهدى ... تبشر من قد جَاءَ بالحنفية بِملَّة إِبْرَاهِيم ذَاك إمامنا ... وَدين رَسُول الله خير الْبَريَّة فَلَا يقبل الرَّحْمَن دينا سوى الَّذِي ... بِهِ جَاءَت الرُّسُل الْكِرَام السجية وَقد جَاءَ هَذَا الحاشر الْخَاتم الَّذِي ... حوى كل خير فِي عُمُوم الرسَالَة وَأخْبر عَن رب الْعباد بِأَن من ... عدا عَنهُ فِي الْأُخْرَى بأقبح جينة فهذي دلالات الْعباد لحائل ... وَأما هداه فَهُوَ فعل الربوبة وفقد الْهدى عِنْد الورى لَا يقيل من ... عدا عَنهُ بل يجزى بِلَا وَجه حجَّة وَحجَّة مُحْتَج بِتَقْدِير ربه ... يُرِيد عذَابا كاحتجاج مَرِيضَة وَأما رضانا بِالْقضَاءِ فَإِنَّمَا ... أمرنَا بِأَن نرضى بِمثل الْمُصِيبَة ...

.. كسقم وفقر ثمَّ ذل وغربة ... وَمَا كَانَ من سوء بِدُونِ جريمة فَأَما الأفاعيل الَّتِي كرهت لنا ... فَلَا ترتضى مسخوطة لمشيئة وَقد قَالَ قوم من أولي الْعلم لَا رضَا ... بِفعل الْمعاصِي والذنُوب الكريهة وَقَالَ فريق ترتضى لقضائه ... لَهَا وَمَا فِيهَا فَيلقى بسخطه كَمَا أَنَّهَا للرب خلق وَأَنَّهَا ... لمخلوقة لَيست كَفعل الغريزة فنرضى من الْوَجْه الَّذِي هِيَ خلقه ... ونسخط من وَجه اكْتِسَاب بحيلة ومعصية العَبْد الْمُكَلف تَركه ... لما أَمر الْمولى وَإِن بِمَشِيئَة فان إِلَه الْخلق حق مقاله ... بِأَن الْعباد فِي جحيم وجنة كَمَا أَنهم فِي هَذِه الدَّار هَكَذَا ... بل البهم فِي الآلام أَيْضا ونعمة وحكمته الْعليا اقْتَضَت مَا اقْتَضَت من ال ... فروق بِعلم ثمَّ أيد وَرَحْمَة يَسُوق أولى التعذيب للسبب الَّذِي ... يقدره نَحْو الْعَذَاب بعزة وَيهْدِي أولي التَّنْعِيم نَحْو نعيمهم ... بأعمال صدق فِي رَجَاء وخشية وَأمر إِلَه الْخلق تَبْيِين مَا بِهِ ... يَسُوق أولي التَّنْعِيم نَحْو السَّعَادَة ...

.. فَمن كَانَ من أهل السَّعَادَة أثرت ... أوامره فِيهِ بتيسير صَنْعَة وَمن كَانَ من أهل الشقاوة لم ينل ... بِأَمْر وَلَا نهي بِتَقْدِير شقوة وَلَا مخرج للْعَبد عَمَّا بِهِ قضى ... وَلكنه شَاءَ بِخلق الْإِرَادَة وَمن أعجب الْأَشْيَاء خلق مَشِيئَة ... بهَا صَار مُخْتَار الْهدى والضلالة فقولك هَل أخْتَار تركا لحكمة ... كَقَوْلِك هَل أخْتَار ترك الْمَشِيئَة وأختار أَن لَا أخْتَار فعل ضَلَالَة ... وَلَو نلْت هَذَا التّرْك فزت بتوبة وَذَا مُمكن لكنه مُتَوَقف ... على من يَشَاء الله من ذِي الْمَشِيئَة فدونك فَافْهَم مَا بِهِ قد أجبْت من ... معَان إِذا إنحلت بفهم غريزة أشارت إِلَى أصل تُشِير إِلَى الْهدى ... وَللَّه رب الْخلق أكمل مدحه وَصلى إِلَه الْخلق جلّ جَلَاله ... على الْمُصْطَفى الْمُخْتَار خير الْبَريَّة ...

مراثى العلماء والشعراء لشيخ الإسلام ابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم

تمت بِحَمْد الله وعونه وَهِي مائَة وَأَرْبع وَثَمَانُونَ بَيْتا بل هِيَ مائَة وَخَمْسَة أَبْيَات الْحَمد لله رب الْعَالمين قَالَ القَاضِي ابو بكر مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد الْبَزَّار سَمِعت المظفر هُنَا بن ابراهيم النَّسَفِيّ يَقُول سَمِعت أَبَا الْقَاسِم عبد الْوَاحِد بن عبد السَّلَام بن الواثق يَقُول سَمِعت بعض الصَّالِحين يَقُول رؤى بعض الصَّالِحين فِي الْمَنَام فَقيل لَهُ مَا فعل الله بك قَالَ غفر لي قيل من وجدت أَكثر أهل الْجنَّة قَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي فَقيل فَأَيْنَ أَصْحَاب أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ سَأَلتنِي عَن أَكثر أهل الْجنَّة مَا سَأَلتنِي عَن أَعلَى أهل الْجنَّة أَصْحَاب أَحْمد أَعلَى أهل الْجنَّة وَأَصْحَاب الشَّافِعِي أَكثر اهل الْجنَّة مراثى الْعلمَاء وَالشعرَاء لشيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه أَمِين الدّين عبد الْوَهَّاب بن سلار الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يرثي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الإِمَام أَحْمد بن تَيْمِية

.. كل حَيّ لَهُ الْمَمَات وُرُود ... لَيْسَ فِي الدُّنْيَا لمرء خُلُود كل خل مفارق لخليل ... كل وصل إِلَى إنفصال يعود لَيْسَ يبْقى إِلَّا إِلَه البرايا ... دَائِم الْملك والبقا لَا يبيد عين سحى بمدمع لَيْسَ يرقأ ... وسهادا دَائِما وأجفان جووا يَا لجرح بمهجتي لَيْسَ يبرا ... أَو يجودوا بطيفهم أَو يعودوا هَل لما بِي من مسعد أَو معِين ... عز صبري وفرط حزني يزِيد ويك نَفسِي تعاملي باصطبار ... فَالَّذِي قد قضى بِهَذَا مُرِيد قد رزئنا إِمَام علم وَدين ... عدم الْمثل فِي الزَّمَان فريد يَا لحزن عَلَيْهِ عَم البرايا ... يَا لنار بقلبي لَهَا وقود كَانَ شيخ الْإِسْلَام عقلا ونقلا ... سنَن الْبدع عِنْده مَرْدُود كَانَ فِي الْعلم والشجاعة فَذا ... وَهُوَ فِي الزّهْد والعفاف يسود كَانَ بِالْعرْفِ آمرا لَا للحظ ... وَعَن النكر للعباد يذود كَانَ لله ذَاكِرًا كل وَقت ... وَعَن اللَّهْو والضلال بعيد مَاتَ لله صَابِرًا وسط سجن ... يَوْم الْإِثْنَيْنِ سره مشهود وتولاه الْأَبْرَار غسلا ودفنا ... أَبيض الْوَجْه فِي الثرى ملحود حِين وافى على الرُّءُوس مسجى ... والبرايا من كل حَيّ وُفُود صحت من فرط مَا بدا لي مَه ... لَا لَك فِي جنَّة الخلود خُلُود ...

.. يَا لَهَا من رزية طاش فِيهَا ... كل لب وتقشعر الْجُلُود يَا ابْن تَيْمِية عَلَيْك سلامي ... كل وَقت يمْضِي وَوقت يعود يَا ابْن عبد الْحَلِيم حلمك يسمو ... يَا ابْن عبد السَّلَام سلمك جود يَا إِمَام الْعُلُوم من للفتاوي ... ولحل الأشكال حبرًا تفِيد ولفهم الْكتاب وَالنَّقْل بَحر ... فِي مَعَانِيهَا مُصِيب شَدِيد يَا بشوشا لكل من رام نفعا ... إِن من نَالَ من جناك سعيد كل وَقت مضى لديك سَمَاعا ... ذَاك عِنْد التَّحْقِيق علم جَدِيد لَيْت شعري أيامنا باجتماع ... بك هَل تبدو لنا أَو تعود طبت تربا وقدست مِنْك روح ... ومنحت النَّعيم مهما تُرِيدُ ... وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وجدت بِخَط وَالِدي يَقُول أنْشد الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم مُسْند الشأم بهاء الدّين الْقَاسِم بن مَحْمُود ابْن عَسَاكِر أبقاه الله تَعَالَى لنَفسِهِ فِي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين احْمَد ابْن تَيْمِية هذَيْن الْبَيْتَيْنِ فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء سَابِع رَجَب عَام عشْرين وَسَبْعمائة بمنزله بِدِمَشْق

تم والحمد لله وحده بسم الله الرحمن الرحيم

.. تَقِيّ الدّين أضحى بَحر علم ... يُجيب السَّائِلين بِلَا قنوط أحَاط بِكُل علم فِيهِ نفع ... فَقل مَا شِئْت فِي الْبَحْر الْمُحِيط ... وَأَيْضًا وجدت بِخَطِّهِ فِي ابْن تَيْمِية يَقُول أنشدنا الشَّيْخ صَلَاح الدّين القواس من لَفظه ونظمه فِي شَوَّال سنة سِتّ وَسَبْعمائة ببعلبك بِمَسْجِد الْحَنَابِلَة ... قَالُوا ابْن تَيْمِية فِي السجْن قلت لَهُم ... لَا يعجزنكم الأفكار بالقلق مَاتَ الْمُوفق وَالْقَاضِي الإِمَام أَبُو ... يعلى وَمَات أَبُو الْخطاب والخرقي وَلابْن حَنْبَل الصّديق نور هدى ... حَتَّى الْقِيَامَة مثل الْبَدْر فِي الغسق وفضله بَين أهل الْفضل مشتهر ... وإصبعاه من الزنديق فِي الحدق ... تمّ وَالْحَمْد لله وَحده بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وجدت بِخَط الشَّيْخ سعيد الذهلي يَقُول

أنشدنا الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْفَاضِل الْكَامِل أوحد دهره وفريد عصره إِمَام الْمُحَقِّقين وقدوة أَئِمَّة الْمُحدثين تَقِيّ الدّين أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن عَليّ بن مَحْمُود بن مقبل بن سُلَيْمَان بن دَاوُد الدقوقي الْمُحدث سامحه الله تَعَالَى لنَفسِهِ يرثي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة وَالْبَحْر الفهامة حجَّة الْإِسْلَام وقدوة الْأَنَام تَقِيّ الْملَّة وَالْحق وَالدّين أَحْمد بن الشَّيْخ الإِمَام شهَاب الدّين عبد الْحَلِيم بن الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة مجد الدّين عبد السَّلَام بن تَيْمِية الْحَرَّانِي قدس الله روحه وَنور ضريحه فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة وَلم ير الشَّيْخ رَحمَه الله ... قف بالربوع الهامدات وَعدد ... واذر الدُّمُوع الجامدات وبدد واحبس مطيك فِي الْمنَازل سَاعَة ... واسأل وَلَا تَكُ فِي سؤالك مُعْتَد واقطع علائقك الَّتِي هِيَ فتْنَة ... وَاتبع سَبِيل أولي الْهِدَايَة تهتد ودع صباك ودع أباطيل المنى ... واهجر دنيات الْأُمُور وسدد واقنع من الدُّنْيَا الْقَلِيل ولازم الْفِعْل الْجَمِيل وسر بسير مُجَرّد وتوخ فعل الْخَيْر واصحب أَهله ... متحببا متجنبا أهل الدَّد لَا تعتبن مفارقا يبكي على ... أحبابه وارحمه إِن لم تسعد ...

.. ودع المروع بالبعاد وعذله ... فالعذل أمضى من فعال مهند مَاذَا الْوُقُوف عَن السرى وصحابنا ... سَارُوا وصاروا بالعراء القدخد لَا اخضر بعدهمْ العقيق وَلَا شدت ... ورق الحمائم فَوق برقد تهمد أما أَنا فلأبكين فان ونى ... دمعي سفكت حشاشة الْقلب الصدي أَيْن الْمعِين على الخطوب إِذا عرت ... أَيْن المساعد عِنْد فقد المسعد أَو مَا درى من كنت تعرف قد مضى ... لسبيله فِي ضنك لحد مؤصد ايْنَ المحامي عَن شَرِيعَة أَحْمد ... أَيْن الْمُحَقق نهج مَذْهَب أَحْمد مَاتَ الإِمَام الْعَالم الحبر الَّذِي ... بهداه عَالم كل قوم يَهْتَدِي من للْيَهُود وَلِلنَّصَارَى بعده ... يرميهم بمقاله المتسدد سل عَنهُ ديان الْيَهُود أما غَدا ... متلفعا بصغاره المتهود نشأت على فعل التقى أطواره ... فعنت لَهُ التَّقْوَى وأعطت عَن يَدي ورث الزهادة كَابِرًا عَن كَابر ... وَالْعلم إِرْثا سيدا عَن سيد قف إِن مَرَرْت بقاسيون على ثرى ... فِيهِ ضريح الْعَالم المتفرد واعجب لقبر ضم بحرا زاخرا ... بِالْفَضْلِ يقذف بالعلا والسؤدد ...

.. بشر يبشر بالغنى من جَاءَهُ ... يسر يسر فؤاد عان مزهد كَانَت بِهِ أَرض الشآم أمينة ... من مُبْطل متهول متلدد لَو تَسْتَطِيع بَنَات نعش أَن ترى ... يَوْمًا يسير بنعش ميت ملحد كَانَت تسير بنعشه وتحطه ... فَوق السماك وَفَوق فرق الفرقد مَاتَ الَّذِي جمع الْعُلُوم إِلَى التقى ... وَالْفضل والورع الصَّحِيح الْجيد شيخ الْأَنَام تَقِيّ الدّين مُحَمَّد ... وجمال مَذْهَب ذِي الْفَضَائِل أَحْمد ودعت قلبِي يَوْم جَاءَ نعيه ... فتقاعدي يَا عين بِي أَو أنجدي سقت العهاد عراص قبر حلّه ... جَسَد حوى خلقا وَحسن تودد يَا مبلغ العذال فرط صبابتي ... وتعلقي يَوْم النَّوَى وتسهدي مَا بعد رزئك فِي الزَّمَان رزية ... تصمي الْمقَاتل بالفراق وَلَا تدي بددت شَمل الْمُلْحِدِينَ جَمِيعهم ... وجمعت شَمل ذَوي التقى المتبدد يَا من ترى أَقْوَاله مبيضة ... فِي كل ذِي قَول وَوجه أسود يَا كالىء الْإِسْلَام من أعدائه ... وسمام كل أخي نفاق ملحد يَا وَاحِد الدُّنْيَا الَّذِي بِعُلُومِهِ ... يمتاز فِي الْإِسْلَام كل موحد يَا حَامِل الأعباء عَن مستنصر ... يَا كاشف الغماء عَن مستنجد يَا طارد الشُّبُهَات عَن مُتَرَدّد ... يَا دَافع الفاقات عَن مسترفد ...

.. قرت عُيُون مجاوريك وَقد غنوا ... بجوار قبرك عَن وثير المرقد فَكَأَنَّمَا تِلْكَ اللحود حدائق ... تزهو بنرجس زهرها الغض الندي يَا خَاتم الْعلمَاء صَحَّ بموتك ال ... خبر الَّذِي يرويهِ كل مجود الْيَوْم قبض الْعلم قولا وَاحِدًا ... من غير مَا منع وَغير تردد لَو لم يكن ختم الْأَئِمَّة أَحْمد ... بشرت أهل الْخَافِقين بِأَحْمَد خوض الكرائه لم يزل من دأبه ... فبه الفوارس فِي المضايق تهتدي شيخ إِذا أبصرته فِي محفل ... تقذى بِرُؤْيَتِهِ عُيُون الْحَسَد ذُو المنقبات الغر والشيم الَّتِي ... يفنى الزَّمَان وَذكره لم ينفذ يَا من يروم لَهُ عديلا فِي الورى ... قد رمت كالعنقاء مَا لم يُوجد كم بَين رئبال الفلاة وثعلب ... كم بَين شعواء البزاة وجدجد ...

.. أرح المطى وَلَا تكن كمحاول ... صيد النُّجُوم من الْمِيَاه الركد قد كَانَ شمسا للصحاب منيرة ... بضيائها فِي كل قطر نهتدي وَالْيَوْم أدْركهَا الْكُسُوف فأظلمت ... طرق الْهدى للسالك المتردد لهفي على تِلْكَ الشَّمَائِل والندى ... والجود وَالْهدى القويم الأرشد هجم الْحمام فَلَا مفر لهارب ... وَالْمَوْت فِي الدُّنْيَا لنا بالمرصد مَاتَ الصّديق وَمَات من عاديته ... وَتَمُوت أَنْت كمثله وَكَأن قد وَإِذا مضى أَقْرَان عمرك فانتظر ... فِي يَوْمك الناعي وَإِلَّا فِي غَد لَكِن لنا عَن كل خل سلوة ... بمصاب سيدنَا النَّبِي مُحَمَّد صلى عَلَيْهِ الله مَا هجر الْكرَى ... جفن التقى القانت المتهجد ... تمت وَالْحَمْد لله وعدتها سِتَّة وَخَمْسُونَ بَيْتا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَأَيْضًا للدقوقي رَحمَه الله تَعَالَى ... مَا كُفْء هَذَا الرزء جفن تسجم ... أبدا وَلَا قلب يذوب ويألم رزء أَصمّ جَمِيع أسماع الورى ... سبق الْحُدُوث بِهِ الْقَضَاء المبرم رزء يجل عَن الْبكاء لِأَنَّهُ ... لَا رزء مِنْهُ فِي الْبَريَّة أعظم ...

.. يتضاءل اللسن الفصيح لذكره ... ويجل قدرا فِي النُّفُوس ويعظم رزء لَهُ هوت النُّجُوم وكورت ... شمس الضُّحَى وَالصُّبْح ليل معتم من عظم موقعه وفادح خطبه ... لم يدر قس مَا الْبَيَان وأكثم لكنما تجْرِي الْأُمُور بِكُل مَا ... يقْضِي بِهِ رب السَّمَاء وَيحكم وَالْأَمر أعظم أَن يقوم بِبَعْضِه ... دمع يصوب وَلم يخالطه دم ذَا الْخطب أعظم أَن يداوى بالأسى ... هَذَا الْمُصَاب أجل مِمَّا تعلم كل يدافع حتفه عَن أَنفه ... حَتَّى يفاجئه الْحمام المؤلم أعي الْأَنَام فَمَا لَهُ من ملْجأ ... يؤويهم عِنْد الخطوب ويعصم وَالْمَوْت ورد للْجَمِيع وَكلهمْ ... فِي مَاء ذَاك الْورْد حتما يقدم من أخطأته يَد الْحَوَادِث فِي الصِّبَا ... لَا بُد تُدْرِكهُ إِذا هُوَ يهرم ...

.. سيان فِي حكم الْقَضَاء مُؤَجل ... فِي نَفسه ومعجل يتَقَدَّم أأخي لَا تبعد فَلَيْسَ بِخَالِد ... أحد وَلَا حَيّ عَلَيْهَا يسلم لَا تعذل الباكي على أحبابه ... واعذره وارحمه لَعَلَّك ترحم للخطب يدّخر الصّديق وَلَا أرى ... فِي النَّاس يَوْم الْبَين خلا يرحم لَا تحسبوا ورق الْحمام سواجعا ... يَوْم الرحيل وَلَا المطايا تدرم هذي تحن فتشتكي ألم السرى ... وَالْوَرق تذكر إلفها فترنم مَا حَارَبت أَيدي الردى فِي مأزق ... إِلَّا غَدَتْ أقرانه تتخرم من ذَا يُطيق مَعَ الْفِرَاق تجلدا ... قل لي وَقد (مَاتَ الإِمَام الْأَعْظَم) ... أودى فريد الدَّهْر أوحد عصره ... وَمضى التقى الْعَارِف المتوسم ...

.. شيخ يسود بجده بحده ... وسواه فِي هذَيْن صفر معدم شيخ كَأَن الله أودع سره ... فِيهِ فَمَا تَلقاهُ إِلَّا يعلم الْيَوْم أكشف عَن غوامض سره ... الْيَوْم مِنْهُ يُفَسر المستعجم قد كَانَ يُؤثر من أَتَاهُ بقوته ... ويظل طول نَهَاره لَا يطعم ويجود بالموجود مِنْهُ ويرشد ال ... جنف العصي بهديه وَيقوم ظَهرت لَهُ شيم التقى فَكَأَنَّهُ ... بِطَهَارَة الأثواب نسكا محرم وَإِذا تَقَاعَسَتْ الرِّجَال فانه ... يَوْم النزاع الْعَالم الْمُتَقَدّم من ذَا يرى للمشكلات يحلهَا ... والواقعات وَمن بِهِ يستعصم وعَلى النَّصَارَى الْمُلْحِدِينَ إِذا أَتَوا ... من ذَا يرد وَمن يُجيب وَيفهم يشتاقه الْإِرْسَال فِي إِسْنَاده ... والنسخ والمنسوخ ثمَّ الْمُحكم وبكته عنعنة الحَدِيث وطرقه ... وَبَيَان مَا يحوي عَلَيْهِ المعجم هَذَا الَّذِي للدّين مِنْهُ مُعَلل ... ومنوع ومجنس ومعلم هَذَا الإِمَام الْحجَّة الحير الَّذِي ... تنفى بِهِ شبه الشكوك وتحسم ...

.. فضل وزهد لَا يعد وعفة ... وديانة ورزانة وتحلم لَك يَا ابْن مجد الدّين طود باذخ ... فِي الْفضل مَمْنُوع الجوانب أبهم أَقْسَمت مَا وصف امْرُؤ بصيانة ... فِي نَفسه إِلَّا وصونك أعظم أبدى مصلاك الْبكاء وحسبه ... يبكي عَلَيْك وَحقه يتندم أسفا على مَا فَاتَهُ من ورده ... وَاللَّيْل سَاج وَالْخَلَائِق نوم حسدوه إِذْ وجدوه أعلم مِنْهُم ... ورأوه أفضلهم وَإِن كَانُوا عموا عقلوه إِذْ عقلوه لَيْث كباشهم ... وَاللَّيْث يعقل من سطاه ويلجم تبْكي عَلَيْهِ جَوَامِع ومجامع ... ومناقب ومراتب تتهدم وزكت خلائقه الشراف وكرمت ... مِنْهُ المعارش وَهُوَ مِنْهَا أكْرم جمعت لَهُ أشتات كل فَضِيلَة ... تروي مدائح شاردات حوم مَلَأت فضائله الْبِلَاد ففضله ... كَالشَّمْسِ نور ضيائها لَا يكتم وَلَقَد دَعَوْت الشّعْر يَوْم نعيه ... فَأبى عَليّ فَلم أطق أَتكَلّم ...

.. أَنى يُجيب وَمن لَوَازِم حَقه ... أَن لَا يُجيب وفكره متقسم وَأخذت أكتب مَا أَقُول وأدمعي ... بَين السطور كعقد در ينظم نفد المداد فساعدته مدامعي ... فعصى عَليّ فساعد الدمع الدَّم حَال المداد عَن السوَاد كَأَنَّهُ ... دمع المحاجم صب فِيهِ العندم جَادَتْ ضريحا بالشآم غمامة ... تَسْقِي ثراه على المدى وتدوم وَسَقَى قبورا جاورته من الرضى ... تَحت التُّرَاب سَحَاب عَفْو مثجم طُوبَى لمن امسى مجاور تربه ... من أجلهَا الْجَار المجاور يكرم أَمْسَى وَتَحْت الأَرْض عرس إِذْ نوى ... فِيهَا وَفَوق الأَرْض فِينَا مأتم هَذَا وأملاك السَّمَاء تحفه ... فِي كل يَوْم لَا تمل وتسأم يَا أَرض صرت بِهِ كروضة جنَّة ... لنزيلها فِي كل يَوْم موسم لسواه تشقيق الْجُيُوب وَإِنَّمَا ... شقّ الْجُيُوب عَلَيْهِ مِمَّا يلْزم سعدت بِهِ أَرض أَقَامَ برمسها ... مَيتا وَهَذَا الْمَيِّت حَيّ مكرم ...

.. نقلت الى جنَّات عدن روحه ... والحور والولدان فِيهَا تخْدم جثمانه تَحت العراء وروحه ... فِي مقْعد الصدْق الرضى تتنعم لَو كَانَ للقبر الْمُحِيط بجسمه ... يَوْمًا لِسَان نَاطِق يتَكَلَّم لسمعت بشراه بِمن وافى إِلَى ... عرصاته من خير ضيف يقدم هُوَ فِي جوَار الله أشرف منزل ... وَالله ارأف بالعباد وأرحم تبْكي لَهُ السَّبع الطّواف وسعيه ... وَالْحجر وَالْبَيْت الْعَتِيق وزمزم وتعطل الْمِحْرَاب من متهجد ... بِالذكر فِي اسحاره يترنم والخلق إِن نسبوا إِلَيْهِ كواحد ... فِي أمة وَهُوَ الفريد الأعلم أضحت سطور الْفضل يصعب فهمها ... كالخط أصعبه الْغَرِيب الْمُبْهم فأبان مشكلها وأوضح رمزها ... فغدت بتنقيط الْفَضَائِل تعجم إِن كَانَ قد أَمْسَى رهين مود أ ... زلخ الجوانب جدره متهدم فلرب عان قد أعَان وأكمه ... هدى فأرشده وَلَا يتبرم وضريحه كالمسك ينشق عرفه ... من كَانَ من حنق عَلَيْهِ يسلم إِن كَانَ هَذَا الرزء يعظم ذكره ... شرفا وينجد فِي الْبِلَاد ويتهم ...

.. فالصبر أكبر ملبس يختاره ... حر بَصِير بالعواقب مُسلم وعَلى النَّبِي من الْإِلَه صلَاته ... مَا سَارَتْ الأظعان سوقا ترزم ... قَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر بن احْمَد الدريبي رَحمَه الله كَانَ على النُّسْخَة الَّتِي نقلت مِنْهَا نُسْخَتي هَذِه مَا صورته نقلتها من خطّ مؤلفها الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة أوحد عصره وفريد دهره أبي الثَّنَاء مَحْمُود بن عَليّ بن مَحْمُود الدقوقي الْبَغْدَادِيّ قدس الله روحه وَقَالَ أَيْضا شاهدت على الأَصْل الْمَنْقُول عَنهُ مَا صورته سمع على الْوَلَد السعيد أَبُو الْخَيْر سعيد بن عبد الله الذهلي الحريري جَمِيع هَذِه القصيدة الموسومة بمرثاة الشَّيْخ الْعَالم الرباني تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية الجراني بِقِرَاءَة الشَّيْخ الإِمَام الأوحد الْفَاضِل الْمُحَقق الْكَامِل جمال الدّين أبي أَحْمد يُوسُف بن مُحَمَّد بن مَسْعُود بن مُحَمَّد السامري وَذَلِكَ يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر ربيع الأول سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَكتب ناظمها مَحْمُود بن عَليّ بن مَحْمُود الدقوقي حامدا ومصليا توفّي ناظم هَذِه المرثاة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين الدقوقي يَوْم الْإِثْنَيْنِ

الْعشْرين من الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَدفن يَوْم الثُّلَاثَاء بمقبرة الإِمَام أَحْمد وحملت جنَازَته على الرُّءُوس رَحمَه الله وللدقوقي ايضا رَحمَه الله تَعَالَى ... مضى عَالم الدُّنْيَا الَّذِي عز فَقده ... وأضرم نَارا فِي الجوائح بعده فدمعي طليق فَوق خدي مسلسل ... أكفكفه حينا وجفني يردهُ ويرجو التلاقي والفراق يصده ... وَمَا حِيلَة الراجي إِذا خَابَ قَصده مضى الطَّاهِر الأثواب ذُو الْعلم والحجى ... وَلم يتدنس قطّ بالاثم برده مضى الزَّاهِد النّدب ابْن تَيْمِية الَّذِي ... أقرّ لَهُ بِالْعلمِ وَالْفضل ضِدّه بكته بِلَاد الشأم طرا وَأَهْلهَا ... وجامعها وانماع للحزن صلده يحن إِلَيْهِ فِي النَّهَار صِيَامه ... ويشتاقه فِي ظلمَة اللَّيْل ورده ويبكي لَهُ نوع الْكَلَام وجنسه ... ويندبه فصل الْخطاب وجده حمى نَفسه الدُّنْيَا وعف تكرما ... وَلما يصعر للدنيات خَدّه وَلم يجْتَمع زوجان من شهواتها ... لَدَيْهِ وَبَين النَّاس قد صَحَّ زهده ويؤثر عَن فقر وَفِيه قناعة ... وَيُعْجِبهُ من كل شَيْء أشده عليم بمنسوخ الحَدِيث وَحكمه ... وناسخه فَخر الزَّمَان ومجده ...

.. قؤول فعول طيب الْجِسْم طَاهِر ... إِمَام لَهُ من كل علم أسده فَمَا قَالَ فِي دُنْيَاهُ هجرا وَلَا هوى ... وَلَا زاغ عَن حق تبين رشده عُلُوم كنشر الْمسك من كل سيرة ... يشيد دين الْمُصْطَفى ويجده فَللَّه مَا ضم التُّرَاب وَمَا حوى ... من الْفضل فليفخر على الأَرْض لحده فيا نعشه مَاذَا حملت من امرىء ... جَمِيع الورى فِيهِ وفوقك فَرده وَكَانَ لنا بحرا من الْعلم زاخرا ... فَمَا باله لم يصف مذ غَابَ ورده وَمَا مَاتَ من تبقى التصانيف بعده ... مخلدة وَالْعلم وَالْفضل وَلَده وَخلف آثارا حسانا حميدة ... إِذا عددت زَادَت على مَا نعده وَلست مطيقا شرح ذَاك مفصلا ... وَلَكِن على الْإِجْمَال يعكس طرده لقد فَارق الْأَصْحَاب مِنْهُ مصاحبا ... يُرَاعِي وداد الْخلّ إِن خَان أوده قضى نحبه وَالله رَاض بِفِعْلِهِ ... وَللَّه فِيمَا قد قضى فِيهِ حَمده يدل تُرَاب الْقَبْر من جَاءَ زَائِرًا ... إِلَيْهِ بِطيب فِيهِ يعبق نده وَلَا تحسبوا مَا فاح عطر حنوطه ... وَلكنه حسن الثَّنَاء ومجده وَكَانَ لأهل الْعلم تاجا مكللا ... يحوطهم من مُبْطل خيف حقده ...

.. وَمَا كَانَ إِلَّا التبر عِنْد امتحانه ... يبين لعين الحاذق النَّقْد نَقده وَكَانَ يَقُول الْحق وَالْحق حلوه ... مرير لهَذَا كَانَ يكره رده وَفِي الْحق لم تَأْخُذهُ لومة لائم ... وَلَا خَافَ من غمر تشدد حرده وَمَا كَانَ إِلَّا السَّيْف غارت يَد الْعلَا ... عَلَيْهِ فَردته كَمَا غَار غمده وَلم تلهه الدُّنْيَا وزخرفها الَّذِي ... يروق لمن لم يؤنس الدَّهْر رشده لقد فقدت مِنْهُ المحاسن زينها ... وَلما يُفَارق علمه الجم وجده وخضبت الأقلام بعد مدادها ... عَلَيْهِ دَمًا قد فاض بالطرس مده فللدهر مَا ضم الثرى من مُحَقّق ... وَيَا لَك من عض تثلم حَده وَكَانَ إِمَامًا يستضاء بنوره ... وبحرا من الأفضال قد غيض عده وَكنت أَرْجَى أَن أرَاهُ ونلتقي ... وَلَكِن قَضَاء الله من ذَا يردهُ ترى الْمَوْت مألوف الطباع وَرُبمَا ... يُعلل بالمألوف من لَا يوده فآه على تَفْرِيق شَمل مجمع ... وحر فؤاد بَان مذ بَان برده ...

تمت وهي إثنان وخمسون بيتا

.. إِلَّا أَنَّهَا نفس وللنفس حرَّة ... وقلب وَقد يشجى ويضنيه وجده وَلست بناس عهد خل تغيبت ... محاسنه والخل يحفظ عَهده وَمَا عذر دمع لَا يَجِيش بدمعه ... غَدَاة نأى عَنهُ الصّديق ورفده يروم الْأَمَانِي والمنايا تصده ... وَمَا حِيلَة الراجي إِذا حَار قَصده عَلَيْك أَبَا الْعَبَّاس فاضت مدامعي ... وقلبي لبعدي عَنْك أجج وقده على مثلك الْآن المراثى مُبَاحَة ... وَإِن غاض دمعي فالدماء تمده شددت عرى الْإِسْلَام شدَّة عَارِف ... قوي على الْأَعْدَاء لم يأل جهده تركت لَهُم دنياهم ترك عَالم ... علا قدره عِنْد الْإِلَه ومجده وَكنت لمجموع الطوائف مقتدى ... وعقدا لهَذَا الدّين أبرم عقده وَكنت ربيعا للمريد وعصمة ... فمذ صرت تَحت الأَرْض صوح ورده جمعت عُلُوم الْأَوَّلين مَعَ التقى ... إِلَى الْوَرع الشافي الَّذِي شاع حَمده وَكنت تَقِيّ الدّين معنى وَصُورَة ... قؤولا وَخير القَوْل عنْدك جده رحلت وخلفت الْقُلُوب جريحة ... تذوب وجيش الصَّبْر قد قل جنده عَلَيْك سَلام الله حَيا وَمَيتًا ... مدى مَا بدى نجم وأشرق سعده ... تمت وَهِي إثنان وَخَمْسُونَ بَيْتا

.. تَقِيّ الدّين لما مت أضحت ... لَك الدُّنْيَا تصيح بانتحاب وَكنت الْبَحْر فَوق الأَرْض تمشي ... فَعَاد الْبَحْر من تَحت التُّرَاب ... للْإِمَام الْمُحدث الْفَقِيه الْفَاضِل تَقِيّ الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن عبد الله بن سَالم الجعبري مرثاة فِي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية رَحْمَة الله عَلَيْهِ ... جلّ رزئي وَقل مني إصطباري ... يَا لقومي من قاصم الْأَعْمَار من معيني على نَوَائِب دهري ... وملماته وَمن أَنْصَارِي قد سقتني الْأَيَّام جرعة صَبر ... عز صبري لَهَا وَبَان إصطباري فدموعي مثل الْغَمَام إنسجاما ... ونواحي فِي اللَّيْل مثل القماري يَا عذولي أقصر فانك خلو ... من شجوني فَلَا احترقت بناري طَابَ كأس الْمنون صرفا أدرها ... لَا كؤوسا ممزوجة من عقار لست أبغي الْحَيَاة بعد وَلَكِن ... بغيتي أَن أَمُوت فِي الْأَبْرَار ...

.. بعد سبع من المئين وعشري ... ن خَرِيفًا من هِجْرَة الْمُخْتَار مَعَ ثَمَان للْعقد عشرُون إِ ذَا ... ك يَوْم الْإِثْنَيْنِ بعد نصف النَّهَار مدفن الحبر مُحرز الْعلم حَقًا ... ترجمان الْكتاب والْآثَار أَحْمد احْمَد المناقب والوص ... ف ابْن تَيْمِية الْكَرِيم النجار التقي النقي ذِي الْمجد والس ... ود والمكرمات والإيثار إِن يكن جِسْمه تغيب فِي التر ... ب فَمَعْنَاه نشره كالعرار كَانَ قطبا وعالما وإماما ... وشيخا لوحده بالفخار جَابِرا للْيَتِيم برا رحِيما ... علمه مشرق على الْأَمْصَار لم أجد بعده على الدَّهْر ... معينا سوى عُيُون جواري فنهاري من فَقده مثل ليلِي ... بعد ليل بوصله كالنهار يَا ابْن تَيْمِية وَيَا أوحد العص ... ر وَيَا سيدا غَرِيب الدَّار كنت كالكهف ملْجأ لمخيف ... من ضلال وناصرا باقتدار إِن دَعَوْت الْبكاء بعْدك وَالصَّبْر أجَاب البكا وَولى اصْطِبَارِي فرجائي إِن يَنْقَطِع من وصال ... سَوف يبْقى حزني مدى الْأَعْمَار ...

.. كنت حبا لِلْمُتقين إِمَامًا ... فالق مَا قد وعدت من ستار غَافِر الذَّنب قَابل التوب ذِي الطو ... ل الْعَزِيز الْمُهَيْمِن الْغفار وعَلى نَفسك الزكية مني ... يَا منائي ومنتهى أَو طاري كل وَقت تَحِيَّة وَسَلام ... مَا ضاءت كواكب الأسحار ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده للشَّيْخ قَاسم بن عبد الرحمن بن نصر المقرىء فِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية يرثيه ... عظم الْمُصَاب وزادت الأفكار ... وَجَرت بِحكم فراقك الأقدار يَا أوحدا فِي حلمه وعلومه ... خلت الْبِقَاع وَقلت النصار أَعلَى تَقِيّ الدّين يحسن صَبرنَا ... ولمثله تتهتك الأستار تجْرِي لعظم فراقنا عبراتنا ... أسفا عَلَيْهِ كَأَنَّهَا أخطار لهفي على بَحر الْعُلُوم وغوصه ... يحوي الْجَوَاهِر باهر زخار ينثال مِنْهُ إِلَى الْقُلُوب جَوَاهِر ... والدر من فِيهِ السّني نثار وَله بتفسير الْكتاب غرائب ... جليت لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَخْبَار حبر لَبِيب أوحد فِي عصرنا ... سل مَا تشا لَهُ بِهِ أَخْبَار ...

.. غلب الْمُلُوك مهابة وشجاعة ... لَيْث يهاب لقاءه الْكفَّار مَا كَانَ إِلَّا شامة فِي شامنا ... وَعَلِيهِ من تقوى الْإِلَه شعار وَله من الله الْكَرِيم عناية ... وَله من الصَّبْر الْجَمِيل دثار مَا كَانَ إِلَّا درة مكنونة ... لَا يَعْتَرِيه تدنس وغبار لَا يلوين إِلَى الحطام تعففا ... وَعَلِيهِ من تقوى الْإِلَه وقار مَا كَانَ إِلَّا حبر أمة أَحْمد ... شخصت لعظم مصابه الْأَبْصَار وَمُجاهد فِي الله حق جهاده ... بَحر الندى ونواله مدرار وَله الزهادة وَالْعِبَادَة مَنْهَج ... وبسنة الْهَادِي لَهُ استبصار حَاز الْعُلُوم أُصُولهَا وفروعها ... وَبِكُل مَا يرْوى لَهُ آثَار يلوى عَن الدُّنْيَا وَمَا يعْنى بهَا ... وزواه عَنْهَا الْوَاحِد القهار لما اقتناه هداه منهاج الْهدى ... وَعَطَاء رَبك وافر مكثار نزل الْقَضَاء بِهِ فآنس رَحْمَة ... من ربه لَا تدفع الأقدار بَكت السَّمَاء عَلَيْهِ يَوْم فِرَاقه ... أسفا وَجَاء الْغَيْث والأمطار وَبكى الشآم ومدنه وبقاعه ... لما قضى وَكَذَلِكَ الْأَمْصَار أَو مَا نظرت إِلَيْهِ فَوق سَرِيره ... حفت بِهِ من ربه الْأَنْوَار وَالنَّاس من باك عَلَيْهِ بحرة ... ودموعهم فَوق الخدود غزار ...

.. وهم أُلُوف لَيْسَ يُحْصى جمعهم ... إِلَّا إِلَه غَافِر ستار نزلُوا بِهِ كالبدر فِي إشراقه ... فتباشرت بقدومه الأقطار عبد الحليم وجده سعدوا بِهِ ... وَأَخُوهُ عبد الله والأبرار ولمثل هَذَا سارعوا أهل التقى ... فازوا بِمَا فازت بِهِ الأخيار الله يُكرمهُ بِأَفْضَل رَحْمَة ... فِي جنَّة من تحتهَا الْأَنْهَار أكوابها مَوْضُوعَة وقبابها ... مَرْفُوعَة حفت بهَا الأنور وكؤوسها قد أدهقت وقصورها ... قد أشرقت من فَوْقهَا الأستار وصحافها من فضَّة ولباسهم ... من سندس وطعامهم أطيار والحور فِي تِلْكَ الْخيام ببهجة ... لكنهن على المدى أبكار عربا لأَصْحَاب الْيَمين فليتنا ... مِنْهُم إِذا صرنا إِلَى مَا صَارُوا وعَلى الأرائك ينظرُونَ نعيمهم ... وَعَلَيْهِم كأس الرَّحِيق تدار ووجوههم مثل الصَّباح إِذْ بدا ... للناظرين كَأَنَّهُمْ أقمار ويمتعون بنظرة قدسية ... من رَبهم سُبْحَانَهُ الْجَبَّار فِي عمر عِيسَى وَالْجمال كيوسف ... وبطول آدم كلهم أبرار ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي مُحَمَّد ... فَهُوَ الرَّسُول الْمُصْطَفى الْمُخْتَار هادي الورى وإمامهم وشفيعهم ... أنصاره الْأَمْلَاك وَالْأَنْصَار صلى عَلَيْهِ الله مَا اهتز الثرى ... فَرحا إِذا مَا جَادَتْ الأمطار ... تمت وَهِي أحد وَأَرْبَعُونَ بَيْتا

من قصائد الشَّيْخ مجير الدّين احْمَد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْخياط الجوخي الدِّمَشْقِي مرثية فِي الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى ... خَشَعت لهيبة نَعشك الْأَبْصَار ... لما عَلَيْهِ تبدت الْأَنْوَار وَبِه الْمَلَائِكَة الْكِرَام تطوفت ... زمرا وحفت حوله الْأَبْرَار فَكَسَاهُ رب الْعَرْش نورا ساطعا ... فَكَأَنَّمَا غشي النَّهَار نَهَار وَلأمة الْإِسْلَام حول سَرِيره ... سَام إِلَى رب السَّمَاء جؤار وَلَهُم دموع من خشوع نُفُوسهم ... ودموعها فَوق الخدود غزار وسروا بِهِ فَوق الإران وَتَحْته ... مِنْهُم يَمِين أنامل ويسار ولرحمة الرَّحْمَن ظلّ سَجْسَج ... يَغْشَاهُم وسكينة ووقار فلكم عُيُون من تموج مَائِهَا ... حزنا تأجج فِي الجوانح نَار كَانَ الْمَمَات زفاف عرس حَيَاته ... وَبِه النُّفُوس مَعَ الدُّمُوع تثار إِن كَانَ من أهل وجيران نأى ... فَلهُ دنا من ذِي الْجلَال جوَار أَو كَانَ عَن دارالفناء رحيله ... فلديه فِي دَار الْبَقَاء ديار أَو كَانَ أزعج عَن ذرى أوطانه ... فَلهُ بخلد فِي الْجنان قَرَار مَا كَانَ إِلَّا مزن علم روضت ... مِنْهُ بصيب قطره الأقطار ...

.. كالغيث أقلع بعد سح عيمه ... وَتَخَلَّفت من بعده الْآثَار مَا كَانَ إِلَّا طود علم باذخ ... من دون وزن حصاته القنطار مَا كَانَ إِلَّا بَحر جود كَفه ... تياره بنواله زخار مَا كَانَ إِلَّا دِيمَة معروضها ... بهباته لعفاته مدرار مَا كَانَ إِلَّا الْبَدْر عِنْد كَمَاله ... وافاه من نقص التَّمام سرار مَا كَانَ إِلَّا خير أمة أَحْمد ... فِي الْعَصْر لم تسمح بِهِ الْأَعْصَار حبر وبحر للمكارم والتقى ... والجود وَالْإِحْسَان فِيهِ بحار وَلكم لِأَحْمَد فِي المحامد رُتْبَة ... من طولهَا تتقاصر الأفكار وَله مَنَاقِب مَا لحصر صفاتها ... عد وَلَا حد وَلَا مِقْدَار وَله الشُّعُور بِكُل علم نَافِع ... عقلا ونقلا فِي الْأَنَام شعار وَله التزهد والتعبد والتقى ... مَا بَين أَرْبَاب الدُّثُور دثار وَله إِذا فَخر الفخور بزينة ال ... دنيا بتشعيب الْحَيَاة فخار ولأشرف الْأَشْيَاء علم نَافِع ... لَا دِرْهَم يُغني وَلَا دِينَار إِن أظلمت سبل النهى لسكونه ... فلذكره فِي الْخَافِقين منار وَلَقَد علا الْإِسْلَام جلّ مصابه ... لَكِنَّهَا لَا تدفع الأقدار لَو كَانَ فِي الدُّنْيَا يَدُوم مخلدا ... بشر لخلد أَحْمد الْمُخْتَار ...

.. وَلكُل حَيّ خلع ثوب حَيَاته ... علما بِأَن ثوب الْحَيَاة معار فيمَ النجَاة وكل حَيّ ميت ... إِلَّا الْإِلَه الْوَاحِد القهار وَلَقَد أسفت على فراقي أحمدا ... إِذْ لَيْسَ لي قضيت بِهِ الأوطار لَو كَانَ يفدى هان عِنْد فدائه ال ... أَمْوَال وَالْأَوْلَاد والأعمار قد كَانَ مغناطيس أَفْئِدَة الورى ... أنسا وَلَكِن فِي الْقَلِيل نفار مَا كنت أَحسب أَن يَوْم وَفَاته ... يَبْدُو المصون وتهتك الأستار بكرالنساء من الستور ثواكلا ... وَمن الْخُدُور النهد الْأَبْكَار وَالنَّاس أَمْثَال الْجَرَاد لَهُم على ال ... تَابُوت مِنْهُ تهافت ودوار فَكَأَنَّهُ يعسوب نحل نَحوه ... حَيا وَمَيتًا للنفوس مطار مَلَأت محاسنه الْبِلَاد ونوهت ... بِحَدِيث معجز فَضله الْأَمْصَار وَجرى بأفواه الْأَنَام ثَنَاؤُهُ ... فلأرض رَوْضَة ذكره معطار يفنى الزَّمَان وينقضي وبأحمد ... وَحَدِيثه تَتَحَدَّث السمار فأحله الرَّحْمَن دَار أَمَانه ... ليزول من خوف عَلَيْهِ حذار وحباه ظلا صافيا فِي جنَّة ... فيحاء تجْرِي تحتهَا الْأَنْهَار ... تمت وَهِي ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا وَله أَيْضا يرثى شيخ الْإِسْلَام رَضِي الله عَنهُ

.. لمصاب الْبر التقي الإِمَام ... كل دمع من الورى فِي انسجام والبواكي لَهُم عَلَيْهِ نواح ... كفقيدات صادحات الْحمام مَاتَ يَوْم الْإِثْنَيْنِ والسر فِيهِ ... غير خَافَ على ذَوي الأفهام موتَة عظم الْمُهَيْمِن فِيهَا ... قدره فِي عُمُوم جمع الْأَنَام حفه النَّاس أَجْمَعُونَ رجَالًا ... وَنسَاء سعيا على الْأَقْدَام وَمَشوا تَحت نعشه وَهُوَ من فو ... ق رُؤْس الْأَعْيَان والحكام يسبلون الدُّمُوع من خشيَة الل ... هـ وحزنا كمسبلات الْغَمَام وضجيج الْعباد سرا وجهرا ... كَدَوِيِّ فِي سامق الجو سَام يَا لَهُ مكفهر يَوْم عبوس ... عاث فِي غارب السهى والسنام كم بِهِ عاين الْهَلَاك قوي ... ذُو نشاط لفرط كظ الزحام يَا لَهَا رزية كَانَ فِيهَا ... يَوْم بؤس فِي طوله فَوق عَام جلّ فِيهِ الْمُصَاب حَتَّى لقد ر ... ق تَعْبِيره على الأوهام كَانَ شيخ الْإِسْلَام فِي الْعلم والزهد وَحل مشكلات الْكَلَام فقد النَّاس مِنْهُ بحرا عليما ... هَدْيه كالأئمة الْأَعْلَام مِنْهُ حب الْكتاب وَالسّنة المثلى جرى فِي عروقه وَالْعِظَام بلغ الأوج من سَمَاء الْمَعَالِي ... وتسامى علما على كل سامي وطوى ذكره الْبِلَاد انتشارا ... فَهُوَ حَتَّى الْمعَاد فِي النَّاس نامي ...

.. كَانَ جبر الكسير إِن هاضه الدَّهْر وَعون العاني وحطم الحطام كَانَ حب الدُّنْيَا إِلَيْهِ بغيضا ... فَوق بغض الصَّحِيح ثوب السقام كَانَ لَا يرهب الْمُلُوك وَلَا ير ... غب فِيمَا لَهُم من الْأَنْعَام كَانَ وترا فِي الْفضل فَذا وكل النَّاس جَاءُوا بشفعهم والتؤام كَانَ سَمحا بِمثلِهِ الدَّهْر ضنا ... فِي ليَالِي الزَّمَان وَالْأَيَّام كَانَ سطرا فِي جبهة الدّرّ يقرا ... فِي البرايا وشامة فِي الشآم كَانَ نفعا لكل من خَافَ ضرا ... فِي سبيلي حَلَاله وَالْحرَام لم يكن ذَا تأنق فِي مَتَاع ... ولباس ومشرب وَطَعَام كَانَ يخْشَى دَاء ويرجو دَوَاء ... وشفاء لكل دَاء عقام كَانَ فِي الله ذَا انتقام وَلَا يو ... جد يَوْمًا لنَفسِهِ ذَا انتقام كَانَ برا يهدى بِهِ ذُو ضلال ... كَانَ بحرا يرْوى بِهِ كل ظام كَانَ كالليث بالنوائب فتكا ... كَانَ كالغيث بالمواهب هام فِي يَدَيْهِ وصدره كل بَحر ... زاخر بالنوال وَالْعلم طام أَي ندب شهم شُجَاع جواد ... أروع مَا جد سري همام قَامَ لما تذبذب النا ... س وتبدى لما نبا كل حام كم لَهُ فِي حنادس الْخطب والخل ... ق نيام حَتَّى الضُّحَى من قيام وَجَمِيع الْأَنَام من شدَّة الخو ... ف نيام من الردى فِي مَنَام ...

.. وَبَنُو فَارس قد افترسوا النا ... س افتراس الْأسود سرع السوام ودمشق الشآم بعد انبساط ... من ضواحي رستاقها فِي فِي انضمام إِذْ غزانا علج العلوج قزان ... وغزانا من فَارس بالطغام فَأَعَادَ الْعَزِيز منا ذليلا ... ذَا صغَار ينقاد كالأنعام فنضاه الْجَبَّار جلّ ثناه ... فِي وُجُوه العدى كَحَد الحسام فحمانا بِاللَّه من كل طاغ ... لَا بِرُمْح وصارم وسهام يَا لَهُ حِين فر كل كمي ... من حماة الْإِسْلَام عَنَّا محامي يَا ابْن تَيْمِية عَلَيْك خُصُوصا ... وعموما تحيتي وسلامي يَا سليل الْعلَا عَلَيْك القوافي ... قد بَكت فِي الطروس بالأقلام يَا فقيد الْمِثَال علما وحلما ... وَقَرِيب المرمى بعيد المرام يَا بطيء الأحجام إِن عز خطب ... وسريع الْقيام والإقدام يَا محلى وكاسيا كل فضل ... ومعرى من كل عَار وذام كف طرفِي إِن لذ من بعد مرآ ... ك لأجفانه لذيذ الْمَنَام وبودي بفقد شخصك لَو حا ... م على أيكتي حمام حمامي ولعمري يَا من لَهُ فِي فُؤَادِي ... لحد ذكر دَوَامه بدوامي إِن حللت الثرى فروحك حلت ... ياابن عبد السلام دَار السَّلَام فسقى تربة حواك ثراها ... كل مزن بوابل ورهام ...

.. وَإِذا سحت السَّوَارِي بسح ... والغوادي جدناك بالدمع دَامَ ... تمت بِحَمْد الله وعونه وعددها اثْنَان وَخَمْسُونَ بَيْتا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم للْإِمَام نجم الدّين إِسْحَق بن ألمى التركي يُجيب صدر الدّين ابْن الْوَكِيل فِي قصيدة هجا بهَا شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن تَيْمِية وَزعم أَنه لما خرج من دمشق فِي محنته الأولى مطرَت السَّمَاء ... من مبلغ عني الْخَبيث مقَالَة ... كالسيف أقصم ظَهره بفرنده أزعمت إِذْ غَابَ الإِمَام همى الغما ... م كذبت بل بَكت السَّمَاء لفقده أَو مَا ترى شمس الضُّحَى فِي مأتم ... والجو قد لبس الْحداد لبعده فليدخلن لأرض مصر إمامنا ... بسكينة حفت بِهِ من عِنْده وليرجعن إِلَى دمشق مؤيدا ... حَقًا كَمَا عَاد الحسام لغمده وَترى بِعَيْنِك مَا يسوؤك من علا ... يفنى الزَّمَان وَلَا نفاد لمجده أظللت من حمق بِهِ متشبها ... أَيْن الثعالب فِي الثرى من أسده مخضتكما أيدى الزَّمَان فَكنت كالز ... بُد الْجفَاء وَكَانَ خَالص زبده فاستر معايبك الَّتِي سَارَتْ بهَا الر ... كبان فِي غور الْوُجُود ونجده ...

.. فكفاك مقتا أَن تكون مُحَاربًا ... لوَلِيّ رب الْعَالمين وَعَبده ... تمت وَهِي عشرَة أَبْيَات ... تب إِلَى الله أَيهَا الْإِنْسَان ... فَلِمَنْ تَابَ رَوْضَة وجنان وَلمن تَابَ فِي الْقِيَامَة فوز ... ونعيم وقاصرات حسان تب إِلَى الله من جَمِيع الْمعاصِي ... فَلِمَنْ تَابَ عِنْده غفران ... للشَّيْخ محيى الدّين أَحْمد بن الْحسن الْخياط الجوخي الدِّمَشْقِي يرثي شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ أَيْضا ... بمصرعك الناعي أَصمّ وأسمعا ... وصم الصَّفَا من صدمة الْحزن صدعا فكم مقلة جَفتْ جمودا من الأسى ... وَكم مهجة سَالَتْ مَعَ الدمع أدمعا وَكم ثاكل بالنوح وَالنَّدْب رجعت ... وَكم فَاضل بالنظم والنثر سجعا وَلم يبْق ذُو علم وزهد من الورى ... لفقدك إِلَّا كاسف البال موجعا تنكرت الدُّنْيَا على كل عَارِف ... رأى مِنْك مأهول الْمنَازل بلقعا جعلت لمن أخلى مضيفا ومربعا ... فُؤَادِي وأجفاني مضيفا ومربعا فيا أَحْمد الْمَحْمُود قد كنت للهدى ... منارا وللشرع الحنيفي مشرعا وللدين وَالدُّنْيَا ضِيَاء وبهجة ... إِذا لَاحَ وَجه الْخطب أسود أسفعا ...

.. رمينَا برزء مِنْك لم تستطع لَهُ ... يداي شَدِيد الأيد والكيد مدفعا رحلت عَن الأوطان رحْلَة نازح ... إلَيْهِنَّ لم تزمع مدى الدَّهْر مرجعا لقد كنت عَن شَرّ بطيئا ووانيا ... وَفِي طلب الْخيرَات عجلَان مسرعا وللحكم طودا راسخا باذخ الذرى ... وللجود وَالْإِحْسَان وَالْعلم منبعا وركنا لدين الله حِين تهدمت ... قَوَاعِده مِنْهُ وهى وتضعضعا وَروض عَلَاء ناضرا عَاد ممعرا ... وصوح مِنْهُ كل مَا كَانَ ممرعا وَمجمع شَمل شتت الشمل فَقده ... وأنواع أشتات النوائب جمعا وحبرا حوى حيزومه وبنانه ... بحار الندى والجود وَالْعلم أجمعا سرى ذكره فِي الأَرْض شرقا ومغربا ... سرى نشر عرف المندل الرطب ضوعا وحازت مساعيه الْكَوَاكِب عدَّة ... مَعَ الْقطر إِذْ فَاتَت رمالا ويرمعا فيا مَوته مَا كَانَ فِي الْقلب أوجعا ... وَيَا يَوْمه مَا كَانَ فِي الْعين أفظعا ويالك من خطب جليل وحادث ... عدمنا بِهِ الشهم الْجواد السميدعا وَمن يَوْم بؤس عَابس الْوَجْه كالح ... سبانا هماما يُؤمن الروع أروعا ...

.. مُطيعًا لرب الْعَرْش لم يعْص أمره ... وَمِنْه لَهُ فِي الْعَصْر لم نر أطوعا منيبا إِلَيْهِ قَائِما بِحُدُودِهِ ... إِلَى حِين ولى مذ نشا وترعرعا هزبرا ومقداما على الْعرف كُله ... مليكا لمنع الْمُنْكَرَات ممنعا شُجَاع جلال فِي جِدَال بحوثه ... يُعِيد جَبَانًا كل من كَانَ أشجعا يصول بِسيف الْعلم فِي معرك النهى ... وأرماح شرع الْجَهْل أقبلن شرعا ... وَفِي عصره كم من إِزَالَة بِدعَة ... ومنكر فعل قد أَجَاد وأبدعا وَمَا كَانَ إِلَّا الشَّمْس فِي ليل بَاطِل ... يرينا بِنور مِنْهُ للحق مطلعا فكم من ظلام الظُّلم زحزح غيهبا ... بساطع نور الْعدْل من حِين شعشعا وَكم من كرامات لَهُ ومناقب ... يضيق بهَا وسع الزَّمَان توسعا وَكم من طَرِيق فِي المباحث مُبْهَم ... بإيضاحه أضحى لسارية مهيعا وَكم سامها النُّقْصَان والخفض حَاسِد ... وَخص كمالا زَائِدا وترفعا تولي عَن الدُّنْيَا حميدا وَلم يكن ... لزخرفها المذموم يُبْدِي تطلعا وعاش إِلَى ان مَاتَ لم يُعْط نَفسه ... بتأميل مَا فِي دَار دُنْيَاهُ مطمعا إِمَام عليم خاشع متواضع ... لهيبته تغضى النواظر خشعا سَحَاب عُلُوم روض الأَرْض فَضله ... وألبسها برد الْبَيَان الموسعا ونضر مِنْهَا بالفضائل أوجها ... وتوجها تَاج الْمَعَالِي المرصعا وَخَلفهَا من بعد صيب صَوبه ... عَلَيْهَا رياضا للعقول وأقلعا كَذَا المزن أَنى جاد بالوابل الثرى ... وروى صداها حق أَن يتقشعا ...

تمت وهي ثلاثة وأربعون بيتا

.. فَللَّه مَفْقُود فقدناه نَافِع ... لنا مِنْهُ غير الله لم نر أنفعا شغفنا بِهِ فِي الله حبا فَلم يدع ... هَوَاهُ لغير الله فِي الْقلب موضعا عَلَيْك أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد لم يزل ... فُؤَادِي بتذكار الْفُؤَاد مروعا إِلَى أَن يريني الله وَجهك سافرا ... بنضرته يَوْم الْمعَاد مبرقعا ... تمت وَهِي ثَلَاثَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا مرثية للشَّيْخ برهَان الدّين أبي إِسْحَاق ابراهيم بن الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الكريم التبريزي يرثي شيخ الْإِسْلَام وَهِي ثَالِثَة ثَلَاث مَرَّات عدد أبياتها ثَمَانُون بَيْتا ... لفقد الْفَتى التَّيْمِيّ تجْرِي المدامع ... وتصدع بالنوح الْحمام الصوادع فتغرق جفنا قد تقرح بالبكا ... وتضرم نيرانا حوتها الأضالع وبالماء يطفى كل نَار ونارنا ... مؤججها بَين الضلوع المدامع وَأما الْحمام الصادحات فَإِنَّهَا ... حمام حمام للقلوب صوادع على ماجد جلت مآثره الَّتِي ... لَهَا فِي قُلُوب العارفين مواقع عُلُوم وأخلاق كرام وسؤدد ... وجود ومجد باذخ وتواضع وزهد وإيثار وتقوى وعفة ... وَتلك سجايا حازها وهويافع هُوَ الحبر أما المشكلات فَحلهَا ... يسير لَدَيْهِ وَهُوَ فِي الْحل بارع ...

.. وَأما عُقُود الدّين فَهِيَ وَثِيقَة ... لَدَيْهِ وعنها بِالرِّمَاحِ يُنَازع إِمَام بكته أرضه وسماؤه ... بكاء حَزِين حزنه متتابع وَمَا لَهما لَا يَبْكِيَانِ لفقد من ... عَن الله لم يقطعهُ فِي الْكَوْن قَاطع وَحقّ لمن كَانَت جوامعهم لَهُ ... جَوَامِع يبكوا فَقده والجوامع وَلَو بَكت الدُّنْيَا وَمَا كَانَ حَقّهَا ... فواحدها قد كَانَ والشمل جَامع وَقد أَصبَحت ثَكْلَى تعزى بفقده ... وَمن بعده هالت عَلَيْهَا الفجائع وَلَوْلَا ابْتِغَاء الْأجر كَانَ اصطبارنا ال ... جميل قبيحا إِنَّمَا الصَّبْر نَافِع ومنبره لَوْلَا غزارة وعظه ... عَلَيْهِ قَدِيما حرقته المدامع وَمَا زَالَ فِي حق ابْن تَيْمِية الْفَتى ال ... إِمَام تَقِيّ الدّين أَحْمد ضائع أما كَانَ شمسا فِي الْمطَالع يجتلى ... فَعَادَت عَلَيْهِ فاختبته الْمطَالع وشامة حد الشَّام قد كَانَ علمه الش ... ريف على الخد المكرم طَابع وَنجم هدى للسالكين إِذا سروا ... وَبدر مُنِير فِي الدياجي طالع قد غَابَ غَابَ الْبَدْر عَنهُ وَلم يشم ... لشائمه برق على الشَّام لامع وَلَا افتر ثغر الشَّام من فرط حزنه ... على من عَلَيْهِ مدمع الْعين هامع وَبدر الدجى إِن غَابَ لم تشرق الدنا ... وَلَو أشرقت فِيهَا النُّجُوم الطوالع ...

.. وَمن مودعات الله كَانَ استرده ... وَلَا بُد يَوْمًا أَن ترد الودائع وَلَكِن بِهِ عاشت نفوس ومتعت ... قُلُوب وأبصار ولذت مسامع أجَاب لداعي ربه مسرعا كَمَا ... أجابوه أهل الاحتباء وسارعوا دَعَاهُ إِلَيْهِ ربه فَأَجَابَهُ ... وَمن يَدعه الْمولى إِلَيْهِ يُسَارع وَأصْبح جارا للَّذي عز جَاره ... كَمَا كَانَ يمْضِي ليله وَهُوَ رَاكِع تبَارك من حلاه بالزهد والتقى ... ورصع ذَاك الحلى من التَّوَاضُع وَملكه قلبا منيرا وَكَيف لَا ... فِيهِ من السِّرّ المصون ودائع وَتوجه تاجا من الزّهْد والتقى ... لمعناه تيجان الْمُلُوك خواضع وَمَالِي إِذا بالغت فِي وصف سيد ... حوى كل فضل فِي الْأَنَام مُنَازع وَمَا انا وحدي واصف بعض وَصفه ... فكم فِيهِ وصاف وبالحق صادع وَمن بَابه قد خصّه الله دون من ... سواهُ وَفضل الله ذِي الْعَرْش وَاسع إِذا قيل قد قَالَ ابْن تَيْمِية الْفَتى ... مقَالا فَكل للَّذي قَالَ سامع وَنور الْهدى وَالْعلم والزهد والتقى ... عَلَيْهِ على رغم الحواسد سَاطِع وَمَا ذَاك إِلَّا أَنه لنَبيه ... نَبِي الْهدى فِي كل شَيْء متابع وَفِي الله لم تَأْخُذهُ لومة لائم ... وَلَيْسَ لَهُ فِي نصْرَة الْحق وازع لَهُ راعدا مثل الْهلَال إِذا بدا ... تُشِير إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ الْأَصَابِع وَإِن كَانَ فِي تقوى سواهُ مُنَازع ... فَمَا فِي تقى هَذَا التقي مُنَازع إِمَام عَظِيم عَالم ومعلم ... صبور شكور للمهيمن طائع ...

.. وآتاه ذُو الْعَرْش الْمجِيد مواهبا ... وَلَيْسَ لما يُعْطِيهِ ذُو الْعَرْش مَانع أما كَانَ فِي دفعات غازان جائلا ... بعزمة لَيْث لم ترعه الوقائع يَقُول لجيش الْمُسلمين أَلا ابشروا ... بنصر على الْأَعْدَاء والنصر وَاقع فَأصْبح جَيش الْمُسلمين مؤيدا ... وغازان لَاقَى حتفه وَهُوَ رَاجع تصانيفه فِي كل علم بديعة ... وفيهَا لأهل الابتداع بَدَائِع وَلم يبتغ شَيْئا سوى وَجه ربه ... وَفِي زخرف الدُّنْيَا عدته المطامع فيا فوز من يحوى تصانيفه وَلَا ... يزَال لَهَا فِي كل وَقت يطالع علوما لمن يَبْغِي النجَاة اعتنى بهَا ... وَلِلنَّاسِ فِي تِلْكَ الْعُلُوم مَنَافِع وَذُو الْفضل يؤتيه الْمُهَيْمِن فَضله ... وَلَا حاصد إِلَّا لما هُوَ زارع فيا ثلمة فِي الدّين لم يرج سدها ... وخرقا عَظِيما مَاله الدَّهْر راقع فَإِن انتقاص الأَرْض من علمائها ... سيوف حداد للظهور قواطع وَيَا محنة أربت على كل محنة ... وقارعة غَابَتْ لَدَيْهَا القوارع فكم شت شملا بَينه بعد جمعه ... وَلَيْسَ لما قد فرق الْبَين جَامع كَمَا فاق فِي الْآفَاق بِالْعلمِ والتقى ... وشاع لَهُ فِي النَّاس مَا هُوَ شَائِع كَذَلِك لم يسمع بِمثل جَنَازَة ال ... إِمَام تَقِيّ الدّين احْمَد سامع مشيعها ضَاقَ الفضا بازدحامهم ... ورصت بِمن صلى عَلَيْهِ الْجَوَامِع وزف على الْأَعْنَاق فَوق سَرِيره ... زفاف عروس نَحْو حب تسارع ...

.. وأودعه الأحباب عِنْد وداعه ... لمن لم تخب يَوْمًا لَدَيْهِ الودائع وعادوا من التوديع حرقى جوانح ... وغرقى جفون أغرقتها المدامع وَمَا زَالَت النسوان يبْكين فَقده ... إِلَى أَن نضت من دمعهن البراقع فَلَو أَنه يفدى فدته نفائس ... النُّفُوس وَلَكِن القضا لَا يدافع هَنِيئًا لرمس ضم بَحر فَضَائِل ... فطوبى لقوم جاوروه وضاجعوا فَلَا بُد من فضل عَظِيم وَرَحْمَة ... تحيى بهَا طول الْمقَام الْمضَاجِع وَأَنِّي بتذكاري حلاوة عيشه ... مدى الدَّهْر مااستمرت لَدَى قائع وَإِنِّي بتذكاريه صب مولع ... وَلست لعذالي عَلَيْهِ أطاوع وَلَوْلَا التقى كَانَ التصبر يتقى ... على رزئه لَو أَن صبرا يطاوع وَكَيف يُطِيع الصَّبْر فِي رزء سيد ... بِهِ لخطوب الدَّهْر كُنَّا ندافع فَإِن شئتمو يَا لأيمينا فإننا ... لكم نتناسى ذكره ونصانع فهاتوا وَلنْ تَأْتُوا بحبر مؤيد ... يضارعه هيها الْمُضَارع وَإِن عمكم عجز باظهار سيد ... يناؤته إِن شِئْتُم صلوا أَو فقاطعوا فقد وضحت أعذار كل من انْتهى ... إِلَى السَّيِّد التَّيْمِيّ وخاب المنازع ثَمَانُون عَاما قد كسرت بحبها ... وَمن جَيش تسعين طلعن طلائع فَلم أر فِي عمري الَّذِي طَال مثله ... وَمَا أَنا فِي رُؤْيا المماثل طامع ثَلَاث مرار قد نظمت بِهَذِهِ ... لَهُ ولي النّظم الجموع مُطَاوع فَمن أجل ذَا طَالَتْ وَطَابَتْ لسامع ... وود من استجلى سناها يُرَاجع ...

تمت والحمد لله وحده

.. وَمن حَقه أَنا يَمُوت صبَابَة ... كَمَا مَاتَ أحباب على الْمَوْت تَابع وَإِنَّا لنَرْجُو أَن نقوم بِحقِّهِ ... إِلَى حِين يَأْتِي حيننا وننازع عَسى الله فِي الجنات يجمعنا بِهِ ... فَكل امرىء منا بذلك طامع فَلَا أوحشت مِنْهُ موَاضعه الَّتِي ... بِهِ أهلت وَالْيَوْم هن بَلَاقِع وَكَانَ بهَا يَتْلُو الْقرَان مُفَسرًا ... غوامضه حَتَّى تنير الْمَوَاضِع وَلَا بَرحت تهمي سحائب رَحْمَة ... عَلَيْهِ كَمَا تهمي عَلَيْهِ المدامع ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده للشَّيْخ شمس الدّين الذَّهَبِيّ مرثية فِي الشَّيْخ رَحمَه الله ... ياموت خُذ من أردْت أَو فدع ... محوت رسم الْعُلُوم والورع أخذت شيخ الْإِسْلَام وانفصمت ... عرى التقى واشتفى أولو الْبدع غيبت بحرا مُفَسرًا جبلا ... حبرًا تقيا مُجَانب الشِّبَع فَإِن يحدث فَمُسلم ثِقَة ... وَإِن يناظر فَصَاحب اللمع وَإِن يخض نَحْو سييوبه يفه ... بِكُل معنى فِي الْفَنّ مخترع وَصَارَ عالي الْإِسْنَاد حافظة ... كشعبة أَو سعيد الضبعِي وَالْفِقْه فِيهِ فَكَانَ مُجْتَهدا ... وَذَا جِهَاد عَار من الْجزع وجوده الْحَاتِمِي مشتهر ... وزهده القادري فِي الطَّبْع أسْكنهُ الله فِي الْجنان وَلَا ... زَالَ علينا فِي أجمل الْخلْع ...

.. مَعَ مَالك وَالْإِمَام أَحْمد والنع ... مان وَالشَّافِعِيّ وَالنَّخَعِيّ مضى ابْن تَيْمِية وموعده ... مَعَ خَصمه يَوْم نفخة الْفَزع ... تمت وعدتها أحد عشر بَيْتا للشَّيْخ زين الدّين عمر بن حسام الدّين أقش الشبلي يرثي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَضِي الله عَنهُ ... هَل بعد بعْدك طرف دمعه راق ... أم هَل لداءأخي الأحزان من راق بَعدت عَنَّا فللأحشاء نَار جوى ... تشب فِيهَا بإزعاج وإحراق إِنَّا إِلَى الله من خطب غَدا مثلا ... عَم الْأَنَام بأوجال وإشفاق كدنا من الْحزن أَن نقضي عَلَيْك أسى ... برزت لنا من فَوق أَعْنَاق لما خرجت بِيَوْم الدّفن فِي أُمَم ... كَأَنَّهُ كَانَ يَوْم الْكَشْف عَن سَاق وَقلت مَاتَ إِمَام الْمُسلمين فيا ... عين اذرفي إِن رعيتي حفظ مِيثَاق لهفي على نَاصِر للدّين وَهُوَ إِلَى الغايات من كل فضل خير سباق حوى فنون النهى صدقا بِلَا كذب ... وَحَازَ علم الورى فِي طيب أَخْلَاق لهفي على حجَّة الْإِسْلَام كَانَ لَهُ ... مَنَاقِب حازها فِي حسن أعراق بحار علم حوى فِي صَدره وَغدا ... ببحر جود لوافي المَال نفاق ...

تمت وهي خمسة عشر بيتا

.. يزْدَاد حزني عَلَيْهِ كل آونة ... وَلَيْسَ يطفي لهيبي فيض آماق غاضت بحار عُلُوم الدّين يَوْم ثوى ... ذَاك الإِمَام بلحد تَحت أطباق نسعى إِلَى الدّفن مشيا فَوق أَرْجُلنَا ... وَقل لَو كَانَ مشيا فَوق أحداق يَا جَامع الْفضل قد جف الْكتاب بِمَا ... قد كَانَ من بسظ آجال وأرزاق وَالْمَوْت بعْدك لَا يبْقى على أحد ... لم يبْق إِلَّا الْإِلَه الدَّائِم الْبَاقِي ... تمت وَهِي خَمْسَة عشر بَيْتا وَقَالَ بَعضهم فِي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين قدس الله روحه ... الْحَمد لله حمدا دَائِما أبدا ... مُبَارَكًا طيبا يسْتَغْرق العددا ثمَّ الصَّلَاة على الْهَادِي وعترته ... وَصَحبه وَذَوِيهِ الصفوة السعدا قد أنْجز الله للأبرار مَا وعدوا ... من رفع نازلة مست إِمَام هدى وَأصْلح الله ذَات الْبَين وانفرجت ... شَدَائِد فَككت أهوالها الزردا وأغمد الله سَيْفا كَانَ مشتهرا ... وأطفأ الله جمرا كَانَ قد وقدا وَألف الله مَا بَين الْقُلُوب على الت ... قوى وَعرفهَا طرق الْهدى وَهدى فَأصْبح النَّاس فِي صفو بِلَا كدر ... من بَعْدَمَا كَانَ كل عيشه نكدا وَعدا على الله حَقًا نصر ناصره ... عَلَيْهِ بِهِ الْقُرْآن قد شَهدا وَلم تكن محنة بل منحة جمعت ... لطفا خفِيا ولطفا للعيون بدا فِيهَا بصائر للمستبصرين بهَا ... تنبي لمن غَابَ عَنْهَا من لَهَا شَهدا ...

.. فداوموا شكر نعما كالحيا وكفت ... على الورى وكفت كل الْأَنَام ردى فيا لَهَا نعْمَة قد عَمت سَلامَة من ... بِالروحِ يفدى وَقلت أَن تكون فدا فَهُوَ الإِمَام الَّذِي مَا زَالَ عِنْد ذَوي ال ... أَحْكَام فِي سَائِر الْأَحْكَام مُجْتَهدا إِن قيل من هُوَ فاطرب عِنْد ذَاك وَقل ... نجل ابْن تَيْمِية فاشدد بِهِ عضدا أَو قيل من ولد من هَذَا الْكَرِيم فَقل ... من ولد مجد علا أكْرم بِهِ ولدا مولى لَهُ فِي جلاد أَو مجادلة ... لِوَاء نصر وتوفيق قد انعقدا تهاب مَجْلِسه العالي الْمُلُوك وَمن ... يخْشَى سطاه وَمن لم يرهب الأسدا من أجل تَعْظِيمه للحق لَو وقف اللَّيْث الهصور لَدَيْهِ رَاح مرتعدا وَكَونه ترك الدُّنْيَا وَزينتهَا ... زهدا وَلَا سبدا أبقى وَلَا لبدا تصغي المسامع ليتا عِنْد مَنْطِقه ... كَأَنَّمَا السّمع بالألفاظ قد عقدا تذكر الله ذكرَاهُ ورؤيته ... تذكار وَاجِد مَا قد كَانَ قد فقدا ترى ازدحاما على أبوابه أبدا ... إِمَّا لكسب عُلُوم أَو لنيل جدى لم يدع يَوْمًا على من خَاضَ فِي دَمه ... بغيا وَلَا لَام ذَا لوم وَلَا حقدا وَرُبمَا اسْتغْفر الله الْعَظِيم لمن ... عمدا عَلَيْهِ اعْتدى أَو قَتله اعتمدا كَذَا يكون فَتى الفتيان لَا رجل ... يكون كالنمر الضاري إِذا حردا هذي المكارم لَا قعبان من لبن ... لَا يكفيان لبَعض الجائعين غَدا ...

.. لَهُ صِفَات كنشر الرَّوْض تالدة ... غب الْعِمَاد عَلَيْك الرّيح مفتقدا أَو كَالنُّجُومِ الَّتِي تهدى أَخا سفر ... لَيْلًا إِذا ظلّ فِي الظلماء مُنْفَردا عَلَيْهِ ألباب أَرْبَاب التقى عكفت ... ومجتني الشهد لم يعكف عَلَيْهِ سدى من للمسائل إِن أعيت غوامضها ... يحل مشكلها المستصعب العقدا وَمن إِذا رص بالسادات مَجْلِسه ... يكون فِي صَدره صَدرا إِذا قعدا يكَاد يسلب ألباب الرِّجَال بِمَا ... يرويهِ مِمَّا يزِيد المهتدين هدى من الْعُلُوم الَّتِي عَن ربه صدرت ... وَمن حَدِيث عَن الْمُخْتَار قد وردا وَعَن صحابته وَالتَّابِعِينَ وَعَن ... أَئِمَّة سَاد من عَنْهُم روى سندا أم من يشنف أسماع الْأَنَام بِمَا ... يَرْبُو على الدّرّ منثورا ومنتضدا سوى الإِمَام تَقِيّ الدّين أَحْمد تا ... ج العارفين وَقَاه الله كل ردى وَمن يحدث عَن بَحر فَلَا حرج ... عَلَيْهِ بل هُوَ مأثوم إِذا اقتصدا وَكم بِمصْر وبالشام الشريف فَتى ... لَكِن بِمَجْمُوع هَذَا الحبر مَا وجدا كَفاهُ آيَة تأييد سِعَايَة من ... سعى وَلم يسْتَطع يُؤْذِي لَهُ جسدا لكنه حِين حَاز السَّبق من صغر ... وفَاق كل كَبِير فاق وانفردا وَحَازَ علما لدُنْيَا ومنقبة ... تفتتت مِنْهُ أكباد العدى حسدا فَأَجْمعُوا كيدهم يَبْغُونَ فتنته ... فَمَا أعَان عَلَيْهِ ربه أحدا وَلم يطق حَاسِد فِي الأَرْض قاطبة ... بِأَن يمد بمكروه إِلَيْهِ يدا وَكَانَ سَيْفا على الأضداد مشتهرا ... فحاولوا أَن يكون السَّيْف منغمدا ...

.. وَمن يصد سنا شمس إِذا طلعت ... أَو يحجب الْبَدْر إِن شقّ الدجى وبدا وَنور رَبك لَا يطفى وَإِن حرص السخب اللَّئِيم على الإطفاء واجتهدا وَقد درى كل ذِي خبر بِأَن لَهُ ... من فيض بَحر عطايا ربه مدَدا وَقد علمْتُم بِهِ لما دَعَاهُ إِلَى ... مصر الَّذين علمْتُم مَا بهَا وجدا فاسترشد الله فِي الإصدار عَن بلد ... نبا بِهِ واستخار الله ثمَّ غَدا فَاخْتَارَ مسراه مَوْلَاهُ ووفقه ... فِيهِ وهيا لَهُ من أمره رشدا وَسَار وَالله يكلؤه ويحرسه ... وَكَيف لَا وَعَلِيهِ كَانَ مُعْتَمدًا وَالشَّمْس مَا حجبت بالغيم عَن بلد ... إِلَّا أنار سناها غَيره بَلَدا فالدر لَو لزم الأصداف مَا ارتفخ الْبَاب وارتكب التيجان واقتعدا لم يبْق توديعه يَوْم الرحيل لذِي ... صَبر وَذي جلد صبرا وَلَا جلدا كَأَن حاديه يَوْم اسْتَقل بِهِ ... مسيره نَحْو مصر بالقلوب حدا فاستعبرت أعين كَادَت لفرقته ... تبيض حزنا وأولاها البكى رمدا هَذَا وَكم قضى ظام إِلَيْهِ وَلم ... يقْضى لَهُ قبل وَشك الْبَين أَن يردا وَمَا يضر فَتى حَالَتْ منيته ... دون الْأَمَانِي إِذا مَا عد فِي الشهدا فَحل مصر عَزِيزًا عِنْد مَالِكهَا ... وَفِي مهماته أضحى لَهُ عضدا لتشرق الدولة الغرا بِهِ وَإِذا ... أضلّ جهل جهول بالعلوم هدى ...

.. وَيَأْمُر النَّاس بالتقوى ويخبرهم ... بِسنة الْمُصْطَفى فعلا ومعتقدا وَفِي مجالسه اللَّاتِي يحف بهَا ... ملائك الذّكر تحصى من لَهَا شُهَدَاء يَدْعُو لسيدنا السُّلْطَان نَاصِر د ... ين الله نجل فلاوون الْفَتى أبدا بِأَن يَدُوم لَهُ فِي الْملك أَرْبَعَة ... عز وَنصر وتأييد وكبت عدى حَتَّى يملكهُ الله الْعرَاق فيمَ ... حوا الشّرك والرفض مِنْهَا وَالَّذِي مردا وَعَاد من مصر نَحْو الشَّام فِي دَعه ... مصالحا مصلحا مَا كَانَ قد فسدا فحين وافى دمشق الشَّام محترزا ... من حل عقد وداد للورى عقدا روى صدى مهج قد طالما ظمئت ... إِلَيْهِ شوقا وجلى للقلوب صدا وجاءنا بعد يأس مثل عَافِيَة ... جَاءَت عليلا فَلَمَّا لابسته هدى ولاح شمس على روض وسح ندى ... وَالشَّمْس عَادَتهَا فِي الرَّوْض رفع ندى واخضر روض الْأَمَانِي ثمَّ فاح شذا ... بَان لحمى وتغنى ورقه وشدا وصفق النَّهر والأغصان قد رقصت ... مَسَرَّة بفتى من مصر قد وردا وسر أهل التقي من كل طَائِفَة ... أَن عَاد أكْرم مِمَّا كَانَ حِين بدا وأنجح الله فِي الدُّنْيَا مقاصده ... وسوف يؤتيه أجر الصابرين غَدا فَادعوا لَهُ وَلمن كَانَ السفير لَهُ ... حَتَّى ألم بكم من بعد مَا بعدا وحقق الله مَا أملتموه لَهُ ... وَصَارَ كل بِكُل عيشة رغدا فَقل لقوم شَقوا زَالَ الشَّقَاء إِلَى ... أعدائكم وبقيتم أَنْتُم السعدا عين أَصَابَت وَلَكِن عين عائنة ... أَلا تروه رقاد الْمَوْت قد رقدا ...

تمت بحمد الله وحسن توفيق

.. وَالله مَا خيب الله الدعاة لَهُ ... من كل عبد لَهُ يَدْعُو إِذا سجدا لَكِن أجَاب وَأعْطى فَوق مَا طلبُوا ... فَالْحَمْد لله حمدا دَائِما أبدا ... تمت بِحَمْد الله وَحسن توفيق أنْشد هَذِه القصيدة الشَّيْخ الْأَجَل شمس الدّين أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن خَليفَة بن مُحَمَّد بن خلف المنبجي قَالَ أنشدنا لنَفسِهِ جَمِيع هَذِه القصائد الشَّيْخ الإِمَام سعد الدّين أَبُو مُحَمَّد سعد الله بن نجيح فِي مدح شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية قدس الله روحه وَنور ضريحه ورحمه وَعَفا عَنهُ ... أَيهَا الْمَاجِد الَّذِي فاق فخرا ... وسما رفْعَة على الأقران يَا إِمَامًا أَقَامَهُ الله للْعَالم ... ين هاديا باللطف وَالْإِحْسَان يَا غَرِيب الْمِثَال يَا موضح الأش ... كال بِالْبَيِّنَاتِ والبرهان يَا تَقِيّ الدنى مَعَ الدّين يَا من ... خص بِالْفَضْلِ واكتمال الْمعَانِي لَا تحل العواد إِن أَكْثرُوا التر ... داد أَو أقدموا بِلَا اسْتِئْذَان أَنْت روح الْوُجُود فِي عصرك الآ ... ن وقلب الورى وَعين الزَّمَان والبرايا إِذا اعْتبرت جَمِيعًا ... مِنْك أضحوا بمنزل الجثمان ...

وله رحمة الله

.. وَإِذا الدَّاء خامر الرّوح والقل ... ب تعدى الدَّاء إِلَى الْأَبدَان فجدير بِسَائِر الصحب إِن هم ... أطنبوا فِي السُّؤَال للرحمن أَن يديم ظلك الظليل عَلَيْهِم ... سالما من طوارق الْحدثَان بِالنَّبِيِّ الْهَادِي مُحَمَّد الْمَبْعُوث ... بالمعجزات وَالْقُرْآن وبأصحابه مَعَ الْآل والأزواج ... وَالتَّابِعِينَ بِالْإِحْسَانِ صلوَات الْإِلَه تترى عَلَيْهِم ... وَعَلِيهِ مَا أشرق النيرَان ... عدتهَا ثَلَاثَة عشر بَيْتا وَله رَحْمَة الله ... يَا من لَهُ فطنة فاقت ذَوي الفطن ... يَا ذَا المناقب والأفضال والمنن يَا من أواليه فِي سرى وَفِي علني ... لَا تلحني فِي انخذالي عَن بني الزَّمن وَلَا اغترابي عَن الأهلين والوطن يَا من لدين هَوَاهُ بت مُعْتَقدًا ... وَمن بديل هَوَاهُ ظلت معتضدا كن لي عذيرا فَلَا نلْت العدات غَدا ... وَلَا تلمني إِذا أَصبَحت مُنْفَردا عَن الْوُجُود بِلَا خل وَلَا سكن عَن كم جهد مثلي أَن يخفى تململه ... عَن الوشاة وَأَن يخفى تحمله ...

.. إِن نم دمعي بأسراري يحِق لَهُ ... فَبِي من الوجد مَا إِن لَو تحمله رضوى لذاب جوى أَو بذيل لفني لَكِن قلبِي وَإِن ضَاقَتْ مسارحه ... لما حوته من الْبلوى جوارحه بِهِ غَرِيم غرام لَا يباحه ... ولي من الْفِكر ندمان أطارحه مَا بِي فأفهم مَا أَشْكُو ويفهمني شغلت فِيهِ بِهِ عَمَّن سواهُ فَمَا ... ألوى على صرف دهر جَار أَو رحما وَلَا أبال أذاع السِّرّ أم كتما ... وَكَيف اصبح بالأغيار ملتئما وَبَعض مَا بِي عَن آباي يشغلني هَذَا وَلَو أضرمت فِي الْقلب نَار غضى ... مَا ازددت إِلَّا ابتهاجا بالهوى ورضا لَكِن جَوْهَر صبري مذ غَدا عرضا ... أنشدت قَول الْفَتى الجيلي متعضا بِهِ وَمن مثل قَول السَّيِّد الْحسن مُخَاطبا لجهول بَات يؤلمه ... عذلا ويلحاه فِيمَا لَيْسَ يُعلمهُ عني ملامك إِنِّي لست أفهمهُ ... وَرب وَقت وجودي فِيهِ أسأمه دع الْأَجَانِب بل روحي تزاحمني ...

وله فيه أيضا رحمه الله ورضي عنه

وَله فِيهِ أَيْضا رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ ... يَا عَالما جلّ عَن ضد يضاهيه ... وفَاق أقرانه فِيمَا يعانيه يَا ذَا الْفَضَائِل يَا زين الأماثل يَا ... مردى المماثل يَا موهى مناويه إِيضَاح فضلك لَا يحْتَاج تَكْمِلَة ... لَكِن مفصله عَن ذَاك مجزيه يَا من إِذا رمت أَن أحصي مناقبه ... نظما ونثرا وأنشيه وأرويه حصرت لَوْلَا سجاياه تهذبني ... لما ظَفرت بِمَعْنى من مَعَانِيه مُحَرر الْمجد فِي مدحيك لخص لي ... هِدَايَة أرشدت إرشاد تَنْبِيه يَا عُمْدَة الْمُقْتَدِي حَقًا ومقنعة ... فيا يروم وكافيه ومغنيه وَيَا نِهَايَة طلاب الرعايا من ... وسيط علم وَخبر أَنْت حاويه يَا غنية المبتغين الرشد مانحهم ... فتوح غيب أَتَى من عِنْد باريه أبديت تعجيز أهل النّظم فَاعْتَرفُوا ... بالمعجز عَن كنه مَا أَصبَحت تبديه لله كم ميت علم أَنْت تنشره ... من بعد مَا كَادَت الْأَيَّام تطويه وَكم حصون ضلال أَنْت هادمها ... قهرا وَكم قَول غاو أَنْت موهيه بيّنت إِفْسَاد مَا قد حللوه لَهُم ... تَبْيِين تَحْرِيم لَا تَبْيِين تَنْزِيه ...

لئن نافقوه وهو في السجن وابتغوا رضاه وأبدو رقة وتوددا فلا غرو إن ذل الخصوم لبأسه ولا عجب إن هاب سطوته العدا فمن شيمة الغضب المهند أنه يخاف ويرجى مغمدا ومجردا

.. من الدباثة حَيْثُ الْجعل يبذله الْمِسْكِين من كَفه كَيْمَا يكافيه وَقمت بِالْحَقِّ فِي ذَا الْعَصْر مُجْتَهدا ... فِي نَصره مُبْطلًا دَعْوَى أعاديه يَا حجَّة الله فِي هَذَا الزَّمَان على ال ... وجود مَا بَين قاصيه ودانيه يَا من يرَاهُ إِلَه الْعَرْش دَاعِيَة ... إِلَى الْهدى بلطيف من تَأتيه يَا كاشف المشكلات المعضلات لنا ... بأبلج مستنير من فَتَاوِيهِ يَا من أَبى مقولي إِلَّا مدائحه ... وَلَو مدحت سواهُ كنت أعنيه وَمن حداني إِلَى أَنِّي أخاطبه ... بالمدح حَتَّى كَأَنِّي لَا أناجيه إِلَّا مَخَافَة ذِي مَحل وَذي حسد ... يلحى فيعرب عَمَّا فِيهِ من فِيهِ وَإِن تعرض ذُو ضغن تَلَوت لَهُ ... فذلكن الَّذِي لمتنني فِيهِ ... وَله أَيْضا يذكر ذل الْخُصُوم رَحمَه الله ... لَئِن نافقوه وَهُوَ فِي السجْن وابتغوا ... رِضَاهُ وأبدو رقة وتوددا فَلَا غرو إِن ذل الْخُصُوم لِبَأْسِهِ ... وَلَا عجب إِن هاب سطوته العدا فَمن شِيمَة الْغَضَب المهند أَنه ... يخَاف ويرجى مغمدا ومجردا ...

وله أيضا فيه يمدحه رحمه الله

وَله أَيْضا فِيهِ يمدحه رَحمَه الله ... أيا من مناقبه فاخره ... وَيَا من مواهبه غامره وَيَا من سحائب إفضاله ... بآمال أمالها ماطره وَيَا من لَهُ همة لم تزل ... بنجح مقاصده ظافره وَيَا من عَزَائِمه لَا تني ... إِلَى دَرَجَات الْعلَا سائره وَيَا لَيْث حَرْب إِذا مَا سَطَا ... تذل لَهُ الْأسد الكاسرة وَيَا طور حلم إِذا مَا جنى ... عَلَيْهِ امْرُؤ ينثتي عاذره وَإِن نَالَ مِنْهُ بِسوء الْمقَال ... وقبح الفعال غَدا غافره وَيَا بَحر علم تكَاد البحا ... ر تفيض بأمواجه الزاخره وَيَا من أدلته بالنصو ... ص لأخصامه بدا قاهره وَيَا من براهين أَقْوَاله ... كشمس الضُّحَى إِذْ بَدَت سافره وَيَا من عوارف عرفانه ... تفوق على الأنجم الزاهره وَيَا من صوارم آرائه ... لأعناق أعدائه باتره وَيَا قدوة يَقْتَدِي العارفون ... بِنور هدايته الوافره وَيَا من قَصده بهدى الطَّالِب ... ين يُؤَيّد بَاطِنه ظَاهره وَيَا دَاعِي الْخلق فِي عصره ... إِلَى الْحق بالحجج الباهره ...

الله نشكر مخلصين ونحمد وله نعظم دائما ونوحد وبذيله الضافي نلوذ ونلتجي وإليه نسعى مخبتين ونحفد

.. وَيَا من مَكَارِم أخلاقه ... زكتْ بعناصره الطاهره وَيَا من بَدَائِع أَوْصَافه ... تعين على مدحه شاعره وماذا عَسى يبلغ المادحو ... ن من القَوْل بالفطن القاصره ومجدك قد أعيا الواصف ... ين وصير آذانهم حائره وَلَكِن ذَلِك جهد الْمقل ... فَكُن بِالْقبُولِ لَهُ جابره أيا من دعائي وَيَا من ولائي ... وفائح أثنيتي العاطره لعلياء حَضرته دَائِما ... تردد وَارِدَة صادره لعمرك إِن كَانَ حظي غَدا ... من الله فِي دَاره الْآخِرَه كَمَا هُوَ عنْدك فِي هَذِه ... فَتلك إِذا كرة خاسره ... وَله أَيْضا فِيهِ يمدحه رَحمَه الله ... الله نشكر مُخلصين وَنَحْمَد ... وَله نعظم دَائِما ونوحد وبذيله الضافي نلوذ ونلتجي ... وَإِلَيْهِ نسعى مخبتين ونحفد ...

.. وَبِه نصول ونستعين على العدى ... إِذْ لَا سواهُ لنا إِلَه نعْبد فَلهُ الثنا وَالْمجد إِذْ هُوَ أَهله ... وَله الْجَلالَة والبقاء السرمد مولى حيانا فِي فتور زَمَاننَا ... بفتى يثقف ديننَا ويسدد أَعنِي تَقِيّ الدّين أكمل سيد ... لدعائم الشَّرْع الشريف يشيد الْعَالم الْوَرع الْمُحَقق وَالَّذِي ... من دون رتبته السهى والفرقد من جاد بِالنَّفسِ النفيسة مِنْهُ فِي ... ذَات الْإِلَه وَلم يرعه تهدد من لم يخف فِي الله لومة لائم ... كلا وَلم يرجعه عَنهُ مُفند حبر حباه الله جلّ جَلَاله ... بِصِفَات مجد فِي علاهُ تخلد ... هُوَ بَحر علم طود حلم راسخ ... فِي الْحق لَا وان وَلَا مُتَرَدّد صدر لَدَيْهِ تحبب وتألف ... للْمُؤْمِنين ورأفة وتودد وكذاك فِيهِ على الْمُنَافِق غلظة ... وتمنع وتصعب وتشدد هُوَ قَائِم لله يهدي خلقه ... أبدا إِلَى سبل النجَاة ويرشد فلذاك أصبح للبرية قدوة ... فِي الْعَصْر إِذْ هُوَ فِيهِ قطب مُفْرد لَك يَا أَبَا الْعَبَّاس إِذْ عَن فرقة ... من قبل قد كَانَت لحقك تجحد ضَاقَتْ بهم سَعَة الفضا مذ عاينوا ... لَك كل يَوْم رفْعَة تتجدد ...

.. وراوك ممتازا بِخَير مَنَاقِب ... لَيست لغيرك فِي زَمَانك تُوجد فعراهم الْحَسَد المضل فَأَصْبحُوا ... ولديهم مِنْهُ الْمُقِيم المقعد إِن يحسدوك فَغير بدع مِنْهُم ... جم الْفَضَائِل لَا محَالة يحْسد راموا بُلُوغ مقامك العالي وَمَا ... علمُوا بأنك فِي الْمَعَالِي أوحد فَدَعَا بهم دَاعِي قصورهم اخلدوا ... وَمَعَ الْخَوَالِف مَا حييتُمْ فاقعدوا لما نأت عزماتهم عَن شأوك السا ... مي وصدوا عَن حماه أَو بعدوا هموا بِأَمْر لم ينالوا مِنْهُ مَا ... طلبُوا لقد ضلوا وَلما يهتدوا ورموك بالإفك الفظيع وأطنبوا ... بالْقَوْل فِيمَا زوروا وتقلدوا وبغوا عَلَيْك بِمَا افتروه تعمدا ... وسجية الباغين أَن يتعمدوا لم يتْركُوا شَيْئا بِهِ يتوصلوا ... طَمَعا إِلَى مَا قرروه وأكدوا إِلَّا نَحوه وبالغوا فِي جهدهمْ ... لَكِن سعدت وَإِنَّهُم لن يسعدوا حَتَّى إِذا مَا استيأسوا نيل مَا ... كَانُوا جَمِيعًا حاولوا وتقصدوا خَافُوا سطاك فَأَجْمعُوا آراءهم ... أَن يودعوك السجْن ثمَّ يخلدوا فَأبى إلهك أَن ينالوا مِنْك مَا ... راموا وَهل يزكو لباغ مقصد مَا ذَاك إِلَّا حَال يُوسُف حُزْته ... إِرْثا حباك بِهِ الْكَرِيم المرقد فبلغت فِيهِ من الرياضة فَوق مَا ... تختاره وَصفا لديك المورد ثمَّ انْقَضتْ أَيَّام خلوتك الَّتِي ... كمل الْعَلَاء بهَا وَتمّ السؤدد وبرزت كالإبريز فَارق كيره ... فاحتار فِيهِ الجهبذ المستنقد ...

.. وَظَهَرت كالصبح الْمُنِير إِذا بدا ... فِي الْأُفق فانقشع الظلام الْأسود وشهرت كالعضب الْمُجَرّد مقسمًا ... فِي غير هام عداته لَا يغمد فهناك تعقد للجدال مجَالِس ... كَانُوا أَرَادوا أَنَّهَا لَا تعقد فَرَأَوْا نكولا عَن جدالك خيفة ... وتذبذبت آراؤهم وتفندوا حَتَّى إِذا أمروا بِذَاكَ وأيقنوا ... أَن الْخَمِيس وَلَا خلاف الْموعد حشدوا عَلَيْك جموعهم وتحزبوا ... وتواثبوا وتحفلوا وتجردوا وحموا عصابتك الْحُضُور وجادلوا ... إِذا همو لَك أفردوا فَنَهَضت معتصما بِرَبِّك واثقا ... متوكلا تثني عَلَيْهِ وتحمد وَإِلَيْهِ أخلصت التَّوَكُّل موقنا ... أَن لَيْسَ يخذل من بِهِ يستنجد ثمَّ استخرت الله واستفتحته ... فِيمَا تروم من الْأُمُور وتقصد فحباك مِنْهُ عواطفا ولواطفا ... يفنى الزَّمَان وَذكرهَا لَا ينْفد وأناك نصر الله وَالْفَتْح الَّذِي ... بهما جَمِيعًا كنت مِنْهُ توعد فَوَثَبت وثبة ثَائِر لله لم ... يحفل يما حشدوا وَلَا مَا جندوا أبديت من كنز الْعُلُوم غوامضا ... مكنونة لولاك كَانَت تفقد أسمعتهم مِنْهَا لما لم يسمعوا ... وأتيتهم مِنْهَا بِمَا لم يعهدوا أسندتها ورويتها نصا كَمَا ... جَاءَت معنعنة فيا لَك مُسْند ...

.. حصرت صُدُورهمْ عَن استفهامها ... وتحيروا لسماعها وتبلدوا وبدا لَهُم مَا لم يَكُونُوا يحسبوا ... مِمَّا يسوؤهمو وَمِمَّا يكمد فاسعد بهَا من محنة فِي طيها ... منح أقرّ لَهَا الْجُحُود الملحد نلْت الفخار بهَا وحزت مآثرا ... سر الصحاب بهَا وغم الْحَسَد وغدوت فِيهَا كَابْن حَنْبَل تاليا ... تقفوا جميل جماله وتجدد ... أخمدت نَار جَهَالَة مَا خلتها ... لَوْلَا جهادك واجتهادك تخمد أرضيت رَبك إِذْ أضفت كَلَامه ... حَقًا إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِيهِ تردد وكذاك أثبت الْعُلُوم والاستوا ... من غير تكييف وَحصر يُوجد ونزول خالقنا إِلَى أدنى سما ... لَيْلًا كَمَا صَحَّ الحَدِيث الْمسند وَذكرت أَسمَاء الْإِلَه وَلم تزغ ... ميلًا إِلَى مَا حرفوه وألحدوا وَرويت أَخْبَار الصِّفَات وآيها ... مرا كَمَا نقل الثِّقَات وجودوا ونصرت مِلَّة أَحْمد الْهَادِي وَقد ... أيدت سنته فَأَنت مؤبد وأقمت مَذْهَب أَحْمد الثبت الصبو ... ر على الْأَذَى فلك الهنا يَا أَحْمد أوضحت منهجه السوي وَأَنه ... مذ كَانَ فَهُوَ الْمُسْتَقيم الأرشد وأثرت محنته وَقمت مقَامه ... فِي الْعَصْر ترغم شانئيك وتكمد فاحمد إلهك إِنَّه لَك نَاصِر ... وَابْشَرْ فقدوتك النَّبِي مُحَمَّد ...

تمت والحمد لله وحده

.. الْمُصْطَفى الطُّهْر الزكي الْمُجْتَبى ... الْهَاشِمِي الأبطحي السَّيِّد خير الورى وَأجل من وطىء الثرى ... وَأبر مَبْعُوث بِهِ يسترشد صلى عَلَيْهِ الله مَا سجعت ضحى ... ورق على أعلا الغصون تغرد وعَلى صحابته الْكِرَام وَآله ... وَالتَّابِعِينَ لهديه وَبِه هُدُوا وَالْحَمْد الله العميم نواله ... وَالْحَمْد أفضل مَا يُقَال وأوكد ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده وَله أَيْضا يمدحه رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ ... الْحق حصحص لَا عذر لمعتذر ... وَقد تحَققه من كَانَ ذَا بصر وفاح عرف شذاه فِي الْوُجُود فظ ... ل فِي الْكَوْن أرج من نشره الْعطر ولاح لألاؤه فِي الْأُفق فانقشعت ... غياهب الْإِفْك من خوف وَمن حذر وفر يدبر يمشي الْقَهْقَرَى وَهنا ... لَهُ تَوَابِع تسْعَى مِنْهُ فِي الْأَثر مذبذبون لضعف الْعَزْم تحسبهم ... سفرا أصامهم جبن عَن السّفر ضَاقَتْ بهم سَعَة الأقطار حِين سما ... سمو قدر تَقِيّ الدّين فِي الْبشر وفَاق أنداده فِي الْعَصْر قاطبة ... بِالْعلمِ والحلم وَالتَّفْسِير وَالنَّظَر وامتاز بالدرجات العاليات على ... شُيُوخ أَشْيَاخهم فِي سالف الدَّهْر كَانُوا يظنون أَن الْعلم منحصر ... فيهم إِلَى أَن أَتَاهُم أَحْمد الْأَثر ...

.. ركن الشَّرِيعَة محيي الْعدْل نَاصِر دي ... ن الْحق مستنصر بِالْآيِ وَالْخَبَر ففل بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع جمعهم ... فَأَصْبحُوا بعد ذَاك الْحصْر فِي حصر لَا يَهْتَدُونَ إِلَى رشد وإنهمو ... لفي ضلال وَفِي غي وَفِي سعر قد حملُوا حسدا من عِنْد أنفسهم ... لَهُ فهم مِنْهُ فِي هم وَفِي فكر تَبًّا لَهُم مَا الَّذِي نالوا بسعيهم ... وَمَا عَسى بلغُوا فِي ذَاك من وطر أيستطيعون أَن يمحوا لما كتبت ... يَد الْمُهَيْمِن بعد الذّكر فِي الزبر أم يقدرُونَ على تَبْدِيل مَا نفذت ... بِهِ نوافذ أمرالله من قدر بل كلما أوقدوا للحرب نَار غضى ... بالكيد مِنْهُم طفاها منزل السُّور ورد كيدهم فِيهِ وأرجعهم ... بالتعس والنكس والخذلان والدبر وَاخْتَارَهُ للورى دَاع إِلَى سبل الْخيرَات والنفع نهاء عَن الضَّرَر واختصه مِنْهُ بالزلفى وثبته ... بالحزم والعزم والتأييد وَالظفر وَكم مَنَاقِب مجد قد حباه بهَا ... وزاده بسطة فِي الْعلم والعمر وَكم لَهُ فِي ذرى العلياء مرتبَة ... منيفة نالها من بارىءالصور وَكم لَهُ من أياد فِي الْعَطاء غَدَتْ ... تربى على الْعَارِض الهطال بالمطر وهمة فِي المعالى غير دانية ... تزري إِذا ابتديت بالصارم الذّكر وَكم لَهُ من كرامات مبينَة ... سناؤها كضياء الشَّمْس وَالْقَمَر وحسبنا عود أهل الْعود معْجزَة ... مَا مثلهَا عِبْرَة تبقى لمعتبر ...

.. رُؤُوس كل ضلالات ومحدثة ... وبدعة نشأت فِي البدو والحضر لما اسْتَقر لديهم علو همته ... وَأَن سيرته من أكمل السّير وَأَن دَعوته للنَّاس كلهم ... إِلَى الْهدى بِاجْتِهَاد غير محتصر وَأَنه قَائِم لله منتصب ... فِي نصْرَة الدّين لَا يخْشَى من الْخطر خَافُوا سطاء فمذ حلوا بساحته ... وشاهدوا مخبرا يُوفى على الْخَبَر وعاينوا وَجهه الْهَادِي وقابلهم ... مَنْصُور عزم بِرَبّ الْعَرْش مقتدر وجاءهم بأسانيد معنعنة ... عَن الهداة الثِّقَات القادة الْغرَر وَقَامَ بالحجج المقبول شَاهدهَا ... مُمَيّزا بَين عرف القَوْل والنكر مبرهنا بدلالات منورة ... يهدى لعرفانها من كَانَ ذَا نظر فأذعنوا عنْوَة لِلْأَمْرِ حِين رَأَوْا ... نور الْحَقِيقَة باد غير مستتر وَلم يسعهم مماراة وَلَا جدل ... لكِنهمْ سلمُوا تَسْلِيم منقهر وَهَذِه شِيمَة بَين الورى عرفت ... فِيمَن يُخَالِفهُ من سَائِر الْبشر إِذْ قَلما فَاء مِنْهُم للهدى أحد ... حَتَّى يرى فِيهِ انواع من العبر فَالْحَمْد لله كاليه وناصره ... ومجتبيه وواقيه من الْغَيْر ... وأكمل الصَّلَوَات الزاكيات على ... رَسُوله الْمُخْتَار من مُضر مُحَمَّد السَّيِّد الْهَادِي وعترته ... وَصَحبه الأكرمين الأنجم الزهر صلى الْإِلَه عَلَيْهِم كلما سجعت ... حمائم الدوح بالألحان فِي السحر ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله

وَله أَيْضا فِي تَبْيِين عدم قيام الْأَصْحَاب مَعَ الشَّيْخ حِين يعظم الْخطب وَيَقَع الْحَرْب ... سبرت خلال الأصفياء تدبرا ... وميزت أَحْوَال الصحاب تأملا فشاهدتهم فِي السّلم من تلق مِنْهُم ... تَجدهُ محبا يدعى صِحَة الولا وَعند نزُول الْخطب حاولت أَن أرى ... أَخا ثِقَة إِن أدبر الْحَرْب أَقبلَا فَلم ألق إِلَّا لائما متبرما ... وَلم أر إِلَّا شاتما متعقلا فَلَمَّا تحققت التَّخَلُّف مِنْهُم ... شطبت عَلَيْهِم شطبة الضَّب لَا إِلَى ... وَله أَيْضا فِيمَن أبدى عذلا فِي حبه ومتابعته جهلا ... سيان إِن عذل الواشون أَو عذروا ... لَا خبر عندهمو وَلَا خبر لاموا على حبه جهلا وَمَا عقلوا ... وعنفوا فِيهِ عُدْوانًا وَمَا شعروا وَلَو رَأَوْا حسنه الزاهي بأعينهم ... كَمَا أرَاهُ أقلوا اللوم واقتصروا وَلَو تجلت مَعَانِيه الحسان لَهُم ... وشاهدوها كَمَا شاهدتها بهروا لكنه مذ بدا لألاؤه غشيت ... أَبْصَارهم فانثنوا مِنْهُ وَمَا نظرُوا ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على مُحَمَّد وَآله

مرثاة أخرى لغيره

مرثاة أُخْرَى لغيره ... فقد الْأَنَام فوائدا وفضائلا ... فقدوا من الْعلم الشريف جلائلا فِي موت بَحر الْعلم والحبر الَّذِي ... سلك الْعُلُوم مذاهبا ودلائلا أَعنِي تَقِيّ الدّين اوحد عصره ... قد كَانَ حَقًا بالفضائل عَاملا قد أودع الْقَبْر الشريف علومه ... عجبا لوسع الْقَبْر بحرا سَائِلًا قد كَانَ لَا يحْتَاج طَالب علمه ... كثر السُّؤَال وَلَيْسَ يلقى سَائِلًا قد كَانَ ركنا فِي المواعظ جملَة ... بحرا عميقا إِن أردْت مسائلا وَإِذا رآك يكون حَقًا باديا ... لَك بِالسَّلَامِ مواردا ومسائلا يَا رب فارحمه وبل ثراه بالغي ... ث الْكَرِيم معاودا ومواصلا يارب وَافْعل ذَا بِكُل موادد ... ومجاور قبر الإِمَام مؤملا يارب وارحمنا وكل مشيع ... صلي عَلَيْهِ أَو أَتَاهُ مُقبلا من كَانَ مَسْرُورا بِهِ وبعلمه ... من بعده فالحزن أضحى عَاجلا زكى الْإِلَه ثراه فضلا مِنْهُ فِي ... كل الزَّمَان وَزَاد غيثا هاطلا بعد السَّلَام على النَّبِي الْمُصْطَفى ... أَعلَى الْبَريَّة فِي الْمعَاد منازلا وعَلى الصَّحَابَة والقرابة كلهم ... وَالتَّابِعِينَ أواخرا وأوائلا ...

وَقَالَ بَعضهم فِي شيخ الْإِسْلَام رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وَجعل الْجنَّة مَأْوَاه ... دموعي على صحن الخدود تسيل ... وصبري قصير والغرام طَوِيل على فقد من قد كَانَ للدّين ناصحا ... وكافح أهل الشّرك وَهُوَ فُضَيْل لفقد تَقِيّ الدّين ضَاقَتْ مذاهبي ... وَفِي كَبِدِي نَار الْفِرَاق تجول إِمَام كريم كَانَ لله عابدا ... وَفِي زهده شرح هُنَاكَ يطول قد كَانَ لِلْإِسْلَامِ كهفا ومسعدا ... إِذا مَا أصَاب الْمُسلمين نزُول وَكَانَ على حكم الْمُهَيْمِن صَابِرًا ... وَفِي كل مَا يلقى إِلَيْهِ حمول بشرع رَسُول الله قد كَانَ قَائِما ... وَعَن سنة الرَّحْمَن لَيْسَ يحول وجاهد فِي الرَّحْمَن حق جهاده ... وَكَانَ لَهُ صَبر عَلَيْهِ جميل لقد بَكت الدُّنْيَا حَقِيقا لفقده ... ويبكيه علم نَافِع وأصول وَفِي أَرض مصر يالها من عجائب ... لَدَيْهِ جرت وَهُوَ الصبور الحمول إِلَّا يَوْم الْإِثْنَيْنِ الَّذِي كَانَ قَبضه ... فَفِيهِ عزاء الْمُسلمين جزيل وَفِي سجنه يَتْلُو ثَمَانِينَ ختمة ... قِرَاءَة ترتيل وَقصد سَبِيل وَفِي مَوته دقَّتْ بشائر رَحْمَة ... أَتَاهُ من الْمولى رضَا وَقبُول وَسَار إِلَى رب قديم مهيمن ... عَظِيم كريم لَيْسَ ذَاك قَلِيل عَلَيْهِ سَلام الله مَا لَاحَ بارق ... وَمَا سَار غيث بالسماء هطول ...

بسم الله الرحمن الرحيم

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا نظمه الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه ومغفرته بدر الدّين حسن بن مَحْمُود النَّحْوِيّ المارداني فِي الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل الأوحد شيخ الْإِسْلَام وقدوة الْأَنَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية تغمده الله برحمته وَرَضي عَنهُ ... أَلا أَيهَا الْقلب الَّذِي عدم الصبرا ... أفق طالما جرعت من لوعة صبرا وَيَا عبرات الجفن أظهرت بالأسى ... لنا عبرا بالدمع أسطرها تقرا أيأمن من خطب اللَّيَالِي مُخَاطب ... وشيمتها فِي النَّاس أَن تظهر الغدرا وَهل خَالِد فِي الدَّهْر عَمْرو وخَالِد ... لعمرك لَا يبْقى وَلَو أمل العمرا قضى ماجد مَا مثله الْيَوْم وَاحِد ... وَأبقى جميل الْفِعْل من بعده ذكرا دَمًا لَو بكته دمنة الرّبع والدما ... وأمطرت الشعرى العبور لَهَا العبرا أَو أغبر وَجه الأَرْض يَوْم مصابه ... لقل وَجل الْخطب من فَقده قدرا فَتى ألف الْمَعْرُوف والجود عَادَة ... تعودها طفْلا وَكَانَ بهَا أَحْرَى كَأَن لم يقل يَوْمًا مقَالا فتنثني ... إِلَى قَوْله الأسماع طَائِعَة قهرا وَلَا ظَهرت يين الْأَنَام علومه ... وَلَا طرزت شاما وَلَا جملت مصرا دَعَاني ظلال الصَّبْر فِي صَبر فَقده ... فَأرْسل رسل الدمع من مقلتي تترى سننت تَقِيّ الدّين أَحْمد سنة ... وأوسعت فِي كسب الْعلَا بالندى صَدرا

.. أيا شَافِعِيّ الْوَقْت فِي ضبط نَقله ... نثرت على الْأَيَّام من لفظك الدرا قنعت وَفِي الدُّنْيَا زهدت ديانَة ... وفارقتها واخترت ضَرَّتهَا الْأُخْرَى أفضت على الْأَيَّام بَحر مَكَارِم ... وَعلم فأربحت المتاجر والأجرا عجبت لقبر ضم جسمك تربه ... أيحوي الثرى فِي تربه الشَّمْس والبحرا نقلت من الدُّنْيَا إِلَى ظلّ رَوْضَة ... وحزت الَّذِي أملت بالمقلة السهرا وشاهدت فِي حسن الزِّيَادَة نَضرة ... وألبست وشيا عِنْد نظرتها نظرا تدرعت أَثوَاب المحامد والتقى ... كعرضك بيضًا وابتدلت بهَا خضرًا لَئِن نقل الْأَعْدَاء عَنْك ضَلَالَة ... رِوَايَة نقل مَا أحاطت بهَا خَبرا وَإِن أودعوك السجْن مِنْهُم جَهَالَة ... فقد زِدْت قدرا عِنْدَمَا نَقَصُوا قدرا فَمَا يختفي إِلَّا الْجَوَاهِر فِي الورى ... وَمن ظلم الأصداف يسْتَخْرج الدرا أيا سائلي عَن علمه وَصِفَاته ... هُوَ الْبَحْر فاعجب فِيهِ من يصف البحرا هُوَ الْغَيْث يثنى عَنهُ كل لطيمة ... من الرَّوْض بل تزكو لأوصافه بشرا سما حاتما جودا وفاخر عَاصِمًا ... ففاق لمن يقرى الضيوف وَمن يقرا أيا بَطل يَوْم الْجِدَال مجندل ... فوارس علم من فواضله قهرا إِذا قَالَ فِي علياك أمعن قَائِل ... فَمَا حاط من معشار مَا نلته العشرا وماذا يَقُول المادحون بوصفه ... وقدرك فَوق الشّعْر حل عَن الشعرى تفردت فِي علم وزهد وفطنة ... فضلت بهَا فِي الْفضل بَين الورى ذكرا

وله أيضا فيه رحمه الله ورضي عنه آمين أبى اليوم سر الكون أن يتكتما وصبغ مشيب الدمع أن يتكلما وكل مصون من شجون ولوعة به تم فرط الحزن والدمع قد نما قضى ومضى مولى سما كل ماجد فأوحش ربع المكرمات وأظلما غمامة جود أقلعت بعد صوبها وبدر

.. أعدت نهارالجهل لَيْلًا مسودا ... وَكَافِر ليل الْكفْر صيرته فجرا نظمت على جيد الزَّمَان قلائدا ... بِفَضْلِك نظما من علومك أَو نثرا لقد كنت فِي يَوْم الفخار وَفِي الوغى ... شجاعا يرد اللَّيْث عَن سبله قهرا سيوفك بيض مثل عرضك فِي الورى ... إِذا اسود ليل النَّقْع صيرتها حمرا كَأَنَّك قد أفرغت فِي فَرد قالب ... تلاشى فَلم يصبر على قلبة أُخْرَى فَجئْت على الْأَيَّام فَردا وَمن رأى ... مثالك من كنز المكارم قد أثرى فأقسم بِالْقُرْآنِ فِي الْعَصْر صَادِقا ... بأنك قد شرفت من دهرك العصرا سقاك حَيا وَمن وابل الْغَيْث سحرة ... وَحيا ندى قد ضم من كفك البحرا وَنور نوار الرّبيع ربوعه ... وأطلع فِي أرجائه الزهر والزهرا ... تمت بِحَمْد الله وَحسن توفيقه وَله أَيْضا فِيهِ رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ آمين ... أَبى الْيَوْم سر الْكَوْن أَن يتكتما ... وصبغ مشيب الدمع أَن يتكلما وكل مصون من شجون ولوعة ... بِهِ تمّ فرط الْحزن والدمع قد نما قضى وَمضى مولى سما كل ماجد ... فأوحش ربع المكرمات وأظلما غمامة جود أقلعت بعد صوبها ... وَبدر سعود غَابَ لما تتمما ...

.. وبحر عُلُوم غاص زاخر يمه ... وركن معال قد وهى وتهدما عيوني مصاب الْخطب لما تحققت ... بهَا الدمع من جفني تعندم عِنْدَمَا أيا فَاضل الْعَصْر الَّذِي فِي صِفَاته ... تَأَخّر من فِي الْفضل عَنهُ تقدما قضيت جميل الْفِعْل أوحد مِلَّة ... حمى الدّين وَالْإِسْلَام عزما وسلما لِيَهنك كم جندلت يَوْمًا مجادلا ... وكلمته بِاللَّفْظِ مِنْهُ تكلما نثرت على فرق الزَّمَان جواهرا ... ودرا على جيد اللَّيَالِي تنظما بِفضل صَلَاة مَعَ صَلَاتك فِي الدجى ... وجودك وَالْإِحْسَان أربحت مغنما سبقت الى الغايات فِي الْفضل للورى ... على قدم مقدامها قد تقدما مضى علم فِي النَّاس حبر معلم ... فأوحش من ربع الْمدَارِس معلما فَأصْبح درس الْفضل وَالْعلم دارسا ... يود بِأَن يشكو الجوى وتكلما فَتى لَو قلامات الأظافر قَلما ... لَكَانَ شَبيه مثله الْيَوْم قَلما فَلَو أنصفته الباكيات لفقده ... بكته دَمًا من فيض أجفانها الدما مَتى صير الْمِعْرَاج للخلد فِي الدجى ... بأوراده لما تسلم سلما فكم جادلت أَقْوَاله من معاند ... تقاصر عَنهُ حِين أقدم أحجما وَكم ردعت آراؤه من مُخَالف ... عَن الدّين بحثا حِين سلم أسلما لبست تَقِيّ الدّين ثوب تقاوة ... من الْفضل عَن مولى سواك تحرما تخيرت مَا يبْقى على كل هَالك ... فأربحت من تِلْكَ التِّجَارَة مغنما ...

.. لقِيت الَّذِي قَدمته من صنائع ... من الْخَيْر أَو مَا جدت مِنْك تكرما وَفِي الْحَشْر تلقى كل نفس نفائسا ... وتجزى الَّذِي فِي النَّاس أجرم أجرما تَأَخَّرت عَن نيل المناصب رفْعَة ... وَمثلك فِي أيامنا مَا تقدما بنيت على الْإِسْلَام ركنا ومعصما ... يقبل مِنْهُ الْمجد كفا ومعصما أَقمت قناة الدّين مِنْك بعزمة ... وَأَطْفَأت نَار الشّرك مِنْك فأظلما صبرت على حمل الْأَذَى مِنْك رَاضِيا ... وأعرضت عَن فعل الأعادي تكرما شهرت على أهل الْبَدَائِع فِي الورى ... صوارم شرك الْكفْر مِنْهَا تصرما وقفت على يَوْم الجلاد شجاعة ... بعزم يرد المشرفي مِثْلَمَا إِذا بَكت الْأَبْطَال خوف قَبيلَة ... ضحِكت بثغر فِي الوغى قد تبسما وَلما تبدى نور نَعشك لامعا ... تمنت بَنَات النعش أَن تتحطما وودت بِأَن تَدْنُو الثريا إِلَى الثرى ... نثارا عَلَيْهِ رفْعَة وتعظما نزلت على أهل الْمَقَابِر رَحْمَة ... وأنقذتهم من ظلمَة الظُّلم والظما سقى قبر الوسمي فِي كل سحرة ... سحائب رضوَان بِهِ الرَّوْض وسما ورف عَلَيْهِ الأقحوان مفلجا ... وأطلع فِيهِ الرَّوْض نجما وأنجما ... تمت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

قصيدة

قصيدة للشَّيْخ الإِمَام جمال الدّين عبد الصمد بن ابراهيم بن الْخَلِيل بن ابراهيم بن الْخَلِيل الْحَنْبَلِيّ يرثي شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد ابْن تَيْمِية قدس الله روحه وعدتها ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا ... عش مَا تشَاء فَإِن آخِره الفنا ... الْمَوْت مَالا بُد عَنهُ وَلَا غنى والدهر إِن يَوْمًا أعَان فطالما ... بالسوء عان فعونه عين العنا لَا بُد من يَوْم يؤمك حتفه ... حتما نأى الْأَجَل الْمُقدر أَو دنا للنَّفس سهم من سِهَام نَوَائِب ... يَرْمِي فيصمي من هُنَاكَ وَمن هُنَا من غرَّة الأمل المديد فَإِنَّهُ ... غر لِأَن طَعَامه لن يسمنا شمس الْحَيَاة تضيفت ومشيبه ... ضيف يجر من الْمنية ضيفنا من حِين أوجد كَانَ نفس وجوده ... فِي الْكَوْن بِالْعدمِ الْمُحَقق مُؤذنًا يَا من يعد الدَّهْر صَاحب دهره ... ويعد فِيهِ للإقامة موطنا أَو مَا رَأَيْت الْمَوْت كَيفَ سَطَا بِمن ... فِي الْخلق عَن مَحْض الْعُلُوم تَكُونَا ندب مُبَاح الصَّبْر حظر بعده ... فَلم اسْتَحَالَ وَكَانَ شَيْئا مُمكنا بذ الْأَنَام مَعَ البذاذة فَضله ... إِذْ لم يكن بسوى التقى متزينا ...

.. ترك الْجَمِيع على الجموع فَلم يهب ... تِلْكَ الجموع وَلَا استراب وَلَا ونى وَلكم مقامات لَهُ فِي الْحق لَا ... بيض الظبا يخْشَى وَلَا سمر القنا بِالْعرْفِ يَأْمر ناهيا عَن مُنكر ... متقربا وَهُوَ الْبعيد عَن الْخَنَا ويخص أَوْقَات الْخَصَاصَة بالندى ... فَيعم عادا فقره أعلا الْغِنَا فبخير مَا سنَن وبالسنن اقْتدى ... وَالشُّكْر وَالذكر الجميلين اقتنى مَا جَار عَن نهج الصَّوَاب وَمَا اعْتدى ... وَبِغير تَحْصِيل الْفَضَائِل مَا اعتنى إِمَّا تبارزه تَجدهُ مبرزا ... فِي اي علم شِئْت حبرًا متقنا وَإِذا تجاريه فَمَا السَّيْل انبرى ... إِمَّا جرى فِي بَحثه متفننا متزهدا متعبدا متهجدا ... متخشعا متورعا متدينا فِي كل عصر سيد هُوَ حجَّة ال ... باري على كل الْخَلَائق فِي الدنا ونرى أَحَق من اسْتحق فحاز ذَا ... من للْإِمَامَة لم يزل مُتَعَيّنا شيخ الْأَنَام وَحجَّة الْإِسْلَام من ... أغناه نشر الذّكر عَن ذكر الكنى أَعنِي أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن تق ... ي الدّين حَقًا والعليم الممعنا فِي الله لَيْسَ يخَاف لومة لائم ... وَيرى النَّوَى فِيهِ نهايات المنى لما تحقق أَن كل مخلف ... يفنى وَإِن كَانَ النفيس المثمنا لم يدّخر قوتا لأجل غَد وَلَا ... أبقى لَهُ إِرْثا سوى حسن الثنا صدر حوى فِي صَدره لكماله ... من كل علم معلوي معدنا ظَهرت ولايات الْولَايَة بعده ... واسأل لتصبح بالحقائق موقنا واسمع مقَالَة أَحْمد متوعدا ... أعداءه يَوْم الْجَنَائِز بَيْننَا ...

.. فأحق مَا يبكى عَلَيْهِ فَقده ... أيموت هَذَا الحبر رزءا هينا فيض النُّفُوس يقل فِيهِ فَلَا تلم ... وأعن عيُونا فضن فِيهِ أعينا يَا من أعَاد أولي التشدق علمه ... خرسا وأنطق بالثناء الألسنا يَا دوحة الْفضل الَّتِي فِي أَصْلهَا ... طيب وزاكي فرعها حُلْو الجنا يَا حبر بل يَا بَحر كم حيرت من ... حبر تصير ذَا الفصاحة ألكنا يَا خَاتم الْفُضَلَاء علمك معجز ... بهر الورى فصدرت عَنهُ مُؤمنا إِن كَانَ ذَا حفظا فوقتك ضيق ... عَنهُ وَلَو كَانَ الزَّمَان لَهُ أَنا لكنه من فضل مَا هُوَ قَاذف ... بِالْحَقِّ من نور الْولَايَة والسنا أسست بنيانا على تقوى ورضوان فَلَا سِيمَا قد ارْتَفع الْبَنَّا غبرت يَا من لَا يشق غباره ... فِي أوجه الْفُضَلَاء قدما قبلنَا جاهدت فِي ذَات الْمُهَيْمِن صَابِرًا ... عِنْد الْأَذَى فَأَتَت بشارات الهنا إِن الَّذين يجاهدون عدونا ... فِينَا سنهديهم إِلَيْنَا سبلنا الله قد أثنى على الْعلمَاء فِي ... نَص الْكتاب وَأَنت أولى من عَنى لَا غرو إِن كنت ابْتليت بحاسد ... فالحر ممتحن بأولاد الزِّنَا أَشْكُو إِلَيْك وَأَنت أصل شكايتي ... من فرط ضرّ فِي افتقادك مسنا قد عبرت عبراتنا من حزننا ... وَبِمَا يجن من الجوى نطق الضنى سقيا لتِلْك الرّوح من سحب الرِّضَا ... وتبوأت جنَّات عدن مسكنا لَو كَانَ فِيهَا الْمَوْت يقبل فديَة ... كَانَ الْأَنَام فدى وأولهم أَنا ...

تمت بِحَمْد الله وعونه وَحسن توفيقه وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذِه القصيدة نظم الشَّيْخ عبد الله بن خضر بن عبد الرحمن الرُّومِي الأَصْل الدِّمَشْقِي الحريري الْمَعْرُوف بالمتيم يرثي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية وَهُوَ اُحْدُ أَصْحَابه رَضِي الله عَنهُ وأرضاه ... لقد عذبُوا قلبِي بِنَار الْمحبَّة ... وذاب فُؤَادِي من فِرَاق الْأَحِبَّة وَزَاد غرامي فِي اشتياقي إِلَى الْحمى ... وهيج بلبالي حنيني ولوعتي فيا عظم أحزاني ووجدي عليهمو ... وَيَا طول أشواقي إِلَيْهِم ووحشتي فَلم أنس أَيَّامًا تقضت بقربهم ... وَمن عيشتي لما توَلّوا تولت مَلَأت النواحي من نواحي وَكَيف لَا ... أنوح على قوم همو خير جيرتي وَمن عجبي أَنِّي أحن إِلَيْهِم ... وَقد سكنوا قلبِي وروحي ومهجتي ذكرت فَلم أنسى زمَان وصالهم ... أأنسى لَيَال بالعذيب تقضت منَازِل أحبابي مَوَاطِن سادتي ... مطالع أقماري شروق أهلتي معاهد أفراحي ديار سعادتي ... مواسم أرباحي أويقات لذتي مَضَت وَانْقَضَت عني كَأَن لم أكن بهَا ... وَمَا ذَاك إِلَّا من ترادف غَفلَة أعلل روحي بالغوير وبانة ... وَمَا شوقها إِلَّا لسكان رامة إِذا لم يلح لي بارق من حماهمو ... فيا خيبة الْمَسْعَى وَيَا طول شقوتي ...

.. وَإِن لم أقض الْعُمر بَين خيامهم ... فَلَا عِشْت فِي الدُّنْيَا وَلَا نلْت منيتي وَإِن لم أشاهد حسنهم فِي مشاهدي ... فقد فَاتَنِي سؤلي ومت بحسرتي وَإِن لم أجد نور الْهدى من خبائهم ... يضيء بِهِ قلبِي فيا عظم حيرتي لغير رضاهم مَا تمنت مطامعي ... وَلَا لسواهم مَا حلالي تلفتي يَقُولُونَ لي لم لَا سلوت هواهمو ... فَقلت دَعونِي مَا بليتم بمحنتي وَلَا ذقتمو مَا ذاق قلبِي من الجوى ... وَلَا مسكم ضري وناري وحرقتي فَهَل لي جنان أَن يهم بغيرهم ... وَهل لي لِسَان أَن يفوه بسلوتي وحاشاي أَن أسلو هواهم وحبهم ... يذكرنِي حفظ العهود الْقَدِيمَة فهم سر أسراري وَنور مناظري ... وروحي وريحاني وأنسى وبهجتي وهم عين أعياني وقلبي وقالبي ... وهم مُنْتَهى قصدي ومشهد رؤيتي وهم فِي معاينهم حَياتِي حَقِيقَة ... وهم فِي مغانيهم أهيل مودتي وهم فِي تجليهم شموس إِذا بدوا ... وهم فِي تجنيهم رياضي ونزهتي وهم أَيْنَمَا كَانُوا نِهَايَة مقصدي ... وهم أَيْنَمَا حلوا مرادي وبغيتي وهم نور أنواري وسر حقائقي ... وهم أنس تأنيسي ومأمن خيفتي ...

.. ترى يشتفي قلبِي برؤيتهم على ... رياض الهنا يَوْمًا وتبرد غلتي وتحيا بهم روحي حَيَاة هنيئة ... مسرمدة التَّنْعِيم فِي روض جنَّة إِذا سمحوا لي نظرة من جمَالهمْ ... فقد نلْت من رضوانهم كل وصلَة عَلَيْهِم سَلام الله مَا هبت الصِّبَا ... وَمَا ناحت الأطيار شوقا وحنت وَقد آن أَن أبدي خفايا صبابتي ... وَأظْهر للعذال أصل رزيتي وأبكي على من كَانَ يجمع شملنا ... على طَاعَة الرَّحْمَن فِي كل لمحة وأندب أحزاني بِمَا قد أصابني ... وأنثر اشجاني بنظم قصيدتي فقدت إِمَامًا كَانَ أوحد عصره ... وَقد فجعت فِيهِ جَمِيع الْبَريَّة ... فقدت إِمَامًا لم يزل متوكلا ... على الله لَا يصغي إِلَى غير سنة فقدت إِمَامًا كَانَ بِالْعلمِ عَاملا ... وَكَانَ حَقِيقا قامعا كل بِدعَة أَتَى بِكِتَاب الله وَالسّنة الَّتِي ... علت وارتقت حَقًا على كل مِلَّة أَتَى بِأَحَادِيث الرَّسُول وَشَرحهَا ... وَعَمن رَوَاهَا بالمتون الصَّحِيحَة أَتَى بعلوم الْعَالمين جَمِيعهَا ... بزهد وتأييد وَدين وَقُوَّة أَتَى بأصول الدّين وَالْفِقْه مُجملا ... وفصلها تَفْصِيل من غير شُبْهَة أَتَانَا بأحوال الرَّسُول حَقِيقَة ... وَسيرَته تسمو على كل سيرة أَتَانَا بأحوال الصَّحَابَة كلهم ... وَالتَّابِعِينَ الْملَّة المستقيمة أَتَانَا بأوصاف الْأَئِمَّة كلهَا ... وصنف كتبا فِي صِفَات الْأَئِمَّة ...

.. أَتَانَا بِوَصْف الصَّالِحين وحالهم ... وَمَا هم عَلَيْهِ من جميل العقيدة وَعلمنَا شرع الرَّسُول وَدينه ... بأفصح أَلْفَاظ وأصدق لهجة وَأَعْلَمنَا أَن النجَاة من الْهوى ... تمسكنا بِالسنةِ النَّبَوِيَّة وحذرنا من كل زيغ وبدعة ... وَعَن كل طاغ خَارج عَن محجة وناظر أَرْبَاب العقائد كلهم ... وَبَين من قد ضل من كل فرقة ورد على أهل الضلال جَمِيعهم ... بأوضح برهَان وأبلغ حجَّة وَبَين تَكْذِيب الْيَهُود وخبثهم ... وَمَا بدلُوا فِي الْملَّة الموسوية وَأخْبرهمْ عَن سر أَسبَاب كفرهم ... فتعسا لَهُم من امة غضبية وَأظْهر أَيْضا لِلنَّصَارَى ضلالهم ... وَمَا أَحْدَثُوا فِي الْملَّة العيسوية وباحثهم حَتَّى تبين انهم ... سكارى حيارى بالطباع الخبيثة ورد على كتب الفلاسفة الأولى ... بمنقول أَحْكَام ومعقول حِكْمَة وَقرر إِثْبَات النبوات عِنْدهم ... وجال عَلَيْهِم كرة بعد كرة ورد على جهم وجعد بن دِرْهَم ... وَبشر المريس عُمْدَة الْجَهْمِية زنادقة كم أهلكوا من عوالم ... بِسوء اعتقادات النُّفُوس السقيمة وجادل أهل الإعتزال جَمِيعهم ... وسل عَلَيْهِم سَيْفه بالأدلة يَقُولُونَ قَول الله من بعض خلقه ... لقد كبكبوا فِي قَعْر نَار حمية وباحث أَشْيَاخ الروافض وانثنى ... يقاتلهم بِالدرةِ العمرية لأنهمو عَادوا خَواص مُحَمَّد ... وَسبوا فهم فِي الأَصْل شَرّ الْخَلِيفَة ...

.. بغوا وافتروا جهلا فهم أنجس الورى ... وأكذب خلق الله من كل فرقة وهم خصماء الله تَبًّا لدينهم ... وبعدا لَهُم من عصبَة ثنوية فكم أَحْدَثُوا فِي ديننَا من ضَلَالَة ... فَلَا مرْحَبًا بالفرقة الْقَدَرِيَّة ورد على قوم تربت نُفُوسهم ... على النَّفْي والتعطيل من غير حجَّة ورد على قوم وشتت شملهم ... وهم أهل تَشْبِيه أَتَوا بكبيرة ورد على أهل التناسخ عِنْدَمَا ... تجروا وخاضوا فِي امور عَظِيمَة ومزقهم فِي كل وَاد لأَنهم ... يَقُولُونَ لَا شَيْء سوى البرزخية وَقد أَنْكَرُوا أَمر الْمعَاد بقَوْلهمْ ... نفوس نأت عَنَّا وَفِي الْغَيْر حلت وجاهد أهل الِاتِّحَاد وردهم ... إِلَى أشرف المسرى وَأهْدى طَريقَة وأنقذهم من ظلمَة الْجَهْل والعمى ... بِنور وبرهان وَدين النَّصِيحَة ورد على أهل الْحُلُول فَإِنَّهُم ... يرَوْنَ تجلي الْحق فِي كل صُورَة وَقد زَعَمُوا أَن التجلي مظَاهر ... وَلَا سِيمَا فِي صُورَة أمردية فَمن أجل هَذَا يرقصون ديانَة ... وَفِي رقصهم جَاءُوا بِكُل قبيحة يرَوْنَ شُهُود المرد والرقص قربَة ... فيا ويلهم من خزي يَوْم الفضيحة ورد على أَتبَاع إِبْلِيس عِنْدَمَا ... رَآهُمْ وَقد مالوا إِلَى الجبرية وَكم قد طوى فِي علمه من طوائف ... حرورية مِنْهُم على حشوية مطايا بنيات الطَّرِيق سرت بهم ... إِلَى أَن أناخوا فِي عراص القطيعة

وَفِي بَحر آراء العقائد أغرقوا ... رَمَتْهُمْ خيالات الْعُقُول السخيفة ... وَكم قد أَرَاهُم كلهم سبل الْهدى ... وَكم قد نَهَاهُم مرّة بعد مرّة فَمن كَانَ قطب الْكَوْن فِي حَال عصره ... سواهُ وَمن قد فَازَ بالبدلية شُجَاع همام بارع فِي صِفَاته ... يروم مراما فِي المراقي الْعلية تزهد فِي كل الْوُجُود وَغَيره ... يَدُور على الدُّنْيَا بِنَفس دنية يجود على الْمِسْكِين فِي حَال عسره ... بأطماره فِي حب باري الْبَريَّة ويلقى لمن يلقاه بالبشر وَالرِّضَا ... بأوصافه الْحسنى وَنَفس زكية وَيَدْعُو لمن قد نَالَ من ثلم عرضه ... وَلم ينْتَقم مِمَّن أَتَى بالأذية يُسَارع فِي الْخيرَات سرا وجهرة ... ويلهو عَن اللَّذَّات فِي كل طرفَة يُجَاهد فِي الله الْكَرِيم بِجهْدِهِ ... بِصدق وإخلاص وعزم وَنِيَّة وَيَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ حبا لرَبه ... وَينْهى عَن الْفَحْشَاء نهيا بهمة تَقِيّ نقي طَاهِر الذيل مذ نشا ... كريم السجايا ذُو صِفَات حميدة أَلَيْسَ الَّذِي قد شاع فِي الْكَوْن ذكره ... وَعم البرايا بالفتاوى الْعَظِيمَة فَمن كَانَ تَاج العارفين لوقتنا ... وَشَيخ الْهدى قل لي بِغَيْر حمية هُوَ الحبر والقطب الَّذِي شاع ذكره ... وفاح شذاه كالعبير المفتت إِذا مَا ذكرنَا حَاله وَصِفَاته ... كأنا حللنا فِي نعيم وروضة تهنأ أَبَا الْعَبَّاس بِالْقربِ وَالرِّضَا ... لقد نلْت مَا ترجو بِكُل مَسَرَّة ...

.. أَلا يَا تَقِيّ الدّين يَا فَرد عصره ... بروقك قد لاحت كشمس مضيئة وَبَانَتْ لكل النَّاس أوصافك الَّتِي ... برزت بهَا مثل الْعُيُون الغزيرة ظَهرت بأنواع الْعُلُوم وجنسها ... وسارت بهَا الركْبَان فِي كل بَلْدَة فأظهرت مَا قد كَانَ للنَّاس خافيا ... بِكُل معَان والفنون الغريبة وأوضحت إشْكَالًا وبينت مُبْهما ... وأبديت أسرارا بِنَفس عليمة وَكم غصت فِي بَحر المعارف غوصة ... ولججت فاستخرجت كل يتيمة ظَهرت بِإِحْسَان وَحسن سماحة ... وَدين وتوحيد وكل فَضِيلَة خرجت من السجْن الَّذِي كَانَ ضيقا ... إِلَى دَار فوز فِي رياض فسيحة وَقد نلْت من مَوْلَاك مَا كنت راجيا ... وأشهدك الْمَعْنى بِعَين قريرة حملت على النعش الَّذِي كَانَ تَحْتَهُ ... مئين ألوفا فِي بكاء وضجة وَصلى عَلَيْك الْحَاضِرُونَ جَمِيعهم ... بِحسن اعْتِقَاد فِيك يَا شيخ قدوة وَأما النِّسَاء الْمُؤْمِنَات فَإِنَّهُنَّ ... خرجن حيارى فوجة بعد فوجة ومعهن أبكار تحجبن بالتقى ... يَنحن بأكباد عَلَيْك حزينة صبرت على الْأَحْكَام طَوْعًا وَطَاعَة ... وذقت من الآلام طعم البلية وَكنت حمولا للنوائب كلهَا ... صبورا على الأقدار فِي دَار غربَة وأوسعت صَدرا للمقادير عِنْدَمَا ... شهِدت جمال الْحبّ فِي كل خلْوَة ولاحت لَك الْأَنْوَار بالمشهد الَّذِي ... تَطوف بِهِ الْأَنْوَار فِي روض جنَّة وعاينت مَوْجُودا تعالت صِفَاته ... وشاهدت محبوبا بِعَين البصيرة ...

.. فَلَا أوحش الرَّحْمَن مِنْك وَلَا خلت ... ربوعك من تِلْكَ الْعُلُوم الجليلة وَلَا أقفرت مِنْك الطلول وَلَا نأت ... دِيَارك من تِلْكَ الصِّفَات الجميلة وَلَا سكنت يَوْم الْوَدَاع دموعنا ... ولااكتحلت فِيك الجفون بغمضة وَلَا احْتَجَبت أسماعنا عَنْك سَاعَة ... وَلَا أَيِست مِنْك الْعُيُون بنضرة لقد كنت روحا للقلوب وراحة ... وقوتا وأنسا للنفوس النفيسة تمسكت بِالدّينِ الحنيفي وَالْهدى ... وبالعروة الوثقى وأصل الشَّرِيعَة ظَهرت إِلَى الدُّنْيَا بِأَحْسَن مظهر ... ورحت إِلَى الْأُخْرَى بأكمل رَوْحَة وودعتنا توديع من غير رَاجع ... وفارقتنا والدر غير بعيدَة شربت بكأس العارفين مدامة ... حَقِيقَتهَا من سر عين الْحَقِيقَة وجدت بكأس الْفضل مِنْك تكرما ... على تابعين السّنة الأحمدية فسبحان من أَعْطَاك من فضل جوده ... لقد نلْت قربا لَا ينَال بحيلة لقد عِشْت محبوبا ومت مكرما ... عَلَيْك من الرَّحْمَن أزكى تحيني وَمَا بَرحت تعلوك أنوار أنسه ... وَمَا زلت فِي عز وَقرب ورفعة ومأواك جنَّات النَّعيم مَعَ الَّذِي ... تفرد من بَين الورى بالوسيلة نَبِي الْهدى خير الورى صَاحب اللوا ... شَفِيع على الْإِطْلَاق فِي كل أمة عَلَيْهِ صَلَاة الْحق ثمَّ سَلَامه ... على عدد الأنفاس فِي كل طرفَة وَبعد فَللَّه المحامد كلهَا ... على مَا أرانا من وضوح المحجة وَهَا أَنا يَا رَبِّي عبيد متيم ... عساك ترى حَالي وَتغْفر زلتي ...

تمت وعدتها مائَة وَسَبْعَة وَعِشْرُونَ بَيْتا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم وَله أَيْضا رَحمَه الله يرثي شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية مرّة أُخْرَى ... لله عَيْشًا تقضى بالثنيات ... مَعَ جيرة لذ لي فيهم صباباتي مَا كَانَ أهنا زماني فِي ربوعهمو ... والسعد يسْعَى بِمَا فِيهَا إراداتي والكأس تجلى بأنواع السرُور وَفِي ... قرب الْأَحِبَّة تبدو لي سعاداتي إِذا تجلوا على قلبِي بحسبهم ... كأنني فِي نعيم وسط روضاتي قد كنت فِي قربهم والوصل مقترني ... لم يخْطر الصد والهجران فِي ذاتي وَالْيَوْم أَصبَحت ابكي بعد بعدهمْ ... لما تناءوا نأت عني مسراتي وَغَابَ مذ غَابَ عَن عَيْني جمالهمو ... راحي وروحي وريحاني وراحاتي وَلَا صفا بعدهمْ عيشي بمنهلة ... ومذ توَلّوا تولى طيب لذاتي يَا سادة ملكوا قلبِي بلطفهم ... مَا ضرهم لَو أعادوا لي أويقاتي همو مرادي وهم سَمْعِي وهم بَصرِي ... وهم نعيمي وروضاتي وجناتي وهم حَياتِي وهم أنسي وهم شرفي ... وَذكرهمْ لم يزل فِي الْقلب جلواتي لهفي على زمن ولي وَمَا ظَفرت ... روحي بِمَا ترتجى يَوْم الأثيلات لما سروا وفؤادي فِي هوادجهم ... ناديت من حرقي يَا عظم لوعاتي ...

.. مَا كنت أعلم قربي فِي محبتهم ... حَتَّى رمتني الى الأبعاد راياتي فاندب على مَا مضى من عيشنا وَصفا ... وابك على مَا قد جرى يَا قلبِي العاتي وَاذْكُر مصَارِع قوم كَيفَ قد شربوا ... بعد الزلَال بكاسات المنيات فَأَصْبحُوا فِي الثرى تبلى وُجُوههم ... تَحت التُّرَاب فيا عظم المصيبات أَأَنْت من بعدهمْ تسري كسيرهم ... إِمَّا بدار هوان أَو بجنات أَقُول مَا قَالَه العَبْد الْمُنِيب وَقد ... أودى بِهِ السجْن فِي بر وطاعات أَنا الذَّلِيل أَنا الْمِسْكِين ذُو شجن ... أَنا الْفَقِير الى رب السَّمَوَات أَنا الكسير أَنا الْمُحْتَاج يَا أملي ... جدلي بِفَضْلِك واعف عَن خطياتي أَنا الْغَرِيب فَلَا أهل وَلَا وَطن ... أَنا الوحيد فَكُن لي فِي ملماتي أَنا العبيد الَّذِي مَا زلت مفتقرا ... إِلَيْك يَا سَيِّدي فِي كل حالاتي مَا لي سواك وَمَا لي عَنْك منصرف ... ذكراك فِي الْقلب قرآني وآياتي أَنْت الْقَدِير على جبري بوصلك لي ... أَنْت الْعَلِيم بأسراري الخفيات أَدْعُوك يَا سَيِّدي يَا مشتكى حزني ... يَا جابري يَا مغيثي فِي مهماتي فَانْظُر الى عبرتي وَارْحَمْ صبا جَسَدِي ... يَا رَاحِم الْخَيْر يَا باري البريات مَا زَالَ مفتقرا فِي بَاب سَيّده ... مَا زَالَ مبتليا بالإمتحانات مَا زَالَ يتبع آثَار الرَّسُول على الن ... هج القويم بأعلام الدلالات ...

.. يهدي لسنته يُفْتِي بشرعته ... يرْعَى لِحُرْمَتِهِ فِي كل سَاعَات قطب الزَّمَان وتاج النَّاس كلهمو ... روح الْمعَانِي حوى كل الْعِبَادَات حبر الْوُجُود فريد فِي معارفه ... أفنى بِسيف الْهدى أهل الضلالات حوى من الْمُصْطَفى علما وَمَعْرِفَة ... وجاءه مِنْهُ إمداد النوالات مَا جَاءَ سَائل إِلَّا ويمنحه ... إِمَّا بجود وَإِمَّا بالمداراة مَاذَا أَقُول وَقَوْلِي فِيهِ منحصر ... فِي وصف أخلاقه كلت عباراتي فِي علمه مَا علمنَا من يُنَاسِبه ... إِلَّا أئتمنا أهل العنايات فِي زهده مَا سمعنَا من يشاكله ... إِلَّا رجال مضوا أهل الكرامات فِي جوده مَا وجدنَا من يماثله ... غير البرامك كَانُوا فِي سعادات يجود وَهُوَ فَقير إِن ذَا عجب ... هُوَ الَّذِي مَا سمعنَا فِي الحكايات تلوح شمس الْمَعَالِي فِي شمائله ... وَفِي صفا وَجهه نور الهدايات بَحر المعارف تاهوا فِي بدايته ... اهل الْمعَانِي وأرباب النهايات قطب الْحَقَائِق حاروا فِي فضائله ... أهل التصوف اصحاب الرياضات أعجوبة الدَّهْر فَرد فِي فضائله ... عَلامَة الْوَقْت فِي الْمَاضِي وَفِي الْآتِي والهف قلبِي على من كَانَ يجمعنا ... على فنون الْمعَانِي والإشارات فَارَقت من كَانَ يرويني بِرُؤْيَتِهِ ... إِذْ اتبدى بدى سر الْعِبَادَات يروي الْأَحَادِيث عَن سكان كاظمة ... فيطرب الْكَوْن من طيب الرِّوَايَات ويطنب الذّكر فِي إِحْسَان حسنهم ... فيرقص الْقلب شوقا نَحْو سَادَات ...

تمت وعدتها خمسة وخمسون بيتا

.. أفْضى الى الله والجنات مَسْكَنه ... عَلَيْهِ من ربه أزكى تحيات ثمَّ الصَّلَاة على خير الْأَنَام وَمن ... قد خصّه الله من بَين البريات اخْتَارَهُ لَيْلَة الاسرى لحضرته ... حَتَّى تجلى لَهُ رب السَّمَوَات فَهُوَ الشَّفِيع الَّذِي ترجى شَفَاعَته ... عِنْد الشدائد فِي يَوْم المجازاة عَلَيْهِ مني سَلام الله مَا همعت ... سحب وجادت بالزيادات وَالْحَمْد لله حمدا لَا إنقطاع لَهُ ... أَرْجُو بِهِ من إلهي محو زلاتي ... تمت وعدتها خَمْسَة وَخَمْسُونَ بَيْتا وَسُئِلَ النَّاظِم لهَذِهِ القصيدة عَن عمره فَقَالَ نَحْو التسعين ومولدي بِبِلَاد الرّوم وَتُوفِّي يَوْم الْأَرْبَعَاء سادس شعْبَان سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة وَدفن بِبَاب الصَّغِير رَحمَه الله تَعَالَى وَرَضي عَنهُ مرثية فِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رَحمَه الله نظمها رجل اسْمه جمال الدّين مَحْمُود بن الْأَمِير الْحلَبِي وأرسلها من حلب المحروسة ... يَا دموعي سحى كسحب الْغَمَام ... هاطلات على الخدود سجام لفراق الشَّيْخ الإِمَام المفدى ... ابْن تَيْمِية ونجل الْكِرَام ...

.. زاهد عَابِد تَقِيّ نقي ... فهمه لَا يُقَاس بالأفهام ابْن تَيْمِية يتيمة دهز ... مَا لَهُ من مساوم ومسامي فجعت فِيهِ كل أهل البرايا ... جمعهَا للعلوم وَالْأَحْكَام أوحد فِي الْعُلُوم وَالْفضل والزهد ... لَا يرأى فِي مِلَّة الْإِسْلَام بَحر علم يغوص كل لَبِيب ... فِي مَعَانِيه حَار كل الْأَنَام فاق بِالْعلمِ والفضائل بالخلق ... فأضحى إِمَام كل إِمَام إِن يكن غَابَ شخصه وتوارى ... وَمَضَت روحه لدار السَّلَام فمناقبه والفضائل تبقى ... فِي ممر الدهور والأعوام سيد قد علا بِعلم وحلم ... فعداه لَدَيْهِ كالأنعام كم رَمَوْهُ الحساد بالكيد وَالْبَغي وَهُوَ لَا ينثني عَن الْأَقْدَام طَالب الْحق لَا يخَاف لحيف ... وَهُوَ يحمي عَن ذرْوَة الْإِسْلَام لَا يخَاف الْمُلُوك أَيْضا وَلَا الْخلق وَلَا العبيد مَعَ اللوام كم مُلُوك أَتَى بجزم وعزم ... وَهُوَ فِي الله مسرع الاقدام ولغازان إِذْ أَتَاهُ بقلب ... مَا أسود الغابات مَعَ ضرغام فَتَلقاهُ بالبشاشة والرح ... ب والعطايا والعز والاكرام أَخذ الْعَهْد مِنْهُ للنَّاس جمي ... عا بِأَمَان لكل أهل الشآم نفس صَادِق تقبله الل ... هـ فأطاعه كل تِلْكَ الْأَنَام وحماهم فِي الْحمى بخشوع ... وخضوع للْوَاحِد العلام ...

.. قل لمن رام للفخار ويبغى ... رُتْبَة قد علت بِحَدّ الحسام هُوَ فِي رُتْبَة النَّبِيين فَاعْلَم ... هَكَذَا أخبر النَّبِي التهامي فقدته الدنى مَعَ الدّين والعل ... م كل الزهاد والأيتام كم فتاوي أَتَتْهُ مَعَ كل شخص ... أعجزت كل عَالم صمصام حلهَا كالنسيم فِي الْحَال وجلى ... لصداها من عِلّة الأسقام كَانَ بحرا للنَّاس من غاص فِيهِ ... فَازَ بالدر مِنْهُ لَا بالحطام أوحد الْخلق فِي التفاسير طرا ... وَالْأَحَادِيث والعلوم التَّمام شيخ كل الْإِسْلَام فِي الزّهْد والنس ... ك والعبادات والتقى وَالصِّيَام كَانَ شمس الضُّحَى ونيل البرايا ... وَإِمَام الْعُلُوم والاحتشام صَدره للعلوم وَالْقلب للرب ... ويداه للبذل والأنعام ولديه أهل الْعُلُوم تداعت ... إِذْ هوت حوله فِي الازدحام تبتغي من جنى مَعَانِيه نطقا ... يستضىء مِنْهُ فِي دياجي الظلام فيروي قُلُوبهم بعلوم ... فتراهم سكرى بِغَيْر مدام كلما رمت سلوة عَن هَوَاهُ ... قادني الشوق نَحوه بزمام لَا تلمني على المديح وَدعنِي ... فَهُوَ شَيْخي وبغيتي وغرامي خجل الْبَدْر من سناه فأضحى ... يَعْتَرِيه النُّقْصَان عِنْد التَّمام كل من مَاتَ فِي هَوَاهُ بوجد ... مَا عَلَيْهِ فِي حتفه من ملام اسْتمع يَا عذول بِاللَّه وافهم ... لمعانيه فِي جَمِيع نظامي ...

.. قد تساوى فِي الْحق كل وَزِير ... عِنْده مَعَ رذالة الأعوام فَضله شاع بَين كل البرايا ... بعلوم شبه الْبحار الطوامي كَانَ بَدْرًا يضىء فِي النَّاس بِالْعلمِ ... وإماما فيا لَهُ من إِمَام حسدوه عِنْد الْوَفَاة على الْخلق فَلم يخل منهمو فِي الْحمام نقلته أَيدي الْمنية بِالْحَقِّ ... بجنان الخلود والدمع دامي يَا لَهَا سَاعَة لَقِي الله فِيهَا ... حَاز فِيهَا المنى ونيل المرام فَهُوَ فِي جنَّة النَّعيم مفدى ... بَين حور كلؤلؤ فِي الْخيام قدس الله روحه مَعَ أَخِيه ... مَا أَضَاء الصَّباح بالإبتسام يَا نسيم الصِّبَا بِاللَّه بلغ ... لحبيبي تحيتي وسلامي وَتعرض على المحبين ذكرى ... وشجوني وشقوتي وسقامي ثمَّ صف مَا أكابد الْآن فِيهِ ... من همومي ولوعتي وهيامي وَتقول العبيد مَحْمُود أضحى ... بدموع وعبرة كالغمام ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده وَهِي إِحْدَى وَخَمْسُونَ بَيْتا للشَّيْخ عَلَاء الدّين أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن حمائل ابْن غَانِم الْمَقْدِسِي رَحمَه الله يرثي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين ابْن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ ... أَي حبر مضى وَأي إِمَام ... فجعت فِيهِ مِلَّة الْإِسْلَام ...

.. بَحر جود علم قد غاض من بِعْ ... د مَا فاض نداه وَعم بالأنعام زاهد عَابِد تنزه فِي دنيا ... هـ عَن كل مَا بهَا من حطام كَانَ كنزا لكل طَالب علم ... وَلمن خَافَ أَن يرى فِي حرَام ولعاف قد جَاءَ يشكو من الفق ... رلديه ينَال كل مرام حَاز علما مَا لَهُ من مسَاوٍ ... فِيهِ من عَالم وَلَا من مسام وَلم يكن فِي الدُّنْيَا لَهُ من نَظِير ... فِي البرايا فِي الْفضل وَالْأَحْكَام كَانَ فِي علمه وحيدا فريدا ... لم ينالوا مَا نَالَ فِي الأحلام عَالم فِي زَمَانه فاق بالعل ... م جَمِيع الْأَئِمَّة والأعلام كل من فِي دمشق ناح عَلَيْهِ ... ببكاء من شدَّة الآلام حملوه على الرّقاب الى القب ... بر وكادوا أَن يهْلكُوا بالزحام مَا يرى عِنْد يَوْمه عِنْد مَا سا ... ر على النعش نَحْو دَار السَّلَام فجع النَّاس فِيهِ فِي الغرب وَالشَّر ... ق وأضحوا فِي الْحزن كالأيتام كل من فِي الْوُجُود فِيهِ مصاب ... فيعزي بِهِ جَمِيع الْأَنَام أعظم الله أجرهم فِيهِ إِذْ صا ... ر على الرغم فِي الثرى والرغام صَار جَار الْإِلَه رب السموا ... ت الرَّحِيم الْمُهَيْمِن العلام كَانَ وَقت الحروب بالطعن والضر ... ب سريع الْقدوم والإقدام لَا يهاب الهول الْعَظِيم بقو ... ل الْحق فِي نقضه وَفِي الابرام ...

.. تَابع سنة الرَّسُول عَلَيْهِ ... من إِلَه السَّمَاء أزكى سَلام قَائِم فِي نصر الشَّرِيعَة بالعل ... م وبالفضل مِنْهُ كل قيام كم بِنور الْعلم أخرج قوما ... من ضلال وَمن عَظِيم ظلام نَالَ مَا نَالَ من شرِيف مقَال ... بعلوم شَتَّى وَعظم مقَام طبق الأَرْض بالفتاوي اللواتي ... هِيَ منقذات الورى من الآثام حسدوه إِذْ مَاله من نَظِير ... من بني دهره الْكِبَار الْكِرَام خصّه بالكمال من كل علم ... رَبنَا ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام لَو يفدى بِالروحِ كُنَّا جَمِيعًا ... قد فديناه من هجوم الْحمام قدس الله روحه وَسَقَى قب ... را حواه هاطلات الْغَمَام ورضى عَنهُ رَبنَا وترضا ... هـ وملاه بالنعيم النامي فَلَقَد كَانَ نَادرا فِي بني الده ... ر وحسنا فِي أوجه الْأَيَّام ... تمت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وعدتها ثَلَاثُونَ بَيْتا قصيدة من القصائد الَّتِي رثي بهَا شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية وَهِي لرجل جندي بالديار المصرية يُقَال لَهُ بدر الدّين مُحَمَّد بن عز الدّين أندمن المغيثي رجل فَاضل لَهُ محفوظات متنوعة وَفِيه ديانَة وصلابة فِي دينه

أرسلها وَذكر أَنه عرضهَا على الإِمَام أبي حَيَّان ... خطب دنا فَبكى لَهُ الْإِسْلَام ... وبكت لعظم بكائه الْأَيَّام وبكت لَهُ بعبرتها السَّمَاء فأمطرت ... فِي غير فصل تسمح الأعوام وبكت لَهُ الأَرْض الجليلة بعد مَا ... أضحى عَلَيْهَا وَحْشَة وقتام وتزلزلت كل الْقُلُوب لفقده ... وتواترت من بعده الآلام ولمؤمنين الْجِنّ حزن شَامِل ... ونياحه نطقت بهَا الأحلام وتفجع الدّين القويم لفقده ... وبقى غَرِيبا يبتلى ويضام مذ مَاتَ ناصره الَّذِي أَوْصَافه ... أبدا تكون على سواهُ حرَام لتقي دين الله وصف باهر ... وخصائص خضعت لَهَا الأفهام ومواهب من ذِي الْجلَال تمده ... فَيتم فَخر شامخ ومقام وَغدا تَقِيّ الدّين أَحْمد مَاله ... حد فَتحمل فَقده الْأَجْسَام الْعَالم الحبر الإِمَام وَمن غَدا ... فِي راحتيه من الْعُلُوم زِمَام ذُو المنصب الْأَعْلَى الَّذِي نصبت لَهُ ... فِي الأَرْض فِي أقطارها الْأَعْلَام بَحر الْعُلُوم وكنز كل فَضِيلَة ... فِي الدَّهْر فَرد فِي الزَّمَان إِمَام ... حبر تخيره الْإِلَه لدينِهِ ... ختم لأعلام الْهدى وختام فوفى بِأَحْكَام الْكتاب فكم لَهُ ... فِي نصر تَوْحِيد الْإِلَه قيام وَالسّنة الْبَيْضَاء أَحْيَا ميتها ... فغدت عَلَيْهَا حُرْمَة وحجام ...

.. وأمات من بدع الضلال عوائد ... لَا يَسْتَطِيع لدفعها الصمصام أس الْفَضَائِل وَالَّذِي لَا تهتدي ... لفنونه وعلومه الأوهام وأناله رب السَّمَوَات الْعلَا ... فِي الْعلم سبقا مَا إِلَيْهِ مرام ونفوذه فِي الْعلم قَول مُحَمَّد ... صلى عَلَيْهِ الْخَالِق العلام إِن المنزه رَبنَا سُبْحَانَهُ ... يقْضِي بِمَا تَأتي بِهِ الْأَحْكَام ببدى لكم فِي كل قرن قادم ... للدّين من تهدى بِهِ الأقوام فلئن تَأَخّر فِي الْقُرُون لثامن ... فَلَقَد تقدم فِي الْعُلُوم أَمَام فاق الْقُرُون سوى الثَّلَاث فانها ... خير الْقُرُون يزينهن تَمام وَسوى ابْن حَنْبَل إِنَّه علم الْهدى ... حبر إِمَام صابر قوام لَكِن أَحْمد مثل أَحْمد قد حوى ... علما وزهدا فِي الْعُلُوم تؤام حدث بِلَا حرج وَقل عَن زهده ... مَا شِئْت لَا رد وَلَا آثام هجر المطاعم والملابس والدنى ... ولعزمه فِي تَركهَا إحزام نزر المآكل والمنام وَلَا يرى ... لبني الدنى فِي قلبه إعظام وتراه يصمت لالعى دَائِما ... إِلَّا لعلم يقتنى ويرام وَإِذا تكلم لَا يُرَاجع هَيْبَة ... وسكينة وَكَلَامه إبرام ألْقى عَلَيْهِ مهابة من ربه ... فخطابه الإجلال وَالْإِكْرَام ...

.. وَإِذا دنا فترى الرِّجَال ذليلة ... فَكَأَنَّهَا فِي نَفسهَا احجام بشر يعظم بالقلوب وقدوة ... أبدا يعظم وَهُوَ بعد غُلَام منن يخص بهَا المهيمين من يشا ... من خلقه والجاهلون نيام وجفا الْعباد لشغله بحبيبه ... فوداده للأقربين سَلام وَله مقَام فِي الْوُصُول لرَبه ... ومقامه نطقت بهَا الأقتام وَله فتوح من غيوب إلهه ... وتحزن وتمسكن وَكَلَام وتصوف وتقشف وتعفف ... وَقِرَاءَة وَعبادَة وَصِيَام وعناية وحماية ووقاية ... وصيانة وَأَمَانَة ومقام وَله كرامات سمت وتعددت ... وَلها على مر الدهور دوَام من رد عَن أَرض الشآم بعزمه ... من صد وَجه الْكفْر وَهُوَ حسام من رد غازان الْهمام بحسرة ... من خلص الأسرى وهم أَيْتَام من قَامَ بِالْفَتْح الْمُبين مؤيدا ... فِي كسروان وهم طغاة عِظَام من جد فِي بدع الضلال وَحزبه ... وأذلهم بعد الرَّضَاع فطام من صَار فِي سنَن الرَّسُول ونصرها ... حَتَّى اسْتَقر لأمرهن نظام ...

.. من قَامَ فِي خذل الصَّلِيب وَدينه ... لما تداعوا للباس وَقَامُوا فوهوا وردوا خائبين بذلة ... وَعَلَيْهِم فَوق الْوُجُوه ظلام فَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ يفقد بعده ... والفاعلون النكر لَيْسَ يلاموا فَكَأَن أَشْرَاط الْقِيَامَة قد دنت ... وانحل من سرج الزَّمَان حزَام فالعلم فِينَا لَيْسَ يقبض سرعَة ... كلا وَلَا يَأْتِي حماه حمام لَكِن بِقَبض الراسخين ذَهَابه ... وزواله وبقى رعاع طغام لله مِمَّا لَاقَى تَقِيّ الدّين من ... محن تتابعه وَهن ضخام ومكاره حفت بِكُل شَدِيدَة ... ومواقف زلت بهَا الْأَقْدَام ومكائد نصبت لَهُ وحبائل ... قصدا إِلَيْهِ فَردهَا الْأَقْدَام فَحكى ابْن حَنْبَل فِي فنون بلائه ... بجنان ثَبت لَيْسَ فِيهِ ذؤام وبسجنه وبحصره ونكاله ... حَتَّى رثى العذال واللوام فَأَرَادَ رب الْعَرْش جلّ جَلَاله ... للقائه مذ حانه الإعدام وَأَتَاهُ آتِي الْمَوْت يخْطب نَفسه ... فَأَجَابَهُ طَوْعًا لَهُ القمقام فخلت مرابعه وأوحش ربعه ... وتقوضت عِنْد الرحيل خيام وتفجعت كل الْقُلُوب بفقده ... وَغدا عَلَيْهَا ذلة وسقام ...

.. وَمَضَت جنَازَته الشَّرِيفَة بَعْدَمَا ... سد المسالك صارخ حام وَأَتَتْ رِوَايَات الشآم بجمعها ... خَبرا صَحِيحا لَيْسَ فِيهِ اثام أَن الأولى شهدُوا الصَّلَاة وشيعوا ... وَالله لَا تحصيهم الأقلام فَعَلَيهِ افضل رَحْمَة تهدى لَهُ ... وَمن الآله تَحِيَّة وَسَلام مَا دَامَت الأفلاك فِي دوراتها ... أَو ناح من فَوق الغصون حمام ... تمت وعدتها سِتَّة وَسِتُّونَ بَيْتا مرثاة للشَّيْخ قَاسم بن عبد الرَّحْمَن الْمقري فِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين رَضِي الله عَنهُ ... عز التبصر وَالزَّمَان رماني ... بسهامه وترادفت أحزاني ... أَصبَحت مكتئبا لفقد أحبة ... جبلت جبلتهم على الْإِحْسَان لَا صَبر لي عَنْهُم وَكَيف تصبري ... عَن سادة رحلوا من الأوطان إِن أوحشوا نَظَرِي فقلبي موطن ... وَعمارَة الأوطان بالسكان خلت الديار فَأَصْبحُوا فِي بلقع ... يَا وحشتاه لفرقة الإخوان لما سَمِعت بِأَن أَحْمد قد قضى ... نحبا على التَّوْحِيد وَالْإِيمَان ولقاء رب لَا مرد لحكمه ... سُبْحَانَهُ من قَادر منان عظمت مُصِيبَتنَا لسَيِّد عصرنا ... فِي شرح سيد أَحْمد بِبَيَان وَالْعلم حَاز أُصُوله وفروعه ... وغرائب التَّفْسِير لِلْقُرْآنِ ...

.. ويناظر الْفُقَهَاء فِي أَقْوَالهم ... ويجيبهم بالثبت والتبيان غلب الْمُلُوك بثبته وجنانه ... وشجاعة بعث إِلَى غازان أفديه من بَطل يلاقي عصبَة ... مِنْهُم بِلَا عون وَلَا أعوان من ذَا يقوم مقَامه فِي عصرنا ... إِذْ مَا مضى فِي سالف الْأَزْمَان وَله الزهادة وَالْعِبَادَة مَنْهَج ... وَكَذَا يكون الْعَالم الرباني سَارَتْ ركائبه إِلَى دَار الجزا ... متمسكا بمواعد الرَّحْمَن أَو مَا نظرت إِلَيْهِ فَوق سَرِيره ... حفت بِهِ الْأَنْوَار بالإمكان وَالنَّاس من حول الْجِنَازَة أَحدقُوا ... كل يجود بعبرة الثكلان وهمو الوف لَيْسَ يُحْصى جمعهم ... إِلَّا إِلَه عَم بالغفران نزلُوا بِهِ كالبدر فِي إشراقه ... فتباشرت بقدومه القمران عبد الحليم أَبوهُ سيد عصره ... وَأَخُوهُ عبد الله حبر ثَان الْمجد حَاز الْمجد فِي عصر مضى ... فِي الْجرْح وَالتَّعْدِيل والبرهان ولمثل هَذَا سارعوا أهل التقى ... فازوا بأرفع رُتْبَة وأمان فِي جنَّة أنوارها قد أشرقت ... وقطوفها للطائفين دوان أكوابها مَوْضُوعَة وقبابها ... من لُؤْلُؤ مَرْفُوعَة الْبُنيان والنور يغشى أَهلهَا وهمو على ... تِلْكَ الأسرة فِي رضى وأمان ولباسهم من سندس وخيامهم ... قد ألبسوا من أحسن التيجان ولأهلها مَا يشتهون وشغلهم ... بِاللَّه لَا بالحور والغلمان ...

.. مِنْهُم تَقِيّ الدّين فَازَ بزهده ... وبصبره فِي طَاعَة الرَّحْمَن ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي مُحَمَّد ... خير الْأَنَام ومعدن الْإِحْسَان هاد وَأول شَافِع وَمُشَفَّع ... وَله الْوَسِيلَة مظهر الْإِيمَان مَا حن مشتاق إِلَى وَادي منى ... وتطوفوا بِالْبَيْتِ والأركان ... تمت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وعدتها إِحْدَى وَثَلَاثُونَ بَيْتا مرثاة للشَّيْخ برهَان الدّين ابراهيم بن الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد أبن عبد الكريم العجمي يرثي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية فِي جمادي الْآخِرَة سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ومولده فِي أَوَائِل سنة سبع وَتِسْعين وسِتمِائَة وَتُوفِّي فِي رَمَضَان سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة ... جدي بانسجام الدمع يَا مقلة العاني ... إِلَى أَن تروي الأَرْض من فيض أجفاني وذق يَا فُؤَادِي كل يَوْم وَلَيْلَة ... مرَارَة أشواق ولوعة أشجان إِلَى أَن أرى وَجه ابْن تَيْمِية الَّذِي ... بِهِ الله من أهل الضَّلَالَة نجاني وَمن لي بِأَن أَلْقَاهُ وَالْمَوْت قد أَتَى ... فغيبه فِي الترب عَن كل إِنْسَان فيا وَحْشَة الدُّنْيَا لأنوار وَجهه ... وَيَا لهف إخْوَان عَلَيْهِ وجيران يحِق الْعين لَا ترجى لقاءه ... إِلَى الْحَشْر أَن تنهل بدمعها القاني لقد عَم أهل الأَرْض رزء مصابه ... وَلم ينج فيهم مِنْهُ قاص وَلَا داني لقد كَانَت الدُّنْيَا بِهِ ذَات بهجة ... وَنور وإشراق وروح وَرَيْحَان ...

.. وَمَا كَانَ إِلَّا آيَة فِي زَمَانه ... وَفِي كل علم حَاز لَيْسَ لَهُ ثَان إِمَام هدى يَدْعُو إِلَى دين ربه ... دُعَاء نصوح مُشفق غير خوان فمذهبه مَا جَاءَ عَن خير مُرْسل ... وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ بأحسان أَتَى بعلوم حيرت كل واصف ... على أَنه يهدي بهَا كل حيران فكم مُبْطل وافاه يَبْغِي جداله ... فأنصفه فِي الْبَحْث من غير عدوان ويكشف عَنهُ شُبْهَة بعد شُبْهَة ... إِلَى أَن يبين الْحق أحسن تبيان فَيُصْبِح عَن تِلْكَ الْمقَالة معرضًا ... وَلَو كَانَ من أَحْبَار سوء وَرُهْبَان يغار على الْإِسْلَام من كل بِدعَة ... وَمَا زَالَ مِنْهَا هادما كل بُنيان وَفِي الله لم تَأْخُذهُ لومة لائم ... وَلم يخْش مخلوقا من الْإِنْس والجان وَلم ينْتَقم فِي الدَّهْر يَوْمًا لنَفسِهِ ... وَلكنه يُؤْذى فيعفو عَن الْجَانِي وَأما سخاء الْكَفّ فالبحر دونه ... وَلم يَك فِي بذل العطايا بمنان وَلَو وزنوا أهل الشجَاعَة كلهم ... بِهِ رجح الشجعان فِي كل ميزَان فَمن جَاهد الْأَعْدَاء فِي الدّين لَيْلَة ... وَمن سل سيف الْعَزْم فِي وَجه غازان وَمن قَالَ للنَّاس اثتبوا يَوْم شقحب ... فَإِن الأعادي فِي انهزام وخذلان فَمن خشِي الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَاتَّقَى ... إِلَه البرايا خانه كل سُلْطَان وَمَا ضره إِن طَال فِي السجْن مكثه ... إِذا كَانَ فِي نسك وَطَاعَة رَحْمَن منيبا إِلَى مَوْلَاهُ يقطع وقته ... بِنَقْل أَحَادِيث وَتَفْسِير قُرْآن وَلم يَك مشغوفا بحب رياسة ... وَلَا شدّ بغلات وَلَا حسن غلْمَان ...

تمت ولله الحمد وهي خمسة وثلاثون بيتا

.. وَمَا كَانَ مَشْغُولًا بجاه ومنصب ... وَلَا رفع بُنيان وَلَا غرس بُسْتَان وَلَكِن بِعلم نَافِع وَعبادَة ... وزهد وإخلاص وصبر وإيمان وَفِي مَوته قد كَانَ للنَّاس عِبْرَة ... لما شاهدوا من غير زور وبهتان إِذْ انتشروا مثل الْجَرَاد وَكَاد أَن ... تزِيغ عقول من رجال ونسوان وَسَار على أَعْنَاقهم نَحْو قَبره ... يجاور مولى ذَا امتنان وغفران إِلَى الذَّهَب الْبَاقِي دَعَاهُ إلهه ... فَذَاك لَهُ خير من الخزف الفاني دَعَاهُ إِلَى جنَّات عدن وطيبها ... ومتعه فِيهَا بحور وولدان فنسأل رب الْعَرْش يجمع شملنا ... بِهِ فِي جنان الْخلد من بعد حرمَان ويجبرنا بعد انكسار قُلُوبنَا ... ويروي برؤيا وَجهه كل ظمآن ... تمت وَللَّه الْحَمد وَهِي خَمْسَة وَثَلَاثُونَ بَيْتا للشَّيْخ الإِمَام الْمُحدث الْفَاضِل الأديب البارع صفي الدّين عبد الْمُؤمن بن عبد الحق الْبَغْدَادِيّ الْحَنْبَلِيّ مدرس الْمدرسَة البشيرية بِبَغْدَاد يَقُول قَالَ العَبْد الْفَقِير عبد المؤمن بن عبد الحق حِين بلغه وَفَاة الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم بَقِيَّة الْعلمَاء الْمُجْتَهدين تقى الدّين احْمَد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ وبوأه الْجنَّة بمنه وَكَرمه آمين

.. طبت مثوى يَا خَاتم الْعلمَاء ... فِي مقَام الزلفة مَعَ الأتقياء أَوْلِيَاء الرَّحْمَن والسادة الغر الهداة الْأَئِمَّة الصلحاء وَيْح للْمَوْت كم طوى بك من علم غزير وفطنة وذكاء وَبَيَان يشفي الْقُلُوب من الغ ... ي ويجلو عَنْهَا صدى الغماء أَيْن تِلْكَ الْعُلُوم والمنطق الصا ... ئب عِنْد السُّؤَال والإفتاء أَيْن ذَاك الْخلق الْجَمِيل وحس ... ن الْبشر للزائرين عِنْد اللِّقَاء رمدت مقلة الْفَضَائِل مذ مت وقرت عُيُون أهل الشَّقَاء حِين لَا عَالم يرد الَّذِي قا ... لوا وَمَا نمقوه للإغواء من ضلال أهل فلسفة اليو ... نان والاعتزال والإرجاء وَذَوي الرَّفْض من يدينون بالطعن على الصَّالِحين والإزراء من لحل الشكوك بعْدك والمردو ... د من شُبْهَة وَقَول هراء من لتبيين مُشكل قصرت عَنهُ عقول لما بِهِ من خَفَاء من لقمع الْخصم المجادل فِي الدّين عنادا من مِلَّة عوجاء من ترى للغريب بعْدك يلقاه بِوَجْه طلق وَفضل حَيَاء ضَاعَ من بعْدك الْغَرِيب فَمَا يلقى معينا لَهُ على اللأواء أَيّمَا عَالم نعاه لنا النا ... عي وَحبر قد صين فِي الغبراء أَي حبر قد غيضته المنايا ... فِي رجا حُفْرَة من الأرجاء أعلم النَّاس كلهم بكتا ... ب الله جلّ اسْمه بِغَيْر مراء ...

.. بمعانيه والعلوم الَّتِي فِيهِ وأدرى بِالسنةِ الغراء من أَحَادِيث سيد الرُّسُل يرويهِ كبار الْأَئِمَّة النبلاء من صَحِيح وَمن سقيم وأخبا ... ر الروَاة الثِّقَات والضعفاء وبآثار صَحبه وفتاو ... ي من أَتَى بعدهمْ من الْعلمَاء وبإجماعهم وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ من الحكم سادة الْفُقَهَاء حَاله إِن نظرت فِيهِ تَجِد ... مثل أَحْوَال سادة الْأَوْلِيَاء قَانِع النَّفس بالدنى من الْعَيْش غَنِيا يعد فِي الْفُقَرَاء مُؤثر بِالَّذِي لَدَيْهِ لعافيه على نَفسه بِغَيْر رِيَاء ورع طَاهِر ونسك وإخبا ... ت وشكر فِي شدَّة ورخاء والتقى والعفاف والزهد فِي الدُّنْيَا حلاه وَالصَّبْر عِنْد الْبلَاء لم يزل جاهدا يُجَاهد فِي الله قبيل الضلال والأهواء بجنان ثَبت وجأش قوي ... وفؤاد راس لَدَى الهيجاء يَزع الْخصم بِالْجَوَابِ عَن الشَّك ... ويدلي بِالْحجَّةِ الْبَيْضَاء صَابِرًا نَفسه إِلَى أَن قضى الل ... هـ بِمَا قد قضى على الْأَنْبِيَاء وَقد أضمروا لَهُ السوء قوم ... للَّذي حملُوا من الْبغضَاء حسدا مِنْهُم لما خصّه الل ... هـ بِهِ من ملابس الْفُضَلَاء فاستحلوا مِنْهُ الَّذِي حرم الل ... هـ لما أضمروا من الشحناء ... 5 حرفوا قَوْله كَمَا حرف الق ... وم نُصُوص الْقُرْآن للإغواء ...

.. ورموه بِكُل قَول شنيع ... بَين الْكَذِب ظَاهر الإفتراء أعجزوا عَنهُ مرّة بعد أُخْرَى ... فاستعانوا عَلَيْهِ بالإغراء هَل يباري الْغَضَب الصَّقِيل كهام ... صدىء فِي ضرابه ومضاء أم تجارى الْحمير فِي حلبة السب ... ق جوادا مُضْمر الأحشاء لم ينالوا مِنْهُ الَّذِي أَملوهُ ... بل رمى الله جمعهم بالفناء يَا تَقِيّ الدّين الَّذِي صدقت فِي ... هـ وحقت مخايل الْآبَاء عِنْد تلقيبه كَذَلِك قد كن ... ت وَسميت أحسن الْأَسْمَاء ياابن تَيْمِية لقد فزت فِي الدن ... يَا بِذكر بَاقٍ وَحسن ثَنَاء وَكَذَا أَنْت يعلم الله فِي الْأَخ ... رى مَعَ الصَّالِحين وَالشُّهَدَاء بوئت روحك الشَّرِيفَة فِي الْجِنّ ... ة أعلا منَازِل السُّعَدَاء وَسَقَى قبرك الرِّضَا وأتا ... ك الرّوح فِي كل بكرَة وعشاء وتوالت عَلَيْك من نعم الل ... هـ ورضوانه صنوف الْعَطاء ... آخرهَا وعدتها ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ بَيْتا للشَّيْخ زين الدّين بن الشَّيْخ حسام الدّين أقش الشبلي يرثي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ ... لَو كَانَ يقنعني عَلَيْك بُكَائِي ... لجرت سوابق عبرتي بدماء ...

.. وَكنت فِي يَوْم انتقالك للبلى ... صخرا لزدت على بكي الخنساء لَكِن اصبر عَنْك نَفسِي كَاتِما ... للحزن خوف شماتة الْأَعْدَاء أَتَرَى علمت وَأَنت أفضل عَالم ... مَا عندنَا من لوعة وبلاء أسفي على تِلْكَ الدّيانَة والتقى ... والجود آذن قربه بتناء أسفي عَلَيْك نفى الْكرَى عَن ناظري ... من فرط أحزاني وفرط عنائي أسفي عَلَيْك وَمَا التأسف نَافِع ... صبا عَلَيْك مقلقل الأحشا غاضت بحار الْعلم بعْدك والورى ... فِي غَفلَة يَا سيد الْعلمَاء بِأبي وحيدا مَاتَ مُنْفَردا عَن ال ... أحباب كَانَ بَقِيَّة الصلحاء بَحر الْعُلُوم حوى الْفَضَائِل كلهَا ... وسما سمو كواكب الجوزاء متفردا فِي كل علم دونه ... لعلو رتبته ذرى العلياء بِالْفَضْلِ قد شهِدت لَهُ أعداؤه ... وَبِه سما فضلا على النظراء شيخ الْعُلُوم وتابع السّلف الَّذِي ... تبعوا الرَّسُول بِشدَّة ورخاء وَإِمَام أهل الأَرْض والمبدى لَهُم ... سنَن الْهدى عَن صِحَة الأنباء ذُو الصَّالِحَات وَذُو الشجَاعَة والتقى ... والجود والبركات والآلاء من كَانَ لَا يثني لطَالب جوده ... حَتَّى يبلغهُ لكل رَجَاء يجفو الْمضَاجِع رَاكِعا أَو سَاجِدا ... أَو ذَاكِرًا لله فِي الظلماء ...

.. كالصبر فِي حنك الْعَدو مذاقه ... وألذ من شهد إِلَى الجلساء المانح الْبَحْر الإِمَام الْعَالم ... الحبر الْهمام وَحجَّة الْفُقَهَاء الْوَاهِب المَال الجزيل وغامر الضَّيْف النزيل بوافر النعماء المحسن الْكَافِي السُّؤَال وحاسم الداءالعضال وَكَاشف الغماء صدر الْمدَارِس والمجالس أَحْمد المح ... مود فِي عود وَفِي إبداء وَإِذا الْمسَائِل فِي الفتاوي أفحمت ... أهل الْعُلُوم وحجبت بخفاء وَأَتَتْ تَقِيّ الدّين أظهر مَا اختفى ... مِنْهَا وأبداه لعين الرَّائِي فترى سهاها فِي الخفاء بكشفه ... كَالشَّمْسِ مشرقة بصحو سَمَاء وَيرى الْبَصِير الْحق فِيمَا قَالَه ... وَالْحق لَا يخفى على البصراء سجنوه خشيَة أَن يرى متبذلا ... صونا فنال منَازِل الشُّهَدَاء للْمُؤْمِنين لَهُ وَعند عدوهم ... ذَاك الكسير وَعزة الْخُلَفَاء فِي الْمُحدثين أَتَى بِفضل باهر ... ومناقب أربت على القدماء أَي خاشع أَي شَاكر أَي ذَاكر ... لله فِي الإصباح والإمساء أَي زاهد أَي حَامِد أَي باذل ... للْمُسلمين نصائح النصحاء خير الصِّفَات صِفَاته وثناؤه ... بالجود بَين النَّاس خير ثَنَاء ويظل يسْأَل جوده عَن سَائل ... ذِي فاقة ليبره بعطاء وتراه يشرق وَجهه متهللا ... للسائلين لَهُ شروق ذكاء ...

.. بَادِي التبسم عِنْد بدل نواله ... لطفا إِلَى الْفُقَرَاء والضعفاء أربى على فضل البرامكة الأولى ... وطوت مكارمه حَدِيث الطَّائِي من جَاءَ يسْأَله ويشاهد عِنْده ... بذل الْمُلُوك وعيشة الْفُقَرَاء يُربي على سح السحائب جوده ... وَكَذَا تكون مواهب الكرماء والجود يرفع أَهله بَين الورى ... أبدا ويهوى الْبُخْل بالبخلاء وَله إِذا اصطدم الْقِتَال شجاعة ... قَامَت بنصر الدّين فِي الهيجاء سل عَنهُ غازانا وسل أمراءه ... لما أَتَوا بطلائع الأسراء والمغل قد ملكوا الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... كم فك من عان بِغَيْر عناء ... 5 وَكَذَا بشحقب التنار قد اقْبَلُوا ... كالطم فِي أُمَم بغيرمراء والمسلمون على النُّزُول قد اجْمَعُوا ... والمغل عَنْهُم نظرة للرائي من حرض السُّلْطَان والأمرا على ... ترك النُّزُول سواهُ عِنْد مسَاء قَالَ اثبتوا فلكم دَلِيل النَّصْر قد ... وافى فَكَانَ النَّصْر عِنْد لِقَاء وأتى جبال الكسروان فَأَذنت ... بدمارها من بعد طول بَقَاء وَله بِكُل مَدِينَة ذكر أَتَى ... كالمسك فَهُوَ معطر الأرجاء سير لَهُ نظمتها سَارَتْ بهَا الر ... كبان دون قصائد الشُّعَرَاء وَإِذا إِمَام الْمُسلمين وشيخهم ... ولى وَعز على عزاهُ عزائي أَدْعُو إِلَه الْعَرْش يجمع بَيْننَا ... فِي جنَّة الفردوس فَهُوَ رجائي ...

بسم الله الرحمن الرحيم

.. وَعَلِيهِ من رب السَّمَاء تَحِيَّة ... تبقى لَهُ أبدا بِغَيْر فنَاء ... تمت وَهِي اثْنَان وَخَمْسُونَ بَيْتا وَله أُخْرَى على قافية الْقَاف نَحْو خَمْسَة عشر بَيْتا تقدم ذكرهَا قَالَ الشَّيْخ الْمُؤلف رَحمَه الله وَقد رثى الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ بقصائد كَثِيرَة غير هَذِه وَفِيمَا ذكرنَا كِفَايَة وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم مرثاة فِي شيخ الْإِسْلَام الْعَالم الرباني احْمَد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي للشَّيْخ شمس الدّين الْحَنْبَلِيّ من أهل الصالحية ومولده قَرِيبا من سنة إِحْدَى وَسَبْعمائة بسفح قاسيون ... خطب جسيم هائل جلل ... قد عزمته العزا وابيضت الْمقل وَالْوَقْت قبض فَلَا صَبر وَلَا جلد ... أَتَى وَصرف اللَّيَالِي سَابق عجل وَالْأَمر يعظم والأفكار حائرة ... وَقد أحاطت بِنَا الْأَهْوَال والوجل كَأَنَّمَا الشَّمْس فِي جو السما كسفت ... وضوؤها بَائِن عَنْهَا ومنفصل والجو فِي مأتم كالليل منظره ... كَأَن جنح الدجى فِي اللَّيْل منسبل فدمعتي بدمي يَا سعد قد مزجت ... كَأَنَّمَا فِي فُؤَادِي النَّار تشتعل أَمْسَى وَأصْبح وَالْأَحْزَان تكمدني ... وحسرتي بدوام الدَّهْر تتصل قد زادني أسفي وَاشْتَدَّ بِي جزعي ... أيقنت أَن حَياتِي حثها الْأَجَل ...

.. وارحمتا لقلوب قطرت أسفا ... لقد عراها مصاب حَادث جلل وساءها فقد من كَانَ الأنيس لَهَا ... وخاب عِنْد رجاها الْقَصْد والأمل يَا باكيا بطول اللَّيْل متحبا ... لَا يَعْتَرِيه على طول البكا ملل زد فِي الْبكاء بدمع هاطل همل ... عَسى بدمعك حر الْوَجْه ينغسل وَاعْلَم بِأَن السما وَالْأَرْض باكية ... على ابْن تَيْمِية والسهل والجبل هَذَا الإِمَام التقي السَّيِّد الألمعي الب ... ارع اللوذعي الْجَامِع الوجل حبر إِمَام تَقِيّ زاهد ورع ... لَيْث همام حصور أوحد بَطل الْعلم والحلم والآداب شيمته ... واللطف والجود وَالْإِحْسَان مكتمل مَاذَا يَقُول فصيح فِي مناقبه ... والزهد منهجه وَالْعلم وَالْعَمَل لقد حبى الله أَيَّام الزَّمَان بِهِ ... علومه أبحر والخلق تنتهل قد كَانَ كَالشَّمْسِ للدنيا إِذا طلعت ... وَالْيَوْم لَا عوض عَنهُ وَلَا بدل نَالَ الْهِدَايَة فِي مبدا هدايته ... وَفِي نهايته الْإِرْشَاد والجمل ... 5 قد كَانَ معتصما بِاللَّه منتصرا ... وواثقا مكتفي بِاللَّه متكل لله در أبي الْعَبَّاس من رجل ... مَا إِن يرى فِي البرايا مثله رجل تالله لَا عاذل بالعذل يعدلني ... عَنهُ وحاشاى أَن يلهيني العذل يَا سيد الْعَصْر كم خلفت من كبد ... حرى عَلَيْك وَعين دمعها هطل ليبكين عَلَيْك الْعلم من أَسف ... ليبكين عَلَيْك الْفِقْه والجدل ليبكينك أَقوام إِذا وفدوا ... من الْبِلَاد بِعلم أمره شكل ...

.. لتبكينك دَار كنت تسكنها ... وتشتكي فقدك الأسحار وَالْأَصْل فازوا بعلمك أَقوام وَقد سعدوا ... إذعن جناب حماك الرحب مَا عدلوا وشاع ذكرك فِي الدُّنْيَا بأجمعها ... فَأَنت فِي النَّاس مَضْرُوب بك الْمثل دَانَتْ لعلمك أهل الأَرْض قاطبة ... فَأَنت مفتي الورى فِي كل مَا جهلوا شبهت علمك بالبحرالمحيط كَمَا ال ... بَحر الْمُحِيط بِكُل الأَرْض مُشْتَمل وَإِن تكن فِي مجَال الدَّرْس كنت بِهِ ... ليثا تصول وَمن ألفاظك الأسل تروي الْخلاف وَتَأْتِي بالأصول وَعَن ... أهل الحَدِيث بِمَا قَالُوا وَمَا نقلوا وَذكر علمك فِي الْآفَاق منتشر ... على ممر اللَّيَالِي لَيْسَ ينْفَصل كم قد أتتك فَتَاوَى لَا عداد لَهَا ... أجبْت أَرْبَابهَا عَن كل مَا سَأَلُوا وَكم أجبْت النَّصَارَى عَن مسائلهم ... بمخرقات عُلُوم عَنْك تنْتَقل وَكم قمعت فدتك النَّفس من بدع ... وَكنت فِيهَا بِأَمْر الله تستطل وَكم تواضعت عَن علم وَمَعْرِفَة ... تقى وقدرك بالجوزاءمنتعل لقد رويت من الْآثَار أوضحها ... كَمَا روتها الثِّقَات السَّادة الأول من ذَا يضاهيك فِيمَا قد خصصت بِهِ ... وبحر علمك مِنْهُ الْعَارِض الهطل قد كنت أعجوبة فِي الدَّهْر مدهشة ... وَكَانَ درسك فِيهِ الْعقل ينذهل وَكَانَ يَوْمك يَوْمًا آمنا عجبا ... وَالنَّاس للنعش بالهامات قد حملُوا والخلق لَا يهتدوا من عظم مَا ازدحموا ... فكم دموع ترَاهَا وَهِي تنهمل يَا رَحْمَة نزلت فِي الأَرْض وانتشرت ... على جَمِيع الَّذِي فِي تربه نزلُوا ...

.. سقت ثراك الغوادي صيب وابلها ... كَمَا ضريحك من تَحت الثرى خضل كَمَا حبيت بدار الْخلد منزلَة ... حللتها وَعَلَيْك الحلى وَالْحلَل وتاجك النُّور والنعلان من ذهب ... وَهَكَذَا عَن فَتى شَيبَان قد نقلوا قل للَّذي سره موت الإِمَام لقد ... يَكْفِيك جهلك يَا من غره الأمل أما علمت بِأَن الْمَوْت مَا سلمت ... مِنْهُ مُلُوك بني الدُّنْيَا وَلَا الرُّسُل أَيْن الْمُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك لقد ... صالت عَلَيْهِم صروف الدَّهْر فارتحلوا وَعَن قَلِيل ترى الدُّنْيَا وَقد رحلت ... فَلَيْسَ يُغني ولايات وَلَا دوَل وَلَيْسَ يُغني الْفَتى يَوْم اللقا نَدم ... إِذْ أثقلت ظَهره الأوزار والزلل وَإِنَّمَا المتقى ترجى النجَاة لَهُ ... لِأَنَّهُ خَائِف من ربه وَجل وَلم يزل فِي قيام الدّين مُجْتَهدا ... وَإِن خلا فِي الدياجي فَهُوَ مبتهل قل للأولى كتبُوا علياه واجتهدوا ... إِن الَّذِي علمُوا بعض الَّذِي جهلوا وَالله لست بمحص مدحه أبدا ... وَلَو أتيت بِمَا ضَاقَتْ بِهِ السبل وَعَلِيهِ مني سَلام الله مَا صدحت ... ورق على فنن فِي نوحها زجل ... تمت وَهِي سَبْعَة وَخَمْسُونَ بَيْتا بِهَامِش الأَصْل كَذَا وجدت فِي الأَصْل لم تعز هَذِه القصيدة ... يَا قوم تُوبُوا إِلَى الرَّحْمَن وابتهلوا ... فقد قضى رجل مَا مثله رجل ...

.. يَا قوم وَاسْتَغْفرُوا الرَّحْمَن خالقنا ... قد غَار بَحر عُلُوم موجه الْعَمَل روى صِحَاح أَحَادِيث مجمعة ... وَعنهُ أَخْبَار رسل الله تنْتَقل وَالْعلم والحلم والزهد المكين وَمن ... مَا فِي مقالاته ريب وَلَا زلل كم بِدعَة قد محاها ثمَّ أبطلها ... وَكم أزاح لنا من مُنكر عمِلُوا كم قَامَ فِي أَمر دين الله مُجْتَهدا ... وَلم يكن عِنْده فِي أمره ملل كم نَار شَرّ طفاها وَهُوَ مبتسم ... لم يعرأين وَلَا خوف وَلَا وَجل كم أظهر الْحق لما قل ناصره ... وَكم أبان لَهُم أمرا لَهُ جهلوا كم طوق النَّاس فِي أَعْنَاقهم مننا ... مَا لَيْسَ يحملهُ سهل وَلَا جبل قد كَانَ ذَا مورد عذب لقاصده ... وَالنَّاس تصدر مِنْهُ ثمَّ ترتحل من قبله جا إِلَى غازان مُبْتَسِمًا ... على الْجواد وكل الْخلق قد نزلُوا حَتَّى إِذا جَاءَهُ والخلق تنظره ... قَامَ الْجَمِيع وَلم يأخذهمو كسل فَقَالَ جَهرا لَهُ والخلق تسمعه ... هَل أَنْت مَحْمُود بِالْإِسْلَامِ مُتَّصِل وَقَالَ لَهُ الشَّام يَا مَحْمُود دَار تقى ... وَمَعْقِل الْأَنْبِيَاء عَنْهَا فارتحلوا ...

بسم الله الرحمن الرحيم

.. يكفيكم مَا رَأَيْتُمْ من جنَازَته ... ونعشه فَوق روس الْخلق ينتفل إِن كَانَ فَوق رُءُوس حملوه فقد ... أولاهم نعما مَا لَيْسَ تنحمل قد كنت أرجوه لي ذخْرا وآمله ... وأرتجيه إِذا ضَاقَتْ بِهِ الْحِيَل قد كَانَ ذَا رجل للنَّاس كلهم ... يَا أَيهَا النَّاس كفوا قد قضى الْأَجَل ... تمت وَهِي ثَمَانِيَة عشر بَيْتا بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من أَصْغَر الْعباد عبد الله بن حَامِد إِلَى الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَامِل قدوة الأفاضل والأماثل مُجمل الْمجَالِس والمحافل المحامي عَن دين الله والذاب عَن سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمعتصم بِحَبل الله الشَّيْخ المبجل المكرم أبي عبد الله أَسْبغ الله عَلَيْهِ نعمه وأيد بِإِصَابَة الصَّوَاب لِسَانه وقلمه وَجمع لَهُ بَين السعادتين وَرفع دَرَجَته فِي الدَّاريْنِ بمنه وَرَحمته سَلام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته أما بعد فَإِنِّي احْمَد إِلَيْك الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ ثمَّ وافاني كتابك وَأَنا إِلَيْك بالأشواق وَلم أزل مسائلا ومستخبرا الصَّادِر والوارد عَن الأنباء طَابَ مسموعها وسر مَا يسر مِنْهَا

وَمَا تَأَخّر كتابي عَنْك هَذِه الْمدَّة مللا وَلَا خللا بالمودة وَلَا تهاونا بِحُقُوق الإخاء حاشى لله أَن يشوب الْأُخوة فِي الله جفَاء وَلَا أَزَال أتعلل بعد وَفَاة الشَّيْخ الإِمَام (إِمَام الدُّنْيَا) رَضِي الله عَنهُ بالإسترواح إِلَى أَخْبَار تلامذته واخوانه وأقاربه وعشيرته والخصيصين بِهِ لما فِي نَفسِي من الْمحبَّة الضرورية الَّتِي لَا يَدْفَعهَا شَيْء على الْخُصُوص لما اطَّلَعت على مباحثه واستدلالاته الَّتِي تزلزل أَرْكَان المبطلين وَلَا يثبت فِي ميادينها سفسطة المتفلسفين وَلَا يقف فِي حلباتها أَقْدَام المبتدعين من الْمُتَكَلِّمين وَكنت قبل وُقُوفِي على مبَاحث (إِمَام الدُّنْيَا) رَحمَه الله قد طالعت مصنفات الْمُتَقَدِّمين ووقفت على مقالات الْمُتَأَخِّرين من أهل الفلسفة ونظار أهل الْإِسْلَام فَرَأَيْت مِنْهَا الزخارف والأباطيل والشكوكات الَّتِي يأنف الْمُسلم الضَّعِيف فِي الْإِسْلَام أَن يخطرها بِبَالِهِ فضلا عَن الْقوي فِي الدّين فَكَانَ يتعب قلبِي ويحزنني مَا يصير إِلَيْهِ الأعاظم من المقالات السخيفة والآراء الضعيفة الَّتِي لَا يعْتَقد جَوَازهَا آحَاد الْعَامَّة وَكنت أفتش على السّنة الْمَحْضَة فِي مصنفات الْمُتَكَلِّمين من أَصْحَاب الامام أَحْمد رَحمَه الله على الْخُصُوص لاشتهارهم بالتمسك بمنصوصات إمَامهمْ فِي أصُول العقائد فَلَا أجد عِنْدهم مَا يَكْفِي

وَكنت أَرَاهُم يتناقضون إِذْ يؤصلون أصولا يلز فِيهَا ضد مَا يعتقدونه ويعتقدون خلاف مُقْتَضى أدلتهم فاذا جمعت بَين أقاويل الْمُعْتَزلَة والأشعرية وحنابلة بَغْدَاد وكرامية خُرَاسَان أرى أَن إِجْمَاع هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمين فِي الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة على مَا يُخَالف الدَّلِيل الْعقلِيّ والنقلي فيسؤني ذَلِك وأظل أَحْزَن حزنا لَا يعلم كنهه إِلَّا الله حَتَّى قاسيت من مكابدة هَذِه الْأُمُور شَيْئا عَظِيما لَا أَسْتَطِيع شرح أيسره وَكنت ألتجىء إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأتضرع إِلَيْهِ وأهرب إِلَى ظواهر النُّصُوص وَألقى المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبو الْفطْرَة عَن قبُولهَا ثمَّ قد تشبثت فِطْرَتِي بِالْحَقِّ الصَّرِيح فِي أُمَّهَات الْمسَائِل غير متجاسرة على التَّصْرِيح بالمجاهرة قولا وتصميما للْعقد عَلَيْهِ حَيْثُ لَا أرَاهُ مأثورا عَن الْأَئِمَّة وقدماء السّلف إِلَى أَن قدر الله سُبْحَانَهُ وُقُوع مُصَنف الشَّيْخ الامام (إِمَام الدُّنْيَا) رَحمَه الله فِي يَدي قبيل واقعته الْأَخِيرَة بِقَلِيل فَوجدت مَا بهرني من مُوَافقَة فِطْرَتِي لما فِيهِ وعزوا الْحق إِلَى أَئِمَّة السّنة وَسلف الْأمة مَعَ مُطَابقَة الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول فبهت لذَلِك سُرُورًا بِالْحَقِّ وفرحا بِوُجُود الضَّالة الَّتِي لَيْسَ لفقدها عوض فَصَارَت محبَّة هَذَا الرجل رَحمَه الله محبَّة ضَرُورِيَّة يقصر عَن شرح أقلهَا الْعبارَة وَلَو أطنبت

وَلما عزمت على المهاجرة الى لقِيه وصلني خبر إعتقاله وأصابني لذَلِك الْمُقِيم المقعد وَلما حججْت سنة ثَمَان وَعشْرين وَسَبْعمائة صممت الْعَزْم على السّفر إِلَى دمشق لأتوصل إِلَى ملاقاته ببذل مهما أمكن من النَّفس وَالْمَال للتفريج عَنهُ فوافاني خبر وَفَاته رَحمَه الله تَعَالَى مَعَ الرُّجُوع إِلَى الْعرَاق قبيل وُصُول الْكُوفَة فَوجدت عَلَيْهِ مَا لَا يجده الْأَخ على شقيقه واستغفر الله بل وَلَا الْوَالِد الثاكل على وَلَده وَمَا دخل على قلبِي من الْحزن لمَوْت أحد من الْوَلَد والأقارب والأخوان كَمَا وجدته عَلَيْهِ رَحمَه الله تَعَالَى وَلَا تخيلته قطّ فِي نَفسِي وَلَا تمثلته فِي قلبِي إِلَّا ويتجدد لي حزن قديمه كَأَنَّهُ محدثه وَوَاللَّه مَا كتبتها إِلَّا وأدمعي تتساقط عِنْد ذكره أسفا على فِرَاقه وَعدم ملاقاته فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وَمَا شرحت هَذِه النبذة من محبَّة الشَّيْخ رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ إِلَّا ليتَحَقَّق بعدِي عَن الْملك الموهوم لَكِن لما سبق الْوَعْد الْكَرِيم مِنْكُم بانفاذ فهرست مصنفات الشَّيْخ رَضِي الله عَنهُ وَتَأَخر ذَلِك عني اعتقدت أَن الاضراب عَن ذَلِك نوع تقية أَو لعذر لَا يسعني السُّؤَال عَنهُ فَسكت عَن الطّلب خشيَة أَن يلْحق أحدا ضَرَر وَالْعِيَاذ بِاللَّه بسببي لما كَانَ قد اشْتهر

من تِلْكَ الْأَحْوَال فان أنعمتم بِشَيْء من مصنفات الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى كَانَت لكم الْحَسَنَة عِنْد الله تَعَالَى علينا بذلك فَمَا أشبه كَلَام هَذَا الرجل بالتبر الْخَالِص الْمُصَفّى وَقد يَقع فِي كَلَام غَيره من الْغِشّ والشبه المدلس بالتبر مَا لَا يخفى على طَالب الْحق لحرص وَعدم هوى وَلَا أَزَال أتعجب من المنتسبين إِلَى حب الانصاف فِي الْبَحْث المزرين على أهل التَّقْلِيد المعقولات الَّتِي يَزْعمُونَ أَن مستندهم الْأَعْظَم الصَّرِيح مِنْهَا كَيفَ يباينون مَا أوضحه من الْحق وكشف عَن قناعه وَقد كَانَ الْوَاجِب على الطّلبَة شدّ الرّحال إِلَيْهِ من الْآفَاق ليرو الْعجب وَمَا أشبه حَال المباينين لَهُ من المنتسبين إِلَى الْعلم الطالبين للحق الصَّرِيح الَّذِي أعياهم وجدانه بِحَال قوم ذبحهم الْعَطش والظمأ فِي بعض المفازات فحين أشرفوا على التّلف لمع لَهُم شط كالفرات أَو دجلة أَو كالنيل فَعِنْدَ معاينتهم لذَلِك اعتقدوه سرابا لَا شرابًا فتولوا عَنهُ مُدبرين فتقطعت أَعْنَاقهم عطشا وظمأ فَالْحكم لله الْعلي الْكَبِير وَمَا أرسلنَا الْكتب الْمُقَابلَة من إِحْدَى الطَّرفَيْنِ فَفِيهِ تعسف وتمهدون الْعذر فِي الْأَطْنَاب فَهَذَا الَّذِي ذكرته من حَالي مَعَ الشَّيْخ كالقطر من بَحر وَإِن أنعمتم بِالسَّلَامِ على أَصْحَاب الشَّيْخ وأقاربه كَبِيرهمْ وصغيرهم كَانَ ذَلِك مُضَافا إِلَى سَابق إنعامكم

وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته وَأَنْتُم فِي أَمَان الله ورعايته وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا قَالَ الشَّيْخ الإِمَام زين الدّين أَبُو حَفْص عمر بن المظفر بن عمر ابْن مُحَمَّد بن أبي الفوارس بن عَليّ بن الوردي الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يرثي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن تَيْمِية رَضِي الله عَنهُ ... عتا فِي عرضه قوم سلاط ... لَهُم من نثر جوهره الْتِقَاط تَقِيّ الدّين أَحْمد خير حبر ... خروق المعضلات بِهِ تخاط توفى وَهُوَ مسجون فريد ... وَلَيْسَ لَهُ إِلَى الدُّنْيَا إنبساط وَلَو حَضَرُوهُ حِين قضى لألفوا ... مَلَائِكَة النَّعيم بِهِ أحاطوا قضى نحبا وَلَيْسَ لَهُ قرين ... وَلَا لنظيره لف القماط فَتى فِي علمه أضحى فريدا ... وَحل المشكلات بِهِ يناط وَكَانَ إِلَى التقى يَدْعُو البرايا ... وَينْهى فرقة فسقوا ولاطوا وَكَانَ يخَاف إِبْلِيس سطاه ... بوعظ للقلوب هُوَ السِّيَاط فيا لله مَا قد ضم لحد ... وَيَا لله مَا غطى البلاط همو حسدوه لما لم ينالوا ... مناقبه فقد فسقوا وشاطوا وَكَانُوا عَن طرائقه كسَالَى ... وَلَكِن فِي أَذَاهُ لَهُم نشاط وَحبس الدّرّ فِي الأصداف فَخر ... وَعند الشَّيْخ بالسجن اغتباط ...

.. بآل الْهَاشِمِي لَهُ اقْتِدَاء ... فقد ذاقوا الْمنون وَلم يواطوا بَنو تَيْمِية كَانُوا فبانوا ... نُجُوم الْعلم أدْركهَا انهباط وَلَكِن يَا ندامة حابسيه ... فَشك الشّرك كَانَ بِهِ يماط وَيَا فَرح الْيَهُود بِمَا فَعلْتُمْ ... فان الضِّدّ يُعجبهُ الخباط ألم يَك فيكمو رجل رشيد ... يرى سجن الإِمَام فيستشاط إِمَام لَا ولَايَة كَانَ يَرْجُو ... وَلَا وقف عَلَيْهِ وَلَا رِبَاط وَلَا جاراكمو فِي كسب مَال ... وَلم يعْهَد لَهُ بكم إختلاط فَفِيمَ سجنتموه وغضتموه ... أما لجزا أذيته اشْتِرَاط وسجن الشَّيْخ لَا يرضاه مثلي ... فَفِيهِ لقدر مثلكُمْ انحطاط أما وَالله لَوْلَا كتم سري ... وَخَوف الشَّرّ لانحل الرِّبَاط وَكنت أَقُول مَا عِنْدِي وَلَكِن ... بِأَهْل الْعلم مَا حسن اشتطاط فَمَا أحد إِلَى الْإِنْصَاف يَدْعُو ... وكل فِي هَوَاهُ لَهُ انخراط سَيظْهر قصدكم يَا حابسيه ... ونيتكم إِذا نصب الصِّرَاط فها هُوَ مَاتَ عَنْكُم وَاسْتَرَحْتُمْ ... فعاطوا مَا أردتم أَن تعاطوا وحلوا واعقدوا من غير رد ... عَلَيْكُم وانطوى ذَاك الْبسَاط ... تمت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين مرثية فِي الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية قدس الله روحه

.. لما نعى الشَّيْخ الإِمَام المتقي ... نجل رَئِيس فَاضل حبر تَقِيّ فاضت محاجر مقلتي يَا حسرتي ... لفراقه فرقا وَزَاد تقلقي زفرات أشواقي أكاد لحرها ... تنقض مني مهجتي بتحرقي وَتركت من بعد التقى بلوعة ... ومدامعي من بعده لَا ترتقي متهتك الأستار ولهان الحشى ... أبْكِي الديار عَلَيْهِ حَتَّى نَلْتَقِي حزني عَلَيْهِ مدى الزَّمَان تأسفا ... يَا مقلتي سحي دَمًا وترقرقي يَا قلب ذب أسفا عَلَيْهِ وحسرة ... فقليل مَا لاقيت شيب مفرقي يَا مهجتي ذوبي عَلَيْهِ صبَابَة ... وتقطعي لفراقه وتمزقي يَا مقلتي سحي بدمع هاطل ... متحدر سح السَّحَاب المطبق يَا لَيْتَني يَوْم الْفِرَاق حَضرته ... حَتَّى أجدد مَا مضى من موثقي وأودع الْوَجْه الْمليح بنظرة ... يحيا بهَا قلب الكئيب المشفق مَا كَانَ أهنا عيشنا بحياته ... يَا لَيْت يَوْم فِرَاقه لم يخلق لَو كَانَ يفدى مَا بخلت بمهجتي ... فِي حَقه ولكنت أول من يقي يَا أَهله لَا تجزعوا لفراقه ... وَلأَجل كأس من حمام قد سقِِي فَلهُ جنان الْخلد يسكنهَا غَدا ... وعَلى مناصبها الْعلية يرتقي هُوَ شَيخنَا ورئيسنا وإمامنا ... لله در الطَّاهِر الحبر التقي إِن قلت طود الْعلم فَهُوَ حَقِيقَة ... فاسمع بِهَذَا القَوْل فِيهِ وحقق يُفْتِي بِجمع مَذَاهِب عَن أَربع ... لكنه فِي الْفضل آخر من بَقِي ...

.. هُوَ فِي الْقِرَاءَة أوحد فِي عصره ... هُوَ فِي الْأُصُول مفيدنا والمنطقي شيخ الطَّرِيقَة والحقيقة عَارِف ... ورث الْإِمَامَة والعلوم فحقق متصدق متفضل متطول ... لله مَا أجزاه من متصدق قد كَانَ فِينَا وابلا نحيا بِهِ ... وثناؤه فِينَا كمسك معبق قد كَانَ فِينَا جنَّة أنهارها ... تجْرِي لنا من علمه المتدفق قد كَانَ فِينَا سيدا من سيد ... فاقطع بِهَذَا القَوْل فِيهِ وَصدق يَا قَبره يهنيك مَا قد حُزْته ... من زاهد بر زكي متقي قد صرت رَوْضَة جنَّة بحلوله ... فلك الفخار بِسَيِّد وموفق فَالله يرحمه وَيجْبر كَسره ... ويغيثنا من فَضله المغدودق واجبر بعفوك ناظما لقريضها ... حسنا أعنه تفضلا وَتصدق ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي مُحَمَّد ... خير الْأَنَام وَمن لعرشك يرتقي وَالْحق بِهِ الْآل الْكِرَام وَصَحبه ... بكرامة فلأنت أكْرم مُلْحق ... تمت وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين مرثية فِي شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أَحْمد بن تَيْمِية من نظم الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن فضل الله رحمهمَا الله تَعَالَى وَرَضي عَنْهُمَا ... أهكذا فِي الدياجي يحجب الْقَمَر ... وَيحبس النُّور حَتَّى يذهب الْمَطَر أهكذا تمنع الشَّمْس المنيرة عَن ... مَنَافِع الأَرْض أَحْيَانًا فتستتر ...

.. أهكذا الدَّهْر لَيْلًا كُله ابدا ... فَلَيْسَ يعرف فِي أوقاته سحر أهكذا السَّيْف لَا تمْضِي مضاربه ... وَالسيف فِي الفتك مَا فِي عزمه خور أهكذا الْقوس ترمى بالعراء وَمَا ... تصمي الرمايا وَمَا فِي بَاعهَا قصر أهكذا يتْرك الْبَحْر الخضم وَلَا ... يلوى عَلَيْهِ وَفِي أصدافه الدُّرَر أهكذا بتقي الدّين قد عبثت ... أَيدي العدى وتعدى نَحوه الضَّرَر الى ابْن تَيْمِية ترمى سِهَام أَذَى ... من الْأَنَام ويدمى الناب وَالظفر بُد السوابق ممتد الْعِبَادَة لَا ... يَنَالهُ ملل فِيهَا وَلَا ضجر وَلم يكن مثله بعد الصَّحَابَة فِي ... علم عَظِيم وزهد مَا لَهُ خطر طَرِيقه كَانَ يمشي قبل مشيته ... بهَا أَبُو بكر الصّديق أَو عمر فَرد الْمذَاهب فِي أَقْوَال أَرْبَعَة ... جَاءُوا على أثر السباق وابتدروا لما بنوا قبله عليا مذاهبهم ... بنى وَعمر مِنْهَا مثل مَا عمروا مثل الْأَئِمَّة قد أَحْيَا زمانهم ... كَأَنَّهُ كَانَ فيهم وَهُوَ منتظر إِن يرفعوهم جَمِيعًا رفع مُبْتَدأ ... فحقه الرّفْع أَيْضا إِنَّه خبر أمثله بَيْنكُم يلقى بمضيعة ... حَتَّى يطيح لَهُ عمدا دم هدر يكون وَهُوَ أماني لغيركم ... تنوبه منكمو الْأَحْدَاث والغير وَالله لَو أَنه فِي غير أَرْضكُم ... لَكَانَ مِنْكُم على ابوابه زمر مثل ابْن تَيْمِية ينسى بمجلسه ... حَتَّى يَمُوت وَلم يكحل بِهِ بصر مثل ابْن تَيْمِية ترْضى حواسده ... بحبسه أَو لكم فِي حَبسه عذر ...

.. مثل ابْن تَيْمِية فِي السجْن معتقل ... والسجن كالغمد وَهُوَ الصارم الذّكر مثل ابْن تَيْمِية يرْمى بِكُل أَذَى ... وَلَيْسَ يجلى قذى مِنْهُ وَلَا نظر مثل ابْن تَيْمِية تذوى خمائله ... وَلَيْسَ يلقط من أفنانه الزهر مثل ابْن تَيْمِية شمس تغيب سدى ... وَمَا تروق بهَا الآصال وَالْبكْر مثل ابْن تَيْمِية يمْضِي وَمَا عبقت ... بمسكه الْعطر الأردان والطرر مثل ابْن تَيْمِية يمْضِي وَمَا نهلت ... لَهُ سيوف وَلَا خطية سمر وَلَا تجاري لَهُ خيل مسومة ... وُجُوه فرسانها الأوضاح وَالْغرر وَلَا تحف بِهِ الْأَبْطَال دَائِرَة ... كَأَنَّهُمْ أنجم فِي وَسطهَا قمر وَلَا تعبس حَرْب فِي مواقفه ... يَوْمًا ويضحك فِي أرجائها الظفر حَتَّى يقوم هَذَا الدّين من ميل ... ويستقيم على منهاجه الْبشر بل هَكَذَا السّلف الْأَبْرَار مَا برحوا ... يبْلى اصطبارهم جهدا وهم صَبَرُوا تأس بالأنبياء الطُّهْر كم بلغت ... فيهم مضرَّة أَقوام وَكم هجروا فِي يُوسُف فِي دُخُول السجْن منقبة ... لمن يكابد مَا يلقى ويصطبر مَا أهملوا أبدا بل أمهلوا لمدى ... وَالله يعقب تأييدا وينتصر أيذهب المنهل الصافي وَمَا نقعت ... بِهِ الظماة وَتبقى الحمأة الكدر مضى حميدا وَلم يعلق بِهِ وضر ... وَكلهمْ وضر فِي النَّاس أَو وذر طود من الْحلم لَا يرقى لَهُ فنن ... كَأَنَّمَا الطود من أحجاره حجر بَحر من الْعلم قد فاضت بَقِيَّته ... فغاضت الأبحر الْعُظْمَى وَمَا شعروا ...

.. يَا لَيْت شعري هَل فِي الحاسدين لَهُ ... نَظِيره فِي جَمِيع الْقَوْم إِن ذكرُوا هَل فيهم لحَدِيث الْمُصْطَفى أحد ... يُمَيّز النَّقْد أَو يروي لَهُ خبر هَل فيهم من يضم الْبَحْث فِي نظر ... أَو مثله من يضم الْبَحْث وَالنَّظَر هلا جمعتم لَهُ من قومكم مَلأ ... كَفعل فِرْعَوْن مَعَ مُوسَى ليعتذروا قُولُوا لَهُم فال هَذَا فابحثوا مَعَه ... قدامنا وانظروا الْجُهَّال إِن قدرُوا يلقى الأباطيل أسحار لَهَا دهش ... فليقف الْحق مَا قَالُوا وَمَا سحروا فليتهم مثل ذَاك الرَّهْط من مَلأ ... حَتَّى يكون لكم فِي شَأْنهمْ عبر وليتهم أذعنوا للحق مثلهم ... فآمنوا كلهم من بعد مَا كفرُوا يَا طالما نفروا عَنهُ مجانبة ... وليتهم نفعوا فِي الضيم أَو نفروا هَل فيهمو صادع للحق مقوله ... أَو خائض للوغي وَالْحَرب تستعر رمى الى نحر غازان مُوَاجهَة ... سهامه من دُعَاء عونه الْقدر بتل راهط والأعداء قد غلبوا ... على الشآم وطار الشَّرّ والشرر وشق فِي المرج والأسياف مصلته ... طوائف كلهَا أَو بَعْضهَا التتر هَذَا وأعداؤه فِي الدّور أشجعهم ... مثل النِّسَاء بِظِل الْبَاب مستتر وَبعدهَا كسروان وَالْجِبَال وَقد ... أَقَامَ أطوادها والطود منفطر واستحصد الْقَوْم بالأسياف جهدهمْ ... فطالما بطلوا طغوا وَمَا بطروا قَالُوا قبرناه قُلْنَا إِن ذَا عجب ... حَقًا وللكوكب الدُّرِّي قد قبروا وَلَيْسَ يذهب معنى مِنْهُ متقد ... وَإِنَّمَا تذْهب الْأَجْسَام والصور ...

.. لم يبكه ندما من لَا يصب دَمًا ... يجْرِي بِهِ وَبِمَا يهمي وتنهمر لهفي عَلَيْك أَبَا الْعَبَّاس كم كرم ... لما قضيت قضى من عمره الْعُمر سقى ثراك من الوسمى صيبه ... وزار معناك قطر كُله قطر وَلَا يزَال لَهُ برق يغازله ... حُلْو المراشف فِي أجفانه حور لفقد مثلك يَا من مَاله مثل ... تأسى المحاريب والآيات والسور يَا وَارِثا من عُلُوم الْأَنْبِيَاء نهى ... أورثت قلبِي نَارا وقدها الْفِكر يَا وَاحِدًا لست أستثني بِهِ أحدا ... من الْأَنَام وَلَا أبقى وَلَا أذر يَا عَالما بنقول الْفِقْه أجمعها ... أعنك تحفظ زلات كَمَا ذكرُوا يَا قامع الْبدع اللَّاتِي تحببها ... أهل الزَّمَان وَأهل البدو والحضر ومرشد الْفرْقَة الضلال نهجهم ... إِلَى الطَّرِيق فَمَا حاروا وَلَا سهروا ألم تكن لِلنَّصَارَى وَالْيَهُود مَعًا ... مجادلا وهم فِي الْبَحْث قد حَضَرُوا وَكم فَتى جَاهِل غر أبنت لَهُ ... رشد الْمقَال فَزَالَ الْجَهْل وَالضَّرَر مَا أَنْكَرُوا مِنْك إِلَّا أَنهم جهلوا ... عَظِيم قدرك لَكِن ساعد الْقدر قَالُوا بأنك قد أَخْطَأت مَسْأَلَة ... وَقد يكون فَهَلا مِنْك تغتفر غَلطت فِي الدَّهْر أَو أَخْطَأت وَاحِدَة ... أما أَجدت إصابات فتعتذر وَمن يكون على التَّحْقِيق مُجْتَهدا ... لَهُ الثَّوَاب على الْحَالين لَا الْوزر ألم تكن أَحَادِيث النَّبِي إِذا ... سُئِلت تعرف مَا تَأتي وَمَا تذر حاشاك مَا شبه فِيهَا وَمَا شبه ... كِلَاهُمَا مِنْك لَا يبْقى لَهُ أثر ...

.. عَلَيْك فِي الْبَحْث أَن تبدي غوامضه ... وَمَا عَلَيْك إِذا لم تفهم الْبَقر قدمت لله مَا قدمت من عمل ... وَمَا عَلَيْك بهم ذموك أَو شكروا هَل كَانَ مثلك من يخفى عَلَيْهِ هدى ... وَمن سمائك تبدو الأنجم الزهر وَكَيف تحذر من شئ تزل بِهِ ... أَنْت التقي فَمَاذَا الْخَوْف والحذر ... تمت وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم وَقَالَ الشَّيْخ الصَّالح العابد مُحَمَّد أَبُو الطَّاهِر البعلي الْحَنْبَلِيّ يمدح شيخ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين الإِمَام أَحْمد بن تَيْمِية رَحمَه الله وَرَضي عَنهُ ... يَا ابْن تَيْمِية يَا أنصح العلما ... يَا من لأسرار دين الله قد فهما يَا آيَة ظَهرت فِي الْكَوْن باهرة ... لَا زلت فِي سلك دين الله منتظما وَكنت وَاسِطَة فِي عقده ابدا ... تزيل مِنْهُ الْأَذَى وَالْفُحْش والسقما جمعت مِنْهُ الَّذِي قد كَانَ فرقه ... قوم رَأَوْهُ هدى مِنْهُ وَكَانَ عمى وَكنت أحرص خلق الله كلهم ... على التآلف تُعْطِي الْفضل والنعما وَلست خبا لئيما باخلا شَرها ... لَكِن تقيا نقيا سيد الكرما تَعْفُو عَن الْجَاهِل الْجَانِي وترحمه ... وتكثر الْعدْل والانصاف للخصما مَا زلت تغْضب فِي ذَات الْإِلَه وَلم ... تكن لنَفسك يَا ذَا الْحلم منتقما فَأَنت حبر هدى أَحْيَا الْإِلَه بِهِ ... من دينه سننا أَمَاتَهُ الغشما ...

.. فِي رَأس سبع مئين كنت قد وَجَبت ... لَك الْإِمَامَة يَا خُلَاصَة العلما وكل شئ بِهِ جلّ الورى هَلَكُوا ... فشيخنا ذِي التقى من شَره سلما وكل وصف كَمَال فِي نَظَائِره ... لَهُ خَصَائِصه لَا تَقْتَضِي العدما كَانَ المبرز فِي كل الْعُلُوم وَقد ... أضحت لَهُ فِي ذرى اسنامها علما وَكَانَ حاوي صِفَات الْخَيْر اجمعها ... قد جلّ فِي كل حالات التقى قدما لما أَرَادَ عداهُ دحضه دحضوا ... وزاده الله عزا دَائِما وسما أضحت عوائده تبدي فَوَائده ... على موائده فِي حَضْرَة الحكما فَهُوَ التقي بِهِ أهل التقى الفوا ... وَأبْعد الله عَنهُ المجرم الزنما وَهُوَ المحك الَّذِي بَان الْعباد بِهِ ... إِمَّا كراما وَإِمَّا خيبا لؤما فَإِن أردْت تعايير الْعباد بِهِ ... عرض بذكراه مدحا وَانْظُر السيما ترى الغوى حَزينًا ثمَّ منقبضا ... وَتنظر المتقي قد سر مُبْتَسِمًا فحبه نعْمَة فَازَ السعيد بهَا ... وبغضه نقمة بهَا الشقي وسما فَالْحَمْد لله أهل الْحَمد خالقنا ... كم قد افاض علينا فِي الورى نعما عافي الْقُلُوب من الأسقام أجمعها ... وَعم بالجود من وفى وَمن ظلما كم أفرجت كربَة عَنَّا بمنته ... وَكم أعَان وَكم عفى وَكم رحما لَا ترتجي غَيره فِي رفع نازلة ... يبْقى الْهدى عَنْك والاحسان منصرما وَلَا تكن بسواه عَنهُ مشتغلا ... لكَي تنَال التقى والفوز والكرما ...

.. وَكن محبا لَهُ ساع بِطَاعَتِهِ ... فالسعي فِي غير هَذَا يُورث الندما ... تمت بِحَمْد الله وعونه وَحسن وتوفيقه وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا وَقع الْفَرَاغ التَّام من نسخ الْكتاب المستطاب من أَوله إِلَى صفحة 115 بيد أبي عبد الله مُحَمَّد بن حسن رَحمَه الله سلمه ربه وَمن صفحة 116 إِلَى آخِره بيد أبي اسمعيل يُوسُف حُسَيْن بن مُحَمَّد حسن رَحمَه الله الصابر الحنيف السّني المحمدي رواح يَوْم الْإِثْنَيْنِ 12 شَوَّال سنة 1312 هجرية على صَاحبهَا أتمي الصَّلَاة وأزكى التَّحِيَّة ... مستبقي خطوطي فِي الدفاتر بُرْهَة ... وأنملتي تَحت التُّرَاب رَمِيم ...

§1/1