العقد المنظوم في الخصوص والعموم

القرافي

العقد المنظوم في الخصوص والعموم للعلامة الأصولي: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (626 - 682 هـ) أطروحة لنيل الدكتوراه في أصول الفقه (جامعة أم القرى) دراسة وتحقيق الدكتور: أحمد الختم عبد الله المكتبة المكية - دار الكتبي

الطبعة الأولى 1420 هـ - 1999 م

بسم الله الرحمن الرحيم شكر وتقدير

مقدمة

خطة البحث

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. الحمد لله الذي أسبغ نعمه على الخلاق عموما وخصوصا, ونوَّع للدلائل في الشرع ظواهرا ونصوصا وخصص أهل طاعته بكرامته تخصيصا, وقيد الكائنات بمشيئته فلا يجد كائن عنها محيصاً, وأطلق الخيرات لنيل الدرجات فأضحى الشيطان بإطلاقها مغصوصاً. وصلى الله على سيدنا محمد الذي بعثه عزيزا عليه, وعلى إيمان الثقلين حريصاً, وعلى آله وصحبه الذين صار كل منهم بذروة الشرف خصيصاً, صلاةً لا نخاف معها يوم القيامة كدراً ولا تنقيصاً. أما بعد, فإني رأيت كثيراً من الفقهاء النبلاء الذين يشتغلون بأصول الفقه ويزعمون أنهم حازوا قصب السبق لا يحقق معنى العموم والخصوص في

موارده حيث وجده, ويلتبس عليه العام والمطلق إذا انتقده, ولم أجد في كتب أصول الفقه وغيرها من صيغ العموم إلا نحو عشرين صيغة. ومقتضى ذلك أن يكون ما عداها صيغة في لسان العرب والعموم, بل أكثر من ذلك يعضدها النقل والاستدلال على ما ستقف عليه, إن شاء

الله تعالى, ووجدت مسمى العموم في اللغة خفياً جداً على الفضلاء, حتى أني حاولت تحريره مع من تيسر لي الاجتماع به منهم, فلم أجده يجد لتحرير ذلك سبيلا, بل يدور عنده اللفظ العام بين أن يكون موضوعاً لقدر مشترك بين أفراده, فيكون مطلقاً, لا عاماً, وبين أن يكون قد تعرض الواضع فيه لخصوصيات تلك المحال, فيكون اللفظ مشتركاً, مع أن صيغ العموم ليست مشتركة على الصحيح من المذاهب ومجملة مع أنها غير مجملة عند مثبتيها, وبين أن يكون اللفظ العام موضوعاً لمجموع الأفراد من حيث هو

مجموع, فيتعذر الاستدلال به حالة النفي والنهي على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى, والحق في صيغ العموم وراء ذلك كله. ووجدتهم يعدون المخصصات المتصلة أربعة في لغة العرب, ووجدتها نحو العشرة, ووجدتهم يسوون في استعمال العام والأعم بين النية المؤكدة, والنية المخصصة, وهو خطأ, ووجدتهم في حمل المطلق على المقيد يسوون بين الكلية والكلي, والأمر والنهي, والنفي والثبوت, وهو لا يصح, إلى غير ذلك من المباحث المتعلقة بالعموم والإطلاق مما يتعين تمييزه وتحريره, فأردت أن أجمع في ذلك كتاباً يقع التنبيه فيه على غوامض هذه المواضع, واستنارة فوائدها, وضبط فرائدها, بحيث يصير للواقف على هذا الكتاب ملكة جيدة في تحرير هذه القواعد, وضبط هذه المعاقد إن شاء الله تعالى.

وسميته العقد المنظوم في الخصوص والعموم , ورتبته على خمسة وعشرين باباً, مستعيناً بالله تعالى على خلوص النية, وحصول البغية, وحصول النفع به لأهله, فإن كل شيء هالك إلا وجه, سبحانه وتعالى. نسأله بجلاله أن يجعلنا من أهل طاعته, والفائزين بكرامته, والسالمين من نقمته, بمنه وكرمه, إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

الباب الأول: في إطلاقات العلماء العام والأعم

الباب الأول: في إطلاقات العلماء العام والأعم اعلم أن من الناس من يسوي بين الإطلاقين, ولا يفرق بينهما, ومنهم من يفرق فيقول للعموم اللفظي: عام, وللعموم المعنوي: أعم, على وزن أفعل التفضيل, وهو أنسب من وجهين: أحدهما: أن الأصل اختلاف الأسماء عند اختلاف المسميات, والأصل أيضا عدم الترادف. وثانيهما: أن المعنى هو الأصل والمقصد, واللفظ إنما هو وسيلة ووصلة إليه, فهو أخفض رتبة من المعنى, فناسب أن يكون الأعلى رتبة مسمى, فسمي بصيغة أفعل التي هي للتفضيل وعلو الرتبة, إعطاء له ما

يستحقه, فيقال له: أعم, وسمي العموم اللفظي بصيغة عام التي هي اسم فاعل من غير إشعار فيها بمزيد الرتبة, فيحصل حينئذ إعطاء كل منهما ما يستحقه, ويحصل التفاهم عند التخاطب على الوجه الأقرب, فمتى قيل: هذا أعم, تبادر الذهن للمعنى، ومتى قيل: عام, تبادر الذهن للفظ, ويكون قبالة لفظ: الأعم لفظ: الأخص, وقبالة لفظ: العام لفظ: الخاص, فمتى قيل: هذا أخص, انتقل الذهن إله الأخص المعنوي كالنوع من الجنس, ومتى قيل: هذا خاص, انتقل الذهن إلى اللفظ الذي هو أقل أفراداً من من لفظ آخر أو هو عام مخصوص.

فتميزت الحقائق حينئذ, وانتفى الَّلبْسُ عن المخاطبات, فكان ذلك أولى من إهمال هذه المزايا والخصوصيات.

الباب الثاني في بيان أنهم يطلقون العام والأعم على التردد المتقدم في الباب الأول على عموم الشمول وهو الأصل

الباب الثاني في بيان أنهم يطلقون العام والأعم على التردُدِ المتقَّدم في الباب الأول على عموم الشمول وهو الأصل, وعلى عموم الصلاحية وهو المطلق الذي هو قسم للعام. فيسمون المطلق عامًا, بسبب أن موارده عامة, غير منحصرة, لا أنه في نفسه عام, فقوله تعالى: {فتحرير رقبة} مطلق, والمقصود بها: القدر المشترك بين جميع الرقاب, غير أن المكلف لما كان له أن يعين هذا الاسم المفهوم المطلق المشترك في أي مورد شاء من رقبة سوداء أو بيضاء, أو طويلة أو قصيرة, أو غير ذلك من الهيئات والصفات التي لا تتناهى قيل: إن لفظ الرقبة عام, ويريدون عموم الصلاحية وعموم البدل, بمعنى: أن له أن يعتق أي رقبة شاء بدلا عن الأخرى, وكل رقبة معينة صالحة لذلك, ما لم يمنع الشرع

إطلاق العلماء لفظ العام والأعم على المعنيين بطريق الاشتراك

منه ولكن لا يلزم المكلف أن يجمع بين رقبتين, بل له الاقتصار على رقبة واحدة بخلاف عموم الشمول, يلزمه تتبع الأفراد حيث وجدها بذلك الحكم كقوله تعالى: } فاقتلوا المشركين كافة {إذا قتل مشركا ثم وجد آخر وجب قتله, وهلم جرا, إلى غير النهاية, وكذلك قوله تعالى: } ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق {إذا وجد نفسَا من النفوس وجب عليه اجتنابها, فإذا وجد أخرى بعدها وجب عليه اجتنابها أيضَا, وكذلك سائر صيغ العموم, بخلاف إعتاق الرقبة, وإخراج شاه من أربعين شاة ودفع دينار في الزكاة من أربعين دينارًا, إذا أخرج فردا من هذه الماليات لا يجب عليه إخراج آخر, بل المحَالُّ التي تعين فيها ذلك العدد غير متناهية لا أن مدلول اللفظ العام متناه, وأما العام في الشمول فغير متناهفكان عموم الشمول بإطلاق لفظ العام أولى من عموم الصلاحية. غير أن العلماء -رضوان الله عليهم- يطلقون لفظ: العام والأعم على المعنين بطرق الأشتراك ويريدون تارة هذا وتارة ذاك, فاعلم ذلك وتأمله في موارده, ويرشدك إلى مُرَادهم قرينةُ الحال في تلك المادة, هل هي من باب الصلاحية في المحال أو من باب عموم الشمول من جهة مدلول اللفظ؟

الباب الثالث في بيان أن العموم من عوارض الألفاظومن عوارض المعاني

الباب الثالث في بيان أن العموم من عوارض الألفاظومن عوارض المعاني اعلم أنا كما نقول: لفظ عام أي شامل لجميع أفراده فكذلك نقول للمعنى أنه عام أيضاً, فنقول: الحيوان عام في الناطق والبهيم, والعدد عام في الزوج والفرد, واللون عام في السواد والبياض, والسعر قد يكون عاماً في البلاد وقد يكون خاصاً ببعضها, ونقول: مطر عام, وعدل عام في الرعية, وريح عامة, وهذه كلها عموماتٌ معنوية لا لفظية, فإنا نحكم بالعموم في هذه الصور على هذه المعاني عند تصورنا لها وإن جهلنا اللفظ الموضوع بإزائها هل هو عربي أو أعجمي, شامل أو غير شامل؟

صلاحية العموم للفظ والمعنى هل بطريق الاشتراك أو بطريق التواطؤ؟

وأما عموم اللفظ فلا نقول: هذا اللفظ عام حتى نتصور اللفظ نفسه, ونعلم من أي لغة هو, وهل وضعه أهل تلك اللغة عاماً شاملا أو غير شامل؟ فإن وجدناه في تلك اللغة شاملا سميناه عاماً, وإن وجدناه غير شامل لم نسمه عاماً عموم الشمول, وقد نسميه عاماً عموم الصلاحية. فقد ظهر حينئذ أن لفظ العموم يصلح للمعنى واللفظ, وهل ذلك بطريق الأشتراك أو بطريق التواطئ, لأجل معنى مشترك بينهما, لا أن اللفظ مشترك بينهما؟ يظهر في باديء الرأي أنه متزاطئ فيهما, لأن المعنى شامل لأنواعه وأفراده المندرجة.

جهة عموم اللفظ هي الأوضاع واللغات

تحته فاللفظ شامل لجميع أفراده, فيكون الشمول هو المعنى المشترك بينهما أو يكون اللفظ مطلقاً عليهما, لأجل هذا المعنى المشترك بينهما فيكون متواطئاً, لا مشتركا, هذا هو الذي يظهر في باديء الرأي. وعند تحرير النظر واستيفاء الفكر, يظهر أنه مطلق عليهما باعتبار معنيين مختلفين وتقريره: أن المعنى العام هو صورة ذهنية تنطبق على أمور خارجية انطباقاً عقلياً, وهي واحدة, وليس لها ولا فيها ما يتقاضى الجمع بين فردين بل الصلاحية لفردين دون الجمع بينهما, وإذا صدقت على عدد قل أو كثر ولو ثلاثة استحقت أن يقال لها: جنس أو نوع, وأنها عامة. واما عموم اللفظ فهو إنما يتلقَّى من جهة الأوضاع واللغات لا من جهة العقل, ولابد فيه من الشمول ولا يكتفى فيه بعدد مع إمكان غيره,

تعريف عموم المعنى

ومتى اقتطع فرد عن اللفظ من تلك المادة قيل فيه: بطل عمومه, وصار مخصوصاً وخولفت قاعدته وأصله, ولا كذلك في العموم المعنوي إذا قيل: حصل منه ثلاثة فقط, قيل: صدق العموم المعنوي باعتبار تلك الأفراد. ومتى كان المراد بعموم اللفظ الشمول على وجه لا يخرج منه فرد, ولايصدق بالاقتصار على بعض أفراده, وكان المراد بعموم المعنى الاكتفاء بأي عدد كان مع قطع النظر عن استيفاء تلك المواد كان اللفظ مشتركاً لا مَحَالَةَ, لوقوع الأختلاف بين المسميين. ويدلًّك على أن عموم المعنى يقتصر فيه على أي عدد كان قولهم في حده هو: المقول في الكثيرين, ومرادهم بلفظ (كثيرين) لفظ متكثر, فيصير كالمطلق في الجموع نحو: رجال ودراهم , يصدق بأي عدد كان, فمتى صدق عدد من الدنانير صدق الجميع مع أنه مطلق, فيصير لفظ العام موضوعاً لما هو عام شامل لما هو مطلق له عموم الصلاحية فقط, زهما متباينان فيكون اللفظ مشتركاً.

الباب الرابع في الفرق بين الكلي والكلية والجزء والجزئية والجزئى

الباب الرابع في الفرق بين الكلي والكلية والجزء والجزئيَّة والجُزئى اعلم أنَّا نحتاج إلى تحرير هذا الباب قبل مسمى صيغة العموم حتى ندعي أن مسماها هو أحد هذه المفهومات, دون بقيتها. فنقول: اعلم أن الكلي هو المعنى المشترك بين شيئين فصاعداً كقولنا: حيوان, وعدد, ولون, وما أشبه ذلك, فإنا نجد كل واحد من هذه المفهومات مشتركاً أشخاصه وأنواعه وأصنافه, ويصدق بأي فرد كان, ويكفي في صدقه فرد واحد, فإذا صدق أن في الدار زيدا, صدق أن فيها حيوان وجسما, وكذلك صدق فرد من السَّواد أو العدد صدق مفهوم السواد ومفهوم العدد, فهذا ونحوه هو المراد بالكلي. ويقابله الجزئي, أي: الشخص والفرد المعين الذي لا يقبل الشركة

فائدتان

كزيد, والفرد المعين من السواد, لا يقبل أن يكون مشتركا بين جميع أفراد السواد, فهذا ونحوه هو الجزئي, وهو قسيم الكلي, لأن الكلي هو القابل للشركة, والجزئي هو الذي لا يقبلها, وبين القابل وغير القابل تَنَافٍ وتَعَانُدٍ فكان الجزئي قسيم الكلي ومقابله, لأن هذا هو شأن القسيم. فائدتان الفائدة الأولى: أن الجزئي له في اصطلاح العلماء تفسيران: الأول: ما تقدم, وضابطه: أنه الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه, كزيد ونحوه. الثاني: أن الجزئي ما اندرج تحت كلي, وهو أعم من الأول, لأن الأول خاص بالشخص المعين كزيد, وهو مندرج تحت كلي الذي هو الأنسان والحيوان, وغير ذلك من الكليات, والثاني يصدق على الشخص, لاندراجه تحت كلي, وعلى الأجناس والأنواع المتوسطة, كالإنسان والحيوان, فإنهما مندرجان تحت كلي, الذي هو الجسم النامي وليسا بأشخاص, فهذا التفسير الثاني أعم من الأول, لأنه يصدق على الأول وبدونه. الفائدة الثانية: أن ضابط الكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه, ومعنى هذا الكلام أن تصوره معزول عن إثبات الشركة

تنبيه: المعنى بالمثلين أن في الذهن صورة تنطبق عليهما من حيث ذاتيهما دون عوارضهما

ونفيها ولا يلزم من عزله عن ذلك أن يكون قابلا للشركة, ولا أنها ممتنعة عليه, فقد يقبلها في بعض الموارد, وقد لا يقبلها في بعضها. تنبيه: المعنى بالمثلين أن في الذهن صورة تنطبق عليهما من حيث ذاتيهما دون عوارضهما, وإلا فوجود مثلين في الخارج محال قطعا, لأنهما إن أخذا بقيد عوارضهما, وما وقع به تعينهما فهما خلافان, بل ضدان من هذا الوجه, لأن ما به تعيين أحدهما مخالف لما وقع به تعيين الآخر, فهما مختلفان من هذا الوجه, ويمتنع اجتماعهما, وهذا هو ضابط الضدين, وإن قطع النظر عما وقع به تعيينهما لم يبق إلا المشترك بينهما, والمشترك بينهما واحد, والواحد ليس بمثلين, فالمثلان على هذا التقدير حقيقتهما مستحيلة, وإنما الواقع ضدان أو واحد ليس بمثلين. وأما إذا فسر المثلانبانطباق صورة ذهنية عليهما من حيث ذاتيهما دون

عوارضهما تصور المثلان. وقولي: من حيث ذاتيهما احتراز من الضدين, والخلافين, فإن الصورة الذهنية تنطبق عليهما باعتبار أمر مشترك بينهما هو الضدية, أو اللونية, أو غير ذلك من الأمور المشتركة بينهما, من غير أن يكون ذلك كمال الحقيقة, بل للحقيقة ذاتيان غير تلك الصورة, فتأمل هذا الوضع فهو نفيس, زمنه يستفاد استحالة الوضع لمثلين عقلاَ, وإن كنا نتصور العقلين مثلا بسبب أن الواضع إن وضع لتلك الصورة الذهنية فهي واحدة, والواحد ليس بمثلين, وإن وضع اللفظ للمتناقضين الخارجين مثلا من حيث تعينهما, فهما ضدان كما تقدم, لا مثلان, كما تقدم بيانه, أولهما مع قطع النظر عن تعينهما, فهما واحد, والواحد ليس بمثلين, فعلم أن وضع لفظ لمثلين مستحيلٌ عقلاً. فإن قلت: إن كان تصورهما ممكن أمكن الوضع لهما, لأن ما أمكن تصوره أمكن الوضع له, وإن كان تصورهما غير ممكن فيكون من قبيل المستحيلات وهو خلاف إجماع العقلاء فإن لنا مثلين في الخارج قطعًا كالبياض والحركتين والجوهرين وذلك لا يعد ولا يحصى.

قلت: تصورهما ممكن بما ذكرته من التفسير من انطباق صورة واحدة في الذهن عليهما, وليس في الذهن مثلان ولا في الخارج مثلان, بل الواقع في الخارج مختلفان, وفي الذهن شيء واحد, والواضع إما لما في الذهن أو لنا في الخارج, ولا مثلين فيهما إلا بالتفسير الذي ذكرته. فإن قلت: نجوزُ اجتماع صورتين للبياض مثلا, فيقع الوضع لتلك الصورتين وهما مثلان. قلت: الصورتان في الذهن إنما يتصوران إذا قلنا: النفس ذات جواهر, لستحالة حصول المثلين أو العلمين فيث محل واحد, فإن التصور عام, وإذا كانت النفس ذات جواهر كان حصول الصورتين في محلين منهما, لحصول البياضين في الخارج في محلين, فيفتقران إلى تعين كل واحد منهما, فإن أُخذا بقيد يعينهما, فهما ضدان, كما تقدم, وبغير تعينهما فهما واحد كما تقدم, فيستحيل الوضع لمثلين أيضا على هذا التقدير, فظهر استحالة الوضع لمثلين مع إمكان تصورهما ولكن بما ذكرته من التفسير, فتأمله.

معنى الكلية

وفي الكلي مباحث كثيرة لا يليق ذكرها هنا, نحو: قبوله للوجود الخارجي, وعدم قبوله, وانقسامه للكلي المنطقي, والطبيعي, والعقلي وأقسامة, وكيفية حصولع في النفس, إلى غير ذلك من المباحث المقررة في علم المنطق. وأما الكلية: فهي عبارة عن الحكم على كل فرد فرد من أفراد تلك المادة حتى لا يبقى منها فرد, فهي جزئية لا كلية, ويقابلها الجزئية وهي: القضاء على بعض تلك الأفراد, إما واحد كزيد, وإما عدد متناه كالمائة ونحوها من أفراد الإنسان أو عدد غير متناه كالرجال بالنسبة إلى أفراد الإنسان, فإن قولنا: كل إنسان حيوان كلية, وقولنا: كل رجل إنسان هو كلية في نفسه, وهو جزئية بالقياس إلى تلك الكلية, فهذا تحرير الكلية والجزئية.

بيان معنى الكل

وأما الكل والجزء: فالكل عبارة عن مجموع من حيث هو مجموع نحو العشرة, والمائة والألف وميمات حميع ألفاظ الأعداد, ويظهر الفرق بينه وبين الكلية بالمثال وتباين الأحكام, فإذا قلنا: كل رجل يشبعه رغيفان غالباً, صدق ذلك باعتبار الكلية, وهي القضاء على كل فرد فرد عبى حياله, وكذبت باعتبار الكل الذي هو المجموع, فإن مجموع الناس لا يشبعه رغيفان ولا ألف قنطار, وإذا قلنا: رجل يشيل هذه الضخرة العظيمة, صدق هذا الحكم باعتبار الكل, وكذب باعتبار الكلية, فإن الأفراد بستحيل على كل واحد منهم شيل هذه الضخرة العظيمة, أما مجموع الناس فيجوز عليهم ذلك وأكثر منه. فبهذه المثل وهذه الأحكام, يظهر الفرق بين الكل والكلية, وأن معنى الكلية القضاء على كل فرد فرد من غير تعرض للجمع بين فردين ولا أكثر, وأن الكل معناه المجموع من حيث هو مجموع, ولا يتعرض المتكلم لثبوت الحكم لفرد ألبته, ثم الحكم بعد ذلك قد يثبت للفرد وقد لا يثبت, ذلك يختلف باختلاف المواد.

معنى الجزء

فإذا قلنا: مجموع الزنج أسود, صدق هذا الحكم للمجموع ولكل فرد أنه كذلك وكذلك مجموع الجبال صخر, يصدق أيضا باعتبار الأفراد أنها كذلك, ونظائرة كثيرة لا تعد كثرة ولا تحصى, بخلاف ما إذا حكمنا على مجموع من الماء بالإرواء, لا يثبت ذلك لكل قطرة منه, أو على مجموع من الخبز أنه مشبع, لا يلزم أن يثبت ذلك لكل لبابة منه, أو على مجموع الجيش أن يهزم العدو ولا يثبت ذلك لكل فارس منه, ونظائرة أيضا لا تُتحصى كثرة, لكن الحكم في القسمين إنما كان ثابتاً بالذات للمجموع من حيث هو مجموع, وثبوته للفرد إنما جاء من خصوص المادة لا في قصد الحكم في الرتبة الأولى. وإذا عرفت حقيقة الكل, فاعلم أنه إنما يصدق إذا كان مركباً من شيئين فصاعداً فكل واحد من تلك الأفراد هو الجزء والجزء مقول بالقياس إلى الكل كما أن الجزئية مقولة بالقياس إلى الكلية, والجزئي مقول بالقياس إلى الكلي, ثم الفرق بينهما أ، الجزئي هو الكلي مع زيادة التشخيص, فالكلي بعض الجزئي كالإنسان هو جزء من زيد الجزئي, لأن

حقيقة الجزئية

زيداً هو مفهوم الإنسان مع خصوصيات زيد من طوله وبياضه وغير ذلك من خصائصه, والجزء بعض الكل, والجزئية بعض الكلية, فالجزئي عكس الجزئية والجزء, من جهة أن الجزئي كل, والجزئية والجزء بعض, وكما صدق حكم باعتبار الكلية دون الكل, وباعتبار الكلية دون الكل, وباعتبار الكل دون الكلية كما تقدم تمثيله, وكذلك يصدق الحكم باعتبار الكلية دون الكلية والكل نحو قولنا: الإنسان نوع, والحيوان جنس, فالجنسية والنوعية لا يصدقان باعتبار الكل ولا باعتبار الكلية, لأن من شرط النوع أو الجنس أن يكون مقولاً على ما تحته من الأفراد, والكلية لا يمكن أن تصدق على كل فرد من أفرادها, وكذلك الكل لا يصدق على شيء من أفراده, لأن الكل لو صدق على الجزء لكان الجزء مساوياً للكل وهو محال, فالجنسية والنوعية والخاصية نحو قولنا: الضاحك خاصة والعرض العام نحو قولنا: الماشي, عرض عام لا يصدق إلا على معنى كلي لا على كل, ولا على كلية من حيث هما كذلك غير أنه قد يعرض للكلي أن يكون كلاً, بأن يكون مركبا من جزئين, كالإنسان, كلي, وهو مركب من الحيوان والناطق, فمجموعهما كل, وهو كلي, وكذلك الحيوان, كل وكلي, لأنه مركب من جنسه الذي هو النامي, وفصله الذي هو الحساس, ألحق بذلك ما في معناه.

إذا أحطت علما بالفرق بين الستة, فاعلم أنه قد وجد في الأوضاع العربية ألفاظ موضوعة للستة, فأسماء الأعداد كلها موضوعة لما هو كل ومجموع كالعشرة لمجموع الخمستين, والمائة لمجموع العشرات, والألف لمجموع المئيم العشرة, وكذلك بقيتها. وصيغ العموم موضوعة لما هو كلية على ما يأتي تقريره إن شاء الله تعالى فأسماء الأجناس كالحيوان, والألوان, والطعوم, والروائح, وغيرها, ألفاظ موضوعة لما هو كلي نحو: سواد, وبياض, وحلاوة وعطر ونحو ذلك, وأسماء الأعلام في البلاد نحو: مكة, والجبال نحو: ثبير, وأحد, والملائكة نحو: جبريل, والآدميين نحو: زيد, وأما اسم لبعض الكل, والبعض موضوع لما هو جزئية أو جزئي, يصدق على

كليهما أنه بعض, فالجزئية بعض الكلية, والجزء بعض الكل, فلفظ البعض شامل لهما, بخلاف لفظ الجزء خاص بما يقابل الكل.

الباب الخامس في حقيقة مسمى العموم وحده

الباب الخامس في حقيقة مسمى العموم وحده اعلم أن مسمى العموم في غاية الغموض والخفاء, ولقد طالبت بتحقيقه مجموعة من الفضلاء فعجزوا عن ذلك. وتحرير الإشكال فيه وبيان غموضه بأن أقول: صيغة العموم بين أفرادها قدر مشترك, ولكل فرد منها خصوص يختص به كالمشتركين مثلا, كلهم اشتركوا في مفهوم المشترك, وامتاز هذا بطوله وهذا بقصره, وغير ذلك مما وقع به تميز الأفراد. فنقول: الصيغة: إما أن تكون موضوعة للقدر المشترك بينها, أو لخصوصيتها أو المجموع المركب منها في كل فرد, أو تكون موضوعة لمجموعة الأفراد, أو للقدر المشترك بقيد العدد, أو للقدر المشترك بقيد سلب النهاية, فهذه الاحتمالات الستة هي التي أمكن إن وصل إليها توهم الفضلاء الذين وقع معهم البحث في تحقيق مسمى صيغ العموم وهي كلها باطلة. أما الاحتمال الأول: وهو أن يكون اللفظ موضوعا للقدر المشترك فلا يمكن أن يمون مسمى العموم, لأنه لو كان مسمى العموم لكان اللفظ مطلقا متواطئا يقتصر بحكمه على فرد من أفراده, لأنا لا نعني بالمطلق

الاحتمال الثاني: أن يقال: إنه موضوع للخصوصيا التي تميز بها كل فرد من أفراد العموم

إلا لفظا موضوعا لمشترك كقوله تعالى (فتحرير رقبة) يقتصر وجوب الإعتاق على رقبة واحدة, ولا يلزم ثبوت الحكم في رقبة أخرى, واللفظ العام هو قسيم المطلق ولا يقتصر بحكمه على فرد من أفراده, بل إذا قتلنا مشركاً مثلا ثم وجدنا أخر وجب قتله كلأول, ثم كذلك إلى غير النهاية, فظهر حينئذ أن لفظ العموم لا يكون موضوعاً للقدر المشترك بين أفراده. الاحتمال الثاني: أن يقال: إنه موضوع للخصوصيا التي تميز بها كل فرد من أفراد العموم نحو: الطول, والقصر, والسواد, والبياض, وغير ذلك مما وقع به التمييز, وهذا أيضا باطل, لأن الخصوصيات لما كانت مختلفة متنافية كان وضع لفظ واحد لها يقتضي أن ذلك اللفظ مشترك, لآنا لا نعني باللفظ المشترك إلا اللفظا الموضوع للكل من أمور مختلفة, لكن صيغة العموم ليست مشتركة, وأعني: أنها ليست موضوعة بطريق الاشتراك لأفراد تلك العموم لوجوه:

أحدها: أن المشترك لا تكون مسمياته غير متناهية, لأن الوضع فرع التصور, وجميع ما يتصوره الواضع متناه, والاستقراء أيضا دل على ذلك, لكن خصوصيات أفراد العام غير متناهية, فلا يكون اللفظ موضوعاً لها بطريق الاشتراك. فإن قلت جاز أن يكون الحق هو مذهب التوقيف في اللغات, وأن الله نعالى واضعها, وعلمه تعالى محيط بما لا يتناهى, ولا يتوقف وضعه تعالى على التصور كما هو في حق البشر , بل علمه تعالى محيط أزلي التعلق, وعموم تعلقه أزلي, فأمكن أن يضع تعالى لفظا واحداً لما لا يتناهى, لأنه تعالى عالم بذلك العدد الذي ليس بمتناه عن التفصيل من غير استئناف في الإحاطة به, فصح الوضع, واندفع الإشكال. قلت: هذا المذهب, ولو قلنا به لأمتنع الوضع للخصويات أيضاً, والسبب في ّلك أن الله تعالى إذا وضع لفظا لما لا يتناهى عن التفصيل, فإما أن يقال: إن الله تعالى أعلم عباده بذلك, أم لا؟

والقسم الأول باطل وهو أنه تعالى أعلم عباده, لأن إعلامهم بلك يتوقف على تصورهم لذلك المعلموم على التفصيل, إذ لو علموما البعض, وجهلوا البعض, لم يصدق أن الله تعالى أعلمهم بمسميات هذا اللفظ, بل ببعضه, وإذا كان البعض مجهولا, لم يحصل لهم بمسميات هذا الفظ علم, لكن علمهم بذلك محال, لاستحالة تصورهم لما لا يتناهى, وما هو مستحيل في حق العباد عقلا, يستحيل تحصيله لهم, فلا يصح القول بأن الله تعالى أعلم عباده بذلك. وأما القسم الثاني: وهو أن يقال إن الله تعالى ما أعلم عبداه بذلك. فنقول هذا شيء استأثر الله تعالى بعلمه, وليس هو من معلومنا, فبطل هذا السؤال على التقديرين. وثانيهما أن المشترك لا يستعمل في كل أفراده على قول جماعة من

الاحتمال الثالث: وهو أن يكون اللفظ موضوعا للمشترك مع الخصوص في كل فرد

القائلين بالعموم, والعام يستعمل في جميع أفراده باتفاق القائلين بصيغ العموم, وإذا اختلفت اللوازم ولفظ العموم, فلا يكون اللفظ العام مشتركا, عملا باختلاف اللوازم. وثالثها: أن اللفظ المشترك مجمل, يفتقر في حمله على شيء إلى قرينه تضاف إليه, فتعين تلك القرينة المراد به, وعند عدم تلك القرينة يجب التوقف في حمل اللفظ على شيء, واللفظ العام عند القائلين بالعموم غير مجمل, ولا يفتقر في حمله على قرينة البتة, بل هو صريح عندهم في الاستقراء من جهة الوضع, والوضع كاف فيه. الاحتمال الثالث: وهو أن يكون اللفظ موضوعاً للمشترك مع الخصوص في كل فرد, مثل أن يكون موضوعاً لمفهوم المشترك مثلا في زيد مع وصف طوله, والمفهوم المشترك في عمرو مع وصف قصره, وكذلك إلى غير النهاية, فيحصل في كل شخص مجموع مركب من خصوصية والقدر المشترك, وذلك المجموع مخالف للمجموع الحاصل في غيره, فيلزم أن يكون اللفظ موضوعاً لحقائق مختلفة غير متناهية, لأن أفراد المشركين غير متناهية, فتكون المجموعات غير متناهية, وقد تقدم أن اللفظ يستحيل أن يكون مشتركاً بين أفراد ومسميات غير متناهية بالوجوه الثلاثة المتقدمة. وأما الاحتمال الرابع: وهو أن يكون لفظ العموم موضوعاً لمجموع

الاحتمال الرابع: وهو أن يكون لفظ العموم موضوعا لمجموع الأفراد المركب

الأفراد المركب من جميع المشركين مثلا, فهو باطل أيضاً, بسبب أن صيغة العموم لو كانت موضوعة لمجموع الأفراد ويكون مسماها كلاًّ, لتعذر الأستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها حالة النهي أو النفي, بخلاف الأمر وخبر الثبوت, لأنه يكفي في نفي المجموع فرد من أفراده, وإذا نفي عنه خرج ن عهدته بفرد من أفراده, لأن معنى النهي ألا يغير المجموع الموجود, فإذا ترك منه فرد لم يغير المجموع الموجود, فعلى هذا إذا قال الله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)) وهي صيغة عموم, يكون معنها لا تقتلوا مجموع النفوس المذكورة, فمن قتل ألفاً من النفوس لا يصدق عليه أنه قتل مجموع النفوس فلا يكون عاصيا, لأنه لم يقتل المجموع, فظهر أنه لو كان المجموع هي مسمى العموم لم يمكن الاستدلال به على ثبوت حكمه لفرد من أفراده, لكن العام هو الذي يستدل به على ثبوت الحكم لأي فرد شئنا من أفراده, فلا يكون لنا لفظ على هذا التقدير للعموم, على تقدير كونه للعموم, هذا خلف.

الاحتمال الخامس: أن تكون صيغة العموم موضوعة للمشترك بين أفراده بقيد العدد

وهذا بخلاف الأمر بالمجموع, والإخبارعن ثبوت المجموع, لأن وجوب المجموع يقتضي وجوب كل فرد من أراده, والإخبار عن ثبوته إخبار عن ثبوت جميع أفراده, فظهر الفرق بين النهي , والنفي, والأمر, وخبر الثبوت, فلذلك يثبت الإلزام في الأولين دون الآخرين. الاحتمال الخامس: أن تكون صيغة العموم موضوعة للمشترك بين أفراده بقيد العدد, وهو أيضاً باطل, لأن مفهوم العدد أمر كلي, ومفهوم المشترك أمر أيضاً كلي, والقاعدة العقلية: أن إضافة الكلي إلى الكلي يكون المجموع المركب منها كلياً, فيكون الموضوع له كلياً, فيكون اللفظ مطلقاً يقتصر بحكمه على فرد من أفراده, لأن هذا هو شأن المطلق, والمطلق كان هو فهو كلي, وكون العام مطلقاً يقتصر به على فرد من أفراده باطل لما تقدم. وأما الاحتمال السادس: أن يكون مسمى لفظ العموم هو القدر المشترك بقيد سلب النهاية فهو باطل أيضاً, لأن المعنى حينئذ يكون في مثل قوله تعالى: ((ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)) , لا تقتلوا النفوس بقيد سلب النهاية, فمن قتل ألفا لم يخالف ها النهي, فيؤول البحث إلى عدم الاستدلال به على ثبوت حكمه لفرد من أفراده في النفي والنهي, دون الأمر وخبر الثبوت, وقد تقدم إبطاله.

حقيقة مسمى العموم عند القرافي

وعلى هذا بطلت هذه الاحتمالات كلها التي يمكن أن تتوهم في مسمى العموم, وأشكل حينئذ مسمى العموم غاية الإشكال, وظهر أن اللازم فيها حينئذ أحد ثلاثة أمور: الاشتراك, أو الإطلاق, أو تعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لرد من أفرادها في النفي والنهي, وأن جميع ما يتخيل من هذه الأمور لا يخرج عن الثلاثة, وكل واحد منها ينافي صيغة العموم, وحينئذ يتعين كشف الغطاءعن المعنى الذي وضعت له صيغ العموم, فأقول: إن صيغة العموم موضوعة للقدر المشترك مع قيد يتبعه بحكمه في جميع موارده. فبقولي: للقدر المشترك, خرجت الأعلام, لأن ألفاظها موضوعة بإزاء أمور جزئية لا كلية كزيد وعمرو ونحوهما, كل واحد من هذه المسميات لا يقبل الشركة, فليس كلياً, وأعني بالعلم هاهنا علم الشخص, دون علم الجنس, فإن علم الجنس مسماه, على ما نقرره في شرح المحصول وغيره

وخرج بقولي: بقيد يتبعه بحكمه في جميع موارده: المطلقات, لأن المطلق يقتصر بحكمه على فرد من أفراده, ولا يتبع موارده, كإعتاق الرقبه, إذا حصل في مورد لا يلزم إعتاق إخرى, والعموم حيث وجد فرد من أفراده وجب أن يثبت له ذلك الحكم وإن تقدم أمثاله, كما إن قتلنا مشركاً وآلافاً من المشركين ثم وجدنا أمثاله وجب قتلهم أيضا. وأعني بقولي: إنه يتبع بحكمه: القدر المشترك بين الأمر والنهي والاستفهام والترجي والتمني والخبر, وغير ذلك من الأحكام, لا أخصه بحكم معين, بل كل حكم يقصد في تركيب اللفظ, وعلى هذا التقدير لا يلزم واحد من تلك المفاسد الثلاثة فلا يلزم الاشتراك, لأن الاشتراك لابد فيه من تعدد المسمى, وها هنا االمسمى واحد وهو المشترك بوصف التتبع, فالمسمى مركب من هذين القيدين, وهو واحد, ولا يكون اللفظ مطلقا, لأن المطلق لا يتبع, وها هنا يتبع, ويستدل به على ثبوت حكمه لكل فرد من أفراده, لأن هذا معنى التتبع, فاندفعت جميع الإشكالات بهذا التحرير, فتأمله, وهو صعب الإشكال, وصعب التحرير, ويمكبك أن تجعل العبارة المتقدمة حدا لصيغة العموم, فإنها جامعة مانعة. وهأنا أورد لك حدود الجماعة, لتنظر فيها, وتحيط بها, وتطلع على فاسدها من صحيحها, فأقول:

معنى العموم عند فخر الدين الرازي

الحد الأول: قال الإمام فخر الدين في المحصول: العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد, كقولنا: الرجال, فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له, ولا يدخل عليه النكرات كقولهم: رجل, لأنه يصلح لكل واحد من الرجال ولا يستغرقهم, ولا التثنية ولا الجمع, لأن لفظ: رجلين ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة, ولا يفيد الاستغراق, ولا ألفاظ العدد كقولنا: خمسة, لأنه صالح لكل خمسة ولا يستغرقها, وقولنا: بحسب وضع واحد احترازا من اللفظ المشترك, أو الذي له حقيقة, ومجاز, فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معاَ, هذا كلامه. ويرد عليه أن يقال: ما المراد بقولكم: المستغلاق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد, الوضع أو ما هو أعم منه؟ فإن كان المراد بالصلاحية الوضع, صار معنى الكلام: المستغرق لجميع ما وضع له, ولا شك أن ألفاظ العدد كذلك كلها, فإن لفظ المائة والألف وضع لعشرة من العشرات, أو المئين, وهو عند الإطلاق يتناولها جميعاً, فلا يبقى من العشرات التي وضع لها لفظ المائة والألف شيء حتى يتناوله, لاسيما وقد قيل إنها نصوص لا

تقبل المجاز, وكذلك لفظ رجلين وضع لرجلين وهو يتناولهما عند الإطلاق, فيكون الحد باطلا, لأنه غير مانع. وإن أردتم بالصلاحية ما هو أعممن الوضع, فيصير معنى الكلام: العام هو المستغرق لحقيقته ومجازه, فإن كان لفظ يصلح لمجازه, ولا يكاد يوجد عام كذلك إلا نادرا, فيكون الحد غير جامع, وفي التقدير الأول غير مانع, وكلاهما يقتضي بطلان الحد, فبكون الحد باطلا, فظهر أن قوله: بحسب وضع واحد, لا يتم معه المقصود في هذا الحد. وقوله: بحسب وضع واحد, وقال: احترزت به عن اللفظ المشترك, والحقيقة والمجاز وعليه سؤلان: الأول: أن المراد بالاستغراق من جهة الددلالة يشمل ما وضع له وأن المشترك لا دلالة له, ولأنه مجمل, والمجمل قسيم الدال, وكذلك اللفظ لا يدل على مجازه من حيث الوضع وإنما ترشد إليه القرينة, أما اللفظ من حيث هو لفظ فلا, فقد خرج هاتان الصورتان بقولكم: المستغرق في أول الحد, فكان ذكر هذا القيد بعد ذلك حشو لا يصلح في الحدود.

الحد الثاني للعموم لفخر الدين الرازي أيضا

السؤال الثاني: سلمنا أن اللفظ المشترك له دلالة وأن اللفظ يدل على مجاز, لكن الذي اختاره الإمام فخر الدين, صاحب هذا الحد وغيره من الجماهير أن اللفظ المشترك لا يستعمل في مفهوميه, وأن اللفظ لا يستعمل في حقيقته ومجازه, وأن العرب لا تجيز ذلك أصلا, وإذا منعته العرب في لغتها, كيف يقال له مستغرق لذلك في لغة العرب؟ ! فانظر إلى هذا الحد مع ما وقع فيه من التحرير, وأن قائله من المتأخرين المحررين, وقصد الأحتراز عما يرد على حدود المتقدمين, ومع ذلك فهو باطل من أوله إلى آخره. الحد الثاني: اختاره الإمام فخر الدين في المحصول أيضاً فقال: وقيل في حده: إنه اللفظ الدال على شيئين فصاعدا من غير حصر قال: واحترزنا باللفظ عن المعاني العامة, وعن الألفاظ المركبة, واحترزنا بقولنا: الدال عن الجمع المنكر, فإنه يتناول جميع الأفراد , لكن على وجه الصلاحية, لا على وجه الدلالة, واحترزنا بقولنا: على شيئين عن النكرة في الإثبات, وبقولنا: من غير حصر عن أسماء الأعداد.

وينبغي أن نقرر المقصود من هذا الكلام أولاً, ثم ننبه على مايرد عليه ثانياً, أما تقريره: أن العموم يصدق على المعاني كما يصدق على الألفاظ, كما تقدم أن الحيوان عام في أنواعه, وكذلك جميع الأجناس والأنواع, ويقال: سفر عام, ومطر عام, وغير ذلك مما فيه العموم بحسب المعاني فقط, فإذا قال: اللفظ, خرج المعنى الذي هو ليس بلفظ, وأما الألفاظ المركبة كقولنا: زيد قائم, وعمرو خارج, والقصيدة الطويلة, لا يصدق عليه أنه لفظ, بل لفظات عديدة, فخرج هذا كله عن الحد وينبغي إخراجه, لأنه ليس من صيغ العموم الموضوع للكليات. وأما الجمع المنكر: فإنه يتناول جميع الجموع على البدل, والعام هو الذي يتناول على جهة الشمول كقولنا: رجال, يصلح لكل ثلاثة على البدل, لكن لا يجمع بين ثلاثة وثلاثة, بل ثلاثة فقط, والعام هو الذي يتناول ما لا يتناهى على الجمع والشمول.

ما يرد على التعريف الثاني

وقوله: النكرة في الإثبات, احترزو به عن النكرة في النفي, فإنها تعم, نحو لا رجل في الدار, فإنها تعم الرجال كلهم, بخلاف الإثبات نحو في الدار رجل, فإنه لا يتناول أكثر من فرد واحد ولا يجمع بين اثنين. واحترز بقوله: من غير حصر, عن أسماء الأعداد نحو العشرة والمائة ونحوهما, فإن العشرة تتناول أفراد محصورة, لا تقبل الزيادة ولا النقصان, وهي محصورة متناهية في خمستين لا تتجاوزهما إلى أحد عشر ولا أكثر, بخلاف صيغة العموم فإنها تتناول ما لا يتنهى من الأفراد نحو المشركين, فيتعين إخراج أسماء الأعداد, لأنها تتناول شيئين فصاعدا لكن على وجه الحصر, فهذا تقرير كلامه. وأما ما يرد عليه فأقول: إن اللفظ مصدر, يصدق عليه القليل والكثير من جنسه, إلا إذا حدد بالتاء نحو ضربة, فإنه لا يتناول إلا المرة الواحدة, وإذا قلنا: ضربة, لا يتناول غير الضرب مرة واحدة, هذا هو تقل النحاة وهم أهل العلم ومحرروه, فعلى هذه القاعدة لا يتناول هذا الحد ولا الحرف الواحد, فإنه لفظة لفظها اللسان, وحينئذيخرج جميع أفراد المحدود

من الحد, بل لو قال: اللف بغير تحديد بالتاء كان أقرب للصواب, حتى يبقى قابلاً لعدة لفظات وهي عدد حروف التي يتركب منها صيغ العموم, فإن صيغة العموم لابد فيها من عدة حروف تركب على وزن خاص, ولما حدد لفظ المصدر الذي هو اللفظ بالتاء فقال: اللفظة امتنع قوله ذلك لأن يدخل فيه ضيغة العموم, فإن العرب لم تضع حرفا واحدًا للعموم. وقوله على شيئين أيضا مفسد للحد ألبتة, قال الإمام سيف الدين في الإحكام: الشيء اسم الموجود فقط, فلا يتناول هذا الحد إلا الموجودات, مع أن العموم يقع في المعدومات كما يقع في الموجودات, فإنك لو قلت: المعدومات والمستحيلات داخلة في معلومات الله تعالى يقال: عم ذلك كل معدوم وكل مستحيل, لأجل الألف واللام, فلا يكون الحد جامعاً, لاشتراطه فيه الموجود.

وأيضا فيقتضي قوله: فصاعدا أن يكون أول مراتب العموم شيئان فإن الموكل إذا قال لوكيله: بع هذا بدرهمين فصاعداً, كان الدرهمانهما أول مراتب الثمن المأذن في البع به, حتى لو باع بها صادف إذن الموكل, فكذلك هاهنا, إذا دل اللفظ على شيئين يلزم أن يكون عاماً. وقوله بعد ذلك: من غير حصر لا يبطل ورود السؤال عليه, لأن معناه أن المحل يبقى قابلاً للزيادة ولا يتعين, كما أنها في لفظ الموكل لا تتعين, بل تقبل الزيادة فقط, مع أن العام لا يجوز أن يكون مقتصرا في دلالته على شيئين, بل يجب أن يكون مدلوله كلية غير متناهية الأفراد, هذا ما يرد على مفردات حده. أما مجموع حده فينتقض بأمور: منها جموع الكثرة المتنكرة نحو رجال ودنانير ودراهم, فإن مجموع التكسير على قسمين: ما هو موضوع القلة من الثلاثة إلى العشرة ولا يتجاوزها كما في قول الشاعر: يأفعل, وأفعال, وأفعلة وفعلة يعرف الأدنى من العدد.

فأفعل نحو أفلس, وأكلب, وأفعال محو أحمال, وأجمال, وأفعلة نحو أقفزة, وأجربة, وفعلة نحو صبيةظو وغلمة. ومنها ما هو موضوع للكثرة, وهو ماعدا هذه الأربعة, وماعدا جموع السلامة, مذكرة, ومؤنثة نحو مسلمين, ومسلمات, لأنها موضوعة للعشرة فما دونها فهي موضوعة لما فوق العشرة فيصدق عليها أنها موضوعة لاثنين فصاعدا من غير حصر, لأنها تذهب لغير حصر. وقوله: لاثنين, لا يأتي الموضوع للزيادة, فالموضوع للزيادة أيضاً يتناوله اللفظ, كقول الموكل لوكيله: بع بدرهمين فصاعدا, فإنه كما يتناول البيع بدرهمين, كذلك هاهنا يتناول الموضوع للزائد غير محصور وهو جموع الكثرة, فيكون الحد غير مانع, فيبطل. ومنها ألفاظ نكرات مفردات وهي وضعت لما فوق الاثنين, مع أنها ليست للعموم إجماعاً, مع صدق الحد عليها نحو كثير ومتكثر, وعدد, فإن عدداً يدل على شيئين فصاعدا من غير حصر.

ومنها نوع آخر من هذا النمط نحو طائفة, يتناول الثلاثة فصاعداً من غير حصر, وكذلك فرقة, ورهط, وما أشبه ذلك. فظهر أن هذه الحدود غير وافية بالمقصود, مع أنها للمتأخرين, وقد احترزوا فيها غاية الاحتراز, فما ظنك بغيرها. وإذا حاولت حد العموم بما ذكرته لك من التلخيص المتقدم, وجدته منطبقا جامعا ما يرد عليه سؤال الاشتراك ألبته. أما سؤال الاشتراك فلا يرد عليه, لأن المسمى واحد وهو القدر المشترك مع وصف التتبع, والمجموع هو مسماه لاغير, والاشتراك إنما يجيء من تعدد المسمى, فحيث لا تعدد لا اشتراك. وأما سؤال الإطلاق والاقتصار على فرد واحد, فيندفع أيضا بوصف التتابع, فإنه مناقض للاقتصار. وأما سؤال امتناع الاستدلال باللفظ على ثبوت حكمه لفرد من أفراده, فمندفع أيضا بسبب أنه إنما ينشأ عن وضع اللفظ المجموع المركب من

الأفراد, وها هنا اللفظ موضوع للقدر المشترك بين الأفراد, وهو المجموع المركب من القيدين المتقدم ذكرهما, لا لمجموع الأفراد. والأسئلة وإن كثرت التفاسير والتشكيكات لا تخرج عن هذه الثلاثة الأسئلة وهذا الحد سالم عنها, فتسلم مطلقًا وهو المطلوب, فينبغي أن يعتمد على هذا الحد, ويعلم مقدار تلخيصه وسلامته عن الشكوك.

الباب السادس في الفرق بين العام والمطلق

الباب السادس في الفرق بين العام والمطلق قال الإمام فخر الدين- رحمه الله تعالى-: اعلم أن كل شيء فله حقيقة، فكل أمر يكون المفهوم منه غير المفهوم من تلك الحقيقة كان لا محالة أمرا آخر (سوى تلك الحقيقة) سواء كان ذلك المغاير لازما لتلك الحقيقة أو مفارقا لها، وسواء كان سلبا أو إيجابا، فالإنسان من حيث إنه إنسان ليس إلا أنه إنسان، وأما أنه واحد أو لا واحد أو كثير أو لا كثير، فكل ذلك مفهومات منفصلة عن الإنسان من حيث إنه إنسان، وإن كنا نقطع بأن مفهوم الإنسان لا ينفك عن كونه واحدا (أو لا واحدا). وإذا عرفت هذا فتقول: اللفظ الدال على (الحقيقة من حيث هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شيء من قيود الحقيقة سلبا كان ذلك القيد أو إيجابا فهو المطلق).

ورود أسئلة على هذا التعريف

(وأما اللفظ الدال على) تلك الحقيقة مع قيد الكثرة، فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما بعدها فهو اسم للعدد، وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام. قال: وبهذا التحقيق ظهر خطأ قول من قال: المطلق هو الدال على واحد لا بعينه، فإن كونه واحداً وغير معين، قيدان زائدان على الماهية. هذا هو كلام الإمام فخر الدين- رحمه الله- وهو في غاية التلخيص والتحقيق بالنسبة إلى غيره ومع ذلك فعليه أسئلة: السؤال الأول: أن قوله: اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي من غير أن تكون فيها دلالة على شيء من قيودها من المطلق، مشكل من جهة أن الحقيقة تطلق ويراد بها الموجود من حيث هو موجود، الذي لا يعتبر فيه قيد ألبتة، وعلى هذا التقدير يختص المطلق باللفظ الدال على المعنى البسيط، فيكون الحد غير جامع؛ لخروج المطلقات التي وضعت للمركبات، نحو: إنسان، وفرس، وغيرها من أسماء الأنواع والأجناس مع أنها طلقات، ويطلق أيضا لفظ الحقيقة ويراد به مسمى اللفظ كيف كان بسيطا أو مركبا، وعلى هذا التقدير

يكون الحد جامعا، لكنه لما لم يتعرض للتصريح لهذا القسم، بل أتى بلفظ محتمل، بل هو ظاهر في الأول دون الثاني فلا جرم كان الحد غير ملخص، ثم إنه قال: من غير أن يكون فيه دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة، مع أن لفظ الحيوان دال على قيد في النامي وهو الحساس، فإن الحيوان هو مركب من جنس وهو النامي، وفصل وهو الحساس، والفصل هو قيد في الجنس يركب من مجموعهما النوع؛ (إذا) أن لفظ حيوان مطلق إجماعا، وهو دال على قيد من قيود حقيقة النامي، وكذلك كل لفظ موضوع لجنس متوسط (بقيد) كالإنسان، فإنه مركب من الحيوان والناطق، فالناطق فصله، وهو قيد لحق الحيوان، فصار من مجموعهما نوع الإنسان، فالناطق فصله، وهو قيد لحق الحيوان، فصار من مجموعها نوع الإنسان، فتخرج هذه الألفاظ كلها من الحد حتى يصرح بقوله: القيود الخارجة عن مسمى اللفظ، حتى يخرج القيد الداخل في مسمى اللفظ لجميع الفصول، لكنه لم يصرح به، بل اقتصر على إخراج مطلق القيد كيف كان، فكان حده غير جامع. السؤال الثاني: أن الألفاظ الموضوعة بإزاء الحقائق البسائط أو المركبة قد

السؤال الثاني: أن الألفاظ الموضوعة بإزاء الحقائق البسائط أو المركبة قد يكون لها لوازم بينة لا تفارقها في الذهن

يكون لها لوازم بينة لا تفارقها في الذهن، فيدل ذلك اللفظ على تلك القيود دلالة الالتزام وهي مطلقة إجماعا، فاشتراطه عدم الدلالة مطلقا ينفي دلالة المطابقة، والتضمن، والالتزام، فتخرج هذه الألفاظ من الحد، فلا يكون الحد جامعا سواء أراد مسمى الحقيقة البسيطة، أو أراد مسمى اللفظ كيف كان. السؤال الثالث: على قوله: اللفظ الدال على الحقيقة- مع قيد- كثرة معينة بحث لا يتناول ما بعدها هو اسم العدد، نحو العشرة، وسائر أسماء الأعداد، إنما وضع لمرتبة معينة من العدد المركب من وحدات محصورة/ مع قطع النظر عن المعدودات، فالعدد غير المعدود، وهو في نفسه معلوم عند العقل، ويتصور مفهوم العشرة مثلا تارة عارضة للثياب وتارة للدراهم وتارة

السؤال الرابع: انتقاض ما ذكره في اسم العدد بجموع القلة وجموع الكثرة

للرجال، فإن عرضت لأحدها قيل حينئذ: عشرة دراهم، وعشرة ثياب، وعشرة رجال، فاللفظ الدال على العدد في هذه المثل هي عشرة، واللفظ الدال على المعدود الذي عرض له العدد وهو رجال أو ثياب، ولا دلالة للفظ العشرة على الرجال ولا (على) غيرها من أجناس المعدودات، كما أن لفظ: رجال لا يدل على العشرة ولا غيرها من مراتب العدد، فاللفظ الدال على العدد واللفظ الدال على المعدود متباينان لم يدخل مسمى أحدهما في مسمى الآخر، ولا يشعر بخصوصيته ألبتة، بل مسميات الأعداد كيفيات تعرض للمعدودات بطريق الاتفاق لا بطريق اللزوم. وقوله: اسم العدد هو الموضوع للماهية بقيد كثرة معينة، جمع فيه بين الماهية التي هي المعدود والكثرة المعينة التي هي العدد، وجعل كل واحد منهما جزء مسمى لفظ العدد، وأن اسم العدد يدل على المعدود المعين تضمنا، وليس كذلك، بل لا دلالة له ألبتة على المعدود أصلا، بل كان ينبغي له أن يقول: اللفظ الدال على الكثرة المعينة التي لا يتناولها ما بعدها هو اسم العدد، فيخص تلك الكثرة بالوضع دون ما تعرض له. السؤال الرابع: أن جميع ما ذكره في اسم العدد ينتقض بجموع القلة،

وقد تقدم ضبط ذلك في البيت المنظوم مع جمع السلامة، فإنه يدل على كثرة معينة وهي الثلاثة أو الاثنان- على الخلاف في أقل الجمع- ولا يتناول ما بعدها، فينبغي أن يكون على مقتضى قوله: من أسماء الأعداد، وليس كذلك. وكذلك جموع الكثرة: أقل مراتبها أحد عشر بالنقل عن النحاة، فهي تدل على كثرة معينة وهي الأحد عشر، ولم يتناول ما بعدها، فإن المفهوم م التناول الدلالة، ولفظ جمع الكثرة نحو: رجال لا دلالة على الزائد/ على الأحد عشر، بل تحتمله، والاحتمال غير الدلالة والتناول، فإن اللفظ الدال على الجنس كحيوان غير دال على شيء، من أنواعه وأشخاصه، مع احتماله لكل نوع من أنواع وكل شخص من أشخاصه، ولا يقول أحد: إن اللفظ الدال على الجنس كحيوان غير دال على شيء من أنواعه وأشخاصه، مع احتماله لكل نوع من أنواعه وكل شخص من أشخاصه، ولا يقول أحد: إن اللفظ الدال على الأعم دال على الأخص ولا يتناوله، بل كان ينبغي أن يقول في اسم العدد هو: اللفظ الدال على رتبة معينة من الكثرة، بحيث لا يحتمل أقل منها ولا أكثر، فإن أسماء الأعداد نصوص لا تحتمل المجاز على ما قاله الجمهور، فينتفي عنها الاحتمال، ولا يقتصر على نفي التناول الذي هو الدلالة.

السؤال الخامس: أن الكثرة في العام معينة بسلب النهاية وليست غير معينة كما يقول

السؤال الخامس: على قوله في العام: إنه اللف الدال على الماهية مع كثرة غير معينة، وأراد بقوله: غير معينة: الاحتراز عن أسماء الأعداد. ويرد عليه: أن الكثرة في العام معينة وتعينها يسلب النهاية، فإن العام مسلوب النهاية، وسلب النهاية نوع من التعيين، فسلب مطلق التعيين ينافيه، فيخرج جميع أفراد صيغ العموم من حد العموم فيكون العموم باطلا، ثم إن اللفظ الذي يتخيل وضعه للماهية بقيد كثرة غير متناهية يصدق بطريقتين: أحدهما: أن يكون موضعا للجموع، أي: الكل من حيث هو كل، ويكون أفراد (هذا) الكل غير متناهية، وبهذا القدر (ساوى) العدد، بأن أفراد العدد (غير) متناهية. وثانيهما: أن يكون موضوعا له بمعنى الكلية، وهو الذي ينطبق على معنى العموم و (قد) تقدم الفرق بين الكل والكلية، وأن الكل لا يمكن أن يكون موضوعا للعموم، مع أنه مندرج في عبارته وهو ليس للعموم، فيرد عليه. ويرد عليه أيضا: أن الواضع لو قال: وضعت هذه الصيغة للماهية بقيد كثرة لا تختص برتبة معينة، ولا تخص مرتبة من الأعداد صدق حده فيها،

وصدقت هي في أي مرتبة كانت من العدد؛ لأن الوضع الذي لا يختص هو أعم من الذي يختص، والأعم يستلزم الأخص، فلا يستلزم هذه الصيغة مرتبة معينة من العدد، فتصدق حينئذ هذه الصيغة باثنين، لأن ما ليس بمختص يلزمه أدنى الترتب، وهو الاثنان/ ولذلك قال العلماء: أقل مراتب الجمع اثنان أو ثلاثة على الخلاف، لأن هذين الرتبتين أدنى المراتب فاستلزمها مسمى اللفظ، ويرد عليه هذه الصيغة لاندراجها في حده.

فجميع ما رأيته وقع للفضلاء في ضبط صيغ العموم لا يصح منه شيء؛ لهذه الأمثلة وأمثالها مما تقدم في بيان حقيقة العموم وحده، فينبغي التعويل

الفرق بين المطلق والمعرفة والنكرة واسم العدد والعام عند تاج الدين الأرموي

على ما تقدم هناك في ضبط العموم: بأنه اللفظ الدال على قدر مشترك بوصف يتبعه بحكمه في حالة تنبيه: زاد تاج الدين الأرموي في اختصاره في كتابه الحاصل فقال: اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي: المطلق، والدال عليها مع وحدة معينة: المعرفة، ومع وحدة غير معينة هو: النكرة، ومع وحدات معدودة هو: اسم العدد، ومع كل جزئياتها هو العام، ويرد عليه مع تلك الأسئلة: السؤال السادس: وهو أنه قوله مع قوله: وحدة معينة المعرفة، لا يتجه؛ لأنه إن أراد بالتعيين التعيين بالشخص، لم يكن حده جامعا لجميع المعارف،

فإنه ليس في المعارف ما وضع لمعين بالشخص إلا علم الشخص نحو: زيد، وأما علم الجنس نحو: ثعالة علم جنس الثعلب، وأما علم (جنس الإنسان) ونحوه من أعلام الأجناس- كما هو مقرر في كتب النحاة- والمضمرات، والمبهمات، والمعرف باللام، والإضافة، لم يندرج في حده؛ لأنها معارف بإجماع النحاة، مع أنها لم توضع لمعين بالشخص، (مع أن الإمام فخر الدين وجمهور النحاة قالوا: المضمرات موضوع لمعين بالشخص) وليس بصواب؛ لأنه لو كان موضوعا لشخص معين لما صدق على شخص آخر إلا بوضع آخر، وليس كذلك، فدل ذلك على أنها لأمور كلية وبسطته في شرح المحصول. وأما بقية المعارف فلم يقل أحد إنها موضوعة لجزئي مشخص، فخرجت

السؤال السابع: عن قوله: إن كان اللفظ موضوعا لوحدة غير معينة فهو النكرة

من حده مع أنها معارف، هذا إن أراد بالتعيين التعيين بالشخص. وإن أراد التعيين بالنوع نحو: الإنسان، أو الجنس نحو: الحيوان، أو الصفة نحو: ضارب أو عالم اندرجت النكرات في هذه، فإنها كلها موضوعة لمعين بأحد هذه الأمور كقولنا: إنسان، حيوان، طير، مؤمن، فإن كل لفظ من هذه الألفاظ النكرات يتناول حقيقة/ معينة بنوعها، أو جنسها، أو صفتها، فعلم أنه إن أراد بالوحدة والتعيين الشخص أو ما هو أعم منه، فإنه لا يستقيم لفظه. السؤال السابع: على قوله: إن كان اللفظ موضوعا لوحدة غير معينة فهو النكرة ففرق بين المطلق وبين النكرة، وهذا يقتضي أن يكون المطلق أعم من النكرة وأنه جزء النكرة، فإن الماهية من حيث هي هي جزء الماهية بقيد وحدة غير معينة، مع أن المعلوم من مذاهب العلماء: أن النكرة ما عدا المعارف الخمسة وهي: المضمرات، والمبهمات، وأسماء الأعلام، وما عرف باللام، وما أضيف إلى واحد من هذه الأربعة، فكل شيء يقول الأصوليون: إنه مطلق، يقول النحاة: إنه نكرة، نحو قوله تعالى: {فتحرير رقبة} فإن (الرقبة) في الآية مطلقة إجماعا، وكل شيء يقول النحاة: إنه نكرة، يقول الأصوليون: إنه مطلق، وإن الأمر به يتأدى بفرد منه فكل نكرة في سياق الإثبات مطلق عند الأصوليين، فما أعلم موضعا ولا لفظا من ألفاظ النكرات يختلف فيها النحاة والأصوليون، بل أسماء الأجناس كلها في سياق الثبوت هي نكرات عند

النحاة، ومطلقات عند الأصوليين. والتعرض للفرق في الاصطلاحين عسر، باعتبار الواقع من الاصطلاح، أما باعتبار الغرض والتصوير فممكن، غير أن البحث إنما وقع في هذا المكان عن الواقع من الاصطلاح، ما هو؟ تنبيه: في لغة العرب ثلاثة ألفاظ ينبغي النظر فيها:

أحدها: المصادر المحدودة نحو: ضربة، وقومة، ونحوهما، فإن هذا القبيل من الألفاظ موضوع لماهية المصدر بقيد الوحدة، كذلك نص عليه النحاة، مع أن النحاة يسمونه نكرة، (ولو ورد) قول الشارع: اضربه ضربة، لقال الأصوليون: المأمور به مطلق، مع أنه لفظ موضوع للماهية بقيد الوحدة؛ بخلاف قولنا: ماء، ومال، وذهب، وفضة، ونحوهما، فإنه (لا إشعار) له بالوحدة ألبتة. وثانيهما: أن ألفاظ النكرات من أسماء الأجناس/ على قسمين: منها ما يصدق اسم لفظ الجنس على القليل والكثير من ذلك الجنس نحو: مال، وماء، وذهب، وفضة، فإن قليل الفضة يقال لها: فضة، وكذلك كثيرها، وكذلك كثير الماء والمال والذهب، ولا يقال لكثير الدراهم درهم، وإن قيل لها: فضة، ولا لكثير الدنانير: دينار، وإن قيل له: ذهب، ولا لكثير الرجال: رجل، فهذه الألفاظ من أسماء الأجناس التي لا تصدق على الكثير، ينبغي أن يقال: إنها موضوعة للماهية بقيد الوحدة أيضا.

وثالثهما: قول العرب: لا رجل في الدار- بالرفع- قال النحاة: إنه موضوع للماهية بقيد الوحدة، ولذلك يقولون: لا رجل في الدار بل اثنان. فهذه (الثلاثة الألفاظ) موضوعة في لسان العرب للماهية بقيد الوحدة، فعلى ت قرير الشيخ تاج الدين الأرموي: ما يكون لنا نكرات إلا هذه الأجناس الثلاثة من الألفاظ، وهو خلاف إجماع النحاة؛ لأنهم يقولون: ماء، ومال، وضرب، وقيام، نكرات، وإن كانت هذه الألفاظ موضوعة للماهية من حيث هي تلك الماهية، وليست الوحدة داخلة في المسمى ألبتة، فهذا النظر وهذا التلخيص يحقق عندك أمورا: أحدها: قوة السؤال على تاج الدين في تعرضه للفرق بين المطلق والنكرة. وثانيهما: أنا إذا قلنا: اسم الجنس وإذا أضيف يعم، ينبغي أن يختص باسم الجنس الصالح للكثير، فمع صلاحيته للكثير يقع ذلك الصالح له، فيعم حينئذ، وأما ما لا يتناول الماهية إلا بقيد الوحدة، فإن ذلك اللفظ إذا أضيف ينبغي ألا يعم؛ لوجود المنافي فيه وهو (قيد الوحدة)، كقولنا: عبدي حر، وامرأتي طالق، لا يفهم أحد من هذين اللفظين العموم في العبيد ولا في

النساء، بخلاف قولنا: مالي صدقة، وماء البحر طهور، فإنه يتبادر (إلى الذهن) العموم في جميع أفراد المال وأفراد الماء، مع أن الأصوليين أطلقوا القول بأن اسم الجنس إذا أضيف يعم مطلقا، ولم يفصلوا، وينبغي التفصيل المذكور. وثالثها: أن قوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن ماء البحر: أنتوضأ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، حمله العلماء- رضي الله عنهم- على العموم في الماء والميتة، ومقتضى ما تقدم أنه يعم في (لفظ) الماء فقط؛ لأن لفظ الماء يصدق على الكثير/ بخلاف الميتة، لا يصدق على كثير الميتات أنها ميتة، كما لا يصدق على كثير من النسوة أنهن امرأة.

تنبيه: الإطلاق والتقييد من باب النسب

تنبيه: كل مقيد يمكن أن يكون مطلقا بالنسبة إلى لفظ آخر (وكل مطلق يمكن أن يكون مقيدا بالنسبة إلى لفظ آخر)، فيكون الإطلاق والتقييد من باب النسب والإضافات، وهذا كما تقول لفظ: (جسم) مطلق (فإذا قلت: جسم نام، كان مقيدا، وإذا قلت: نام، كان مطلقا، مع أنه مدلول ذلك المقيد بعينه، وكذلك إذا قلنا: إنسان، هو مطلق)، فإذا قلنا: هو حيوان ناطق، كان مقيدا باعتبار هذه الصيغة، مع أنه مدلول ذلك المطلق، وكذلك لك أن تضيف في كل مطلق بأن تعبر عنه بعبارة أخرى فيصير مقيدا، وفي كل مقيد فيعبر عنه بعبارة أخرى فيكون مطلقا على هذا المنوال، فتصير المعاني أحد الألفاظ فيها مطلق والآخر مقيد. والضابط: أنك إذا أضفت لمسمى اللفظ معنى آخر صار مقيدا بذلك المعنى الآخر، ومتى عمدت إلى مطلق فصلت أجزاؤه وعبرت عنها بلفظين صار مقيدا، فاعلم ذلك. تنبيه: اعلم أن الذي أختاره في الفرق بين هذه الحقائق أن: العام هو: الموضوع لمعنى كلي بوصف تتبعه في محاله بحكمه، كما تقدم تحريره.

والمطلق هو: الموضوع لمعنى كلي هو كمال ذلك اللفظ المفرد. فقولي: (الموضوع) ولم أقل: الدال؛ احترازا عن اللفظ الموضوع لمعنى كلي ولآخر بطريق الاشتراك نحو: القرء، القين، فإنه إذا قيل: اعتدي بقرء، كان ذلك مطلقا في أحد الجنسين، فتعتد بمطلق الطهر أو مطلق الحيض مع أنه غير دال، فلو اشترطت الدلالة، خرجت المطلقات المجملة التي لا دلالة فيها، فقلت: (الموضوع)، ليندرج المجمل والدال معا (فيكون الحد جامعا). وقولي: (لمعنى كلي) احترازا من الأعلام نحو: زيد، فإنه في الاصطلاح ليس من المطلقات بل يخصون المطلقات بالمعاني الكلية، ولذلك لا يقولون: زيد الصالح مقيد، وإن كان (قيد زيد) على مسمى اللفظ قيد زائد، وإنما يقولون ذلك في الكلي إذا قيد نحو: رقبة/ مؤمنة، وهو يرد على الإمام في حده، بسبب أن لفظ زيد دال على حقيقة من حيث هي هي فيتناوله حده، مع أنه غير مطلق في الاصطلاح.

معنى اسم العدد عند المؤلف

وقولي: هو كمال مسمى ذلك المفرد، احترازا من المعنى الكلي الذي دل عليه اللفظ المقيد، فإن قولنا: رقبة مؤمنة، مجموع هذا اللفظ دال على مجموع مركب من (الرقبة) و (الإيمان) وذلك المجموع معنى الكلي، مع أنه مقيد ليس بمطلق، فهذا الحد ينطبق على المطلق في الاصطلاح. واسم العدد هو: الموضوع لمرتبة معينة من الكم المنفصل. فقولي: (الموضوع) لمرتبة معينة احترازا من لفظ العدد الذي هو المعين والدال، فإن سماه القدر المشترك بين جميع الأعداد، بخلاف عشرة، وخمسة، ونحوهما من أسماء الأعداد، فإنها لمرتبة معينة لا تتعداها لما فوقها ولا لما تحتها، وهذا هو اسم العدد المقصود ها هنا، وأما لفظ: (عدد) فمن أسماء الأجناس لا من أسماء الأعداد؛ لأن أسماء الأعداد يريدون بها (أسماء مراتب) العدد، ولفظ العدد اسم لجنس تلك المراتب لا اسم لمرتبة معينة منها. وقوليك من الكم (المنفصل: احترازا من الكم المتصل، وذلك أن

تعريف النكرة عند المؤلف

الكم) الذي يشتمل على المساحات فإنها مقادير معدودة، فإذا مسحنا الخشبة، وقلنا: هي عشرة أذرع (فإنا نتصور) منها رتبا ومقادير مضموما بعضها إلى بعض، غير أن تلك المقادير متصلة بعضها ببعض، فموضع الوصل بين المقادير هو حد مشترك بينها فهي كم متصل، وأما أفراد العشرة، فإنا لا نتصور أفراداً متصلة كاتصال مقادير الخشبة، بل نتصورها مقادير متباينة، فهي كم منفصل، فهذا هو اصطلاح أرباب هذا الشأن، يسمون العدد كما منفصلا والمساحة كما متصلا، فلذلك احترزت في اسم العدد عن الكم المتصل بقولي: (كم منفصل)، واشتقاق الكم المنفصل والكم المتصل (من قول العرب: كم مال ملكت؟ فـ (كم) في اللغة اسم للعدد والمقادير كانت استفهامية أو خبرية، فاشتق أرباب المعقول منها (الكم المنفصل) و (الكم المتصل)، وفي تشديد/ هذه الياء قولان هما لغتان فيها: إما للعرب إن كانت هذه الألفاظ نطق بها قديما، أو لأرباب المعقول، بأن لم تسمع إلا منهم فمن بعدهم. والنكرة عندي: اسم جنس كلي مشترك فيه بين أشياء بلفظ ظاهر لا مبهم

فقولي: (كلي) احترازا من الأعلام، فإنها موضوعة لجزئية وهي معارف، فخرجت باشتراك الكل. وقولي: (بلفظ ظاهر) احترازا من المضمرات، فإنها موضوعة لمعاني كلية، وليست نكرات، بل أعرف المعارف على الصحيح، فإن لفظ (أنا) موضوع لمفهوم المتكلم بها؛ إذ لو كان موضوعا لجزئي كما توهمه الجمهور (لما صدقت) على شخص آخر، فلما صدقت على ما لا يتناهى من المتكلمين من غير اشتراك في اللفظ دل على أنها موضوعة لقدر مشترك بينها، فهو مفهوم المتكلم بها، وكذلك لفظ (أنت) موضوع للمخاطب بها، وهو معنى كلي مشترك فيه بين جميع المخاطبين، ولفظ (هو) موضوع لمعنى الغائب، وهو قدر مشترك فيه بين الغائبين، وكذلك بقية المضمرات موضوعة لمعنى كلي بهذا التقرير، وفي هذا المقام مباحث وأسئلة وأجوبة من أرادها راجع شرح المحصول. فلو اقتصرت على أن المسمى الكلي، لاندرجت المضمرات في حد النكرات، وهي معارف ليست نكرات فتعين إخراجها، فالتباين عندي واقع بين النكرة ومسماه كلي، فإن الكلي أعم من النكرة بدليل المضمرات، لا بين النكرات والمطلقات كما قاله تاج الدين فيما تقدم من كلامه. وخرج بقولي: (معنى كلي) أيضا المعارف التي هي المعرفة باللام، فإنها

معنى المعرفة عنده

للعموم، فسماها كلية لا كلي، وقد تقدم الفرق بينهما، وخرج أيضا المضاف؛ لأنه للعموم كالمعرف باللام، ولم يبق من المعارف إلا أسماء الإشارة، وقد خرجت بقولي: (لا مبهم) فصار حد النكرة منطبقا عليها. وأما المعرفة فهي: اللفظ الموضوع لمعنى جزئي أو كلي لا يتردد الذهن فيه، أو كلية، فالجزئي كالأعلام، والكلي كالأسماء المبهمة نحو: هذا، وذاك، وأولئك، فإنها موضوعة لمعنى كلي وهو مفهوم المشار إليه، لكنها لما لم تستعمل إلا مع الإشارة/ لم يقع التردد عند العقل في موارد ذلك المسمى، ولذلك سميت معارف، فخرجت النكرة بهذا القيد. وقولي: (أو كلية) ليندرج المعرف باللام والإضافة، فإنهما موضوعان للعموم، فهي كلية والنكرات لكلي فافترقا، فصار هذا الحد منطبقا على المعرفة مع اختلاف أنواعها. فإن قلت: المعرفة بلام العهد معرفة وليس للكلية، بل شخص معين والذي والتي يوصلان بصلة لا يتعدى شخصا معينا، وهي معارف وليست للكلية بل للكلي، وليس في حد ما يخرجها، وإذا قلنا: غلام زيد، أو مال زيد، فإنه معرفة وليس للكلية، فلم يندرج (في الحد). قلت: أما لام العهد فمجاز عند الفقهاء وجميع المعممين بها، وهي حقيقة في العموم فقط، والحدود إنما تتناول الحقائق ولا ترد المجازات عليها

نقوضا، كما لا يرد الإنسان المصور في الحائط نقضا على حد الإنسان؛ لأنه مجاز. فأما الذي والتي ونحوهما: فإنها موضوعان لكل من اتصف بتلك الصفة على وجه الشمول. غاية ما في الباب: أن الواقع من المتصف فرد معين وكون الواقع كذلك لا يمنع أن الصيغة للعموم، فإن صيغة (المشركين) للعموم، وقد لا يكون الواقع منها إلا واحدا ولا يخل ذلك بالعموم، فالحكم الواقع غير الحكم الذي وقع به العموم، وسيتضح ذلك إن شاء الله تعالى في باب خصائص العموم في كون (من) الاستفهامية للعموم، في قولك: من في الدار؟ فيقال لك: زيد، فيكون جوابا مطابقا، مع أن (زيد) لا يطابق العموم، فكيف يجمع بين كونها للعموم مع مطابقة (زيد) في الجواب؟ وسيأتي الجواب عن هذا السؤال، إن شاء الله تعالى فيتضح به الجواب عن الموصولات. أما (غلام زيد) و (مال زيد) فهو اسم جنس أضيف، فيعم - أيضا- على ما هو منصوص للأصوليين والواقع منه فرد، مع أن الصيغة أصل وضعها للعموم، وقد تقدم أنه لا مناقضة بين العموم وكون الواقع ليس عاما بل لا يقع شيء من العموم ألبتة، فقد يقال لك، من في الدار؟ فتقول: ليس في الدار أحد، وهو جواب مطابق إجماعا، فظهر اندفاع هذه الأسئلة وصحة الحد وهو/ المطلوب.

فائدة عظيمة: فيما وضع للجزئي والكلي في آن واحد

فائدة عظيمة بقيت من هذا الباب وهي متعلقة به، من باب ما وضع للجزئي والكلي: وهي لفظ وضع لجزئي وذلك الجزئي بعينه هو كلي، وكون الشيء جزئيا كليا يقتضي اجتماع النقيضين، فإن الكلي هو: الذي لا يمنع تصوره من الشركة، والجزئي: هو الذي يمنع تصوره من الشركة، والمنع وعدمه نقيضان، فمن العجائب اجتماعهما في مسمى واحد. (وبيان ذلك): أنه علم الجنس وكان الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي لما ورد البلاد يدعي أن أحدا لا يعرف حقيقة علم الجنس إلا هو والظاهر صدقه، فإنني لم أر أحدا يحققه إلا هو. ووجه الإشكال فيه- أيضا- مضافا لما تقدم: أن أسامة مثلا الذي هو علم جنس الأسد يصدق على كل أسد، واسم الجنس الذي هو أسد يصدق على كل أسد، فكيف يقال: إن أسدا اسم جنس وأسامة علم الجنس، مع استوائها في أن كل واحد منهما موضوع لمعنى كلي، وأن كل واحد منهما يصدق على ما لا نهاية له؟ !

فإن قلت: الفرق بينهما أن العرب صرفت لفظ (أسد) ولا صرفت لفظ أسامة، وليس المانع من الصرف إلا العملية والتأنيث، فدل ذلك على أن (أسامة) علم، فهذا هو الفرق. قلت: المانع من الصرف من آثار العلمية، (فهب أنا استدللنا بالأثر على الأثر، لكن يمكننا أن نتصرف العلمية، والفرق بين ما هو مساء للفظ الأسد الذي هو نكرة، والمساوي للنكرة نكرة، فلا بد من تلخيص نظهر به الفرق بين اسم الجنس ولفظ علم الجنس بحيث يكون واضحا موافقا للقواعد. ووجه التحرير في ذلك أن نقول: الوضع فرع التصور، فلا يضع الواضع لفظا لمعنى حتى يتصور ذلك المعنى قبل (ذلك) الوضع، فإذا استحضر صورة (الأسد)، - مثلا- ليضع لها، فتلك الصورة الحاصلة في ذهنه فرد مشخص من أفراد تصور (الأسد) ويدلك على ذلك أنه قد يذهل عن هذه الصورة، ثم يتصور الأسد مرة أخرى، فتكون هذه الصورة الثانية فردا آخر مثل الأولى، وكذلك دائما يتكرر على ذهنه/ صورة (الأسد) فردا بعد فرد، وكذلك يكون في ذهن غيره صورة (الأسد) في الزمن الذي يكون هو متصورا (للأسد)، فيكون الذي في ذهن الواضع والذي في ذهن غيره

صورتين متماثلتين، وهما فردان من أفراد تصور (الأسد)، فعلم أن الحاضر في ذهن الواضع حالة الوضع صورة مشخصة من أفراد تصور (الأسد)، وأنها مشتملة على (تصور) مطلق صورة (الأسد)؛ لضرورة اشتمال كل شخص من نوع على ذلك النوع، فهذه الصورة- حينئذ- لها خصوص وهو تشخصها وكونها هذه الصورة ولها عموم، وهو نوعها، وكونه مطلق الصورة إذا تصورت في هذه الصورة ولها عموم، وهو نوعها، وكونه مطلق الصورة إذا تصورت في هذه الصورة جهة عموم وجهة خصوص، فللواضع أن يضع (لها حينئذ) من جهة خصوصها، كما يضع لفظ (زيد) لشخص (زيد) في الخارج، له أن يضع لها من جهة عمومها، كما وضع لفظ (الإنسان) للقدر المشترك من (زيد) و (عمرو) فإن وضع لها من جهة عمومها، فذلك اللفظ الموضوع حينئذ هو اسم جنس نحو (أسد)، إن وضع لها من جهة كونها تلك الصورة الخاصة، ويضم الخصوص للعموم، فهذا اللفظ الموضوع حينئذ هو علم الجنس نحو (أسامة). فيكون الفرق بين علم الجنس واسم الجنس: أن اسم الجنس: موضوع للقدر المشترك (بين الصور الذهنية، مع قطع النظر عن الخصوص، وعلم الجنس: هو موضوع للقدر المشترك) بقيد الخصوص الذهني الذي هو التشخيص في الذهن.

الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص

ويكون الفرق بين علم الجنس وعلم الشخص: أن علم الشخص: هو الموضوع المشترك بقيد الشخص (الخارجي، وعلم الجنس: هو الموضوع المشترك بقيد التشخيص) الذهني. وكان هذا التقرير في غاية الجودة من جهة أن التشخص والخصوص لم يفارق العملية، لا في علم الشخص ولا في علم الجنس، فصار محل الإشكال الذي هو علم الجنس في غاية المشابهة للجلي الواضح المعلوم، الذي هو اسم الجنس، وأبعد أحوال المجهول (أن تبين) أنه مساو للعموم وها هنا كذلك، فتأمله. فإن قلت: إذا كان علم الجنس موضوعا لجزئي مشخص، وهو تلك الصورة، فكيف يمكن أن يقال بعد ذلك، إنه يصدق على كل (أسد)؟ فإن الجزئي لا يقبل الشركة، وهذا جزئي فلا يقبل الشركة، أو يقال: إنه يقبل الشركة/ فلا يصح ما قلتموه إنه وضع لجزئي، فالجمع بين كونه جزئيا ويقبل الشركة لا سبيل إليه، فهذا إشكال قوي لا بد من الجواب عنه، ليتحصل المقصود من التقرير السابق. قلت: الصورة الذهنية إنما حصلت في الذهن بعد التجريد من الجزئيات،

فصدقت على الجزئيات. بيانه: أنا إذا جردنا (زيدا) أيضا عن مشخصاته، لم يبق في ذهننا إلا القدر المشترك الذي هو الحيوان الناطق، فإذا جردنا (عمرا) أيضا عن مشخصاته لم يبق في ذهننا إلا الصورة الأولى، فكذلك تجريد بقية الأشخاص، وهذه الصورة الجزئية لما كانت إنما حصلت في الذهن من تجريد (زيد) و) عمرو) وجب أن يصدق على (زيد) و) عمرو)؛ لأنها مجردة منهما، وكذلك الكلام في غيرهما؛ لأن المجرد عن الشيء لا بد أن يصدق على الشخص المجرد بالضرورة، وإلا لما يكن مجرد منه بل مباينا له، فحصل - حينئذ- لهذه الصورة: أنها كلية من جهة صدقها على كثيرين، وأنها جزئية من جهة أنها فرد من أفراد تصور هذا النوع، وتعاقب أمثالها بعدها بسبب تخلل المتعقلات فاجتمع الجزئي والكلي في شيء واحد، وكان الجزئي صادقا على كثيرين، بل ما لا يتناهى وهو جزئي، فكان اللفظ الواحد موضوعا لشيء واحد وهو جزئي، وذلك الجزئي بعينه هو كلي، فهو من غرائب المعقولات وعجائب الموضوعات، ولا تجد له نظيرا من نوعه في الموضوعات، بل كل موضوع في لسان العرب إما لجزئي محض كعلم الشخص، أو كلي محض كاسم الجنس واسم العدد والمضمرات وغيرها من المعارف، كما تقدم أنها موضوعة لكليات.

فإن قلت: فصيغة العموم هي عندك (موضوعة) لكلي أو جزئي، فعلى الأول: يلزم أن تكون مطلقة، وليس كذلك، وعلى الثاني: يلزم أن يكون علما، وليس كذلك، فيتعين أن صيغة العموم قسم آخر، ويبطل ما ذكرته من حصر الموضوعات في الجزئي والكلي. قلت: نختار أن صيغة العموم موضوعة لجزئي، بناء على قول الكل من أرباب الاصطلاح/ أن الجزئي هو: الذي يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، ونحن إذا تصورنا كلية أفراد الإنسان أو غيره حتى لا يبقى فرد من ذلك النوع، ونحن إذا تصورنا كلية أفراد الإنسان أو غيره حتى لا يبقى فرد من ذلك النوع، وحصرت هذه الكلية في ذهننا مستوعبة استحال أن يقدر على فرد آخر منها، وإذا استحال تثنيتها وجمعها امتنع قبولها للشركة فقد تصور معناها مانعا من قبول الشركة، وهذا هو حد الجزئي، فيكون جزئية فثبت حصر الموضوعات إما لجزئي وإما لكلي، ولم يوضع لهما معا إلا علم الجنس.

وكذلك اسم العدد الذي هو (عشرة) - مثلا- وضع لمرتبة معينة من العدد نجدها تارة عارضة للثياب، وتارة للدنانير، وتارة لغيرهما، وهذا اللفظ الذي هو لفظ (العشرة) موضوع للقدر المشترك بين هذه العوارض.

الباب السابع في الفرق بين العموم اللفظي والعموم المعنوي

الباب السابع في الفرق بين العموم اللفظي والعموم المعنوي اعلم أن العموم اللفظي عكس العموم المعنوي في أحكام النفي والإثبات، وذلك من أربعة أوجه: الفرق الأول: أن العموم المعنوي مع خصوصه لكل واحد منهما وجود وعدم، فللحيوان وجود وعدم، وللإنسان وجود وعدم، وهو الخاص المعنوي، والحيوان هو العام المعنوي بالنسبة إليه: فيلزم من نفي العام نفي الخاص، ومن وجود الخاص وجود العام، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص ولا عدمه، ولا من عدم الخاص وجود العام ولا عدمه، فاثنان منتجان واثنان عقيمان، فالمنتجان: عدم العام ووجود الخاص، والعقيمان: وجود العام، وعدم الخاص، فكل ما وجوده منتج فعدمه عقيم، وكل ما عدمه منتج فوجوده عقيم، فيلزم من عدم الحيوان في الدار عدم الإنسان، ويلزم من وجود الإنسان في الدار وجود مطلق الحيوان في الدار، (ولا يلزم من وجود الحيوان في الدار) وجود الإنسان؛ لاحتمال تحققه في الفرس، ولا عدمه؛ لاحتمال تحققه في الإنسان، ولا يلزم من عدم الإنسان من الدار عدم مطلق الحيوان من الدار؛ لاحتمال وجود في الفرس ولا وجود مطلق الحيوان/ في الدار؛ لاحتمال عدم كل حيوان مع عدم الإنسان، فيبقى مطلق الحيوان.

إذا تقرر عندك أحكام العام والخاص المعنويين في أحكام الوجود والعدم فاعلم أن العام اللفظي والخاص اللفظي على العكس من ذلك. بيانه: أن لفظ (المشركين) عام و) الذميين) خاص بالنسبة إلى المشركين، فيلزم من قتل جميع المشركين من غير تخصيص وثبوت معنى العموم ثبوته في الخصوص الذي هو الذمة وغيرهم، ويلزم من انتفاء الخصوص- وهو انتفاء القتل في بعض المشركين- انتفاء العموم؛ لأنه حينئذ يكون ليس على عمومه، بل مخصوصا، وهذان المنتجان حينئذ كانا عقيمين في العموم والخصوص المعنويين، وهما وجود العام وعدم الخاص، فقد صار هاهنا في اللفظين منتجين، فاستلزم عدم الخاص عدم العام، واستلزم وجود العام وجود الخاص، ولا يلزم من ثبوت الخاص في اللفظي ثبوت العموم، فإن كل عام مخصوص ثبت الحكم فيه للخاص الذي هو بعضه ولم يثبت للعموم الذي هو الكلية، ولا يلزم أيضا من انتفاء العموم اللفظي انتفاء الخصوص، فإن كل عام مخصوص انتفى العموم فيه فليس إذا، ولم ينف الخصوص، بل يثبت الخصوص مع انتفاء العموم، ولم ينتف الخصوص

الفرق الثاني: أن العموم المعنوي جزء مدلول العموم اللفظي؛ لأن مدلول العموم اللفظي كلية، وأفراد الكلية لا بد أن تشترك في معنى كلي

عند انتفاء العموم، وقد كان الأمر في العموم والخصوص المعنويين على العكس من ذلك، فقد صار المنتجان في العموم والخصوص المعنويين عقيمين في العموم والخصوص اللفظين. فهذه أحكام أربعة بين البابين قد تعاكس فيها البابان وتباينا؛ بسبب أنه لا يلزم من نفي الموجبة الكلية نفي الموجبة الجزئية، ولا ثبوت الموجبة الجزئية ثبوت الموجبة الكلية، والعموم والخصوص اللفظيان هما من باب الجزئية والكلية، لا من باب الجزئي والكلي، فهذا هو سبب التعاكس في الأحكام، فتأمل ذلك، واحترز أن نختلط عليك الأحكام بسبب الاشتباه في لفظ العموم والخصوص، فترى حكم أحدهما وأنت في الآخر، بل إذا قصدت/ أن تحكم بحكم من هذه الأحكام الأربعة فتأمل هل أنت في اللفظي أو في المعنوي وحينئذ تحكم بما تريده. الفرق الثاني: أن العموم المعنوي جزء مدلول العموم اللفظي؛ لأن مدلول العموم اللفظي كلية، وأفراد الكلية لا بد أن تشترك في معنى كلي، وكل معنى كلي هو كلي معنوي، فالكلي والمعنوي جزء مدلول العموم اللفظي.

الفرق الثالث: أن العموم المعنوي يصدق في الوجود بفرد، ويثبت حكمه ويسقط الاستدلال بلفظه على فرد آخر

الفرق الثالث: أن العموم المعنوي يصدق في الوجود بفرد، ويثبت حكمه ويسقط الاستدلال بلفظه على فرد آخر، وبخرج عن العهدة بذلك، والعموم اللفظي لا يصدق بالفرد في الوجود، ولا يخرج المكلف عن عهدته بفرد، بل لا بد من كل فرد؛ لأن هذا هو شأن الكلية. الفرق الرابع: أن عدم الحكم في العموم المعنوي في فرد من أفراده لا ينافي صدقه في الوجود؛ لاحتمال ثبوته في فرد آخر وهو كاف فيه، وعدم الحكم في فرد من الأفراد- أي فرد كان- ينافي ثبوت الحكم لمدلول العموم، فإنه حينئذ يكون مخصصا، بل لا بد من استيعاب تلك المادة في جميع أفرادها، في العموم اللفظي يناقضه مطلق السلب، بل السلب الكلي، بحيث لا يكون الحكم ثابتا في فرد ألبتة.

الباب الثامن في خواص العموم اللفظي

الباب الثامن في خواص العموم اللفظي اعلم أن هذا العموم اللفظي له ثمان خواص: الخاصية الأولى: أن دلالته على ثبوت حكمه لفرد من أفراده خارجة عن الدلالات الثلاث المقررة في الألفاظ وهي: المطابقة، والتضمن، والالتزام، لم يذكروا لها قسما رابعا، وهذه الدلالة في باب العموم قسم رابع وهي نقض عليهم. وبيانه: أن دلالة لفظ (المشركين) - مثلا- على (زيد) المشرك لا يمكن أن يكون دلالة مطابقة؛ لأن دلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على تمام مسماه، وزيد ليس تمام مسمى اللفظ العام، بل هو موضوع لزيد مع غيره على ما تقدم بيانه، فهو فرد من أفراد الكلية التي هي مسمى المشركين، ولا يكون كمال مسمى لفظ (المشركين).

ولا يمكن أن يكون دلالة لفظ (المشركين) على (زيد) دلالة تضمن؛ لأن دلالة التضمن/ هي دلالة اللفظ على جزء مسماه، وليس (زيد) جزءا من المسمى؛ لأن الجزء هو الذي يقال له قبالة الكل، فلو كان زيد جزءا لكان مسمى العموم كلا، وليس هو كذلك؛ لأن العموم لو كان مسماه كلا لتعذر الاستدلال به على ثبوت حكمه فرد من أفراده حالة النهي أو النفي كما تقدم بياناته في باب حقيقة العموم وحده، وإذا لم يكن كلا لا يكون زيد جزءا بالقياس إليه، فإن جزءا بدون كل محال، كما أن كلا بدون جزء محال، فالجزء والكل من الأمور الإضافية الذي لا يعقل أحدهما بدون الآخر، وإذا بطل أن زيدا جزء بالنسبة إلى مسمى صيغة العموم يطل أن تكون صيغة العموم دالة عليه بالتضمن. ولا يمكن أن تكون صيغة العموم دالة عليه بالالتزام؛ لأن دلالة الالتزام هي: دلالة اللفظ على لازم مسماه. ولو كان زيد لازما لمسمى العموم لكان عمرو مثله، وكذلك كل شخص يشير إليه العقل. وإذا كانت الأفراد كل واحد منها لازما فأي شيء حينئذ هو المسمى؟ فلا نجد مسمى إلا مجموع هذه الأفراد على سبيل الكلية لا على سبيل الكل،

الخاصية الثانية: هي عدم التناهي

فيتضح حينئذ أن زيدا وغيره من الأفراد ليس لازما للمسمى، وإذا لم يكن لازما للمسمى لا يكون اللفظ دالا عليه بالالتزام، فبطل أن تكون صيغة العموم دالة على فرد من أفرادها بأحد الدلالات المذكورة، وأن هذه دلالة أخرى وهي دلالة لفظ الكلية على الجزئية، وهي غير دلالة لفظ الكل على الجزء؛ لما تقدم من أن الكلية لو كانت كلا لتعذر الاستدلال بها على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النفي والنهي، فهذه خاصية من خواص صيغ العموم. الخاصية الثانية: هي عدم التناهي، فإن مدلول صيغة العموم كلية غير متناهية الأفراد؛ لأن معناها استيعاب جميع الأفراد التي يصدق عليها (مشترك الأفراد)؛ بحيث لا يبقى فرد إلا شمله الحكم، وهذا لا يمكن أن يعقل مع التناهي، فإنا لو قضينا بالتناهي والوقوف عند حد من الأعداد في الأفراد لكان إذا وجد فرد بعد ذلك العدد فيه ذلك المعنى المشترك/ كمفهوم المشترك مثلا لا يثبت ذلك الحكم فيه، وليس كذلك بإجماع القائلين بالعموم، فلا يستقيم حينئذ القول بالعموم إلا إذا قلنا: بأن مدلول العموم كلية غير متناهية الأفراد ولا يعلم اللفظ وضع في اللغات وهو لفظ مفرد لعدم النهاية بهذا التفسير إلا صيغ العموم، فكان عدم النهاية من خواص صيغ العموم. فإن قلت: قول القائل: عبيدي أحرار من صيغ العموم عند القائلين به،

مع أن الذي يملكه الإنسان عدد محصور قطعا، وربما كان العبيد ثلاثة فقط، وهذا محصور قطعا، وكذلك قول القائل: أعط هذه الدراهم لمن في الدار، والذي في الدار محصور قطعا، وقد يكون واحدا، ومن المحال أن يكون في الدار عدد غير منضبط، (بل هو منضبط) بعدد محصور قطعا، فبطل القول بأن مسمى صيغ العموم لا بد وأن يكون غير متناه. نعم، قد يكون غير متناه نحو: اقتلوا المشركين، وقد يكون متناهيا نحو المثل المتقدمة، وكذلك قول القائل: كل من خلقه الله الآن ممكن، فهذا من أبلع صيغ العموم، مع أن محصور في (الآن)، والآن زمن فرد لا يقبل أن يكون فيه من المخلوقات ما لا يتناهى؛ لأنه قد قامت البراهين العقلية على استحالة دخول ما لا يتناهى في الوجود دفعة، فالواقع حينئذ في الزمن الموصوف بقولنا: (الآن) عدد محصور متناه، مع أن هذا اللفظ من أبلغ صيغ العموم، فيبقى حينئذ أن الصيغة العامة قد يكون مسماها محصورا وقد يكون غير محصور، فإطلاق القول بأن مسماها دائما غير متناه لا يستقيم. قلت: أسئلة حسنة قوية، ومع ذلك فالجواب عنها يبنى على قاعدة، وهو أن الواقع من العموم لا يلزم أن يكون مسمى العموم، بل الواقع له حكم، والعموم من حيث هو عموم حكم، فالواقع دائما متناه والعموم دائما غير متناه، فتأمل ذلك.

فإن قول الله تعالى: {فاقتلوا المشركين} وجوب القتل، وهو الحكم الذي حصل به العموم في هذه الصيغة شامل لما لا يتناهى عند ورود الصيغة، وقد لا يكون في الوجود ذلك الوقت مشرك ألبتة، ألا ترى إلى قولنا: اقتلوا العنقاء/ أو الآدمي الذي له ألف رأس، لفظ عام في المذكور، وحكم مقرر عند السماع في أفراد غير متناهية وليس في الخارج منه فرد واحد البتة، ولم يناف عدم الوقوع في الخارج ثبوت الحكم للعموم على عمومه من غير تخصيص، وإنما علمنا وجود المشركين في الخارج بالوجدان الحسي، لا من جهة أن الصيغة عامة، والعموم متحقق، وإن لم يكن في الخارج منه فرد ألبتة، فعلمنا أن الحكم الذي يقع به التعميم إنما يتعلق بذلك العدد فقط. وكذلك قول المستفهم: (من عندك؟ )، عام عند القائلين بصيغ العموم.

ومع ذلك فإنك تقول في الجواب: زيد، ويكون جوابا مطابقا، مع أن (زيدا) لا يمكن أن ينطبق على العموم، وأجمع الناس على أ، هـ جواب صحيح كامل، فيكون حكم الوقوع والكون عندك خاصا بواحد محصور، والحكم الذي وقع به العموم والاستفهام شامل لجميع مراتب العقلاء، الذي يمكن أن يكون عندك، بل أبلغ من ذلك أن تقول (له: ليس) عندي أحد، ويكون جوابا مطابقا، مع أنك لم تذكر زيدا ولا غيره فيعلم بالضرورة أن حكم الكون عندك ليس هو الحكم الذي وقع به التعميم، فإن الكون منفي بالكلية عن جميع الأفراد، والاستفهام شامل وواقع بجميع الأفراد، وإذا ظهر لك أن حكم الكون في الوجود غير الحكم الذي وقع به التعميم، فنقول: قول القائل: عبيدي أحرار، وهو من صيغ العموم، والصفة التي هي القدر المشترك الذي وقع به التعميم هي وصف العبودية المضاف إليه، والحكم المرتب على هذا الوصف المشترك هو الحرية والإعناق، فمقتضى هذه الصيغة: أنه مهما وجدت العبودية المضافة إليه ترتب هذا الحكم، ويتبع كذلك في جميع موارد هذا الوصف المشترك، كما يتبع بوجوب القتل جميع موارد المشترك حيث كان ومتى كان، هذا هو حكم التعميم، وإعطاء الصيغة حقها من حيث هي

صيغة عموم، ولذلك إنا نقول: أي عبد وجد في ملكه يعتق، (إشارة) إلى عدد محصور ألبتة، فقد يكون الواقع/ أنهم ثلاثة، أو مائة ألف، التعميم في الجميع سواء بمقتضى صيغة العموم، لكن الواقع دائما في عدد معين، كما كان الواقع دائما محصورا في عدد معين، فحكم الوقوع غير الحكم الذي وقع به التعميم، ومقتضى الصيغة أنا نعتق ما لا يتناهى من العبيد، غير أن العقل منع أن يقع في ملكه غير متناه في زمن التلفظ، ولا يلزم من منع العقل من وقوع شيء ألا يكون الحكم عاما فيما لا يتناهى، ألا ترى إلى قول القائل: كل عشرة هي فرد من الدنانير [هي] صدقة لوجه الله تعالى أو: كل إنسان هو جماد فإنه ممكن، صيغ عامة لا تختص فيها، متناولة لما لا يتناهى، ومع ذلك فقد دل العقل على استحالة وقوع فرد من هذين العمومين في الوجود، ولم يناف ذلك العموم، وصدق حكمه على العموم، فحكم الوقوع غير الحكم الذي وقع به التعميم. كذلك مدلول قوله: عبيدي أحرار، عام وغير متناه، ودل العقل على أن الواقع في ملكه لا يكون إلا متناه، ولا ينافي بين الحكمين، فإذا لم يتناف العموم ووقوع عدد محصور، وأصل ذلك كله أن يتقرر عندك أن حكم الوقوع غير الحكم الذي وقع به التعميم، وأنه لا ملازمة بين الوقوع والعموم. وقد شرع الله- تعالى- حكم اللعان في المتلاعنين، وهم عدد غير متناه بالنظر إلى عموم الصيغة ومع ذلك لم يقع في الوجود من زمن رسول الله من هذا العموم إلا فرد أو فردان فقط، ولم يناف ذلك أن الحكم

عام فيما لا يتناهى من الأزواج. وكذلك قول القائل: أعط هذه الدراهم من الدار، الوصف الذي يجب تتبعه في موارده ويحصل به العموم هو العاقل الكائن في الدار، وهذا من حيث التعقل يقبل أن يقع في محال غير متناهية لولا دلالة العقل على أن الله تعالى لا يمكن أن يوجد في الدار عددا غير متناه، ولولا هذا الدليل العقلي لعممت فيما لا يتناهى بمقتضى الصيغة، لكن دل العقل في الواقع على شيء ودلت الصيغة على العموم فيما لا يتناهى، فمدلول الصيغة من حيث هو/ مدلولها غير متناه، ومدلول العقل متناه، وقد تقدم أنه لا تنافي بين عدم النهاية في العموم والنهاية في الوقوع، بل العدم الكلي في الوقوع لا يتنافي العموم وعدم النهاية كما تقدم بيانه.

وكذلك قول القائل: كل من خلقه الله تعالى الآن ممكن، صيغة عموم يقتضى أن الموجود المخلوق غير متناه، غير أن الدليل العقلي لما دل على أنه لا يمكن أن يخلق في الزمن الفرد- الذي هو الآن- حوادث غير متناهية، بل متناهية قطعا، فيصير الثابت للصيغة من حيث هي صيغة عموم عدم التناهي، والثابت من حيث الدليل العقلي التناهي، (ولا ينافي) كون الصيغة تستحق لذاتها عدم التناهي ولا يقع ذلك المستحق لمانع عقلي أو غيره كما تقدم، مع أنك ستقف على (أن) المخصصات المتصلة عشرة: أحدها: الظروف، وثانيها: المجرورات، فعلى هذا هذه المثل [إن] اقترنت بها المخصصات منعنا من اعتقاد إرادة ظاهر العموم، وهو عدم النهاية ولا يلزم من عدم اعتقادنا عدم النهاية عند عدم القرينة اعتقادنا النهاية عند القرينة، فمدلول اللفظ قد ينتفي عنه لعارض. فإن قلت: يدعى عد النهاية في صيغ العموم بتفسير واحد أو بتفسيرين؟ قلت: قولنا: العموم الفلاني غير متناه له تفسيران: أحدهما: مسلوب النهاية على الإطلاق، ومن هذا التفسير قولنا:

معلومات الله (تعالى) غير متناهية، أي: لا غاية لها ولا طرف، ومنه: الممكنات في مادة الإمكان غير متناهية. وثانيهما: ما له نهاية في نفسه لكن لا يجب الوقوف عندها، ومن هذا التفسير قولنا: مقدورات الله تعالى غير متناهية، مع أن ما توجه القدرة دائما متناه؛ لأن العالم حادث، فللحوادث أول وآخر، وغايتها الآن الذي نحن فيه، والمحصور بين حاصرين متناه قطعا، فالمقدورات متناهية؛ لأن لها غاية دائما، لكنها لما كانت تلك الغاية لا يجب الوقوف عندها بل يجوز إيجاد أمثال، لكنها لما كانت تلك الغاية لا يجب الوقوف ع ندها بل يجوز إيجاد أمثال ما وجد من الحوادث المقدورة، قيل لذلك: المقدورات غير متناهية. / ومن هذا الباب قولنا: نعيم أهل الجنة غير متناه؛ لأن له مبدأ وهو

أول دخولهم، وأي زمن فرضت وصولهم في الخلود إليه كان ذلك هو غاية نعيمهم، لكن لما كان لا يجب الوقوف عند تلك الغاية في حقهم بل ينتقلون (إلى غاية بعد غاية بعد غاية) كذلك دائما، قيل: نعيمهم غير متناه، مع أن لهم غاية دائما، فظهر لك أن قولنا: نعيم أهل الجنة غير متناه: من باب قولنا: المقدورات غير متناهية، لا من باب قولنا: المعلومات (غير) متناهية. وكذلك قولنا: الأعداد غير متناهية معناه: أنا إذا وصلنا إلى رتبة من العدد فإنه لا يجب الوقوف عندها، بل يجوز انتقالنا إلى رتبة أخرى فوقها، فالعدد دائما له نهاية لكن لما لم يجب الوقوف عند تلك الغاية قيل: العدد غير متناه، ولكل واحد من القسمين نظائر كثيرة فتأملها في مواضعها. فعلى هذا، المعلومات ثلاثة أقسام: ما هو متناه بكل تفسير نحو: العشرة، وكل رتبة معينة من العدد فإن لها غاية يجب الوقوف عندها (ومتى كان للشيء غاية يجب الوقوف عندها)

كان متناه بالتفسيرين. وما هو متناه اتفاقا: وهو ما ليس له غاية كالمعلومات. وما هو غير متناه على اصطلاح دون اصطلاح: وما له غاية لا يجب الوقوف عندها، (فإذا قلنا): إن المتناهي ما (ليس) له غاية كان هذا القسم متناهيا، (وإذا قلنا): إن غير المتناهي يطلق على ما لا يجب الوقوف (عليه) عند غايته كان هذا القسم غير متناه، وهو متناه بتفسير، غير متناه بتفسير آخر. إذا علمت هذا التلخيص، فقولنا: كل معلوم لله تعالى مخبر عنه، فهذه صيغة عموم مسلوب النهاية، وهذا كلام عربي حقيقة لا مجازا، واللفظ مستعمل فيما وضع له من العموم، وكذلك قولنا: كل مخبر عنه لله تعالى بالكلام النفساني، معلوم له، وكل ممكن فإنه يصح تعلق القدرة القديمة

به نحو هذه الموارد، فإنها كلها غير متناهية مسلوبة النهاية، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون صيغة العموم موضوعة لما لا يتناهى بهذا التفسير.

وقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} يقتضي أن مهما وجد مشرك في الوجود/ وجب قتله، وإذا وصلنا في القتل إلى غاية لا يجب الوقوف عندها بل يجب الانتقال إلى ما وجد بعدها. وكذلك قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} و {حرمت عليكم أمهاتكم وأخواتكم .. } الآية، ونحو ذلك، فإنه يقتضى أنه مهما وجد ميتة أو فرد من هذه الأجناس المذكورة فإن التحريم يتعلق به، وقبل وجوده لا يحرم، ومهما وصلنا إلى غاية فإنه لا يجب الوقوف عندها، بل نتجاوزها إلى ما يوجد بعدها. والظاهر: أن (هذا الاستعمال) - أيضا- حقيقة وهو مباين للأول، فهل صيغة العموم مشتركة بين ما لا يتناهى بالتفسيرين المختلفين، أو هي موضوعة للأول عينا من غير اشتراك؟ هذا موضع غريب لم أر أحدا حرك فيه بحثا ولا ادعى فيه شيئا، وللنظر فيه مجال. والذي يظهر لي أن صيغ العموم ليست مشتركة بين النوعين؛ لأنا نجدها مجملة والإجمال عند عدم القرينة (غير لازم) للاشتراك، وانتفاء

اللازم يقتضي انتفاء اللزوم، فسيكون الاشتراك منتفيا؛ لانتفاء لازمه، وهو المطلوب. وإذا لم تكن مشتركة بين النوعين اللذين هما نوعا ما لا يتناهى بالتفسيرين المتقدمين، فهي موضوعة للقدر المشترك بينهما، وهو ما لا يتناهى، إما بهذا التفسير أو بالتفسير الآخر، فإن كلا النوعين يصدق عليه ما لا يتناهى. ووجه تحرير هذا الكلام فيه وبسطه ما تقدم في حقيقة العموم وحده أول الكتاب وهو أنه: موضوع لقدر مشترك بوصف يتبعه في محاله بحكمه، كان ذلك الحكم خبرا أو طلبا أو إباحة أو غير ذلك. ومعنى هذا التتبع: أنه مهما وجد مسمى اللفظ وهو (مشترك) مثلا في قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ترتب عليه الحكم المذكور في ذلك العموم، ووجود المسمى في موارده له حالتان: تارة لا يوجد إلا متناه وفي غاية معينة، لكنه لا يجب الوقوف عند تلك الغاية، بل إن وجد بعد لك مشرك آخر وجب قتله أو بيع وجب حله، أو ميتة وجب تحريمها، والواقع دائما من هذا المسمى أفرادا محصورة متناهية.

وتارة يتحقق مسمى اللفظ- أعني: لفظ/ الجنس- قبل دخول أداة العموم عليه في موارده غير (متناه، مسلوب الغاية والطرف في صيغة العموم كقولنا: معلومات الله تعالى غير) متناهية فإن هذه صيغة عموم؛ لأنه جمع مضاف فيعم، نحو: عبيدي أحرار، ومسمى هذا اللفظ قبل دخول أداة العموم عليه، لما دخلت أداة العموم عليه وهي الإضافة مثلا تحقق في موارده يوصف سلب الغاية والنهاية، فإن وصف المعلومية قد شمل في علم الله تعالى ما لا يتناهى بهذا التفسير ولم يقف عند غاية ويتوقع بعدها غيرها كما قلنا في (المشركين) فلما تحقق المسمى في موارد غير متناهية بهذا التفسير وجب أن يتبع حكم هذا العموم وهذا المسمى في جميع تلك الموارد بوصف سلب النهاية، والحكم هاهنا هو الخبر عن معلومات الله تعالى (فلا جرم تناول خبرنا في هذا الخبر عن معلومات الله تعالى) موارد مسلوب الغاية والنهاية من غير انتقال من غاية إلى غاية بل دفعة، لأن المسمى كان متحققا قبل خبرنا، وتحقق المسمى يتبع حكم العموم، وذلك من قولنا: مخبرات الله تعالى بالكلام النفساني معلومة له وغير متناهية، فإن

مخبرات الله تعالى مسلوبة الغاية والنهاية بالفعل، فعم الحكم الذي هو هذا الخبر الخاص أيضا ما هو مسلوب الغاية والنهاية، ومن ذلك قولنا: في الأزل عدمات الممكنات غير متناهية، فإن قولنا: عدمات الممكنات جمع مضاف فيعم، ومسمى هذا الجنس الذي هو عدم قد شمل في الأزل موارد مسلوبة الغاية والنهاية، فكذلك عم هذا الخبر في هذا العموم أفرادا مسلوبة الغاية والنهاية، ونظائره كثيرة في المعقولات. ونظائر القسم الأول وهو ما لا نهاية لا يجب الوقوف عندها، كثيرة أيضا كما تقدم مثله، واشتراك القسمان في حرف واحد وهو وجوب ترتيب حكم العموم في كل فرد وجد فيه، وتحقق ذلك الوصف الذي هو قدر مشترك بين أفراد العموم وهو مسمى ذلك الجنس قبل دخول أداة العموم عليه، فلما تحقق في أحد القسمين في موارد غير متناهية مسلوبة الغاية ترتب

الحكم كذلك، وبقي ترتبه في الزيادة في فرد آخر زائد على تلك الغاية، متوقفا على تحقق مسمى اللفظ في ذلك الفرد، فلم تنخرم/ القاعدة في وجوب ترتيب حكم العموم على مسمى اللفظ حيث تحقق، فصار ترتب حكم العموم في موارد المسمى حيث تحقق قدرا مشتركا بين القسمين غير أنه اتفق تحققه في قسم في أفراد مسلوبة النهاية، وتحقق في أفراد ثابتة النهاية تتوقع الزيادة عليها، وملازمة الحكم لمسمى اللفظ في أي مورد تحقق، هو القدر المشترك بين القسمين، وهذا القدر المشترك هو مسمى صيغة العموم ع قطع النظر عن خصوص كل واحد من القسمين، فذهب الاشتراك وتحقق أن مسمى العام غير متناه وعدم التناهي متنوع إلى نوعين، واندفع الإشكال وتلخص البحث في تحقيق هذا الموضع بفضل الله تعالى. وهذا التلخيص أشار إليه أ {باب علم المنطق حيث قالوا: إن الموجبة الكلية نحو قولنا: كل إنسان حيوان، وكل عشرة زوج، معناها: أن كل شيء يفرض اتصافه بكونه إنسانا في الماضي أو الحال أو المستقبل فإنه يجب له أنه حيوان بحيث يكون ذلك الاتصاف بالفعل على رأي الجمهور، وكذلك كل شيء يفرض بالفعل عشرة في أحد الأزمنة الثلاثة فإنه يجب أن يكون

زوجا، وعلى هذا التفسير تكون الموجبة الكلية غير متناهية، بمعنى: أن لها غاية لا يجب الوقوف عندها، فإن الواقع من أفراد الإنسان في الأزمنة الثلاث: الماضي والحال والمستقبل متناه قطعا بناء على حدوث العالم، غير أنه لا يصل إلى غاية يجب الوقوف عندها فلا يتوقع بعدها إنسان لا عشرة، وهذا مساو للعموم في قولنا: أحل الله البيع، وحرم الميتة، ونحوهما. وقيل: معنى الموجبة الكلية: كل ما يقبل أن يكون إنسانا فإنه حقيقة الموضوع المحكوم عليه، ويلزم على هذا أمران: أحدهما: بطلان هذه القضية المتقدمة وهي قولنا: كل إنسان حيوان بالضرورة، بل الصادق أنه حيوان بالإمكان فقط، فإن مجرد القابل للإنسان لا يجب أن يكون حيوانا، فإن الجماد يقبل الإنسان ولا تجب له الحيوانية، بل يمكن. والأمر الآخر الذي يلزم/ أن تكون الموجبة الكلية غير متناهية بالتفسير

الخاصية الثالثة لصيغ العموم: أن مسماها منقسم إلى نوعين

الآخر وهو سلب النهاية والغاية، فإن القابل هو الممكن أن يكون إنسانا، والممكن أن يكون إنسانا غير متناه، بل الممكن من كل جنس غير متناه في مادة الإمكان والعدم، وإنما يحصل التناهي في طرف الوجود، فتكون الكلية الموجبة على هذا المذهب هي مدلول صيغة العموم (في النوع) الآخر الذي هو قولنا معلومات الله تعالى أو مخبراته، فإن تحقق الإمكان في موارده لا نهاية لها كتحقق مسمى المعلوم في موارد لانهاية لها، فتأمل هذا تجده عين ما تقدم تلخيصه في صيغ العموم العربية، وأن الصيغ العربية العامة اشتملت في نوعي مسماه في المذهبين الكائنين في علم المنطق، فإذا تأملت ذلك أوضح لك العلم بعضه بعضا فإن العلوم يشرف بعضها ببعض، وبعين بعضها على تحقيق بعض. الخاصية الثالثة لصيغ العموم: أن مسماها منقسم إلى نوعين كما تقدم بيانه: أحدهما: لا يقبل الدخول في الوجود ألبتة، ولا يقبل أن يكون فيه أحد

الأحكام الخمسة الشرعية، فإن الحكم الشرعي لا يتعلق إلا بما هو مقدور على إدخاله في الوجود، فما لا يقبل الوجود يتعذر إيجابه لتعذر فعله وإيجاده، ويتعذر تحريمه وإبقاؤه على العدم، فإن إبقاءه على العدم، معناه: أن المكلف يكون له اختيار على تبقيته على العدم كالزنا والسرقة مثلا، فالمستحيلات كلها عدمها من ذاتها لا يتصور فيها إرادة البقاء على العدم، فإن الإرادة هي صفة ترجح أحد طرفي الجائز على الآخر، فحيث لا جوز لا إرادة ولا قدرة، ولذلك قلنا: إن من شرط ما يتعلق به حكم شرعي أن يكون مقدورا على جلبه أو دفعه، إلا إذا فرعنا على جواز تكليف ما لا يطاق.

وإذا كان هذا القسم لا يقبل الدخول في الوجود ولا يقبل تعلق الحكم الشرعي به فلا يتصور وروده إلا في الإخبار دون التكاليف نحو: معلومات الله تعالى/ غير متناهية وجميع المثل المتقدم ذكرها، ويلحق به الاستفهام، وإن كان طلبا لكنه طلب لخبر، والخبر تقبله هذه الموارد، فيقول المستفهم: هل معلومات الله تعالى غير متناهية؟ (فيقول المسئول: معلومات الله تعالى غير متناهية) فيعم خبره ما لا يتناهى بالفعل كما تقدم. ولو قال قائل: إن مسمى العموم هو خصوص هذا القسم دون المشترك بينه ويبن القسم الآخر للزمه أن تكون صيغة العموم لا يمكن استعمالها في الأحكام الشرعية ألبتة؛ لتعذر وجود مدلولها بهذا التفسير، وإذا تعذر وجوده تعذر تعلق الحكم الشرعي به؛ لأن من شرط الحكم الشرعي ألا يتعلق إلا

بمقدور، فيلزم أن يكون صيغة العموم تستحيل عقلا أن تستعمل حقيقة مع حكم شرعي، وما قال أحد من العقلاء ذلك، بل قال: كل صيغة للعموم وقعت في حكم شرعي فإنه يمكن التعميم فيها عقلا، وقد لا يقع هذا الممكن لمعارض ودليل يدل على عدم الحقيقة ووجوب المصير إلى المجاز، أما الاستحالة: فلم يقل بها أحد، فلا سبيل حينئذ أن يقول أحد: إن مسمى العموم هو غير المتناهي بهذا التفسير، كما أنه لا سبيل إلى القول بأن صيغة العموم حقيقة في غير المتناهي المفسر بما له غاية لا يجب الوقوف عندها؛ لأنه يلزم أ، يكون مجازا في قولنا: معلومات الله تعالى ومخبراته، وعدمات الممكنات، وغيرها مما تقدم من النظائر، ولا يقول أحد من القائلين بالعموم أن صيغة العموم في هذه المواد مجاز، بل هي حقيقة في الجميع، ولهذه الغاية قلت في الخاصية التي قبل هذه: إن صيغة العموم حقيقة في القدر المشترك بين القسمين، حتى تنطبق صيغ العموم على جميع هذه الموارد. واعلم أنه كما يتعذر تعلق الأحكام الشرعية بمسمى العموم في هذا النوع الذي هو مفسر بمسلوب الغاية فكذلك يتعذر الخبر بوجوده ودخوله في

الخاصية الرابعة لصيغ العموم: انقسام مسماها إلى نوعين

الوجود، على وجه يكون الخبر صادقا، بل لا يقع الخبر عن وجود هذا النوع إلا كذبا؛ لدلالة البراهين العقلية على استحالة دخول/ مالا يتناهى في الوجود بهذا التفسير، وجميع مسميات الألفاظ العربية ليس فيها شيء يكون أحد نوعية يقبل الوجود والإخبار عن وجوده وتعلق الأحكام الشرعية به، والنوع الآخر لا يقبل ذلك، بل جميع مسميات الألفاظ إما أن تكون قابلة للأحكام الشرعية والخبر عن وجودها وتقبل الوجود في نفسها كالجماد والنبات والحيوان وغيرها من مسميات الأجناس، أو تكون كلها لا تقبل شيئا من ذلك كقولنا: عدم، ومستحيل، ودور، وتسلسل، وغير ذلك مما لا يقبل الوجود بجميع أنواعه وأفراده، ولا يقبل صدق الخبر عن الوجود ولا يقبل حكما شرعيا، إلا أن نفرغ على جواز تكليف ما لا يطاق، فيقبله كله، أما أن يوجد نوع من المسمى يقبل ونوع لا يقبل والمسمى واحد فهذا من خواص صيغ العموم ولا يوجد في غيرها من مسميات الألفاظ. الخاصية الرابعة لصيغ العموم: انقسام مسماها إلى نوعين: أحدهما: يمكن تصوره على التفصيل، فالذي يمكن تصوره على

التفصيل هو غير المتناهي المفسر بما له غاية لا يجب الوقوف عندها كالمشركين، والميتة، ونحوهما؛ مما تقدم من مثله، ومنه نعيم أهل الجنة، ومقدورات الله تعالى. والذي لا يمكن تصوره على التفصيل هو النوع المفسر بمسلوب النهاية والغاية كمعلومات الله تعالى ونحوها، فإن تصورنا لهذه الأفراد مع عدم تناهيها على التفصيل كل فرد على حياله مستحيل عقلا، بل إنما يتصور إجمالا، فتتصوره (من حيث) إنه غير متناهي، فيقع في ذهننا المعلومات مثلا من حيث هي معلومات مع وصف سلب النهاية، فهذان الوصفان يمكن أن يقع مجموعهما في ذهننا، أما الأفراد على التفصيل كل فرد على حياله حتى تستوعب ما لا يتناهى فهذا محال عقلا في حق الخلق، وإنما يحيط بذلك على التفصيل علم الله تعالى. أما بقية مسميات الألفاظ فهي قسمان: أحدهما: يمكن تصوره على التفصيل، كأنواع الجماد، والنبات،

والحيوان، فهذا النوع قابل لحصول العلم به في حقنا/ على التفصيل. والقسم الآخر لا يمكن تصوره ألبتة على التفصيل، بل من حيث الإجمال فقط. أما التفصيل فمستحيل عقلا وكذلك قسمان: أحدهما: المستحيلات كلها، فإن القاعدة العقلية: أن كل ما استحال وجوده في الخارج استحال في الذهن، فكما تعذر أن يقع في الخارج ثوب أسود في غاية السواد وهو أبيض في غاية البياض، فكذلك يستحيل تصور ثوب أسود في غاية السواد وهو أبيض في غاية البياض، وكذلك بقية المستحيلات. القسم الثاني: الأعدام لا يمكن تصورها ألبتة، فإن كل ما يتصوره

الإنسان (لا بد له في الذهن من تحقق) بوجه ما، والعدم نفي صرف، مناف للتحقيق بوجه ما، فالعدم الصرف والنفي المحض لا يمكن تصوره ألبتة. فإن قلت: يلزمك بطلان إحدى القاعدتين العقليتين القطعيتين: القاعدة الأولى: أن الحكم على الشيء فرع تصوره، وأخذ الشيء بالرد والقبول فرع كونه معقولا، فما لا يقع في الذهن استحال الحكم عليه. القاعدة الثانية: أنا نحكم على المستحيلات والعدمات، فنقول: المستحيل لا يقبل الوجود، والعدم يقبل الوجود، إلى غير ذلك من الأحكام، فيبطل حينئذ أحدى القاعدتين، إما أن لا نحكم على المستحيلات والعدمات، وإما أنا نتصور المستحيلات والعدمات، وكلا الأمرين محال، فكيف الخلاص من هذه الورطة؟ قلت: هذه السؤال كان الشيخ شمس الدين الخسر وشاهي يورده ويجيب عنه بأن يقول: الحكم على الشيء إنما يستدعي تصوره من حيث الجملة لا

من حيث التفصيل، ولذلك نحكم على المغناطيس أنه يجر الحديد، وعلى الترياق الفاروق أنه يدفع السموم، مع أنا لا نعلم حقيقة المغناطيس على التفصيل ولا حقيقة الترياق على التفصيل، ونظائر كثيرة جدا. وإذا كان الذي يشترط في الحكم على الشيء إنما هو الشعور به من حيث الجملة لا من حيث التفصيل، فتقول: نح نتصور المستحيلات من حيث بسائطها لا من حيث حقائقها/ من حيث هي مستحيلات ومجموعات، فإذا قلنا: الجمع بين السواد والبياض محال، فيتصور مطلق السواد ومطلق البياض ومطلق الجمع، ونقول: حصول هذا مطلق الجمع لهذين محال،

وهذه الثلاث هي بسائط هذا المستحيل، وهي ممكنة في نفسها، فما تصورنا ووقع في ذهننا إلا ممكن وكنا بسبب تصورها متصورين لهذا المستحيل من حيث الجملة؛ لأن التصور الإجمالي هو تصور الشيء من بعض وجوهه وبسائطه الشيء هي بعض وجوهه. وكذلك إذا قلنا: شريك الباري تعالى محال، فإنا نتصور صانع العالم من حيث هو صانع العالم ونتصور مطلق الشريك من حيث هو هو، ونقول: حصول هذا مطلق الشريك لله تعالى محال، فقد تصورنا هذا المستحيل من حيث بسائطه وهي وجه فيه، فقد تصورناه من حيث الإجمال وصح الحكم عليه لذلك، وما تصورنا إلا ما هو موجود في الخارج لا مستحيل، فاجتمع القاعدتان ولم تبطل واحدة منهما، فما حكمنا إلا على ما تصورناه، ولم نتصور مستحيلا في الخارج بل ممكنا. وأما العدم: فإنه لا بسائط له؛ لأنه لا تركيب فيه، بل تصوره يتصور مقابله وهو الوجود، فإذا قلنا: العدم نقيض الوجود، فإنا نتصور الوجود، ونقول: مقابل هذا الذي تصورناه نقيضه، وكذلك إذا قلنا: عدم العالم قديم، نتصور وجود العالم، ونقول: مقابله قديم، وكذلك بقية الأحكام

الخاصية الخامسة لمسمى صيغ العموم: أنها تقبل أن يستثنى منها ويخرج ما لا يتناهى

التي يقضى بها على العدم إنما نتصور مقابله، وتصوره بتصور مقابله تصور له من جهة، فهو تصور إجمالي، والتصور الإجمالي يكفي في الحكم على الشيء، فاجتمع القاعدتان أيضا، فما حكمنا إلا على ما تصورناه إجمالا، ولم يقع العدم بما هو في ذهننا، فاندفع السؤال مطلقا وثبتت القاعدتان، وحينئذ يظهر لك أن مسميات هذه الألفاظ- أعني ألفاظ المستحيلات والأعدام- يستحيل تصورها، فعلمنا حينئذ أن مسميات ما عدا صيغ العموم إما أن يكون متعذر/ التصور مطلقا بجميع أفراده وأنواعه أو ممكن التصور مطلقا، أما انقسام مسمى واحد إلى نوعين أحدهما يقبل التصور والآخر مستحيل عليه التصور فهذا من خواص مسمى صيغ العموم. الخاصية الخامسة لمسمى صيغ العموم: أنها تقبل أن يستثنى منها ويخرج ما لا يتناهى (ويبقى بعد إخراج ما لا يتناهى) أيضا، فإن المشركين مثلا مسماه غير متناه، كما تقدم تحقيقه مرارا، فإذا أخرجنا منهم الرهبان أو قبيلة من القبائل، وقال الله تعالى: هذه الفرقة لا تتعرضوا لها في حالة من الحالات، كان الخارج غير متناه، فإن الرهبان مثلا، وبني تميم مثلا عددهم لا يجب الوقوف فيه عند غاية كالمشركين في بابه، فإذا أخرجناهم من المشركين بقي من الفرق المشركة فرق عديدة كل فرقة منها غير متناهية بهذا

الخاصية السادسة لصيغ العموم: أن الحكم الثابت لمسماها إذا ثبت لكله ثبت لبعضه

التفسير، وكذلك بقية صيغ العموم، فتأمل ذلك. هذا إذا فسرناه بما لا غاية لا يجب الوقوف عندها، وإن فسرناه بغير المتناهي المسلوب الغاية مطلقا فلذلك متيسر فيه بطريق الأولى. وأما بقية مسميات الألفاظ: فأما أسماه الأجناس فليس فيها إلا الأجزاء، وهي متناهية كأجزاء الحيوان، وأجزاء الإنسان، فالمخرج منها متناه والباقي متناه، وكذلك أسماء الأعداد والأعلام فلا نجد مسمى يخرج منه ما لا يتناهى ويبقى ما لا يتناهى إلا مسمى صيغ العموم خاصة، فلذلك من خواصها. الخاصية السادسة لصيغ العموم: أن الحكم الثابت لمسماها إذا ثبت لكله ثبت لبعضه، ولا فرق في ذلك بين الكل والبعض في أي حكم فرضته أمرا كان، أو نهيا، أو خيرا، أو غير ذلك. وأما غيرها من المسميات: فلا يلزم ثبوت حكم الكل للبعض، بل قد يقع في بعض الأحكام دون بعضها، وفي بعض المواد دون بعضها، فإن نفي الكل لا يلزم منه نفي الجزء، كما إذا انتفى الكل المركب من الحيوان والناطق الذي هو مسمى الإنسان، فإنه قد يصدق نفيه بالنطاق فقط ويبقى الحيوان،

فيصدق أنه ليس في الدار الإنسان، مع أن فيها حيوانات كثيرة، وكذلك النهي عن قتل الإنسان لا يلزم منه النهي/ عن قتل الحيوان، وكذلك النهي عن مسمى خمس ركعات في الظهر لا يلزم منه النهي عن الأربعة، والنهي عن مسمى المائة في حد القذف، لا يلزم منه النهي عن الثمانين، وهذا إنما يتصور في النهي وخبر النفي دون الأمر وخبر الثبوت، فإن الأمر بالمركب أمر بأجزائه ضرورة، والإخبار عن ثبوت المركب إخبار عن ثبوت إجزائه؛ (لضرورة توقف ثبوت المركب على ثبوت أجزائه)، ونفيه يكفي فيه أحد أجزائه، فيصدق أن زيدا ليس عنده نصاب، بذهاب أحد الدنانير وإن بقي عنده تسعه عشر دينارا. وأما صيغ العموم فلا يختلف الحال فيها بين النفي والنهي والأمر والثبوت، والكل والبعض في ذلك سواء، فإذا قلت: لا رجل في الدار، الكل منفي والبعض منفي، وإذا نهى عن شيء بصيغة العموم استوى الكل والبعض كقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم}، {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} فكل ميتة محرمة، وكل نفس محرمة القتل، وكذلك جميع الميتات، وكذلك جميع النفوس، فالاستواء في

الخاصية السابعة لصيغ العموم: أن أحد مجازاتها الذي هو التخصيص وسلب الحكم عن بعضه وثبوته في البعض مدلول للحقيقة في جميع الأحكام

جميع الأحكام بمقتضى الوضع الخاص بصيغة العموم. نعم، قد تختلف الجزئية والكلية في الحكم بسبب طريان المخصص، لكن (ليس ذلك) من قبيل الوضع، بل جاء من خارج على سبيل المناقضة لوضع صيغة العموم، ولذلك يشترط في المخصص دائما أن يكون منافيا، فظهر حينئذ أن وجوب الاستواء في جميع الأحكام لمجرد الوضع إنما يوجد في صيغة العموم خاصة. الخاصية السابعة لصيغ العموم: أن أحد مجازاتها الذي هو التخصيص وسلب الحكم عن بعضه وثبوته في البعض مدلول للحقيقة في جميع الأحكام، فكل حكم ثبت للبعض بعد التخصيص هو كان مدلولا عليه قبل التخصيص وفي (صورة الحقيقة)، فقتل الحربين إذا ثابت سواء ورد التخصيص بهم وفي (صورة الحقيقة)، فقتل الحربين إذا ثابت سواء ورد التخصيص بهم إن كان قتل الجميع ثابتا، وكذلك النفي والنهي، وجميع الأحكام إذا دخلها التخصيص كان الحكم الثابت في بعض العموم مدلولا لصيغة العموم

قبل التخصيص كما (هو) ثابت بعده، وهذه الخاصية لا يشركها فيها إلا المسميات المركبة/، فإنه إذا عبر بلفظ الكل عن الجزء كان مجازا، ومع ذلك فحكم الجزء يدل عليه لفظ الكل، لكن في الأمر، وخبر الثبوت خاصة، أما في النهي والنفي فلا، وصيغة العموم ذلك عام فيها في جميع الأحكام الأربعة: بالأمر، والنهي، و (خبر) الثبوت، والنفي، فمن هذا الوجه حصل لها الاختصاص، لا باعتبار بعض الأحكام، فإن ذلك يشركها (لفظ كل) مركب، فتأمل ذلك، هذا في مجاز التخصيص.

الخاصية الثامنة: رجحان مجاز صيغ العموم على جميع المجازات إذا حصل بطريق التخصيص في حكم النهي والنفي

أما إن استعمل اللفظ الموضوع للعموم (لا في شيء من موارد) مسماه، بل مجازا بالكلية كقولنا: أحببت الأسود، وتريد الشجعان، أو كرهت الحمير، وتريد البلداء، فهذا النوع من المجاز لا يختص بصيغ العموم، ولا يدل عليه لفظ حقيقة ألبتة، وإنما خاصية صيغ العموم في التخصيص باعتبار جميع الأحكام، لا باعتبار بعضها كما تقدم. الخاصية الثامنة: رجحان مجاز صيغ العموم على جميع المجازات إذا حصل بطريق التخصيص في حكم النهي والنفي، فإنه مدلول للحقيقة فلا تحتاج إلى دليل بعينه إذا دل الدليل على عدم إرادة العموم بخروج فرد معين أو طائفة معينة منه، فإن اللفظ يحمل على ما يبقى من غير قرينة ترشد إليه؛ لأن صيغة العموم تتقاضاه قبل التخصيص، بخلاف غيره من المجازات، فإن لفظ الحقيقة لا يرشد إليه، فإذا دل الدليل على عدم إرادة الحقيقة لا بد من دليل يدل على المجاز المراد، وإلا وجب التوقف، وهذا

إنما يتم في النفي والنهي، أما الأمر وخبر الثبوت: فإن الألفاظ الموضوعة بإزاء المسميات المركبة إذا عبر بها عن جزء مسماها فإن هذا المجاز مدلول لفظ الحقيقة كما تقدم، وإنما حصل الاعتبار بصيغة العموم إذا كان الحكم نفيا أو نهيا.

الباب التاسع في الأسباب المفيدة للعموم

الباب التاسع في الأسباب المفيدة للعموم وهو إما في اللغة أو العرف، والمفيد له لغة، إما بنفس اللفظ، أو بواسطة ما ينضم إليه، والذي يفيده بنفسه إما مطابقة، أو تضمنا، أو التزاما، والعرف: إما أن يقع/ في المفردات أو المركبات، فهذه ستة أسباب: السبب الأول: وهو الأصل في الباب، المفيد للعموم لغة بطريق المطابقة، وهذا نحو قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} وسيأتي تفصيل صيغها- إن شاء الله تعالى- وسردها والحديث عليها في باب مفرد لها، تذكير فيه. السبب الثاني: المفيد للعموم بدلالة التضمن لا بالمطابقة، وهذا ليس (له) في لسان العرب إلا نوعان من الموضوعات: الأوامر، والنواهي،

لا ثالث لهما، إذا قلنا: بأن الأمر للتكرار، والنهي للتكرار، أما إذا لم نقل ذلك- على الخلاف فيه بين الناس- فلا يوجد له مثال ألبتة.

وبيان ذلك: أنا إذا قلنا: الأمر للتكرار كان موضوعا لطلب الفعل بوصف التكرار في جميع الأزمنة الممكنة، فيكن مسمى هذا للفظ حينئذ مركبا من شيئين، أحدهما: طلب الفعل، والثاني: تكرره، فسيكون اللفظ دالا على المجموع بطريق المطابقة، وعلى كل واحد من الجزأين بطريق التضمن، فيكون التكرار مدلولا عليه بطريق التضمن، وهو استيعاب للأزمنة الممكنة على وجه الاستغراق، على وجه الكلية، فيكون العموم (الذي) هو الكلية مدلولا عليها بالتضمن وهو عموم، وذلك هو المطلوب. ولذلك إذا قلنا: النهي للتكرار إن كان دالا على طلب الفعل مع وصف التكرار في جميع الأزمنة المستقبلية، فيكون وصف التكرار جزء المسمى، فيكون اللفظ دالا على هذا العموم الزماني دلالة تضمن وهو المطلوب. أما إذا قلنا: بأن الأمر والنهي ليسا للتكرار، فإنهما حينئذ إنما يدلان على أصل الطلب من غير تعرض لعموم الزمان واستغراقه، فلا يفيدان العموم ألبتة، وليس في لسان العرب للعموم بطريق التضمن إلا هذان النوعان

على هذا الخلاف في إفادتهما للتكرار. فإذا قلت: الحصر ليس ثابتا في هذين النوعين فإن الصبوح والغبوق موضوعان للفعل بوصف أول النهار في الصبوح، وبوصف آخر النهار في الغبوق، فيكون اللفظ دالا بالتضمن على/ الزمان فيهما، وكذلك لفظ الحاضر والماضي والمستقبل، كل واحد منها يدل على وقوع أمر في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، فالزمان مدلول لها تضمنا، كما قلته في الأمر والنهي، وكذلك صيغ الأفعال تدل على الحدث والزمان مطابقة، وعلى الزمان وحده تضمنا، وهي صيغ كثيرة جدا، فالحصر ليس بثابت. قلت: ليس الأمر كذلك، بل الحصر ثابت. وأما النقض بالصبوح والغبوق، فإن أوردها السائل معرفين باللام فالعموم ثابت بالمطابقة، فإن لام التعريف يفيد العموم مطابقة، والمدعي

الحصر فيه إنما هو فيما يفيد العموم تضمنا، فأين أحدهما من الآخر؟ وإن أوردهما السائل منكرين، فالعموم منفي بالكلية؛ لأن النكرة في سياق الإثبات إنما تفيد المطلق، لا العموم، فما حصل نقض بذلك، وإن أوردهما منكرين في سياق النفي (فالنكرة في سياق النفي) في مثل هذه المادة إ ن لم يقترن بها لفظ كانت مطلقة أيضا، نقله الجرجاني في أول شرح الإيضاح، والزمخشري في الكشاف، وغيرهما، فلا عموم مطلقا، فلا نقض، وإن

أوردهما في سياق النفي مع لفظ (من) حصل العموم، ولكن مدلولا بمطابقة في النكرة في سياق النفي بهذا الوصف يفيد العموم مطابقة، والكلام فيما يفيده بطريق التضمن. فإن قلت: أوردهما معرفين باللام، أو في سياق النفي منكرين مع لفظ (من) حتى يكون العموم مسلما، ويحصل المقصود من النقض حينئذ بسبب أن لام التعريف والنفي مع (من) وإن كان موضوعا للدلالة على العموم مطابقة غير أن المدلول المطابقي هو استيعاب كل فرد فرد من أفراد الصبوح والغبوق بحكم الإثبات أو النفي، وإذا كان دالا على استيعاب جميع الأفراد بالمطابقة فيكون كلية أفراد كل واحد من المعنيين مدلولا بالمطابقة، وفي كل فرد من أفراد هذه الكلية جزء هو زمان، فيصير الزمان مدلولا تضمنا/ من جهة أنه جزء كل فرد من أفراد الكلية، فقد حصل العموم في الأزمان مدلولا بالتضمن، ولا يمكن أن يقال: إنه مدلول بالمطابقة؛ لأن اللفظ لا يدل بالمطابقة

على شيئين إلا بطريق الاشتراك، وصيغة الغبوق أو الصبوح ليست مشتركة، (ونحوه إذا) قلنا: كل عشرة زوج، فإنه دال على أفراد العشرات واستيعابها بالمطابقة على الخمسة في ضمن كل عشرة بالتضمن، وكذلك: كل إنسان حيوان، فإنه يدل على استيعاب كل إنسان إنسان بالمطابقة، وعلى الحيوان بالتضمن، وكذلك الصبوح والغبوق المعرفين بلام التعريف، أو في النفي مع لفظ (من) يحصلان للعموم تضمنا، فلا يحصل الحصر في الأمر والنهي. قلت: هذا بحث حسن، وكلام متجه، غير أني لا أدعي الحصر في الدال بالتضمن على العموم إلا فيما هو جزء المسمى في المرتبة الأولى بأن يكون اللفظ وضع لجزأين، أما في الصبوح والغبوق بما ذكرتم من التفسير: فالزمان جزء الجزء، لا أنه الجزء الأول، ولا ندي الحصر إلا في مثل هذا، أما إذا فتحنا باب أجزاء الأجزاء وإن تعذر، فلا يثبت الحصر، بل يكون له في لسان العرب مثل كثيرة. وأما قول السائل: الحاضر والماضي والمستقبل، فإن أوردهما منكرين في الإثبات لم يعما، وكان مطلقين، أو معرفين بلام التعريف أو مع النفي بلفظ (من) كان اللفظ دالا على العموم في أفراد الماضي والحاضر والمستقبل مطابقة وتضمنا، ويكون الزمان جزء لفرد من كل واحد من هذه الأنواع، فيكون جزء الجزء، لا الجزء الأول في الرتبة الأولى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الصبوح والغبوق سؤالاً وجواباً.

وأما صيغ الأفعال: فالجواب عنها: أنها مطلقات إن كانت في سياق الإثبات نحو: قام، يقوم، فلا عموم حينئذ، فلا نقض، وإن كان الفعل في سباق النفي نحو قوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى}، ففي إفادته للعموم خلاف على القول به، وهو الصحيح، لكون الصيغة دالة على نفي المصادر واستيعابها بالمطابقة، وعلى الزمان أيضا بالمطابقة، فإن الفعل إنما/ يدل على الزمان بصيغته ووزانه، فقولنا: ضرب، إنما يدل على الزمن الماضي، لكونه على وزن (فعل)، لا بحروفه وهي الضاد والراء والباء، وكذلك بقية أمثلة المضي، وقولنا (يضرب) إنما يدل على الزمن الحاضر أو المستقبل على الخلاف فيه لأي الأزمنة وضع بكونه على وزنه (يفعل) (لا بحروفه)، (بل بوزنه) فيحصل حينئذ الجواب عنها من وجهين: أحدهما: أن الأفعال لا عموم فيها، بل هي مطلقة، فإذا قلنا: (ضرب) دل على وقوعه في فرد واحد من أفراد الزمن الماضي، ولا دلالة له على فردين منه، وكذلك المضارع، إنما يدل على وقوعه في الزمن الحاضر وهو فرد لا عموم فيه، أو في فرد من أفراد المستقبل، لا في فريقين منه، وإذا كانت

أمثلة الماضي والمضارع مطلقة، لا ترد نقضا على العموم، وأدعي الحصر في الدال عليه في ذلك النوعين. وثانيهما: أن الصيغة حينئذ هي الدالة على الزمان، وهو كمال مدلولها، والحروف لا تدل على الزمان ألبتة، فما وجد في الأفعال دال على الزمان بطريق التضمن ألبتة، بل الصيغ تدل على الزمان، والحروف الأصلية وهي الضاد والراء والباء مثلا تدل على المصدر، فهما شيئان دالا على شيئين، كل واحد منهما يدل على مدلوله بطريق المطابقة، فلا نقض حينئذ على الدال بطريق التضمن. وها هنا دقيقة حسنة وفائدة جميلة وهي: أن العرب قد تضع الحروف مع الوزن للمعنى، ويكون المجموع المركب منهما (وهو الموضوع) دون أحدهما بإفراده، وهذا هو غالب أوضاع العرب نحو: فرس، فإن الفاء والراء والسين مع كونه على وزن (فعل) موضوع للحيوان المخصوص، فلو قال الإنسان (فعل) وحده الذي هو الوزن لم يفد الحيوان المخصوص، وكذلك لو نطق بالحروف المخصوصة على غير هذا الوزن فقال: (فرس) بضم الفاء أو بكسرها لم يكن ذلك هو اسم الحيوان

المخصوص، بل لابد من الحروف المخصوصة، والوزن المخصوص. وكذلك غالب أسماء الأجناس على ذلك. وقد تضع العرب الوزن وحده دون الحروف، وله أمثلة في لسان العرب: الأول: صيغ أمثلة الماضي. الثاني: صيغ أمثلة المضارع. الثالث: صيغ أمثلة/ الأمر نحو: أفعل، وانفعل. وغير ذلك من الصيغ التي إذا أطلقت كما تراه مجردا عن حروف المصادر المعينة، دل على الزمان المستقبل والطلب. الرابع: صيغ أمثلة النهي نحو: لا تفعل، فإنه يدل على الزمان المستقبل والطلب، وإن لم ينطبق مع هذا الوزن بحروف المصادر المخصوصة. الخامسة: (المفعل) هذا الوزن يدل على المكان والزمان والمصدر، وهو مشترك بين الثلاثة بنص النحاة، فإذا قلنا: مضرب، احتمل زمان الضرب ومكانه والضرب نفسه. السادس: (المفعل) بكسر الميم للآلة التي يفعل بها الشيء نحو: المنجل، والمرود، والمروحة والمغرفة، ونحو ذلك.

السابع: (الفعلة) بفتح الفاء، هذا الوزن وحده مجردا عن حروف المصادر المخصوصة يدل على المرة الواحدة من أي مصدر كان. الثامن: (الفعلة) بكسر الفاء، يدل هذا الوزن على الهيئة والحالة، وإن لم تنطق معه بالحروف المخصوصة بالمصادر، فنقول: لبسة حسنة، وعمة جميلة، وجلسة طويلة أو قصيرة ونحو ذلك، وقد جمع هذه الأربعة بعض الأدباء في بيت من الشعر لتيسير الضبط فقال: المفعل للبقعة، والمفعل للآلة ... والفعلة للمرة، والفعلة للحالة التاسع: قولنا: فاعل، ومفعول ومفعل بالكسر،

ومفعل بالفتح إلى غير ذلك من أسماء الفاعلين والمفعولين، فإن العرب وضعت صيغة ضارب مثلا للدلالة على الفاعل، والحروف الأصلية في هذا الوزن للدلالة على المصدر الذي كان به هذا الفاعل فاعلا. العاشر: صيغة أفعل التفضيل، فإن صيغة أفعل إذا نطق بها مجردة عن حروف المصادر الأصلية أفادت التفضيل وإن لم يعلم المفضل فيه. الحادي عشر: صيغ المبالغة نحو: فعال بتشديد العين، ومفعال، وفعيل، وفعول، وغير ذلك مما عدل به عن فاعل، فإن هذه الصيغ إذا نطق بها مجردة عن الحروف المعينة في كل مصدر أفادت المبالغة، ولم تضع العرب للمبالغة إلا الصيغ وحدها، فإذا قلت: عليم، فالذي وضع للمبالغة إنما هو الصيغة خاصة، وأما العين واللام والميم فلم توضع للمبالغة، بل للدلالة/ على المصدر الذي وقعت فيه المبالغة، وكذلك بقيتها. الثاني عشر: المفعلة، هذا الوزن في وضع اللسان لما يكثر فيه الشيء نحو: المسبعة، والمذأبة والمقتلة، إذا كثر بالمكان واحد من هذه الأجناس المذكورة.

السبب الثالث: المفيد للعموم بطرق دلالة الالتزام، دون المطابقة والتضمن

الثالث عشر: قال بعض الأدباء: الفرق بين الفعالة بالفتح والكسر والضم، فبالفتح للسجايا النفسية والأخلاق الجبلية نحو: الشجاعة، والسخاوة، والنجابة، والسماحة، وبالكسر لما كان صناعة ومحاولة نحو: الخياطة، والتجارة، والصياغة، والدلالة، والكتابة، وبالضم لما كان فضلة ويطرح نحو: النخالة، والقصالة، والسجالة، والقمامة، والزبالة، وهذا هو غالب كثير في هذه الثلاثة ولا يلزم فيه الاطراد، وإنما ذكرت لك هذه النظائر لتعلم أن العرب قد تضع الصيغة وحدها دون الحروف، وأن ذلك ليس خاصا بأوزان الأفعال. السبب الثالث: المفيد للعموم بطرق دلالة الالتزام، دون المطابقة والتضمن: هو كل لفظ له مفهوم (موافقة، أو مخالفة، فإن ذلك اللفظ الذي هو مفهوم) مخالفة يدل بالمطابقة على ثبوت حكمه لمنطوقه بالمطابقة، ويدل بطريق الالتزام والمفهوم على سلب حكم ذلك المنطوق عن كل ما هو مغاير لذلك المنطوق، والمغاير لذلك المنطوق غير متناه؛ لأن غير كل شيء غير محصور بعدد، بل مسلوب النهاية، فإذا قلنا: إن جاءك زيد فأعطه دينارا،

أجناس مفهوم المخالفة عشرة

يقتضي بمنطوقه إعطاء الدينار في حالة المجيء، وأن كل ما هو ليس بمجيء لا يعطي فيه الدينار بطريق الالتزام بمفهوم الشرط، وهذا الدال بالالتزام من مفهوم المخالفة عشرة أجناس، كلها مفهوم مخالفة، ويسمى دليل الخطاب، (ولحن الخطاب): الجنس الأول: مفهوم الشرط، كقولنا: من تطهر صحت صلاته، يدل بالالتزام على أن من لم يتطهر لا تصح صلاته، وهذا المفهوم عام في الإنس والجن وغيرهما. الجنس الثاني: مفهوم العلة، كقولنا: الكفر يخلد في النار، مفهومه: ما ليس بكفر لا يخلد في النار، وما ليس بكفر أفراده غير متناهية، مسلوبة الغاية، فقد دل بالالتزام على سلب الحكم على العموم في أفراد المسكوت/ عنه. الجنس الثالث: مفهوم الصفة، كقولنا: السائمة يجب فيها الزكاة، مفهومه: أن ما ليس بسائمة لا يجب فيها الزكاة، وما ليس بسائمة عام فيما لا يتناهى.

الجنس الرابع: مفهوم المانع

فإن قلت: العلة صفة، فكيف فرقت بين مفهوم العلة ومفهوم الصفة مع أنهما واحد؟ قلت: الصفة أعم، فإنها قد تكون علة كالإيمان والكفر وغيرهما، وقد لا تكون علة بل مكملة للعلة، فإن السوم ليس علة وجوب الزكاة، وإلا لوجب علينا زكاة الوحش لأنها تسوم، بل هي مكملة للعلة، فإن علة وجوب الزكاة نعمة الملك، والسوم مكمل لهذه النعمة بتخفيف مؤنة العلف، فلذلك كان مفهوم الصفة غير مفهوم العلة، لكونه أعم. الجنس الرابع: مفهوم المانع، كقولنا: الحيض يمنع من وجوب الصلاة، مفهومه أن ما ليس بحيض لا يمنع وجوب الصلاة، وما ليس بحيض أفراده غير متناهية بالعدد، فقد دل بالالتزام على ما لا نهاية له. فإن قلت: المانع علة وصفة فما وجه المغايرة بينهما؟ قلت: المانع يغاير العلة من جهة الأثر؛ لأن أثر المانع عدم الحكم، وأثر العلة ثبوت الحكم، ومن جهة أن عدم المانع لا يلزم منه شيء، بخلاف عدم

الجنس الخامس: مفهوم الحصر

السبب فإنه يلزم منه العدم: كزوال الشمس، يلزم من عدمه عدم وجوب الظهر، ومن وجوده وجوب الظهر، ولا يلزم من عدم الحيض أن تجب الصلاة؛ لاحتمال عدم السبب ولا ألا تجب، لاحتمال وجود السبب، ففارق المانع العلة من وجهين: أنه مؤثر في العدم، والصفة لا تؤثر في شيء، بل هي مكملة للمؤثر. الجنس الخامس: مفهوم الحصر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الماء من الماء)، مفهومه أن ما ليس بإنزال لا يجب منه غسل، وما ليس بإنزال لا نهاية لعدده، فقد دل بالالتزام على ما لا يتناهى، وذلك هو العموم.

فإن قلت: فقد قال أبو علي الفارسي في المسائل الشيرازيات أن (ما) في (إنما) للنفي، وأن، (إن: للإثبات، وأن نفي (ما) منصرف للمسكوت عنه، وإثبات (إنما) منصرف للمنطوق به، ووافقه الإمام فخر الدين على ذلك، فعلى هذا التقدير يكون النفي في المسكون (عنه) مدلولا بالمطابقة للفظ (ما) / فإنك إذا قلت: ما قام أحد، كان النفي مدلولا بالمطابقة إجماعا، فلا يكون (إنما) مفهومها من هذا القسم الذي فيه العموم مدلولا التزاما. قلت: هذا سؤال حسن حق، وكلام صحيح، إنما يتأتى التمثيل بمفهوم الحصر إذا قلنا بأن (ما) و (إن) كلمة واحدة، أما على هذا التقدير فلا، ولا

يصح أيضا التمثيل بصيغة الحصر إذا كانت بلفظ نفي قبل إلا نحو: ما قام إلا زيد، فإن النفي العام مدلول المطابقة إجماعا. وأدوات الحصر أربعة إنما. والنفي قبل إلا، وقد تقدما. والمبتدأ مع الخبر، نحو قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} فينحصر ميقات الحج الزماني في ثلاثة أشهر. وقوله عليه الصلاة والسلام: (تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) أي أسباب الدخول في حرمات الصلاة منحصرة في التكبير، وأسباب الخروج من حرماتها منحصرة في التسليم، وهو كثير في الكتاب، والسنة وكلام العرب. الرابع من أدوات الحصر: تقديم المعمولات في المفاعيل والمجرورات

الجنس السادس: مفهوم الغاية

نحو قوله تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين}، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك، وقوله تعالى حكاية عن الملائكة: {وهم بأمر ربهم يعملون} أي: لا يعملون إلا بأمره، {إن إلى ربك الرجعى} أي: (إلى ربك) المنتهى وإلى الله ترجع الأمور، ونحوها من المجرورات المتقدمة، فإنه يدل على انحصار تلك المعاني في هذا المجرورات، فهذان القسمان يمكن أن يمثل بهما دلالة الحصر على العموم بطريق الالتزام. الجنس السادس: مفهوم الغاية، كقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}، مفهومه أنهم لا يقتلون في هذه الحالة، أي: بعد إعطاء الجزية، وسلب القتل ثابت في هذه الحالة لمثل (ما) لا يتناهى من العدد، فهو عموم في النفي. وكذلك قول القائل: سرت إلى مكة، مفهومه أن بعد مكة لم يقع

الجنس السابع: مفهوم الاستثناء

منه (سير)، وبعد مكة يتناول ما لا يتناهى من الأخبار. فإن قلت: قد نص النحاة على أن حكم ما بعد حتى أن يكون مساويا لما قبلها، فإذا قلنا: أكلت السمكة/ حتى رأسها، فالرأس مأكول، قالوا: فإن لم يكن مأكولا لا يصح العطف، وعلى هذا لا يكون مفهوم الغاية ثابتا إلا للفظ (إلى) دون (حتى) فإنهم لم يشترطوا في (إلى) ذلك. قلت: ما ذكرته من النقل صحيح، غير أنه إنما يوجب ما ذكرته من التسوية في المذكور مع حتى نحو قولنا: بعناك حتى هذه الشجرة، وسرت حتى أدخل مكة، فاعلم أن الشجرة مثلا مبيعة، ومكة وقع فيها وإليها السير، وأما ما بعد هذين فالمفهوم يتناوله، فيحصل المقصود من دلالة الالتزام على العموم بطريق المفهوم. الجنس السابع: مفهوم الاستثناء، كقولنا: رأيت الناس إلا بني تميم، فإن بني تميم وإن كان لفظا عاما في نفسه، لكن عموم السلب إنما حصل لهم

الجنس الثامن: مفهوم الزمان

بالاستثناء من الإثبات، فإنه نفي، فكان حكم بني تميم عدم الرؤية، مستفادا من الاستثناء بطريق المفهوم الذي هو دلالة الالتزام. فإن قلت: (إلا) موضوعة للإخراج مما قبلها فتكون تدل على الخروج من الإثبات السابق بالمطابقة؛ لأنه مسماها الذي وضعت له، فلا يكون من باب دلالة الالتزام، فلا يصح التمثيل بالاستثناء في هذا الباب. قلت: سؤال حسن قوي، الجواب عنه: أن (إلا) موضوعة للإخراج كما تقدم، كان نفيا أو إثباتا، غير أن الخروج من الإثبات إنما يلزم منه النفي إذا دل العقل على أنه لا واسطة بين النقيضين، فإنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين وقوع الآخر، فإذا حصلت هذه المقدمة عند العقل، ودل لفظ الاستثناء على الخروج مما قبلها، استفدنا نقيض الحكم السابق بواسطة المقدمة العقلية مع لفظ الاستثناء، فهذا معنى قولنا: إن لفظ الاستثناء يدل بالمفهوم على بعض الحكم السابق أي يلزمه النقيض إذا خرج من النقيض المتقدم، فحصل اللزوم من المقدمة العقلية المانعة من ارتفاع النقيضين، والمثبتة للحصر فيها، إلا أن لفظ (إلا) دل بالمطابقة على ثبوت نقيض ما قبل (إلا) بعدها، بل إنما دل لفظ (إلا) بالمطابقة على الخروج مما قبلها ليس إلا/ أما الدخول في نقيضه فلا، بل بواسطة المقدمة العقلية، فصح أن دلالة الاستثناء من باب دلالة الالتزام، لا من باب دلالة المطابقة، فتأمل هذا الموضوع سؤال وجوابا، فإنهما دقيقان صعبان. الجنس الثامن: مفهوم الزمان، كقولنا: سافرت يوم الجمعة، مفهومه أنه لم

الجنس التاسع: مفهوم المكان

يسافر في غير يوم الجمعة، وغير يوم الجمعة يشمل الأزمان إلى أقصى الأزل، فهذا يدل بدلالة اللزوم التي هي دلالة مفهوم على العموم مسلوب النهاية. الجنس التاسع: مفهوم المكان، كقولنا: جلست أمام زيد، فهو يدل بمفهومه على أنه لم يجلس في غير هذه البقعة، فيشمل من الأحياز ما لا يتناهى بدلالة المفهوم وهي دلالة الالتزام. الجنس العاشر: مفهوم اللقب، قال التبريزي: وأصله في الأعلام، ويلحق أسماء الأجناس، وضابط هذا الجنس كيف كان: هو تعليق الحكم

على أسماء الذوات، أما في علم أو اسم جنس، فالعلم نحو: أكرمت زيدا، يدل بمفهومه على أنه لم يكرم غيره، وغيره من الأشخاص غير متناه، فقد دل بدلالة الالتزام على العموم، واسم الجنس كقولنا: في الغنم الزكاة، مفهومه أن ما ليس بغنم لا زكاة فيه، ولم يقل بهذا المفهوم إلا الدقاق، كما حكاه الإمام فخر الدين في المحصول لضعفه. والفرق بينه وبين غيره من المفهومات، مفهومات الصفات وغيرها: أن الصفات والشروط ونحوهما فيها معنى التعليل، وترتيب الحكم عليها يقتضي عليتها لذلك الحكم، والقاعدة أن عدم العلة علة لعدم المعلول،

وصورة المسكوت عنه فيها عدم لهذه الأمور، فيكون فيها عدم العلة، فيكون فيها عدم المعلول، فيعدم الحكم منها، وهو المطلوب من الفرق، بخلاف قولنا: زيد والغنم، فإنها جامدة، لا تشعر بتعليل، فلا يكون عدمها علم لشيء، فلا يثبت عدم الحكم في صورة المسكوت عنه، فهذا هو سبب هذا الضعف، وقلة القائلين به. فهذه الأجناس العشرة هي أجناس مفهوم المخالفة، وكلها دال على العموم دلالة التزام. وأما الدال بمفهوم الموافقة، فإنه يدل بالالتزام أيضا على العموم، ويسعى لحن الخطاب/ وتنبيه الخطاب، وضابطه أنه اللفظ الدال على ثبوت مثل حكم المنطوق للمسكوت عنه بطريق الأولى أو المساواة.

وفي ضابط مفهوم المخالفة نقول: هو اللفظ الدال على ثبوت نقيض حكم المنطوق للمسكوت، فيفترقان من جهة الثبوت، الحكم نفسه، أو ثبوت نقيضه، ففي الموافقة عين الحكم، وفي المخالفة نقيضه. وتحرير القول فيه: أن اللفظ إذا دل على ثبوت حكم المنطوق فقد يدل على ثبوته في غيره بطريق الأولى، وهو أعظم أو أدنى، وقد يدل على ثبوت حكم له لا بطريق الأولى، بل بالمساواة. أما الأول: فقوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} فإنه يدل بطريق الالتزام على تحريم ما فوق التأفيف من الشتم والضرب وأنواع الأذى، وهذه الأنواع غير متناهية الأفراد، وقد شملها حكم التحريم بدلالة الالتزام. وأما الثاني: فقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك}، فإنه يدل على أمانته فيما دون القنطار بطريق الأولى، وأما (ما) دون القنطار وإن كان منحصرا في رتب محصورة بين القنطار وأدنى

الأوزان إلى الجوهر الفرد، والمحصور بين حاصرين متناهن فلا يكون مسمى العموم، فإن كان شرط (مسمى) العموم أن يكون متناهيا وهذا غير متناه فلا يكون مسمى العموم من هذا الوجه، غير أنه غير متناه من وجه آخر، فإن ما دون القنطار في الحقارة يعرض لأنواع من الموزونات غير متناهية، كلها يشملها وصف الحقارة الذي هو أدنى من القنطار، فيتصور وجوده في المعادن السبعة، وأنواع جميع الجمادات والنبات والحيوانات، وغير ذلك من مواد الممكنات مما هو موصوف بأنه دون القنطار، (فدون القنطار) وإن كان وصفا محصورا غير أن معروضاته غير متناهية، وكلها تقتضي (مفهوم ثبوت) الأمانة فيها، فيكون هذا المفهوم يدل بطريقة الالتزام على العموم في حكم الأمانة في أفراد لا نهاية لها وهذا هو مسمى العموم. وكذلك قوله تعالى: {ولو أن الذين ظلموا ما في الأرض ميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء/ العذاب يوم القيامة}، يقتضي: أنهم يفتدون بما

دون ذلك بطريق الأولى، لو عرض لأي يوم كان، فتكون هذه الآية دالة دلالة الالتزام على العموم في حكم الافتداء في أفراد لا نهاية لها، وهو المطلوب، وهذه الآية مفهومها أصرح من مفهوم الآية الأولى من جهة أن الإنسان قد يوجد أمينا على الأمور العظام، ويتساهل في الأمور المحقرات، لقلة مفسدتها، ولذلك أن كثيرا من الناس يتساهلون في المعصية بملابسة الصغائر دون الكبائر، فيكون في مفهوم هذه الآية ضعف، بخلاف صورة الافتداء يوم القيامة ليس فيها ترخص. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فإنه يدل بمنطوقه على أن مثل أحد لا يبلغ إتفاقه رتبة أحد الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين-، ويدل بمفهوم الموافقة أن إنفاق ما دون ذلك لا يبلغ هذه الرتبة أيضا بطريق الأولى، ووصف قولنا: أدنى من أحد لعرض الأمور غير متناهية، فيكون المندرج تحت هذا المفهوم أفراد غير متناهية في مادة الوجود والإمكان، فيكون دالا دلالة الالتزام على العموم كما تقدم تقريره في مفهوم القنطار، وهو المطلوب.

وأما الثالث: وهو مفهوم الموافقة الدال بطريق المساواة على العموم، فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم)، فإنه (يدل) بطريق المساواة على أنه لو جمع البول وصبه في الماء كان مثل فعله فيه ابتداء من غير فرق، لمساواته له في المفسدة، ثم الطريق الذي يقع بها صب البول في النهر بعد فعله غير متناهية، فيكون الحديث دالا بطريق المساواة دلالة التزام على العموم وهو المطلوب. وكذلك قوله عليه السلام لما سأله عمر- رضي الله عنه- عن قبلة الصائم، فقال عليه الصلاة والسلام: (أرأيت لو تمضمضت بماء ثم طرحته أكان ذلك يفسد صومك؟ )، يدل بمفهومه على أن التمضمض (بالماء إذا طرح لا يفسد الصوم، ويدل بطريق مفهوم المساواة على أن التمضمض بجميع) المائعات

إذا طرحت كذلك، فيكون دالا بطريق الالتزام على العموم؛ لأن أفراد المائعات/ غير متناهية، بل (يدل) بطريق المساواة أن كل فرد من تلك المائعات أو من الماء إذا تكررت المضمضة به في أوقات غير متناهية، ثم طرح ذلك أنه لا يفسد الصوم، ونظائر هذه الأقسام كثيرة في الكتاب، والسنة وكلام العرب، فتأملها في مواطنها تجدها. فإن قلت: السؤال على هذه الأقسام من وجهين: أحدهما: أنا نمنع أن تحريم الضرب وغيره ثابت بدلالة اللفظ، بل بالقياس، وقد قاله القاضي أبو بكر شيخ الأصوليين وغيره، وإذا كان ذلك ثابتا بالقياس لا بدلالة الالتزام، بطلت هذه الأقسام. وثانيهما: سلمنا أن دلالة الالتزام ثابتة في هذه الأقسام، لكن فيما هو

أعلى أو أدنى، أما في المساوي فممنوع، وقد قال الإمام فخر الدين في المحصول وغيره من العلماء: أن الحكم إنما يثبت في هذا القسم بالقياس وعدم الفارق ولم نعلم أحدا منهم قال: إنه ثابت بطريق المفهوم، ، مفهوم الموافقة، ولا [مفهوم] المخالفة، وإذا كانت هذه هي الدعوى خلاف الإجماع، لا تسمع. قلت: الجواب عن السؤال الأول: أن القاضي ومن سالفه قال بعدم المفهوم مطلقا، والمشهور المتناول القول بالمفهوم في مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، وهذا البحث مفرع على هذه المذاهب، لا مذهب القاضي، فإن أصول الفقه قال أبو الحسين البصري في كتاب (المعتمد): إنه يختص بثلاثة أحكام يمتاز بها على أحكام الفقه، أحدها: أنه لا يجوز التقليد فيه،

وثانيها: أن المصيب فيه واحد، وثالثها: أن المخطئ فيه لا يعذر؛ لأن مسائله قطعية، ولم يحك ذلك مهبا له، بل حكاه، ولم يحك فيه خلافا، وإذا كان التقليد في أصول الفقه لا يسوع تعين إتباع الدليل حيث اتجه، ونحن نجد أنفسنا جازمة بدلالة اللفظ التزاما على ما يقع ذكره، ومتبادرا إلى أفهامنا، والعرف شاهد بذلك، فوجب القول بدلالة الالتزام في هذه الصور. وعن الثاني: أن المساوي قسمان، أحدهما: يسبق فهمه عند سماع مساويه من غير سبر، ولا تقسيم، ولا استنباط/ بحيث لو صرح بضد الحكم أو نقيضه في المساوي تبادر العقول السليمة لإنكاره، كما إذا قال القائل: لا يبال في المال ولا يصب فيه البول، أو المضمضة بالماء ثم يطرح لا يفسد الصوم، والمضمضة بمائع آخر يفسده، لوجد كل عاقل في نفسه إشكال ذلك، فمثل هذا المساوي هو الذي يدعى أن فيه دلالة المفهوم التزاما. وأما مساوي لا تفهم مساواته للمنطوق إلا بعد سبر ونظر واستنباط مثل: مساواة الأرز للبر في حكم الربا، والمزر والبتع

والسكركة للخمر في حكم التحريم، فهذا هو القياس؛ لأنه ليس فيه فهم متبادر، ومتى عدم الفهم عن اللفظ عدمت الدلالة، إذ لا معنى لها إلا الفهم والإفهام، وإن عسر عليك تحقيق ذلك في مثال ذكرته فغيره بمثال آخر، فإن العمدة هو الضابط من الفهم والإفهام، وإنكار الطبع السليم التصريح بضد الحكم أو نقيضه، لا خصوص ذلك المثال، إذا تقرر هذا فنحمل نقلهم أنه من باب القياس على ما ليس فيه الضابط المذكور، مع إن هذا الباب ليس فيه تقليد، كما تقدم. وأما قولك: إن هذه الدعوى على خلاف الإجماع، فلا نلم أن حصول الإجماع غايته أنا لا نجد من قال بهذه المقالة، ولا يزم من عدم الوجدان عدم الوجود، وعدم العلم بالشيء لا يكون علما بالعدم، فلعل في نفس الأمر عددا من العلماء قال بذلك ولم نطلع عليه أو عدد من العلماء لم يتعرضوا لهذه المسألة نفيا ولا إثباتا، لم ينعقد الإجماع دونهم، وعلى التقديرين لا يكون الإجماع حاصلا. إذا تقرر الجواب عن هذه المسألة تلخص لنا أن ثلاثة عشر جنسا من

السبب الرابع: المفيد للعموم، وهو اللفظ بواسطة ما ينضم إليه

الألفاظ تدل على دلالة الالتزام على العموم، عشرة من مفهوم المخالفة، وثلاثة من مفهوم الموافقة. السبب الرابع: المفيد للعموم، وهو اللفظ بواسطة ما ينضم إليه، وهو في نفسه غير دال ألبتة، وهو الذي يفرض ضمه للفظ (وهو ثلاثة أقسام): /القسم الأول: الإجماع، وصورته أن يكون اللفظ استعمل في مجازه دون حقيقته وينعقد الإجماع على أن المراد مجازه، فيقع العموم في ذلك المجاز إذا كان اللفظ في نفسه عاما وضع للعموم، ولكن إنما يتناوله بمفهومه حقيقته دون مجازه، فحصول العموم في المجاز إنما حصل من جهة أمرين: أحدهما: كون الصيغة عموم. وثانيهما: انعقاد الإجماع على إرادة المجاز دون الحقيقة. فمجموع الأمرين اقتضى العموم في المجاز (لا أحدهما؛ لأنه لو انفرد أحدهما لم يحصل عموم في المجاز) ومثاله قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه)، قالوا: يا رسول الله كيف يسب الرجل أباه؟ قال: (يسب الرجل الرجل، فيسب الرجل أباه)، فالإجماع منعقد

لأجل هذا التصريح، على أن المراد بسب الأب: السبب لسبه، وأنه من باب إطلاق المسبب على السبب، فسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السبب الباعث على الشيء باسم مسببه الذي هو السبب نفسه، فيعم جميع أنواع التسبب لسب بواسطة الإجماع مع لفظ الحديث العام أن الرجل يلازم التعريف للعموم، وأب مضاف لضمير العموم، والمضاف للعموم يعم؛ لأن اسم الجنس إذا أضيف عم، ولو انفرد اللفظ وحده لم يتناول السبب ألبتة؛ لأن الوسيلة أخفض رتبة من المقصد، والوعيد على الأعلى لا يلزم ثبوته للأدنى، بل مفهومه يمنعه. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من قتل فتيلا فله سلبه)، فقوله

عليه الصلاة والسلام: (قتيلا) نكرة في سياق الشرط فيعم كقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك} فيعم (أحد) في سياق الشرط كما يعم في النفي، واتفق الناس وشهد العوائد والعقل بأن القتيل لا يقتل، وأن المراد بـ (القتيل) ها هنا من قارب القتل بحضوره المعركة، وتسمية الشيء بما قاربه بما حصل له سببه مجاز إجماعا، فيكون العموم حاصلا في هذا المجاز دون الحقيقة بواسطة عموم مع انعقاد الإجماع على عدم إرادة الحقيقة. وكذلك قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} فإن المشرك من جعل شريكا

في أي شيء كان/ (ولو شارك) أو أشرك غيره في داره أو فرسه، هذا المفهوم العام هو حقيقة اللفظ، وانعقد الإجماع على عدم إرادة هذا العموم العام الذي هو حقيقة اللفظ، وانعقد الإجماع على عدم إرادة هذا العموم العام الذي هو حقيقة اللفظ وأن المراد مشرك خاص، واستعمال اللفظ في الخاص من حيث هو خاص مع أنه موضوع للعام من حيث هو عام مجاز، لأن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، ومنه استعمال الحيوان في الإنسان من حيث هو إنسان، لا من جهة أنه حيوان مجاز، وإنما يكون لفظ حيوان في الإنسان حقيقة إذا استعمل في المعنى العام وأطلق على نوعه من حيث هو مشتمل عليه، لا من حيث الخصوص، ولذلك قال العلماء: استعمال لفظ (الدابة) في الفرس أو الحمار مجازا لغويا، وإن كان الحمار دابة حقيقة بسبب أن اللفظ لم يرد به الحمار والفرس من جهة أنهما يدبان أو دابتان، بل من جهة خصوصهما، فلذلك كان اللفظ مجازا، وأنواع هذا القسم في

الكتاب والسنة كثيرة كالكفار والفجار والفساق وغيرها، فإن عسر عليك فهم مثال أو تقرير فخذ غيره. القسم الثاني: أن ينضم إلى اللفظ آخر ويكون كل واحد من اللفظين لا إشعار له بالعموم، ويحصل من مجموعهما العموم. ومثاله: كل ضمير لعام صدر للعموم بحكم وأسند للضير حكم آخر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء}، فالمطلقات عام يقتضى شمول حكم التربص ثلاثة قروء في كل مطلقة، ثم قال تعالى: {وبعولتهن أحق بدرهن في ذلك} أي في أجل العدة، وهذا الضمير ليس عاما في نفسه إلا بإضافته إلى ظاهره، فإن الضمائر من حيث هي ضمائر ليس فيها عموم ولا خصوص وإنما هي تتبع طواهرها، فضمير العام عام، وضمير الخاص خاص، ولا يقضى على الضمير من حيث هو ضمير

بشيء من العموم ولا الخصوص، فيحصل حينئذ العموم في الرجعيات باعتبار أن بعولتهن أولى بهن من جهة الضمير مع إضافة اللفظ الظاهر ليه، مع أن ذلك اللفظ الظاهر أيضا لم يشعر بهذا الحكم ألبتة الذي هو أولوية الأزواج بالرجعة نفيا ولا إثباتا/ فالظاهر لا يقتضى التعميم في هذا الحكم، والضمير لا يقتضيه ومجموعهما يقتضيه، كذلك قوله تعالى: {إلا أن يعفون} هذه النون ضمير خاص بالرشيدات وهو لا عموم فيه ولا خصوص، وإذا اعتبر مع ظاهره الموجب للعموم في الحكم المتقدم من الطلاق حصل العموم في الرشيدات باعتبار هذا الحكم الثاني الذي هو العفو، واعتبر ذلك في موارد النصوص تجده كثيرا. القسم الثالث: أن ينضم إلى اللفظ المطلق الذي ليس بعام التصريح

بعلة، أو الإيماء لها، أو دليل يدل على تعليل ذلك الحكم الجزئي بعلة تشمل ما لا يتناهى من الأفراد، فيحصل العموم بمجموع القياس، وذلك اللفظ المطلق، وأحدهما وحدة لا يستقل بإفادة العموم، فإن القياس من غير أصل لا يفيد شيئا، ولا يتصور، فلا عموم حينئذ إلا من اللفظ المطلق مع القياس. مثال التصريح بالعلة قوله عليه الصلاة والسلام في النهي عن ادخار لحوم الأضاحي: (إنما كنت نهيتكم لأجل الدافة)، أي لأجل الطائفة القادمة عليكم حتى تؤثروهم بلحوم الأضاحي، فالضمير في قوله عليه الصلاة والسلام: (نهيتكم)، خاص بالموجودين بحضرته عليه الصلاة والسلام، لا تقتضي اللغة إلا ذلك، وإن كان قد علم بدليل من خارج أن الخلق أجمعين يستوون في الشرائع. وإذا كان مطلقا في اللغة- أعني ليس عاما- وهذا التعليل المصرح، يقتضي أنه مهما جاءت الدافة وحصلت الضرورة لغيرها، وجب علينا إيثاره بما يقوم به

من الطعام كان الوراد من أرباب الضرورات على أولئك المخاطبين أو غيرهم بل بطريق القياس المصرح بعلة. مثال الإيماء للعلة: أنه عليه الصلاة والسلام دعى إلى بيت فيه كلب فلم يجب، ودعي إلى بيت فيه هرة فأجاب، فسئل عليه الصلاة والسلام عن ذلك فقال: (إنها من الطوافين عليكم والطوافات)، فقول الراوي: بيت فيه هرة: لا عموم فيه (بل مطلق)، وإيماؤه عليه الصلاة والسلام إلى التعليل بلفظ (إنها)، فإن هذه الصيغة من ألفاظ الإيماء وليس من باب الصرائح تقتضي العموم في كل هرة.

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في المحرم الذي وقصته ناقته: (لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)، وقوله عليه الصلاة والسلام/ في قتلى أحد: (زملوهم بكلومهم، فإنهم يبعثون يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك)، يقتضي القياس تعميم هذين الحكمين في كل محرم وكل شهيد، مع أن اللفظ في نفسه لا عموم فيه، والقياس وحده لا يمكن بدون هذا اللفظ، وبمجموعهما يحصل العموم في هذين الفريقين، فتأمل ذلك.

ومثال الدليل الأجنبي (الدال عل) العلة مع لفظ يتناول صور القياس: الأعرابي الذي سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في شهر رمضان، فقال له عليه السلام: (اعتق رقبة ... ) الحديث، اللفظ خاص بشخص خاص، لا عموم فيه، وكون الدليل دل على أن سبب وجوب الإعتاق عليه إنما هو مطلق الجرأة على الإفساد كيف كان، أو الجرأة على الإفساد بالجماع على اختلاف العلماء في علة هذا الحكم، هذا الدليل الدال على العلية بأحد هذين التفسيرين مع ذلك اللفظ الذي ليس بعام، مجموعهما يقتضي تعميم وجوب الكفارة على كل قاصد إفساد الصوم، وإن

السبب الخامس المفيد للعموم: النقل العرفي في المفردات

كان (هذا) اللفظ وحده لا يقتضي هذا العموم، والقياس وحده غير متيسر بدون ذلك اللفظ، والمجموع هو المفيد. السبب الخامس المفيد للعموم: النقل العرفي في المفردات، وهذا السبب غريب قل أن يتفطن له وهو: أن يكون لفظ لا عموم فيه لا يتناول أكثر من فرد واحد بأصل وضعه، ينقله العرف لما لا يتناهى، فيصير من صيغ العموم، لم أرد أحدا نبه عليه في صيغ العموم ولا حرك هذا المعنى أصلا، وقد وجدته في أسماء القبائل، فإن أصلها: (أن اللفظ يوضع لشخص معين) نحو: هاشم، وربيعة، ومضر، (وقيس ونحوها)، يولد لذلك الشخص ذرية تنسب إليه، فيقال: بنو تميم وبنو هاشم، وهذا كله إلى هذه الغاية ليس فيه نقل، ثم بعد ذلك لا يقال: بنو فلان، بل يقتصر على ذلك اللفظ الموضوع للجد فقط، ويغلب الاستعمال ويشيع حتى يصير علما على تلك القبيلة، فيقال عن زيد مثلا: إن من ربيعة، وإنه من مصر، ولا يحتاج أن يقال: إنه من ذرية مضر، ولا من بني مضر، ومعلوم/ أنه لولا النقل العرفي لكان قولنا في زيد: إنه من مضر، كذب صراح، فإن هذا الشخص ليس من ذلك الشخص ألبتة، بل من الذرية فدل ذلك على أن اسم الجد صار منقولا بسبب كثرة الاستعمال للذرية، ولذلك حسن أن يقال: إن زيدا من

مضر، وإنه من الذرية، ولما كانت الذرية غير متناهية الأفراد كان مضر يصدق على من يحدث إلى (أبد) الآباد، كان هذا (العلم) الموضوع أولا لذلك الشخص المعين موضوعا الآن لما لا يتناهى، وذلك هو العموم، فتأمل ذلك فهو كثير في أسماء القبائل. وقد لا ينتهي اسم الجد في غلبة الاستعمال إلى النقل العرفي حتى يستغنى عن لفظ آخر يضاف إليه، بل يقال دائما أو في الأكثر: بنو فلان، كقولهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، ولا يقال: زيد من هاشم ولا من عبد المطلب، فهذا ونحوه ليس فيه نقل، ولا يصير اسما للعموم بسبب النقل العرفي، بخلاف القسم الأول. وربما كان اللفظ حصل فيه نقل للعموم في عصر من الأعصار ثم بطل ذلك النقل ف يعصر آخر بتجدد عرف آخر يقال فيه: بنو فلان، بالإضافة، بعد أن كانت أميتت، وستقف على تلخيص هذا الباب وتفصيله بعد هذا- إن شاء الله تعالى- عند تعديد صيغ العموم وسردها.

السبب السادس المفيد للعموم: الكائن في المركبات

السبب السادس المفيد للعموم: الكائن في المركبات: اعلم أن أهل العرف كما ينقلون الألفاظ المفردة كلفظ الدابة، والنجو والراوية، فكذلك ينقلون المركبات دون مفرداتها، فتكون المفردات في ذلك المركب لا نقل فيها، وذلك المركب من حيث هو مركب حصل فيه النقل، وهذا النوع قل أن يتفطن له في كتب الفقه، وتقع فروع مبنية عليه، ويقع التخريج لذلك الفروع بغيره، فيقع التخريج خطأ في كثير من الصور، وذلك أمثلة: الأول: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} وما ذكر مع الأمهات ... الآية، مقتضى هذا اللفظ لغة أن يكون ذوات الأمهات حراما، فإن المفعول الذي ذكر في اللفظ فإنه دل العقل على أن الذوات غير مقدورة لنا، ودلت اللغات وعوائد الشرع أن التحريم وجميع الأحكام/ الشرعية لا تقع إلا في مقدور، فلا تكون ذوات الأمهات محرمة لهذه المقدمات، فيتعين

حينئذ أن يكون هنالك مضاف محذوف تقديره: حرمت عليكم استمتاعات أمهاتكم، هذا مقتضى اللغة، والقواعد المقدمة، ثم إنه كثر حذف هذا المضاف، وتطاول الاستعمال، وغلب حتى صار هذا المركب الموضوع لتحريم ذوات الأمهات لغة موضوعا لتحريم أنواع الاستمتاع في العرف، بحيث ستجد بعد هذا النقل التصريح بذلك المضاف، وصار كأنه كالزيادة المتكلفة المذكورة، ولو قلت: الأمهات وحده، لم يفد عموم تحريم أنواع الاستمتاع، أو حرمت وحده، لم يفد عموم تحريم الاستمتاع، بل المجموع هو المفيد لعموم تحريم أنواع الاستمتاع، بسبب النقل العرفي، ولذلك أنك لو لم تأت بصيغة العموم بل بلفظ مفرد دال على لفظ واحد يحصل العموم، فإذا قلت حرمت عليكم هذه المرأة بالرضاع لم يفهم أحد إلا تحريم جميع أنواع الاستمتاع بها بسبب النقل العرفي.

وكذلك إذا قلت: حرمت عليك هذه الميتة، لكان اللفظ- أيضا- موضوعا لتحريم المناع المتعلقة بها، المقصودة منها، ولم يحتج إلى تقدير مضاف بعد هذا النقل؛ لأنا إنما قدرناه لأن اللفظ لم يكن موضوعا له، بل لتحريم الذوات، فلما صار اللفظ موضوعا له عرفا استغنينا عن تقدير بسبب التصريح، ولو قلت حرمت عليكم الأفعال الخبيثة أو المشتملة على المفاسد لم يكن فيه نقل عرفي، بل ذلك بالوضع اللغوي من غير احتياج إلى تقدير مضاف ولا نقل؛ لأن هذا المواطن لم يحتج إلى حذف مضاف ولا تقديره، بل اللفظ في نفسه لا مجاز فيه ولا حذف كامل واف بالدلالة على هذا المعنى من غير احتياج إلى ضميمة، وإنما حصل النقل هنالك؛ لأنه كان محتاجا باعتبار الوضع اللغوي إلى مضاف محذوف، فتأمل ذلك. الثاني/: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} / فمقتضى اللغة، أن يكون المحرم هو هذه الأعيان، والقواعد المتقدمة تمنع من ذلك من جهة أنها غير مقدورة، بل الجميع محتاج إلى تقدير مضاف تقديره: أكل الميتة، وشرب الدم، وأكل لحم الخنزير، وإن أردت أن تقدر مضافا واحدا يشمل الجميع قلت: تناول الميتة والدم ولحم الخنزير، فالمتناول يشمل الجميع وحينئذ يصح إسناد التحريم لهذا المضاف، وإلا فالميتة ليست حراما إجماعا، والدم والخنزير ليسا بحرامين إجماعا، وإنما الحرام تناولهما، كذلك الخمر لا يحرم (تناولها) إجماعا، بل شربها وهو فعل يتعلق

بالمكلف غير عين الخمر وعين الميتة وما ذكر معهما، وهذا هو حظ البحث اللغوي مع ملاحظة القواعد الشرعية، بل كثر الاستعمال وتطاولت به الأيام إلى أن صار هذا المركب موضوعا لتحريم ذلك المضاف الذي كنا نقدره، بعد أن كان موضوعا لغة لتحريم المضاف إليه خاصة، فلما حصل النقل العرفي حصل في عموم المنافع المضافة لهذه الأعيان اللازمة لكل واحد منها، واستغنينا حينئذ غن تقدير المضاف؛ لأنا حينئذ ننطق باللفظ الصريح فيه، ومع التصريح بالمعنى لا يفيد؛ لأنه إنما يفيد لعدم ما يدل عليه. المثال الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، مع أن الدماء والأموال والأعراض لا يمكن أن يتعلق بها التحريم، فيتعين بمقتضى اللغة مضافات محذوفة تقديرها: ألا إن سفك دمائكم (وأكل أموالكم، وثلب أعراضكم، أو يقدر مضافا واحدا يعم الجميع تقديره.

تناول دمائكم) وأموالكم، وتناول كل شيء على حسبه، ويكفي هذا المضاف عن تلك وهو أخصر. هذا هو البحث بحسب اللغة، ثم كثر الاستعمال في هذا الحذف حتى صار المركب موضوعا لتحريم التناول، لا لتحريم هذا المسميات، ومقتضى اللغة إنما هو تحريم هذه المسميات، ولما انتقل لتحريم هذه/ الانتفاعات أو التناولات المضافة إلى هذه الأعيان، وكل واحد من هذه الأعيان عام في نفسه؛ لأنه (اسم جمع) أضيف فيعم (نحو عبيدي) أحرار، والمنافع أيضا المضافة للعموم عامة ولو أنه في كل فرد فرد حصل العموم، فإن الموزع على العام عام، فتكون هذه الصيغ المركبات موضوعة في العرف للعموم وضعا عرفيا، (وهو المطلوب وكل واحد من مفردات هذه المركبات لم تفد هذه العموم، فالتحريم وحده لا يفيد، والدماء وحدها لا تفيده، فإذا ركبت التحريم مع هذه الصيغ كان المجموع المركب من هذين اللفظين هو الموضوع للعموم عرفا) بالنقل العرفي، ومثل هذا كثير في العرف، فيكفي الاقتصار على هذا القدر. فإن قلت: ما ذكرته من النقل العرفي مشكل بقوله عليه الصلاة والسلام: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها، وباعوها،

وأكلوا أثمانها)، فإن مقتضى ما قدرته من القاعدة يكون اللفظ المركب من التحريم مع الشحوم موضوعا في العرف لما هو المتبادر منه، وهو الأكل، فإنه لا يفهم السامع من قول القائل حرم الله تعالى الشحم إلا تحريم أكله، كما أنه لا يفهم من تحريم الميتة إلا تحريم أكلها، دون سائر الأفعال، والقاعدة: أنه لا يلزم من تحريم أكل شيء تحريم بيعه؛ لأن الآدمي حرام الأكل (ويجوز بيع رقيقه، والخمر وبالبغال محرمة الأكل ويجوز بيعها إجماعا، والنبات الذي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود على تحريم البيع مع لفظ (التحريم، والتحريم) إنما يفهم منه تحريم الأكل خاصة ولا يلزمن منه تحريم البيع. قلت: الجواب من وجهين: أحدهما: أن العين إذا كانت لها منفعة واحدة، وحرمت تلك المنفعة حرم بيع

تلك العين، فإن المعاوضة تعتمد وجود منفعة مقصودة، يصح تناولها شرعا، فإذا لم يبق في العين منفعة غير المحرمة، أو منفعة لا يقصد لها إلا نادرا- امتنع/ بيعها، ومنفعة الشحوم غالبا إنما هو الأكل، فإذا حرم الأكل حرم البيع؛ لانحصار المنفعة في المحرم أو ما هو نادر كطلاء السفن بالشحوم، فإنه (إنما) يقصد إليه أحيانا قليلة (في بقاع قليلة) وهو موارد السفن في البحار المالحة، فلذلك حسن لعن اليهود على البيع. وثانيهما: أنا نستدل بالأثر على المؤثر، فنستدل بورود اللعن على البيع، أن الله تعالى لما حرم الشحوم على اليهود حرم عليهم مطلق الانتفاع بهما، فلما باعوا فقد خالفوا النهي فاستحقوا اللعن على البيع بعد هذا التحريم. ***

الباب العاشر في الفرق بين ثبوت الحكم في الكلي، وبين نفي الكلي أو النهي عنه

الباب العاشر في الفرق بين ثبوت الحكم في الكلي، وبين نفي الكلي أو النهي عنه اعلم أن هذا الباب شريف يحتاج إليه الفقيه في الفروع، وينشأ (له منه) فروق ومدارك حسنة، وإشكالات قوية، ويتلخص باب العموم اللفظي ويكون المدرك منه عقليا قطعيا. وتحرير الكلام أن نقول: ثبوت الحكم في المشترك (يكفي فيه فرد، ونفي المشترك) الكلي يقتضي النفي عن كل فرد بحيث يحصل ما لا يتناهى من المحال التي ثبت فيها النفي.

وتقرير ذلك بالمثال والبرهان: أنه يصدق أن الإنسان في جنس الحيوان قطعا ولم يلزم من ذلك استيعاب الإنسان لجميع موارد الحيوان، بل هو في أقله، ولذلك يصدق أن زيدا في الحيوان ولم يبعد شخصا منه؛ لأنه ثبوت في مشترك، فالثبوت في المشترك معناه: اجتماع الماهية الكلية مع ذلك الثبوت إما فرد، أو نوع، أو حكم، وصدق اجتماعهما يكفي فيه فرد من غير احتياج إلى محل ثان للاجتماع، حينئذ يصدق، والدال على اجتماعهما صادق بفرد وبأكثر منه، فهو يدل على أعم من الكل أو البعض، والقاعدة: أن الدال على الأعم غير دال على الأخص؛ لأنا إذا قلنا: في الدار إنسان، لا يقتضي أنه زيد، وإذا قلنا: في الدار جسم، لا يدل على أنه نام، وإذا قلنا: إنه نام، لا يدل على أنه حيوان، وإذا قلنا: إنه حيوان، لا يدل على أنه إنسان، وكذلك كل دال على ماهية كلية لا يدل على شيء

من أنواعها/ ولا شيء من أشخاصها بعينه، فاللفظ الدال على الأمر الأعم الذي هو مسمى اجتماع المعنى الكلي مع ذلك الحكم، أو مع تلك الحقيقة الأخرى، لا دلالة له على الاجتماع في كل الأفراد، ولا على الاقتصار على بعضها؛ لأن مدلوله أعم من القسمين، بل اللازم عن ذلك محل واحد لابد منه، فلذلك قلنا: إن ثبوت الحكم في المشترك لا يقتضي إلا فردا واحدا، وإن كان تكليفا خرج المكلف عنه بفرد واحد، وكذلك الإخبار عن ثبوت الحكم في مشترك (يصدق بفرد واحد، فالأمر بالمشترك الإخبار عن ثبوت الحكم في مشترك) من باب واحد. وأما نفي المشترك بطريق الخبر عنه أو النهي عن المشترك وتحريمه فلا يصدق إلا بنفي كل فرد؛ لأن معنى الإخبار عن نفي المشترك أن هذه الماهية الكلية لم تدخل الوجود، فلو دخل منها الوجود لدخلت تلك الماهية في ضمنه، فيكذب الخبر القائل: إن الماهية لم تدخل الوجود. وكذلك النهي عن المشترك معناه: طلب إعدام تلك الماهية المشتركة الكلية، فلو عبر فرد منها الوجود لكانت تلك الماهية الكلية قد دخلت الوجود، فكان النهي مخالفا، والمكلف عاصيا آثما.

ينبني على هذا الفرق ثلاث فوائد

فظهر أن الإخبار عن نفي المشترك، والنهي عن المشترك يدلان على إعدام كل فرد من أفراد ذلك المشترك، بحيث لو دخل فرد الوجود لكان مخالفا لدلالة اللفظ، فظهر أن نفي المشترك، والنهي عنه يقتضي العموم في طرف العدم، وأنه يشمل من المحال ما لا يتناهي، وهذا هو العموم اللفظي، أن يكون لنا لفظ دال على ثبوت حكمه لما لا يتناهي من الأفراد، وظهر أن ثبوت الحكم في المشترك مطلق يصدق بفرد واحد، ولا دلالة للفظ على فرد آخر، وظهر لهذا التقرير الفرق الجلي الواضح بين ثبوت الحكم في المشترك وبين نفيه عن المشترك، وأن أحدهما يقتضي العموم دون الآخر. وينبني على هذا الفرق ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: أنه قد وقع الخلاف بيننا وبين الحنفية في قول العرب: لا رجل في الدار، مع (أن) الاتفاق على اقتضائه للعموم: هل العموم حصل فيه النفي؟ لان النفي فيه موضوع لنفي الحقيقة الكلية التي هي مفهوم الرجل، / ولزم من نفيه نفي كل فرد؛ لأنه لو ثبت فرد لما كانت حقيقة الرجل منفية؛ لاستلزام ذلك الفرد الحقيقة الكلية، هذا هو المذهب المحكي عن الحنفية، وظاهر قولنا وقول الجمهور: أن العرب وضعت هذا التركيب، وهو قولنا: لا رجل في الدار

ونحوه، للقضاء بالنفي على فرد فرد من أفراد الرجال، فتكون الخصوصيات في كل رجل على رأينا منفية للفظ مطابقة، وعلى رأيهم تكون منفية التزاما، وما ذكرناه أولى بالصواب لوجوه: الأول: أن المتبادر في العرف، وأن المتكلم قصد بنفيه هذا نفي كل رجل، لا نفي المشترك، وإذا كان هذا هو المتبادر عرفا، وجب أن يكون في اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير. الثاني: أن ما ذكرناه يقتضي الدلالة المطابقية، وما ذكروه يقتضي دلالة الالتزام، والمطابقة أولى من الالتزام. فإن قلت: دلالة الالتزام لازمة للفريقين، فإن الأفراد عندهم منفية بطريق الالتزام، وعندهم بطريق المطابقة، وعندكم الماهية (الكلية) مدلول عليها بطريق الالتزام؛ لأنه يلزم من نفي كل فرد نفي المشترك قطعا، والماهية الكلية عندهم مدلولة بطريق المطابقة، فكلا الفريقين له مدلول مطابقة ومدلول التزام، فبطل الترجيح. قلت: المطابقة الكلية وإن كانت في المذهبين والالتزام في المذهبين، إلا

أن مذهبنا أرجح على هذا التقدير أيضا؛ بسبب أن دلالة المطابقة عندنا في كل فرد، وهو عدد غير متناه، وهي عندهم في شيء واحد، وهو المفهوم الكلي غلط، وعندنا الدلالة الإلتزامية في شيء واحد وهو المفهوم الكلي، وعندهم في أفراد لا نهاية لها، فنصيبها حينئذ من الدلالة الراجحة أكثر، ومن المرجوحية أقل، ونصيبهم من المرجوحة أكثر، ومن الراجحة أقل، فكان مذهبنا أولى؛ لأن الذي نصيبه من الأرجح أرجح (هو ارجح)، فمذهبنا أرجح. الثالث: اتفاقنا على دخول الاستثناء على هذه الصيغة، فعلى رأيهم لم يخرج الاستثناء شيئا من مدلول اللفظ، فإن مدلوله عندهم إنما هو الماهية الكلية، وما عداها إنما حصل/ بطريق اللزوم، فالمدلول مطابقة لا يقبل الاستثناء، فإن زيدا المستثنى أو العدد الكثير نحو قولنا: لا رجل في الدار إلا بني تميم، لا يتصور دخوله في الماهية الكلية حتى يخرج منها، فيكون الاستثناء عندهم إنما يصح من لازم المدلول مطابقة، وهي نفي الأفراد اللازم لنفي المشترك، ومتى كان النفي من لازم مسمى اللفظ، دون مسمى اللفظ، كان منقطعا، وعلى رأينا يكون من مسمى اللفظ؛ لأن مسمى اللفظ عندنا

الكلية، والجزئية داخلة فيها، وكل فرد يشار إليه داخل فيها، فيكون الاستثناء من مدلول اللفظ، فيكون متصلا، ومتى دار الاستثناء بين أن يكون متصلا أو منقطعا، كان جعله مصلا أرجح بالاتفاق، ومذهبنا حينئذ يستلزم الأرجح، ومستلزم الأرجح أرجح، فمذهبنا أرجح. الرابع: قال النحاة: قولنا: لا رجل في الدار، جواب لمن قال: هل من رجل في الدار؟ ، وكان الأصل في الجواب أن يقول: لا من رجل في الدار، فيدخل لفظ النفي على ما كان في لفظ المستفهم، ولما حذفت (من) - وهي مرادة- تضمن الكلام معنى النفي، وهو مع، فبني الاسم مع لا لذلك، وهذا الكلام من النحاة يقتضي: أن (من) في الكلام، و (من) لا تدخل إلا فيما يقبل التبعيض، والحقيقة الكلية ليس فيها كثرة أفراد حتى تتبعض، فتعين حينئذ أن (من) إنما تدخل على أفراد هذه الحقيقة، وتلك الأفراد هي المقصود بالجواب، فيكون قول العرب: لا رجل في الدار، مقصودة الأفراد لا الحقيقة الكلية، وهو المطلوب، فثبت بهذه الوجوه أن الحق

الفائدة الثانية: في من قال لنسائه: إحداكن طالق

في هذه المسألة مع الجمهور دون الحنفية. الفائدة الثانية: المبنية على نفي الحكم عن المشترك، وهو نفي المشترك، والفرق بينه وبين ثبوت المشترك: هو أنا اختلفنا نحن والشافعية في قول القائل لأحد نسائه: إحداكن طالق، قلنا نحن: يطلقن كلهن، وقال الشافعية: يختار واحدة منهن، ووافقهم الحنفية على ذلك، وعامة المالكية يعللون هذه المسألة بالاحتياط في الفروج، وبتغليب التحريم على التحليل، وربما (استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع) / الحرام والحلال، إلا غلب الحرام الحلال) ـ

وفي المسألة غور عظيم، ومدرك جميل، أولى من هذه الوجوه. ولقد اتفق اجتماعي يوما بقاضي القضاة صدر الدين، رئيس الحنفية، وكان رحمه الله إماما في مذهبه، متفننا في عدة من العلوم، كثير الاستحضار لنوادر المسائل وشوارد المباحث، حسن الأخلاق والديانة، فقال لي: رآني اجتمعت ببعض فضلاء المالكية فسألته عن مذهب مالك في

هذه المسألة، فقال: يطلقن كلهن، قال: قلت له: لماذا؟ قال: احتياطا للفروج، قال: قلت له: يلزم من مذهب من مسالك خلاف الإجماع، لأن الكلام في هذه المسألة حيث لا نية للمتكلم بل أضاف حكم الطلاق إلى مفهوم (إحداهن)، وقد أضاف (الله) تعالى حكم الكفارة في ليمين إلى إحدى الخصال الثلاث، فنقول: إضافة الحكم إلى أحد الأمور: إما أن يكون مقتضاه لغة التعميم، أو لا يكون، وإنما (كان) يلزم خلاف الإجماع، فإن كان مقتضاه تعميم الحكم يلزم وجوب جميع الخصال ويعم الحكم فيها، وهو خلاف الإجماع، وإن لم يكن مقتضى هذا اللفظ تعميم الحكم يون التعميم في مسألة الطلاق بغير مقتضى ولا مستند، والحكم بغير مستند خلاف الإجماع (فعلم بأن مذهب مالك- رحمه الله- يلزم منه على التقدير خلاف الإجماع). قلت له- رحمه الله-: هذا السؤال غير لازم بسبب ثلاث قواعد: القاعدة الأولى: أن مفهوم أحد الأشياء قدر مشترك بينهما، لصدقه على كل واحد منها، والصادق (على أمور) يجب أن يكون مشتركا بينهما، وإلا لتعذر صدقه عليها كلها، فإذا اجتمع في البيت ألف رجل كان مفهوم أحد الرجال صادقا على كل واحد من تلك الرجال، فزيد أحدهم، وعمرو أحدهم، وكذلك إلى آخرهم، فيكون مفهوم أحدهم مشتركا بينهم. القاعدة الثانية: أن إيجاب المشترك الماهية الكلية يكفي في صدق حكمه

بالخروج عن عهدته فرد واحد، كما أوجب الله رقبة في الظهار، وهي مفهوم مشترك فيه بين رقاب الدنيا، خرج المكلف عن عهدة هذا التكليف برقبة واحدة/ من الرقاب، من غير احتياج إلى ثانية، وكذلك شاة من أربعين شاة، ودينار من أربعين دينار، وإذا حرم الله تعالى ماهية كلية مشتركا فيها حرمت جميع أفراد تلك الماهية، كما إذا حرم الله تعالى مفهوم الخنزير، الذي هو قدر مشترك بين جميع الخنازير (حرم الله) (تعالى) هذا الخنزير

وكل خنزير، وكذلك إذا حرم [الله تعالى] مفهوم السم القاتل، حرم كل سم، وعم ذلك جميع الأفراد الواقعة من ذلك المفهوم المشترك، بخلاف إيجاب المشترك، هذه القاعدة مجمع عليها في الشريعة أيضا، معلومة الصحة. القاعدة الثالثة: أن الطلاق تحريم رافع للإذن الحاصل للعقد السابق، فمعنى قوله: أنت طالق، أي زال قيد عصمتي عنك، وانطلقي مني، وصرت محرمة علي. وإذا تقررت هذه القواعد الثالث فنقول: قوله: (إحداكن طالق) إضافة للحكم إلى مفهوم مشترك، عملا بالقاعدة الأولى، وهو تحريم، عملا بالقاعدة الثالثة، فيعم جميع الأفراد، عملا بالقاعدة الثانية، فحرم النسوة كلهن، عملا بهذا القواعد الثلاث. وأما إيجاب الكفارة وهو إيجاب في مشترك فيكفي منه فرد، فلا جرم خرج عن العهدة بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث، فافترق المسألتان افتراقا شديدا، وتباين البابان مباينة عظيمة، بفرق عظيم مبني على قواعد عقلية، ومقدمات قطعية يقينية، لا من باب التخيلات الضعيفة والمقدمات الواهية.

فإن قلت: هذا البرهان عليه أسئلة: السؤال الأول: أن لفظ (إحداكن) [هو] مؤنث (أحد) الذي معناه (واحد)، وألفه منقلبة عن واو؛ لأنه من (الوحدة) مشتق، فهي حينئذ من معنى (واحد)، و (واحد) مقتضاه الماهية بوصف الوحدة، وعلى هذا ينافي أن يتعدى الحكم لاثنين من تلك الماهية، وإلا لبطل معنى الوحدة، وعلى هذا التقدير يكون اللفظ ظاهرا أو نصا في أن حكم الطلاق لا يتعدى

لاثنين منهن، والقول بتعميم الطلاق فيهن مبنيا على خلاف ظاهر اللفظ، فتكون باطلة، إلا لا لفظ يعضدها، ولا نية تعمها. السؤال الثاني: نص النحاة على أن قول/ العرب: لا رجل في الدار، برفع رجل وتنوينه إنما هو نفي لماهية الرجل بقيد الوحدة المنافية للكثرة، ولذلك يحسن أن يقال: لا رجل في الدار بل اثنان، ولو صح ما ذكرتموه لكان قوله: بل اثنان، مناقضا لقوله أولا: لا رجل، مع أنهم قالوا: إنه ليس مناقضا له، بل تفسير اللازم اللفظ، وإذا كان نفي الماهية بوصف الوحدة المدلول عليها ضمنا من غير تصريح بها يمنع التعميم فأولى أن يمتنع التعميم إذا صرح بلفظ الوحدة المناقضة للكثرة بقوله: (إحداكن)، فالقول بالتعميم حينئذ يكون على خلاف التصريح المنافي له، فيكون القول به باطلا. السؤال الثالث: أنا نمنع أن الطلاق تحريم، بل هو حل للعصمة الثابتة بمقتضى العقد السابق، كما أن العتق حل للملك في الرقيق الكائن بمقتضى السبب السابق للملك، ولما قال مالك: إنه في العتق يختار أحد العبيد ويعينه للعتق دون بقيتهم، إذا قال: أحدكم حر، فكذلك هاهنا، يلزم أن يخيره كما خيره في العتق.

والفرق بينهما في غاية الإشكال، فإن العبد أو الأمة إذا عتق، يحرم وطء الأمة، بعد إباحته في الملك قبل العتق، ويحرم إكراه العبد على العمل، كما كان قبل العتق، فقد ثبت التحريم في الرقيق، كما ثبت في النسوة سواء، وكلاهما تحريم، وكلاهما إزالة منفعة شرعية، مع أنكم قد فرقتم بينهما، فقلتم: يختار في العتق إذا قال: (أحدكم حر، ولا يختار في النسوة) إذا قال: إحداكن طالق. والجواب عن السؤال الأول: أن الأمر كما ذكرتموه في الاشتقاق والتأنيث، ومع ذلك فليس هو معينا للفرد الواحد من تلك الماهية، بل ورد ما ذكرتموه واحدة، واختلف في حاله بين النفي والإثبات والكتاب والسنة ولسان العرب. قال الله تعالى: {فخذ أحدنا مكانه}، والمراد هنا: الماهية بقيد الوحدة،

ولكن في سياق الثبوت، وقال تعالى: {قالت إحداهما يا أبت استأجره}، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت، (وقال تعالى: {أما أحدكما فيسقى ربه خمرا}، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت)، وقال تعالى حكاية عن [سيدنا] شعيب عليه السلام: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين}، والمراد: الماهية بوصف الوحدة، ولكن في سياق الثبوت، وقال تعالى: {أن تضل إحداهما/ فتذكر إحداهما الأخرى}، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت. وقال تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين}، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن في سياق الثبوت وقال تعالى: {إنها لإحدى الكبر}، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، وإلا لكانت هي الكبر كلها، وذلك محال، ولكن الكلام في سياق الثبوت. (وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث المتلاعنين: (إن أحدكما كاذب، فهل فيكم من

تائب)، والمراد: الماهية بقيد الوحدة ولكن في سياق الثبوت)، (ولذلك استجيبت الدعوة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه)، ولكن الكلام في سياق الثبوت)، وقال - صلى الله عليه وسلم - (في) النفر الثلاثة الذين قدموا فآوى أحدهم إلى الحلقة، وجلس الآخر دونها، (وأعرض الآخر): (أما أحدهما فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر، فاستحى من الله، فاستحى الله منه، وأعرض الآخر عن الله، فأعرض الله عن)، والمراد: الماهية بقيد الوحدة، ولكن

الكلام في سياق الثبوت، فهذا كله على ما ذكرتموه مؤيد للسؤال. وأما ما ورد على خلاف ذلك فقوله تعالى: {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه}، والمراد: العموم، لا الماهية بقيد الوحدة، وأن المخاطب واحد دون بقية الناس، بل معنى هذا الكلام أن هذا الاستفهام معناه النفي، وهذه النكرة في سياق النفي تعم. وثانيهما: قوله تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب} الآية، وهذا الاستفهام أيضا المراد به العموم؛ لأن معناه النفي؛ ولأنه لا يقصد أحدكم أن تكون له هذه الجنات، وقد أصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فتهلك هذه الجنات- والحالة هذه- فحصل العموم، لأنه نكرة في سياق النفي. وثالثهما: قوله تعالى: قوله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا}، والمراد: أن أي امرأة أعطيت شيئا، وإن عظم، لا يؤخذ منه شيء، وليس المراد أن واحدة من النساء حكمها كذلك، دون بقيتهن، وحصل هذا العموم

من جهة أن معنى الكلام النهي، والنهي في معنى النفي/ يعم (في) النكرة كما يعم في النفي، فلا فرق (بين قولك: ما رأيت أحدا)، وبين قولك: لا تضرب إحدا، في أن الجميع صيغة عموم، وتقدير الآية من جهة المعنى: لا تأخذوا من إحداهن شيئا، وإن عظم، إذا قررتموه لها، وإن كان اللفظ لفظ ثبوت، لكن المعنى على النفي، (فلذلك عم). ورابعها: قوله - صلى الله عليه وسلم - في القصة المشهورة في الصحابة رضوان الله عليهم: (ادعوا لي أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مد أحدهم، ولا نصيفه)، وليس المراد واحدا من الرفيقين دون بقية ذلك الفريق، بل الحكم عام في الفريقين، وعم؛ لأن معناه النفي، وتقدير الكلام: لا يصل أحدكم إلى رتبة أحدهم ولو أنفق ما عسى أن ينفق، ومعلوم أن هذه العبارة لو صرح بها اقتضت العموم في الفريقين.

وخامسها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه)، وليس المقصود الماهية بقيد الوحدة، بل العموم؛ لأنه نهي، والنهي (كالنفي) كما تقدم تقريره. وسادسها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يستجاب لأحدكم ما لم يقل: دعوت فلم يستجيب لي)، وليس المقصود واحدا دون بقية الناس، بل العموم، وهو خبر مقصوده النهي (من أن يقول أحد هذه المقالة: دعوت فلم يستجب لي، فهي نكرة في سياق النهي)، والنهي كالنفي كما تقدم تقريره. وسابعها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى (يكون) بينه وبينها ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار

فيدخلها ... ) الحديث، وليس المراد أن كل واحد من الأمة كذلك، وإلا لكان إياسا من الخير، وليس المقصود واحدا دون بقية الناس، بل هذا المعنى يكثر في الناس من غير استيعاب، هذا مدلول اللفظ، ومقصود الكلام عام، أي: لا يغتر أحد من الناس بما هو عليه من خير أو شر، فإن العاقبة مجهولة له، فهو حض لكل الناس على الخوف، وسؤال حسن العاقبة. وثامنها: لا يقل أحدكم عبدي، ولا أمتي، بل فتاي، وفتاتي)، وهذا عام صريح، وليس المقصود بقيد الوحدة دون بقية الناس، لأنه نكرة في سياق النهي، ولا أثر لوصف التوحد ألبتة.

وتاسعها: قوله - صلى الله عليه وسلم - /: (لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرقه أحب إليه من أن يجلس على قبر)، وليس المقصود واحدا بقيد الوحدة، دون بقية الناس، بل العموم؛ لأن معناه النهي عن الجلوس على القبر، ومعناه المقصود: لا يجلس أحدكم على قبر. وعاشرها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتى أحدكم أهله فليقل: اللهم ارزقني خيرها وخير ما حملتها ... ) الحديث، وليس المقصود واحد دون بقية الناس، بل هذا أمر صرف وثبوت محض، لا نفي فيه، ولا نهي، ومع ذلك فالمقصود العموم، وهو أبلغ من جميع ما تقدم. وحادي عشرها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تمكث إحداكم شطر عمرها لا

تصلي وليس (المقصود واحدة دون بقية النساء)، وصدر الحديث يقتضي العموم وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذم النساء على العموم: (ناقصات عقل ودين)، وذكر ترك الصلاة في شطر العمر تعليلا لنقصان الدين لمن ذكر بصيغة العموم، فيتعين العموم مع أنه ثبوت صرف، لا نفي فيه، ولا نهي، وهو أبلغ من الثبوت المتقدم في الشرط، لأن الشرط غير مجزوم به، وهذا مجزوم به، ولذلك يعد النحاة الشرط فيما يشبه النفي، فهو أبلغ من جميع ما تقدم في الجواب عن السؤال، وإن طال ما ذكره السائل. وثاني عشرها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول)، وليس المراد أن واحدة من النساء

(كانت) تفعل ذلك، دون بقية النساء، بل المراد أن جميع النسا كن يفعلن في العدة ذلك، فقد استعملت الصيغة في العموم مع أن الكلام في الثبوت المحض، فأولى في النفي والنهي. وهذا يدل- أيضا- على أن (أحدا) يستعمل استعمال أسماء الأجناس المطلقة، فإنه يعم بالإضافة، كما يعم جميع (أسماء) الأجناس إذا أضيفت نحو قولنا: مالي صدقة، وقوله عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته، فإنه عام في جميع أفراد الماء وأفراد الميتات، وإن لفظ (أحد) في هذه الصورة حصل العموم بإضافته، كإضافة النكرات، كما حصل التعميم بكونه نكرة في سياق النفي أو النهي، وهو يدل على بطلان ما قاله السائل من أنه/ موضوع للماهية بقيد الانفراد، بحيث يمنع اجتماع اثنين في الحكم، وهذه الصورة التي وقع فيها التعميم في هذه النصوص، يمكن أن يجعل كل واحد منها دليلا عرلى ثبوت الحكم في صورة النزاع.

فإن قلت: ليس اعتبار هذه النصوص أولى من اعتبار ما قبلها، فيتعذر الاستدلال لحصول المعارض وعدم الأولوية. قلت: جعله حقيقة في العموم أولى لوجوه: أحدهما: أنه أكثر فائدة؛ لحصول الحكم فيما لا يتناهى من الأفراد. وثانيها: انه إذا استعمل مجازا في الخصوص، تكون العلاقة أقوى مما إذا اعتقدنا أنه مجاز في العموم، حقيقة في الخصوص؛ لاستلزام العموم الخصوص من غير عكس. وثالثها: أنه لو لم يكن حقيقة في العموم لكان إما حقيقة في الخصوص، إما للماهية بقيد الوحدة كما ذكره الخصم، أو للماهية من حيث هي هي، والأول باطل، وإلا لحصل التعارض في صورة التعميم بين موجب التعميم وقيد التوحد، والتعارض باطل لوجهين: أحدهما: أن الأصل عدمه. وثانيهما: أنا إذا عرضنا قوله عليه الصلاة والسلام: (كان كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول)، وما ذكره معه من النصوص، لا نجد فيها تعارضا ألبتة. والثاني: باطل، وهو أن تكون الصيغة موضوعة للماهية من حيث هي هي؛ لأن يقتضي أن تكون هذه الصيغة كسائر أسماء الأجناس والنكرات، فتعم حينئذ إذا أضيفت، وإذا نفيت أو نهي عنها، فيحصل العموم حينئذ،

والمقدر أنها ليست للعموم على ما قاله الخصم، فتكون للعموم وليست للعموم، وهو جمع بين النقيضين وهو محال، فظهر حينئذ أن الحق ما ذكرناه، وأن السؤال مندفع، وهو جل ما اعتمد عليه الشافعية والحنفية في عدم تعميم الطلاق. فائدة: قال النحاة والأدباء: إذا قلنا: أحد القوم جالس، فألفه منقلبة عن واو (ومؤنثه: (أحد)، وإذا قلنا: ما جاءني أحد، فألفه ليست منقلبة عن واو)، ولا يجوز استعماله في الثبوت، بخلاف الأول. وورد عليه سؤال مشكل، وهو أن اللفظين صورتهما واحد، ولفظ الوحدة يتناولهما، والواو فيها أصلية، فيلزم قطعا (أن) الألف فيها

منقلبة عن واو، وأن يكونا مشتقين من الوحدة/ معا. أما أن أحدهما مشتق والآخر ليس بمشتق فمشكل جدا، وهو ترجيح من غير مرجح، ويمتنع علينا بعد ذلك أن نقضي على شيء بأنه مشتق من شيء؛ لأنه لا طريق لنا إلا المشابهة، فإذا كانت توجد مع عدم الاشتقاق اختل الوثوق بسبب الاشتقاق في جميع الصور. وعرض هذا السؤال على (جمع) كثير من الفضلاء الأعيان، فأشكل عليهم، وأقمت مدة وهو مشكل علي، ثم أطلعني الله على وجه الجواب عنه، وهو أن (أحدا) في قولنا: ما جاءني أحدا، الذي لا يستعمل إلا في النفي، مسماه في اللغة إنسان إجماعا، ولذلك أحال النحاة هذه المسألة في قولنا: ما كان مثلك أحد، وقالوا: إن المماثل لزيد إنسان قطعا فسلب أحد عنه مع أن معناه إنسان، جمع بين النقيضين، وأجازوا عكس

هذه المسألة، وهو قولنا: ما كان أحد مثلك، فإن النفي والإثبات إنما ينصرفان أبدا للإخبار، فإذا نفينا مماثلة عن كل إنسان، لم يكن ذلك محالا، فإنه قد يكون أعلى الناس رتبة. وإذا تقرر أن (أحدا) هذا معناه: إنسان، و (أحد) الذي يستعمل في الإثبات معناه: الفرد من العدد، الذي هو نصف الاثنين، وهو أبين العدد، ومنه يتركب مراتبها، وهو نسبة خاصة، وهو معنى ذهني، لا خارجي، فإن الأعداد كلها وأجزاءها أمور ذهنية، لا وجود لها في الأعيان، فهذا المسمى ليس بإنسان قطعا، وإذا كان مسمى أحد اللفظين غير مسمى الآخر في اللغة، مع أن ضابط الاشتقاق أن نجد بين اللفظين مناسبة في المعنى والتركيب، وحينئذ نحكم بالاشتقاق كما قاله العلماء حيث حدوه وضبطوه، فإذا لم تحصل المشاركة في المعنى أو في اللفظ كما في المترادفة كالحنطة والبر، أو فيهما معا كإنسان وفرس، بطل الاشتقاق قطعا، وقد ظهر في هذين اللفظين

أن معنى أحدهما (إنسان)، ومعنى الآخر (جزء العدد) فبطل الاشتقاق قطعا. واعلم أن حصول المشاركة في اللفظين بالنسبة إلى لفظ ثالث قليل في اللغة حتى أني لا أعلم (له) نظيرا غير هذا، ومثله بطريق الفرض والتقدير أن تكون العرب قد وضعت لفظ (ضارب) أو (بائع) للفرص أو الحجر ابتداء، / ولم تضعهما من حصل له الضرب، أو البيع، فإنهما حينئذ لا يكونان مشتقين في المعنى، وأما من غيرهما، فلعدم المشاركة في اللفظ والمعنى معا، وكذلك جميع المشتقات من أسماء الفاعلين والمفعولين وغيرها، متى فرض فيها هذا الفرض، لكن من شرطه أن يكون واقعا في أصل اللغة، أما لو فرضنا أن أهل العرف نقلوا (ضاربا)، و (بائعا) للفرس، أو الحجر، لم يمنع من ذلك الاشتقاق، لوقوع المشاركة فيهما بحسب اللغة، فيكون ضابط الاشتقاق حاصلا، فيثبت الاشتقاق بخلاف إذا وقع عدم الشركة في المعنى في أصل الوضع اللغوي، فإنه لا سبيل إلى الاشتقاق ألبتة، كما في مسألتنا في (احد)، و (واحد).

وبهذا التقرير يتجه ل كان تعلك ما هو (احد) الذي (لا) يستعمل إلا في النفي)، وألفه ليست منقلبة عن واو، وإن وجدت المقصود باللفظ: الذي هو نصف الاثنين من العدد، فقل: هذا اللفظ هو الصالح للإثبات والنفي، وألفه منقلبة عن واو. والجواب عن السؤال الثاني من وجوه: الأول: أنا نمنع أن قولنا: لا رجل في الدار، بالرفع والتنوين، ليس للعموم، بل للعموم، مع تسليم ما ذكرتموه من النقل، وبيانه: أن قولنا: لا رجل في الدار بالرفع والتنوين، يقتضي أنه لا رجل في الدار، بوصف الوحدة، فيقتضي ألا يكون زيد وحده في الدار، ولا عمرو وحده في الدار، وكذلك سائر أفراد الرجال، لا يكون واحد منهم في الدار وحده، بل إما ألا يكون أحد في الدار ألبتة، أو يكون فيها أكثر من واحد، أما رجل بوصف الوحدة، فهذا منفي عن جميع الرجال، فقد صارت هذه الصيغة تقتضي حكما عاما في جميع الرجال، وهو الكون بوصف الوحدة، وهذا هو حقيقة العموم أن يشمل حكم ما لا يتناهى، على سبيل الجمع والشمول، لا على سبيل البدل، الذي هو الإطلاق، فهو عموم محقق.

ومعنى قول النحاة: عدم العموم: أنه في أفراد الرجال، أي: لا تقتضي هذه الصيغة/ نفي جميع الرجال عن لدار، فالصيغة ليست عامة في الرجال باعتبار نفي الكون، وهي عامة في الرجال باعتبار نفي التوحيد بالكون. ونفي التوحيد بالكون غير نفي الكون، والأول أعم من الثاني؛ لأنه نفي الأخص، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم، كما أن نفي الأعم أخص من نفي الأخص. ولما كان نفي التوحيد بالكون أعم من نفي الكون، لم يكن مستلزما له؛ لأن الأعم لا يستلزم الأخص، فلا جرم حصل العموم باعتبار نفي التوحيد بالكون، ولم يحصل باعتبار الكون. وإذا تقرر أنهما حكمان، وقد حصل العموم باعتبار أحدهما، ولم يحصل باعتبار الآخر، حصل العموم قطعا، ونحن لا ندعي (إلا أصل) العموم، باعتبار ما ذكرناه من الحكم، وحصل الجمع بين ما ذكرناه من العموم وبين نقل النحاة من غير تناقض.

الوجه الثاني: سلمنا أنه ليس للعموم، لكن ذلك لأن الكلام جواب لمن قال: هل رجل واحد في الدار؟ والجواب يجب أن يكون منطبقا على السؤال، فلذلك لم يحصل العموم في نفي الكون عن جميع الرجال، وفي مسألتنا ليس هنالك سؤال يضبط بعدم العموم، فنفينا فيه على قاعدة نفي المشترك بين الأفراد، وأنه للعموم بالإجماع. الثالث: أنا قد بينا في الجواب عن السؤال الأول أن لفظ (أحد) و (واحد) لا يمنع من العموم، وأنهما يستعملان للعموم في تلك الآيات والأحاديث المتقدم ذكرها، وها هنا اللفظ موضوع لنفي الكون بقيد الوحدة، وهذا الخصوص مانع من العموم، ولا مانع في مسألتنا، ولا يلزم من القول بعدم العموم عند قيام المانع منه عدم القول به عند عدم المانع. تنبيه: نظير هذه الصيغة في لسان العرب، وأنها للعموم من وجه دون وجه: صيغة (من) الاستفهامية، فإنك تقول: من في الدار؟ فيقول لك المجيب: زيد، فيكون قوله: (زيد) جوابا منطبقا على السؤال، مع أن زيدا يستحيل

أن ينطبق على العموم فكيف يمكن الجمع بين كون الصيغة للعموم، وأن الجواب بزيد منطبق عليه؟ وهو إشكال قوي. وجوابه: أن العموم حصل باعتبار/ الاستفهام، وأن جميع المراتب من أفراد العقلاء، الاستفهام واقع فيها، وشامل لها، ولم يحصل العموم باعتبار الكون في الدار، والجواب منطق على حكم الكون الذي ليس عاما، لا على الاستفهام، ففي اللفظ حكمان، حصل العموم باعتبار أحدهما، ولم يحصل باعتبار الآخر، والجواب إنما هو بحسب ما ليس فيه عموم، ولذلك يقول لك المجيب: لا أحد في الدار، لا زيد ولا غيره، ويكون جوابا منطبقا، فحكم الاستفهام واقع في جميع الصور، والكون لم يقع في صورة، ولا تناقض في ذلك، لا رجل في الدار، بالرفع والتنوين، فيه حكمان، حصل العموم في أفراد الرجال باعتبار أحدهما دون الآخر، فتأمل هذه (الدقائق، وهذه الفروق)، وسيأتي بقية بسطها، إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث: أن الطلاق حل للعصمة، كما قاله السائل، ولا يمنع ذلك أن الطلاق سبب في الشرع للتحريم؛ لأن الأجنبية محرمة إجماعا، وعقد النكاح رافع لهذه الحرمة، وموجب للإباحة إجماعا، والطلاق سبب رافع لهذه الإباحة، ورافع الإباحة محرم، فالطلاق سبب للتحريم

جزما، والعتق. سبب مزيل للملك الذي هو المكنة من منافع الرقيق، فإذا ارتفعت هذه المكنة بالعتق، لا يقال: حرمت منفعة العبد على السيد، بل حرم عليه جبره على خدمته وإكراهه عليها. وتحقيق هذا الفرق: أن عقد النكاح مبيح، لا مملك، وشراء العبد مملك، ولملك أخص من الإباحة، فإن كل مملوك مباح، وليس كل مباح مملوكا، ألا ترى أن الضيافة إذا قدمت للضيف أبيحت ولم تملك، إذا لو ملكها لجاز له هبتها وبيعها كسائر الأملاك، وليس كذلك، بل أبيح له أن يأكل أو يترك، كالجلوس في المساجد، والسكون في المدارس، والخوانك. وإذا ظهر أن عقد النكاح إنما يفيد الإباحة التي هي أعم، وشراء الرقيق (إنما) يفيد الملك، الذي هو أخص، ورافع الأخص لا يلزم أن يرفع

الأعم؛ لأنه لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فلا يلزم من نفي الملك بالعتق نفي الإباحة فلا يلزم ثبوت التحريم، بخلاف ما يقتضي رفع الإباحة، (فإنه) يقتضي التحريم/ قطعا. فهذا هو الفرق، وهو معنى قولنا: إن الطلاق تحريم، وهو سر الفرق، وسبب ثبوت التخيير العتق دون الطلاق؛ لأنه في العتق لم يحرم المشترك المستلزم تحريمه تحريم جميع الأفراد، وهي الطلاق حرم المشترك فحرمت جميع الأفراد. وأما قول السائل: إن الأمة حرم وطؤها بالعتق كما حرم وطء المرأة بالطلاق، فمسلم، غير أن سبب ذلك أمر فيه دقة، وهو أن الملك كما تقدم أخص من الإباحة، وأنه لا يلزم منه إذا عدم وجود الإباحة ولا عدمها، وأن الأمة والزوجة الأصل فيهما أنهما أجنبيتان محرمتا الوطء، ولا يباح إحداهما

إلا بعقد نكاح أو ملك، والطلاق رافع للإباحة الكائنة من العقد، والعتق مبطل للملك، فالأمة بعد العتق محرمة؛ لأنه لم يكن فيها من أسباب الإباحة إلا الملك، وقد بطل، فيبطل ما كان مترتب عليه وهو الإباحة الخاصة الناشئة عن الملك، وليس فيها عقد نكاح، فحصل التحريم لذلك، لا لأن العتق رافع لمطلق الإباحة. فإن قلت: إذا لم يرفع مطلق الإباحة وجب ثبوتها؛ لأن الملك لما كان يفيد إباحة خاصة والمفيد للخاص مفيد للعام، فيكون العام ثابتا بعد انتفاء الخاص، عملا بالاستصحاب، وذلك خلاف الإجماع، فيكون العتق حينئذ رافعا لمطلق الإباحة، فيكون محرما كالطلاق. قلت: الإباحة في الملك تثبت تبعا، (وتنتفي تبعا)، أما ثبوتها تبعا: فلأن الملك يقتضي جواز البيع، والإجارة، والعارية، والهبة، والصدقة، والوقف، وغير ذلك في العين المملوكة، كانت رقيقا أو غيرها، فإن اتفق أن الرقيق أثنى، سالمة من موانع الراضع والنسب وغير ذلك، جاز

له وطؤها، ولا تقسم بقية آثار الملك، دون إباحة الوطء، فإباحة الوطء حينئذ إنما تثبت تبعا في ضمن آثار الملك، إن صادفت محلا قابلا، فإذا ورد العتق المنافي للملك وجميع آثاره، انتفت تلك الإجابة، لانتفاء متبوعها، لا قصدا بالذات، فمناقضة العتق لها بطريق العرض. أما الإباحة في النكاح: فثبت أصالة، وتنتفي أصالة، / أما ثبوتها أصالة: فلأنها جملة أثر عقد النكاح، (دون البيع والعارية)، وبقية ما هو ثابت في الملك من الآثار، فهي حينئذ تثبت أصالة، وأما انتفاؤها أصالة، فإن الطلاق يرفع ما هو مقتضى عقد النكاح، فلما كان مقتضاه هو هذه الإباحة، كان ارتفاع هذه الإباحة أصالة، وكان الطلاق مناقضا للإباحة بالذات، والمناقض للإباحة بالذات هو التحريم، فكان الطلاق تحريما. أما العتق فمناقض لمجموع الإباحة، فقد تثبت فيه تبعا، فلم يتعين أن يكون مناقضا لإباحة النكاح، فلا يلزم أن يكون محرما، ولذلك أن العبد المعتق لو أذن في منافعه بعد العتق صح؛ لأنه لم تحرم منافعه، وإنما ثبت استيلاؤه عليها وانتفاء استيلاء السيد فقط، والمطلقة لو أذنت في وطئها بعد الطلاق، لم يصح، والأمة أيضا لو أذنت في وطئها، ما صح الإذن، لكن ذلك لكونها أجنبية حالها قبل ورود سبب الملك عليها، لا لأن العتق مناقض للإباحة.

الفائدة الثالثة: وقوع الخلاف في قتل المسلم بالذمي

فنحن نسلم ثبوت التحريم في الصورتين، وإنما ننازع في كون العتق سبب تحريم الوطء، بل ذلك قد يعرض له في بعض الصور، والطلاق تحريم محض، ولم يوضع في الشرع إلا لذلك. فهذا هو سر الفرق، فتأمله، فإنه يحتاج إلى نظر دقيق، وتأمل جميل، ولاحظ أن المناقص لمجموع أمور لا يلزم مناقضته لفرد منها، لاسيما إذا كان إنما يثبت بناء عارضا في بعض الصور، والمناقض لغير ذلك الفرد هو المناقض له حقيقة. الفائدة الثانية: المبنية على نفي المشترك، أو ثبوت الحكم في المشترك، مسألة وقعت في كتب الخلاف، وكتب الأصول، وهي في الحقيقة يليق ثبوتها في مسائل الخلاف؛ لأنها مسألة جزئية، والأصل ألا يثبت في أصول الفقه إلا القواعد الكلية، أما نص جزئي فإنما يبحث في الفقه والخلاف، لكن لما عظمت شهرتها، وانتشر البحث فيها، تولع الأصليون بها، وهي: أن الحنفية قالوا: إن المسلم يقتل بالذمي، وقال غيرهم: لا يقتل به. واستدلوا بقوله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}، فلو/ ثبت القصاص بينهما، وقتل المسلم بالذمي، كما يقتل الذمي بالمسلم، استوى أصحاب النار وأصحاب الجنة، لكن النص دل على نفي الاستواء، فلا يثبت القصاص، فأثبت الأصوليون- صاحب المحصول وغيره- هذا النص في باب العمومات، وجعلوه مسألة مستقلة من مسائل العموم لتوقف صحة هذا الاستدلال على عموم النفي في وجوه الاستواء، من القصاص وغيره حتى يندرج القصاص في تلك الوجوه المنفية. واعلم أن البحث في تحقيق مسمى (استوى) في صيغة الثبوت، فإن النفي يتفرع على الثبوت، فأي شيء كان مسمى الثبوت هو الذي يقضى عليه بالنفي؟ . فمنهم من اعتقد أن مسماه هو (الاستواء) في وجه ما، و (وجه ما (قدر مشترك بين جميع الوجوه، فإذا ورد النفي عليه، ورد على المشترك، ونفي المشترك مستلزم لنفي جميع أفراده، ومن جملة أفراده القصاص (فتنتفي)، هذه طريقة الشافعية.

وقال الحنفية: مسمى استواء زيد وعمرو، أي من جميع الوجوه، فمسماه المجموع، ولا يلزم من نفي المجموع نفي جزء معين من أجزائه، فلا يلزم نفي استواء الفريقين في القصاص. والذي أعتقده في المسألة: أن الحق غير القولين، وأن مسمى (استوى (إنما هو الاستواء في المعنى الذي سيق الكلام لأجله، لا في مطلق المعنى، ولا في جميع المعاني، فإذا قالت العرب: استوى الماء والخشبة، فليس المراد من جميع الوجوه حتى يحصل الاستواء في مائية الماء وخشبية الخشب، بل التباين واقع قطعا في هذين الوجهين، وفي وجوه كثيرة جدا، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيكون الكلام حقيقة فيما سيق الكلام لأجله، وهو الاستواء في الارتفاع عن الأرض، بسبب كثرة الماء، وليس المراد مطلق المعنى؛ لأن ذلك حاصل والماء بعيد من الخشبة في كونهما جسمين، أو متحيزين، أو مرئيين، أو ممكنين، أو معلومين إلى غير ذلك من الوجوه التي حصل الاستواء فيها، مع أن العرب لا تقول في هذه الحالة: استوى الماء والخشبة، ألبتة، فلو كان ما ذكره الشافعية صحيحا، لقالت ذلك وكذلك الآية المذكورة،

فنفي الاستواء إنما وقع فيها باعتبار ما سيق الكلام لأجله، وهو حالة النعيم والعذاب، وإلا فأصحاب/ الجنة والنار مستوون من وجوه كثيرة، لو صح قول الشافعية فإنهم أجسام، ومجزأون ومكلفون، ومدركون، إلى غير ذلك من الوجوه التي وقعت الشركة فيها، فكان لا يصح النفي بمقتضى قولهم: لكن النفي صحيح قطعا، ولكن باعتبار ما ذكرته، هو ما سيق الكلام لأجله. وكذلك القول في المماثلة، فإذا قلنا: زيد مثل الأسد شدة، إنما تريد العرب بهذه العبارة المماثلة في الشدة فقط، وكذلك السواد مثل البياض في الافتقار للمحل، لو قلنا: هو يساويه في ذلك، لا بقول أئمة اللغة إن العبارة مجاز، بل حقيقة، وعلى هذه الطريقة لا تكون الآية تقتضي نفي القصاص، لأن الأمر إذا كان مقيدا بما دل عليه السياق، كان ما عداه مسكوتا عنه. احتج الشافعية: بأن نفي الاستواء أعم من نفي الاستواء من جميع الوجوه

أو من بعض الوجوه، والدال على الأعم غير دال على شيء من أنواعه، وغير مستلزم له، فيكون اللفظ موضوعا للقدر المشترك بين النوعين، وهو مطلق المعنى كيف كان، فيكون نفيه مستلزما لنفي جميع جزئياته، ومنها القصاص، فينفى، وهو المطلوب. وللخصم أن يمنع المقدمة الأولى، وهو: أن نفي الاستواء أعم، بل هو عنده موضوع لنفي الاستواء من جميع الوجوه، ومدلول الاستواء عنده في الثبوت كل لا كلي، فالمصادرة على مذهبه غير متجهة، أو نقول: هو لما دل عليه السياق، فيختص النفي به، فلا يكون أعم. احتج التبريزي للحنفية بأن قال: نفي التساوي بين الشقين وإثباته لا يقتضي العموم في الأحكام، فلا يقتضي القصاص نفيا، ولا إثباتا؛ لأن الشيء لا يساوي غيره مطلقا، وإلا لكان هو هو فيتحدان، ولا يباينه مطلقا، وإلا لما اشتركا في المحكومية والمعلومية، فإذن لابد من تقييد التساوي بما فيه التساوي، فإذا لم يذكره كما في الآية كان مجملا، لا عاما.

ويؤكد هذا التقرير أن الفعل في سياق الإثبات مطلق إجماعا، وفي سياق النفي فيه قولان: هل هو للعموم، أو هو مطلق؟ والصحيح أنه للعموم، وعلى تقدير كونه للعموم، فيكون متعديا للمفعول بحرف جر أو بغير (حرف) جر، ويكون مطلقا في ذلك المفعول، وأن له مفعولا غير/ معين، محتمل لأمور غير متناهية، فإذا قلنا: لا تضرب زيدا، والمضروب غير معلوم، وإن كنا نعلم أن له مضروبا في نفس الأمر، فهو مجمل في المضروب، كذلك ها هنا: {لا يستوون} فعل في سياق النفي، فيكون عاما في نفي مصادره، ومفعوله الذي يقع الاستواء فيه لم يذكر، فهو محتمل لما لا يتناهى عن المفاعيل، ولم يتعين شيء منها، وكان مجملا في المفاعيل، إلا أن يقال: يتعين بالسياق، فلا يكون مجملا، غير أنه يسقط الاستدلال به على سقوط القصاص، وأن السياق ليس في القصاص.

الباب الحادي عشر في الفرق بين نفي المشترك أو النهي عن مطابقة وبين النفي أو النهي عنه التزاما

الباب الحادي عشر في الفرق بين نفي المشترك أو النهي عن مطابقة وبين النفي أو النهي عنه التزاما أما المطابقة فيهما، فقد تقدمت في الباب الذي قبل هذا الباب مبسوطا. وأما (وقوعهما) في بطريق الالتزام، فهو المقصود في هذا الباب، وينبني على الفرق بينهما مسائل وفوائد جليلة في الفقه وغيره. وبيانه: أن القائل إذا قال لعبده: ألزمتك النهي، أو التحريم، أو المنع، فإن هذه الصيغ تقتضي محرما غير معين، حتى لو قال السيد بعد ذلك: المنهي عنه هو كلام زيد، أو الممنوع الذي أردته: هو شرب الخمر، لم يعد مبطلا لشيء من كلامه السابق، بل مقيد لما كان مطلقا في مدلول لفظه التزاما. فاللفظ حينئذ اقتضى وقوع نهي، أو منع في أمر، يصدق بأي فرد كان، وهذا المعنى هو قدر مشترك بين جميع المفهومات، وقد حصل النهي فيه والمنع، ولم يحصل فيه عموم؛ لأنه نهي عنه، أو منع، بلفظ دال عليه بطريق الالتزام، ولو حصل فيه النهي، أو المنع بلفظ دال (عليه) بطريق المطابقة لوجب تحريم كل فرد منه، وتحصيل العموم في أفراده، ولما لم يتناوله الحكم التزاما، لم يحصل فيه حكم العموم، بل كان مطلقا في المنهي عنه، والممنوع

وقوله: ألزمتك نهيا أو تحريما، يقتضي الإطلاق وعدم العموم بطريق الأولى

(منه)، هذا إذا ذكر النهي أو المنع معرفا باللام المقتضية للعموم، كقوله: ألزمتك المنع، أو النهي، بناء على قاعدة ستأتي- إن شاء الله تعالى- وهي: أن العام في الأشخاص، مطلق في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات، وهي أربعة/ يكون الإطلاق حاصلا فيها، إذا حصل العموم في الذي هي متعلقا به. أما لو ذكر المنع أو النهي بصيغة التنكير، كقوله: ألزمتك نهيا، أو منعا، لكان اقتضاؤه للإطلاق في المنهي عنه وعدم العموم بطريق الأولى، مع أنه واقع في مفهوم مشترك فيه، ولو وقع الإطلاق في اللفظ الدال بالمطابق على النهي عن مشترك يحصل العموم فيه نحو قوله: نهيتك عن المفهوم المشترك بين أفراد الخمور، أو بين أفراد الخنازير، لاقتضى ذلك تحريم كل خمر، وكل خنزير، فإنه لو دخل من الخمور ومن الخنازير فرد لدخلت الماهية في ضمنه، مع انه أمر بإعدامها. وقوله: نهيتك، أو منعتك، فعل في سياق الإثبات، والفعل في سياق الإثبات مطلق، كالنكرة في سياق الإثبات، لكنه لما دل مطابقة على تحريم المشترك عم أفراده، ولم يقدح إطلاق اللفظ في حصول التعميم في المنهي عنه، بخلاف لو دل بطريق الالتزام، هذا في النهي، والمنع، ونحو ذلك من الألفاظ.

اللفظ إذا دل على نفي مشترك بطريق الالتزام يقتضر على فرد من ولا يعم الأفراد

وكذلك النفي، إذا نطق بمدلول التزامي نحو قولنا: (النفي في الدار، والسفر في البلد، والخروج حصل من الدار، وكذلك) جميع الألفاظ التي معناها النفي مطابقة، فإنها مقتضية نفيا، ومسافرا، وخارجا غير معين، حتى لو فسر المتكلم لفظه في ذلك بنفي زيد، أو سفره، أو خروجه، لم يعد مناقضا لكلامه الأول ولا معارضا له، بل مقيدا بزيادة التعيين في المنطق، لا مخرجا لبعض أفراد دل عليها اللفظ. وكذلك إذا قال القائل: فقدت من داري، أو من ملكي، فإن السامع إنما يفهم منه أنه فقد شيئا معينا في نفس الأمر، غير معين عند السامع، ولذلك (نسأله فنقول): أي شيء الذي فقدته؟ فيقول له المتكلم: ثوبا، مثلا، ولا يحصل في الكلام تنافر، ولا تخصيص إخراج، بل تخصيص تقييد. فظهر أن اللفظ إذا دل على نفي مشترك بطريق الالتزام، لا يقتضي نفي جميع المفهومات من أشخاص ذلك المشترك، بل يقتصر على فرد منه، بمقتضى دلالة هذا اللفظ، حتى يدل دليل على الزيادة عليه، وظهر لك الفرق بين المدلول مطابقة، والمدلول التزاما، وأن النهي والنفي في ذلك سواء. فائدة: إذا قال لأربع نسوة: إحداكن طالق، طلقن كلهن عند مالك، خلافا/ للشافعي، وأبي حنيفة- رضي الله عنهم- أجمعين، وقد تقدم تقرير هذه المسألة في الباب الذي قبل هذا، سؤالا وجوابا.

وإذا قال: الطلاق يلزمني لا فعلت كذا، ولا نية له في تعميم الطلاق في الزوجات، ثم حنث، عم الطلاق جميع الزوجات عندنا وعند الشافعي وأبي حنيفة، رضي الله عنهما، مع أنه لم يصرح بالزوجات، ولا تناولهن لفظ (الطلاق)، ولا نية (له)، ولفظ الطلاق بلام التعريف ليس للعموم إجماعا في صورة الطلاق وإن كان عند الفقهاء للعموم في غير الطلاق، فيكون مطلقا في الطلاق، والمطلق لا يتناول إلا فردا واحدا من حيث الوضع، فيلزم الحنفية والشافعية أن يخيروه في النوة، فيختار واحدة للطلاق، كما قالوه في قوله: إحداكما طالق، طريق الأولى، لأن (إحداكما (صرح فيه بالزوجات من حيث الجملة، وها هنا لم يصرح بشيء منهن، بل اللفظ يدل بالالتزام على مطلقة غير معينة؛ لأن من ضرورة الطلاق مطلقة، والدال بالمطابقة الذي هو قوله: إحداكن طالق أقوى من الدال بالالتزام، فكان القول بالتخيير ها هنا (أولى)، لكنهم لم يقولوا به، فيلزم أمران:

حكم نيته في قوله: أحداكن طالق

أحدهما: أنهم نقضوا أصلهم، والثاني: قيام الحجة عليهم في صورة التصريح بقوله: إحداكن طالق، أن الطلاق يعم، ولا يختار قياسا على هذه الصورة بطريق الأولى، هذا، إذا فرعنا على الواقع في الصيغة أنها مطلقة، لا عموم فيها، ولو قلنا: إن لام التعريف في الطلاق للعموم، حصل المقصود أيضا، بسبب قاعدة وهي: أن العام في أشخاص، جنس مطلق في أحواله وظروفه الزمانية والمكانية ومتعلقاته، والزوجات ها هنا متعلقات للفظ الطلاق فتكون صيغة العموم في الطلاق مطلقة فيها، فيكون اللفظ دالا بالالتزام على زوجة واحدة غير معينة، فيلزم التخيير أيضا لعدم مقتضى العموم، فتأمل ذلك فهو سؤال قوي، بعد فهم هذه القواعد، ولكن فهمها عزيز على أكثر الناس. تنبيه: ينبني أيضا على هذا الباب في الفرق بين دلالة الالتزام ودلالة المطابقة في نفي المشترك أو تحريمه، كما في الطلاق، وهو/ أنك ستقف عليه- إن شاء الله تعالى- على الفرق بين النية المؤكدة، التي لا تؤثر تخصيصا في العموم، وبين النية المخصصة المؤثرة في التخصيص وأن النية متى كانت

موافقة للفظ في كل مدلوله، أو في بعضه، لا تكون مخصصة (ولا مخرجة لذلك الذي وافقت اللفظ فيه، وإنما يخصصه) ويخرجه إذا عارضت اللفظ فيه. وإذا حققت الفرق، فقال: إحداكن طالق، وقلنا بالتعميم في النسوة من غير تخيير على ما تقدم تقريره في الباب الذي قبل هذا الباب، وقال: نويت بعض النسوة غافلا عن باقيتهن قلنا له: لا تفيدك هذه النية شيئا، بسبب أن الصيغة عامة في النسوة، فيلزمك الطلاق في المرأة التي نويتها للطلاق، باللفظ والنية معا، فإن النية مؤكدة للفظ فيها، ويلزمك الطلاق فيمن عداها من النسوة بعموم اللفظ السالم عن معارضة النية له، فإنك لم تتعرض لإخراج بعض النسوة ألبتة، واللفظ اقتضى إطلاق فيهن بعمومه، فإنك لم تتعرض لإخراج بعض النسوة ألبتة، واللفظ اقتضى إطلاقه فيهن بعمومه، فلزم الطلاق في الجميع أما لو نوى إخراج بعض النسوة عن اللفظ، وأن الطلاق لا يلزم في ذلك البعض، نفعه ذلك، لمعارضة هذه النية للفظ في ذلك البعض، فإن اللفظ اقتضى الطلاق، والنية اقتضت نفيه، فكانت هذه النية مخصصة؛ لان من شرط المخصص أن يكون منافيا، وهذه منافية، فكانت مخصصة؛ بخلاف أن

يقصد بعضهن بالطلاق، غافلا عن غيرها، هذا إذا قال: إحداكن طالق، أما إذا قال: الطلاق يلزمني، وحنث، فإن الطلاق لم يعم في هذه الصورة؛ لاقتضاء اللفظ العموم، بل لعدم الأولوية في إحداهما دون الأخرى، إذ لا لفظ، ولا نية، فيتعين أن يكون هذا هو المدرك، عملا بالأصل النافي لغيره. وإذا كان هذا هو مدرك المسألة، وقال: نويت واحدة بعينها، وغفلت عن غيرها، فقد ترجحت المئوية بالنية على غيرها، وصارت أولى من غيرها، فانتفت عدم الأولية بوجود الأولوية، فبطل التعميم، لبطلان مدركه، وقضينا بالطلاق في واحدة فقط، وهي المنوية، مع أن هذه النية ليست مخصصة، لعدم منافاتها للفظ، غير أنها وإن لم تكن مخصصة فهي مقيدة لمطلق، فإن اللفظ إنما دل بالالتزام على مطلق في النسوة/ ولا في عموم الطلاق فيهن، وتقييد المطلق معين للحكم له دون غيره، ولا يشترط فيه المنافاة، بل يشترط فيه الموافقة، وهذه النية موافقة لدلالة هذا اللفظ، ولم يوجد للفظ دلالة على غير هذا المطلق حتى يلزم فيه الطلاق بعموم اللفظ السالم عن المعارض، لأجل عدم العموم. فلأجل هذه القواعد أيضا، قبلنا النية الموافقة في هذه المسألة، وأبطلنا الطلاق في غير المنوية من النساء، دون المنوية، بخلاف المسألة.

وسر الفرق بينهما- مع هذه القواعد- العموم في تلك المسألة، والإطلاق (في هذه)، فتأمل هذا أيضا، فهو قل أن يقع في تفاريع الفقه، وقل أن يتنبه له المفتي، فيغلط، فيسوي بين المسألتين، مع حصول هذا الفرق العظيم، وامتناع التسوية بينهما. ***

الباب الثاني عشر في سرد صيغ العموم الدالة بالوضع الأول على العموم لغة على ما يدل عليه بعد هذا

الباب الثاني عشر في سرد صيغ العموم الدالة بالوضع الأول على العموم لغة على ما يدل عليه بعد هذا، إن شاء الله تعالى. وهي مائتان وخمسون: الصيغة الأولى: (من صيغ العموم) (كل): وهى أقوى صيغ العموم في الدلالة عليه، ومن خصائصها أنها للمذكر، وأن الخبر عنها مفرد، فتقول: كل رجل قائم، على الأفصح من الكلام، ويجوز: (قائمون (، قال الله تعالى: {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}، وقال في الآية الأخرى: {وكل أتوه داخرين} نظرا للمعنى، وهو العموم؛ لأنه جمع، والأول لمراعاة اللفظ، وهو الأكثر، كما جاء في لفظ (من)، الأكثر فيها مراعاة اللفظ،

فتقول: من دخل داري؟ مراعاة للفظ. وإذا دخلت لفظه (كل (في التأكيد، لا تدخل إلا فيما يتبعض، باعتبار الفعل المسند إليه، وقد لا يتبعض باعتبار فعل آخر، تقول: اشتريت الفرس كلها، ولا تقول: حزت الفرس كلها. ومن خصائصها أن النفي يختلف حكمه فيها متقدما ومتأخرا، بخلاف سائر صيغ العموم، فإن تأخر اقتضى سلب الحكم عن كل فرد، فتكون القضية كلية، وإن تقدم النفي بطل حكم العموم، وصارت القضية جزئية لا كلية، وكان معنى هذه الصيغة حينئذ: الكل من حيث هو كل، لا الكلية التي هي/ العموم، وقد تقدم الفرق بين الكلية والكل ونظائرهما في باب مفرد، فإذا قلت: ما جاءني كل إخوتك، أو ما قبضت كل الدراهم، لم يكن معناه العموم، بل الخصوص، وأن النفي مقتصر على بعض الإخوة، وبعض الدراهم، بمنطوق اللفظ، ويدل من جهة المفهوم على أن البعض الآخر جاء من الإخوة وقبض من الدراهم، فلا تكون هذه الصيغة معدودة (من صيغ العموم) حينئذ.

أما لو تأخر النفي فقلت: كل الدراهم لم أقبضها، برفع (كل (على أنه مبتدأ، لكان ذلك نصا بالنفي على كل درهم، وتكون الصيغة حينئذ من صيغ العموم، فإذا نصبت (كلا (فقلت: كل الدراهم لم اقبض، (أو لم) أقبضه، فكلاهما سواء في عدم العموم. أما مع تفريغ الفعل؛ فلأن المفعول الذي (هو) (كل (، وإن كان مقدما على النفي، غير أن المنفي في نية التأخير، والعامل في المفعول ها هنا في نية التقديم، فكان حكمه حكم (ما) إذا قال: لم أقبض كل الدراهم، أنه جزئية، لا كلية، وأما إذا اشتغل الفعل بالضمير مع النصب، فلأنا نضمر فعلا متقدما على كل (ما) يدل عليه ما بعده، فيصير اللفظ جزئية بذلك الفعل المضمر المتقدم (على (كل، فهما سواء حينئذ، وهذا السر هو الباعث للشاعر على رفع (كل) في قوله: قد أصبحن أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع

برفع (كل) مع أن الفعل مفرغ له بسبب أنه لو نصب (كل) لكان في نية التأخير، والفعل في نية التقديم، فيكون قد نفي بعض الذنب، لا كله، ومقصوده البراء مطلقا، فلا يحصل مقصوده حينئذ، أما إذا رفع: كان النفي عاما، فيحصل مقصوده حينئذ، هذا حكم (كل) في تقدم النفي وتأخره. وأما في الثبوت، فالحكم واحد في التقدم والتأخر (ولو أعلم في لسان العرب صيغة اختلف الحكم فيها في النفي في التقدم والتأخر) إلا هذه الصيغة، وهي صيغة (كل)، وأنها تكون مع فعل للعموم، ومع آخر ليست للعموم، ولم يوجد ذلك إلا في هذه اللفظة خاصة، وأشد الألفاظ بها شبها أسماء الأعداد، فإنها موضوعة للكل من حيث هو (كل)، (ومع ذلك فالنفي فيها سواء تقدم أو تأخر إنما يقتضي نفي الكل من حيث هو كل)، ولا يقتضي شمول النفي لجميع أفراد ذلك العدد، فلا فرق بين قولك: ما له عندي ألف، وبين قولك: ألف ليست له عندي، وإنما يقتضي نفي الألف/ من حيث هي ألف، ويجوز أن يكون له عندك تسعمائة وتسعة وتسعون، فلا يختلف النفي في التقديم والتأخير إلا في لفظ (كل) خاصة، دون جميع ألفاظ اللغة العربية.

تنبيه: حكم "كل" إذا وقعت مستقلة بنفسها، أو وقعت تأكيدا وتبعا

وقد وقع لابن عطية في تفسيره، في قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون}، في أنه قرئ برفع حكم ونصبه، فجعله مخرجا على لفظ (كل) في بيت الشعر المتقدم، وليس كذلك، فإن هذا اسم جنس أضيف، واسم الجنس إذا أضيف لا يختلف النفي فيه متقدما ومتأخرا، فلا فرق بين قولك: ماء البحر ليس نجسا، وبين قولك ليس ماء البحر نجسا، إن نفي النجاسة يثبت لكل فرد من أفراد ماء البحر، ولعله رحمه الله إنما يريد بالتنظير بالبيت الشبه في النصب خاصة دون اختصاص الحكم بالبعض. تنبيه: هذا إذا وقعت هذه اللفظة مستقلة بنفسها، فإن وقعت تأكيدا، أو تبعا للفظ كقولنا: لم أر القوم كلهم، أو: القوم كلهم لم أرهم، هل يختلف حكمه في التقديم والتأخير، فيعم متقدما في المثال الأول، دون الثاني؟ هذا مما لم أر فيه نقلا، فإن سوينا بين الصورتين، يلزم أن يكون التأكيد منشئا، مع

تنبيه: لفظ "كل" للعموم سواء وقع للتأسيس أو للتأكيد

أن وصف التأكيد أن لا يكون منشئا، بل مقررا، لما تقدم، ومقويا له فقط، فإن قولك: ما رأيت القوم، يقتضي عموم النفي في كل فرد من أفراد القوم، وأن الصيغة والحكم للعموم إن جعلنا النفي لا يعم فيه لتقدمه عليه، يقتضي أنه أبطل حكم العموم، وصير الكلية جزئية، والعام مخصوصا، وحقيقة العموم مجازا في الخصوص كلحوق الصفة بالعموم. وهذا عكس التأكيد؛ لأنه إبطال وتنافر، فلا يكون تأكيدا (والمقدر أنه تأكيد)، وإعرابه كذلك عند النحاة، هذا خلف، وإن لم نسو بين الصورتين وقلنا بنفي العموم على عمومه، فقد نقضنا قاعدة (كل)، وأنها موضوعة للكلية مع تقدم النفي، والكل مع تأخره (والعموم مع تأخره)، والخصوص مع تقدمه، وكلاهما محظور، فأي المحظورين نلتزم؟ ! والظاهر عندي التزام قاعدة كل، والتزام قاعدة التأكيد، وأن اختلاف النفي في التقدم والتأخر إنما هو في كل فرد، إذا كان مستقلا، لا تبعا وتأكيدا. /تنبيه: لفظ: (كل) للعموم سواء (وقع) للتأسيس أو للتأكيد،

صيغة "كلا" للمثنى المذكر

فإذا قلت: جاء القوم كلهم، للعموم أيضا، إذا لو لم يكن للعموم لما أكد العموم، فإن من شرط التأكيد المساواة، ولذلك استدل الإمام فخر الدين رحمه الله على أن الجمع المعرف باللام للعموم، فإنه يؤكد بما يقتضي العموم، كقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون}. الصيغة الثانية للعموم صيغة ((كل): وهي للمثنى المذكر، فكل شيء يتصور وضعه بصيغة) المشار إليه بلفظ (كلا)، يجب اندراجه في لفظ (كلا) كقولك: الحمرة والبياض كلهما محبوب، فإن لفظ (كلا يشمل جميع أفراد الحمرة والبياض) إلى غير النهاية، وكذلك إذا قلت: زيدا وعمرو كلاهما محبوب، (وهما وإن كانا جزئين)، والعموم لابد وأن يشمل ما لا يتناهى، فإنك قد علمت في خصائص العموم، أن الواقع من العموم قد يكون متناهيا محصورا، ولا ينافي ذلك العموم، فليس بين الوقوع ومدلول العموم ملازمة، فيقول الله تعالى: {فاقتلوا

المشركين}، ولا يوجد منهم إلا زيد وعمرو، ويقول المستفهم: من عندك؟ فتقول له: زيد، فيكون جوابا منطبقا على السؤال، مع أن المذكور جوابا ليس بعام، بل هو جزئي محصور متناه، كذلك ها هنا، زيد وعمرو لفظان موضوعان لحقيقتين، والذي يتصور إن يقع فيهما غير متناه، والواقع من ذلك متناه، كما وقع في السواد والبياض، (إذا قلت: السواد والبياض) كلاهما لون، فالواقع منهما الموصوف باللونية متناه محصور، لدخوله في الوجود، ومدلول اللفظ عام غير متناه، وهو (ما) يمكن أن يكون سوادا، أو بياضا، فلا تنافي بين التناهي في الوقوع، وعدم التناهي في المدلول. واختصت هذه الصيغة دون (كل)، بأنها تثنية، ليس لها مفرد من لفظها، والخبر عنها مفرد مثل (كل)، تقل: كلا الرجلين قائم.

من خواص "كل" و "كلا" أنهما يعربان إذا أضيفتا إلى مضمر

الصيغة الثالثة للعموم: كلتا، للتثنية المؤنثة، والكلام فيها كما تقدم في تقرير أن (كلا) للعموم، والخبر عنها مفرد أيضا، قال الله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها} ولم يقل: آتتا. ومن خواص هذين الصيغتين (كلا) و (كلتا) أنهما لا يعربان إلا إذا أضيفتا إلى مضمر، تقول: جاء الرجلان كلهما، ورأيت الرجلين كليهما، ومررت بالرجلين كليهما، ولو قلت: كلا الرجلين قاما، لم تعربا، وجريا مجرى الأسماء المقصورة نحو: عصاهما، ورحاهما، وأما (كل) فمعربة، أضيفت لظاهر أو مضمر، تقول: كله حسن، وكل رجل قائم. /الصيغة الرابعة: صيغة (أجمع)، تستعمل في تأيد العموم والخصوص، تقول: قبضت المال أجمع، وأحل الله البيع، وحرم الربا، وحرم الخمر أجمع هذا (في) العموم، وفي الخصوص: اشتريت هذا الجمل

من خصائص أجمع أنها غير منصرفة، لوزن الفعل والصفة

أجمع، فيكون للعموم لتأكيده العموم، والمؤكد للشيء لابد أن يلائمه، ولا ينافيه، كما تقدم، وأما تأكيدها للخصوص، وقد تقدم الجواب عنه في (كل) و (كلتا)، فلا يؤكد بهذه الصيغة إلا ما يتبعض حقيقة، باعتبار الفعل المسند إليه، كما تقدم في كل. ومن خصائص هذه الصيغة: أنها (غير) منصرفة، دون جميع ما تقدم؛ لان فيها وزن الفعل والصفة، أو لغير ذلك، كما هو مبسوط في علم النحو. الصيغة الخامسة: أجمعان للتثنية، وتقريرها ما تقدم في صيغة الإفراد. الصيغة السادسة: أجمعون، للجمع، وتقريره ما تقدم في صيغ الإفراد. الصيغة السابعة: جمعاء، للمؤنث، تقول: مررت بدارك جمعاء.

صيغة "أكتع" يؤكد به العموم، ومؤكده أولى أن يكون للعموم

الصيغة الثامنة للعموم: (جمع)، لجمع المؤنث، تقول: مررت بالنسوة جمع. الصيغة التاسعة للعموم: أكتع، فإنه يؤكد به العموم، تقول: خلق الله الخلق أجمع أكتع، فتؤكد به لفظ الخلق، الذي هو للعموم، ومؤكد العموم ومقويه أولى ان يكون للعموم. الصيغة العاشرة للعموم: أكتعان، للتثنية، تقول: الخير والشر بقضاء الله وقدره أجمعان أكتعان، فتؤكد بهما التثنية لعامة، فتكون للعموم. الصيغة الحادية عشر للعموم: أكتعون، يقال: جاء القوم أجمعون أكتعون. الصيغة الثانية عشر: كتعاء، للمؤنثة. الصيغة الثالثة عشر للعموم: كتع، للجمع المؤنث، تقول: مررت بالنسوة كتع. الصيغ الرابعة عشر للعموم أبصع، تقول: قبضت المال أجمع أبصع،

صيغة "أبصعان" و "أبصعون"

فتؤكد بها العموم، وأصله من بعص العرق وأخراج دمه دفعة، كما أن أصل أكتع من تكنع الجلد إذا ألقي في النار فاجتمع، فذلك كله إشارة إلى الاجتماع في الفعل، وأن المراد بالكلام حقيقة العموم، وانسحاب الحكم على جميع الأفراد. الصيغة الخامسة عشر للعموم: أبصعان، للتثنية. الصيغة السادسة عشر للعموم: أبصعون، للجمع. الصيغة السابعة عشر للعموم: / بصعاء، للمؤنثة. الصيغة الثامنة عشر للعموم: بصع، للجمع المؤنث. الصيغة التاسعة عشر للعموم: نفسه، الموضوع للتأكيد في قولك: قبضت (المال نفسه). الصيغة العشرون للعموم: نفساهما، لتأكيد التثنية. الصيغة الحادية والعشرون للعموم: أنفسهم، للجمع مع (أن الصحيح) أنه يستعمل للتثنية، وأنك تقول: رأيت الجمعين أو الزيدين

صيغة "عينه" الموضوعة للعموم

أنفسهم؛ لأن (القاعدة): أن كل شيء أضيف إلى شيء هو بعضه، ففيه ثلاث لغات: الإفراد، والتثنية، والجمع، سمع من العرب: كأنه وجه ترس، بلفظ الإفراد، وقال الشاعر: ومهمهمين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين فثنى الظهر في الأول، وجمع الثاني، فحصلت ثلاث لغات. الصيغة الثانية والعشرون للعموم: عينه، الموضوعة للعموم في قولك: قبضت المال نفسه عينه. الصبغة الثالثة والعشرون: عيناهما، للتثنية، على اللغة الشاذة، والفصيح لغة الجمع. الصيغة الرابعة والعشرون للعموم: أعينهم، للجمع. الصيغة الخامسة والعشرون للعموم: النكرة في سياق النفي، إذا ركبت

صيغة: "لا رجل في الدار" بالرفع والتنوين. العموم فيها من وجه دون وجه

مع لا، نحو: لا رجل في الدار. الصيغة السادسة والعشرون: لا رجل في الدار، بالرفع والتنوين، فإن العموم فيها من وجه دون وجه، على ما يأتي بيانه في الباب الموضوع لذلك، إن شاء الله تعالى. الصيغة السابعة والعشرون: النكرة في سياق النفي مع غير (لا)، نحو: ليس في الدار أحد، وما جاءني أحد، (أو مع) (لا) بينهما حائل، أو مضاف نحو: {لا فيها غول}، وقولك: أرى حربا (ولا حامل سيف)، فإن هذا معرب، بخلاف قولك: لا رجل في الدار، وفي هذا القسم تفصيل يأتي عند قيام الحجج على كون هذه الصيغة للعموم. الصيغة الثامنة والعشرون للعموم: النكرة مع الشرط، كقولك: إن جاءك أحد أكرمه، قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره

صيغة: النكرة مع الاستفهام

حتى يسمع كلام الله}. الصيغة التاسعة والعشرون: النكرة مع الاستفهام، نحو: هل في الدار راجل؟ الصيغة الثلاثون: الفعل في سياق النفي، كقوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى}. الصيغة الحادية والثلاثون: الفعل المتعدي، إذا كان في سياق النفي، هل تعم مفاعيله؟ ، خلاف، والذي قبله/ عمومه باعتبار مصدره، لا باعتبار مفاعيله، فكأنك قلت: لا موت له فيها ولا حياة، والثاني العموم فيه باعتبار مصدره ومفاعيله [معا]، ونحو قوله: والله لا آكل، فإنه يعم أفراد الأكل وأفراد المأكول عند القائل بعمومه.

صيغة: اسم الجنس المفرد والمضاف

الصيغة الثانية والثلاثون: اسم الجنس المفرد المضاف، نحو: مالي صدقة. الصيغة الثالثة والثلاثون: التثنية من اسم الجنس إذا أضيفت، نحو: مالاي صدقة. الصيغة الرابعة والثلاثون: اسم الجنس إذا أضيفت، (وهو جمع) نحو: عبيدي أحرار، قال صاحب كتاب الروضة: اسم الجنس إذا أضيفت يعم، سواء كان مفردا، أو تثنية، أو جمعا. الصيغة الخامسة والثلاثون: المفرد من أسماء الأجناس، المعرف بالألف واللام: نحو: قبضت المال. الصيغة السادسة والثلاثون: التثنية من اسم الجنس، إذا عرفت بلام التعريف كقولك: المالان لزيد. الصيغة السابعة والثلاثون الموضوعة للعموم: اسم الجنس المجموع المعرف باللام نحو: الأموال، في قولك: قبضت الأموال، ويلحق باسم الجنس المشتقات كلها نحو: الزاني والزانية، واقتلوا المشركين، فإنها صيغ عموم كأسماء الأجناس الجوامد.

صيغة: الذي

الصيغة الثامنة والثلاثون الموضوعة للعموم: الذي، نحو قولك: أكرمت الذي في الدار، أو أحب الذي يطيع الله تعالى. الصيغة التاسعة والثلاثون للعموم: الذي، بتشديد الياء، لغة فيه. الصيغة الأربعون: الذ، بحق الياء وكسر الذال، لغة في الذي. الصيغة الحادية والأربعون: الذ، بسكون الذال، لغة في الذي. الصيغة الثانية والأربعون للعموم: حذف الذال من الذي، والاقتصار على الألف واللام واقتصروا به على المشتقات نحو قولك: الضارب، والمكرم، (أي): الذي ضرب، والذي أكرم، فهذه خمس لغات في (الذي)، حكاها الزمخشري في المفصل، وابن عصفور في المقرب.

صيغة: اللذان للتثنية بتخفيف النون

الصيغة الثالثة والأربعون: اللذان، للتثنية، بتخفيف النون رفعا، واللذين، بالتخفيف نصبا وخفضا، قال الله تعالى: {والذان يأتيانها منكم}. الصيغة الرابعة والأربعون للعموم: اللذان، بتشديد النون، لغة في تثنية الذي. الصيغة الخامسة والأربعون/ اللذا، بحذف النون للتثنية، قال الفرزدق: أبني كليب إن عمى اللذا ... فتلا الملوك وفككا الأغلالا الصيغة السادسة الأربعون للعموم: اللذي، بتسكين الياء، لغة في تثنية الذي، فهذه أربع لغات في تثنية الذي، وقعت في المفصل وغيره.

صيغة: الذين، بالياء في جميع الأحوال

الصيغة السابعة والأربعون للعموم: الذين، بالياء في جميع الأحوال، الرفع والنصب والخفض، وهي اللغة المشهورة، قال الله تعالى: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا}، فأثبت الياء مع الرفع. الصيغة الثامنة والأربعون للعموم: الذون، في الرفع، والذين، في النصب والخفض، كجموع السلامة؛ لأن الذين لا يرجون، معناه غير الراجين، فهو في معنى المشتق، فأجروه مجراه، ومن العرب من يحذف نونه، وهي لغة فصيحة. قال الله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا}، أي: كالذين خاضوا. وقال الشاعر: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوى كل القوم يا أم عامر ويحتمل أن يكون من باب التعبير بالمفرد عن الجمع، كقوله تعالى: {ثم نخرجكم طفلا}، أي أطفالا، لكن هذا النوع قليل، وحذف النون أكثر والحمل على الأكثر أولى.

صيغة "اللائين" في الرفع والنصب والخفض

الصيغة التاسعة والأربعون للعموم: اللائين، في الرفع والنصب والخفض، لغة بني هذيل في اللذين. الصيغة الخمسون: اللاؤن، في الرفع، واللائين، في النصب والجر، لغة في اللذين. الصيغة الحادية والخمسون للعموم: اللاي، في الرفع والنصب والخفض، لغة في الذين، بحذف النون والذال. الصيغة الثانية والخمسون للعموم: اللاو، بالواو وحذف النون في الرفع، واللاي، بالياء وحذف النون في الخفض والنصب، لغة في اللذين. فهذه ست لغات في (اللذين)، نقلها صاحب المقرب، وكلها للعموم. الصيغة الثالثة والخمسون للعموم: التي، للواحدة المؤنثة، بتخفيف الياء. الصيغة الرابعة والخمسون للعموم: التي، بتشديد الياء، لغة في التي. الصيغة الخامسة والخمسون/ للعموم: الت، بحذف الياء، لغة في التي.

صيغة: "الت" بتسكين التاء

الصيغة السادسة والخمسون للعموم: الت (بتسكين) التاء، باثنتين من فوقها، لغة في التي، (فهي أربع لغات في التي)، كالأربع التي في (الذي) حكاها ابن عصفور في المقرب. الصيغة السابعة والخمسون للعموم: اللاتي، في جمع (التي) للجمع المؤنث. الصيغة الثامنة والخمسون للعموم: اللاي، بالياء باثنتين من تحتها، لغة في اللاتي. الصيغة التابعة والخمسون للعموم: اللواتي، لغة في اللاتي. الصيغة التون للعموم: اللات، بحذف الياء، من، اللغة الأولى، لغة فيها. الصيغة الحادية والستون للعموم: اللا، بحذف الياء، من اللغة الثانية. الصيغة الثانية والستون: اللوات، بحذف الياء، باثنتين من تحتها، من اللغة الثالثة، لغة فيها. الصيغة الثالثة والستون للعموم: اللواء، بالمد، لغة فيها. الصيغة الرابعة والستون للعموم: اللوا، بالقصر، لغة فيها

صيغة: اللاتي في جمع التي

الصيغة الخامسة والستون للعموم: اللواي، بالياء، باثنين من تحتها، من غير همزة، لغة فيها الصيغة السادسة والستون للعموم: اللاء، بغير ياء، لغة فيها. الصيغة السابعة والستون اللعموم: اللات. فهذه إحدى عشرة لغة في جمع (التي)، وهي صيغ متباينة في البناء، حكاها ابن عصفور في المقرب، وكلها للعموم. الصيغة الثامنة والستون للعموم: ذو، في لغة طيء، بمعنى الذي، قال شاعرهم: لانتحين للعظم ذو أنا عارقه ... أي: الذي (أنا) عارقه.

صيغة: ذوات، بضم التاء جمع ذات الطائية

الصيغة التاسعة والستون للعموم: ذات، مؤنثة ذو الطائية. الصيغة السبعون للعموم: ذوا، تثنية ذو الطائية في الرفع، وذوي، في النصب والخفض. الصيغة الحادية والسبعون للعموم: ذواتا، تثنية ذات الطائية (في الرفع)، وذواتي، في النصب والخفض. الصيغة الثانية والسبعون للعموم: ذوات، بضم التاء، جمع ذات الطائية. الصيغة الثالثة والسبعون للعموم: ذوو، جمع ذو الطائية في الرفع، وذوي، في الخفض والنصب، حكى هذه الصور كلها ابن عصفور في المقرب/ ووافقه جماعة على أكثرها. الصيغة الرابعة والسبعون: ما الموصولة، نحو قولك: رأيت ما عندك. وهي موضوعة للعموم فيما لا يعقل، وفي أنواع من يعقل من المذكرين والمؤنثات، وفي صفة من يعقل، قال الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من

النساء}، والمراد بـ (ما) صفة من يعقل، وقال الله تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلفت بيدي} والمراد: آدم عليه السلام. و(من) تقع على من يعقل، وهو الأصل، وعلى من لا يعقل إذا عومل معاملة من يعقل أو اختلط به، فإنه يتناول الجميع، فالمعامل كقوله تعالى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق}، والذي لا يخلق (المراد به ها هنا: ) الأصنام، لما عوملت بالعبادة عبر عنها بـ (من)، والمختلط كقوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء بمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع}، فعبر عن الذي يمشي على بطنه نحو: الحيات، وعلى أربح نحو: الخيل والإبل بـ (من)، لاختلاطها مع من يعقل في صدر الآية في قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء}، وعموم الدابة يشمل العقلاء وغيرهم، فغلب على الجميع حكم من يعقل، فكأن الجميع عقلاء، فلذلك جاء التفصيل كله بلفظ (من). و(الذي) يقع: على من يعقل، وما لا يعقل من المذكرين.

و (اللذين): لا يقع إل على من يعقل خاصة؛ لأن الياء التي فيه مشبهة بالياء في جميع السلامة نحو: المشركين، والزيدين، الخاص بمن يعقل، وتثنيته تقع على من يعقل وما لا يعقل؛ لأن ياء التثنية لا تختص بمن يعقل تقول: الزيدين، والفرسين، فلا تختص. و(التي) تعم من يعقل وما لا يعقل من المؤنثات، وكذلك تثنيتها، وجمعها و (الألف واللام) بمعنى الذي والتي، تعم من يعقل، ومن لا يعقل من المذكرين والمؤنثات، وكذلك (أي): إلا أن بعضهم إذا أراد التأنيث قال: أية. و(ذو): تقع على من يعقل وما لا يعقل (من المذكرين؛ لأن لفظه مذكر. و(ذات): تعم من يعقل وما لا يعقل) من المؤنثات، لأن لفظه مؤنث وحكى الفراء): بالفضل ذو فضلكم الله به، والكرامة ذات أكرمكم الله

تنبيه: يندرج من يعقل مع مالا يعقل إذا قصد العموم المعنوي من الأجناس العامة

به)، يريد: بها، بحذف الألف، ونقل الفتحة إلى الباء. و(اللاء): بمعنى اللذين، يفع على من يعقل من المذكرين (لما تقدم في تعليل اللذين). و(ذا): إذا كان مع من، وقعت على من يعقل من المذكرين والمؤنثات، لأنه شابه (ما) وهذه الأحكام كلها ذكرها الشيخ ابن عصفور في المقرب. تنبيه: (يندرج من يعقل مع ما لا يعقل إذا قصد العموم المعنوي من الأجناس العامة، بخلاف إذا قصد الخصوص مما لا يعقل، كما) / يندرج ما يعقل مع من يعقل إذا قصد الجمع بينهما، أو تقدمت عبارة تشملهما. بيان الأول: أنك إذا قلت: انظر إلى ما خلق الله من شيء، فإنك تشير

إلى مطلق الموجود بصيغة العموم، فيندرج فيها كل موجود (من حيث موجود، والموجود من حيث هو موجود) أعم من كونه يعقل، لأن الأصل الجواهر الجمادية في أجزاء العالم (حتى) يعرض لها العقل والحياة ونحوهما، والأعم لا يستلزم الأخص، فلم يتعين اندراج العقلاء من حيث هم عقلاء في العموم حتى يستحق التعبير عنه بصيغة من يعقل، بل الذي يستحقه هذا العموم صيغة ما لا يعقل؛ لأنه من حيث هو جمادات، والجمادات إنما تستحق صيغة ما لا يعقل، فظهر [من] ذلك أن كل من يعقل يندرج في هذه الحالة في صيغة ما لا يعقل من جهة عمومه؛ لأن كل عاقل فهو جواهر. وكذلك إذا قلت: أنا لا أعلم ما علم الله، يتعين لغة أن يعبر بـ (ما)، دون (من (، لأنك قصدت واجدة المعلومات من حيث هي معلومات، والمعلوم من حيث هو معلوم أعم من كونه واجبا، أو ممكنا، أو مستحيلا، والقاعدة: أن الأعم المعنوي لا يستلزم أخصه، فلذلك لم تكن الصيغة في هذا المقام متناولة

الموجود من حيث هو موجود، فضلا عن العاقل من حيث هو عاقل، وإن تناولت جميع ذلك من جهة كونه معلوما، وهو من هذا الوجه ليس بعاقل، فتعين التعبير عنه لغة بصيغة ما لا يعقل. فتأمل ذلك، فهو كثير، وتورد الفضلاء الأسئلة لأجله، فتقول: كيف عبر عمن يعقل في هذه الآية أو في هذا الحديث بصيغة ما لا يعقل؟ والجواب: أنه في الحقيقة ما عبر بـ (ما (إلا عما لا يعقل، ومن ذلك قوله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء}، فعبر بـ (ما (، ولم يقل: انظروا إلى من خلق الله، ولو قال ذلك، لفات العموم الحاصل في جميع الموجودات، واختص الكلام بطور العقلاء، فتأمل ذلك فهو اللغة والمعقول، وليس فيه التعبير عمن يعقل بلفظ (ما) ألبتة، بل اندرج من يعقل من جهة أنه لا يعقل، هذه صورة الاندراج لمن يعقل في صيغة ما لا يعقل. وأما اندراج ما لا يعقل في صيغة من يعقل، فله سببان: أحدهما: التغليب، كما إذا قلت: رأيت من في الدار، / وأنت تريد الرجال والنساء، والجمادات، والبهائم، فإنك تقول: رأيت من في الدار، ولا تقول: ما في الدار، تغليبا لوصف العقلاء، لشرفه على البهائم، والجماد لخسته، وتعم الصيغة الجميع، لكن تعميما ينشأ عن إرادة المستعمل، دون الوضع

اللغوي، ولذلك إذا لم تطلع على إرادته، لا يحمل اللفظ إلا على عقلاء الدار خاصة، ولا يثبت الحكم لما لا يعقل من الكائن في الدار؛ فيكون التعميم ليس بالوضع، بل بإرادة المستعمل، وهو الفرق بين هذا التغليب وبين ما قبله، فإن ذلك بالوضع اللغوي إلا أنه ناشئ عن إرادات المستعملين. وثانيهما: أن تتقدم صيغة شاملة للقسمين نحو: (ما خلق الله من شيء)، أو: ما يعلمه الله، أو قوله تعالى: {والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع} فعبر عن الحيات وذوات الأربع بلفظ (من)؛ لأجل أن هذين القسمين لما اندرجا في العموم أولا، غلب من يعقل على غيره، لشرفه، فصار الجميع كأنه كله عقلاء، فوقع التقسيم بلفظ (من) لذلك، وهذا القسم أيضا مجاز، لا بالوضع اللغوي، فإن التعبير عن الحيات بخصوصها بلفظ (من) ليس بالوضع اللغوي، فتأمل هذه الأقسام وتباينها في تناولها وحقيقتها ومجازها.

قاعدة: العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات

تنبيه: يحصل من هذا التنبيه المتقدم بيان قاعدة أخرى وهي: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، وهي قاعدة يحتاج إليها كثير في باب التخصيص وغيره. وبيان ذلك: أن العام في الأشخاص لو كان عاما في الأحوال، لكنا إذا قلنا: انظروا إلى ما خلق الله من شيء (كان) عموما لفظيا في جميع المخلوقات، عاما في جميع أحوالها، ومن جملة أحوالها كان بعضها عقلاء، وأن اللفظ يتناول هذه الحالة لعمومه، وإذا ما تناولها مع غيرها يكون قد اجتمع من يعقل وما لا يعقل، فيتعين التغليب كما تقدم، فيكون التعبير حينئذ بلفظ (من)، (لا بلفظ (ما)، لكن لما كانت العرب تعبر بلفظ (ما) في هذا المقام دون لفظ (من) دل ذلك على أن هذه الحالة التي هي حالة العقلاء، لم يتناولها اللفظ ألبتة، وأنه إنما يتناول عموم الموجودات من حيث هي

صيغة: (ما) الاستفهامية

موجودات/ مع مطلق الحالة وهي حالة (ما)، غير معينة، التي هي أعم من العقلاء والجمادات، والقاعدة: أن الأعم المعنوي لا يستلزم الأخص، فلذلك لم يتعين اندراج حالة العقل في مدلول اللفظ فلم يتعين التلغيب، ولا وجد سببه، وهذا برهان قوي على أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فتأمل ذلك. الصيغة الخامسة والسبعون للعموم: ما الاستفهامية، تقول: ما عندك؟ فيعم استفهامك جميع ما لا يعقل من الكائن عنده. الصيغة السادسة والسبعون: (مه)، وهي ما الاستفهامية، تقلب ألفها هاء كما جاء في الحديث، قال أبو ذؤيب: (قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ ، فقيل: هلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). الصيغة السابعة والسبعون للعموم: ما الشرطية، نحو قولك: ما تصنع

صيغة: (ما) الزمانية

أصنع، فإنه يعم جميع الأحوال في نصها شرطا. الصيغة الثامنة والسبعون للعموم: مهما، وهي (ما) الشرطية، إذا لحقت ألفها ما الزائدة فإن ألف ما الأولى تقلب هاء، كما تقلب في الاستفهام، فتقول مهما، قال الله تعالى: {وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا} ونص على هذين القلبين في الألف الزمخشري وغيره. الصيغة التاسعة والسبعون للعموم: (م)، بغير ألف وهي ما الاستفهامية، إذا لحقها حرف جر، فإن ألفها تحذف قال الله تعالى: {عم يتساءلون} و {فيم أنت من ذكراها}، وتقول: عم؟ ، ولم؟ ، وبم؟ ، وسائر بقية الحروف الجارة كذلك يحذف معها الألف وتكون للعموم. الصيغة الثمانون للعموم: (ما) الزمانية، نحو قولك: لأعظمنك ما طرد الليل النهار، قال الله تعالى: {لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما}.

الفرق بين (ما) الزمانية و (ما) المصدرية

تقدير الأول: أعظمك في زمن طرد الليل النهار، فالتعظيم عام في جميع أزمنة طرد الليل النهار. وتقدير الثاني: لا يؤده إليك إلا في زمان دوام قيامك عليه، وملازمتك له، فإمكان القيام عام في جميع أزمنة مداومتك له، وهي لا تكون بعدها إلا في فعل، في تأويل المصدر، كما رأيت في التقديرين المذكورين. وقد أشكل على بعضهم الزمانية بالمصدرية؛ لأن كل واحدة منهما ما بعدها إلا الفعل/ وكلاهما يقدر بالمصدرية، وكلاهما لا يظهر فيه إعراب يميز بينهما. والفرق بينهما: أن الزمانية إذا أضيف إليها اسم تعين نصبه على الظرف، والمصدرية إذا أضيف إليها اسم لا يتعين نصبه، بل تجري عليه أحكام العوامل. تقول (في الزمانية): آتيك كل ما طرد الليل النهار، بنصب كل ليس إلا على الظرف، وتقول في المصدرية: أعجبني كل ما صنعت، برفع (كل) على الفاعلية، والتقدير: أعجبني كل صنيعك، وعجبت من كل (ما) صنعت، وأحببت كل ما صنعت، فيختلف إعراب (كل) معها، بخلاف الزمانية،

الزمانية، النصب ليس إلا، فبهذا يظهر التغاير بينهما، وأما الصورة (التي) قبل هذا فواحدة. فإن قلت: لو كانت للعموم لكانت الأخرى للعموم؛ لأن كليهما مقدر بالمصدر المضاف، والمصدر المضاف اسم جنس مضاف، واسم الجنس إذا أضيف يعم، فيكونان معا للعموم. قلت: المصدرية ليست للعموم، بخلاف الزمانية (والفرق من جهة المعنى: أن العموم مفهوم من الزمانية) قبل السبك مصدرا، فلا يفهم من قولك: ما طرد الليل النهار إلا العموم، والعموم في المصدرية يحدث قبل السبك، والكائن بعد السبك صيغة أخرى غير (ما) [المصدرية] المقصودة ها هنا، وقبل السبك إنما يفهم فردا واحدا (وعددا محصورا داخلا) في الوجود قد تعين وتحقق بطرفيه، متناه محصور، ومثل هذا لا عموم فيه، نحو قولك: أعجبني ما قلت، فإن الذي أعجبك قول معين لشخص قد دخل الوجود، وهو متناه، فلا يكون المحصور المتناهي عموما، هذا هو مدلول الفعل قبل السبك، فإذا سبكت جاءت صيغة أخرى ليس فيها لفظ (ما)، بل مصدر مضاف مقتضاه العموم، وليس الكلام فيه، إنما الكلام في لفظ (ما) وما معها من الفعل.

صيغة (ما) المصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل

والفرق بين قبل السبك وبعده: أن الكائن قبل الفعل فعل في سياق الإثبات، قد دخل الوجود وانقضى، والفعل في سياق الإثبات مطلق إجماعا، لا عموم فيه، والمصدر المضاف اسم جنس أضيف فيعم، فلما اختلف حال (ما) المصدرية قبل السبك وبعده، والكلام فيها إنما هو فيها قبل السبك وليس هو للعموم، لم أعدها في العموم، وما الزمانية لا مفهوم فيها حالة وجودها من غير سبك، ولا يعتبر للعموم، فلذلك جعلتها للعموم، فتأمل الفرق بينهما، هذا إذا كانت (ما) المصدرية/ موصولة بفعل ماض، أما إذا وصلت بفعل مستقبل فإنها تكون للعموم. الصيغة الحادية والثمانون (للعموم): ما المصدرية، إذا وصلت بفعل مستقبل، نحو قولك: يعجبني ما تصنع، ويتقبل الله من المؤمنين ما يعملون، ونحو ذلك، فإن أعجابك متعلق بكل فعل بصيغة في المستقبل، هذا هو المفهوم من الكلام، والواقع من صيغة والمتوقع غير متناه، فذلك كانت للعموم، لعدم حصر المستقبل، بخلاف (ما) إذا وصلت بفعل ماض، فإنه محصور، يتعذر فيه العموم، فتأمل ذلك.

فهذه ثماني صيغ لـ (ما) للعموم، وبقية صيغ (ما) وأقسامها لا تصلح للعموم، نحو: الكافة في إنما، والمهيئة في ربما، والزائدة في مهما وكيفما، والنكرة الموصوفة نحو: مررت بما معجب لك، والنكرة غير الموصوفة نحو: ائتني بشيء ما. ومثل (ما) ما التعجبية، في نحو: ما أحسن زيدا، فالصحيح أنها بمعنى شيء، فلا تكون للعموم، والتقدير: شيء حسن زيدا، فهي نكرة في سياق الإثبات، وقيل: إنها موصولة، وعلى هذا القول تكون مندرجة في

صيغة (من) الخبرية الموصولة

الموصولة، فلم يبقي من أقسام (ما) شيء يصلح للعموم غير الثمانية المتقدمة. الصيغة الثانية والثمانون للعموم: من الخبرية الموصولة نحو قوله تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض}. الصيغة الثالثة والثمانون: من الشرطية، نحو قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، (ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)}، فإنها تعم كل عمل. الصيغة الثالثة والثمانون: من الاستفهامية، كقوله تعالى حكاية عن (قوم) إبراهيم عليه السلام: {قالوا من فعل هذا بآلهتنا}. الصيغة الخامسة والثمانون للعموم: منو، في الحكاية في النكرات، إذا قال: جاء رجل، تقول: منو؟ الصيغة السادسة والثمانون للعموم: منا، في حكاية النكرة المنصوبة، إذا قيل: أكرمت رجلا، تقول: منا؟ ، مستفهما عنه. الصيغة السابعة والثمانون للعموم: منى، في حكاية النكرات

صيغة: منين وهي تثنية (من) في النصب والجر

المخفوضة، إذا قيل لك: مررت برجل، تقول: مني؟ ، فتتبع أبدا حركة المتكلم بما يناسبها في لفظك أنت عن المستفهم بها، حتى يعتقد أنك لم تستفهمه عن غير كلامه، وأنك لم تعدل عنه [إلا] لكراهتك فيه، كما يفعله من يقول له: إن الملك سيقتل، فتكره الخوض في حديث الملوك خوفا من غائلتهم، فتقول: بياع الدقيق/، أي هذا هو الذي يعنيني، وتعدل عن كلام المخبر، كراهة فيه، فإذا وقعت المشابهة بين الحركات جزم المخبر بأنك لم تعدل عن كلامه، وأنك إنما استفهمته عنه، ولما كانت العرب لا تقف على متحرك، أشبعت هذه الحركة، فتولد عناه ما يناسبها من الألف والواو والياء. الصيغة الثامنة والثمانون: منان، وهي (تثنية) من، إذا استفهمت بها عن تثنية نكرة، فإذا قال لك: جاءني رجلان، تقول: منان، تحقيقا للحكاية كما تقدم. الصيغة التاسعة والثمانون: منين، وهي (تثنية) من، إذا استفهمت بها عن تثنية (نكرة) مجرورة أو منصوبة إذا قيل لك: أكرمت رجلين، أو مررت برجلين، فتقول: منين؟ بالياء للحكاية وتحقيقها، والنون ساكنة للوقف. الصيغة التسعون للعموم: منون، إذا استفهمت بها عن جمع من النكرات مرفوع، إذا قيل لك: جاءني رجال، تقول: منون؟ فالواو لتحقيق

صيغة: منه. في حكاية الواحدة المؤنثة

الحكاية كما تقدم، والنون ساكنة للوقف. الصيغة الحادية والتسعون للعموم: منين، في حكاية جمع النكرات المنصوبة والمخفوضة، إذا قيل لك: أكرمت رجالا، أو مررت برجال، تقول: منين؟ بالياء لتحقيق الحكاية كما تقدم، وتسكين الياء السكون الميت، بخلاف الياء في التثنية فإن ياءها ساكنة السكون الحي. الصيغة الثانية والتسعون للعموم: منه، في حكاية الواحدة المؤنثة، والهاء للسكت. الصيغة الثالثة والتسعون: منتان، في حكاية النكرتين المؤنثتين المرفوعتين إذا قيل لك: جاءني امرأتان، تقول: منتان؟ تحقيقا للحكاية في الرفع والتأنيث، والنون ساكنة؛ لأنه وقف، والوقف على المتحرك لا يجوز. الصيغة الرابعة والتسعون للعموم: منتين، وهي ما إذا استفهمت بها عن نكرتين مؤنثتين منصوبتين أو مخفوضتين، تحقيقا لإعراب في حكاية المخبر والتأنيث، وتسكين النون. الصيغة الخامسة والتسعون للعموم: منتات، وهي (جمع) من، إذا استفهمت بها عن جمع مؤنث في الحكاية، مرفوع أو منصوب/ أو

مخفوض، والتاء الأولى للتأنيث، والألف والتاء الثانية (للجمع، والتاء الثانية) ساكنة، كما سكنت النون في الجمع، حذرا من الوقف على المتحرك، وهذا كله في الوقف، فإن وصلت كلامك في الاستفهام بكلام لك آخر نحو قولك: من يأتي؟ أسقطت هذا كله، وأتيت بـ (من) ساكنة النون، ولذلك قال النحاة: إن قول الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن، قلت عموا ظلاما أنه شاذ من وجهين: أحدهما، إثبات هذه الزوائد في الوصل، الثاني، تحريك النون، قال ابن جني في الخصائص: (سمع من العرب): أكرم من منا، من غير صلة ولا صفة، شاذ، قال ابن عصفور في المقرب: إنما جمع (هذا) الشاعر منون بالواو والنون بناء على هذه اللغة الشاذة، فهذه

صيغة: ماذا

أربع عشرة لغة لـ (من) في العموم، بحسب أقسامها وأحوالها. الصيغة السادسة والتسعون للعموم: ماذا، في قول العرب: ماذا صنعت؟ قال سيبويه رحمه الله: وفيه وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى أي شيء، وذا معنى الذي، وتكون صنعت صلته، وعلى هذا يكون الجواب أن تقول: حسن، بالرفع، لأنه جواب مرفوع كما تقول في جواب من قال: ما زيد؟ بالرفع، وأنشد للبيد في هذا الوجه شعر: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

فجعل (أنحب) جوابا لقوله: ماذا يحاول؟ ، وأجراها مجرى الذي، وما بعده وهو قوله: يحاول، صلته. وثانيهما: أن يكون (ماذا) كما هو، بمنزلة اسم واحد في تقدير أي شيء صنعت، فيكون الاسم المتقدم في (ما قبل) الفعل المتقدم، وجوابه على هذا التقدير بالنصب، لأنه سألك عن مفعول، فتجيبه بالنصب، كما إذا قيل: من أكرمت؟ فإنك تقول: زيدا، بالنصب، كذلك ها هنا، وقرئ قوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}، بالرفع والنصب، على التأويلين. قال سيبويه: ولا يكون ذا بمعنى الذي إلا مع (ما) أو (من)، وأما إذا انفرد فهو اسم إشارة مثل هذا وذاك، لا موصول، ولا عموم فيه. وقال/ الكوفيون: تكون بمعنى الذي، إذا انفرد، وأنشدوا في ذلك قول الشاعر: عدس ما لعباد عليك أمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق

صيغة: من ذا

أي: والذي تحملينه طليق، وهو شاذ عند البصريين. الصيغة السابعة والتسعون: (من ذا)، قال ابن عصفور في المقرب: إذا كانت (ذا) مع (من) الاستفهامية، كان ذا معناه: الذي والتي، وكذلك إذا كانت مع (ما، غير أنها إذا كانت مع) (من) وقعت على من يعقل من المذكرين والمؤنثات، وإذا كانت مع (ما) وقعت على ما لا يعقل من المذكرين والمؤنثات، وعلى التقديرين هي بمعنى: الذي والتي، ويجري فيها الخلاف الذي ينسب للكوفيين، والوجهان اللذان ذكرهما سيبويه. سؤال: إذا كانت (ما) تقع بمعنى الذي، والذي تقع على من يعقل إجماعا، والقاعدة: أن اللفظين إذا ترادفا كان معناهما واحدا، وأنهما إذا كانا بحيث يقوم أحدهما مقام الآخر، كانا مترادفين، ونصوص النحاة متضافرة على إقامة أحدهما مقام الآخر فيكونان مترادفين، فإن هذه

الإقامة ليست من باب المجاز، بل من باب مقام الحقيقة، وأن (ما) إذا كان معناها (الذي)، كانت حقيقة في ذلك الاستعمال إجماعا، فتكون (ما) موضوعة لمن يعقل، وأخذ يتعجب ممن يقول: إنها لا تكون لمن يعقل، مع مرادفتها للذي، والذي لمن يعقل، وهو كلام غبش يحتاج إلى تأمل. جوابه: أن (الذي) و (التي) وضعا للقدر المشترك بين من يعقل وما لا يعقل، و (من) وضع لأحد نوعي هذا المشترك، و (ما) وضع للنوع الآخر، وهو ما لا يعقل، فـ (ما) ترادف الذي والتي في أحد نوعي مسماها، لا في جميع المسمى، فهما في الحقيقة وضعا لغير ما وضع له الذي والتي. ونظير ذلك لفظ الحيوان، وضع للقدر المشترك بين الإنسان والبهيم من الفرس وغيره، والفرس وضع لأحد نوعي هذا المشترك، والإنسان وضع للنوع الآخر، فكما يستعمل الفرس ويراد به ما يراد بالحيوان في أحد موارده، ولا يكون موضوعا للإنسان، كذلك تستعمل (ما) بمعنى (الذي) و (التي) ولا يكون معناه من يعقل، وكذلك العدد، موضوع للقدر المشترك بين الزوج والفرد، والزوج يرادفه في أحد أنواعه، والفرد يرادفه في النوع الآخر، ولا

يقال: إن الزوج موضوع/ للفرد، كذلك ها هنا، وكذلك أسماء جميع الأجناس، وأسماء أنواعها، ولا ترادف بين شيء من هذه الألفاظ، كذلك ها هنا لا ترادف بين (ما) و (الذي) و (التي)، أعني أنه ليس المسمى واحدا، بل الوضع حصلت فيه الموافقة في البعض، ومن شرط الترادف في الاصطلاح أن يقع التساوي بين اللفظين في المسمى، والسؤال إنما يتم على هذا التقدير، وإلا فلا يلزم من وضع اللفظ لبعض أنواع مسمى لفظ، وضعه للنوع الآخر. وبهذا ظهر أن (ما) تكون بمعنى الذي والتي، الذين يتناولان من لا يعقل ولا تكون (ما) تتناول من يعقل. وفي التحقيق ليس في الثلاثة شيء وضع لمن يعقل ولا يتناوله وضعا، بل من جهة الإرادة خاصة، كما يراد بالحيوان الإنسان، وإن كان لفظ الحيوان لم يوضع للإنسان ولا يتناوله؛ لأن اللفظ الموضوع للأعم لا يتناول الأخص، لا مطابقة، ولا التزاما، لأن الأعم لا يستلزم الأخص، كذلك إذا كان (الذي) وضع لقدر مشترك أعم من العاقل وغيره، يكون كالحيوان في عدم تناوله للإنسان، فلا يدل على العاقل ألبتة، ولا يكون موضوعا له. نعم قد يراد به التعبير عن العاقل، فتقول: رأيت الذي في الدار، وتريد زيدا، كما تقول: رأيت حيوانا، وتريد زيدا. فتأمل هذا السؤال، وهذا الجواب، فيظهر لك بطلان (قول) من يقول: إن (الذي) وضع لمن يعقل، أو هو يتناول من يعقل، بل العبارة الصحيحة فيه أنه قد يراد به من يعقل، وقد يراد

تخطئة المؤلف للنحاة في قولهم: إن (من) موضوعة لمن يعقل مطلقا

به ما لا يعقل، كما يراد بلفظ العدد تارة الفرد وتارة الزوج، مع أنه لم يوضع لواحد منهما، وتقول: معي عدد، وتريد العشرة، ومعي عدد، وتريد الخمسة، وتقول: معي عدد زوج، ومعي عدد فرد، ويكون اللفظ حقيقة في الجميع، إن أريد ذلك الخاص، وذلك النوع من جهة عمومه لا من جهة خصوصه، أما متى أريد الخاص بلفظ موضوع لما هو أعم منه من حيث هو خاص فهو مجاز، وكذلك تقول: لفظ الحيوان إذا استعمل في الإنسان من حيث هو إنسان، هو مجاز، ومتى أريد بـ (الذي) من يعقل، من حيث هو عاقل، كان اللفظ مجازا فيه، وإنما يكون (الذي) حقيقة فيمن يعقل، إذا أريد به العاقل من حيث عمومه، لا من حيث خصوصه، فتأمل ذلك. /سؤال: قول النحاة أن: (من) موضوعة لمن يعقل، ليس كذلك، بل هو باطل قطعا. وبيانه: إذا قلنا: من دخل داري فله درهم، فهذا اللفظ موضوع في لسان العرب لمن اتصف بالدخول من العقلاء، أما (غير) العاقل فليس

بداخل، فلا يتناوله هذا اللفظ ألبتة إجماعا، وكذلك لو أعطي المأمور بالدفع لعاقل لم يدخل الدار، استحق العتب، وإذا كان اللفظ إنما وضع للعاقل الداخل والعقل الداخل أخص من العاقل، واللفظ الموضوع للأخص لا يلزم أن يكون موضوعا للأعم، كما أن لفظ الإنسان لما وضع لما هو أخص من الحيوان، لم يقل أحد إن لفظ الإنسان موضوع للحيوان، كذلك ها هنا. هذا في (من) الشرطية، وكذلك الموصولة في قولك: أعجبني من دخل الدار، لا يتناول اللفظ عاقلا لم يدخل الدار، لا يتناول اللفظ عاقلا لم يدخل الدار، بل إنما هذا اللفظ موضوع للعاقل الداخل، فهو موضوع لما هو أخص من العاقل، والموضوع لما هو أخص من العاقل، لا يكون موضوعا للعاقل، وإنما تكون (من) موضوعة للعاقل إذا استعملت نكرة موصوفة كذلك: مررت بمن معجب لك، أي بعاقل معجب لك، وكذلك على اللغة الشاذة في استعمالها نكرة غير موصوفة في قولهم: أكرم من منا، كما قاله ابن جني وغيره. أما أنها موضوعة لمن يعقل مطلقا، حتى في الموصولة، والشرطية، والاستفهامية فلا، بل هي موضوعة في الاستفهامية في قولك: من في الدار؟ للعاقل الكائن في الدار خاصة، أما عاقل ليس في الدار، فلم تتعرض باستفهامك له ألبتة. فظهر بهذا التفصيل، في هذا السؤال، بطلان قول النحاة والأصوليين: إن من موضوعة لمن يعقل مطلقا.

جوابه: أن السؤال ظاهر صحيح، والحق في (من) أن يقال فيها: إنها لفظ مشترك بين الخبرية، والاستفهامية، والشرطية، والنكرة الموصوفة، وأنها وضعت لهذه الموارد على سبيل الاشتراك، وأنها في النكرة الموصوفة، أو غير الموصوفة على اللغة الشاذة موضوعة لمن يعقل جزما، وفيما عدا ذلك موضوعة لما هو أخص من العاقل، وهو العاقل الموصوف بتلك الصلة، أو الصفة الكائنة بعده، وليست موضوعة للعاقل، ويحمل قول العلماء/ في ذلك على أنها ترد في تلك (الموارد) لموصوف، وهو عاقل، فالعاقل ورد فيه اللفظ، لا أن اللفظ موضوع له، ولذلك يكون قول من يقول: إن لفظ (من) يتناول العقلاء أقرب للصواب من قول من يقول: إن لفظ (من) موضوع لمن يعقل، أو العقلاء؛ لأن التناول قد يكون بطريق التضمن والتبع، فقائله لم يصرح بالوضع، لكنه توهم الوضع، أما القائل الآخر فمصرح بالوضع، وغير المصرح بالخطأ أقرب للصواب من المصرح به.

صيغة: لفظ (أي) الموصولة

فهذه أسئلة وأجوبة تعينك على تحقيق فهم كلام العلماء في إطلاقاتهم في هذه المواطن، وتتأهل بهذا البحث للجواب عن هذه الإشكالات إذا وردت عليك في هذه الألفاظ. الصيغة الثامنة والتسعون للعموم: لفظ (أي) الموصولة، نحو قولك: أكرم أيهم أفضل. الصيغة التاسعة والتسعون: (أي) الشرطية، كقولك: أيهم يأتيني أكرمه، بجزم أكرم على جواب الشرطية. الصيغة المائة: (أي) الاستفهامية، ابتداء من غير حكاية، كقولهم: أيهم حضر؟ الصيغة الحادية بعد المائة: (أي) الموصوفة، كقولك: يأيها الرجل،

صيغة: (أي) المبنية إذا وقعت صلتها محذوفة المصدر

(أي) هو المنادى، ولفظ (ها) صلة زائدة بين الصفة والموصوف، والرجل صفة أي، وهو المنادى في المعنى، غير أن العرب كرهت الجمع بين حرف النداء وحريف التعريف، لأن حرف النداء فيه معنى التعريف بالقصد والحضور، فلا يجتمع على الاسم الواحد معرفان لفظيان، وقولي: لفظيان، احترازا من قولهم: يا زيد، فجمعوا بين حرف النداء والعلمية، لكن العلمية تعريف معنوي لا لفظي دخل على الاسم، كما اتفق في لام التعريف، ولما كرهوا ذلك صدروا كلامهم بـ (أي)، فجعلوه المنادى في الصورة، وجعلوا المنادى المعنى صفة له، فصارت أي تقع مثل (من) موصولة، وموصوفة واستفهامية وشرطية. الصيغة الثانية بعد المائة: (أي) المبنية، إذا وقعت صلتها محذوفة الصدر، كما في قوله تعالى: {لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} قال الشاعر: إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل /بضم أي، وبناؤها على الضم؛ لأجل حذف صدر الصلة، قال سيبويه:

صيغة: (أي) في حكاية النكرات في الوصل

فإذا كملت الصلة أعربت، تقول: عرفت أيهم في الدار، بنصب أي، وقد قرئ {أيهم أشد}، بنصب أي، والأول مذهب سيبويه والجادة. الصيغة الثالثة بعد المائة: ((أي)، في حكاية النكرات في الوصل، تقول لمن قال لك جاءني رجل: أي، بالرفع، فتلحق في كلامك مثل حركة كلامه، تنبيها على عدم العدول عن كلامه، وأنك إنما استفهمت عنه. الصيغة الرابعة بعد المائة: أيا، بالنصب في الحكاية لمن قال لك: رأيت رجلا، فتحكيه منصوبا مثل كلامه، كما تقدم في تعليل (من)

صيغة: (أي) بالخفض

إذا حكيت بها. الصيغة الخامسة بعد المائة للعموم: أي، بالخفض، حكاية من قال لك: مررت برجل، فتستفهمه بالخفض مثل كلامه. الصيغة السادسة بعد المائة للعموم: أيان، إذا استفهمت عن تثنية النكرة المرفوعة كقولك لمن قال لك: جاء رجلان، فتقول: أيان. الصيغة السابعة بعد المائة للعموم: أيين، إذا استفهمت عن تثنية النكرات المنصوبة أو المخفوضة لمن قال لك: رأيت رجلين، أو مررت برجلين، فتقول له: أيين، بفتح الألف، وفتح الياء الأولى، وسكون الياء الثانية السكون الحي، وفي الجمع يكون بالسكون الميت. الصيغة الثامنة بعد المائة للعموم: أيون، إذا استفهمت عن جمع النكرات المرفوع، فتقول لمن قال لك: جاءني رجال، أيون، وتكون الواو لحكاية ما في كلامه من رفع الرجال، وأنه مجموع كما كانت الألف ففي التثنية دالة على الرفع والتثنية. الصيغة التاسعة بعد المائة: أيين، إذا استفهمت عن جمع من النكرات

صيغة: أية، إذا استفهمت عن الواحدة المؤنثة

منصوب أو مخفوض، كمن قال لك رأيت رجالا، أو مررت برجال، فتقول له: أيين، بكسر الياء الأولى، وتسكين الثانية السكون الميت، وفتح النون، للفرق بين لفظ التثنية والجمع، كما فعلوا ذلك في الزيدين والزيدين، تثنية وجمعا، فعلت ذلك لتحكي ما في كلامه من الجمع والنصب والخفض. الصيغة العاشرة بعد المائة: أية، إذا استفهمت عن الواحدة المؤنثة، فتلحق التأنيث في كلامك، للمشابهة، كما تقدم تعليله. الصيغة الحادية عشر بعد المائة للعموم: أيتان، إذا/ استفهمت عن تثنية النكرات المؤنثة المرفوعة، كمن قال لك: جاءتني امرأتان، فتقول: أيتان. الصيغة الثانية عشر بعد المائة: أيتين، في تثنية حكاية النكرات المنصوبة أو المخفوضة (المؤنثة)، كمن قال لك: رأيت امرأتين، أو مررت بامرأتين، فتقول له: أيتين، بفتح الياء الأولى وسكون الثانية السكون الحي، وكسر النون لتحكي ما في كلامه من (التثنية والتأنيث)، والنصب والخفض. الصيغة الثالثة عشر بعد المائة: أيات، في حكاية جماعة المؤنث، المرفوع، كمن قال لك: جاءني نساء؛ فتقول: أيات، لتحكي ما في كلامه من الجمع والتأنيث والرفع.

صيغة: أيات، في حكاية جمع النكرات المؤنثات المنصوب أو المخفوض

الصيغة الرابعة عشر بعد المائة للعموم: أيات، في حكاية جمع النكرات المؤنثات، المنصوب أو المخفوض، كمن قال لك: رأيت نسوة، أو مررت بنسوة، فتقول: أيات، فتحكي ما في كلامه (من الجمع والتأنيث، والنصب أو الخفض، وتخفض التاء من كلامه) كما تفعله بمسلمات. هذا كله إذا وصلت فقلت: يا فتى، ونحوه، أما إذا وقفت، فتسقط التنوين وتسكن النون آخر كلامك مطلقا، هذا كله محكي في كتب النحاة، وحكوا أيضا أن مما تجوزه العرب أن تقول: أي، في الرفع، وأيا، في النصب، وأي، في الخفض في الأحوال كلها من الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث والتذكير. وحكى يونس: أن من العرب من يعرب (من)، ويحكي بها النكرات مثل

صيغة: المني، إذا استفهمت عن نسب المسئول عنه العاقل

(أي)، قال الشيخ ابن عصفور في المقرب، ولابد من إدخال حرف الجر على (من) و (أي) إذا استفهمت بها عن مخفوض، ويكون المجرور متعلقا بفعل مضمر يقدر بعدهما، وإذا استفهمت بهما عن مرفوع كانا مبتدأين والخبر محذوف، لفهم المعنى وإذا استفهمت بهما (عن منصوب)، كانا منصوبين بفعل مضمر محذوف، لفهم المعنى، وقال الزمخشري في المفصل: إن محلها الرفع في الأحوال كلها على الابتداء، وما في لفظه من الرفع والنصب والجر حكاية. الصيغة الخامسة عشر بعد المائة للعموم: المني، إذا استفهمت عن نسب المسئول عنه إذا كان من العقلاء/، ومعنى كلامك أقرشي هو أم تميمي ونحو ذلك.

صيغة: المنيان، إذا استفهمت عن نسب المسئول عنه، وهو تثنية مرفوعة

الصيغة السادسة عشر بعد المائة للعموم: المنيان، إذا استفهمت عن نسب المسئول عنه، وهو تثنية مرفوعة. الصيغة السابعة عشر بعد المائة للعموم: المنيين، إذا استفهمت عن مسئول عنه عاقل، وهو تثنية منصوبة أو مخفوضة، فالياء حكاية، فيحاكي بها عن لفظ المخبر من النصب والجر، وبفتح الياء للفرق بين التثنية والجمع. الصيغة الثامنة عشر بعد المائة للعموم: المنيون، إذا استفهمت عن نسب مسئول عنه ممن يعقل، وهو جمع مرفوع، كما إذا قيل (لك): جاءني رجال، فتقول في المسئول عن نسبهم: المنيون، فيكون الواو لمحاكاة الرفع، وللدلالة على الجمع. الصيغة التاسعة عشر بعد المائة للعموم: المنيين، إذا استفهمت عن نسب جمع عاقل من النكرات، منصوب أو مجرور، كما إذا قيل لك: رأيت رجالا، أو مررت برجال، فتقول: المنيين، بكسر الياء، وفتح النون، للفرق بين التثنية والجمع.

صيغة/ المنتان، للاستفهام عن نسب تثنية من النكرات المؤنثة المرفوعة العاقلة

الصيغة العشرون بعد المائة للعموم: (المنة)، إذا استفهمت عن نسب نكرة مؤنثة من العقلاء. الصيغة الحادية والعشرون بعد المائة: المنتان، إذا استفهمت عن نسب تثنية من النكرات المؤنثة المرفوعة ممن يعقل. الصيغة الثانية والعشرون بعد المائة: المنيتن، إذا استفهمت عن نسب (تثنية) منصوبة أو مخفوضة من النكرات العقلاء، ويكون سكون الياء فيها حيا، والنون مكسورة، للفرق بين التثنية وجمع السلامة المذكر. الصيغة الثالثة والعشرون بعد المائة للعموم: المنيات، إذا استفهمت عن نسب جمع من النكرات العقلاء المرفوعة، فترفع (التاء) لتحاكي الرفع في كلام المخبر. الصيغة الرابعة والعشرون بعد المائة للعموم: المنيات، بكسر التاء، إذا استفهمت عن نسب جمع من النكرات العقلاء المنصوبة أو المخفوضة، وبكسر

صيغة: الماوي، للاستفهام عن نسب ما لا يعقل وهو مفرد مرفوع

التاء لمحاكاة ما في كلامه من النصب أو الخفض. الصيغة الخامسة والعشرون بعد المائة للعموم: الماوي، إذا استفهمت عن نسب ما لا يعقل/ وهو مفرد مرفوع. الصيغة السادسة والعشرون (بعد المائة): الماوي، بنصب الياء، إذا استفهمت عن نسب من لا يعقل من النكرات التي لا تعقل. الصيغة السابعة والعشرون (بعد المائة) الماوي، بكسر الياء، إذا استفهمت عن نسب من لا يعقل من النكرات المفردة المخفوضة. الصيغة الثامنة والعشرون (بعد المائة) للعموم: الماويان: إذا استفهمت عن نسب ما (لا) يعقل من النكرات المثناة المرفوعة. الصيغة التاسعة والعشرون (بعد المائة) للعموم: الماويين، إذا استفهمت عن نسب ما لا يعقل من تثنية النكرات المنصوبة أو المخفوضة، بكسر النون، وتسكين الياء السكون الحي، للفرق بين التثنية وجمع المذكر السالم. الصيغة الثلاثون بعد المائة للعموم: (الماويون)، إذا استفهمت عن نسب

صيغة: الماويين، للاستفهام عن ما لا يعقل من جمع النكرات المنصوبة المذكرة

جمع مذكر مرفوع من النكرات التي لا تعقل. الصيغة الحادية والثلاثون بعد المائة للعموم: [الماويين]، إذا استفهمت عن نسب ما لا يعقل من جمع النكرات المنصوبة المذكرة. الصيغة الثانية والثلاثون بعد المائة: الماوية، إذا استفهمت عن نسب ما لا يعقل، مفردا مؤنثا منكرا مرفوعا. الصيغة الثالثة والثلاثون بعد المائة: الماوية، إذا استفهمت عن نسب نكرة مفردة مما لا يعقل منصوبة مؤنثة. الصيغة الرابعة والثلاثون بعد المائة للعموم: الماوية، إذا استفهمت عن نسب نكرة لا تعقل مخفوضة مؤنثة. الصيغة الخامسة والثلاثون (بعد المائة): الماويتان، إذا استفهمت عن نسب تثنية مرفوعة من النكرات التي لا تعقل. الصيغة السادسة والثلاثون (بعد المائة) للعموم: [الماويتين]، إذا استفهمت عن نسب تثنية منصوبة أو مخفوضة من النكرات المؤنثة التي لا تعقل. الصيغة السابعة والثلاثون (بعد المائة) للعموم: الماويات، إذا استفهمت عن نسب من لا يعقل من جموع النكرات المؤنثات المرفوعة. الصيغة الثامنة والثلاثون بعد المائة للعموم: الماويات، بكسر التاء، إذا

صيغة: المائي، للاستفهام عن نسب نكرة لا تعقل مرفوعة

استفهمت عن نسب جمع مؤنثة من النكرات/ التي لا تعقل. الصيغة التاسعة والثلاثون بعد المائة للعموم: المائي (بغير واو)، برفع الياء، وتشديدها، إذا استفهمت عن نسب نكرة لا تعقل مرفوعة. الصيغة الأربعون بعد المائة للعموم: المائي، بنصب الياء، إذا استفهمت عن نسب نكرة منصوبة لا تعقل. الصيغة الحادية والأربعون بعد المائة للعموم: المائي، بخفض الياء، إذا استفهمت عن نسب (ما لا يعقل، نكرة مخفوضة) الصيغة الثانية والأربعون بعد المائة: المائيان، إذا استفهمت عن نسب نكرة مثناة مرفوعة لا تعقل. الصيغة الثالثة والأربعون بعد المائة للعموم: المائيين، إذا استفهمت عن نسب تثنية نكرة منصوبة أو مخفوضة، لا تعقل. الصيغة الرابعة والأربعون بعد المائة للعموم: المائية، إذا استفهمت عن

صيغة: المائيات، للاستفهام عن نسب جمع مؤنث منكر مرفوع

نسب واحدة مؤنثة منكرة، تقول كذلك. الصيغة الخامسة والأربعون بعد المائة للعموم: المائيات، بتشديد الياء، وضم التاء، إذا استفهمت عن نسب جمع مؤنث منكر مرفوع، وبرفع التاء، لتحكي الرفع في كلامه. الصيغة السادسة والأربعون بعد المائة للعموم: المائيات، بكسر التاء، إذا استفهمت عن نسب جمع مؤنث منكر منصوب أو مخفوض، وبكسر التاء، لتحكي النصب، أو الخفض في كلامه، وتكون كسرة التاء علامة النصب والخفض، كما يصنع في مسلمات ونحوها. والضابط في هذه المثل الأخيرة أن (المني) بالنون للاستفهام عن نسب (من يعقل من النكرات، و (الماوي) بالواو، و (المائي) بغير واو للاستفهام عن نسب) ما لا يعقل من النكرات، ثم تتنوع هذه الصيغ بحسب الإفراد والتثنية والجمع والتأنيث والتذكير، والرفع والنصب والخفض، نقله ابن عصفور في

صيغة: (متى) للاستفهام عن زمان مجهول

المقر، فتأمل هذه الأقسام، فإن وجدت من المثل شيئا على خلاف هذا القانون فأصلحه على (هذا الضابط/، فيحصل من لفظ (أي) وحده من صيغ العموم بحسب) هيئاتها وأقسامها نحو خمسين صيغة. الصيغة السابعة والأربعون بعد المائة للعموم: متى، إذا استفهمت (بها) عن زمان مجهول، ولا يجوز الاستفهام بها عن زمان متعين بالعادة، فلا يجوز أن تقول: متى تطلع الشمس؟ لأنه منضبط بالعادة (بخلاف قولك: متى يقدم زيد؟ لأنه غير منضبط بالعادة). الصيغة الثامنة والأربعون بعد المائة للعموم: أين: استفهام عن المكان، تقول: أين زيد؟ فيعم استفهامك جميع الأمكنة، كما يعم استفهامك بمتى جميع الأزمنة. الصيغة التاسعة والأربعون بعد المائة للعموم: كيف، وهي يعم فيها الاستفهام جميع الأحوال، فما من حالة إلا وقد تعلق بها غرضك في الاستفهام.

صيغة (كم) الاستفهامية، وهي يعم فيها الاستفهام مراتب الأعداد

الصيغة الخمسون بعد المائة: كم الاستفهامية، فإنها يعم فيها الاستفهام مراتب الأعداد، كما يعم أين المكان، ومتى الزمان، وكيف الأحوال، بخلاف (كم) الخبرية، فإنها تتناول الإخبار عن عدد محصور، والمحصور لا عموم فيه، كقولك: كم مال أنفقته، وكم بعد أعتقته، فإن الأموال المنفقة والعبيد المعتقة محصورة، وكذلك لو قلت: كم مال أنفقته، بصيغة المستقبل، كان محصورا أيضا، فإن غير المحصور يستحيل عليك إنفاقه، وأما الاستفهامية فالسؤال بها شامل لجميع مراتب الأعداد. الصيغة الحادية والخمسون بعد المائة: أنى، كقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}، فتعم جميع الأحوال مثل (كيف)، ولذلك فسرها العلماء بكيف، قال المفسرون: معناها، كيف شئتم.

صيغة: (أيان) تعم الأزمنة بحكم الاستفهام

الصيغة الثانية والخمسون بعد المائة: أيان: كقوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها}، (أي: متى مرساها؟ )، وهي بمنزلة متى، تعم الأزمنة بحكم الاستفهام. الصيغة الثالثة والخمسون بعد المائة: حيث: للعموم في المكان، مثل أين بضم الثاء، إذا كانت شرطية نحو: حيث تجلس أجلس، ولا تكون للعموم إذا كانت خبرية نحو: جلست حيث جلس زيد/، فإنك عممت حكم الشرط في جميع البقاع، ولم تخبر عن جلوسك في جميع البقاع. الصيغة الرابعة والخمسون بعد المائة: حيث، الشرطية، بفتح الثاء، لغة فيها. الصيغة الخامسة والخمسون بعد المائة: حيث الشرطية، بكسر الثاء، لغة فيها.

صيغة: حوث الشرطية

الصيغة السادسة والخمسون بعد المائة: حوث الشرطية، بضم الثاء، والواو، لغة فيها. الصيغة السابعة والخمسون بعد المائة: حوث الشرطية، بفتح الثاء، والواو لغة فيها. الصيغة الثامنة والخمسون بعد المائة: حوث الشرطية، بكسر الثاء، والواو لغة فيها، (ففيها ست لغات). الصيغة التاسعة والخمسون بعد المائة: إذا الشرطية، ظرف للحال من غير [ما] شرط. الصيغة الستون بعد المائة للعموم: متى ما، بزيادة (ما) عليها، فإنها تقوي عمومها، وهي مع (ما) أقوى في المعنى منها وحدها، تقول: متى ما جئتني أكرمتك، فيكون ذلك أبلغ في التأكيد والعموم من قولك: متى جئتني

صيغة: كيفما

أكرمتك، كذلك نص عليه الزمخشري في جميع هذه الأدوات الشرطية. الصيغة الحادية والستون بعد المائة للعموم: أينما، وهي أبلغ من قولك (أين) إذا جعلت شرطا. الصيغة الثانية والستون بعد المائة للعموم: كيفما، وهي أبلغ من كيف بغير (ما). الصيغة الثالثة والستون بعد المائة للعموم: حيثما، وهي أبلغ من حيث وحدها، إذا جعلت شرطا، ومن خصائص حيث أنها لا تضاف إلا إلى جملة، إلا ما روي في قوله: أما ترى حيث سهيل طالعا.

صيغة: إذا ما

وقال الآخر: حيث لي العمائم الصيغة الرابعة والستون بعد المائة للعموم: إذا ما، الشرطية، وهي أبلغ من إذا وحدها، قال الشاعر: إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل الصيغة الخامسة والستون بعد المائة للعموم: قبلك، بنصب اللام، ظرف زمان نحو قولك: جئت قبلك، فيتناول ذلك جميع الأزمنة الكائنة قبلك. الصيغة السادسة والستون بعد المائة للعموم: قبل، بضم اللام، إذا قطع عن الإضافة. الصيغة/ السابعة والستون بعد المائة للعموم: بعدك، بنصب الدال، نحو قولك: زيد يقدم بعدك، فيتناول ذلك جميع الأزمنة الكائنة بعدك في أنها قد جعلت ظرفا لقدومه. الصيغة الثامنة والستون بعد المائة للعموم: بعد: بضم الدال، إذا قطع

صيغة: تحتك

عن الإضافة، قال الله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} (بضم الدال). الصيغة التاسعة والستون بعد المائة للعموم: فوقك، بنصب القاف، كقولنا: السماء فوقك، فيكون ذلك عاما لجميع الأحياز الكائنة في جهة العلو. الصيغة السبعون بعد المائة للعموم: فوق، بضم القاف، إذا قطعت عن الإضافة. الصيغة الحادية والسبعون بعد المائة: تحتك، بنصب التاء، نحو: الأرض تحتك، فيشمل ذلك جميع الأحياز الكائنة تحتك إلى غير النهاية. الصيغة الثانية والسبعون بعد المائة للعموم: تحت، بضم التاء، إذا قطع عن الإضافة. الصيغة الثالثة والسبعون بعد المائة للعموم: أمامك، بنصب الميم، نحو قولنا: زيد أمامك، فيعم ذلك جميع الجهات الكائنة أمامك. الصيغة الرابعة والسبعون بعد المائة للعموم: أمام، بضم الميم، إذا قطع عن الإضافة. الصيغة الخامسة والسبعون بعد المائة: قدامك، بنصب الميم، نحو: زيد قدامك، فيتناول ذلك جميع الأحياز الكائنة بين يديك.

صيغة: قدام

الصيغة السادسة والسبعون بعد المائة للعموم: قدام، بضم الميم، إذا قطعت عن الإضافة. الصيغة السابعة والسبعون بعد المائة: وراءك، بنصب الهمزة، نحو: الأسد وراءك، فيتناول ذلك جميع الأحياز الكائنة وراءك. الصيغة الثامنة والسبعون بعد المائة للعموم: وراء، بضم الهمزة، إذا قطع عن الإضافة، وفي الحديث عن إبراهيم عليه السلام في حديث الشفاعة: (خليل وراء وراء) وروي بالضم والفتح. الصيغة التاسعة والسبعون بعد المائة للعموم: خلفك، بنصب الفاء، نحو: البحر خلفك. الصيغة الثمانون بعد المائة للعموم: خلف، بضم الفاء، إذا قطع عن الإضافة.

صيغة: أسفل منك

الصيغة الحادية والثمانون بعد المائة للعموم: /أسفل منك، بنصب اللام. الصيغة الثانية والثمانون بعد المائة للعموم: أسفل، بضم اللام، إذا قطع عن الإضافة. الصيغة الثالثة والثمانون بعد المائة: دونك، بنصب النون. الصيغة الرابعة والثمانون بعد المائة للعموم: دون، بضم النون، إذا قطع عن الإضافة. الصيغة الخامسة والثمانون بعد المائة للعموم: عليه، في قولنا: جئت من عليه، أي: فوقه، قال الشاعر: غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ... تصل وعن قيض بزيزاء مجهل

صيغة: عل

أي: من فوقه. الصيغة السادسة والثمانون (بعد المائة): عل، بضم اللام، إذا قطعت عن الإضافة، تقول: (جئت من عل). وهذه الظروف كلها إنما تبنى على الضم إذا قطعت عن الإضافة، ونوي فيهن المضاف إليه، فإن لم ينو أعربت ونصبت، وجرى عليها عمل العوامل كقول الشاعر: فساغ لي الشراب وكنت قبلا ... أكاد أعض بالماء الفرات الصيغة السابعة والثمانون بعد المائة للعموم: عاليك، بنصب الياء، بمعنى فوقك، وهي في معنى (عل) بغير ألف، قال الله تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر}. الصيغة الثامنة والثمانون بعد المائة للعموم: معال: كقولك، جئت من معال، كما تقول: جئت من عل. الصيغة التاسعة والثمانون بعد المائة: علا، بالقصر، لغة في على.

صيغة: علو

الصيغة التسعون بعد المائة للعموم: علو بالواو: بمعنى فوق، تقول العرب: جئت من علو، وعلو، وعلو، حكاها كلها الزمخشري. الصيغة الحادية والتسعون بعد المائة للعموم: إذ، إذا اتصل بها ما، فإنها لا تكون للشرط إلا إذا اتصل بها ما، بخلاف (إذا)، تكون شرطا بغير ما، قال العباس بن مرداس: إذ ما دخلت على الرسول فقل له حقا عليك إذا اطمأن المجلس فدخلت الفاء جوابا للشرط. الصيغة الثانية والتسعون بعد المائة/ للعموم: عندك، نحو قولك: عند زيد مال، فيتناول جميع جهات الدنيا، ما قرب منها وما بعد، فلو كان بالمغرب وماله بالمشرق قالت العرب: عند زيد مال، ومن خصائصها أنها لا تدخل عليها من حروف الجر إلا (من)، تقول: جئت من عنده، ولا

صيغة: لدي

تقول: دخلت إلى عنده. الصيغة الثالثة والتسعون بعد المائة للعموم: لدى، على رأي جماعة من النحاة، وأما الزمخشري وجماعة معه التزموا الفرق بينها وبين (عند)، وقالوا: تقول عندي كذا، لما كان في ملكك، حضرك أو غاب عنك، ولدي كذا، لما لا يتجاوز حضرتك، وعلى هذا لا تكون للعموم، قال الله تعالى: {وألفيا سيدها لدا الباب} أي عند الباب، وفيها ثمان لغات: لدا، ولدن، ولد بحذف النون، ولدن بكسر النون، ولدن بالكسر أيضا لالتقاء الساكنين، ولد بتسكين الدال وفتح اللام، ولد بضم اللام، قال الله تعالى: {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما}، وهذه الآية استدل بها بعض الفضلاء على الفرق بين عند ولدن، ولذلك فرق بين الرحمة والعلم، فذكر العلم مع ولدن؛ لأنه أفضل، فذكر بما يدل على القرب والرحمة والإحسان من حيث الجملة فذكر مع عند، وهو جواب حسن لمن يسأل عن الفرق في الآية. الصيغة الرابعة والتسعون بعد المائة للعموم: يمينك، إذا استعملت ظرفا

صيغة: يسارك

نحو قولك: سرت يمينك، فإنه يشمل جميع الجهات الكائنة في جهة اليمين. الصيغة الخامسة والتسعون بعد المائة للعموم: يسارك، إذا استعمل ظرفا نحو قولك: سرت يسارك، أي في تلك الجهات. الصيغة السادسة والتسعون بعد المائة: يمنة، في قولك: سرت يمنة عنه. الصيغة السابعة والتسعون بعد المائة للعموم: يسرة، في قولك: سرت يسرة منه. الصيغة الثامنة والتسعون بعد المائة للعموم: صباحا ومساء، في قولك: صباحا ومساء أي (في) كل صباح ومساء، فإن العرب تستعمل هذا العطف للعموم. الصيغة التاسعة والتسعون بعد المائة للعموم: /يوما ويوما، في قولك: لقيته يوما ويوما، أي كل يوم، (قال الزمخشري وغيره: إن العرب تستعمل هذا العطف للعموم)، هكذا كما يقولون: شغر بغر، أي منتشرين، ووقعوا في حيص بيص، أي في فتة تموج بأهلها، فيضعون هذه العطوفات (مواضع غيرها، كذلك وضعوا هذه العطوفات) في الظروف للعموم.

صيغة: أبدا

الصيغة المكملة للمائتين للعموم: أبدا، كقوله تعالى: {خالدين فيها أبدا} (أي) دائما، فهي لفظ يشمل جميع الأزمنة المستقبلة. الصيغة الحادية بعد المائتين: دائما ومستمرا (ونحو ذلك)، فإنه يدل على استيعاب الأزمنة. الصيغة الثانية بعد المائتين للعموم: سرمدا، في قولك: نعيم أهل الجنة سرمدا، أي في جميع الأزمنة، فالجهات (الست) وما في معناها للعموم، وكذلك الدال على جملة الماضي أو المستقبل مما تقدم. الصيغة الثالثة بعد المائتين: لفظ (من) التي هي حرف جر مع ما تركب معه من النكرات كقولك: ما جاءني من رجل، فإنها تفيد العموم، ولو قال: ما جاءني رجل، لم يفد العموم، قاله الزمخشري والجرجاني في شرح الإيضاح.

صيغة: أحاد

وكذلك النكرات الخاصة نحو قوله تعالى: {ما لكم من إله غيره}، لو حذفت (من) لم يحصل العموم، وكذلك قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم (إلا كانوا عنها معرضين)}، إنما يحصل العموم بسبب (من)، فلو حذفت (من) لم يحصل العموم، قالوا: (من) قد تكون مؤكدة للعموم، وقد تكون مقيدة له، فالمؤكدة نحو قولك: ما جاءني من أحد، والمقيدة للعموم: ما جاءني من رجل، فصارت (من) مع ما يدخل عليه مثل لام التعريف فيما يدخل عليه. الصيغة الرابعة بعد المائتين: أحاد، في قولك، دخل الجيش المدينة أحادا، أي واحدا واحدا، بحيث لم يبق منهم واحد إلا وقد اتصف في دخوله بوصف الأحدية والانفراد، فهو قائم تكرير اللفظ مرارا كثيرة حتى ينقضي آخرهم. الصيغة الخامسة بعد المائتين: مثنى، في قولك: دخل القوم مثنى، أي اثنين اثنين إلى آخرهم.

صيغة: ثلاث

الصيغة السادسة بعد المائتين/ للعموم: ثلاث، إذا قلت: قدم القوم ثلاث، أي ثلاثة ثلاثة إلى آخرهم. الصيغة السابعة بعد المائتين للعموم: رباع، قال الله تعالى: {الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع}، أي فريق منهم له أربعة أجنحة، كل واحد منهم، إلى آخرهم، فكذلك معنى مثنى وثلاث. الصيغة الثامنة بعد المائتين للعموم: خماس، في قولك: قدم القوم خماس، أس خمسة خمسة إلى آخرهم. الصيغة التاسعة بعد المائتين: سداس، في قولك: قدم القوم سداس. الصيغة العاشرة بعد المائتين: سباع، مثل ما تقدم. الصيغة الحادية عشر بعد المائتين: ثمان، مثل ما تقدم. الصيغة الثانية عشر بعد المائتين للعموم: تساع، مثل ما تقدم. الصيغة الثالثة عشر بعد المائتين للعموم: عشار، كما تقدم. فهذه قاعدة العرب من أحاد إلى عشار، موضوعة للتكرار فيما يذكر إلى غير النهاية. الصيغة الرابعة عشر بعد المائتين للعموم: قاطبة، في قولك: جاء القوم قاطبة، بمعنى: كلهم، ولا تأتي العرب بها إلا تبعا للكلام، منصوبة على

صيغة: كافة

الحال، فلا تقول: جاءني قاطبة الناس، على أنه فاعل في صدر الكلام. الصيغة الخامسة عشر بعد المائتين للعموم: كافة، في قولك: قدم القوم كافة أي جميعهم. الصيغة السادسة عشر بعد المائتين للعموم: قط، في قولك: ما فعلته قط، أي في جميع الزمان الماضي، مأخوذ من قططت القلم، أي قطعته، والزمان الماضي كله قد انقطع ومضى. الصيغة السابعة عشر بعد المائتين للعموم: عوض، في قولك: لا أفعله،

صيغة: لن

عوض العائضين ودهر الداهرين، أي لا أفعله في جميع الزمان المستقبل، فعوض وقط من أسماء الزمان، قال الشاعر: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق تشب لمغرورين يصطليانها ... وبات على النار الندي والمحلق /رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق أي أقسما بالزمان على عدم الفرقة. الصيغة الثامنة عشر بعد المائتين للعموم: لن، فيعم نفيها جميع الزمان، وله تعالى: {فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار ... } الآية، أي لن تفعلوا أبدا. الصيغة التاسعة عشر بعد المائتين، لا، كقوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحى} فيعم جميع الأزمنة المستقبلة. الصيغة العشرون بعد المائتين للعموم: لما، تستغرق النفي في جميع

صيغة: النهي

أزمنة الماضي، بخلاف (لم) قالوا: ينفي الفعل في الماضي من حيث الجملة، فإذا قلت: لم يقم زيد، فالنفي مستمر إلى زمان الخطاب، وهو جواب لمن قال: قد قام زيد، وإذا قلت لمن قال لك: قد قام زيد أمس، لم يقم، أي أمس، من غير تعرض لاستمرار النفي. الصيغة الحادية والعشرون بعد المائتين للعموم: ألما (فهي) لعموم النفي كما تقدم، ومن قاعدة العرب أنها إذا زادت في اللفظ زادت في المعنى، فلذلك فرقت بين (لم) و (ألما). الصيغة الثانية والعشرون بعد المائتين للعموم: النهي، فإنه موضوع للتكرار، فيعم الأزمنة المستقبلة بدلالة تضمنية لا مطابقية، فإنها موضوعة للترك بوصف التكرار، فالتكرار جزء مسماها، فيدل عليه تضمنا، بخلاف ما تقدم من صيغ العموم، فإنها تدل على العموم مطابقة. الصيغة الثالثة والعشرون بعد المائتين للعموم: الأمر، إذا قلنا: إنه

صيغة: معشر

للتكرار، على الخلاف فيه، فيعم بدلالة تضمنية كما تقدم في النهي. الصيغة الرابعة والعشرون بعد المائتين للعموم: معشر، بمعنى جميع. قال الله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم}، وقال تعالى: {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس}، وقد تجمع، قال عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث). الصيغة الخامسة والعشرون بعد المائتين للعموم: على أحد التأويلين في أنها (مأخوذة) من سور المدينة المحيط بها، قاله صاحب الصحاح وغيره بغير همزة، والصحيح أنها مهموزة وأنها من السؤر الذي هو البقية.

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان: (أن أمسك أربعا وفارق سائرهن (أي: بقيتهن. الصيغة السادسة والعشرون بعد المائتين للعموم: ترك الاستفصال في حكايات الأحوال، قال الشافعي رضي الله عنه: تقوم مقام العموم في المقال، كحديث غيلان السابق، فإنه عليه الصلاة والسلام أمر غيلان بالتخيير، ولم يفرق بين اتحاد عقد النسوة أو تعدده، فيعم أحوال العقود كلها، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه في قوله: إنه لا يجوز التخيير إذا

صيغة: مناع

تقدمت عقود أو عقد الأربعة، فإن عقد الخامسة يكون باطلا، فلا يقع التخيير فيه. الصيغة السابعة والعشرون بعد المائتين للعموم، تراك، على وزن فعال بمعنى أترك، فلنحن بفعل الأمر، وأنه للتكرار. الصيغة الثامنة والعشرون بعد المائتين للعموم: مناع، أي: امنع. الصيغة التاسعة والعشرون بعد المائتين للعموم: دراك، بمعنى أدرك. الصيغة الثلاثون بعد المائتين للعموم: براك، بمعنى برك، وما يأتي على هذا الوزن بمعنى الأمر، فإنه يتخرج على أن الأمر للتكرار، فيعم الأزمنة. الصيغة الحادية والثلاثون بعد المائتين: أيها، بالفتح والتنوين، أي

صيغة: ايه، بغير تنوين

اسكت مطلقا عن هذا الحديث (وعن غيره) (فيتخرج على أن الأمر للتكرار، كما تقدم). الصيغة الثانية والثلاثون بعد المائتين للعموم: أيه، بغير تنوين، أي: اسكت. الصيغة الثالثة والثلاثون بعد المائتين للعموم: إيه، بالكسر، أي: حدث من هذا الحديث أو من غيره. الصيغة الرابعة والثلاثون بعد المائتين للعموم: إيه، بكسر الهاء من غير تنوين، أي: حديث من هذا الحديث الذي قد كنت فيه، فالتنوين للتنكير. وعدم التنوين للتعيين والتعريف. الصيغة الخامسة والثلاثون بعد المائتين للعموم: رويد، في قولك: رويدا زيدا، أي: أروده وأمهله. الصيغة السادسة والثلاثون بعد المائتين: تيد، في قولك: تيد زيدا، بمعنى أمهله أيضا، فمعناها معنى رويدا.

صيغة: هات الشيء

/الصيغة السابعة والثلاثون بعد المائتين للعموم: هات الشيء، أي أعطه، قال الله تعالى: {قل هاتوا برهانكم}. الصيغة الثامنة والثلاثون بعد المائتين للعموم: ها زيد، أي خذه. الصيغة التاسعة والثلاثون بعد المائتين للعموم: بل زيدا، أي دعه، ومن قول ابن دريد: من رام ما يعجز عنه طرقه ... أعجزه نيل الدنا بله اقصا أي أعجزه القريب عد البعيد من المعالي والمقاصد. الصيغة الأربعون بعد المائتين للعموم: عليك زيدا، أي الزمه. الصيغة الحادية والأربعون بعد المائتين للعموم: على زيد، أي أولنيه.

صيغة: مه

الصيغة الثانية والأربعون بعد المائتين للعموم: مه، أي: اكفف. الصيغة الثالثة والأربعون بعد المائتين: صه، بمعنى اسكت. الصيغة الرابعة والأربعون بعد المائتين: هيت، أي أسرع، ومثلها هيك، وهيك وهيا، ومنه قول الشاعر: فقد دجا الليل فهيا هيا. الصيغة الخامسة والأربعون بعد المائتين: قطك: أي: اكفف وانته. الصيغة السادسة والأربعون بعد المائتين: إليك، أي تنح، وسمع أبو الخطاب من يقال له: إليك، فيقول: إلي، كأنه قيل له: تنح، فقال أتنحى.

وقس على هذا المنوال بقية أسماء الأفعال التي هي في معنى الأمر أو النهي، فتكون للتكرار والعموم في الأزمان، بناء على أن الأمر والنهي للتكرار، بدلالة التضمن كما تقدم تقريره. ولنقتصر على هذا القدر من صيغ العموم، وهي أكثر من هذا المذكور، ولكن خشيت الملال على الناظر في الكتاب، وأحسن العلم ما عذب وقبلته النفوس. ***

الباب الثالث عشر في صيغ العموم المستفادة من النقل العرفي دون الوضع اللغوي

الباب الثالث عشر في صيغ العموم المستفادة من النقل العرفي دون الوضع اللغوي والباب الذي قبله كان فيما هو موضوع للعموم في اللغة بالأصالة من غير نقل، وهذا الباب يكون العموم فيه مستفادا من النقل خاصة، وذلك هو أسماء القبائل التي كان أصل تلك الأسماء لأشخاص معينة/ من الأدمييين كتميم، وهاشم، أو لماء من المياه كغسان، أو لامرأة كالقرافة، فإنه اسم لجدة القبيلة المسماة بالقرافة، ونزلت هذه القبيلة بسقع من أسقاع مصر لما اختطها عمرو ابن العاص ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فعرف ذلك السقع بالقرافة، وهو الكائن بين مصر وبركة الأشراف [وهو] المسمى بالقرافة الكبيرة، وأما سفح المقطم فمدفن، ويسمى بالقرافة (للمجاورة)

الكلام عن قبيلة القرافي وموقع سكنها

تبعا، ولذلك قيل له: القرافة الصغيرة، ونظير تسمية البقعة الخاصة من مصر بالقرافة مهرة، وتجيب، وهما في الأصل اسمين لقبيلتين اختطا بقعتين، فعرفت [البقعتان] بهما. واشتهاري بالقرافي ليس لأني من سلالة هذه القبيلة، بل للسكن بالبقعة الخاصة مدة يسيرة، فاتفق الاشتهار بذلك، وإنما أنا من صنهاجة الكائنة من قطر مراكش بأرض المغرب، ونشأتي ومولدي بمصر سنة ست وعشرين وستمائة. ثم أسماء هذه القبائل لا ينحصر عددها، وهي قسمان: منها ما لا يقال (فيه) بنو فلان ألبتة كغسان، وهمدان، ومنها ما لا يقال فيه [بنو] فلان إلا على الندرة نحو ربيعة ومضر، ومنها (ما) يقل فيه (بنو) فلان

سرد لبعض أسماء القبائل العربية

كثيرا ودائما، نحو [بنو] هاشم، و [بنو] مالك. فالقسمان الأولان تحقق فيهما النقل عن العلم الأصلي إلى القبيلة، فهما المقصودان في هذا الباب؛ لأن القبيلة غير متناهية الأفراد، فالاسم المنتقل إليها يكون موضوعا لما لا يتناهى بطريق النقل، فيكون للعموم عرفا، وما لا يتحقق فيه نقل عرفي فهو باق اسما للشخص الموضوع له، فلا عموم فيه حينئذ، فليس مقصودا في هذا الباب، وعلى هذا الضابط يتخرج جميع الأسماء المشار إليها، وقد يصير ما ليس منقولا الآن للقبيلة ولا تنطق به إلا بلفظ شيء منقولا في وقت آخر، فيصير للعموم حينئذ؛ لأنه صار موضوعا لما لا يتناهى حينئذ. وهأنا أسرد عليك من أسماء القبائل عدة، تنتبه بها على غيرها، فمن ذلك: ربيعة، ومضر، وخدرة، وثعلبة، ومهرة، وكندة،

وصبرة، وعقبة، وحلذة، وعبرة، وعرنة، وأعار، وغسان، وهمدان، وعدنان، وسلمان، وخزاعة، وفزارة، وزنارة، وساعدة، /ولواتة، وقضاعة، ومرابة، وسوادة،

وأنمار، وجذام، وكلاب، وصبار، وسدوس، وثقيف، ومخزوم، وتميم، وتيم، وقريش، وعدي، وتجيب، وسليم، ويزيد، وهاشم، وسالم،

وعلقمة، وحارثة، وحنيفة، وأمية، وشمر، وحمير، وكعب، وسعد، ولخم، وكلب، ودوس، وعلال، وناب،

جملة من قبائل المغرب

ولأم، وتغلب، وأسد، ولؤي، وخثعم، فهذه من قبائل (العرب) بجزيرة العرب. وأذكر لك جملة من القبائل الكائنة بأرض المغرب، لدخولها مع ما تقدم في اقتضاء العموم، فمن ذلك: صنهاجة، وهنتاتة، وزناتة، ودكالة، وغمارة، وقدالة،

وهراوة، ومغراوة، (وهيحانة)، وهسكورة، وكدميوة، وبرغواطة، ولمتونة، ولسولة، ومصالة، وهزميرة، وعجيسة، ولمطة، وهرعة، ورياح، ودياب، ونال،

قبائل الأكراد عربية أصلا عجمية في أسمائها

وهذه القبائل أيضا كثيرة، ويتفرع من القبيلة الواحدة (بطون كثيرة)، فتكون أيضا أسماؤها عامة فيها كهذه القبائل. والأكراد قبائل كثيرة جدا، لأن أصلها قبائل عربية، ثم تفرعت أسماء قبائلها عن آبائها، كما تفرعت أسماء قبائل العرب عن آبائها، ولكنها عجمية الآن، فكرهت ذكرها، لثقلها من جهة عجمتها، وقس على هذا المنوال جميع ما تجده منه، فتجد هذا الباب لا يحصى عدده، ولا ينقطع مدده، وقد سردت لك منها نحو ثمانين صيغة تتنبه بها على غيرها، واقتصرت عليها خشية الإطالة. ***

الباب الرابع عشر في إقامة الدليل على أن هذه الصيغ المتقدم ذكرها في البابين قبله للعموم

الباب الرابع عشر في إقامة الدليل على أن هذه الصيغ المتقدم ذكرها في البابين قبله للعموم وهو مرتب على فصلين: الفصل الأول: في إقامة الدليل على أصل العموم في اللغة، وحكاية المذاهب فيه، وشبه منكريه، والجواب عنها. (و) الفصل الثاني: في بيان أن ما زدته وأوردته من الألفاظ في هذا الكتاب لاحقة بما ذكروه من الصيغ.

/الفصل الأول اختلف الناس في العموم الذي هو الكلية، كما تقدم تحريرها، والفرق بينها وبين الكل، هل وضعت (العرب) له صيغة أم لا؟ فقال الفقهاء والمعتزلة: إن (كل)، و (جميع)، و (أي)، و (ما)، و (من) في المجازاة والاستفهام للعموم فقط من غير اشتراك.

وقال أكثر الواقفية: إنها مشتركة بين العموم والخصوص. وقال أقل الواقفية: إنا متوقفون في أمر هذه الصيغ، لا ندري لأي شيء وضعت، وهو مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب، وهؤلاء توقفوا في الوضع والفريق الأول توقفوا، في الجمع لا في الوضع؛ لأنهم جزموا بالوضع على وجه الاشتراك، ولذلك سموا واقفية. وكذلك الخلاف في (أين)، و (متى) في الاستفهام والنكرة في سياق النفي، والجمع المعرف باللام، والمفرد المعرف باللام، غير أن الإمام فخر الدين سلم العموم في الجمع، ومنعه في المفرد. وخالف أبو هاشم من المعتزلة في الجمع المعرف فقال: ليس

الفصل الأول: في إقامة الدليل على أصل العموم في اللغة، هو عشرة أوجه

للعموم، والخلاف المتقدم في الجمع المضاف نحو: عبيدي أحرار، واسم الجنس المضاف نحو: مالي صدقة، وفي ضمير الجمع إذا وجه المتكلم به جماعة نحو قول السيد لعبيده: قوموا، فإنه يشمل الجميع. وقال الجبائي وحده: الجمع المنكر للعموم، وخالفه الباقون. لنا على إفادة العموم وجوه: الأول: أن هذه الصيغ إما أن تكون موضوعة للعموم فقط، أو للخصوص فقط، أو لهما على سبيل الاشتراك، أو لا لواحد منهما، والكل باطل. أما الأول: وهو كونها للخصوص فقط؛ فلأنها لو كانت للخصوص فقط لما حسن من المجيب أن يذكر الكل، لأن الجواب يجب أن يكون مطابقا للسؤال، لكن الجواب بالكل حسن إجماعا فإذا قيل: من في الدار من أصحابك؟ فتقول: الكل.

الوجه الثاني

وأما بطلان الاشتراك فإن هذه الصيغ لو كانت مشتركة لكانت مجملة، ولو كانت مجملة لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام، فإذا قال له: من عندك؟ فلابد أن يقول له: تسألني عن الرجال أو النساء؟ فإذا قال: عن الرجال، فلابد أن يقول: تسألني عن العرب أو العجم؟ فإذا قال: عن العرب، فيقول: عن ربيعة تسألني أو عن مضر؟ وهلم جرا، فإن أقسام الخصوص غير/ متناهية، والقائل بوضعها مشتركة بين العموم والخصوص لم يخص مرتبة من الخصوص، فيلزم الاشتراك في أمور غير متناهية في مراتب الخصوص، فيتعين السؤال عن تلك المسميات حينئذ على قاعدة الألفاظ المشتركة، فيلزمه استفهامات غير متناهية، لكن هذه الاستفهامات غير لازمة في عرف الاستعمال، فلا تكون هذه الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص. وأما أن هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص: فمتفق عليه. وإذا بطلت هذه الأقسام كلها إلا الأول، وهو أنها موضوعة للعموم فقط تعين. فإن قيل: لم تجوز أن تكون موضوعة للخصوص؟ (والجواب بالكل يكون لأحل القرينة الدالة على إرادة الكل، ويجوز أن تكون مشتركة، والقرائن المعينة للمراد لا تنفك عنها، فكذلك ترك الاستفهام، سلمنا عروها عن القرائن، فلم لا يجوز أن تكون موضوعة للخصوص) والجواب بذكر الكل لا يقبح ويكون حسنا؛ لأنه مشتمل على الخصوص، وإذا حصل الجواب مقصود السؤال وزيادة

- فائدة: في بيان اشتقاق تلك الألفاظ وبيان معناها

كان حسنا، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر هل يتوضأ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فذكر الجواب وزيادة، وهي الميتة، وكان ذلك حسنا في الإجابة. سلمنا أنه لا يحسن الجواب مع الزيادة، فلم لا يجوز أن تكون مشتركة؟ ولا نزاع في حسن الاستفهام، الواحد والاثنين ونحوهما، وإنما المستقبح الاستفهامات الكثيرة، فليس استدلالكم بعدم الاستفهامات الكثيرة على عدم الاشتراك بأولى من استدلالنا بالاستفهام القليل على الاشتراك، وعليكم الترجيح. سلمان أن ما ذكرتم يدل على قولكم، لكنه معارض بأن هذه الصيغ وهي (ما) و (من) مثلا لو كانت للعموم في الاستفهام لكان قول القائل: من في الدار؟ مثل قوله: أكل العقلاء في الدار؟ ولو كانت مثلها لحسن الجواب فيها بـ (نعم) أو (لا) كما (يحسن) في قولنا: أكل الرجال في الدار؟ لكن لا يحسن ذلك فلا تكون للعموم؛ لأن المثلين لا يختلفان في اللوازم. قلنا: الجواب عن السؤال الأول: أنا نعلم بالضرورة من عادة العقلاء حسن الجواب بالكل وإن فقدت جميع القرائن، ثم القرينة إن كانت لفظا وجب أن تسمع، ونحن نجد حسن الجواب وإن لم نسمع/ إلا صيغة العموم، أو غير لفظ كالإشارة وتحريك الرأس ونحوه، وهذا كله لا يطلع عليه الأعمى، مع أنه يحسن جوابه قبل السؤال ويذكر الكل؛ ولأنه لو كتب إلى غيره:

وجوه احتجاج منكري العموم، وهي ثلاث عشر وجها

من قدم عليك من إخوتك؟ حسن الجواب بذكر الكل، مع انتفاء القرائن الحالية والمقالية، لغيبة المتكلم. وعن الثاني: أن أصل الاستفهام- وإن قل وانفرد- فإن أصله لطلب الفهم، فلذلك قيل له استفهام، ومع القول بالاشتراك مع عدم تعيين رتبة معينة منه تتعين الاستفهامات غير متناهية، وأما قوله: إن أصل الاستفهام حسن؛ فلأنا نقول: هو مرجوح؛ فلأنه أنما يأتي للتأكيد، ورفع الإجمال، أو الاحتمال البعيد، أو الغبطة بالمعنى، كقول القائل: دفع السلطان لك عشرة آلاف دينار. فتقول: عشرة؟ مستفهما، اغتباطا بها، مع أن اللفظ نص، والفهم فيه حاصل، أو كراهة في المعنى كما قيل (له): إن السلطان طلب منك ذلك، وإذا كان الاستفهام محتملا وجوها كثيرة، امتنع الاستدلال به على أحدها عينا، وهو الاشتراك. والجواب عن الثالث: أن الزيادة في الجواب على خلاف الأصل، لعدم الداعي إليها من جهة السائل والسؤال، وإنما وردت الزيادة في الحديث النبوي لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشرع، يجب عليه التبليغ بذكر تلك الزيادة، واجب عليه سئل أم لا، فلذلك ذكرها بخلاف صورة النزاع، لم يتوجه طلب

إلا في المسئول عنه خاصة، فالزيادة حينئذ عبث، لا تحسن. والجواب عن الرابع: أن الوضع للعموم قدر مشترك بين هذه الصيغ، ولها خصوصات في أنفسها، غير الوضع للعموم، ومن كونها استفهاما، أو شرطا، ولمن يعقل، ولما لا يعقل، وللزمان دون الأجسام كـ (متى)، وللأجسام دون الزمان كـ (ما) ونحوه، فهذه خصوصيات غير الوضع للعموم. وكذلك قولنا: أكل الرجال في الدار؟ سؤال عن تصديق، هل هو حق أم باطل؟ كأن قائلا قال: كل الرجال في الدار، جازما بذلك. فقال السائل/ أكل الرجال في الدار؟ كما تقول هذا في المخبر، وخبره صدق أم كذب، وليس الكل في الدار، فهو سؤال صدق، خبر وطلب للواقع في ذلك الصدق أو الكذب، أما قولنا: من في الدار؟ فهو طلب لتصور الحقيقة الكائنة في الدار هل وجدت أم لا؟ وإن وجدت فهل هي زيد أم عمرو أم غيرهما؟ وطلب التصور غير طلب التصديق، فالصيغتان وإن اشتركتا في الوضع للعموم، غير أن لكل واحد منهما خاصية لم تشركها الأخرى فيها، فهما مختلفتان بخصوصيتهما، والاشتراك واقع بينهما في الوضع للعموم، والمختلفات قد تشترك في اللوازم.

وأما الجواب بـ (نعم)، و (لا) و ((بلى)) فله قاعدة وهي: أن (نعم) للموافقة في النفي والإثبات، و (لا) لمخالفة الإيجاب، و (بلى) لمخالفة النفي، وذلك كله إنما يكون فيما هو تصديق لا تصور، فمن قال: قام زيد، وأردت موافقته قلت: نعم، وإن قال: ما قام زيد، وأردت موافقته قلت: نعم، وإن قال: قام زيد، وأردت مخالفته قلت: لا، وإن قال: ما قام زيد، وأردت مخالفته، قلت: بلى، ولذلك لما قال الله تعالى للملائكة: {ألست بربكم قالوا بلى} سألهم تعالى عن عدم الربوبية أحق هو؟ فقالوا: بلى، أي النفي، والذي دل عليه ليس في السؤال، ليس واقعا، بل الحق أنك رب حق، فلو قيل في جواب هذا السؤال: نعم لكان تقريرا للنفي، فيكون كفرا.

وكذلك الجواب في قوله: {أليس الله بكاف عبده}، {ألم نشرح لك صدرك}، {أليس الله بأحكم الحاكمين}، {ألم يأتكم رسل منكم}، جميع ذلك الجواب الصحيح فيه بـ (بلى)، بخلاف قوله تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر}، فيقال: نعم؛ لأن الحق الموافقة، دون المخالفة. وعلى هذا المنوال يكون الجواب في جميع التصديقات بجعل (نعم) للتصديق، و (لا) لتكذيب الإيجاب، و (بلى) لتكذيب النفي، قال الشيخ ابن عصفور في المقرب: (قد ينوب المفرد عن الجملة في إعادتها، وحكايتها، ويفيد إفادتها) نحو: نعم وبلى، (فنعم) يكون (عادة) في جواب الاستفهام والأمر، ويكون تصديقا للخبر نحو قولك لمن قال: قام زيد، أو: ما قام زيد/ نعم، (يكون) تصديقا له على إثبات القيام لزيد أو نفيه عنه.

(وبلى) تكون جوابا للنفي خاصة (إلا) أن معناها أبدا إيجاب المنفي مقرونا، كان النفي بأداة الاستفهام أو (غير مقرون بها نحو قولك) في جواب من قال: ما قام زيد، (أو لم) يقم زيد، بلى، أي قد قام، ولو قلت: نعم، لكنت محققا للنفي، كأنك (قلت: نعم لم يقم). وقد يقع (نعم) في جواب النفي المصاحب لأداة الاستفهام، والمراد إيجاب المنفي بالنظر إلى المعنى إذا أمن اللبس، لأن التقدير في المعنى إيجاب، ألا ترى أنك إذا قلت: ألم يقم زيد، فإنما تريد أن تثبت للمخاطب قيامه، ومن ذلك قول الشاعر: أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني نعم وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني فلما كانت بلى تنوب مناب بل، كان كذا ونعم تنوب مناب قولك: كان كذا، أو

لم يكن، عوملتا معاملة ما نابتا منابه، هذا نص كلامه، فقد تضافرت نصوص النحاة على أن (نعم) و (لا) و (بلى) غنما تدخل في التصديقات، لتحقيق الصدق أو نفيه، وأما التصورات فليست بأخبار، ولا صدق فيها ولا كذب، فلذلك لم تدخلها (نعم) و (لا) و (بلى)؛ لانتفاء موضعها، فصار قولنا: أكل رجل في الدار؟ ومن في الدار؟ قد اشترك القولان في العموم والاستفهام وغير ذلك من المعاني، وامتاز أحدهما بأنه تصديق، والآخر بأنه تصوري ولحق بهذه المميزات توابعها، فهذا هو الجواب، وهو الفرق بين الموطنين، وبطل قول السائل: إنها لو كانت للعموم لحسن فيها (نعم) و (لا)، وإنما يصح سؤاله أن لو ادعيناه المساواة بينها من كل وجه، ونحن إنما ادعينا المساواة بينهما في معنى العموم خاصة، وأنهما متباينان من وجوه كثيرة غير العموم، فتأمل هذا الموضع فهو حسن. الوجه الثاني: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم، أن من قال لوكيله: من دخل داري فأكرمه، حسن من الوكيل الجري على موجب العموم/ ولولا أنها للعموم لما حسن منه ذلك؛ لأنه إفساد لمال الآمر بغير مقتضى له، وذلك موجب للذم، فلما حسن مدحه، وقبح ذمه، دل ذلك على أنها للعموم.

الوجه الثالث: في الدليل على أن هذه الصيغ للعموم، أن من قال: من دخل داري فأكرمه، حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء، العلم بحسن ذلك من عادة أهل اللغة ضروري، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، وذلك (أنه) لا نزاع أن المستثنى من الجنس لابد وأن يصح دخوله تحت المستثنى منه، فإما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر، والأول باطل، وإلا لكان لا يبقى بين الاستثناء من الجمع المنكر كقوله: جاءني فقهاء إلا زيدا، (وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقوله: جاءني الفقهاء

إلا زيدا فرق، لصحة دخول زيد في الخطابين، لكن الفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب، فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ، وهو المطلوب. فإن قيل: ينتقض دليلكم بأمور ثلاثة: أحدها جموع القلة وهو ما (في) قول الشاعر: بأفعل وأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد نحو: أفلس، وأجمال، وأجربة، وصبية، وجموع السلامة، فإنها للقلة بنص سيبويه مع (صحة) استثناء كل واحد من أفراد ذلك الجنس. وثانيهما: يصح أن يقال: صل إلا في اليوم الفلاني، ولو كان الاستثناء يقتضي إخراج ما لولاه لدخل، لكان الفعل مقتضيا للفعل في كل الأزمنة، فكان الأمر مفيدا للتكرار والفور، وأنتم لا تقولون بهما. وثالثهما: أنه يصح أن يقال: اصحب جمعا من الفقهاء إلا فلانا، ومعلوم أن ذلك المستثنى لا يجب اندراجه تحت ذلك المنكر.

سلمنا سلامة دليلكم عن النقض، لكن لا نسلم أن قوله: من دخل داري أكرمه، يحسن منه استثناء كل واحد من العقلاء، فإنه لا يحسن منه استثناء الملائكة والجن/ واللصوص، ولا يحسن أن يقال إلا ملك الهند، وملك الصين، سلمنا حسن ذلك، لكن لم يدل على العموم. وقوله: المستثنى يجب صحة دخوله تحت المستثنى منه، فإن استثناء الشيء من غير جنسه جائز، سلمناه، لكن لم قلت: إنه لابد من الوجوب؟ ! قوله: ويلزم انتفاء الفرق بين الاستثناء من الجمع المنكر والجمع المعرف، قلنا: نسلم أنه لابد من الفرق، ولكن لا نسلم أنه لا فرق إلا ما ذكرتموه. سلمنا أن ما ذكرتموه (يدل) على الوجوب، لكن معنا ما يدل على الاقتصار على الصحة من وجهين: الأول: أن الصحة أعم من الوجوب، فحمل اللفظ عليه حمل له على ما هو أكثر فائدة؛ لأن الأعم أكثر أفرادا من الأخص. الثاني: أن القائل إذا قال: أكرم جمعا من العلماء، (أو) اقتل جمعا من الكفار، حسن منه أن يستثني كل واحد من العلماء والكفار، فيقول: إلا فلانا، وإلا فلانا ولو كان الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه، لوجب أن يكون اللفظ المنكر للاستغراق.

سلمنا أن ما ذكرتموه يقتضي أن تكون هذه الصيغة للعموم، لكنا نستدل على أنها ليست للعموم من وجه آخر، وهو أنها لو كانت للعموم لكان دخول الاستثناء عليها نقضا، فإنها وجدت حينئذ بدون العموم، ووجود الدليل بدون المدلول نقض عليه. والجواب عن الأول: وهو النقض بجموع القلة، فلا نسلم أنه يصح استثناء أي عدد شئنا، فلا يقال: أكلت أرغفة إلا ألف رغيف، فإنها للعشرة فأقل، واستثناء أكثر من العشرة من اللفظ الموضوع للعشرة محال، واتفقنا على أنه لا يجوز استثناء أي عدد شئنا من صيغ الاستفهام والشرط ونحوها، وأنه يقال: من دخل داري فأكرمه إلا أهل البلدة الفلانية. وعن الثاني: أنا نلتزم أن تكون صيغة الأمر للتكرار، فإنه قول مشهور. وعن الثالث: أنه إذا صبت (أن) الاستثناء من الجمع المنكر يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله فيه، فلم قلتم بأنه في المعرف وبقية/ الصور؟ ! كذلك قوله: لا يحسن استثناء الملائكة وملك الهند ونحو ذلك. قلنا: إنما لم يحسن استثناء هذه الصور؛ لأن مقصود الاستثناء حاصل بالقرينة، حتى لو كان الكلام عريا عن القرينة، بأن يكون حال المتكلم لا يمتنع عليه هذه الطوائف، يحصل الاستثناء، كما لو قال تعالى: (أطعم

كل من خلقت [إلا] الملائكة، صح الاستثناء، وانظر بعين الرحمة إلى جميع الخلق إلا الملوك المتكبرين. قوله: لم قلتم بأن المستثنى يصح اندراجه؟ قلنا: انعقد عليه الإجماع في الاستثناء من الجنس، ولا ينتقض بغير الجنس؛ لأنا لم ندعه، ولأنه ينصرف في اللفظ، فلا يحتاج إلى صارف. قوله: لم قلت: إنه لا فرق إلا ما ذكرت؟ قلنا: العالم حادث، فالأصل في كل جزء من أجزائه أن يبقى على العدم السابق وما عدا ما ذكرناه كان معدوما، فوجب بقاؤه على العدم. قوله: الصحة أولى؛ لأنها أعم، فتكون أكثر فائدة. قلنا: الوجوب أولى لوجهين: الأول: أنه أخص، والأخص أكثر أجزاء، فيكون اللفظ أكثر فائدة، وهذه الفائدة في الأجزاء أرجح من الفائدة في الجزئيات، كأن الجزئيات عارضة للعام، أجنبية منه، والأجزاء داخلة في الأخص. الثاني: أن اللفظ إذا كان موضوعا للأخص كان الأعم لازما له، فيكون التجوز إليه أرجح من المجاز عن الأعم للأخص، لعدم لزوم الأخص الأعم.

قوله: إذا قال اصحب جمعا من الفقهاء، يحسن استثناء كل واحد منهم. قلنا: هب أن الاستثناء في المنكر للصحة فلم قلت: إنه في المعرفة كذلك، أو في (من) و (ما) ونحوهما؟ قوله: يلزم أن يكون الاستثناء على هذه الصيغ نقضا. قلنا: النقض، ومخالفة اللفظ لدلالة الدليل عليه لا محذور فيه كسائر صور المجاز، والتأكيد والتخصيص على خلاف الدليل، ولكن لما دل الدليل عليها لم يقبح، ولم يمتنع، وها هنا كذلك، فإنه لما دل الدليل على ما ذكرناه من العموم، كان ذلك دليلا على حسن دخول الاستثناء وإن كان نقضا. قاعدة: الاستثناء في لغة العرب يقع على أربعة أقسا: فيما لولاه لوجب اندراجه وعلم، وفيما لولاه لظن اندراجه/ وفيما لولاه لجاز اندراجه من غير علم ولا ظن، وفيما لولاه لقطع بعدم اندراجه. فالأول: كالاستثناء من النصوص كقوله: عندي عشرة إلا اثنين، يعلم اندراج الاثنين مع الثمانية في أفراده لولا الاستثناء. (والثاني): كقوله تعالى مثلا: (اقتلوا المشركين إلا زيدا)، فزيد يظن اندراجه لولا الاستثناء؛ لأن دلالة العموم ظنية، بخلاف أسماء الأعداد، فإنها نصوص لا تقبل المجاز. الثالث: أربعة أقسام:

القسم الأول: الاستثناء من المحال، كقوله: اعتق رقبة إلا الكفار، فإنه كان له تعيين المشترك وهو مطلق الرقبة في الكفار والمؤمنين، وفي كل شخص، وهذه كلها محال للقدر المشترك الذي هو مفهوم الرقبة، وكذلك: اصحب رجلا إلا زيدا وعمرا وخالدا وبكرا، فإنه كان له تعيين المشترك وهو مفهوم الرجل في أحد هذه الثلاثة، وكل واحد منهم يصلح أن يكون محلا لمفهوم الرجل، فإن كل شخص هو محل لأعمه، فاستثناؤهم استثناء من المحال. القسم الثاني: الاستثناء من المحال، كقوله: صل إلا في المزبلة، أو المجزرة، أو الحمام، ونحو ذلك، فإنه كان له أن يوقع فعله في كل بقعة من هذه البقاع، فاستثناؤها استثناء من المحال لا من نفس المدلول. القسم الثالث: الاستثناء من الأزمنة كقوله: صل إلا عند الزوال، وبعد العصر، وعند طلوع الشمس، فالأزمان، والبقاع محال للأفعال، والأشخاص محال للأجسام، وكلها غير مدلول اللفظ. القسم الرابع: الاستثناء من الأمور العامة، كقوله تعالى: {لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} فاستثنى حال الإحاطة من الأحوال، والأحوال ليست مدلولة اللفظ، بل هي أمر يعرض للمدلول.

ففي هذه الأقسام الأربعة المستثنى يجوز اندراجه من غير ظن ولا علم، مطلق الجواز فقط. والرابع: الاستثناء من غير الجنس، فإنه يقطع بعدم دخوله، نحو قوله: رأيت القوم إلا ثوبا، فإن الثوب لا يجوز اندراجه في اللفظ ألبتة، وعلى هذه القاعدة يتعين ما هو واجب الاندراج، (وما/ هو غير واجب الاندراج)، وما هو يصح اندراجه فقط، ويمكنك الجمع بين هذه الأقوال كلها. الوجه الرابع: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم: أن النقل قد تواتر عن العرب أنها تجمع بين هذه الصيغ وبين لفظ الاستثناء، وفهم عنها أيضا أن الاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراج المستثنى تحت الحكم، دل على ذلك موارد الاستعمال، واستقراء الأحكام فيها، وفهم السامعين كذلك، فهاتان مقدمتاه نقليتان، وعندنا مقدمة عقلية وهي أن نقول: صيغ العموم يدخلها الاستثناء عملا بالمقدمة الأولى، والاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه عملا بالمقدمة الثانية، وما من نوع من أنواع مدلول هذه الألفاظ إلا وهو يصح استثناؤه، وما استثني فيجب اندراجه، عملا بالمقدمة الثانية، فيجب اندراج جميع الأنواع والأشخاص في حكم هذه الصيغ، وهذا هو مرادنا بالعموم، فهذا هو دليل مركب من العقل والنقل. الوجه الخامس: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم (لما نزل قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال ابن الزبعري: (لأخصمن محمدا، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: أليس عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد المسيح؟ تمسك بعموم (ما) وهو عربي، وفهمه وقوله حجة في اللغة، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك حتى نزل قوله

تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون}، وهذا أيضا يقتضي أنها للعموم، فإن هذه الآية الثانية جرت مجرى الاستثناء ولولا تقرير السؤال وحصول الاندراج لما احتيج إلى صرف اللفظ عمن سبقت له الحسنى. وإذا تقرر أن صيغة (ما) للعموم، تقرر في الجميع لوجهين: الأول: أنا نعلم بالضرورة حصول المساواة بين لفظ (ما) وبين بقية صيغ العموم في الفهم عند السماع. الثاني: أنه لا قائل بالفرق، فكل من قال: إن (ما) للعموم، قال: إن/ بقية الصيغ للعموم، نحو: (من) وما يجري مجراها، ومن قال: إن غير (ما) ليس للعموم، أو مشتركة، قال: إن (ما) كذلك، فالقول بأن (ما) وحدها للعموم لم يقل به أحد، فوجب أن يكون باطلا. فإن قلت: الصحيح عند النحاة أن (ما) لما لا يعقل، فيكون سؤال ابن الزبعري باطلا؛ لأن من ذكره من العقلاء. قلت: الخطاب كان مع العرب، وكان منهم نصارى عبدة المسيح، ومنهم عبدة الملائكة، ولما كانت العرب لا كتابة لها، كانت كل فرقة منها تدين بدين من يجاورها، فمنهم يهود، ومنهم نصارى، ومنهم عبدة الكواكب،

إلى غير ذلك من الفرق الدهرية وغيرها، ولما قصد خطابهم على العموم فلابد أن يقصد لمعبوداتهم على العموم، وقد تقدم في سرد صيغ العموم في الموصولات أن العرب إذا قصدت التعبير عن الأمور العامة والأجناس العالية، أنها إنما تأتي بـ (ما) دون (من)، قال الله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء}، ولم يقل: من خلق الله، وتقول: كل ما خلق الله ممكن، إذا أردت العموم، ولا تقول: من وكل ما في العالم مفتقر لقدرة الله تعالى، مريدا للعموم، ولو قلت: (من) لم يحصل العموم، والسر في ذلك أن المفهوم العام لا يتناول الخاص ولا يستلزمه، فمفهوم الجنس لا يستلزم الحيوان، ومفهوم الحيوان لا يستلزم الإنسان، وكذلك كل معنى أعم لا يستلزم ما تحته، فإذا أشير إلى المخلوق من حيث هو مخلوق لم يكن هذا المفهوم مستلزما لمن يعقل، وكذلك إذا أشير إلى المعبود من حيث هو معبود؛ لأنه أعم من المعبود العاقل، فلم يستلزمه، وإذا لم يستلزمه لم يدخل مفهوم العاقل في العموم المراد من حيث هوهو، وإذا لم يدخل العاقل تعين

التعبير عنه بـ (ما) لا بـ (من)، ويندرج في ذلك العموم كل عاقل من حيث هو معبود أو مخلوق، لا من جهة أنه عاقل، وهو من جهة أنه مخلوق أو معبود لا يستحق لفظ (من)، بل لفظ (ما) خاصة، فلذلك عبر عن العموم في هذه الصور/ بلفظ (ما) مع اندراج العقلاء فيه، وهي قاعدة جليلة فتفطن لها، فقد تقدم تقريرها، وسيأتي مزيد بسطها، وتقدم أيضا أن هذه القاعدة تقتضي أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فإن العقل حالة تعرض لهذه العمومات، فلو أن العام في الأشخاص عام في الأحوال أيضا لكان قد يتناول اللفظ من يعقل وما لا يعقل، فيتعين تغليب من يعقل، والتعبير حينئذ يتعين بـ (من)، لا بـ (ما)، فلما كان التعبير بـ (ما)، دل ذلك على عدم العموم في الأحوال، وبهذه القاعدة أمكن الجمع بين نقل النحاة أن (ما) لما لا يعقل وبين صحة سؤال ابن الزبعري وتقرير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وحصول اندراج الملائكة والمسيح من جهة عامة، لا تستحق تلك الجهة من حيث هي لفظ (من)، بل (ما)، وهذا جواب سديد لم يتفطن له كثير من الفضلاء، بل أجابوا عن الآية وصحة السؤال بأن (ما) يستعمل لمن يعقل، كقوله تعالى: {والسماء وما بناها}، {ولا أنتم عابدون ما أعبد}، وهذا جواب لا يثبت معه جادة نقل النحاة، بل يحصل التعارض فقط، وأما مع ملاحظة هذه القاعدة لا يحصل تعارض وتقسيم هذه الألفاظ كلها. الوجه السادس: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم: أن القائل إذا قال: جاءني كل فقيه في البلد، أو من في البلد من الفقهاء، فمن يريد مناقضته في الجملة يقول (له): ما جاءك كل فقيه، أو ما جاءك من في البلد من الفقهاء، وهذا الأخير سلب جزئي اتفاقا وتقرر في قواعد المنطق أن السلب

الجزئي إنما يناقضه الإيجاب الكلي، ولما ثبت أنهما متناقضان، وثبت أن أحدهما سالبة جزئية، ثبت أن الأخرى موجبة كلية، إذ لا مناقضة بين السلب في البعض والثبوت في البعض، فتكون الصيغة للعموم، وهو المطلوب. الوجه السابع: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم، أن القائل إذا قال: أكرمت من في الدار أو من دخل داري فله درهم أو ما في ملكي صدقة فالسابق إلى الفهم الاستغراق، وإذا كان كذلك في العرف وجب أن يكون في اللغة كذلك؛ /لأن الأصل عدم النقل والتعيين، لاسيما ومبادرة الذهن هي أصل كبير في اللغات، وهي الجارية في جميع الموارد. فإن قلت: إنما يحصل الفهم في هذه المواطن بسبب القرينة المحتفة بهذه الصيغ في موارد الاستعمال، ولا يلزم من الفهم بمجموع اللفظ والقرينة أن يكون اللفظ وحده مفيدا للعموم. قلت: نحن لو فرضنا أنفسنا خالية عن استحضار جميع القرائن لوجدنا أنفسنا تعتقد حصول العموم عند سماع هذه الصيغ، وأيضا لو وجدنا مكتوبا

في كتاب من قال (لك): ح، فقل له: ب، فإن ها هنا لا قرينة، ونحن نفهم العموم. ولو كتب واحد لعبده كتابا مشتملا على أمور كثيرة، وقال له: اعمل بما فيه، فهم منه العموم، مع عدم القرينة، بل لمجرد لفظ (ما) (فيه) الدالة على العموم، وأيضا الأعمى يفهم العموم من هذه الصيغ، مع عدم اطلاعه على القرينة المرئية، وأما المسموعة فإنا نفرض أن المتكلم لم يتكلم بغير صيغة العموم. الوجه الثامن: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما سمع قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل قال له: كذبت، فإن نعيم أهل الجنة لا يزول، ولولا أن قوله أفاد

العموم لما توجه عليه التكذيب فاستعمل لبيد لفظ (كل) و (ما) في العموم، وفهم عنه العموم منها، وإذا ثبت ذلك في هاتين الصيغتين (ثبت في) بقيتها؛ لأنه لا قائل بالفرق في أكثرها. الوجه التاسع: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم، أن القائل إذا قال: ما في ملكي صدقة أجمعنا على أنه يتناول جميع ما في ملكه من الجماد والنبات والحيوان، وإن اختلفنا: هل يلزمه التصدق بجميع ذلك أو بثلثه؟ والأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب أن يكون لفظ (ما) حقيقة في جميع ذلك، فتكون للعموم، وإذا ثبت أن هذا اللفظ للعموم/ ثبت أن بقية الصيغ للعموم؛ لأنه لا قائل بالفرق في أكثرها، أو لأن الكل في معناها. الوجه العاشر: في الدلالة على أن هذه الصيغ للعموم: أن النكرة إذا كانت في سياق النفي ولا تعم عند القائلين بصيغ العموم، وذلك في صور. أحدها: إذا كانت في سلب الحكم عن العمومات نحو قولنا: ما كل أحد

يصحب، ومرادنا: أن بعض الناس لا يصلح للصحبة، فهي سالبة جزئية، لا سالبة كلية، والعموم هي السالبة الكلية، نحو: لا رجل في الدار، وكذلك قولنا: ليس كل عدد زوجا، أو بعضه ليس كذلك، فهو سلب في بعض أفراد العدد، لا في جميع أفراده، وكذلك: ليس كل حيوان إنسانا، ونظائره كثيرة جدا، وليس فيها إلا السلب عن البعض، واشتراك الجميع في أنه سلب للحكم عن العموم، ولا حكم بالسلب على العموم، وكأنا تخيلنا قائلا يقول: كل عدد زوج، وحكم بذلك على العموم، فقصدنا أن نسلب حكم الزوجية عن هذا العموم، بخلاف قولنا: لا شيء

من الخمسة بزوج، فإنا حاكمون بسلب الزوجية عن جميع أفراد الخمسة، فنحن حاكمون بالسلب على العموم. وقولنا: (كل عدد) نكرة، لأن لفظ (كل) نكرة وقد أضيفت إلى النكرة، والمضاف إلي النكرة نكرة، فيكون اللفظ نكرة في سياق النفي، مع أنه لا عموم فيه، وقد تقدم في باب سرد صيغ العموم أن هذا من خصائص لفظ (كل) وأنه متى تقدمه النفي كان كلا، لا كلية، وأن الحكم بالسلب حينئذ إنما هو على المجموع من حيث هو مجموع، لا على كل فرد منه، بخلاف (ما) إذا كان السلب متأخرا عنه لا ينوي به التقديم نحو قول الشاعر: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... على ذنبا كله لم أصنع برفع (كل)، فإن المبتدأ له صدر الكلام، فلا ينوي تقديم النفي عليه بخلاف (ما) / لو نصب لكان مفعولا متقدما على عامله، والأصل في عامل المفعول أن يتقدم عليه. وهذا هو السر في عدول الشاعر عن النصب، مع أن الفعل مفرغ للعمل، مقدرا بمن أن ينصب، فيكون السلب إنما ورد على الكل من حيث هو كل، وذلك لا يمنع أنه صنع البعض، بل مفهومه يقتضي

أنه فعل البعض، وهو مناقض للبراءة المطلقة التي هي مقصودة، وقد تقدم بسط هذا هنالك. ومما يستثنى من النكرة في سياق النفي: النكرة إذا كانت مرفوعة مع (لا)، نحو: لا رجل في الدار، بالرفع، فإنه جواب لمن قال: هل في الدار رجل واحد؟ فيقال له: لا رجل في الدار بل اثنان (فهو) سلب لوجود الرجل بوصف الوحدة، لا له من حيث هو هو، فهو سلب جزئي، لا كلي، مع أنه نكرة في سياق النفي، كذلك نص عليه النحاة، قال سيبويه وابن السيد البطليوسي في إصلاح الخلل في شرح الجمل، ونص عليه: أنه لا يعم، بخلاف إذا نصبت النكرة مع (لا)، نحو: لا رجل في الدار، فإنها تعم عند المعممة، وقال النحاة: هو جواب لمن قال: هل من رجل في الدار؟ فسأل عن مطلق مفهوم الرحل، فقلنا له: لا رجل في الدار، أي هذا المفهوم

ليس في الدار، فكانت سالبة كلية، وهذا هو العموم، قالوا: ولذلك ثبتت النكرة مع لا، لتضمنها معنى (من) التي هي في كلام السائل، بخلاف الأول إنما سأل عن الرجل بوصف الوحدة، لا عن مطلق الرجل. القسم الثالث: الذي استثني عن النكرة في سياق النفي فلا تكون للعموم، النكرات الخاصة، قال الجرجاني في شرح الإيضاح: واعلم أنه يقع من الحروف ما هو عامل لفظا ومعنى نحو (من) في النفي، تقول: ما جاءني رجل، ولا يوجب ذلك استغراق الجنس حتى تقول: ما جاءني من رجل بل أكثر، فإذا دخلت (من) فقلت: ما جاءني من رجل، أفادت استغراق الجنس، حتى لا يجوز أن تقول: ما جاءني من رجل بل أكثر، فقد علمت في اللفظ، وغيرت المعنى إلا أنها لم/ تبطل معنى الفاعلية، ولا يخرج رجل عن كونه محتملا إسناد الفعل إليه. هذا نصه، وهو تصريح بعدم العموم في قولنا: ما جاءني رجل، وكذلك نص عليه الزمخشري في مثل قوله تعالى: {وما لكم من إله غيره} أن العموم مستفاد من لفظ (من) ولو قال: ما لكم إله غيره، لم يحصل

العموم، وهي في هذا الضرب مفيدة للعموم، بخلاف قولنا: ما جاءني من أحد، هي مؤكدة للعموم، لا مفيدة له. وكذلك قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} إنما حصل العموم بلفظ (من)، ولو قال: ما تأتيهم آية، لم يكن عاما، وهو أن ما مع ذلك كله نكرة في سياق النفي، واستقراء كلام النحاة يقتضي أن النكرات الخاصة لا يحصل بها عموم في النفي، وهذا النوع عدد كثير جدا، فيخرج من هذه الدعوى وهو قولنا: النكرة في سياق النفي (تعم، ما لا يحصى كثرة، مع أن أكثر الفضلاء يستدل بالنكرة في سياق النفي) كيف وجدت. والذي يتحقق أن العموم إنما يحصل من النكرة في سياق النفي، إذا كانت النكرة من النكرات الموضوعة للأجناس العالية نحو: شيء واحد، أو يراد بها ذلك، وأن اشتقاق اللفظ يقتضي أخص من ذلك، وقد نص ابن السكيت

في إصلاح المنطق، والكراع في المنتخب في اللغة (على) هذه الصيغ العامة التي تقتضي العموم في النهي، فردوها نيفا وعشرين صيغة، وهي هذه، فقالوا: ما بها أحد، ولا وابر، ولا ضافر، ولا غريب، ولا كتيع، ولا دبي، ولا دبيج ولا نافخ ضرمة،

ولا ديار، ولا طوري، ولا دوري، ولا تومري، ولا لاعي قرو، ولا أرم، ولا داع، ولا مجيب، ولا معرب، ولا أنيس، ولا ناهق، ولا ناصح، ولا ثاغ، ولا راغ ولا دعوي، هذا نص ابن السكيت، (وزاد الكراع على ابن الكسيت): ما بها طوي، أي ما بها أحد يطوى، وما بها آبن، وما بها أريم تامورة أي وماء، ولا عاين، ولا عين، وما لي منه بد.

قلت: وينبغي أن يلحق بهذه الألفاظ/ ما في معناها نحو: شيء، وموجود، ومعلوم، وما هو في هذا العموم المشار إليه، وقد تقدم في الباب العاشر أن (أحدا) (الذي يستعمل في النفي) ليس ألفه منقلبة عن واو، بخلاف (أحد) الذي يستعمل في الثبوت نحو قوله تعالى: {قل هو الله أحد}، وإن كانت الوحدة تشملهما في ظاهر الحال، وأن الاشتقاق واحدـ والواو في الوحدة أصل، فينبغي أن تكون ألف الجميع منقلبة عن واو، وهو إشكال من حيث الاشتقاق، وهنالك بسط السؤال والجواب عنه، وأن (أحدا) هذا المستعمل في النفي مباين لـ (أحد) المستعمل في الثبوت بالكلية، ولا يجوز استعمال (أحد) هذا في الثبوت ألبتة، وهنالك معرفة الفرق، وبما يتميز به أحدهما عن الآخر حتى لا يحصل الغلط في استعمال (أحد) في الثبوت، فليطالع من هنالك. فائدة: في بيان اشتقاق هذه الألفاظ التي تقدم سردها، وبيان معناها، الوابر مثل: لابن وتامر: أي: صاحب وبر، كما أن لابن صاحب لبن، وصافر: اسم فاعل من الصفير، وعريب: فعيل بمعنى فاعل، أي معرب عما في نفسه، وكتيع: من التكتع الذي هو الاجتماع، ومنه تكتع الجلد إذا ألقيته

في النار واجتمع، ومنه قولهم في التأكيد: أجمعون أكتعون، أي: اجتمعوا في الفعل المشار إليه، فهو فعيل بمعنى فاعل، والدبيج: المتلون، والضرمة: النار توقد، وديار: منسوب إلى الدار كحطاب وملاح، وكل ذي حرفة ينسب بهذه الصيغة، والطوري: منسوب إلى الطور الذي هو الجبل، أي ما فيها من ينسب إلى الجبل، والتومري: منسوب إلى التامور وهو دم القلب، ولاعي قرو: وقال الجوهري: لاحس عس [من قدح]، والقرو

والعس: القدح، والآرم: الساكن أو الهالك، والثاغي: الشاة، والراغي: البعير، والداعي: من الدعوة للطعام، والأريم: مثل الآرم، وعاين: صاحب عين، والبد: الانفكاك. ولك في هذه الألفاظ طريقان: أحدهما: أن تقول: الموصوف محذوف في الجميع تقديره ما بها أحد وابر، ولا صافر، إلى آخرها، فيكون العموم جاء من الموصوف المحذوف العام، لا من الصفة/ الخاصة، فإن الخاص لا يعم. وثانيهما: أنا لا نلتزم الحذف، بل المجاز، ونقول في الجميع: عبر بلفظ الخاص عن العام مجازا، فاللفظ مدلوله من حيث الوضع والاشتقاق خاص نحو: صافر، ولاعي قرو، ونحوهما، والمراد بهذه الألفاظ المفهوم العام وهو أحد الذي معناه إنسان. فهذا تلخيص جميع هذه الألفاظ التي تقتضي العموم، وما عدا هذه الألفاظ فمقتضى هذه النقول ألا تكون للعموم، وهو كثير جدا، لا

يحصى عددها، فكيف الحيلة في ضبط هذه الدعوى مع هذه المخصصات التي دخلتها، وكلها نكرات في النفي؟ ! والذي رأيته أن أقول- ها هنا-: قال النحاة في النسب والتصغير: هو على قسمين: مسموع، ومقيس، فكذلك ها هنا النكرة في سياق النفي على قسمين: مقيس، ومسموع، فالمقيس النكرة المفردة المبنية مع (لا)، فهذا هو مطرداته للعموم نحو: لا رجل في الدار، ومطولا منصوبا نحو: لا سائق إبل لك: أو: لا ثالم عرض لك، فهذا قياس مطرد، والمسموع ما عدا ذلك، وهو هذه الكلمات المحفوظة المعدودة التي تقدم ذكرها عن ابن السكيت وغيره، إلا ما أشاروا إليه بالمعنى نحو: شيء، وموجود، ونحو ذلك من الأجناس العامة، ويعرض عن كل ما هو أخص منها، فتحرر الدعوى على هذه الصورة، ولا تعمم، وتطلق في موضع التفصيل ولاسيما مع هذا التخصيص العظيم الذي لا يليق مثله بكلام الفضلاء المحققين، لاسيما في تمهيد القواعد الكلية، مع أن إمام الحرمين في البرهان قال: إن سيبويه قال: (إذا قلت:

ما جاءني من رجل، فهو يؤكد العموم، يعني: لفظ (من) وإذا قلت: ما جاءني رجل، فاللفظ عام، وهذا خلاف نقل الجماعة، وكشفت عن ذلك في (كتاب) سيبويه، وسألت من هو عالم بالكتاب معرفة جيدة فقال: لا اعلم سيبويه قال هذا، وأنا أيضا ما وجدته في الكتاب. سؤال صعب: وهو أنا إذا فرعنا على هذا التقدير الذي تقوله النحاة كابن السكيت/ وغيره: أن النكرات الخاصة لا تعم، لا يستقيم استدلال الفقهاء بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده)، على أن كل مسلم لا يقتص منه بالذمي، فإنها نكرة خاصة، فإن المسلم أخص

من رجل الذي نصرا على أن العموم لا يحصل فيه، ونظائره كثيرة في الكتاب والسنة، مما يستدل به الفقهاء والفضلاء، فيلزم تغليطهم في ذلك كله، ويلزم أيضا بطلان أدلة العموم كلها، فإنها جارية في هذه النكرات التي نصوا على أنها لا تعم، فإذا قلنا: ما جاءني رجل، يصح استثناء أي رجل عنينا، وتقرر طريقة الاستدلال بالاستثناء إلى آخرها، وكذلك طريقة المبادرة للفهم، فإنها لا تفهم إلا العموم، وطريقة مدح الجاري في هذه النكرات على موجب الأمر، وطريقة ذم من لم يجر عليه في هذه النكرات. وهذه الطرائق الأربعة التي هي: ذم التارك، وترك الاعتراض على الفاعل، والسبق إلى الفهم، وصحة الاستثناء، هي معظم ما يستدل به الأصوليون على أن اللفظ للعموم، ويطرد معها بقية الوجوه التي تجرى مجراها. وإذا وجدت أدلة العموم بدون العموم كان ذلك نقضا عليها، وانخرمت الثقة بها، وأي ضابط يعدل ذلك في مواضع صحتها دون سقمها، وأي موطن يصح الاستدلال بها فيه دون غيره، فيسقط الباب كله من أيدينا، وهو فساد عظيم، لاسيما وباب الخصوص والعموم من أعظم أبواب الشريعة، وأعظم أصولها فهذا سؤال صعب.

جوابه: الذي أرى في الجواب عن هذا السؤال، وطريق الجمع بين شتات هذه المنقولات، وضبط هذه الأدلة وهذه القاعدة، أن تجري هذه الأدلة الدالة على العموم مجرى النصوص الشرعية، والأدلة المنصوبة في الشرعية إذا أجمعنا على مخالفتها أو مخالفة قاعدة من القواعد كالغرر والجهالة، والمشقة، وغير ذلك من القواعد الشرعية، التي أجمعنا على أنها قاعدة شرعية معتبرة، ومع ذلك فينعقد الإجماع/ في كثير من الصور على مخالفة تلك النصوص وتلك القواعد، ويخصص بالإجماع، ولا يمنع ذلك من صحتها، والاعتماد عليها بل نقول: هي معتبرة فيما عدا صور الإجماع، كذلك هاهنا نقول: بصحة الأدلة الدالة على العموم إلا فيما أجمعنا على عدم اعتبار العموم فيه، أو على ورود نص أئمة اللغة بخلافها، وجعل

نصوص أئمة اللغة كنصوص صاحب الشريعة إذا وردت على مخالفة دليل أو قاعدة، فإنا نقدم النصوص المختصة على غيرها، وكذلك هاهنا نقدم نصوص أئمة اللغة في عدم العموم على هذه الأدلة والقواعد العامة، ونعتقد صحة تلك الأدلة فيما عدا صور النصوص كما قلنا في قواعد الشريعة وأدلتها حرفا بحرف، ويندفع الإشكال، ويستقيم الاستدلال. وأما سبق فهمنا للعموم من تلك الصور فنعده من غلطنا، فإنا لسنا قوما عرباء، فالغلط في لسان العرب جائز علينا، والأصل عدم غلطنا فيما عدا صور النصوص الموجبة لتخصيص هذه الدعوى، ونلتزم بطلان الاستدلال بالنصوص التي نكراتها خاصة، فنقول: إن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مسلم بكافر) على العموم باطل، إن ادعي العموم من حيث الوضع اللغوي، وإن ادعي قرينة أنه لسبق في تقرير قاعدة، وتمهيد باب عظيم في الشريعة متعلق بالدماء، وأن مثل هذا لا يليق بحكمة صاحب الشريعة تركه ممجمجا متلبسا، فتعين حمله على العموم نفيا لهذا اللبس، فإنه إذا كانت الصيغة لم يرد بها العموم كان المراد بها الخصوص، وإلا كان الكلام لغوا، وذلك الخصوص غير معلوم ولا مبين من جهة صاحب الشرع،

فيحصل اللبس، فهذا إن سلك أو نحوه أمكن أن يصح الاستدلال بهذا الحديث، وإن قصد أنه عام لغة غلطنا قاصد ذلك بنصوص أئمة اللغة كما تقدم، وحينئذ ينتظم باب العموم، وينتظم الإشكال. فائدة: اختلف الناس في النكرة في سياق النفي إذا عمت، هل عمت لنفي الاشتراك، فحصل النفي في الخصوصات بطريق اللزوم، أو العرب وضعت هذه الصيغ لانتفاء الحكم عن كل فرد فرد حتى تتحقق الكلية بطريق المطابقة؟ الأول: مذهب الحنفية، والثاني: مذهب غيرها، / وقد تقدم بسط ذلك سؤالا وجوابا وتقريرا في الباب العاشر، فليطالع من هناك. إذا تلخص محل النزاع في النكرة في سياق النفي، فالذي يدل عليه أنها للعموم- خلافا لمنكري العموم مطلقا- وجهان: أحدهما: أن الإنسان إذا قال: أكلت اليوم شيئا، فمن أراد مناقضته وتكذيبه يقول: ما أكلت اليوم شيئا، فذكرهم هذا النفي عند تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضا له، فلو كان قوله: ما أكلت اليوم شيئا، لا يقتضي العموم لما تناقضا؛ لأن الإثبات الجزئي لا يناقض النفي الجزئي، مثاله في كتاب الله تعالى أن اليهود لما قالت: {ما أنزل الله على بشر من شيء}، قال الله تعالى في الرد عليهم: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به

موسى}، وإنما أورد الله تعالى هذا الكلام نقضا عليهم، وهو إثبات جزئي، فدل ذلك على أن كلامهم سلب كلي، وهو العموم المطلوب، وإذا صبت ذلك في النكرة في النفي، وجب ثبوت العموم في بقية الصور المتفق على عدم الفرق بينها، وإلا لزم الفرق المنفي بالإجماع. الثاني: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي للعموم لما كان قولنا (إلا الله) يفيد العموم في نفي جميع الآلهة سوى الله تعالى، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وهي النكرة في سياق النفي، ثبت في جميع الصور، كما تقدم. احتج منكرو العموم بوجوه: الأول: أن العلم بكون هذه الصيغ للعموم إما أن يكون ضروريا، وهو باطل، وإلا لوجب اشتراك العقلاء فيه، أو نظريا، وحينئذ لابد من دليل، والدليل إما أن يكون عقليا، وهو محال؛ لأنه لا مجال للعقل في اللغات، أو نقليا، وهو إما أن يكون متواترا، أو آحادا، والمتواتر باطل، وإلا لعرفه الكل، والآحاد باطل؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والمسألة علمية. الثاني: أن هذه الألفاظ مستعملة في الاستغراق تارة، وفي الخصوص أخرى، وذلك يدل على الاشتراك، بيان المقدمة الأولى: أن العاقل إذا قال: / من دخل داري أكرمته، فإنه قلما يريد به العموم، (وإذا قال: لقيت) العلماء فقد يريد به العموم تارة والخصوص أخرى. بيان المقدمة الثانية من وجهين:

الأول: أن الظاهر من استعمال اللفظ في شيء: كونه حقيقة فيه، إلا أن يدل دليل على المجاز؛ لأنا لو لم نجعل هذا طريقا لكون اللفظ حقيقة في المسمى لتعذر علينا أن نحكم بكون لفظ ما حقيقة في معنى (ما)، إذ لا طريق لكون اللفظ حقيقة سوى ذلك. الثاني: وهو أن الألفاظ لو لم تكن حقيقة في الاستغراق والخصوص لكان مجازا في أحدهما، واللفظ لا يستعمل مجازا إلا مع القرينة، والأصل عدم القرينة، وأيضا فتلك القرينة إما أن تعرف ضرورة أو نظرا، والأول باطل، وإلا لامتنع وقوع الخلاف فيه والثاني باطل؛ لأنا لما نظرنا في أدلة المثبتين لهذه القرينة لم نجد فيها ما يمكن التعويل عليه. الثالث: أن هذه الألفاظ لو كانت موضوعة للاستغراق لما حسن أن يستفهم المتكلم فيها؛ لأن الاستفهام طلب الفهم، وطلب الفهم عند حصول المقتضى للفهم عبث، لكن من المعلوم أن من قال: ضربت كل من في الدار، يحسن أن يقال: أضربتهم بالكلية، وأن يقال: أضربت صديقك فيهم؟ الرابع: لو كانت هذه الصيغ موضوعة للعموم لكان تأكيدها عبثا؛ لأنه يفيد عين الفائدة الحاصلة بالمؤكدة، فهو تحصيل للحاصل.

الخامس: لو كانت هذه الصيغ للعموم لكان دخول الاستثناء عليها نقضا، وبيانه من وجهين: أحدهما: أن المتكلم قد دل على الاستغراق أول كلامه، ثم بالاستثناء رجع عن الدلالة على الكل إلى البعض، فكان نقضا، وجاريا مجرى ما يقال: ضربت كل فرد في الدار، لم أضرب كل من في الدار. الثاني: أن هذه الصيغ لو كانت موضوعة للعموم لجرت لفظة العموم مع الاستثناء مجرى تعديد الأشخاص، واستثناء الواحد- بعد ذلك في القبح- كما إذا قال: ضربت زيدا ضربت عمرا ضربت خالدا، ثم يقول: إلا زيدا/ ولما لم يكن كذلك، دل حسن الاستثناء على أن جنس هذه الصيغ ليست للاستغراق. السادس: أن صيغة (من) و (ما) و (أي) في المجازاة يصح إدخال لفظ (الكل) عليها تارة، و (البعض) أخرى، فتقول: كل من دخل داري فأكرمه، بعض من دخل داري فأكرمه، ولو دلت (هذه) الصيغة على الاستغراق لكان إدخال الكل عليها تكريرا وإدخال البعض نقضا.

السابع: لو كانت لفظة (من) للاستغراق لامتنع جمعها؛ لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده الواحد. ومعلوم أنه ليس بعد الاستغراق كثرة فيفيدها الجمع، لكن يصح جمعه كقول الشاعر: أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن، قلت عموا ظلاما الثامن: احتج أبو هاشم على أن الجمع المعرف باللام ليس للعموم، بأنه لو كان للعموم لزم إذا استعملت في اللام في العهد، إما المجاز أو الاشتراك، وهما على خلاف الأصل، فوجب ألا يفيد الاستغراق. التاسع: لأبي هاشم أيضا، لو كان الجمع المعرف بلام الجنس للعموم، لكان قولنا: رأيت كل الناس أو بعض الناس خطأ؛ لأن الأول تكرير، والثاني نقض. العاشر: له أيضا، قال: يقال جمع الأمير الصاغة، مع أنه ما جمع الكل، والأصل في الكلام الحقيقة، فهذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق.

الإجابة على هذه الوجوه وردها

الحادي عشر: للإمام فخر الدين في المفرد المعرف باللام، فقال: إنه لا يفيد العموم، خلافا للجبائي والفقهاء والمبرد؛ لأن القائل إذا قال: لبست الثوب، وشربت الماء، لم يفهم العموم، والأصل في الكلام الحقيقة. الثاني عشر: قال: إنه لا يؤكد بما يؤكد به الجموع، ولا ينعت، فلا يقال: جاءني الرجل كلهم، ولا الفقيه الفضلاء، وأما ما يروى من قولهم: أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر، فمجاز لعدم اطراده، ولو كان الدينار الصفر حقيقة، لكان الأصفر خطأ أو مجازا. /الثالث عشر: له، قال: البيع جزء من مفهوم هذا البيع، فإحلال هذا البيع يتضمن إحلال البيع، فلو كان لفظ البيع للعموم، لزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع، وهو باطل. الجواب عن الأول: لا نسلم أنه غير معلوم بالضرورة، فإنا بعد استقراء اللغات نعلم بالضرورة أن صيغة (كل) و (جميع) و (من) و (ما) و (أي) في

قول التبريزي: مسائل أصول الفقه معلومة بالاستقراء التام من اللغات

الاستفهام والمجازاة للعموم. سلمناه: فلم لا يجوز أن يعرف بعد ذلك بالنقل المتواتر. قوله: يلزم أن يعرفه الكل. قلنا: ذلك ممنوع؛ لأن التواتر بيس من شرطه أن يعم، فقد يتواتر أمر في الجامع من سقوط المؤذن عن المنارة، ولا يعلم ذلك في أطراف البلد، فضلا عن بلد آخر، وإذا لم يكن من شرط التواتر أن يشمل الناس جازت المخالفة معه من جهة من لم يبلغه التواتر. والحق أن مسائل أصول الفقه معلومة- كما قال التبريزي- بالاستقراء التام من اللغات، فمن استقرأ أشعار العرب وخطبها ومحاوراتها ومواقع لغاتها علم أن صيغة العموم، وأن الأمر للوجوب، وغير ذلك من مسائل أصول الفقه. ولما تعذر وضع ذلك المستقرأ في كتاب، اقتصر العلماء على أخبار آحاد، وظواهر عمومات، هي بعض ذلك الاستقراء تنبيها عليه، ومرادهم ذلك

سر قول العلماء مسائل أصول الفقه قطعية

الخبر أو ذلك العموم مضافا إلى الاستقراء المذكور، ونظير هذه المسائل ودعوى العلماء فيها أنها معلومة من اللغة بالضرورة: شجاعة علي رضي الله عنه، وكرم حاتم، فإنهما معلومات بالضرورة من جهة الاستقراء التام، المحصل للعلم في حق كل واحد منهما، ولو أخذنا نضع في كتاب عدة حكايات في حق أحدهما لا نطلع إلا عليها لم يحصل لنا العلم، مع أنها بعض حكاياتهما، كذلك هذه المسائل الموضوعة في الكتب لا يحصل العلم والاستقراء التام بحصول العلم، والمذكور في الكتب بعضه، فتأمل ذلك فهو سر قول العلماء: مسائل أصول الفقه قطعية. وعن الثاني: لا نزاع في أن هذه الألفاظ تستعمل في الخصوص، ولكنك إن ادعيت أنه لا يوجد الاستعمال إلا إذا كان حقيقة بطل قولك، /وإن سلمت أن الاستعمال يوجد حيث لا حقيقة بطل الاستدلال بالاستعمال

على أنه حقيقة. فإن قلت: استدلال بالاستعمال على أن المجاز خلاف الأصل على كونه حقيقة. قلت: قولك المجاز خلاف الأصل، يفيد الظن، وعندك المسألة يقينية، وأيضا فكما أن المجاز خلاف الأصل، فكذلك الاشتراك، وقد تقدم في كتب الأصول أن المجاز أولى من الاشتراك. وأما قوله: إذا لم يجعل هذا طريقا إلى كون اللفظ حقيقة، لم يبق لنا طريق أصلا. قلنا: قد بينا فساد هذا الطريق، فإن لم يكن هاهنا طريق آخر إلى الفرق بين الحقيقة والمجاز وجب أن يقال: إنه لا طريق إلى ذلك الفرق؛ لأن ما ظهر فساده لا يصير صحيحا لأجل فساد غيره. قوله- ثانيا-: إما أن تعرف بالضرورة أو بالدليل، والضرورة باطلة، لوقوع الخلاف فيها، والدليل باطل؛ لأنا لم نجد في أدلة المخالفين ما يدل عليه. قلنا: الضرورة لا ينكرها الجمع العظيم من (العقلاء، وقد ينكرها النفر اليسير، ولا نسلم أن الجمع العظيم من) أهل اللغة نازعوا في أن لفظ (الكل) و (أي) للعموم. سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم أ، هـ لم يوجد ما يدل على أنها مجاز في الخصوص. قوله: نظرنا في أدلة المخالفين فلم نجد فيها ما يدل على ذلك.

قلنا: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فكم من حصل عنده علم ضروري بالتواتر، وبالنظر لم يطلع عليه غيره. واعلم أن الشريف المرتضى عول على هذه الطريقة، ومن تأمل كلامه فيها علم أنه في أكثر أمره يدل على المطالبة بالدلالة على كون هذه الصيغة مجازا في الخصوص، مع أنه شرع فيها شروع المستدل على كونها حقيقة في الاستغراق والخصوص. وعن الثالث: لا نسلم أن حسن الاستفهام لا يكون إلا عند الاشتراك، فما الدليل عليه؟ ثم الذي يدل على أنه قد يكون لغيره وجهان: الأول: أنه لو كان حسن الاستفهام لأجل الاشتراك لوجب ألا يحسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع/ الأقسام الممكنة على سبيل التفصيل، كما تقرر فيما تقدم: الثاني: أن الاستفهام قد يجاب عنه بذكر ما وقع الاستفهام عنه، كما لو قال القائل: ضربت القاضي، فيقال له: أضربت القاضي؟ فيقول: نعم ضربت القاضي، ولاشك في حسن هذا الاستفهام في العرف، مع أنه لا اشتراك ولا إجمال، وكذلك يقع في النصوص الصريحة، كمن قال: أكلت البارحة مائة رغيف، فيقال له: مائة رغيف؟ لاستغراق هذه المقالة،

وكذلك تكون لفرط الشغف بالمعنى، كمن قيل له: قد قدم ولدك من الهند، فيقول: أقدم ولدي؟ أو لكراهة المعنى، كمن قيل له: إن عدوك قدم البلد، فيقول: أقدم ذلك الملعون المبغض؟ والاستفهام يحسن في العرف لأسباب كثيرة غير الاشتراك، فإذا ثبت هذا فنقول: الاستفهام إما أن يقع عن كلام من (يجوز عليه السهو، أو عن كلام من لا يجوز عليه) ذلك. أما القسم الأول، فيحسن الاستفهام لوجوه غير ما تقدم ذكره: أحدها: أن السامع ظن أن المتكلم غير متحفظ في كلامه، أو هو ساه، فتستفهمه وتستثبته، حتى إن كان ساهيا زال سهوه، فأخبر عن تيقظ، وذلك يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما وقع الاستفهام عنه. وثانيها: أن السامع قد ظن لأجل أمارة أن المتكلم أخبر بكلام عام عن جماعة على سبيل المجازفة، ويكون السامع له عناية بتحقيق تلك القضية،

فتدعوه عنايته إلى الاستفهام عن ذلك الشيء، حتى يعلم السامع اهتمام المتكلم، فلا تجازف في الكلام، ولهذا قد يقول القائل: رأيت كل من في الدار، فيقال له: أرأيت زيدا فيهم؟ فيقول: نعم، فتزول التهمة، فإن اللفظ الخاص أقل إجمالا واحتمالا، وربما لا تتحقق رؤيته، فيدعوه الاستفهام إلى أن يقول: ما أتحقق رؤيته. وثالثها: أن يستفهم طلبا لقوة الظن. ورابعها: أن يجد قرينة تقتضي تخصيص ذلك العام، مثل أن تقول: ضربت كل من في الدار، وكان فيها/ الوزير، فغلب على الظن أنه ما ضربه، فإذا حصل التعارض استفهمه ليقع الجواب عنه بلفظ خاص لا يحتمل التخصيص. وأما إن كان المتكلم لا يحتمل حاله السهو، ولا يجوز عليه، فإنه يحسن الاستفهام؛ ليحصل لفظ خاص بعد الاستفهام؛ لأن دلالة اللفظ الخاص أقوى من دلالة العام، فيطلب الخاص بعد العام، لتلك القوة. والجواب عن الرابع: من حيث المعارضة، ومن حيث التحقيق. أما المعارضة فمن ثلاثة أوجه: أحدها: تأكيد الخصوص كقولهم: جاء زيد نفسه.

وثانيها: تأكيد ألفاظ العدد كقوله تعالى: {تلك عشرة كاملة}. وثالثها: أن التأكيد يقويه ما كان حاصلا، فلو كان الحاصل هو الاشتراك، لتأكد ذلك الاشتراك بهذا التأكيد. فإن قلت: التأكيد يعين اللفظ لأحد مفهوميه. قلت: فعلى هذا لا يكون تأكيدا، بل بيانا، مع أن التأكيد من شرطه أن (لا) يجدد معنى غير التقوية. وأما الجواب من حيث التحقيق، فإن المتكلم إما أن يجوز عليه السهو، أو لا يجوز فإن جاز كان حسن التأكيد لوجوه: أحدها: أن السامع إذا سمع اللفظ بدون التأكيد جوز مجازفة المتكلم، فإذا أكده صار ذلك التجويز أبعد. وثانيها: أنه ربما حصل ها هنا ما يقتضي تخصيص العام، فإذا اقترن به التأكيد كان احتمال التخصيص أبعد. وثالثها: تقوية بعض ألفاظ العموم ببعض. وأما أن لم يجز السهو على المتكلم لم يبق للتأكيد فائدة إلا تقوية الظن وتشريف المخاطب بكثرة اللفظ والمخاطبة معه، وتكثير الأجور على تلاوة تلك الألفاظ. والجواب عن الخامس: وهو سؤال الاستثناء، أنه منقوض بألفاظ العدد، فإنها صريحة في ذلك العدد المخصوص، ثم يتطرق الاستثناء إليها.

قاعدة: ما لا يستقل بنفسه من الكلام إذا اتصل بما يستقل بنفسه

ثم الفرق بينهما ذكروه من الصورتين وبين العموم، أن الاستثناء إذا اتصل بالكلام صار جزءا من الكلام؛ لأنه/ لا يستعمل بنفسه في الإفادة، فيجب تعليقه بما تقدم عليه، فإذا علقناه به صار جزءا من الكلام، فتصير الجملة شيئا واحدا مفيدا فائدة ما عدا ذلك المستثنى؛ لأن القاعدة العربية: أن ما لا يستقل من الكلام بنفسه كالاستثناء، والشرط، والغاية، والصفة، والتمييز، والحال، ونحوها، إذا اتصل بما يستقل بنفسه، صار ما هو مستقل بنفسه غير مستقل بنفسه، وصار المجموع كلاما واحدا، وعلى هذه القاعدة مسائل كثيرة من الفقهيات، والأصول، واللغة، وهذا بخلا: ضربت كل من في الدار، لم أضرب كل من في الدار؛ لأنه يتناول كل واحد من الكلامين مستقلا بنفسه، فلا حاجة به إلى تعليقه بما تقدم عليه، وإذا لم يعلق به أفاد الأول ضرب جميع من في الدار، وأفاد الآخر نفي ذلك، فكان نقضا وتناقضا وإبطالا لجملة الكلام، فكان هذرا من القول وعبثا لا يليق بالعقلاء. وأما الصورة الثانية التي ذكروها، فنطالبهم بالجامع، ثم إن سلمنا فرقا بأن الاستثناء إخراج جزء من كل، فإذا قال: ضربت زيدا، ضربت عمرا إلا زيدا، فقد أخرج جملة منصوص عليه، مدلول عليه بالمطابقة، فهو استثناء كل (من كل) نحو قوله: له عندي عشرة إلا عشرة، وذلك باطل اتفاقا، بخلاف قوله: رأيت الرجال إلا زيدا، فإنه لم يخرج جملة منطوق به، بل بعضه، وذلك حسن لغة.

وأما قوله: إن صيغة العموم تجري مجرى تعديد الأشخاص، فممنوع؛ لأن تعديد الأشخاص يكون كل لفظ منها يدل على شخص مطابقة، فإذا أخرجه أخرج جملة منطوق به، وفي العموم: دلالة الفظ على الشخص المخرج ليس مطابقة، فانتفى المحذور، وظهر الفرق. والجواب عن السادس: أن الدليل إذا دل على العموم كان (ذلك) الدليل بعينه دالا على أن صيغة العموم مع (كل) مؤكدة، ومع لفظ (البعض) مخصصة، والتخصيص والتأكيد حسن لغة إذا دل عليه الدليل. وعن السابع: أن/ أهل اللغة اتفقوا على أن قول العرب (منون) ليس جمعا، وإنما هو إشباع للحركة؛ لأجل الحكاية لما وقع في لفظ المتكلم كقوله: جاءني رجال، فيقول المستفهم له- وهو يحكي كلامه المرفوع المجموع (منون) بسكون النون والوقف ولا يجوز ذلك في الوصل، وقد تقدم بسطه في باب (سرد) صيغ العموم واستيفاء أقسامها. وعن الثامن: أن ما قدمنا من الأدلة على أنه للعموم يقتضي أنه مجاز في الخصوص، وإذا دل الدليل على المجاز وجب قبوله، ثم تؤكد تلك الأدلة بما ذكره ها هنا من الدلالة على أنه للعموم وهو أن الأنصار لما طلبوا

الجمع المعرف بلام الجنس يفيد الاستغراق

الإمامة احتج عليهم الصديق رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: (الأئمة من قريش)، والأنصار سلموا تلك الحجة، ولو لم يكن الجمع المعرف بلام الجنس يفيد الاستغراق لما صحت الدلالة؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (الأئمة من قريش)، لو كان معناه: بعض الأئمة من قريش، لوجب ألا ينافي وجود أئمة من قوم آخرين. أما كون كل الأئمة من قريش، فينافي كون بعض الأئمة من غيرهم، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما هم بقتال مانعي الزكاة: أليس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) احتج عليه بعموم اللفظ، ثم لم يقل أبو بكر ولا أحد من الصاحبة- رضي الله عنهم- أن اللفظ لا يفيد العموم، بل عدل إلى الاستثناء فقال: أليس قد قال عليه الصلاة والسلام (إلا بحقها) وأن الزكاة من حقها. فائدة: قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا بحقها)، مشكل المعنى، فإن

فائدة: الاستثناء من الإثبات نفي

الاستثناء من الإثبات نفي، والمتقدم قبل الإثبات وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (عصموا مني دماءهم وأموالهم)، فقوله بعد ذلك: (إلا بحقها) يقتضي نفي العصمة، وكيف يفهم أن العصمة في الدماء والأموال تنفي الحق، وإنما يناسب انتفاء العصمة ارتكاب الباطل إلا الحق. وتحرير الجواب أن ها هنا/ (مضافا) محذوفا، وهو يتصور أن يكون مقدرا قبل لفظ الحق وبعده، وتختلف صفة التقدير، فإن قدرناه قبل الحق، يكون التقدير، إلا بتضييع حقها، وتضييع حق الشهادة يناسب نفي العصمة، وإن قدرناه بعد الحق يكون التقدير: إلا بحق إراقتها، وحق إراقتها هو السبب المبيح لها، وعلى هذا يكون الضمير عائدا على الأموال والدماء، فإنها هي التي تراق، وأحسن من ذلك أن نقدر: إلا بحق إباحتها، حتى يتناول الدماء والأموال، فإن الإراقة لا تناسب الأموال، والأحسن أن يكون التقدير يناسبهما. وعلى التقدير الأول وهو تقدير المضاف قبل (الحق) يكون الضمير عائدا إلى الكلمة التي هي الشهادة؛ لأنها صاحبة الحقوق التي يترتب عليها الحقوق، فقد ينوع التقدير بنوع ما يعود الضمير عليه، وعلى كل تقدير يصير المعنى مفهوما، فتأمل ذلك فهو حسن في علم النحو وتصحيح الكلام. ثم نرجع إلى الاستدلال فنقول: إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي

الاستغراق عند أبي هاشم، فيجب أن يكون الاستغراق إما أنه يؤكد بما يوافق على أنه للاستغراق فكقوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} وإما أن يؤكد بما يقتضي الاستغراق؛ فلأن شأن التأكد أن يقوي ما كان قبله، ولا ينشئ زيادة، وأن يكون الثابت بعده ثابتا قبله، غير أنه أقوى وأبعد عن المجاز، ولما كان الثابت بعده هو الاستغراق وجب أن يكون ثابتا قبله، وهو المطلوب. وأيضا إن الألف واللام إذا دخلا على الاسم صار اسما معرفة بإجماع النحاة والذي صار معرفة ها هنا ليس الجنس؛ لأنه معروف من الاسم النكرة، وليس مرتبته معينة من العدد؛ لأنها محولة للسامعين بعدم اختصاص اللفظ بمرتبة معينة من الخصوص؛ ولأنه يلزم الترجيح من غير مرجح، أما لو حملناه على الاستغراق لكان معروفا، ولا يلزم الترجيح من غير مرجح، فيفيد الاستغراق، وهو/ المطلوب.

دلالة الجمع المعرف على الكثرة أكثر من دلالة النكرة عليها

وأيضا نحن نفهم أن الجمع المعرف في اقتضاء الكثرة فوق النكرة؛ لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف، ولا ينعكس، فيقال: (رجال) من الرجال، فيكون كلاما عربيا، ولا يقال: (الرجال) من رجال، فإن ذلك مستقبح عرفا، فوجب أن يكون مستقبحا لغة؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير، ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع. إذا ثبت هذا فنقول: (إن) المفهوم من الجمع المعرف إما الكل أو ما دونه والثاني باطل؛ لأنه ما من عدة وراء الكل إلا ويصح انتزاعه من الجمع المعرف، وقد عرفت أن المنتزع منه أكثر، ولما بطل ذلك ثبت أنه للعموم والاستغراق، وهو المطلوب، فبهذه الوجوه يحسن أنه مجاز في الخصوص. والجواب عن التاسع: أن ذلك لا يكون خطأ، بل الأول وهو قولنا: كل الناس، تأكيد، والثاني تخصيص، وكلاهما وإن كانا على خلاف الأصل غير أن ما تقدم من الأدلة دل عليه ما تقدم في استعماله في الخصوص. وعن العاشر: أنه عام مخصوص بقرينة الحال، وأنه يتعذر عليه أن

العرب تشترط في التأكيد والنعت المناسبة اللفظية

يجمع جميع صواغ الوجود، وغايته أنه يلزم المجاز، وقد بينا أن الدليل دل عليه. وعن الحادي عشر: أن قوله: لبست الثوب ونحوه مجاز، وقد دل الدليل عليه، وهو أنه لو لم يكن للعموم لما صح الاستثناء في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر إلا الذين} لكنه صح، فيكون للعموم؛ لأن الاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه، وذلك يدل على أن ما استثنى لو لم يستثن لكان مندرجا، واتفقنا على أن المستثنى عموم؛ لأن صيغة (الذين) للعموم عنده، وما يندرج فيه العموم أولى أن يكون للعموم؛ ولأن الألف واللام فيه للتعريف، وليس لتعريف الماهية فإن ذلك قد حصل بالاسم قبل اللام، ولا لتعريف واحد بعينه، فإن اللفظ لا يشعر به إلا عند العهد، ولا/ عهد بيننا، ثم الكلام مفروض إذا لم يكن هنالك عهد، ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص، لقصور اللفظ عنه، فتعين صرف التعريف إلى الكل، وهو المطلوب. وعن الثاني عشر: أن العرب تشترط في التأكيد والنعت المناسبة اللفظية 0 وإن استوى المعنى- فلا يؤكد ولا ينعت مفرد بتثنية، ولا تثنية بمفرد،

ولا جمع بتثنية، إلى غير ذلك من الاختلاف، بل المفرد للمفرد، والتثنية للتثنية، والجمع للجمع، فلذلك لا يقال: جاءني الرجل (القصار)، ولا الفقيه الفضلاء، لعدم المناسبة في اللفظ، وأن المعنى فيهما واحد، وكذلك نعلم أن قولهم: أهلك الناس الدرهم البيض، والدينار الصفر مجاز في التركيب، فإن الجمع ركب من غير اللفظ الذي يصلح له في أصل الوضع. وعن الثالث عشر: أن قوله: البيع جزء من مفهوم (هذا البيع)، إن أراد بالبيع الذي هو جزء، مطلق البيع، الذي يصدق بفرد، من جهة أنه جنس، وهذا هو الظاهر من كلامه؛ لأن المفهوم إشارة إلى المعنى، لا اللفظ، فحينئذ يبطل قوله أخيرا أنه يلزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع، فإن المطلق لا يلزم منه كل فرد، بل فرد واحد فقط، وإن أراد بقوله: البيع جزء من مفهوم هذا البيع اللفظ المحلي بلام الجنس، أي هذا اللفظ جزء من مجموع هذا اللفظ، وحينئذ يبطل أيضا قوله: إنه يلزم من إحلال هذا البيع إحلال كل بيع؛ لأن القضاء على المجموع لا يلزم منه القضاء على جزئية، بل الصواب ها هنا له أن يقول: إن لفظ البيع الذي يدعون فيه العموم موجود في هذا المركب، فإما أن يثبت له حكمه على العموم أو لا، والأول يلزم منه أن يكون إحلال هذا البيع يلزم منه إحلال كل بيع عملا بالعموم، والثاني وهو ألا يثبت له حكم العموم، يلزم وجود الدليل بدون المدلول وهو بعض الدليل على خلاف الأصل، ويكون حينئذ ترك هذا الدليل مضافا إلى هذه الضميمة وهي

تنبيه: قال الجبائي: الجمع المنكر للعموم

قولنا هذا فيلزم/ التعارض، وهو على خلاف الأصل، وحينئذ يكون جوابه أن الصيغة تكون مجازا في هذه الصورة؛ لأجل هذه الضميمة وهي قولنا هذا، وهو مجاز، دل عليه ما تقدم من الأدلة على أن هذه الصيغة للعموم. تنبيه: وأما قوله الجبائي: إن الجمع المنكر للعموم، فقد استدل عليه بأن حمله على الاستغراق حمل له على كل حقائقه. وجوابه: أن مسمى هذا الجمع إنما هو الثلاثة أو الاثنان على الخلاف على أقل الجمع، فهو يفيده من غير بيان للزائد عليه، ولا شك أنه قدر مشترك بين الثلاثة والأربعة والخمسة وهلم جرا، واللفظ الدال على (ما به) الاشتراك غير دال على (ما به) الامتياز، ولا على نوع من أنواعه، فضلا عن أن يكون حقيقة في جميعها، فبطل قوله: إنه حمل له على كل حقائقه. ويؤكد ذلك أن الجمع المنكر يمكن نعته بأي عدد شئنا، فيقال: رجال ثلاثة وأربعة وخمسة إلى غير ذلك من مراتب العدد، فمفهوم قولك: رجال، يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام، فيكون مغايرا لكل واحد من تلك الأقسام، وغير مستلزم لها، واللفظ الدال على ذلك المورد لا يكون له إشعار بتلك الأقسام، فلا يكون دالا عليها، وأما الثلاثة فيدل عليها؛ لأنها من ضرورة المسمى الذي هو القدر المشترك؛ لأنها أدنى الرتب على الخلاف في أقل الجمع ما هو؟

مسألة: إذا قال الله تعالى: "يا أيها النبي" هل يتناول الأمة؟

مسألة: إذا قال الله تعالى: {يا أيها النبي}، لا يتناول الأمة، وقال قوم: يتناولهم، بمعنى ما ثبت في حقه عليه الصلاة والسلام يثبت في حقهم، إلا ما دل الدليل على أنه من خواصه عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء إن زعموا أنه مستفاد من اللفظ فهو جهالة، وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وما يجري مجراه فهو خروج عن هذه المسألة. وكذلك القول إذا كان الخطاب لا يتناول إلا الأمة لا يتناول النبي عليه الصلاة والسلام من حيث اللفظ، بل بدليل خارج كما تقدم. مسألة: / قال أصحابنا وأصحاب الشافعي رضي الله عنهم أجمعين: إن الفعل في سياق النفي يعم، نص عليه القاضي عبد الوهاب في كتاب

قول منكري العموم أن الفعل في سياق النفي لا يعم

الإفادة، ونص عليه غيره أيضا، ومنكروا العموم ينكرون ذلك. لنا: قوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى} لا يفهم منه إلا نفي جميع مصادر هذين الفعلين، لأن نفي الفعل نفي لمصدره، وكذلك قول القائل: لا أبيع هذه السلعة، أو: لا أطلق هذه المرأة، لا يفهم منه إلا نفي أفراد هذا الجنس من البيع أو الطلاق، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فوجب أن يكون نفي الفعل حقيقة في عموم نفي جميع المصادر، وهو المطلوب. احتجوا: بأن جعله للعموم في نفي المصادر إنما هو قياس على التصريح بنفي المصدر، فإذا قال: لا أجلس، مثل قوله: لا جلوس، نكرة في سياق النفي تعم، فكذلك ها هنا، فهو من باب قياس نفي الفعل على نفي المصدر المنكر، والقياس في اللغة ممنوع. والجواب: أنا لا نسلم أن القياس ممنوع في اللغة، فقد قال جماعة من الأصوليين والأدباء: إنه هو الصحيح. سلمناه، ولكن لا ندعي أنه قياس، بل اللفظ موضوع لذلك بنفسه؛ لأنه المتبادر منه كسائر صيغ العموم. مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول: (المشهور من قول فقهائنا

مسألة: في نحو من قال: "والله لا آكل" هل يعم جميع المأكولات؟

أنه إذا قال: والله لا آكل، فإنه يعم جميع المأكولات، والعام يقبل التخصيص، فلو نوى مأكولا دون كأكول صحت نيته، وهو قول أبي يوسف، وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه أجمعين- أنه لا يقبل التخصيص، وقال الغزالي في المستصفى: الفعل الذي له مفاعيل هل يعم مفاعيله أم لا؟ حكى الخلاف في ذلك، فهذه المسألة خاصة بالأفعال المتعدية، فيعم نفي المصادر والمفاعيل، فيعم من وجهين، والتي قبلها لا تختص بالفعل المتعدي، بل تعم القسمين، فإن كان الفعل قاصرا عم المصادر، ومتعديا، عم القسمين المصادر والمفاعيل. احتج أبو حنيفة (رحمه الله تعالى) أن العموم لو ثبت لثبت إما في

الملفوظ أو في غيره، والقسمان باطلان، فالقول/ بالعموم، وقبول نية التخصيص باطل، أما الملفوظ، فلأن الملفوظ به ماهية الأكل، وماهية الأكل واحدة؛ لأنها قدر مشترك بين أكل هذا الطعام وذلك الطعام، (وما به) الاشتراك غير [ما به] الامتياز، وغير مستلزم له، فالأكل من حيث كونه أكلا مغاير لقيد كونه هذا الأكل وذلك، وغير مستلزم له، والمذكور إنما هو الأكل من حيث هو أكل، وهو بهذا الاعتبار ماهية واحدة، والماهية من حيث إنها هي [لا تقبل] العدد، فلا [تقبل] التعميم ولا التخصيص، بل الماهية إذا اقترنت بها العوارض الخارجية حتى صارت هذا أو ذاك (تعددت)، حينئذ تصير عامة وقابلة للتخصيص، ولكنها قبل تلك العوارض لا تكون متعددة ولا تقبل التخصيص، فالحاصل أن الملفوظ به الماهية ليس إلا، وهي غير قابلة له، وإذا أخذ بقيود زائدة عليها (تعددت) وحينئذ يحصل التعميم وقبول التخصيص، ولكن تلك [الزوايد] غير ملفوظة، فالمجموع الحاصل من الماهية ومنها غير ملفوظ، فيكون العموم وقبول التخصيص إنما هو في غير ملفوظ، وهذا هو القسم الثاني. فنقول: هذا القسم- وإن كان ثبوت هذه الأحكام جائزة فيه عقلا- إلا أن الدليل الشرعي منع منه، وهو: أن إضافة ماهية (الأكل) إلى الخبز تارة وإلى اللحم أخرى إضافات تعرض له بحسب اختلاف المفعول (به)، وإضافتها

إلى هذا اليوم، وهذا الموضع، وذاك إضافات لها بحسب اختلاف المفعول فيه، وقد أجمعنا على عدم العموم وعدم قبول التخصيص بالمكان والزمان، وأنه لو نوى زمانا معينا، أو مكانا معينا لم يصح ذلك، فكذلك المفعول به، والجامع أن كل واحد منهما متعلق الفعل، أو (الجامع) الاحتياط في تعظيم اليمين. الثاني: قالت الحنفية: قاعدة أبي حنيفة (رحمه الله): أن النية لا تؤثر إلا في ملفوظ نحو قوله: والله لا كلمت رجلا، أو: لا لبست ثوبا، فماهية الرجل والثوب ملفوظ بهما مدلول عليهما مطابقة، فيصح أن ينوي بعض الرجال أو الثياب إجماعا، أما ما كان مدلولا/ عليه بطريق الالتزام فلا تدخله النية، ولا تؤثر فيه كالمفاعيل إذا اقتصر على ذكر الفعل خاصة، فإنها مدلول عليها التزاما؛ لأن الفعل من لوازمه الزمان والمكان والفاعل وكذلك المفعول إن كان متعديا. والجواب عن الأول: أن الماهيات- ماهية الأكل وغيرها- لها حالتان: تارة تكون في سياق الإثبات نحو: في الدار رجل، ولآكلن، ونحو ذلك، وتارة تكون في سياق النفي. أما الحالة الأولى: فهو- كما قال أبو حنيفة- لا عموم فيها،

وتكون مطلقة لا يعرض لها العدد والعموم إلا بحسب القيود والشخصيات. أما الحالة الثانية: فإن العموم حاصل بنفس اللفظ، وتكون الدلالة عليه مطابقة، فإنه يلزم من نفي المشترك نفي جميع أفراده عند الحنفية، واللفظ عندنا موضوع للقضاء للنفي على كل فرد فرد. فالدلالة عندهم التزاما، وعندنا مطابقة. وقد تقدم بسط ذلك سؤالا، وجوابا في نفي الكل، وعلى التقديرين العموم حاصل. وكذلك النهي كالنفي فإن النهي أمر بإعدام تلك الماهية، ولن تعدم تلك الماهية وفرد من أفرادها موجود، لاستلزام ذلك الفرد الماهية المشتركة لوجوب حصول الأعم في جميع أفراد الأخص، ومسألتنا: الماهية في سياق النفي، فيكون العموم حاصلا، فلا يتم كلامه، وإنما يتم (أن) لو كان الكلام في سياق الإثبات. وعن الثاني: أن التحكم في هذه القاعدة لا دليل عليه، لا لغة ولا شرعا، ولم لا تكون النية معتبرة إلا في دلالة المطابقة، وأن ذلك ممتنع في دلالة الالتزام! بل قوله عليه الصلاة والسلام: (الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) يقتضي اعتبار النية مطلقا؛ لأن ما نوى أعم من المدلول مطابقة أو التزاما، هذا من جهة الشرع.

وأما من جهة المعقول: فلأن المدلول المطابقي أقوى من المدلول التزاما، والمقتضى لثبوت الحكم فيه أرجح من المقتضى لثبوت الحكم في المدلول/ التزاما، فإذا جوزنا في النية أن نصرف اللفظ عما دلت عليه مطابقة مع قوة الدلالة على ثبوت الحكم هنالك، فأولى أن نصرفه عما دلت عليه التزاما بطريق الأولى، لضعف الدلالة، ولأن النية صفة مخصصة لأحد طرفي الجائز على الآخر، وهذا (هو) حكم ثابت لها لذاتها، فمن ادعى تأخر ذلك عنها في صورة من الصور فعليه الدليل، فإن الأصل بقاء أحكام المعاني والصفات على ما هي عليه. وأما قولهم: (إن الأمور الخارجية من المفعول به يقاس على المفعول فيه) فهو باطل من وجهين. الأول: أنا نمنع الحكم في الأصل، فإن عندنا وعند الشافعية يجوز دخول التخصيص في الأزمنة والبقاع، وله أن ينوي زمانا معينا، وبقعة معينة، ويلغي غيرها في حكم يمينه، وما عملت في ذلك خلافا في المذهبين. سلمنا امتناع الحكم في الظرفين، والفرق: أن الظرفين لازمين للفعل قطعا، لتعذر حصول الفعل لا في زمان ولا في مكان، أما المفعول به فقد يوجد مع الفعل إن كان متعديا، ولا يوجد إن كان قاصرا، حينئذ المفعول به

إنما يلزم النوع، والظرفان يلزمان الجنس، ولازم الجنس أقوى من اللزوم من لازم النوع؛ لأنه لازم للنوع أيضا، وإذا كان المفعول فيه أقوى في اللزوم كان التقاضي له أشد، فصرفه بالنية (يكون) أبعد، فهذا فرق يبطل به ما ذكره من القياس. ثم ينتقض جميع ما ذكروه بما وقع الاتفاق عليه، وهو ما إذا قال: والله لا أكلت أكلا، أنه يصح دخول نية التخصيص فيه، مع أن (أكلا) مصدر، والمصدر إنما يذكر مع الفعل مؤكدا له؛ لأنه مذكور أولا بلفظ الفعل، وشأن المؤكد إنما يثبت معه يكون ثابتا قبله، وإذا ثبت معه جواز التخصيص بالنية اتفاقا وجب أن يكون ذلك قبله، فقد انتقض ما ذكروه من الدليل بهذه الصورة. وأجاب الإمام فخر الدين عن هذا النقض بأن قوله: (أكلا) - في الحقيقة- ليس مصدرا؛ لأنه يفيد أكلا/ واحدا منكرا، والمصدر ماهية الأكل، وقيد كونه منكرا خارج عن الماهية، والذي يكون معينا في نفسه، لكن الإنسان ما عينه، فلاشك أنه قابل للتعيين، فإن نوي التعيين فقد نوى ما يحتمله الملفوظ. قلت: وهذا الجواب ضعيف، فإن النحاة أجمعوا على أنه مصدر، وقوله: (ليس مصدرا في الحقيقة) يشير إلى أنه أراد به مفعولا به، وهذا خلاف نص النحاة، وخلاف الظاهر، بل هذا مصدر مؤكدا ليس إلا، والمفعول به ليس

ملفوظا به ألبتة، ولا فردا من أفراده، ويحصل من ذلك أن ما قاس عليه الشافعي والمالكي وهو النطق بالمصدر قياس صحيح، وما قاس عليه الحنفي وهو ظرف الزمان والمكان ليس بصحيح؛ لأن الحكم (فيه ليس) بثابت عند المنازع، فيتجه مذهب الجماعة أكثر من مذهب أبي حنيفة، رحمة الله عليهم أجمعين. قلت: والذي عندي في هذه المسألة أن الفعل المذكور عام في أفراد المصادر، مطلق في المفاعيل، وقد تقدمت قاعدة وهي: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، والمفاعيل من جملة المتعلقات، فيكون اللفظ مطلقا فيها، وشأن المطلق أن يتأدى حمله بكل فرد منه، ما لم يلحقه التقييد كما لو قال: والله لأكرمن رجلا، أو: لأعتقن رقبة، فإنه يخرج من العهدة بأي رجل كان، وأي رقبة كانت، فإن نوى في يمينه رجلا معينا، أو رقبة معينة، اختص الحكم بها دون غيرها. هذا هو شأن المطلقات، وكذلك هاهنا متعلق قوله: (لا آكل) مطلق، فإن لم يكن له نية حنث بأي مأكول أكله، فإن نوى مأكولا معينا لم يحنث بغيره، وتكون هذه النية مقيدة لهذا المطلق، فإنه ينوي لحما و (مأكول) مطلق وتعيينه في اللحم تقييد له، كتقييد الرقبة بالإيمان، فعلى هذا تكون هذه المسألة مع الحنفية في تقييد المطلق هل يجوز في غير الملفوظ فيما دل اللفظ عليه التزاما أم لا؟ وليست في أن اللفظ عام/ أم لا؟ ويكون التقدير والجواب ما تقدم.

فائدة: الفرق بين مسألة: "والله لا آكل" وبين "المقتضي لا عموم له"

فائدة: ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولنا: المقتضى لا عموم له، فإن الغزالي قال في المستصفى: الحنفية يقولون: هذه المسألة من باب الاقتضاء، لا عموم فيها، فإذا قال: أنت طالق، ونوى عددا، لا يلزمه العدد، قال: وليس هذا من باب الاقتضاء؛ لأن الاقتضاء هو الذي يضمن التصديق نحو: (رفع عن أمتي الخطأ) والفعل المتعدي يدل على

مسألة: هل يتناول خطاب التذكير النساء؟

مفعوله، وليس البعض أولى من البعض، فيعم بدلالة اللفظ، لا لأجل التصديق. قلت: وقول الغزالي هذا ليس بلازم، لأنه إذا لم يكن البعض أولى من البعض اقتصرنا على مفعول واحد، وهو ما دل اللفظ عليه التزاما، كسائر المطلقات، فإنا لا نعممها، مع أنه ليس البعض أولى من البعض. مسألة: أطلق القاضي عبد الوهاب المالكي في كتاب الإفادة القول بأن خطاب التذكير يتناول النساء، ويكون اللفظ عاما في القسمين، وفصل الإمام فخر الدين في المحصول فقال: إن اختص الجمع بالذكور كالرجال، أو اختص بالمؤنث كالنساء، فهذا لا يتناول فيه اللفظ المختص بأحد الفريقين الآخر، وإن لم يختص فهو على قسمين: أحدهما: ألا يبين فيه تذكير ولا تأنيث كلفظ (من)، فهذا يتناول الرجال والنساء، ومنهم من أنكر تناوله للنساء. لنا: انعقاد الإجماع أنه إذا قال: من دخل داري من أرقائي فهو حر، فهذا لا يختص بالعبيد، بل يعتق الداخل من الرجال والنساء، وكذلك إذا أوصى بهذه الصيغة كقوله: أعتقوا من (في) ملكي، أو ربط بها توكيلا كقوله:

وكلتك أن تعتق من في ملكي أو تبيعه، فإنه يصح منه بيع الرجال والنساء. احتجوا: بأن العرب إذا قصدت التأنيث في (من) أنثت، فتقول: من، منة، منتان، منات، منان، منون، فدل ذلك على أن اللفظ لا يتناول المؤنث إلا بعلامة التأنيث. والجواب: أن العرب لا تقصد بهذا أصل الكلام، إنما تأتي به في الحكاية خاصة، ليحصل الشبه بين كلام الحاكي وبين كلام المخبر، فإذا قال القائل: جاءني امرأة، يقول المستفهم: منة؟ للمحاكاة، لا لأن اللفظ/ لا يتناول المؤنث، وإذا وصلت الكلام تقول: من يا فتى، في المذكر والمؤنث فدل على أن اللفظ يتناول المؤنث. وإن تبين فيه علامة تذكير أو تأنيث اختص، كلفظ الفعل فإنك تقول فيه: قام ثم تخصصه بالتأنيث فتقول: قمن، ولا يتناول الذكور، أو: قاموا، فلا يتناول النساء. وهذا تفصيل حسن، وقد زدته بعض عبارة زائدة على لفظ المحصول للبيان. ثم قال: واتفقوا في هذا القسم على أن خطاب الإناث لا يتناول الذكور، واختلفوا في أن خطاب الذكور هل يتناول الإناث أو لا؟ قال: والحق أنه لا يتناول؛ لأن الجميع تضعيف الواحد (وقولنا: قام، الذي هو تضعيف، لا يتناول المؤنث اتفاقا).

فقولنا: قاموا، الذي هو تضعيف الواحد، لا يتناول المؤنث. احتجوا: بأن أهل اللغة قالوا: إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر على المؤنث، فدل ذلك على أن لفظ التذكير يتناول التأنيث. والجواب: ليس المراد ما ذكرتموه، بل المراد أنه متى أريد أن يعبر عن الفريقين بعبارة واحدة كان الجواب أن يذكر لفظ التذكير كقولنا: زيد والهندات قاموا، ولا تقول: قمن، لأجل زيد المذكر، والكلام في هذه المسألة في أصل وضع اللغة وما يقتضيه، لا ما ينشأ عن قصد المتكلم؛ لأنه أمر عارض بعد الوضع، متكرر في كل زمان بحسب إرادات اللافظين، فأين أحدهما من الآخر. مسألة: قال الإمام فخر الدين: إذا لم يكن إجراء الكلام على ظاهره إلا بإضمار شيء فيه- ثم هنالك (أمور) كثيرة يستقيم الكلام (بإضمار أيها) كان- لم يجز جميعها، وهذا المراد من قول الفقهاء: (المقتضى لا عموم له) كقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ) فهذا الكلام لا يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأن الخطأ واقع، والواقع يستحيل رفعه، بلا لابد وأن يقول: رفع عن أمتي حكم الخطأ، ثم ذلك الحكم قد يكون في

تنبيه: دلالة الاقتضاء أصل لمسألة المقتضى لا عموم له

الدنيا وهو وجوب الضمان، وقد يكون في الآخرة وهو التأثيم. فنقول: إنه لا يجوز إضمارهما معا؛ لأن الدليل ينفي الإضمار، خالفناه في الحكم الواحد، لأجل الضرورة، ولا/ ضرورة في غيره: فيبقى على الأصل. وللمخالف أن يقول: ليس إضمار أحد الحكمين أولى من الآخر. فإما أن لا تضمر حكما أصلا- وهو غير جاز، أو يضمر الكل- وهو المطلوب. قلت: هذا المقام يتعين التفصيل فيه، فنقول: إن كان كل حكم يضمر يحتاج له لفظ يخصه، فلاشك أن تكثر الألفاظ المضمرة خلاف الأصل. وإن كان جميع الأحكام يعمها لفظ، والحكم الواحد لابد له من لفظ، فعلى هذا، التردد إنما هو بين إضمار لفظ عام أو إضمار لفظ خاص، وحينئذ إن إضمار اللفظ العام خلاف الأصل، فإن العام مرجوح بالنسبة إلى اللفظ الخاص، فإن الجميع اشتركا في مخالفة الأصل، وامتاز اللفظ العام الشامل بزيادة الفائدة، فوجب تقديمه؛ لأن المحذور هو كثرة اللفظ المضمر، أما كثرة الفائدة في اللفظ المضمر فلا. وعلى هذا يضمر ها هنا الحكم مضافا تقديره: رفع عن أمتي حكم الخطأ، واسم الجنس إذا أضيف عم، فيعم أحكام الدنيا والآخرة، ولا يلزم تكثير مخالفة الأصل ويكون اللفظ أكثر فائدة، واجتمعت المقاصد كلها بهذا الإضمار. تنبيه: هذه المسألة هي فرع من دلالة الاقتضاء؛ لأن دلالة الاقتضاء: هي

اقتضاء معنى غير المنطوق به، يتوقف عليه التصديق والصدق في الكلام، ويكون تركيب اللفظ صحيحا في نفسه. وإذا قلنا بها، وتوقف التصديق على الإضمار لأمور، هل تضمرها كلها؟ هو هذه المسألة، فهي فرع على تلك. واعلم أنه قد يتفق في بعض المواد (أن يكون) أحد ما يمكن إضماره، راجحا بالعادة أو السياق؛ لاقتضاء خصوص ذلك الحكم له، أو بقرينة حالية أو مقالية، فلا ينبغي الخلاف في تعيينه للإضمار أو لرجحانه. وهل يمتنع إضمار غيره ينبني على هذه الإضمارات- إذا قلنا بالعموم فيها- هل هو عموم لغة أو لضرورة الحاجة؟ وقد اندفعت بالواحد. فإن قلنا بالعموم؛ لأنه مقتضى اللغة، يتعين إضافة غير الراجح للراجح؛ لأن العام لغة إذا كان بعضه أرجح من بعض، يتعين اعتبار المرجوح مع الراجح، كقوله: من دخل داري فأكرمه، ولاشك أن إكرام العلماء والأقارب أرجح من إكرام غيرهم، / ومع ذلك يتعين إكرام الجميع، لعموم اللفظ. وكذلك إذا قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}، ومعلوم أن سارق المال العظيم ليس مثل سارق المال الحقير. والسارق مع الغني والسعة ليس كالسارق مع الحاجة والضرورة. ومع ذلك فلا يعتبر

شيء من هذه الفوارق، بل يقطع الجميع. وكذلك سائر العمومات لا يعتبر فيها فارق ألبتة، بل اللفظ على عمومه حتى يرد المخصص. هذا هو قاعدة الشرائع واللغات. أما إذا قلنا: ليس في اللغة ما يقتضي العموم، فيتعين الاقتصار على الراجح؛ لاندفاع الضرورة. واعلم أن هذه المسألة بينها مشابهة، وبين الحقيقة إذا تعددت، وبقيت مجازات مستوية أو بعضها أرجح، فهل يتعين الحمل على الكل كما قاله الشافعي رضي الله عنه في المشترك إذا تجرد عن القرائن ويتعين الراجح؟ أو يبقى اللفظ مجملا حتى تأتي القرينة المميزة؟ . وينبغي أيضا أن يعلم أن القائلين بأنه لا يعم الإضمار في هذه المسألة، فكيف يصنعون إذا استوت الإضمار؟ هل يرجحون من غير مرجح

فائدة: قول الآمدي: في: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" المقصود رفع جمع الأحكام

ويضمرون بعضها تحكما من غير دليل؟ - وهو بعيد في مجال النظر- أو لا يضمرون إلا ما دل الدليل عليه وعلى تعيينه فيصير حينئذ أرجح، فلا ينبغي أن يخالفوا في ذلك؟ . فهذه كلها مواقف ينبغي للفضلاء تأملها في هذه المسألة. فائدة: قال الشيخ سيف الدين رحمه الله محتجا للخصم: بأن لفظ الرفع دال على رفع جميع الأحكام؛ لأن رفع الحقيقة مستلزم لرفع جميع أوصافها وأحكامها، تعذر العمل بهذا الرفع في (نفي) الذات- بسبب أن رفع الواقع محال- بقى مستعملا فيما عداها. هذا من حيث اللغة، ومن حيث العرف أيضا فإنه يقال: ليس للبلد سلطان ولا حاكم، وفيه حاكم ردئ أو سلطان مهمل، والمراد نفي جميع الصفات الجيدة. وأجاب عن ذلك: بأن العموم إنما نشأ عن نفي الذات، والذات لم تنتف، وانتفاء المؤثر يوجب انتفاء الأثر. وأما قول أهل العرف في الحاكم ونحوه: أن المقصود سلب صفة التدبير، وليس المقصود سلب جميع الصفات بدليل/ أن السلطان حي عالم، له صفات كثيرة لم يتعرض المتكلم لنفيها. وأجاب عن قول المخالف: ليس إضمار البعض أولى من البعض.

أن هذا إنما يلزم أن لو أضمرنا حكما ميعنا، ونحن إنما نضمر حكما ما، والتعيين إلى الشارع. وأورد على هذا الجواب سؤال الإجمال. أجاب عنه: بأن الإجمال على خلاف الأصل، والإضمار أيضا على خلاف الأصل، فيتساقطان. وكلامه هذا يقتضي أن القائلين بعدم العموم لم يعينوا شيئا معينا للإضمار إلا بدليل شرعي، وهو الصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ترك الاستفصال في حكايات الأحوال، مع قيام الاحتمال يتنزل منزلة العموم في (المقال)، مثاله: أن غيلان أسلم على شعرة نسوة، فقال عليه الصلاة والسلام: (أمسك أربعا وفارق سائرهن)، ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع والترتيب. فكان إطلاقه عليه الصلاة والسلام القول دالا على أنه لا فرق بين أن تقع تلك العقود معا أو على الترتيب. فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنما يتجه التخيير ويشرع إذا عقد عليهن عقدا واحدا حتى يحصل الاستواء، فيحسن التخيير، أما إذا كانت عقودهن مترتبة، فإن الأربعة المتقدمة موافقة للشريعة، والخامس باطل، لبطلان العقد على الخامسة والتخيير لا يكون بين الصحيح والباطل، وإنما يحسن إذا كانت

مستوية، وهي قاعدة إنما تكون بين المستويات لا بين المختلفات، ولذلك جعل العلماء التخيير بين مجهول الحكم وما عرف فيه حكم، أن حكم ذلك المجهول حكم معلوم. فالتخيير بين الواجب وغيره يدل على وجوب ذلك الغير، أو مندوب وغيره يدل على ندبية ذلك الغير، أو مباح وغيره يدل على إباحة ذلك الغير. وجعلوا ذلك طريقة لمعرفة حكم أفعاله عليه الصلاة والسلام، فيعلم بالتخيير وجه ذلك الفعل من وجوب أو غيره. وقال الشافعي وغيره: إن الأمر لو كان كما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه لما حسن إطلاق الحكم بالتخيير إلا بعد معرفة الحال في المحل المخير فيه هل يقبل ذلك الحكم أم لا؟ / لأن الإطلاق في محل يتعين فيه التفضيل لا يجوز. ولما أطلق عليه الصلاة والسلام، علمنا أن العقود لا تفصيل فيها، وهو المطلوب. وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه: إنه يتنزل منزلة العموم في المقال. وهذا النقل عن الشافعي رضي الله عنهما نقل عنه: إن حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال. وسألت بعض فضلاء الشافعية عن ذلك فقال: يحتمل أن يكون ذلك قولا

قاعدة: اللفظ إذا سيق لبيان معنى لا يحتج به في غيره

للشافعي في هذه المسألة. قلت: والحق أنه لا تناقض فيه، والكلامان حق بنيا على قاعدتين. القاعدة الأولى: أن الاحتمال تارة يكون في دليل الحكم. وتارة يكون في المحل المحكوم عليه، لا في دليله، ويكون الدليل في نفسه سالما عن ذلك. مثال ما في الدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء العشر) يحتمل أن يريد وجوب الزكاة في كل شيء حتى الخضروات كما قاله أبو حنيفة، ويكون العموم مقصودا له عليه الصلاة والسلام؛ لأنه نطق بلفظ دال عليه وهو صيغة (ما) ويحتمل أنه لم يقصده؛ لأن القاعدة: أن اللفظ إذا سيق لبيان معنى لا يحتج به في غيره، فإن داعية المتكلم منصرفة لما توجه له دون الأمور التي تغايره، وهذا الكلام إنما سبق لسان المقدار الواجب (دون بيان الواجب فيه، فلا يحتج به على العموم في الواجب) فيه. وإذا تعارض الاحتمالات سقط الاستدلال به على وجوب الزكاة في الخضروات.

هذا في الأدلة العامة. وأما في وقائع الأحوال، فكما جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره (اعتق رقبة)، فيحتمل أن يكون أمره بذلك، لكونه أفسد صومه، ويحتمل أن يكون ذلك، لكونه أفسده بالجماع، أو لكونه أفسد مجموع الصومين، كل هذه الاحتمالات مستوية بالنسبة إلى دلالة اللفظ، ولا يتعين أحدها من جهة اللفظ، بل من جهة مرجحات العلل وقوانين القياس. فهذه احتمالات في نفس الدليل، فيسقط الاستدلال به على ما الاحتمالات فيه متقاربة، /ونظائره كثيرة. ومثاله في المحل المحكوم عليه قوله تعالى: {فتحرير رقبة} هذا لفظ صريح في إيجاب إعتاق رقبة، غير أن تلك الرقبة يحتمل أن تكون بيضاء أو سوداء أو غير ذلك، والمعتق يحتمل أن يكون شيخا أو كهلا أو غير ذلك من الأحوال والاحتمالات فيعم الحكم جميع الاحتمالات، بمعنى أنها كلها قابلة لذلك الحكم؛ لأنه يتعين ثبوت الحكم في جميع تلك الموارد، فهو عام عموم الصلاحية، لا عموم الشمول، غير أنه لا يختص ببعض تلك الصور. فهذا مقصود الشافعي في أنه يتنزل منزلة العموم في المقال.

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (في أربعين شاة شاة)، ويعم أحوال الشياه من البيضاء والسوداء، فأي شاة أخرجها أجزأت، وكان الإجزاء عاما في جميع تلك الأحوال في المحكوم عليه. فتأمل هذا الفرق. فهذه المسألة حيث يكون لفظ الشارع ظاهرا أو نصا، والاحتمالات إنما هي في محل الحكم وذلك النقل الذي أفتى به رضي الله تعالى عنه بالاحتمال وعدم الاستدلال إنما هو إذا تعارضت الاحتمالات في نفس الدليل، ولاشك أن الدليل المجمل لا يثبت به حكم، وسقط الاستدلال به. ولفظ الحديث لا إجمال فيه،

مسألة: العطف على العام لا يقتضي العموم

فلذلك قال الشافعي رضي الله عنه: إنه يتنزل منزلة العموم في المقال، فهذا وجه الجمع بين القولين من غير تناقض. القاعدة الثانية: التي ينبني عليها هذا الفرق وهذه المسألة: أن مراد العلماء من تطرق الاحتمال في الدليل حتى يصير مجملا: الاحتمال المساوي أو القريب من المساواة، أما الاحتمال المرجوح فلا عبرة به، ولا يقدح في صحة الدلالة، ولا يصير اللفظ به مجملا إجماعا، فإن الظواهر كلها كذلك فيها احتمال مرجوح، ولا يقدح في دلالتها. مسألة: قال الأصوليون: العطف على العام لا يقتضي العموم؛ لأن مقتضى العطف الجمع في أصل الحكم الذي سيق الكلام لأجله (وذلك) جائز بين العام والخاص. مثاله: قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} وهذا عام في/ جميع المطلقات، لأجل لام التعريف، وقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} خاص بالرجعيات، فلا يقال: إن العطف اقتضى التعميم، والإجماع المنعقد في قصره على الرجعيان موجب لتخصيصه، وأن

مسألة: في المخاطبين في نحو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)، و (يا أيها الناس)

التعارض واقع بينهما، غير أن ها هنا قاعدة أخرى وهي: أن الضمير الذي يعود إلى ظاهر الأصل أن يكون هو نفس الظاهر، لكن الضمير في (بعولتهن) يعود على جميع المطلقات، فيكون هو أيضا يدل على أن جميع المطلقات، بعولتهن أحق بردهن، إلا أن ذلك خلاف الإجماع، فيكون الإجماع هو المانع من إجرائه على عمومه؛ لأن العموم منتف، وهذا إشكال في الآية نشأ من جهة الضمير والظاهر، لا من جهة العطف، فإن النحاة قد نصوا على أن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم، لا في أربعة: (ظرف الزمان)، وظرف المكان، والمتعلقات، والأحوال، فالزمان، كقولك: أكرمت زيدا يوم الجمعة وعمرا، لا يلزم أنك أكرمته (يوم الجمعة، وظرف المكان، كقوله: أكرمت زيدا مسرورا وعمرا لا يلزم أنك أكرمته) مسرورا، والمتعلقات، نحو قولك: اشتريت هذا الثوب بدرهم والفرس، لا يلزم أنك اشتريته أيضا بدرهم. والعموم والخصوص ونحوهما من المتعلقات، فإنها من المدلولات، والمدلول هو متعلق اللفظ، فلا يلزم حصول الاشتراك فيه، بل إن حصل فيه عموم أو خصوص فمن دليل غير العطف. مسألة: كل حكم ورد بصيغة المخاطبة كقوله تعالى: {يا أيها الين آمنوا}، {يا أيها الناس} قال العلماء: هو خطاب مع الموجودين في عصر الرسول عليه

الصلاة والسلام، وذلك لا يتناول من يحدث بعدهم إلا بدليل منفصل يدل على أن حكم من يأتي بعد ذلك كحكم الحاضرين؛ لأن الذين سيوجدون بعد ذلك لا يصدق عليهم (أنهم موجودون في زمن الخطاب) ومن ليس بموجود لا يكون إنسانا ولا مؤمنا، ومن لا يكون كذلك لا يتناوله لفظ الناس ولفظ المؤمنين. وإنما عممنا أحكام الشريعة لوجهين: أحدهما: أن ذلك معلوم من الدين بالضرورة، وإن كان ما وقع في زمان عليه الصلاة والسلام يشمل الإعصار والأمصار إلى يوم القيامة. وثانيهما: قوله تعالى: {وما أرسلناك/ إلا كافة للناس}، وقوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الناس كافة) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (بعثت إلى الأسود والأحمر).

(حكمي على الواحد حكمي على الجماعة)؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام متى أراد التخصيص بينه، كما قال عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بن نيار في جذع المعز لما ذكر أضحية له (تجزيك ولا تجزيء أحدا بعدك، فحيث لا يبين عليه الصلاة والسلام التخصيص كان ذلك دليلا على التعميم؛ لأنه القاعدة.

قاعدة: المراد بخطاب المشافهة إذا ورد من الله وإذا ورد من الخلق

فإن قلت: الأحمر والأسود والجماعة إلى غير ذلك مما ورد في هذه الأحاديث إنما يصدق في الموجود دون المعدوم، فلا دلالة في هذه الأحاديث. واعلم أنك تحتاج في هذا المقام إلى بيان قاعدتين: القاعدة الأولى: في بيان خطاب المشافهة من الخلق إذا ورد، وبيانه من الله تعالى إذا ورد، وتحقيق الفرق بينهما: إن النداء في لسان العرب لا يكون إلا مع القريب الموجود، أما البعيد جدا كالمشرق من المغرب لا تناديه العرب إلا على سبيل المجاز، وكذلك من يصلح للنداء كقوله تعالى حكاية عن الكافر: {يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله}، فنداؤه الحسرة ونحوها مما لا يعقل، للعلماء فيه تأويلات مذكورة في موضعها، فأولى المعدوم، غير أن فهرست هذه المسألة أعم من النداء، فإن خطاب المشافهة يحصل بضمائر الخطاب من غير نداء نحو قوله تعالى: {عليكم أنفسكم}، {ولا يغتب بعضكم بعضا} ونحو ذلك مما

الفرق بين خطاب الله وخطاب الخلق

يصدق عليه أنه خطاب مشافهة ولا نداء فيه، وكذلك قوله تعالى: {كونوا قوامين بالقسط}، {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} ونحوه من ضمائر الواو، فهو كالكاف خطاب مشافهة أيضا، وعلى كل تقدير فلا يتناول ذلك إذا صدر من الخلق إلا الموجود القريب؛ لأن المنادى من الخلق متميز بجهة، وصوته إنما يبرز من جهته ويسمعه من قرب منها دون من بعد، فصارت الجهات القريبة منه والموجود فيها أولى من غيره، لهذا المرجح، ولم يتناول الخطاب منه البعيد جدا، لعدم السماع، وعدم/ الفائدة، هذا في حق الخلق، أما في حق الله تعالى فلا، بسبب أن الله تعالى ليس في جهة ولا يحز، فنسبة جميع الجهات والأحياز إليه نسبة واحدة، فلو خصصنا بعض الجهات أو بعض الأقطار بخطابه تعالى، لزم الترجيح من غير مرجح، فما لأجله ثبت التخصيص في حق الخلق منتف في حق الله تعالى، فتعين التعميم، فلا يقال: الجهة الفلانية أقرب إليه من غيرها، فكذلك خطابه تعالى يعم أهل السماوات والأرض ممن يصلح له ذلك الحكم المذكور في الخطاب كقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} وكقوله تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا}، إلى غير ذلك من صيغ

المشافهة، يعم كل من يصلح له ذلك الحكم من جميع أجزاء العالم. فهذا هو الفرق بين خطاب الله تعالى وخطاب الخلق، وهل هذا التناول مجاز لأن العرب إنما وضعت لغتها لما جرت به عادتها، وإما متكلم لا يختص بجهة فليس من عادتها، فيكون مجازا، أو هو حقيقة لتعذر اختصاصه ببعض الجهات، لئلا يلزم الترجيح من غير مرجح؟ فيه نظر. القاعدة الثانية: التي يتوقف عليها ثبوت العموم في هذه المسألة والخصوص وهي: أن الفرق واقع في لسان العرب بين كون المشتق محكوما به وبين كونه متعلق الحكم، وبه يظهر لك الفرق بين قوله تعالى: {يا أيها الناس}، وبين قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت}، والفرق بين قوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم} وبين قوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} أن الأول: يشترط فيه الوجود والاتصاف بتلك الصفة المذكورة في الخطاب حالة الخطاب حتى يكون حقيقة. والثاني: لا يشترط فيه الوجود ولا حصول ذلك الوصف حالة الخطاب في كونه حقيقة، بل يصدق اللفظ حقيقة في المعدوم أيضا. وسر الفرق أن المشتق تارة يكون محكوما به، وتارة يكون متعلق الحكم. فالأول: كقولنا: زيد صائم، حكمنا عليه بوصف الصائم الذي هو مشتق من الصوم، فهذا نص الأصوليون على أنه ثلاثة أقسام: حقيقة إجماعا، ومجازا/ إجماعا ومختلف فيه.

الحقيقة بالإجماع

فالحقيقة بالإجماع: إطلاقه باعتبار الحال كتسمية الصائم في نهار رمضان صائم، وننطق بذلك في الوقت. ومجاز بالإجماع: تسميتنا زيدا صائما، باعتبار أنه سيصوم في المستقبل من الزمان، فهذا مجاز إجماعا، ومنه قوله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} سماه باعتبار ما يؤول إليه، فيكون مجازا، ومنهم من جعله على حذف مضاف تقديره: أعصر عنب خمر (فلا يكون) مجازا، غير أنه إذا تعارض المجاز والإضمار كان المجاز أولى. وإطلاقه بحسب الماضي: فيه مذهبان: أصحهما المجاز كتسمية الخل خمرا، باعتبار أنه كان كذلك ثم تخلل، ومنه تسمية الإنسان نطفة وعلقة باعتبار ما كان عليه، فهذا هو المنقسم إلى الأقسام الثلاثة. أما إذا كان متعلق الحكم، نحو قولنا: اصحب الصالحين، فإنا حكمنا بوجوب صحبة الصالحين، والصالحون هم متعلق هذا الحكم. وكذلك قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} حكم بوجوب قتل المشركين ولم يحكم بأن أحدا أشرك، فهو متعلق وجوب القتل.

وكذلك قوله تعالى: {والسارق والسارقة}، و {الزانية والزاني}، لم يحكم بأن أحدا سرق ولا زنى، بل حكم بوجوب القطع والجلد خاصة، وهذه الطوائف متعلق هذا الحكم، فهذا الطور كله حقيقة مطلقا في المستقبل وغيره، ولولا ذلك لسقط الاستدلال بالكتاب والسنة في مواطن الأحكام. بيانه: وذلك أن قولنا: ماض وحال ومستقبل في المشتق (إنما هو) بحسب زمن التخاطب وصدور الصيغة، ولا خفاء أن صيغ الكتاب والسنة إنما صدرت في زمنه عليه الصلاة والسلام، فزماننا مستقبل بالنسبة إلى ذلك الزمان قطعا، فلا يكون لفظ القرآن متناولا لسراق زماننا وزناتهم ومشركيهم وغير ذلك من الطوائف التي أضيف إليها الأحكام وتعلقت بها إلا على سبيل المجاز، فعلى هذا متى ادعينا ثبوت حكم/ في صورة اليوم من هذه الصور. ويمكن أن يقال: تناول اللفظ لهذه الصورة إنما هو على سبيل المجاز، والأصل عدم المجاز حتى يدل الدليل عليه، فيحتاج كل دليل إلى دليل، ويقف منها جميع ألفاظ الكتاب والسنة، لأجل تطرق المجاز، وهذا لم يقل به أحد، فدل ذلك على أن المراد بقول العلماء: إنه مجاز، باعتبار المستقبل إجماعا، إنما هو إذا كان محكوما (به)، وهو الذي جرت عادتهم أن يمثلوا به، والمذكور في سياق كلامهم أبدا، فيحصل حينئذ الجمع بين الإجماعين: الإجماع على

أنه بحسب المستقبل إجماعا، والإجماع على أن هذه الألفاظ في مشتركي زماننا وسراقهم وزناتهم حقيقة. وإذا ظهر لك الفرق بين كون المشتق محكوما به أو متعلق الحكم، اندفع عنك اشكال عظيم جدا، وهو السؤال الوارد على هذه النصوص كلها. ولما عرض لي هذا السؤال أقمت مدة طويلة من الزمان لا أجد له جوابا- وأنا أستشكله واستصعبه- وكذلك جماعة من الفضلاء، حتى فتح الله (علي) بهذا الجواب وهذا الفرق، فذكرته لهم، فأستحسنوه وسروا به. وحينئذ يظهر لك أن قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت}، وقوله تعالى: {إنه لا يحب المسرفين} يتناول في هذه النصوص متعلق الحكم، لا أن صفاتهم محكم بها، بخلاف قوله تعالى: {يا أيها الناس}، و {يا أيها الذين آمنوا} و {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}، فإن المعنى ها هنا محكوم به، لا أنه متعلق الحكم. ويظهر لك أن قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} أنه عام في الناس إلى يوم القيامة، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الناس كافة)، و (بعثت إلى الأحمر

والأسود، ونحو ذلك، فإن هذه الصفات كلها لم يحكم بها، وإنما هي متعلق الحكم، فتكون عامة، وحقيقة في جميع الأزمنة بخلاف قولنا: (هذا أحمر) وهذا أسود. وإذا أحطت بهذه القاعدة وهذا الفرق اتضح لك التعميم في هذه المسألة، وفهمت مواضع/ كثيرة في الكتاب والسنة، وتعرف بها الحقيقة من المجاز في مواطن كثيرة التبست على جماعة من الفضلاء، حتى ينبغي أن نجعل هذا من جملة الفروق المذكورة بين الحقيقة والمجاز وأن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} يتناول كل مشرك إلى (يوم القيامة)، بخلاف قولنا: هؤلاء مشركون، فإنا حكمنا بشركهم، ولم نجعلهم متعلق الحكم، فكان التقسيم إلى المجاز والحقيقة بحسب الأزمنة واقعا بهم. سؤال: أورد النقشواني في شرح المحصول على هذه المسألة فقال: هذه المسألة تناقض قول الأصوليين أن المعدوم يكون مخاطبا بالخطاب السابق، فلم يجوزوا أن يكون الخطاب الموجود في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتناول من يأتي بعده، وإن كان معدوما كما قالوه في تلك المسألة، فنسبوا خطاب المشافهة بها.

وهذا السؤال مندفع بسبب أنا إنما قلنا: إن خطاب المشافهة لا يتناول المعدوم من جهة وضع اللغة، فإن العرب لم تضع (قوموا) ولا {عليكم أنفسكم} لتناول المعدوم ولا كل الموجود، بل الموجود الحاضر القريب كما تقدم تقريره، فهذا بحث في وضع لغة وتعلق ألفاظ بحسب وضعها. وقولنا: (المعدوم يكون مأمورا ومنهيا) إلى غير ذلك، معناه: أن الكلام، النفساني له تعلق بمن سيوجد على تقدير وجوده، وتعلق الكلام النفساني ليس من باب أوضاع اللغات في شيء، بل هو أمر عقلي كما تقول: العلم يصح فيه التعلق بالأمور المستقبلة، ليس معناه بالوضع، بل دال له لذاته، كذلك ها هنا هذا الكلام النفساني بذاته لا بوضع واضع، كما يجد أحدنا في نفسه طلب الاشتغال بالعلم والفضيلة وسبل الخيرات من ولده إن وجد له، كذلك يطلب الله تعالى الصلاة من زيد على تقدير وجوده بالطلب النفساني، وينهاه عن الغيبة على تقدير وجوده، وكذلك بقية الأحكام، فهذا بابه الأحكام العقلية ومسألتنا بابها الأوضاع اللغوية. /والعقليات لا ترد نقضا على اللغات، ولا اللغات نقضا على العقليات، وإنما يكون النقض على كل باب منه وعلى كل مادة بوجود تلك المادة بعينها مع انتفاء ذلك الحكم بعينه، وأما مع تغاير الأحكام والمواد فلا. مسألة: قال الإمام فخر الدين (رحمه الله) في المحصول:

مسألة: في نحو قول الصحابي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر"

قول الصحابي: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر) لا يفيد العموم؛ لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية، والذي (رآه) الصحابي (حتى) روى النهي (عنه) يحتمل أن يكون خاصا بصورة واحدة، وأن يكون عاما، ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم. وكذلك قول الصحابي: (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين) لا يفيد العموم، وكذلك إذا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قضيت بالشفعة للجار)؛ لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف، وتكون (الألف

شرط الرواية بالمعنى

واللام) للعهد، وقوله: قضيت (عن) فعل معين ماض. قلت: تقرير هذا الكلام أن هذا اللفظ ليس لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل لفظ الراوي، والحجة إنما تكون بقوله عليه الصلاة والسلام لا بقول الراوي. ويرد عليه أن هذا رواية بالمعنى، ومن شرطها المساواة في اللفظ، في الزيادة والنقصان، والخفاء والجلاء، والعموم والخصوص، كذلك نص عليه هو في المحصول ونص عليه غيره، وأنه لا تجوز الرواية بالمعنى إلا بهذه الشروط، إذ لو ذهب بعض هذه الشروط لتعين معنى الحديث. أما في الزيادة والنقصان فظاهر، فإن الراوي حينئذ إذ لم يلتزم ذلك زاد في شرع الله تعالى أو نقص، وكذلك العموم والخصوص. أما الجلاء والخفاء مع استواء المعنى؛ فلأن الجلاء والخفاء معتبرين عند

التعارض، فيقدم الجلي في الدلالة على ما دلالته خفية، ويكون ذلك هو حكم الله تعالى في شرعه، فإذا بدل الجلاء بالخفاء أو بالعكس، فقد غير حكما في الشريعة، وذلك فسوق يقدح في العدالة ويسقط الرواية. فعلى هذا متى كان لفظ/ الراوي عاما وجب (أن يعتقد) أن لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك، وأن لا يكون الراوي قد فعل في الرواية بالمعنى ما لا يجوز، وذلك مخل بالعدالة، والمقدر عدالته، فيتناقض. والراوي قد أتى في لفظه (بالغرر) معروفا بلام التعريف المقتضية للعموم، وجب أن يكون لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك، لما تقدم هذا في لفظ (نهي) ونحوه، ما يكون من باب الفتاوى والتبليغ عن الله تعالى، فإنه يتصور فيه العموم حكاية ومحكيا. وأما قوله: (قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين)، فالقضاء له معنيان: أحدهما: الحكم، بمعنى الفتيا، كقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}، أي شرع لكم ذلك وأمركم به. وثانيهما: الحكم بمعنى فصل الخصومات بين الناس، كأحوال القضاة في الوقائع الجزئية. فالمعنى الأول يتأتى فيه العموم؛ لأن شرع كل شاهد ويمين حجة إلى يوم

القيامة ممكن، وإذا وردت صيغة العموم في محل يقبل العموم وجب حمله على العموم؛ لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة كما تقدم في النهي عن الغرر. وأما الثاني: وهو فصل الخصومات الجزئية فيتعين فيه الخصوص، فإن القضاء بكل شاهد وبكل يمين على المعنى يستحيل عادة، وإنما يقضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض شهود زمانه، فضلا عن شهود غير زمانه، وفي وقائع معينة لا كل الوقائع، وذلك معلوم بالضرورة في حقه عليه الصلاة والسلام وفي حق غيره. وهذا القسم الثاني هو الظاهر من إرادة الراوي، وكذلك فهمه الفقهاء من هذا الحديث، وأن القضية كانت في واقعة مالية، وعلى هذا التقدير يكون الراوي قد اعتمد على قرينة الحال الدالة على المراد بالشاهد واليمين، فأطلق (لام) التعريف، ومراده حقيقة الجنس لاستغراقه ويكون معنى الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتبر هذين الجنسين في فصل الخصومات المالية، وهو كلام/ صحيح ولا يحمل على العموم بخلاف النهي عن الغرر، وهو ظاهر في الفتيا العاملة إلى آخر الدهر، واللام فيه للعموم الشامل لكل غرر من جميع أنواعه وأفراده. وكذلك قوله: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قضيت بالشفعة للجار)، يحتمل القسمين المذكورين في الشاهد واليمين، وعلى هذا يكون المدرك في عدم الدلالة على العموم تردده بين العموم والخصوص، أما حيث لا تردد

كقوله: (نهى عن بيع الحصاة) و (حبل الحبلة) ونحو ذلك، فالتردد بعيد، فيدل على العموم، ويؤكد حمل قوله عليه الصلاة والسلام: (قضيت بالشفعة للجار) على العموم، أنه كلام ظاهر في تأسيس قاعدة وتمهيد أصل عظيم في الشريعة، وشأن صاحب الشرع في تأسيس القواعد وتمهيد الأصول الكلية أن يوسع في بيانها ويزال إجمالها ويوضح حقائقها حتى يذهب خفاؤها، وأن يكون ذلك كذلك حتى تحمل الألفاظ على ظواهرها، وتبقى العمومات على عمومها، فبهذه التلخيصات والفروق يظهر الحق فيما يتعين حمله على العموم مما لا يحمل. مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول: قول الراوي:

مسألة: في قول الراوي: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر"

(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الصلاتين في السفر)، لا يقتضي العموم؛ لأن لفظ (كان) لا يفيد إلا تقدم الفعل، أما التكرار فلا، ومنهم من قال: إنه يفيد التكرار في العرف؛ لأنه لا يقال: فلان كان يتهجد بالليل إذا تهجد مرة واحدة في عمره. قلت: العموم في هذه المسألة ليس هو على بابه، بل المراد التكرار في الزمن الماضي خاصة، أما الحال والمستقبل فلا سبيل إليه، وأصل (كان) أنها فعل ماض، والفعل الماضي إنما يدل على أصل مصدره مرة واحدة، أما الزيادة على ذلك فلا تعرض له بنفي ولا لإثبات، غير أن العرف خالف بين (كان) وغيرها من بين سائر الأفعال، فصارت لا تستعمل إلا حيث يكون التكرار واقعا في الزمن الماضي، ويصدق ذلك بأدنى رتب (التكرار) من غير إشعار برتبة معينة من التكرار وعدده، والإشعار/ بالاستغراق ألبتة، بل كثرة ذلك من حيث الجملة في أكثر من الماضي خاصة. مسألة: إذا قال الراوي: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الشفق.

قال الإمام فخر الدين في المحصول: إذا قال القائل: إن الشفق شفقان، الحمرة والبياض، (وأنا أحمله) على (وقوعه) - بعدهما جميعا- فهذا خطأ؛ لأن اللفظ المشترك لا (يمكن حمله) على مفهوميه معا. قلت: تقرير هذا الكلام وتحقيق الصواب فيه أن لفظ الشفق موضوع للحمرة والبياض، وهما ضدان، فيكون مشتركا؛ لأنه سمع من العرب في الثوب الأحمر: هو أشد حمرة من الشفق، وصيغة أفعل تقتضي المشاركة في أصل المعنى، والبياض أيضا يسمى شفقا، نقله أئمة اللغة، وقال بعضهم: هو من الشفقة التي هي الرقة، والحمرة أرق وأصفى من الظلمة، والبياض أصفى من الحمرة، فيكون على هذا مشككا، ويكون في البياض أقوى، فلا يكون مشتركا، وعلى هذا يعم الشفقين؛ لأن صيغة العموم إذا دخلت على مشكك عم المختلفات، فإذا قلنا: خلق الله النور، عم نور الشمس الذي هو أقوى،

مسألة: قول الراوي: "صلى صلى الله عليه وسلم في الكعبة"

ونور السراج الذي هو أضعف، فقوله: (بعد الشفق) يعم الشفقين، لأجل لام التعريف الموضوعة للعموم. وإذا فرعنا على الاشتراك وعدم الاشتقاق فخرجت المسألة على الخلاف بين العلماء في أن الصيغة المشتركة هل تعم أم لا؟ وبالعموم قال الشافعي وجماعة من الأصوليين، حتى أنهم لا يذكرون استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه إلا في باب العموم. ومذهب مالك والقاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من الفقهاء والمعتزلة جواز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا. قال النقشواني: يمكن الخصم أن يحمل لفظ الشفق على المتأخر منهما، ولا يكون استعمالا للمشترك في مفهويمه بل في أحدهما عينا وهو المتأخر زمانا، ويلزم من ذلك أن تقع الصلاة بعدهما، لأنه استعمل اللفظ فيهما. مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول: إذا قال الراوي: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - / في الكعبة ......

مسألة: في قول الغزالي: "المفهوم لا عموم له"

فهذا متواطيء، لا يمكن أن يستدل به على أداء الفرض في الكعبة؛ لأنه إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها، فذلك الواقع إن كان فرضا لم يكن نفلا، وإن كان نفلا لم يكن فرضا، فلا يدل على العموم. قلت: وتقرير هذا الكلام أن قوله (صلى) فعل في سياق الإثبات كالنكرة في سياق الإثبات لا تعم، بخلاف الفعل في سياق النفي (أو النكرة في سياق النفي)، وإذا لم يكن عاما مطلقا، والمطلق إنما يدل على صورة واحدة، ولا إشعار له بالشمول، ولا بالعدد، ولا بشيء معين، بخلاف (ما) لو قال: أوقع الصلاة، أو أمر بالصلاة في الكعبة، فإن الألف واللام موضوعان للعموم، وهو معنى قوله: (إنما يعم لفظ الصلاة لا فعلها) أي: المعرف باللام يعم، والفعل الذي هو (صلى) لا يعم. مسألة: قال الغزالي: المفهوم لا عموم له؛ لأن العموم لفظ تتشابه دلالته بالنسبة إلى مسمياته، ودلالة المفهوم ليست لفظية، فلا يكون لها عموم.

قال الإمام فخر الدين: إن كان، لا نسميه عموما؛ لأن لفظ العموم لا نطلقه إلا على الألفاظ، فالنزاع لفظي، وإن كان يعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع أفراد المسكوت عنه فهو باطل؛ لأن البحث عن المفهوم هل له عموم أم لا، فرع عن كون المفهوم حجة؛ ومتى ثبت كونه حجة لزم القطع بانتفاء الحكم (عن جميع أفراد المسكوت عنه؛ لأنه لو ثبت الحكم) في المسكوت لم يكن للتخصيص بالذكر فائدة. قلت: المفهوم حجة عند الغزالي، وظاهر كلامه أن مراده القسم الأول، وأن نزاعه إنما هو في التسمية، وتصريح الإمام بأن المفهوم عام في السلب فيه تفصيل، فإن مفهوم الصفة نحو قوله عليه الصلاة والسلام: (في الغنم السائمة الزكاة)، ومفهوم الحصر كقوله عليه الصلاة والسلام (إنما الماء من الماء)

(وإنما الأعمال بالنيات) و (إنما الربا في النسيئة) ونحو هذه المفهومات، فإن السلب والمفهوم وهو ثبوت أو إثبات نقيض (حكم المنطوق للمسكوت عنه) من ذلك الجنس، عام في جميع أفراد المسكوت عنه. وقولي: من ذلك الجنس، إشارة إلى الخلاف في مثل قوله عليه الصلاة/ والسلام (في سائمة الغنم الزكاة)، هل يقتضي مفهومه أن ما ليس بسائمة من الغنم لا زكاة فيه، أو ما ليس بسائمة من جميع الأجناس، حتى يستقيم الاستدلال بمفهوم هذا الحديث على عدم وجوب الزكاة في الحلى المتخذ لاستعمال مباح؛ لأنه ليس بسائمة من الغنم؟ وأما مفهوم الغاية كقولنا: لا تصل صلاة حتى تتوضأ، ولا تصم صوما حتى تنوي، ونحو ذلك من السياقات، فإنه يقتضي المنطوق فيها العموم

مسألة: في قول الآمدي: اختلف العلماء في عموم قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة)

في النفي والنهي حتى تحصل هذه الغاية وهي الوضوء والنية. فإذا حصلت هذه الغاية يقتضي أ، ذلك النهي يزول عن جميع الصلوات، ولا يلزم من عدم النهي عن جميع أفراد الصلاة أو الصوم أن يثبت الأمر فيها أو في بعضها. فإن عدم النهي أعم من ثبوت الأمر، وسلب النهي عن وجه العموم أعم من الأمر على وجه العموم؛ لأن النهي على العموم والأمر على العموم ضدان يمكن ارتفاعهما، والمفهوم إنما هو نقيض المنطوق لا ضده، ونقيض السالبة الكلية إنما هو الموجبة الجزئية، لا الموجبة الكلية. وإذا قال القائل: لا أسافر حتى يخرج البرد، فالمعنى: قبل خروج البرد كل سفر، ولا يلزم بمقتضى مفهوم هذه الغاية، إذا خرج البرد أن يسافر كل سفر. وقد تقدمت أقسام المفهوم مستوعبة في باب الموجبات للعموم من حيث الوضع والفعل وغيرهما. مسألة: قال الشيخ سيف الدين رحمه الله: اختلف العلماء في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} هل يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك، أو أخذ صدقة واحدة من كل نوع واحد؟ ، قال بالأول الأكثرون وقال بالثاني الكرخي.

حجة الأولين: أن الله تعالى أضاف الصدقة إلى جميع الأموال، والجمع المضاف إليه من صيغ العموم، فتتعدد الصدقة بتعدد الأموال. حجة الثاني: أن (صدقة) نكرة في سياق الإثبات، فتصدق بأخذ صدقة واحدة من مال واحد، لاسيما أن لفظ (من) يقتضي التبعيض، ويصدق أنه أخذ من بعض الأموال. قلت: /أما أن النكرة في سياق الإثبات لا تعم فمتجه، (وأما أن (من) للتبعيض، وأ، ذلك يصدق بفرد، لأنه بعض، فمتجه) أيضا، كما لو قال الله تعالى: اقتلوا من المشركين رجلا، خرجنا من العهد بقتل رجل واحد، فيظهر ما قاله الكرخي هو الصواب. غير أن ها هنا بحثا وهو أن (من) المبعضة هل تبعيضها في الأموال فيصدق ما قاله الكرخي؟ أو في كل مال فيصدق ما قاله الأكثرون؟ فإذا أخرجنا من كل مال صدقة وهي ربع عشر مثلا، صدق التبعيض، فإذا أحرجنا من بعض الأموال صدقة وتركنا الباقي من الأموال، صدق التبعيض أيضا، فالتبعيض صادق بطريقين، والأول هو الظاهر من حيث القرينة الحالية، فإن الله تعالى لم يرد بعض الناس بالصدقة دون بعض، واللفظ أيضا يعضده. فإن التقدير: خذ صدقة كائنة من أموالهم، فلو أخذت من بعض

مسألة: في قول الآمدي: اللفظ العام إذا قصد به الخاطب المدح أو الذم، اختلف العلماء في إفادته العموم

الأموال لم تكن كائنة من أموالهم، بل من بعض أموالهم، وهو خصوص مع أن اللفظ عام، وهذا المجرور في موضع نصب على الحال من (صدق)؛ لأنه نعت نكرة تقدم عليها، فلابد أ، تكون كائنة من كل مال حتى لا يبقى مال، وهذا هو شأن العموم. وبهذا التقدير يظهر أن الصواب ما عليه الجمهور، ويظهر أيضا الفرق بين الآية وبين قولنا: اقتلوا من المشركين رجلا، فإنه يصدق برجل واحد ولا يعم، بسبب أن الرجل الواحد يتعذر أن يكون بعضا من كل [مشترك]، والصدقة لا تتعذر أن تكون بعضا من كل مالأ، وهو فرق ظاهر. مسألة: قال الشيخ سيف الدين رحمه الله: اللفظ العام إذا قصد به المخاطب المدح أو الذم كقوله تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم}، وكقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}، منع الشافعي عمومه وأن يتمسك به في زكاة الحلي لأن العموم لم يقع مقصودا في الكلام، بل المدح والذم هو

مسألة: قول إمام الحرمين: قولهم النكرة في سياق الشرط تعم، ليس على إطلاقه

المقصود، وقال الأكثرون: يصح التمسك به؛ لأن قصد ذلك لا يمنع من إرادة العموم. قلت: وكذلك منع الشافعي التمسك بقوله عليه الصلاة والسلام/: (فيما سقت السماء العشر) على وجوب الزكاة في الخضروات، كما قاله أبو حنيفة رضي الله عنهم أ} معين، وقال: إن الكلام إنما سيق لبيان الجزء الواجب، لا لبيان الواجب فيه. وهذه قاعدة وهي: (أن الكلام إذا سيق لأجل معنى لا يكون حجة في غيره)؛ لأن العادة قاضية أن المتكلم يكون مقبلا على ذلك المعنى، معرضا عن غيره، وما كان المتكلم معرضا عنه لا يستدل بلفظه عليه، فإنه كالمسكوت عنه، فإذا قال القائل: نفقات الأقارب إنما تجب في اليسار، فمقصوده بيان الحالة التي جب فيها النفقة، وهي حالة اليسار، وليس مقصوده أن كل قريب تجب له النفقة؛ لأنه لم يتوجه لهذا العموم ولا لهذا الحكم بباله. ونظائره كثيرة في عرف الاستعمال، حتى أن من أخذ يقول لهذا المتكلم: أنت أثبت النفقة لكل قريب، ينكر ذلك عليه، ويقول: إن كلامي لم يكن في هذا السياق، ولا لهذا القصد. وهي قاعدة حسنة اعتمد عليها الشافعي، وقوله في هذه المواطن هو الظاهر. مسألة: قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى في البرهان قولهم: النكرة

في سياق الثبوت لا تعم، ليس على إطلاقه، بل النكرة في سياق الشرط تعم، كقول القائل: من جاءني بمال جازيته عليه، يعم جميع الأموال؛ لأنها في سياق النفي إنما عمت لعدم اختصاص النفي بمعنى في غرض المتكلم، وكذلك في سياق الشرط فتعم. قلت: وفي التحقيق ليس هذا نقضا؛ لأن الشرط في معنى الكلام المنفي؛ لأن المشترط لم يجزم بوقوع الشرط حيث جعله شرطا، وإنما مرادهم بالنكرة في سياق الثبوت قولنا: في الدار رجل ونحوه. وأما النفي والاستفهام والشرط فهو عند النحاة كله كلام غير موجب، مع أن الأبياري في شرح البرهان رد عليه وأنكر العموم، وقال: لو كان للعموم كما قال لم يستحق المجازاة إلا من أتى بكل مال، كما لو قال: من جاءني بكل مال جازيته، فإنه لا يستحق ببعض الأموال. قلت: / وهذا الرد من الشيخ شمس الدين الأبياري لا يستقيم، بسبب أن العموم ها هنا معناه أن أي مال كان على وجه كان، فإن الشرطية حاصلة فيه، ولا يخرج فرد من أفراد الأموال عن كونه يستحق المجازاة إذا جاء

به، وليس المراد بالعموم شمول الأموال بالمجيء بها جملة كما قاله الأبياري، بل المراد بالعموم ما تقدم من شمول الشرط المال، كيف جيء به مجموعا أو متفرقا. وكذلك قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} هو نكرة في سياق الشرط، وهو عام بمعنى: أي مشرك استجار به - صلى الله عليه وسلم - وجبت له الإجارة؛ [لا أن] اجتماعهم في الاستجارة شرط، بل معناه: أن معنى الشرطية شامل لكل فرد من أفرادهم، بحيث لا يبقى فرد منهم إلا وقد حصل معنى هذا الاشتراط فالصحيح ما قاله إمام الحرمين، وإن النكرة في سياق الشرط تعم بهذا التفسير، لا بمعنى ما قاله الشيخ شمس الدين، فتأمل ذلك. ومن هذه المادة عموم الاستفهام في قولنا: من عندك؟ فتقول: زيد، ومعناه: أنه لم [يوجد] من العقلاء مجتمعا أو متفرقا إلا وأنا مستفهمك عنه، فشمول الاستفهام لجميع الأفراد كشمول الشرط في النكرة لجميع الأفراد، فهما سواء من هذا الوجه.

فهذا ما تيسر لي رؤيته من مسائل العموم التي تحدث (عليها الفضلاء)، وهي نحو ثلاثين مسألة، فقد نقلتها، وحررتها، وتقريرا، وسؤالا وجوابا، بما يسره الله فيها، فهذا هو مقصود هذا الفصل. ومقصود الفصل الثاني: أن أتحدث على ما يلحق بهذه (المسائل) من الصيغ فيما رأيته، فإنها أكثر مما رأيته، وقد تقدم سردها. وها هنا- في الفصل الآتي بعد هذا- (نعرض) لبيان إقامة الحجة على أنه للعموم- كما تقدم في المنصوص عليه في الفصل- إن شاء الله تعالى.

الفصل الثاني: في إقامة الدليل على أن ما تقدم من (الصيغ كلها من) العموم وذلك بأن أقسمها ثلاثة عشر قسما

الفصل الثاني: في إقامة الدليل على أن ما تقدم من (الصيغ كلها من) العموم وذلك بأن أقسمها ثلاثة عشر قسمًا؛ لألحق كل قسم بما نص عليه من جسنه، ويكون المنصوص حجة على غير المنصوص، ويتضح به. القسم الأول: / صيغ الاستفهام: وهو نحو ثمانين صيغة، تقدم سردها، منها: خمسون في "أي" وحدها، ومنها: أربع عشرة في "من"، ومنها ثلاثة في "ما"، ومنها: "متى"، و "متى ما" و "كيف"، و "كيفما"، و "أين"، و "أينما"، و "أني"، و "إيانا"، و "كم"، وجميع ما تقدم سرده من هذا النوع. فأقول: الدليل على أن هذه الصيغ كلها للعموم في الاستفهام ما تقدم من الدليل على أن "من" و "ما" الاستفهاميتان للعموم، وذلك أن نصوص الأصوليين [متضافرة] ونقولهم على أن "من" في سياق الاستفهام للعموم، (مع) أنه يصح أن يقال في جواب من قال: (من) في الدار؟

زيد، ويكون قوله: زيد، جوابًا مطابقًا، مع أن زيدًا يستحيل أن ينطبق على العموم؛ لأن الجزئي المحصور الفرد الواحد يستحيل أن ينطبق على العدد الذي لا يتناهى، ومدلول العموم عدد غير متناه، فلا ينطبق عليه زيد، مع أنه منطبق "عليه" إجماعًا. وما سبب ذلك إلا أن العموم إنما هو باعتبار شمول الحكم لأفراد غير متناهية، وها هنا في قولنا: من في الدار؟ حكمان: أحدهما: الكون في الدار، والثاني: الاستفهام. والعموم إنما هو باعتبار حكم الاستفهام، لا باعتبار حكم الكون، فهو- أعني المستفهم- معمم لحكمه في جميع أفراد العقلاء باستفهامه، ومعنى كلامه: أني سائلك عن أي فرد كان من "أفراد" العقلاء هل وجد كونه في الدار أم لا؟ وهل هو على صفة الاجتماع أو الافتراق؟ فجميع رتب أعداد العقلاء وأفرادهم مستفهم عنه وعن عدمه. فمن هذا الوجه حصل العموم لا باعتبار حكم الكون، فإن حكم الكون قد لا يوجد ألبتة، فضلا عن كونه يعم، ولذلك يحسن في الجواب: ليس في الدار أحد ألبتة، فلا يوجد شيء من الكون. وقولنا: زيد، ليس هو [منطبق] على الحكم الذي حصل به العموم، بل الحكم الآخر لا عموم فيه وهو الكون. فقولنا: زيد، مطابق للواقع في المستفهم عنه، لا لحكم العموم، فما فيه المطابقة لا عموم فيه، وما فيه العموم لا مطابقة فيه، فافترق اليابان. ونظير ذلك أن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} عام فيما لا يتناهى

منهم، ومع ذلك قد لا يوجد منهم إلا واحد فنقتله، ونخرج عن عهدة الأمر، فيكون قتل/ ذلك الواحد مطابقًا للواقع، لا لمدلول صيغة العموم. فإن قيل: مالا يتناهى يتعذر علينا، ولم نفعله في هذه الصورة التي لم يوجد فيها إلا مشرك واحد. وكذلك إذا قال: من دخل داري فأكرمه، فدخلها رجل واحد فأكرمه، انطبق فعله هذا على الواقع، وخرج عن العهدة به. ويقال: إن فعله منطبق وموافق مع أمر الآمر، مع أنه لم يكرم إلا فردًا واحدًا؛ لأن حكم الإكرام ووقوعه لم يقع فيع عموم، بل العموم حاصل باعتبار حكم آخر، وهو ربط الإكرام بالدخول في كل فرد فرد، فهذا الربط هو الحكم الذي وقع باعتباره والتعميم، لا الإكرام نفسه ووقوعه في الوجود، فتأمل ذلك، فهو محتاج إليه خاصة في معرفة كون هذه الصيغ للعموم. وفي الجواب عن هذا السؤال الصعب، وهو أنها إذا كانت للعموم كيف ينطبق قولنا: زيد على السؤال، مع تعذر انطباق الواحد على العموم، وأجمعوا على أنه مطابق، حتى أن من أراد أن يقيم الدليل على أنها ليست للعموم بأن زيدا ينطبق جوابا لها، استقام له ذلك في الظاهر، ولا جواب له إلا ما تقدم من أن مطابقته للواقع لا لحكم العموم، وأن الحكم الذي وقع به العموم إنما هو حكم الاستفهام، لا حكم الكون ووقوعه. وإذا تقرر وجه العموم في "من" الاستفهامية باعتبار حكم الاستفهام،

فكذلك هو في "ما"، أي: لم يترك فردا من أفراد ما لا يعقل إلا وهو سائل عنه. وكذلك قولهم: إن "أين" من أدوات العموم معناه: أنه لم يترك مكانًا واحدًا من فريق من يعقل ولا من فريق ما لا يعقل إلا وهو سائل عنه، فإنها تشمل النوعين، بخلاف "ما" خاصة بما لا يعقل، و "من" خاصة بمن يعقل، كما تقدم بسطه. فإذا كانت "من" عامة في من يعقل، ما فيما لا يعقل، و"أين" في البقاع، و"متى" في الأزمان، كانت كيف أيضًا عامة في الأحوال. فإذا قال له: كيف زيد؟ معناه: أني سائلك عن جميع أحواله التي يمكن أن تعرض له، ولم أترك منها حالا إلا وقد تعلق به سؤالي، فيقول له المجيب: مسافر، فيكون قوله: مسافرا، منطبقًا على الواقع من الأحوال، لا مطابقًا للسؤال باعتبار عمومه وشموله بجميع الأحوال كما تقدم بيانه/ في قولنا: من في الدار؟ فيقول: زيد، ويكون جوابًا منطبقًا، مع أنه فرد مشخص.

وكذلك كيفما، فإن العموم مع "ما" هذه أقوى وأكد لوجهين: أحدهما: أن قاعدة العرب أنها إذا كثرت اللفظ كثرت المعنى، وكذلك فرقت بين السين وسوف للتنفيس، فسوف أبعد. وفرقت بين لم يقم زيد وبين لما يقم زيد، فلم يقم: نفي للقيام من الزمان المشار إليه في الكلام السابق، و"لما": نفي له من ذلك الزمان إلى زمان التكلم، ونظائره كثيرة نص عليها النحاة واللغويون. وثانيهما: أن "ما" هذه في هذه المواطن زائدة، وقد نص ابن جني في كتاب الخصائص: أن العرب متى زادت في كلامها حرفا فهو مؤكد ومقو وقائم مقام إعادة تلك الجملة مرة أخرى، فإذا قلنا: كفى بالله شهيًدا، فالتقدير: كفى الله شهيدًا (كفى الله شهيدًا) مرتين. وكذلك قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} تقديره: فبرحمة من الله لنت لهم، فبرحمة من الله لنت لهم، مرتين. وكذلك كل حرف زائد، ومعنى زيادة الحرف، أنه لم يستعمل في معنى يخصه، لا حقيقة ولا مجازًا، إلا أنه لا يفيد فائدة، بل يفيد فائدة هي التقوية والتأكيد. فكذلك ها هنا "ما" زائدة، فيكون التقدير:

كيف تصنع أصنع، كيف تصنع أصنع، ولا يزيدونها في الاستفهام، بل في الشرط. وإذا تقرر أن: "كيف" للعموم في الأحوال، كما أن "أين" للعموم في البقاع، و"متى" في الأزمان، فكذلك تكون "أني" أيضا للعموم في الأحوال، كقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أني شئتم}، قال العلماء: كيف شئتم، عم الأحوال، فكذلك ما يرادفه؛ لأن شأن أحد المترادفين أن تكون فائدته فائدة الآخر بعينها، و"كيف" و"أني" وإن لم يكونا في هذا السياق للاستفهام، بل للإذن والإباحة، غير أن أصل "كيف"، و"أني" للاستفهام، كما أن أصل "أي" الاستفهام، وتقول مع ذلك: أضرب أيهم في الدار، (فيكون في الأمر والإذن)، لا للاستفهام، فالمراعي في هذه الصيغ أصل وضعها في الحكم عليها بأنها من صيغ الاستفهام. وكذلك النكرة في الاستفهام، نحو: هل في الدار رجل؟ وأرجل في الدار؟ / للعموم أيضًا؛ لأن معناه: أني سائلك عن حقيقة الرجل في جميع مواردها المشخصة لها، هل وجدت في مورد من تلك الموارد أم لا؟ فجميع موارد النكرة قد شملها السؤال، والواقع بعد ذلك في الجواب مطابق للواقع، لا لحكم الاستفهام الذي حصل به العموم.

وكذلك نقول له في: ليس في الدار أحد؟ فيجيب بالنفي العام؛ لأن الواقع وإن كان السؤال إنما وقع عن الوجود، فالحكم الواقع غير المسئول عنه. وكذلك "كم" الاستفهامية، إذا قال: كم عندك درهمًا؟ فمعناه: أني سائلك عن جميع رتب الأعداد من الدرهم، من الاثنين إلى ما لا يتناهى من المئين والآلاف، غير واقف باستفهامي عند حد. فحكم الاستفهام شامل لجميع رتب الأعداد، كما أن "متى" شاملة لجميع الأزمنة، والنظائر المتقدمة. وكذلك "أيان" في مثل قوله تعالى: {يسألونك عن السماعة أيان مرساها}، معناه: متى تأتي؟ وأي زمان ترسي فيه؟ . فسؤالهم شامل لجميع الأزمنة بحيث لم يبق زمان إلا وسؤالهم متعلق به، فلو عين بعد ذلك زمان كان كنعيين زيد للكون في الدار، مطابق للواقع لا لحكم الاستفهام الذي وقع به العموم. وبهذا التقرير يظهر لك أن "من" في الحكاية كيفما تصرفت للعموم، بسبب شمول السؤال لجميع المراتب من الرجال في قوله: جاءني رجال، فتقول: منون، أي: أني سائلك عن جميع أفراد الجماعات، وكذلك في التثنية معناه: أني سائلك عن جميع أفراد التثنية، إذا قال: جاءني رجلان، فتقول: منان، وعلى هذا النحو جميع رتب "من" في الحكايات.

وكذلك "أي" إذا استفهم بها في الحكاية عن المسئول عنه، أو عن نسبه، كما تقدم بسطه، يكون العموم حاصلا باعتبار شمول الحكم السؤال عن جميع رتب المسئول عنه، وإما إذا وقعت في النداء نحو: يا أيها الرجل، فهو أيضًا للعموم، بسبب أنها تتناول ما يحدث بعد "أي" كيف كان، فتقول: يا أيها الرجل، ويا أيها الناس، وهما عامان. فهي موضوعة تشمل جميع ما يذكر بعدها كيف كان، ثم يتفق في بعض المواد/ أن لا يقع بعدها الأخرى بطريق الاتفاق، وذلك لا يخل بأنها للعموم؛ لأن الخصوص في الواقع لا ينافي العموم في المدلول، كما تقول: من في الدار؟ ويكون الواقع زيد وحده، وقبضت درهمك كله؟ ، فهو جزئي، مع أن صيغة "كل" للعموم، أي لا شيء يفرض من الدرهم والرجل إلا وهو حاصل، واللفظ يشمله. فقد وضح لك أن ما لأجله حصل العموم في "من" و"ما" و"أين" و"متى"- المنصوص عليها عند الأصوليين- موجود بعينه في "كيف" و"كم" وبقية النظائر، فتكون للعموم كلها، عملا بجود الموجب للعموم فيها، وإلا يلزم الفرق في موضع عدمه والترجيح من غير مرجح بين الأمثال، وكلاهما محال، فتكون هذه الصيغ كلها للعموم، وهو المطلوب. * * *

القسم الثاني صيغ التأكيد كلها ندعي أنها للعموم وهي نحو أربع وعشرين صيغة، قد تقدم سردها من "كل"، وقد نصوا على أنها للعموم، مع حصول الاتفاق على أنا نقول: خطت الثوب كله، وشربت الإناء كله، وهما جزئيان محصوران فكيف تكون للعموم؟ مع أنها حقيقة في جزئي محصور متناه، وذلك يناقض العموم، وهذا السؤال يشبه السؤال الذي تقدم على "من" في قولنا: من في الدار؟ فتقول: زيد، ويكون جوابا منطبقا، مع لأنه شخص محصور يتعذر العم فالإشارة بالخبر عن الخياطة والتأكيد إلى جميع رتب ما يعرض جزء منه، وذلك غير متناه، غير أن الواقع أنه لم يحصل في الثوب من الأجزاء إلا البدن والتخاريس والأكمام،

والنيافق فالواقع حصور. والمشار إليه بالتأكيد غير متناه، وهو حكم ما يعرض جزءا من الثوب أو الإناء، والمتكلم يعلم أن الواقع هو ما باشره فعله خاصة، فتأمل ذلك فهو عسر على الفضلاء في هذه المواطن. ولا يمكنك أن تقول: إن صيغة العموم وضعت للعموم في مثل قوله تعالى: {فسجد الملائكة/ كلهم أجمعون}، وللخصوص في قوله: شربت الإناء كله، أو أنها مشتركة، فإنه لم يقل أحد بذلك، بل القائل بالاشتراك قال به بين العموم والخصوص كيف اتفق. أما الاشتراك بين هذه المواد فإنه لم يقل به أحد، فلا يتجه لك إلا ما ذكرته لك، وأن "كلا" من صيغ العموم في جميع الحالات، والواقع منها يكون محصورا، ولولا صحة هذا الجواب للزم عدة العموم حيث نصوا عليه في الآية المتقدمة، بسبب أن الملائكة (الذين) سجدوا محصورون في عدد معين مشخص، لا عموم فيه، وتشخيصهم بعددهم المحصور كتشخيص الثوب والإناء بأجزائه المحصورة، غير أن أفراد الملائكة أكثر مع الانحصار، والكثرة مع الحصر لا توجب عمومًا، مع أنهم قد نصوا على العموم إلا أنه مع الحصر في لواقع، فلا سبيل لنا في الجواب إلا ما تقدم بأن نقول: كل ما

نفرض أنه من الملائكة فهو يسجد، ولم نبق من المفروض ملكًا أحدًا فالعموم باعتبار ما يفرض ويتوهم ملكا، لا باعتبار الواقع ولو لم يعتبر قيد عدم النهاية في مفهوم العموم لكانت أسماء الأعداد من صيغ العموم- إن اقتصرنا على مطلق العدد- بل لابد من اعتبار قيد عدم الحصر، والواقع كله كيفما فرض محصور، فلا يكون للواقع (عموم) أبدًا، والواقع من الملائكة في السجود محصور، فلا يكون عاما من جهة (أنه محصور، وإنما يكون عاما من جهة) ما يتوهم واقعا فيهم، وذلك غير متناه، وهذا هو حقيقة العموم. وإذا تصورت ذلك في "كل" فإنه بعينه متصور في "كلا" و"كلتا"، وإن وقعا في جزئين، وكذلك "أجمع" و"جميع" و"معشر" و "معاشر" في قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس}، وقوله عليه الصلاة والسلام: "نحن معاشر الأنبياء"، أي: لم يبق فرد من أفراد الجن وما يفرض منهم إلا وقد شمله النداء، ويكون الواقع محصورا غير عام، ومتعلق النداء من حيث العموم غير متناه، وكذلك الحديث النبوي معناه: أن كل من فرض نبيت فإنه لا يورث، والواقع الموصوف بالنبوة محصور، والمفروض وما يمكن أن يفرض نبيًا

غير محصور، فهذا هو طريق الجمع بين العموم والواقع. وكأن/ معشرًا مشتق من العشير من قولنا: عشيرة فلان، بمعنى: قبيلته ورهطه، والتي تجمع على عثائر، وهذا المشتق مخالف في الوزن لعشيرة، فيجمع على معاشر، وهو بمعنى جميع، فلما كان "كل" و "أجمع" و"جمع" و"جميع" للعموم، كان "معشر" كذلك، غير أنه من هذا القسم؛ لأنه من صيغ التأكيد. وكذلك يظهر لك أن "أجمعون" و"أكتعون" و"أبصعون" وجميع أقسامها للعموم، بسبب أن هذه الصيغ يؤكد بها العموم كما يؤكد بـ "كل"، وشأن التأكيد أن يكون مقويا لحكم الأصل، ولما كان الأصل للعموم، تكون هذه أيضًا للعموم مثل "كل" حرفًا بحرف. فإن قلت: إن لفظ "كل" يستعمل في العموم بطريق الأصالة، فتقول: كل عشر زوج، وكل إنسان حيوان، يشمل ذلك ما لا يتناهى من أفراد المذكور. وأما "أجمعون" و"أكتعون" فلا يستعمل ابتداء للعموم، فإن "أجمع" و"أكتع" في لسان العرب لا يتقدمان على كل، ولا ينفردان، فلا تقول: جاء القوم أكتعون كلهم، ولا أكتعون، من غير لفظ كل، بل لا يقعان إلا تبعا للفظ "كل"، وحينئذ يتعين أن العرب لم تضعها للعموم، بل تسوية وتقوية (للشيء

بغيره)، بخلاف "كل" فإنها لما كانت تنفرد بالعموم كانت موضوعة له. قلت: سؤال حسن، غير أني لا أدعي أنها موضوعة للعموم، بحيث يستعمل ابتداء في العموم وحدها نحو "كل"، بل أدعي أنها تشعر بإحاطة الحكم بما لا يتناهى على وجه التقوية والتأكيد. والموضوع للعموم أعم من الموضوع له على وجه ينفرد بالدلالة عليه أو يكون مضموما إلى غيره، فهذه موضوعة للعموم مع وصف انضمامها لغيرها، وأنها تفيده وتدل عليه في حال التقوية له، لا في حالة الانفراد به وإذا أفادته ودلت عليه في حالة مخصوصة، فقد دلت عليه لوجوب صدق الأعم عند صدق الأخص، ولو لم تكن دالة عليه ومفيدة له حالة التقوية، لكانت أجنبية منه، وحينئذ تكون كلفظ آخر من جنس آخر ذكر بعد صيغة العموم، ومثل ذلك لا يقوى العموم ولا يؤكده قطعا، وإنما يؤكده إذا كانت فائدته غير فائدة الأول، غير أنها في ثاني رتبه وبعد لفظ متقدم، وذلك غير قادح في قولنا: إنه أشعر بما أشعر به الأول من العموم. وهذه مضايق/ في صيغ العموم قل أن ينتبه لها، وظهر أن صيغ التأكيد كلها للعموم، وإذا كانت كلها، فقد تؤكد الجزئيات المنحصرة المشخصة. وكذلك "نفسه" و"عينه"، وجميع ما تقدم ذكره هناك، يجري

الحكم فيه حكم "كل" و"أجمع" و"أكتع" و"أبصع"، وهو المطلوب. ***

القسم الثالث: الصيغ المحلاة بلام التعريف

القسم الثالث من صيغ العموم الصيغ المحلاة بلام التعريف وهي نحو ثلاثين صيغة من أسماء الأجناس، معرفة بلام التعريف، إفرادا وتثنية وجمعًا، والمواصلات مع اللام نحو: الذي والتي، إفرادا وتثنية وجمعًا، وتذكيرًا وتأنيثًا، وقد تقدمت مفصلة بأقسامها ولغاتها. ونصوص الأصوليين متضافرة على أن المعرف بلام التعريف للعموم، غير أنهم لهم يتعرضوا لاستيعاب أقسامها، وكل ما ذكروه في بعض الأقسام موجود في بقبتها، وقد تقدم في الفصل الأول الأدلة على أن المعرف بلام التعريف للعموم مطلقا في المفرد والجمع، وحكاية الخلاف فيهما، والموصولات، كذلك عند المعممة إجماعا منهم. غير أن النحاة اختلفوا في سبب تعريف الموصول، هل هو التعريف أو صلته؟ حجة الأول: انعقاد الإجماع على أن لام التعريف معرفة، وهي موجودة في الموصولات، والأصل إذا وجد المقتضى للتعريف لن يوجد أثره، وقد

وجد، فيكون الأثر الحاصل هناك مضافا إليه، وإلا لزم النقض، وهو خلاف الأصل. حجة الثاني: أن لام التعريف في الموصولات صارت لازمة (لا) تجرد الموصولات منها، فصارت كالجزء منها، وجزء الكلمة لا يعرفها، بل معرفها صلاتها. ولذلك تضافرت النصوص على أن من شرط اللصة أن تكون معلومة للسامع، وأنه لا تجوز الصلة لجملة مجهولة للسامع، فلا تقول: مررت بالذي أبوه مسافر، والسامع لا يعلم ذلك، وإذا اشترطوا في الصلة أن تكون معلومة، دل ذلك على أنها سبب التعريف؛ لأنه فائدة علم السامع بها، حتى يعرف الموصول بصلته. وعلى كل تقدير تكون الموصولات من صيغ العموم، إما أنه لا قائل بالفرق، وإما لوجود/ لام التعريف المقتضية للعموم، وإما لأن تلك الأدلة المذكورة في اسم الجنس المعرف بلام التعريف موجودة فيها، وعلى كل تقدير يحصل المطلوب. * * *

القسم الرابع: صيف النفي

القسم الرابع من صيغ العموم صيغ النفي وهي نحو ثمان صيغ: النكرة مع "لا" مثبتة ومرفوعة، والنكرة منفية بغير "لا"، نحو: ليس في الدار أحد، والفعل المتعدي في سياق النفي، والفعل مطلقا، متعديًا كان أو قاصرًا و"لن" و"لا" و"لم"، و"ألما"، فهذه السبع صيغ كلها تفيد العموم. وبيانه: أن النصوص متظافرة على أن النكرة المثبتة مع "لا" للعموم، وأن النكرة العامة أيضًا للعموم، مع غير "لا"، نحو: ما جاءني أحد، ولا رجل في الدار، وأن الفعل كان متعديا له مفاعيل، أنه يعم مفاعليه، خلافًا لأبي حنيفة. والفعل في سياق النفي مطلقًا يعن نحو: {لا يموت فيها ولا

يحيى}، وقد تقدمت الأدلة على أنها للعموم مع نقل النصوص. وأما النكرة المرفوعة مع "لا" نحو: لا رجل في الدار، برفع رجل، فقد نصوا على أنه لا يعم الرجال، وأنك تقول: لا رجل في الدار بل اثنان، نص على ذلك ابن السيد البطليوسي في شرح الجمل، وغيره من النحاة. ومع ذلك فهو للعموم من وجه آخر؛ لأنهم نصوا على أنه نفي للرجل بوصف الوحدة، ومقتضاه أن لا يوجد رجل وحده ألبتة، بل إن وجد في الدار فمع غيره، وهذا حكم يعم جميع الرجال، بحيث لا يبقى رجل إلا وقد أقتضى هذا اللفظ في حقه أن لا يوجد وحده، فقد عم هذا الحكم جميع الرجال. ومتى وجد حكم عم ما لا يتناهى مدلول عليه بلفظ، كان ذلك اللفظ للعموم جزما؛ لأنا لا نعني بصيغ العموم إلا لفظًا دالًا على ثبوت حكم أفراد غير متناهية، وهذا كذلك، فتكون للعموم من هذا الوجه، وإن لم تكن للعموم من جهة نفي جميع الرجال من الدار، كما هو في قولنا: لا رجل ي الدار، مع البناء، فإنه نفي لجميع الرجال، أما هذا المرفوع فلا يقتضي ذلك، بل يقتضي بمفهومه أن في الدار بعض الرجال، لا بوصف الوحدة، وهو إنما يقتضي العموم من الوجه المتقدم، وإذا اقتضى العموم من وجه، كان للعموم، فإن اقتضاء الصيغة للعموم أعم من اقتضائها/ له من وجهين، فالوجه الواحد كافٍ، وهو المطلوب. وأما النكرة المنفية بغير "لا" نحو: ما جاء أحد، وليس في الدار أحد،

ونحوهما فقد تقدم ما فيها من الاستثناء والتلخيص وإقامة الأدلة على أنها للعموم. وأما "لن" و "لا" فإنهما لعموم نفي الفعل في المستقبل، كقوله تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى}، يقتضي ذلك نفي هذين الفعلين في جميع الأزمنة المستقبلة، ونقل عن سيبويه أنه قال: إنها للعموم، وأن "لن" أبلغ في النفي من "لا" في عموم النفي. ثم الأدلة المذكورة فيما تقدم على أن الصيغ المنصوصة للعموم، متجه فيها من صحة الاستثناء من الأزمنة المستقبلة، والسبق إلى الفهم، وحسن الثناء على الموافق لها في التعميم، وحسن الذم للمخالف لها، فتقول: لن تزورنا، تريد إلا في يوم الجمعة، وأسافر إلا في الربيع، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب اندراجه في ذلك الحكم، وإذا قال العبد لسيده: لن أخالفك أو لا أخالفك، يفعل ذلك دائمًا، حسن مدحه، وإن خالفه في بعض الأوقات حسن ذمه، وعتب على خلاف ذلك الوعد، وليس ذلك لأجل حق السيادة فقط، بل لو قال ذلك القول أجنبي لأجنبي اتجه ذلك فيه، وهو دليل على أن الذم مضافان للفظ موافقة ومخالفة. وأما السبق إلى الفهم، فلأنا نجد السابق إلى الفهم من هذه الصيغ

استغراق الأزمنة المستقبلة بنفي ذلك الفعل أبدًا، وإذا كان ذلك هو إلى الفهم كان اللفظ فيه حقيقة؛ لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وذلك هو المطلوب. فهذه الوجه الأربعة هي الأدلة المطردة في الدلالة على أن الصيغ للعموم، وهو موجود في هذه الصيغ، فتكون للعموم. وأما "لما" و"ألما"، فإنهما للعموم في الماضي، كما أن "لا" و"لن" للعموم في المستقبل، غير أنهما مقيدان بقيد، قال النحاة: "لما" جواب لفعل معه قد، ونفي الفعل من زمان ذكر إلى زمان المتكلم، و"لم" تنفي الفعل لزمان ذكر فقط، ولا يشترط أن يكون معه قد، فمن قال: قام زيد أول السنة، وأردت مخالفته في ذلك، قلت: لم يقم زيد، فيكون النفي خاصًا بأول السنة، ولم يتعرض/ بالنفي لما بعد ذلك، وإذا قال: قد قام زيد أول السنة، فقلت: لما يقم زيد، فهي نفي للفعل من أول السنة إلى الزمان التكلم، فالنفي يعم ويشمل ما بينك وبين الزمان الذي نسبت إليه الفعل، وكذلك "ألما". فـ "لم" لها أربع صور: لم مجردة، بالهمزة من أولها نحو: ألم يقم زيد، و"ما" من أخرها نحو: لما يقم زيد، فيدغم الميم في الميم فتصير "لما"، والهمزة من أولها، و"ما" من آخرها نحو: ألما يقم زيد، فاثنان من

هذه الأربعة للعموم وهما: "لما"، و"ألما"، واثنان ليسا للعموم وهما: "لم" و"ألم"، فإنهما لنفي جزئي، لا عموم فيه، فلذلك لم أذكرهما في صيغ العموم. وكذلك "ما" و"ليس" هما لنفي الحال، فهو نفي جزئي، لا عموم فيه، كما أن "لا" و"لن" لنفي المستقبل، و"لم" و"لما" لنفي الماضي، فلكل زمان اثنان، فليس فيهما العموم إلا ما تقدم ذكره، وقد وضح ذلك بما ذكرته. فإن قلت: النفي الواقع مع "لما" و"ألما" محصور بين حاصرين، فهو جزئي كالنفي الواقع بـ "ليس" و"ما" اللتين ساعدت على أنهما ليس للعموم، فلا يكونان للعموم؛ لأنك قد قدمت أن من شرط العموم أن يكون مدلوله غير متناه، وغير محصور، وهذا محصور فلا يكون للعموم. قلت: الفرق أن زمن الحال فرد معين، لا يقبل العدد ألبتة؛ لأنه لو اجتمع فيه فردان لكان أحدهما ماضيًا إن كان قبل، أو مستقبلًا إن كان بعد، فلا يكون الحاضر حاضرًا هذا خلف، فالحاضر حينئذ يستحيل فيه العدد، وتجب فيه الوحدة المطلقة. وأما من زمان ذكر فيه الفعل ونسب إلى زمان التكلم، فهو فيه عدد قطعا، قابل لأن يكون ألف سنة، وعشرة آلاف سنة، وغير ذلك من مراتب الأعداد، حتى يمكن أن يندرج فيه الأول الذي هو غير متناه في قول القائل: قد خلق الله المستحيل في الأزل، فيقول الراد عليه: لما يخلق الله المستحيل، ففي هذه الصورة حصل من الأفراد ما لا يتناهي بالفعل، وفي بعضها م يحصل، كما تقدم في مثال السنة، وحينئذ تكون موضوعة لاستغراق النفي من زمن الذكر إلى زمن التكلم كيف كان، ثم يتفق أن الواقع من ذلك العموم في بعض

الصور محصورًا، وقد تقدم ذلك مرارًا أن الحصر في الواقع لا يمنع أن الصيغة للعموم، كقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} / ولا يوجد إلا واحد أو عدد محصور، وتقول: من في الدار؟ ولا يوجد فيها إلا واحد، وتقول: قبضت درهمك كله، والدرهم محصور مشخص، مع أن "كل" موضوعة للعموم، (وهي من أقوى صيغ العموم) عند القائلين بالعموم، ومع ذلك وجودها في جزء محصور لا يقدح في كونها موضوعة للعموم؛ لأنها تصدق في العموم حقيقة إذا استعملت فيه، كذلك: "لما" تصدق حقيقة في العموم إذا استعملت فيه، كما في مثال الأزل، فلا يقدح فيها وجودها في بعض الصور في جزئي محصور، أما الحال فلا يتيسر فيه شيء من ذلك، بل يجب له الإيجاد وامتناع التعدد دائمًا. فتأمل هذه الفروق، وهذه المباحث، فهي تولد عندك معرفة العموم وتمييزه عن الخصوص، فتمييز العموم عن الخصوص قل من رأيته تحققه من الفضلاء، فقد اتجه أن ما ذكرته من صيغ للعموم، وهو المطلوب. * * *

القسم الخامس: صيغ الشرط

القسم الخامس من صيغ العموم صيغ الشرط وهي نحو عشرين صيغة: النكرة في الشرط، كقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}. والاسم الموصول، إذا كانت الصلة فعلا أو ظرفًا كقوله تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم}. والنكرة الموصوفة، إذا كانت الصفة فعلا أو ظرفا، نحو قولك" أي رجل يأتيني فله \رهم، أو: كل رجل في الدار فله درهم، والعموم وإن كان حاصلا من لفظ "أي" أو "كل" أو الموصول، غير أنه حاصل أيضًا مما انضم إلى هذه الصيغ من الشرط، و"ما" نحو: ما تصنع أصنعـ و"ما" إذا لحقتها "ما" المزيدة نحو: مهما وأصلها ماما، قلبت الألف الأولى هاء، فقلت: مهما و"من" نحو: من يأتيني به فله درهم، و"أي" نحو: أي شيء تصنع أصنع، و"حيث" بلغاتها الستة، وقد تقدمت في باب سرد صيغ العموم، نحو: حيثما تجلس أجلس، و"كيفما"، نحو: كيفما تفعل أفعل مثله، و"متى ما"،

نحو: متى ما سافر أسافر معك. و"إذا" الشرطية، نحو: إذا جئتني أكرمتك، و"إذما" وهي "إذا" اتصل بها "ما"، فلا تكون للشرط إلا إذا اتصل بها "ما"، بخلاف "إذا" تكون شرطًا وحدها كقول الشاعر: /إذ ما أتيت (إلى) الرسول فقل له .... حق عليك إذا اطمئن المجلس فهذه الصيغ كلها للعموم، فمنها ما تظافرت فيه نصوص العلماء وهو: "من"، و"ما"، و"مهما"، و"حيثما"، و"أينما"، والنكرة في سياق الشرط، و"أي"، فهذه نص العلماء على أنها للعموم، واستدلوا على ذلك بأمور، منها: صحة الاستثناء، والسبق إلى الفهم، والثناء على الممتثل، وذم المخالف، إذا قال: من دخل داري فله درهم، فأعطى كل من دخل الدار، استحق المدح، وامتنع الاعتراض عله، وإن حرم بعض الداخلين، استحق العتب، وكذلك في بقية النظائر. إذا تقرر ما وقع في النصوص، فنقول: هو بعينه موجود في بقية هذه الصيغ، وكذلك أنك إذا قلت: كيفما تصنع أصنع، فقد عممت حكم ربط صنيعك بصنيعه في جميع الصور، هذا هو المتبارد لفهم السامع، ويحسن الاستثناء، فتقول: إلا في صورة كذا (وإلا في يوم كذا). وكذلك العموم حاصل في "إذا أيضًا، فإذا قلت: إذا جئتني أكرمتك، فقد

ربطت إكرامك بمجيئه في جميع الأزمنة، حتى أنه لو جاءك في زمان ولم تكرمه استحقيت العتب، ولك أن نستثني أي زمان شئت من اللفظ، فتقول: إلا بالليل، وإلا إذا كنت معتكفًا، ونحو ذلك. فالعموم حصل من شمول الشرط بين الفعل في جميع الأزمنة إذا قلت: "إذا" وكذلك إذا قلت "إذما"، وحصل العموم في "كيفما" بين الشبهين الواقعين في الفعلين، في جميع صور الأفعال، ولم يتعرض للأزمان، بخلاف "إذا"، و"إذ ما"، فإن الربط وقع فيه باعتبار الأزمنة والفعال، وشمول الربط لما لا يتناهى هو سر العموم في جميع هذه الصيغ فتأمله تجده فيها كلها. وإذا وجدت شمول الربط بجميع الأشباه كما في "كيفما"، أو الأزمان كما في "إذا ما"، فقد حصل لك أنها كلها موضوعة للعموم، لأنا لا نعني بالعموم إلا لفظا يقتضي شمول حكم لما لا يتناهى. فإن قلت: ذلك موجود بعينه في "إن" وفي "إذا" لم تكن شرطًا، بل ظرفًا محضًا نحو قوله تعالى: /} والليل إذا يغشى}، وأنت لم تذكرهما من صيغ العموم. وينقض ما ذكرته أيضًا، بأن القائل إذا قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار مرة واحدة، طلقت طلقة واحدة، فإذا دخلت بعد ذلك، لم تطلق، ولو كانت الصيغة للعموم لتكرار الطلاق بتكرر الدخول، وهو خلاف

الإجماع، فدل ذلك على أنها مطلقة قل "إذا". وكذلك إذا قال: متى ما، أو: متى دخلت الدار فأنت طالق، أو: حيث وجدتك فأنت طالق، أو: أين وجدتك فأنت طالق، فإن الطلاق في جميع هذه الصور لا يتكرر، وذلك يقتضي أن هذه الصيغ كلها ليست للعموم. قلت: هذه أسئلة مشكلة صعبة، يحتاج الجواب عنها إلى نظر دقيق، وقواعد عربية. فنقول: التعاليق أربعة أقسام من حيث القسمة العقلية: تعليق مطلق على مطلق، وتعليق عام على عام، وتعليق مطلق على عام، وتعليق عام على مطلق. مثال المطلق على مطلق قولك: إن جئتني أكرمتك، على مطلق الإكرام على مطلق المجيء. ومثال العام على العام قول العرب: كلما جئتني أكرمتك، وكلما دخلت الدار فأنت طالق، التزم تكرر الإكرام بتكرر المجيء، وتكرر الطلاق بتكرر الدخول، فكل فرد من أفراد الدخول ربط به فرد من أفراد الطلاق، ولم تجعل العرب "متى ما" مثل "كلما"، بل سوت بين "متى" و"متى ما"، وفرقت بين "كل" و"كلما"، فإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق، مقتضى هذه الصيغة لغة أن يلزمه طلقة واحدة في كل امرأة يتزوجها، ولا يتكرر عليه الطلاق فيها، وإذا قال: كلما تزوجت فالمرأة التي أتزوجها طالق، تكرر عليه الطلاق بتكرر الزواج، فهي للعموم في الأفعال والطلاق والنساء، بخلاف "كل" للعموم في النساء فقط، دون الأفعال والطلاق. ومثال المطلق على العموم قولهم: متى دخلت الدار فأنت طالق، أو حيث

وجدتك، أو أين وجدتك فأنت طالق/، التزم الطلاق في جميع الأزمنة والبقاع، كما لو قال: التزمت طلقة واحدة في كل زمان يحصل الدخول فيه، فالمظروف واحد، والظروف متعددة، فالعموم فيها حاصل، بسبب أن كل زمان أو كل مكان عمه حكم كونه ظرفا لتلك الطلقة، فهذا الحكم شامل لجميع الأزمنة والبقاع على سبيل الجمع لا على سبيل الصلاحية، وهو معنى قولنا: تعليق مطلق على عام. وأما القسم الرابع وهو تعليق العام على المطلق: فكقولنا: إن دخلت الدار فأنت طالق كل طلقة يمكن وقوعها، أو: فلك كل مال لي، فقد التزم عموم المال وعموم الطلاق بمجرد دخلة واحدة. إذا تقررت هذه الأقسام الأربعة، ظهر الجواب عن سبب أن الربط إنما حصل فيها بين مطلق ومطلق، فلذلك لم يحصل فيها تكرر طلاق، ولم تكن من صيغة العموم. ويظهر لك بسبب تقرير هذه القاعدة وجه الجمع بين قول العلماء إن: "حيث" و"أين" و"متى" للعموم، وبين قولهم: إنه لا يتكرر الطلاق بتكرر المعلق عليه، بسبب أنه تعليق مطلق على عام، فلم يتناقض النقلان، بخلاف إذا لم تفهم هذه القاعدة، تقول: كيف يقولون هذه الصيغ للعموم، مع أنهم لم يكرروا الطلاق، وهذا هو شأن الإطلاق، ولا يفهم الفرق بين العموم والمطلق إلا بالتكرار، فإذا قال الله تعالى: {فتحرير رقبة}، لا يتكرر، وإذا قال: {فاقتلوا المشركين} يتكرر القتل دائمًا، وذلك يقتضي العموم، فلو أنا

قتلنا مشركًا واحدًا ثم وجدنا آخر لم يجب قتله، لأشكل فهم العموم غاية الإشكال، كذلك ها هنا إذا لم يتكرر الطلاق يشكل قولهم بأن هذه الصيغ للعموم. أما إذا فهمت هذه القاعدة، اتجه لك وجه الجمع بين قولهم بالعموم، وبين قولهم: الطلاق لا يتكرر، بأن يحمل الكلامين على أنه من باب تعليق المطلق على العام، كما لو صرح وقال: التزمت طلقة واحدة، لا يتكرر في جميع الأزمنة، أو في جميع البقاع، فلا خفاء حينئذ أن العموم حاصل من صيغة "كل" و"جميع"، ومع ذلك لا يتكرر الطلاق عليه؛ لأنه صدر بعدم/ التكرار، والتزام مطلق الطلاق فقط من غير تكرر. فإن قلت: ما مدركهم في قولهم: إن هذه الصيغ للعموم، ولم يجوزوا أن تكون مطلقة مثل "إن" وليس معنا من تكرر الطلاق ما يضطرهم إلى ذلك؟ قلت: مدركهم في ذلك فهمهم عن العرب في موارد الاستعمال العموم هو مدركهم، وهو المدرك في جميع اللغات، فمهما فهم معنى عند إدراك لفظ، قيل: هو مسمى ذلك اللفظ، وهم أمناء فيما يقولون عن فهمهم وحجة في ذلك، فهذا أمر وجداني، يعتمد فيه على الثقة بالناقل ليس إلا، مضافًا إلى صحة الاستثناء، وغير ذلك من الأدلة المذكورة في العموم، فلما تقرر ذلك عندهم في موارد الاستعمال، اعتقدوا العموم في هذه الصيغ، ونحن نقلدهم فيما فهموه ونقلوه، كما نقلدهم في جميع الأوضاع اللغوية. وأما الفرق بين "إذا" الشرطية و"إن"، فهو أن "إذا" الشرطية تدل على

زمان مبهم، وظرف غير معين، مثل: "متى" و"أين" يدلان على ظرف غير معين، وفيهما تعليق أمر على أمر، وتوقيف دخوله في الوجود على دخول أمر آخر مثل: "متى" و"أين" حرفا بحرف، ولي بينهما ألبتة فرق، فكما كان "متى" و"أين" للعموم، تكون "إذا" أيضًا" للعموم إذا كانت شرطًا، وليس ذلك من باب القياس في اللغة إلا من باب حصول فهم العموم عندها، كما يحصل عندها؛ لأجل حصول المساواة المطلقة، والفهم في موارد الاستعمال، وهو مدرك اللغات للعلماء أجمع، في أن الصيغة للعموم، والأمر للوجوب، والنهي للترك، وغير ذلك من الأوضاع اللغوية. ولما حصل الفهم ها هنا للعموم، والأمر للوجوب، والنهي للترك، وغير ذلك من الأوضاع اللغوية. ولما حصل الفهم ها هنا للعموم، لأجل المساواة المطلقة، وجب اعتقاد أنها للعموم. وأما "إن" فليس فيها إلا مجرد التعليق من غير ظرف، ومطلق التعليق أعم من التعليق على العموم أو المطلق، وليست مساوية لشيء من صيغ العموم، حتى يلزم أنها للعموم، ولم نجد مطلق الربط في صورة من الصور للعموم، فلذلك لم نعتقد أن لفظ "إن" للعموم، ولأن لفظ "إذا" الشرطية قال النحاة: العامل فيها هو لفظ الجواب، لا لفظ الشرط، فذا/ قلت: إذا جئتني أكرمتك، (فأكرمتك عامل في إذا)، لا جئتني. قالوا: بسبب أن

"إذا" ظرف، والظرف شأنه أن يضاف لما بعده، ولفظ جئتني مضاف إليه، والمضاف ليه معمول المضاف، فإن المضاف يخصصه، فلا يعمل فيه المضاف إليه، لئلا يعمل كل واحد منهما في صاحبه، فيلزم الدور، فإن العامل له رتبة التقدم على العموم، فلو كان معموله عاملًا فيه، لزم تقدم كل واحد منهما على الآخر، وهو الدور، وإذا تعذر فعل الشرط في هذا الظرف، تعين أن يعمل فيه فعل الجواب، هذا هو المشهور. ومنهم من يجوز عمل فعل الشرط فيه؛ لأن العامل في الظرف شرطه أن يكون واقعًا فيه، وكلًا اللفظين واقع في هذا الطرف، فأوجب صحة عمل فيه، لوجود شرط صحة العمل. وتصريحهم بالإضافة يقتضي أن المعنى: قد التزمت إكرامك في زمن مجئيك إلي، وزمن المجئ اسم جنس أضيف، واسم الجنس إذا أضيف يعم لقوله عليه الصلاة والسلام: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" فيعم جميع أفراد الماء وأفراد الميتة، وكذلك ها هنا يحصل العموم في هذا الظرف المضاف، فيكون الحكم بظرفيته شاملًا لكل أفراد زمن المجئ، وهو المراد بالعموم. وأما "إن" فليس فيها لفظ إضافة حتى يثبت العموم لأجلها، فهذا وجه آخر في الدلالة والفرق.

وأما "إذا" لم يكن شرطًا بل ظرفًا محضًا كقوله: آتيك إذا احمر البسر، وإذا قدم الحاج، فليست مساوية لـ "متى" و "أين" في الظرفية والتعليق، لانخرام أحدهما وهو التعليق، وإذا انتفت المساواة تردد الفعل ووقف عن التسوية في الحكم. فإن قلت: ما قدمته من إضافة اسم الزمن واقتضائه للعموم موجود هاهنا، فهو نقض على ذلك الدليل، والأصل عدم النقض، فإن الظروف كلها مضافة لما بعدها بإجماع النحاة، كانت شرطًا أم لا، واسم الجنس إذا أضيف يعم ما تقدم. قلت: الإضافة موجودة، غير أن الجزئي قد يضاف، كقولنا: عبدي حر، وامرأته طالق، ودرهمه/ زائف، ونحو ذلك. وقد تضاف الحقيقة الكلية من حيث هي هي، فيحصل العموم في الثاني دون الأول، والعلم بأن المضاف جزئي أو كلي يرجع إلى فهم السامع في موارد الاستعمال، فلا يهم أحد في تلك المثل من العبد والزوجة إلا الجزئي، ولا يفهم أحد من قوله - صلى الله عليه وسلم - في المياه والميتة إلا العموم، وأن المضاف الماهية الكلية، دون القصد إلى جزئي. ولو قيل: ما الدليل على ذلك، لعجزنا عن إقامته، لسبب أن الوجدانيات يتعذر إقامة الدليل عليها، فلا يقدر أحد أن يقيم دليلا على أنه مغتم أو مسرور أو جائع، ونحو ذلك، وقد قال العلماء: أربعة لا يقام فيها الدليل، ولا يقال فيها: لم؟ ولا يطالب فيها بدليل: الحدود،

والإجماع، والعوائد، وأحوال النفوس، فهذه منها، وهي حالة يجدها الإنسان في نفسه، فهو مؤتمن عليها، إن كان ممن يقلد في ذلك. إذا تقرر هذا، فالمفهوم من قولنا: آتيك إذا احمر البسر، أو قدم الحاج، والمراد زمن جزئي خاص بتلك النسبة، ولا نجد في أنفسنا من مجرد هذا القول أن جميع أزمنة احمرار البسر وقدوم الحاج إلى يوم القيامة، فقد يعرض هذا المتكلم لها، بل هو مشير إلى مقدم سنته، واحمرار بسر سنته تلك، هذا هو المفهوم في عرف الاستعمال، وقد تحفه قرائن تقتضي خلاف ذلك، كما أنه قد تحتف قرائن في "إذا" الشرطية، تقتضي التخصيص بفرد واحد من أمنة ذلك الفعل، كقوله: إذا جئتني بعبدي الآبق فلك دينار، إنما يتناول زمنا فردا، لقرينة أن الإتيان بالعبد لا يتكرر. فإن قلت: قوله تعالى: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} ظرف محض، لا شرط فيه، وهو في موضع نصب على الحال، تقديره: أقسم بالليل في حالة غشيانه، وبالنهار في حالة تجليه، أو في زمن تجليه؛ لأن هاتين الحالتين هما أعظم أحوال الليل والنهار، والقسم تعظيم، والتعظيم إنما يكون في حالة

عظم المعظم، فقد جعل الله التعظيم في هذه الحالة، لأجل عظمها، فحيث وجدت وجد/ التعظيم فيها، فيحصل العموم. فلت: القسم إنشاء، وهو الواقع في هذه الحالة، والإنشاء شيء وقع، لا تكرر فيه، والحال ليس من شرطها التكرر، وإذا انتفى التكرر من القسمين، انتفى العموم بطريق الأولى، فقد اندفعت النقوض، وحصلت الأجوبة. * * *

القسم السادس: صيغ الخبر في الثبوت بغير لام ولا ظرف

القسم السادس من صيغ العموم صيغ الخبر في الثبوت بغير لام ولا ظرف وهي نحو من اثنين وعشرين صيغة تقدمتها في التأكيد "كل"، و"وكلا"، "وكلتا" فإنها تستعمل خبرًا، نحو: كل القوم مسافر، وكلتا المرأتين منطلق، وخبرها مفرد، قال الله تعالى: {كلتا الجنتين أنت أكلها}، واسم الجنس إذا أضيف، قال صاحب كتاب الروضة: هو يقتضي العموم، كان مفردًا أو تثنية أو جمعًا، ولفظ "جميع" نحو: جميع القوم منطلق، و"معشر" بمعنى جميع، كقوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس}، وجمعه (معاشر) نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث"، وكأنه مشتق من العشيرة التي هي بمعنى القبيلة، والقبيلة هي للعموم، و"ذو" في لغة طئ، فإنها تكون بمعنى الذي، قال الشاعر: لا نتحين للعظم ذو أنا عارقه

أي: الذي أنا عارقه، و"ذات" مؤنثة ذو الطائية، و"ذوا" تثنيته، و"ذواتا" تثنيته مؤنثة في الرفع، و"ذواتي" تثنيته في النصب والجر، و"ذوو" جمع ذو الطائية في الرفع، و"ذوي" في النصب والخفض، و"ذوات" بضم التاء، جمع مؤنث في الرفع، و"ذوات" بخفض التاء في النصب والخفض، حكاها كلها ابن عصفور في المقرب. و"ما الموصولة" نحو: رأيت ما عندك، و"ما الزمانية" نحو: لا واليتك ما طرد الليل والنهار، و"ما المصدرية" إذا وصلت بفعل مستقبل، نحو: يعجبني ما تصنع، ويتقبل الله من المتقين ما يعلمون، وصيغة "أبدًا" في قوله تعالى: {خالدين فيها أبدًا}، وكذلك "سرمدا"، ودائمًا" "كقولنا: نعيم الجنة سرمدًا ودائمًا، ولفظ "من" بكسر الميم، التي هي حرف جر، في قولك: ما جاءني من رجل، ولفظ "من" بفتح/ الميم، التي هي اسم في قولك: رأيت من عندك ولفظ "قاطبة" في قولك: جاء القوم قاطبة، وكذلك "كافة" في قولك/: جاء الناس كافة، ومن خصائصهما أن لا يكونا إ منصوبين على الحال، ولا يقبلان الإضافة ولا صدر الكلام. وقد رد على الحريري في قوله: قاطبة الكتاب، ولفظ "سائر"

على رأي الجوهري الذي جعله بمعنى جميع، ووافقه على ذلك بعض المتأخرين، وهو عندهم مأخوذ من سور المدينة بغير همز، الذي معناه المحيط، وعند غيرهم من السؤر، بمعنى البقية، بالهمز، فلا تكون للعموم عند هؤلاء، وهم الجمهور. فهذه كلها للعموم، فمنها ما تقدم النقل فيه عن العلماء، وإقامة الدليل عليه نحو: "كل"، "واسم الجنس إذا أضيف"، "وجميع"، "وما الموصولة" كقوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}، تقدم تقرير العموم فيها، وحديث ابن الزبعري وجوابه، وكذلك تقدم الفصل في "من" التي هي اسم، وأنها من صيغ العموم، غير أنهم خصصوها بالشرط أو الاستفهام، ليحترزوا به من لفظ "من" إذا كانت نكرة موصوفة، فإنها ليست للعموم، نحو: مررت بمن معجب لك، أي: برجل معجب لك، غير أن هذا الشرط وإن نفعهم في إخراج النكرة، ضرهم في إخراج الموصولة، فإنها عندهم للعموم اتفاقًا منهم، وكذلك "ما" الموصولة، خرجت باشتراطهم

فيها الشرط والاستفهام، وهي عندهم للعموم، فكان الصواب لهم أن يقولوا: "من" و"ما" للعموم، إذا لم (تكن) نكرة أو حرفًا، فيندرج جميع الأقسام معهم في العموم، فهذه كلها لا تحتاج لإقامة الدليل على أنها للعموم، لوجود النصوص والأدلة على أنها للعموم، وقد تقدم ذلك في إقامة الدليل على أصل العموم، وحكاية الخلاف فيه. وأشرع الآن فيما ليس فيه نص لهم، نحو: "معشر"، و"معاشر"، فإنه بمعنى "جميع"، و"جميع" للعموم، فيكون ما في معناه كذلك؛ لأن العموم ليس لذات اللفظة من حيث هي تلك اللفظة، إنما هي باعتبار مسماها كلية، مشتملة على أفراد غير متناهية، فكل لفظ وجدناه كذلك كان للعموم، ولفظ (معشر) كذلك، / كما تقدم من الأدلة على أن تلك الصيغ للعموم، وتيسر تقررها في هذه اللفظة. وكذلك (ذو) في لغة طيء، مفردًا وتثنيةً وجمعًا ومذكرًا ومؤنثًا؛ لأنه بمعنى "الذي" الموضوع للعموم عند المعممة، فما (كان) بمعناه وجب أن يعتقد أنه للعموم، كما أنا وجدنا لفظا مدلوله مدلول لفظ الحيوان أو الإنسان، قلنا: هو موضوع للحيوان أو الإنسان. وأما "ما" الزمانية في قولك: لأطيعن الله ما طرد الليل النهار، فلأن المعنى: أطيعن الله في أزمنة طرد الليل النهار، فتكون هذه الأزمنة كلها ظروفًا للطاعة، وهي غير متناهية من حيث دلالة اللفظ، وإن كان الواقع منها دائمًا

متناهٍ، وقد تقدم أنه لا تناقض بين كون لفظ العموم مدلوله غير متناه، والواقع منه متناهٍ، فيكون لفظ (ما) الزمانية للعموم، وهو المطلوب. وأما المصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل، نحو قولك: يتقبل الله من المتقين ما يعملون، فتقدير الكلام: يتقبل الله تعالى من المتقين عملهم، وهذا عام في جميع أعمالهم المستقبلة، وهي غير محصورة، فتكون للعموم، وكذلك قولك: يعجبني ما تصنع، أي: يعجبني صنيعك، وهذا اسم جنس أضيف، فيعم بالنقل والأدلة المتقدمة، فكذلك ما في معناه، فتكون "ما" المصدرية إذا وصلت بفعل مستقبل للعموم، وهو المطلوب، أما إذا وصلت بفعل ماضي، نحو قولك: أعجبني ما صنعت، فإنك تشير بلفظك هذا إلى صنيع جزئي خاص وقع في الوجود، وكل ما وقع في الوجود هو متناهٍ، ومدلول العموم غير محصور ولا متناهٍ، فلذلك اشترطت في صلتها أن تكون بفعل مستقبل، ليكون المشار إليه غير محصور وغير متناهٍ، وباعتبار دلالة اللفظ، وأن الواقع منه دائم محصور، وقد تقدم أن ذلك لا يضر ولا يقدح في أن الصيغة للعموم. وأما بقية أقسام "ما"، نحو: "الكافة"، و"المهيئة"، و"النافية"،

و"ما" حرف من الحروف، فلم أجد فيه شيئًا مدلوله مدلول العموم، حتى أقول هو للعموم، وكذلك/ "التعجبية" في قولك: ما أحسن زيدًا، فإنها تكون نكرة، معناها شيء عند الجمهور، وتقدير الكلام: شيء حسن زيدًا، والنكرة في سياق الإثبات لا تصلح للعموم، فلا تكون "ما" التعجبية للعموم، أما من جعلها بمعنى الذي موصولة، فهي عندهم يلزم أن تكون للعموم؛ لأن "الذي" هو للعموم، فكل لفظ يكون معناه معنى لفظ العموم هو للعموم، لكن هذا المذهب عندهم رديء، بسبب أنها إذا كانت موصولة كان ما بعدها صلتها، والصلة مع الموصول كلمة واحدة، والكلمة الواحدة لا تستغل كلامًا يحسن السكوت عليه (لكن هذه يحسن السكوت عليها) فلا تكون موصولة، فيحسن السكوت على قولنا: ما أحسن زيدًا، من غير حاجة إلى زيادة، فلذلك هي نكرة مبتدأ، وما بعدها خبرها، فيحسن السكوت على المبتدأ والخبر. فالذي يصلح للعموم من أقسام "ما": "الموصولة"، و"الزمانية"، و"المصدرية" إذا وصلت بمستقبل، و"الشرطية" بأقسامها، (والاستفهامية بأقسامها)، وما عدا ذلك لا يصلح للعموم؛ لأنه ليس فيها شيء وضع لما وضع له من لفظ العموم. وأما صيغة "أبدا"، فإنها موضوعة للعموم، بسبب أنها موضوعة لاستغراق الفعل المذكور معها الأزمنة المستقبلة، كقوله تعالى: {خالدين فيها أبدا} فالخلود يشمل جميع الأزمنة المستقبلة، فتكون صيغة "أبدا". موضوعة للعموم

في الأزمنة المستقبلة، وهو المطلوب. وقد بالغ بعض العلماء فقال: إن الفعل المذكور بلفظ "أبدًا"، لا ينسخه، نحو قوله: افعلوا هذا أبدًا، ورأى أن قوة استغراقه يمنع من النسخ. وردوا عليه: بأن لفظ "أبدًا" من صيغ العموم في الأزمان، والعموم ظاهر من الظواهر، والنسخ جائز على النصوص، فضلا عن الظواهر. وكذلك لفظ "سرمدًا" و"دائمًا" وإن كانا نكرتين يقتضيان استغراق الأزمنة المستقبلة، فيكونان للعموم فيها، كقوله: افعل هذا أبدًا أو سرمدًا، معناه: في جميع الأزمنة المستقبلة، وهذا هو معنى العموم. وأما "من" بكسر الميم -التي هي حرف جر- فإنها للعموم، لأجل أنها

موجب العموم، وتدل عليه في قوله: ما جاءني من رجل، وأنك لو حذفت "من" لم يكن/ اللفظ للعموم، كما تقدم النقل فيه عن الجرجاني وغيره، وأن العموم إنما يحصل بسببها، فتكون مع النكرة في النفي كـ "لام" التعريف والإضافة مع النكرة، فكما تقول: النكرة المعرفة (للعموم، تقول: النكرة) مع "من" للعموم، وتكون "من" أحد موجبات العموم، كما تقدم بيانه. وأما لفظ "قاطبة" فإنها وإن كانت لا تستعمل إلا حالًا مؤكدة لما قبلها، فإنها تدل على الشمول لغة، في جميع ما تقدم، في قولك: جاء الناس قاطبة، فمعنى قاطبة: أي لم يبق منهم أحد، وهي تؤكد العموم كما يؤكده لفظ "كل"، والمؤكد للشيء يقتضي أن يطابقه في معناه، فلا يؤكد العموم إلا ما كان للعموم، فلفظ قاطبة للعموم. وكذلك القول في "كافة"، فإنها تؤكد العموم كما تؤكده قاطبة، فتقول: جاءني القوم كافة، فهي تؤكد العموم وتقويه، ومؤكد العموم أولى أن يكون للعموم، قال الله تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} أي: لجميعهم. وأما لفظ "سائر"، فإذا جعلناه بمعنى جميع الشيء، مأخوذ من سور المدينة، فظاهر أنه للعموم، فإنه حينئذ مرادف لـ "جميع"، وجميع للعموم،

فيكون "سائر" للعموم، لكن المشهور من مذاهب العلماء أنها بمعنى: باقي الشيء، لا جملته، وباقي الشيء لا شمول فيه لذلك الشيء، فلا تكون للعموم على رأي الجمهور، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان: "أمسك أربعًا، وفارق سائرهن"، أي باقي النسوة. فقد اتضح لك إلحاق ما لم ينصوا عليه أنه للعموم (بما نصوا عليه) أنه للعموم وهو المطلوب. * * *

القسم السابع: الظروف

القسم السابع من صيغ العموم الظروف التي هي الجهات الست، وما سردته معها من ظروف الزمان، وجملة من ظروف المكان، وهي نحو أربعين صيغة من ظروف الزمان والمكان، تقدم منها في الشرطيات "أين"، و"متى"، و"حيث" إذا كانت شرطًا، نحو: حيث تجلس أجلس، فإن العموم حاصل فيها، نقله القاضي عبد الوهاب وغيره، أما إذا كانت خبرية، نحو: جلست حيث يجلس زيد، فلا تكون للعموم؛ لأنه مكان جزئي، وظرف معني لا عموم فيه، بخلاف الشرطية، لا تختص بمكان، بل تشمل جميع البقاع/ وهو من باب تعليق المطلق على العام، كما تقدم بسطه في قاعدته في الشرطيات، وتقدم أقسام "حيث" مستوعبة، وتقدم أيضا من الظروف "إذا" الشرطية في الشرطيات، وتقدم أيضا "أينما" و"متى ما" و"حيثما" و"إذ ما"، وبقي ما يختص ذكره بهذا القسم وبيانه وتقرير العموم فيه: "قبل"، و"بعد"، و"فوق"، و"أسفل"، و"يمين"، و"يسار"، و"وراء"، و"قدام"، و"تحت"، و"أمام"، و"خلف"، و"دونك"، و"على"، في قولك: جئت من عليه، أي: من فوقه، وعاليه، كقوله تعالى: {عاليهم ثياب سندس خضر} و"معاليه"، كقولك: جئت من معاليه، ومن معال، أي: من عل، و"علا" بالقصر، لغة في عل، و"علو" بالواو، بمعنى فوق، تقول العرب: جئت من علو، وعلو، حكاها كلها الزمخشري، و"عند"، و"لدي"، و"يمنة"، و"يسرة"، و"صباحا ومساء"،

بالعطف، و"يومًا"، بالعطف، و"عوض"، و"قط". فهذه ونحوها بأقسامها ولغاتها تدعي أنها كلها للعموم، لقول الله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد} يشمل جميع الأزمنة الماضية بلفظ "قبل"، وجميع الأزمنة المستقبلة بلفظ "بعد"، وكذلك إذا قلت: جلست فوق زيد، أو السماء فوق الأرض، يتناول ذلك جميع جهات العلو إلى غير النهاية، فكل شيء يفرض في الجهة العليا -وإن بعد غاية البعد عن الأرض -فإنه يصدق أنه فوق الأرض، وكذلك تحت الأرض، يصدق على ما لا يتناهى من الجهات السفلية، وكذلك إذا قلت: يمين البصرة أو يسار بغداد، فإنه يتناول جهات لا نهاية لها من الجهتين، وهذا هو معنى العموم. وذلك "وراء"، و"قدام"، يتناول ما لا يتناهى في تلك الجهتين، حتى إنه ما من شيء يفرض في هاتين الجهتين إلا ويصدق عليه أنه وراء زيد وقدامه إلى غير النهاية. وكذلك "تحت"، و"أمام" و"دونك" هو بمعنى أسفل، وقد صح أن أسفل للعموم، فدونك كذلك، و"عالي"، و"علو" بمعنى فوق، وقد صح أن "فوق" بمعنى العموم، فكذلك ما في معناه. وكذلك "عند"، تقول: عند زيد مال، وإن فرض في الهند أو الصين أو

غير ذلك من البقاع البعيدة جدًا، فلا غاية لمدلول (عند) من المكان، كما أنه لا غاية لمدلول الجهات الست من الزمان، ومالا غاية له، فهو للعموم قطعًا، وكذا/ إن قلنا: إنها بمعنى عند، فهي للعموم أيضًا، وإن قلنا: إنها تختص بالقريب نحو قوله تعالى: {وألفيا سيدها لدا الباب}، لا يكون للعموم؛ لأن مفهومها على هذا التقدير محدود محصور فلا يكون للعموم. وأما "صباحًا مساءً" في قولك: لقيته صباحًا ومساءً، فقال أئمة اللغة: لقيته كل صباح ومساء، وإن العرب تستعمل هذا العطف للعموم، كأنها نبهت بالعطف على أصل الكثرة، ومرادها الكثرة التي لا تتناهى، كما نبهت بالتثنية على أصل الكثرة، ومرادها كثرة غير متناهية في قوله تعالى: {ثم أرجع البصر كرتين}، أي: أرجعه مرارًا غير متناهية فإنك لا تجد في السماء شقا، وكذلك أهل اللغة. وأما "عوض"، فهو اسم لجميع الزمان المستقبل، تقول: لا أفعله عوض العائضين ودهر الداهرين، فيشمل جميع الأزمنة المستقبلة، ومسمى المستقبل عوض؛ لأنه يخلف الزمن الحاضر دائمًا، فيذهب الحال والحاضر، ويأتي فرد

من المستقبل عوضه. تقول: ما فعلته قط، والمراد في جميع الأزمنة الماضية، والأزمنة الماضية غير متناهية، فيكون مدلول "قط" غير متناه، فتكون للعموم، وهو مأخوذ من قولك: قططت القلم، لأن الماضي قد انقطع من المستقبل وانقطع ودخل الوجود، فقد وضح أن الجهات الست ونحوها من الظروف للعموم وأن مسمى الجميع غير متناه وهو المطلوب. فإن قلت: إن هذه الظروف إنما أفادت العموم لأجل الإضافة، فإنها أسماء أجناس لتلك المفهومات الزمانية والمكانية، وأنها تصدق بفرد واحد من تلك المادة، ولما حصلت الإضافة استوعبت تلك الأفراد، وصارت للعموم -وقد تقدم أن اسم الجنس إذا أضيف عم -فالموجب للعموم الإضافة لا خصوصيات هذه الألفاظ، فلا يكون هذا القسم اسمًا آخر غير ما تقدم من اسم الجنس إذا أضيف، (فتكون عدة) قسمًا آخر -وأن هذه الألفاظ وضعت للعموم -باطلًا. قلت: لو كان (قبل) لمطلق الزمان المتقدم، ويصدق/ بفرد منه، دون استيعابه، وكان في مسمى هذا اللفظ أفراد، لكانت العرب تثنيه وتجمع

بحسب أفراده، فتقول: قبلان، وقبولك، مثل: فلسان وفلوسك، لما كان فلس اسما لجنس فيه أفراد، فلما امتنعت العرب من تثنية هذه المفهومات وجمعها، دل ذلك على أنها موضوعة لكلية هذه المفهومات، واستيعاب كل فرد منها، لا لمطلق الفرد منها. وهذا من أعظم البراهين على أن الجهات الست وما معها مما تقدم ذكره ألفاظها صيغ عموم لا خصوص، لسبب أن اللفظ الموضوع للكلية نكرة الأفراد على هذه الصورة، استحال أن يوجد لذلك المسمى ثانيًا، فتعذر تثنيته فضلًا عن جمعه، ولما كانت العرب لا تثني هذه المفهومات ولا تجمعها، دل ذلك على أنها موضوعة للعموم قطعا. فإن قلت: قد نقل صاحب المقرب وغيره أن العرب لا تجيز تثنية الخمسة ولا الأربعة، فلا تقول: الخمستان ولا الأربعتان، مع أن لفظ الخمسة موضوع لعدد محصور، وكذلك الأربعة، والعدد المحصور مناف للعموم، فينتقض ما ذكرته بهذه الألفاظ. قلت: الفرق أن المنقول عن العرب، إنما امتنعت من تثنية الخمسة والأربعة، اكتفاء بلفظ العشرة عن تثنية الخمسة، وبلفظ الثمانية عن تثنية الأربعة،

والاختصار والإيجاز شأن العرب، فلذلك امتنع ذلك في تلك الألفاظ، أما هاهنا فليس لنا لفظ آخر يقوم مقام التثنية والجمع، فإن كان اللفظ إنما هو موضوع لجنس تحته أفراد، ومثل هذا قاعدة العرب فيه صحة التثنية والجمع، فمنع هذه القاعدة ومنع الحكم مع وجود المقتضي خلاف الأصل، فدل ذلك على أن المانع كون الصيغة للعموم، وأنها إذا كانت كذلك استحال فيها التثنية والجمع، وعلى هذا لم تنتقض القاعدة، وهو الحق الواضح. ويؤكد هذا التقدير أنا إذا سمعنا (قبل) ونحوه من الظروف، إنما يفهم سبقًا غير متناه، غير/ أنا نتوقف في أن هذا السبق باعتبار أي شيء؟ فإذا قلنا: قبل زيد، أو غير ذلك، استفدنا من الإضافة تعيين ما القبل منسوب إليه، لا أنا نستفيد الاستغراق، وكذلك (فوق) و (عند) وبقية الظروف، وإذا كان السابق إلى الفهم من لفظ الظرف هو الاستغراق قبل الإضافة، كان اللفظ موضوعًا للعموم، لأن الفهم والسبق إليه هو أقوى أدلة الوضع وأكده، تقدر التثنية والجمع فيه لغة. ومن أسماء الزمان والمكان ما ليس موضوعًا للعموم، نحو: سافرت ميلا،

وبريدًا، ويومًا، وسنةً، وشهرًا، وساعةً، وذات مرة، وبعيدان، بين ولحظةً، وبكرةً، وعشيةً، وسحرًا، وعشاءً، وصباحًا، ونحو ذلك من أسماء الزمان والمكان، بسبب أن مسمياتها جزئيات مخصوصة محصورة، منافية لسلب النهاية والعموم، ولذلك جوزت العرب فيها التثنية والجمع، لأنها موضوعة لما يقبل أن يقع منه أفراد كثيرة غير متناهية. فإن قلت: اعتمادك على تعذر التثنية والجمع ضعيف، بسبب أن العرب تثني صيغ العموم وتجمعها، فتقول: المشرك، والمشركان، والمشركون (والمشركات)، مع أن صيغة المشرك للعموم عندك، وقد دخلتها التثنية والجمع؛ فبطل ما ذكرته من التعليل. قلت: لا نسلم أن صيغة العموم ثنيت وجمعت، فإن ذلك مستحيل عقلا، والمستحيل عقلا لا يقع لغة، وأما قوله: المشركان والمشركون، فالتثنية إنما وردت في مشرك الذي هو نكرة وعرفت بعد

ذلك، والنكرة قابلة للتثنية، وأما المشرك فلم يثن ولم يجمع، وكذلك المشركون، ليس هو جمع المشرك المعرف بلام التعريف، إنما هو جمع مشرك المنكر، ثم دخلت لام التعريف عليه، فمن ادعى أن المشرك ثني وجمع، منعناه، وهو منع متجه. * * *

القسم الثامن: أسماء العدد المعدولة

القسم الثامن من صيغ العموم أسماء العدد المعدولة نحو: آحاد، ومثنى، وثلاث، ورباع، وخماس، وسداس، وسباع، وثمان، وتساع، وعشار. فهذه عشرة ألفاظ موضوعة في لسان العرب للتعبير بها عن معنى قولنا: دخل الجيش واحدًا واحدًا إلى حيث لم يبق منه واحد، فيكون قولنا: (آحاد)، قائم مقام ذكر هذه الألفاظ/ الكثيرة التي تأتي على الاستغراق والشمول والعموم، ويكون قولنا: آحاد، مفيدًا ذلك بعينه، ومرادفًا له، والمفيد للعموم والاستغراق في غير المحصور، يكون موضوعًا للعموم. وكذلك قولنا: "مثنى"، قام في لغة العرب مقام قولنا: قدم ربيعة أو مضر المدينة اثنين اثنين، إلى أن يأتي عليهم، بحيث لا يبقى منهم اثنان، بألفاظ محصلة للشمول والاستغراق، ويكون لفظ مثنى محصل لما تحصله تلك الألفاظ الكثيرة العدد الاثنية على الشمول، فيكون قولنا: مثنى، مفيدًا للشمول، فيكون للعموم وهو المطلوب. وكذلك قولنا "ثلاث" قام مقام قولنا: ثلاثة ثلاثة، إلى غير النهاية، فتكون للعموم.

وقولنا "رباع" قائم مقام قولنا: أربعة أربعة، إلى غير النهاية. وكذلك بقية الألفاظ العشرة، وإذا كان كل واحد منها مفيدا للعموم والاستغراق، كان من صيغ العموم وهو المطلوب. قال الله تعالى: {جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء}، أي: فريق من الملائكة كلهم له جناحان إلى آخرهم، وفريق منهم كل واحد منهم له ثلاثة أجنحة، ثلاثة، ثلاثة، إلى آخرهم، وفريق له أربعة أجنحة، أربعة، أربعة، إلى آخرهم، فاكتفى بقوله تعالى: {مثنى وثلاث ورباع} عن تكرير الألفاظ. وكذلك قول النجاة: إن المانع لمثنى وأخواته من الصرف الصفة والعدل، أي: العدول عن الألفاظ المكررة إلى هذا اللفظ الواحد. وكذلك قوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع}، أي: انكحوا اثنين اثنين، إلى آخركم، (أو ثلاث نسوة إلى آخركم)، (أو أربع نسوة إلى آخركم)، فكل واحد منا مخير بين الواحدة، والاثنين، والثلاث، والأربع، وقد غلط من قال: إن مقتضى هذه الآية جواز التسع، وهو اثنان وثلاث خمس، ورباع، يصرن تسعة.

وقيل: إن مقتضى اللغة ليس هو هذا، اثنان وثلاثة وأربعة، بل مثنى غير اثنين، وثلاث غير ثلاثة، ورباع غير أربعة، وتحت كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة عدد غير متناه، بخلاف اثنين وثلاث وأربع، إنما تحته عدد محصور، وهو نص فيه، كسائر الأعداد، فقد صح أن هذه الصيغ المعدولة/ عن أسماء الأعداد للعموم وهو المطلوب. * * *

القسم التاسع: صيغ النواهي

القسم التاسع من صيغ العموم صيغ النواهي والصحيح من المذاهب أنها للتكرار، وإذا كانت للتكرار، كانت لاستغراق الأزمنة المستقبلة كلها، وهي غير متناهية، فيكون اللفظ دالًا على شمول الترك لها، وهو حقيقة العموم، غير أن دلالة لفظ النهي على استغراق الأزمنة دلالة تضمن، بسبب أن لفظ النهي يدل مع الزمان على الترك، فالترك جزء مسمى صيغة العموم، واستغراق الأزمنة الجزء الآخر، فيكون اللفظ دالًا على كل واحد منهما دلالة تضمن، وعلى مجموعهما مطابقة. وهذا بخلاف ما تقدم من صيغ العموم، فإنها تدل على العموم مطابقة، ولكن المطوب حاصل من التضمن، فإن الدال على العموم (أعم من الدال على العموم) مطابقة أو تضمنًا أو التزامًا. * * *

القسم العاشر: صيغ الأمر

القسم العاشر من صيغ العموم صيغ الأمر إذا قلنا: بأنها للتكرار، فإنها تدل على استغراق الأزمنة التي يمكن إيقاع الفعل فيها في الاستقبال، وهي غير محصورة، فتكون الصيغة دالة عليها تضمنًا؛ لأن طلب الفعل هو جزء مسماها، مع استغراق الزمان، فهي دالة تضمنًا كصيغ النواهي، وتمتاز على صيغ النواهي بوصفين: أحدهما: أن القائلين بأن النهي للتكرار أكثر. والثاني: أنا نشترط الأزمنة الممكنة فيها دون صيغ النواهي، بسبب أن استغراق الأزمنة بالترك ممكن، أما باستغراقه بالفعل فغير ممكن، بل لابد من قضاء حاجة الإنسان وغيرها من ضروريات الحياة التي تمنع مباشرة الفعل، أما كون الإنسان لا يشرب خمرا، فهذا يمكن المداومة عليه من غير مشقة، فلذلك لم نشترط إلامكان فيها.

القسم الحادي عشر: الصيغ المعدولة عن الأمر على وزن (فعال)

القسم الحادي عشر من صيغ العموم الصيغ المعدولة عن الأمر على وزن فعال نحو: "نزال" بمعنى انزل، و"متاع" بمعنى امنع، "وتراك" بمعنى اترك، ونحو ذلك مما (تثنيه العرب هذه التثنية)، ومقصودها به الأمر، فإن كون هذه الصيغ للعموم تتخرج على كون صيغ الأوامر للتكرار، كما تقدم/ على (115/ أ) الخلاف فيها، فالمرادف لها في معناها وجب أن يفيد العموم من الوجه الذي تفيده؛ لأن الأصل في حقيقة الترادف ذلك، وهو المطلوب. * * *

القسم الثاني عشر: الصيغ الموضوعة لأسماء الأوامر والنواهي

القسم الثاني عشر للعموم الصيغ الموضوعة لأسماء الأوامر والنواهي ولم تلتزم العرب فيها بناء معينا، نحو: "إية" بفتح الهاء، معناه اسكت. فإن نوناه كان نهيًا عن الحديث مطلقًا الذي كان فيه وغيره، فيحصل فيه العموم من وجهين: الأول: أن أصل النهي للتكرار، فيعم هذه الأزمان. والثاني: أنه يشمل جميع أنواع الحديث، فيعم تركها كلها مع عموم الأزمان، وإن لم ينونه، قال أئمة اللغة: معناه اسكت عن هذا الحديث فقط، فيعم الأزمنة كما يعمه النهي، ولفظ اسكت، وإن كان أمرًا لا نهيًا، غير أن النهي متى عبر عنه بلفظ أمر معناه النهي، كانت أحكام النهي ثابتة له، نحو: اترك السرقة، فإن هذا اللفظ مساوٍ للفظ لا تسرق لغة. و"إيه" بكسر الهاء، قال أئمة اللغة: معناه: حدث، وهو أمر بالحديث، عكس مفتوح الهاء، ثم إن نوناه كان معناه حدث من هذا الحديث أو من غيره، وهو أمر بالحديث كيف كان، أما إن لم ينونه مع الكسر، فمعناه حدث من هذا الحديث خاصة. وكذلك قال أئمة اللغة: إن التنوين في هذه الألفاظ للتنكير وعدمه للتعريف، إشارة إلى أن المراد الحديث المعهود، وإذا كان إيه بالكسر، تخرج

إفادتها للعموم في الأزمنة المستقبلة، التي يمكن وقوع الفعل فيها على كون صيغ الأوامر للتكرار. وكذلك قولك: رويدًا زيدًا، معناه: أروده وأمهله، فيخرج إفادته للعموم على كون صيغة الأوامر للتكرار. وكذلك قول العرب: "تيد" زيد، بمعنى: أمهله، فمعناه: رويدًا: وكذلك "هلم" زيدا، أي: قربه، وكذلك هات الشيء، أي: أعطه، قال الله تعالى: {هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وكذلك "ها" زيدا، أي: خذه، و"حيهلا" الثريد، أي: ائته، ومنه حي على الصلاة، فإنه لغة فيها، وكذلك (بله) زيدا، أي: دعه، ومنه قول ابن دريد: من رام ما يعجز عنه طوقه .... أعجزه نيل الدنا بله القصا

/ أي: أعجزه القريب من المقاصد، فضلا عن البعيد، أي: دع البعيد، لا تتحدث به، فإن عجزه عنه بطريق الأولى. وكذلك قول العرب: (عليك زيدًا)، أي: الزمه، ومنه قول العرب: "على زيدًا"، أي ولنيه، وكذلك "صه" أي: اسكت، و"مه" أي: اكفف، و"هيت"، أي: أسرع، ومثلها "هيتك"، و"هيك"، و"هيا" "هيا"، ومن قول الشاعر. فقد دجا الليل فهيا هيا أي: أسرع وقطك، أي: اكتف وانته، و (إليك)، أي: تنح، وسمع أبو الخطاب من يقال له: إليك، فيقول: "إلي"؟ ، كأنه قيل له: تنح، فقال: أتنح؟ وقس على هذا المنوال بقية هذه الصيغ، وكلها إما أمر أو نهي، فيخرج على ما في الأمر والنهي من الخلاف في كونها للتكرار.

القسم الثالث عشر: الصيغ المنقولة بالعرف

القسم الثالث عشر من صيغ العموم الصيغ المنقولة بالعرف وهي أسماء القبائل التي أصلها أسماء الأشخاص (معينين أو غير معينين)، نحو: غسان، وقد تقدم من سردها نحو الثمانين، أو نحو ذلك، وثبت أنها لا تقف عند الألف، بل أكثر، فإن فرق القبائل وفروعها شرقًا وغربًا أعظم من أن يحصى عددها، غير أني ذكرت منها أسماء مشهورة، يستند مما يتقول منها على ما يوجد منها، والذي ندعي أنه موضوع للعموم منها هو ما اطرد فيه أن يذكر، يعني لفظ بني فلان، ونحو: ربيعة، ومضر، فلا تجد أحدًا يقول: بني ربيعة، ولا بني مضر، أو كان ذلك غالبا فيه نحو: تميم، وقد يقال: (بنو) تميم، فيقال: فلان من تميم، والأكثر حذف (بني). وأما ما عادته أن لا يستعمل إلا بلفظ (بني) مطردًا أو أكثريًا، فلا أدعيه، فإنه لم يحصل فيه نقل، فهو باقٍ اسم لذلك الرجل الذي سمي به أولًا، لا اسم للعموم، فتأمل ذلك. ثم إن كل ما ليس هو بمنقول إلا أن يتوقع فيه أن يصير منقولًا بعد هذا، ويصير من صيغ العموم، وما هو منقول، إلا أن العموم ممكن أن يصير بعد ذلك مردودًا إلى أصل مسماه، ويبطل كونه للعموم، وذلك كله منشؤه غلبة الاستعمال، وجميع العرفيات في جميع الصيغ كذلك، يتوقع فيها النقل وإبطاله،

من صيغ الطلاق والعقود في المعاملات، وألفاظ إنشاء الشهادات وغيرها. / إذا تقرر المقصود من هذا القسم، فنقول: إلي يدل على أن الصيغ المنقولة من هذا القسم للعموم، أن يصير موضوعًا لأفراد غير متناهية، فإذا قلنا: هذا وقف علي ربيعة، فلا نفهم إلا العموم، وجاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قدموا قريشا ولا تقدموها"، فهذا حكم ثبت لكل واحد من قريش، وإذا ثبت لكل واحد منهم، فليس المقتضى له إلا لفظ ربيعة، وهو اسم لرجل معين في أول الأمر، ثم انتقل بسبب العرف إلى ذريته، فشملهم أجمعين، فبقي العموم، بعد أن كان للخصوص. وكذلك جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الرجل من هذه الأمة ليشفع في مثل ربيعة ومضر)، يعم ذلك جميع أفراد القبيلتين، ولا يفهم من الحديث إلا ذلك، وذلك دليل قاطع على أن هاتين اللفظتين انتقلتا للعموم بعد أن كانتا لشخصين معينين، هما جدًا هاتين القبيلتين. وكذلك إذا قلنا: خزاعة، ومزانة، ولواته، وصنهاجة،

وهسكورة، وزناتة، وهمدان، وعدنان، لا يفهم من كل لفظة من هذه الألفاظ إلا العموم، وأفراد غير متناهية من كل واحدة من هذه الطوائف، وأن الحكم المرتب على كل واحد من هذه الألفاظ يشمل أفرادًا غير متناهية، وهو المقصود بالعموم، وعلى هذا الأسلوب تجري جميع ألفاظ القبائل إذا وقع الاشتهار فيها والنقل، فتكون للعموم بهذا، وهي ألفاظ لا يحصى عددها، فتكون صين العموم غير معلومة الحصر، أو الحصر للألفاظ المنقولة. وأما الألفاظ المفيدة للعموم بالوضع الأول من غير نقل فهي معلومة الحصر بالاستقراء، وواقعة عند غاية لا تقبل الزيادة، والمنقولة تقبل الزيادة دائما، فإن كل شخص له اسم علم، يمكن أن يكون له ذرية عظيمة، يشتهر اسمه فيهم، فيصير للعموم، بعد أن كان للخصوص، كما جرى في صدر الزمان، فالباب غير منسد في المنقولات بخلاف اللغويات، فإن الوضع فرع فيها واستقر، وعلمت أو طلبت بالاستقراء، وقد استقريت منها/ فيما تقدم نحو مائتين وخمسين صيغة، على حسب ما وصل إليه الفكر، والله أعلم بما بقي منها، غير أنها محصورة لا تقبل الزيادة، لاستقرار الوضع اللغوي، بخلاف الوضع العرفي، فإن بابه مفتوح أبدا، وقد حصل المقصود بما أردت بيانه من ذلك وهو المطلوب. * * *

الباب الخامس عشر في تقرير الجمع بين أقوال العلماء من النحاة والأصوليين فإنها متناقضة في ظاهر الحال

الباب الخامس عشر في تقرير الجمع بين أقوال العلماء من النحاة والأصوليين فإنها متناقضة في ظاهر الحال فقال أئمة اللغة والنحو: إن جموع السلام مذكرة ومؤنثة نحو: المشركين والمشركات، والمؤمنين والمؤمنات لأقل الجمع وهو العشرة فما دونها، لا يتناول ما فوقها. ومن جموع التكسير ما هو موضوع للعشرة فما دونها، ولا يتناول ما فوقها أيضا، وهو ما تضمنه (قول الشاعر): بأفعل وبأفعال وأفعلة وفعلة .... يعرف الأدنى من العدد فأفعل نحو: أفلس، وأكلب، وأفعال نحو: أجمال، وأسلاب، وأفعلة نحو: أجربة، وأدوية، وفعلة نحو: صبية، وغلمة، فهذه كلها عند اللغويين موضوعة للعشرة فما دونها، ولا تتناول ما فوق العشرة ألبتة. وهذا النقل يقتضي أنها في غاية المنافاة، لاقتضاء العموم، فإن العموم مدلوله غير متناه، وغير محصور، والعشرة فما دونها متناهية ومحصورة، فبين البابين تناف شديد.

قول أهل اللغة: جموع السلامة لأقل الجمع العشرة فما دونها بعض جموع التكسير موضوع للعشرة فما دونها

وقال الأصوليون: إن المشركين والمؤمنين ونحو ذلك، من صيغ العموم، وكذلك الأحمال والأجمال، والصبية والأفلس، ونحوها، كلها موضوعة للعموم، ويتناول لغة ما لا يتناهى، وما لا ينحصر. وهذا النقل ظاهر مناقض للنقل الأول، والأصوليون طائفة عظيمة الشأن، كثيرة العدد، لا يمكن تخطئتها في النقل عن العرب، وكذلك النحاة واللغويون، طائفة عظيمة الشأن، وهي تنقل عن العرب أيضًا، ولا يمكن أن يقال: إن النحاة واللغويين أقعد بلسان العرب من الأصوليين، فيقدمون عليهم، لأن ذلك يلزم فيه تخطئة الأصوليين/، ولا سبيل إلى رد ذلك، فإن خطأ مثل هؤلاء بعيد جدًا، فلابد من الفكرة في معنى القولين، حتى يقع الجمع بينهما. وقد أشار إمام الحرمين في البرهان، والإمام فخر الدين في المحصول، إلى طريق الجمع بينهما، بأن نعتقد أن قول الأصوليين محمول على التعريف باللام، أو الإضافة، نحو: الأجمال، وأجمال القوم، فهذان اللفظان في هذه الصورة للعموم، ويحمل قول اللغويين والنحاة على حالة التنكير، نحو: أجمال، وصبية، ونحو ذلك من هذه الصيغ، إذا وقعت منكرة، فهذه هي الموضوعة للعشرة فما دونها، ولا يتناول ما فوقها. فأما إذا عرفت هذه الصيغ، فقلنا: "المؤمنين" و"المشركين" ونحو ذلك، فإنها موضوعة للعموم الذي لا ينحصر ولا يتناهى، وحينئذ يذهب التناقض بين القولين، ويجتمع كلام الفئتين في النقل عن العرب، باعتبار حالتين لهذه

الألفاظ، وهذا وجه حسن في طريق الجمع بين النقل. إشكال عظيم: صعب لي نحو عشرين سنة أورده على الفضلاء والعلماء بالأصول والنحو، فلم أجد له جوابا يرضيني، وإلى الآن لم أجده، وقد ذكرته في شرح المحصول، وكتاب التنقيح، وشرح التنقيح، وغيرها مما يسره الله علي من الموضوعات في هذا الشأن، وهو أن أئمة اللغة لما عينوا صيغ جموع القلة، وضبطوها في جموع السلامة، وتلك الصيغ الأربعة من جموع التكسير، موضوع في لسان العرب للكثرة، وهو الأحد عشر فما فوقه، وأنها حقيقة في ذلك، مجاز فيما دون العشرة، وفي العشرة أيضًا، وأن جموع القلة المتقدمة إنما تستعمل فيما فوق العشرة مجازًا أيضًا، كذلك نص عليه الزمخشري في هذا الموضع، فقال: وقد تستعار كل واحدة منهما للأخرى، وإطلاق الاستعارة إنما تكون في المجاز؛ لأن الحقيقة لا يقال فيها استعارة إجماعًا، وكذلك قال ابن الأنباري في كتابه الموضوع في النحو: إن

قول الأصوليين: جموع السلامة من صيغ العموم وهي لما لا يتناهى

جمع القلة قد يستعمل مكان جمع الكثرة مجازًا، وجمع الكثرة قد يستعمل مكان جمع القلة مجازًا، والعلاقة بينهما اشتراكهما في أصل الجمع، يشير إلى أن العلاقة بينهما هي المشابهة، / ومتى كانت العلاقة هي المشابهة، كان المجاز استعارة، باتفاق أرباب علم البيان والأصول، فقد صرح في المغني بالاستعارة، كما صرح بها الزمخشري، واتفقا على أن كل واحد من اللفظين لا يصدق حقيقة فيما ذكر، بل مجازًا. وكذلك تظافرت مباحث المفسرين والنحاة في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، فقالوا: كيف جمع بين لفظ الثلاثة التي هي دون العشرة، وبين لفظ القرء، الذي وزنه فعول، الذي هو من جموع الكثرة، بخروجه عما تضمنه البيت المتقدم، مع أن الممكن أن يقال: ثلاثة أقراء، على وزن أفعال، الذي هو موضوع لما دون العشرة، فلا يناقض لفظ الثلاثة؟ وأجابوا عن ذلك: بأن اللفظ في الآية مجاز، موضوع موضع أقراء، وهو يؤكد ما تقدم، ولم أر في هذا الباب نقلًا يناقض هذا النقل، وطلبته أنا وجمع كثير من الفضلاء في كتب النحاة والأصوليين فلم نجده. إذا تقررت هذه النقول، أشكل بعد ذلك قول النحاة والأصوليين والفقهاء

طريقة الجمع بين قولي الفريقين

أن الخلاف واقع في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة؟ ومرادهم بذلك أن مفهوم الجمع له رتب أقلها اثنان، وفوقها الثلاثة والعشرة والمائة والألف والآلاف، وما لا يتناهى، كلها رتب الجمع، فلا خلاف أن أكثر الجمع غير محصور، إنما الخلاف في أقله، هل هو اثنان، أو ثلاثة؟ . فأقول: إن الخلاف في هذه المسألة غير منضبط، ولا متصور؛ بسبب أن قولهم: أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، إن فرض في صيغة الجمع التي هي: "جيم، ميم، عين"، امتنع إتيانها في غيرها من الصيغ، لأنه لا يلزم من ثبوت الحكم لصيغة ثبوته لغيرها من الأوضاع اللغوية، وإن كان الخلاف في غيرها الذي هو مدلول هذه الصيغة (والجموع) ومدلولها كلها يسمى جمعًا، نحو: رجال، (وحد لهم) وغير ذلك من صيغ العموم. فنقول: صيغ الجموع قسمان: جمع كثرة، وجمع قلة، كما تقدم بيانه وتحريره، ونصوص العلماء فيه، فإن كان مواطن الخلاف/ في جموع الكثرة، فلا يستقيم؛ لأن أقل مراتب جموع الكثرة أحد عشر؛ لأنها موضوعة لما فوق الشعرة، فأقلها أحد عشر، والاثنان والثلاثة إنما يكون اللفظ فيهما مجازًا، والبحث في هذه المسألة ليس هو في المجاز، فإن إطلاق لفظ الجمع مجازًا على الاثنين لا خلاف فيه، إنما الخلاف في كونه حقيقة، بل لا خلاف أن لفظ الجمع يجوز إطلاقه وإرادة الواحد به مجازًا، فكيف الاثنان؟ وقد قيل في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم} ..

إن القائل واحد، وقوله تعالى: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}، إن الناس هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإن كان الخلاف في جمع القلة، فهو متجه؛ لأن موضوع للعشرة فما دونها، وما دونها يمكن أن يقال: إنه اثنان أو ثلاثة، وهذا وإن تصورناه من حيث الوضع اللغوي، لكنه يستقيم أن يكون هو المراد بخصوصه للعلماء؛ لأنه لو كان مرادهم لخصصوا الاستدلال به في هذه المسألة والفتاوى المفرعة عليها، لكنهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم لم يقولوا في استدلالهم في هذه المسألة: فرقت العرب بين التثنية والجمع، فقالوا: رجلان ورجال، فرجال ونحوه في استدلالهم على أن أقله ثلاثة، لا اثنان، وهو جمع كثرة، وكذلك في الفتاوى، فلم يفرقوا في الأقارير، والوصايا والنذور، والأيمان، والاستدلالات على الأحكام في مقام المناظرة أو الاجتهاد بين جمع القلة، وجمع الكثرة، بل يقولون فيمن قال: لله علي الصدقة بدنانير: يلزمه، كما لو قال: على الصدقة بأفلس، سواء، لا يفرقون بين الصيغيتين، فدل ذلك على أن مرادهم غير معقول، فإن أقل الجمع الذي للكثرة أحد عشر، كما تقدم، فهذا وجه الإشكال. وأكثر من تعرض للجواب عنه يقول: بحث العلماء في هذه المسألة، ليس

إشكال عظيم صعب

بحسب الحقيقة اللغوية، بل بحسب الحقيقة العرفية، وأهل العرف لا يعتبرون الفرق بين جمع الكثرة وجمع القلة. وهذا الجواب باطل لوجوه: الأول: أن البحث في / مسائل أصول الفقه إنما يقع عن تحقيق اللغة، ليحمل عليها الكتاب والسنة، والبحث عن العرف إنما يقع في أصول الفقه تبعًا، وحمل كلام العلماء على الغالب هو المتجه، ولذلك قالوا: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والأمر للتكرار، والنهي للتكرار، والأمر للفور، والأمر يدل على الأجزاء، والصيغة المعرفة باللام، فيحمل كلامهم على هذا القانون. وثانيها: أنهم إذا استدلوا، لا يقولون: قال أهل العرف: ولا فرق أهل العرف، بل يقولون: فرقت العرب بين التثنية والجمع. وجميع اعتماداتهم على النعوت والتأكيدات والضمائر وغيرها، التي لا مدخل للعرف فيها، بل لغة صرفة، على أن مقصودهم اللغة الصرفة، وما هو كلام العرب إلا العرف الطارئ، فيقولون: الذي يدل على أن أقل الجمع ثلاثة، أنه لو كان اثنان لجوزت العرب، مررت برجال اثنين، وذلك لا يجوز، بل لا ينعت الجمع إلا بالثلاثة، وكذلك لا تؤكد الاثنان بما يؤكد به الجمع، فلا يقولون: مررت برجلين كلهم، بل كليهما، وقال العرب في ضمير التثنية: فعلًا، وفي ضمير الجماعة: فعلوا، ولا يكون أحدهما مكان الآخر، فدل على أن الجمع لا يصلح للاثنين حقيقة، وكذلك الاثنين لا تصلح للجمع حقيقة.

واحتج (الفريق) الآخر، وهو جمع من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - والقاضي والأستاذ أبو إسحاق - رحمة الله عليهما -: أن أقل الجمع اثنان، بقوله تعالى: {وكنا لحكمهم شاهدين}، والمراد داود وسليمان عليهما السلام، وبقوله تعالى: {إذا تصوروا المحراب}، وكانوا اثنين، وبقوله تعالى: {خصمان}، وبقوله تعالى: {إذا دخل على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان}، وبقوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم}، وبقوله تعالى في قصة موسى وهارون: {إنا معكم مستمعون}،

وبقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السلام: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعًا}، والمراد: يوسف وأخوه، وبقوله تعالى: {وغن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}، ونحو ذلك من الاستدلال بمحض اللغة الصرفة، ولم نجد لهم استدلالًا إلا كذلك في جميع الكتب/ الموضوعة للأصول والفقه، وذلك يدل على أن مقصودهم اللغة، لا العرف. وثالثها: سلمنا أنهم يبحثون عن الحقيقة العرفية، فما بالهم لا يعرجون على الحقيقة اللغوية ألبتة، ولا يذكرونها أصلًا؟ ! وعادتهم أن كل موطن ذكروا فيه الحقيقة العرفية، فلابد أن يذكروا فيه اللغوية، ونسوا وجه النقل عنها في العرف، هذه عادتهم، وها هنا لم يتعرضوا لذلك أصلًا، بل إنما يذكرون موضوعات العرب في الضمائر والأسماء الظاهرة، وذلك يوجب القطع بأن مرادهم الحقيقة اللغوية، دون العرفية. ومنهم من يجيب بأن جمع الكثرة يصدق على ما دون العشرة حقيقة، وإنما جمع القلة لا يتعدى العشرة، فعلى هذا يكون أقل الجمع مطلقًا اثنان: وهذا باطل؛ بما تقدم من النقل عن الزمخشري وغيره: أن لفظ الكثرة والقلة لا يستعمل أحدهما مكان الآخر إلا مجازًا، وكتب التفسير مملوءة من ذلك، خصوصًا الكشاف، فما بقي الخلوص من هذا الإشكال إلا بالطعن في هذه النقول، ولا سبيل إليه، فيبقى الإشكال على حاله.

فائدة: ضابط جمع القلة

فائدة: ضابط جمع القلة في وصفه ومسماه ما هو؟ إذا سئل عنه، أن تقول: هو اللفظ الموضوع لضم شيء إلى مثله أو إلى أكثر منه -على الخلاف في أقل مسماه- بوصف كونه لا يتعدى العشرة، فيكون مسماه جمع قلة، هو القدر المشترك بين العشرة والاثنين أو الثلاثة- على الخلاف- يفيد كون هذا المشترك لا يتعدى العشرة، فهو أخص من المشترك بين مراتب الجموع، لأجل تقيده بأنه لا يتعدى العشرة. وضابط مسمى جمع الكثرة: أنه اللفظ الموضوع لأحد عشر فما فوقها من غير حصر، وهذا كله ما لم تعرف الجموع بلام التعريف، أو الإضافة المعرفة، أما إذا عرفت أحدهما، صارت الجموع كلها للعموم، ولا يعتبر بعد ذلك عشرة ولا غيرها، بل يصير كل لفظ منها موضوعًا للكلية، وهو ثبوت الحكم لكل فرد فرد، بحيث لا يبقى فرد، يسقط اعتبار كونه جمعًا أيضًا، وتستوي صيغ العموم والمفردات في ذلك. فائدة: / قال إمام الحرمين في البرهان: ينبني على هذه المسألة بالإجماع ضمير المتكلم المتصل والمنفصل نحو: نحن، وفعلنا، فإنه يكفي فيه المتكلم وآخر معه، إجماعًا، ولا يشترط الثلاثة، وكذلك لا يصح الاستدلال به على أن أقل الجمع اثنان، لأن اللغة لا تؤخذ قياسًا.

وهذه الفوائد أيضًا تؤكد ما تقدم من أن البحث إنما وقع عن الحقيقة اللغوية دون العرفية، فإن قوله: الاستدلال، وقوله: اللغة لا تؤخذ قياسًا، إنما يصح ذلك في اللغة دون العرف. وهذا الإشكال تعرضت له لنفاسته في نفسه، ولتعلقه بالعموم ومباحثه من وجهين: أحدهما: أن الخلاف في الجمع المنكر هل يحمل على العموم عند الجبائي، أو على أقل الجمع عند الجمهور؟ ينبني على معرفة أقل الجمع وتلخيصه، ولا يتلخص إلا بالبحث عن هذا الإشكال. وثانيهما: أنا إذا جمعنا قول الأصوليين والنحاة بالطريق المستقدم، وأن النحاة يقولون: جموع القلة تحمل على أقل الجمع حالة التنكير، فإنا نحتاج إلى معرفة هذا القول وتحريره بالبحث عن هذا الإشكال. فهذه الوجوه هي وجه تعرضي إليه. * * *

الباب السادس عشر في حد التخصيص، وتمييزه عن النسخ والاستثناء، وقبول اللفظ العام للتخصيص

الباب السادس عشر في حد التخصيص، وتمييزه عن النسخ والاستثناء، وقبول اللفظ العام للتخصيص فهذه ثلاثة فصول: الفصل الأول في حد التخصيص فعند الواقفية: هو إخراج بعض ما ضح أن يتناوله الخطاب، سواء كان الذي صح واقعًا، أو لم يكن؛ لأنهم لم يجزموا بالوضع، فليس عندهم إلا الصلاحية والقبول، ويقولون: إن المتكلم أراد باللفظ بعض ما يصلح له دون بعض. وأما نحن لما جزمنا بالوضع قلنا: اللفظ استعمل في بعض ما وضع له دون بعض. وحد التخصيص عندنا: هو إخراج ما تناوله اللفظ العام، أو ما يقوم مقامه بدليل يصلح للإخراج وغيره/ قبل تقرر حكمه. فقولي: "إخراج" احترازًا من الأجنبي الذي لا يعارض العموم، والمؤكد

أيضًا - فإنك ستقف بعد هذا الباب - إن شاء الله تعالى - على الفرق بين المخصص والمؤكد. وقولي: "أو ما يقوم مقامه"؛ ليندرج التخصيص الواقع في المفهومات، فإن الغزالي وجماعة لا يسمون المفهوم عامًا؛ لأن العام في اصطلاحهم هو: اللفظ الذي تتشابه دلالته بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد، والمفهوم وإن تشابهت دلالته، غير أنه ليس بلفظ، فلا يسمى عامًا، وهذا بحث في اصطلاحهم. فقلت: أو ما يقوم مقام اللفظ العالم في شمول الحكم، فإن التخصيص يدخل في المفهومات أيضًا، ÷ فإن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الماء من الماء" يقتضي مفهومه: ألا يجب الغسل من القبلة، ولا من جميع أنواع المباشرة، ولا من أكل الطعام، ولا (من) غير ذلك من الأجناس التي ليست بإنزال. وهذا السلب عام شامل لهذه الأجناس كلها من حيث المعنى، وقد يقع الاصطلاح على عدم تسميتها عمومًا، فإذا ورد قول عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" خرج من شمول هذا السلب التقاء الختانين، وقد صار موجبًا للغسل، وأضيف لحكم المنطوق دون المفهوم.

وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الربا في النسيئة"، يقتضي مفهومه سلب تحريم الربا عن المفاضلة بين الجنسين وغيره، فلما ورد قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل"، خرج التفاضل من حكم المفهوم، ودخل في حكم المنطوق، فظهر حينئذ أن المفهوم يدخله التخصيص، كما يدخل في المنطوق، فذلك قلت: أو ما يقوم مقامه؛ ليندرج في الحد. وقولي: "بدليل يصلح للإخراج وغيره" احترازًا من الاستثناء، فإن لفظ الاستثناء لا يصلح إلا للإخراج، ولا يصلح للإنشاء والتقرير، بخلاف أدلة التخصيص، إن كانت منفصلة، نحو تخصيص قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}

بقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تقتلوا الرهبان"، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقتلوا الرهبان"، يصلح لإنشاء هذا الحكم ابتداء من غير أن يخرج شيئًا. وإن كان متصلًا نحو الشرط والغاية والصفة، فإنها/ قد ترد (لا) للإخراج، كقولنا: إن جاء زيد فأكرمه، فإن هذا شرط، ولم يتقرر قبله ولا معه ولا بعده شيء يقتضي أنه مخرج منه، كقوله: سرت حتى أدخل مكة، فهذه غاية، وليست مخرجة من "سرت" شيئًا، فإن قولنا: "سرت"، إنما يقتضي مطلق السير، ولا يقتضي شموله لجملة البقاع حتى يكون لفظ "حتى" مخرجًا لبقيتها ما عدا مكة. والصفة كقولنا: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فإن قولنا: السميع العليم، لم نأت بهما لإخراج مسمى آخر بلفظ الله غير سميع ولا عليم، بل أتينا بهاتين الصفتين لمطلق الثناء على الله تعالى، لا للإخراج، وكذلك سائر صفات الله تعالى إنما يؤتي بها للمدح، لا للتمييز والإخراج، وعكسه الرجيم، أتينا به للذم والسب، لا لإخراج شيطان ليس برجيم، فهذه المخصصات المتصلة أيضًا، المنصوص عليها تصلح لغير الإخراج. أما الاستثناء فلا يصلح إلا لإخراج بعض الكلام عنه، فلذلك صار

قولي: "بلفظ يصلح للإخراج وغيره" مخرج للفظ الاستثناء عن الحد. وقولي: "قبل تقرر حكمه"، احترازًا من أن يعمل بالعام، فإن الإخراج بعد ذلك يكون نسخًا، فإن التخصيص إنما هو بيان المراد باللفظ العام دون غيره، أما إذا عمل به، فهو مراد كله، بناء على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فيكون الكل مرادًا، فالمخرج بعد ذلك يكون مما هو مراد، فهو نسخ لا تخصيص، وإن فرعنا على جواز تكليف ما لا يطاق وأنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، جوزنا ورود التخصيص بعد العمل، وتعين إسقاط هذا الحد (من الحد)، فهذا هو الحد المنطبق على التخصيص. * * *

الفصل الثاني في الفرق بين التخصيص والنسخ والاستثناء

الفصل الثاني في الفرق بين التخصيص والنسخ والاستثناء أما النسخ: فالفرق بينه وبين التخصيص من وجوه: الأول: أن التخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله اللفظ، والنسخ يصح فيما علم بالدليل من الأفعال أو التقرير، أو قرائن الأحوال، أو الدليل العقلي أنه مراد، وإن لم يتناوله اللفظ. وثانيها: أنه يصح نسخ شريعة بشريعة، كما نسخت الشريعة المحمدية تحريم السبت والشحوم وغير ذلك، ولا يصح تخصيص شريعة بشريعة/ لأن عادة الله تعالى جارية بألا ينزل على أمة إلا ما يتعلق بها، أما أنه ينزل على بني إسرائيل في التوراة ما يتعلق ببيان القرآن وغيره- بخلاف عادة الله تعالى- فلا ينزل على الأمة المتقدمة ما يتعلق بالأمة المتأخرة، وكذلك لا ينزل على المتأخرة ما يتعلق بتخصيص نص عند المتقدمة، فلا ينزل الله تعالى في القرآن ما يتعلق ببيان التوراة؛ بسبب أن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ونحن وإن جوزناه بناء على جواز تكليف ما لا يطاق، غير أنه لم يقع في عادة الله تعالى، عملًا بالاستقراء، فلذلك لا تخصص شريعة بشريعة، وإن جاء نسخها به. وثالثها: أن النسخ رفع للحكم من محل كان ثابتًا فيه، والتخصيص

الإمام الرازي يقول: لا معنى للفرق بين النسخ والتخصيص لعدم التباين بينهما

بيان للمحل الذي لم يكن الحكم ثابتًا فيه. ورابعها: أن الناسخ يجب أن يكون متراخيًا عن المنسوخ؛ بسبب أنه لو اقترن به فقيل: صوموا عاشوراء إلى سنتين مثلًا، كان هذا الحكم ينتهي بانتهاء غايته ويتعذر فيه النسخ، فتعجيل الناسخ يبطل حقيقة النسخ، فلا يجوز تعجيله، ويجب تأخيره، والمخصص لا يجب أن يكون متراخيًا، سواء وجبت المقارنة على رأي المعتزلة، أو لا تجب على رأينا. وخامسها: أن التخصيص قد يقع في المتواتر بخبر الواحد والقياس، والنسخ لا يقع فيه، هذه فروق الجماعة، وإن كانت العبارة والمقاصد في بعض القيود تختلف. وقال الإمام فخر الدين: النسخ عندي لا معنى له؛ إلا التخصيص في الأزمان بطريق خاص، فيكون الفرق بين التخصيص (والنسخ) فرق ما بين العام والخاص، ولا يكون بينهما تباين. قلت: يعني أن النسخ أخص؛ لأنا نشترط في الناسخ أن يكون مساويًا أو أقوى، ولا نشترط ذلك في التخصيص، فهو أعم.

الفرق بين التخصيص والنسخ عند إمام الحرمين

وقوله: "تخصيص في الأزمان"، لا يلزم (أن يكون التخصيص في الأزمان ناسخًا، ولا النسخ تخصيصًا في الأزمان)، فلا يطرد كلامه، ولا ينعكس. أما أنه لا يلزمه أن يكون التخصيص في الأزمان نسخًا؛ فلأن العموم قد يقع في الأزمان، فيدخله التخصيص نحو قولنا: لأصومن الدهر أو الشهور، أو الأيام أو نحو ذلك من صيغ العموم في الزمان، فيجوز أن يريد إخراج بعض الأزمنة/ عن هذا العموم، ولا يكون نسخًا، فإن الزمان المخرج لم يكن الحكم ثابتًا فيه، بل بيانًا وتخصيصًا. وأما أنه لا يلزمه أن يكون النسخ تخصيصًا في الأزمنة، فإن قاعدة أهل الحق أنه يجوز نسخ الفعل الواحد الذي لا يتكرر مع الأزمنة، كذبح إسحاق عليه السلام، وهو مرة واحدة، فلا يقال: خرج بعض أزمنة الفعل وبقي بعض الأزمنة معمورًا بالفعل، فما أطرد كلامه ولا انعكس، نعم النسخ والتخصيص قد اشترك في لازم واحد، وهو مفهوم الإخراج من حيث الجملة، والحق ما عليه الجماعة. وأما الاستثناء فقد قال الإمام فخر الدين رحمه الله: إن الفرق بينه وبين التخصيص فرق ما بين الخاص والعام، وإن الاستثناء أخص من جهة اشتراط الاتصال فيه، دون التخصيص. وفرق غيره بفروق:

ما يرد على الفرق لإمام الحرمين

أحدها: الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على الشيء الواحد، فالسبعة مثلًا لها عبارتان أو اسمان: سبعة، وعشرة إلا ثلاثة، والتخصيص ليس كذلك. قلت: ويرد على هذا الفرق التخصيص بالشرط، والغاية، والصفة، فإن هذه الثلاثة التي تستقل بأنفسها، فتضم إلى ما قبلها كالاستثناء، ويصير الجميع عبارة واحدة عما بقي، فقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} إن حاربوا أو المحاربين، أو (حتى يقتلوا الحرابة)، لا يفهم من الجميع إلا الاقتصار على قتل المحاربين خاصة. وثانيها: أن التخصيص قد ثبت بقرائن الأحوال، فإنه إذا قال: رأيت الناس، دلت القرينة على أنه ما رأى الناس كلهم؛ لأن العادة قاضية بعجزه عن رؤية الآفاق، والعقل دل على عجزه عن رؤية الماضين من الناس والمستقبلين، والاستثناء لا يحصل لغة بالقرائن، فليس له أن يقول: صمت ألف سنة، ويستعمله في بعضها، اعتمادًا على الاستثناء؛ لأن الاستثناء لابد فيه من اللفظ عند أهل اللغة، فلا يمكن أن يريد البعض مجازًا، فإن أسماء الأعداد نصوص لا تقبل المجاز. وثالثها: أن التخصيص يجوز تأخيره لفظًا، والاستثناء لا يجوز فيه ذلك.

قلت: وقد تقدم أن من خصائص الاستثناء أنه لا يستعمل/ إلا للإخراج، نحو جاء القوم إلا زيدًا، وأما جميع الصيغ المخصصة والناسخة، فلا تتقيد بذلك، بل قد تستعمل للإنشاء، وقد تقدم بيانه. * * *

الفصل الثالث في قبول اللفظ العام للتخصص

الفصل الثالث في قبول اللفظ العام للتخصص وتقرير هذا الفصل ينبني على قاعدتين: القاعدة الأولى: أن التخصيص مجاز؛ لأن اللفظ موضوع للكلية بوصف الاستغراق، فاستعمالها في الجزئية مجاز؛ لأنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، فيكون مجازًا. القاعدة الثانية: أن الصيغ على قسمين: نصوص، فلا تقبل المجاز، ومثلوها بأسماء الأعداد. وظواهر، تقبل المجاز والعمومات، وأسماء الأجناس ظواهر فتقبل المجاز. ويظهر لك بمسألة فقهية، وهي أنه إذا قال: أنت طالق ثلاثًا، وأراد واحدة أو اثنين، فإنه لا ينفعه ذلك، لأنه رام دخول المجاز في لفظ نص لا يقبله، فألزمه الفقهاء الثلاثة وإن نوى الواحدة، وأسقطوا نيته.

ولو قال: أنت طالق ثلاثًا، ونوى أنها منطلقة من الحمام أو منزله، أو من القيد ثلاثًا، قبل قوله في الفتيا دون القضاء، إلا أن يكون هناك قرائن تصدقه، فيقبل فيهما، ويسقط عنه الطلقات الثلاث بجملتها. ويتجه هنا سؤال: وهو: أن النية قد قلتم بقصورها عن إسقاط واحدة من الثلاث، وها هنا أسقطتم بها الثلاث بجملتها، وهذا في غاية الإشكال. وجوابه: أن هذه النية لم يعتبرها أولًا ولا آخرًا في لفظ الثلاث ألبتة، ولم يسقط من العدد شيئًا أصلًا، بل معنى الطلاق جنس في نفسه، يقبل التحويل من باب إلى باب، فحولناه بالنية من باب الانطلاق من العصمة إلى باب الانطلاق من الحمام، فالمحمول هو مفهوم الطلاق، وهو اسم جنس، لا عدد، وقد تقدم أن أسماء الأجناس تقبل المجاز، إنما الامتناع في أسماء الأعداد، ونفينا الثلاث- وهو مفهوم العدد- على حالها، لم ينقص منها شيئًا، بل كانت ثابتة في جنس، وهو إزالة قيد العصمة، صارت بسبب النية ثابتة في جنس آخر، وهو إزالة التقييد بالحمام أو غيره، فالنية لم تعتبر في العدد ألبتة، بل في المعدود خاصة، فتأمل ذلك! والإشكال وجوابه حسنان من طرق الفقه، وبهما يظهر لك أن أسماء الأعداد/ تقبل المجاز ولا التخصيص الذي هو نوع خاص من المجاز، وأن الظواهر كلها تقبل المجاز، والعموم ظاهر في الاستغراق، فيقبل المجاز ويقبل التخصيص، وهو المطلوب. * * *

الباب السابع عشر في الفرق بين المخصص والمؤكد، والمقيد والأجنبي، والفرق بين النية المخصصة والمؤكدة

الباب السابع عشر في الفرق بين المخصص والمؤكد، والمقيد والأجنبي، والفرق بين النية المخصصة والمؤكدة وهي مقامات يعسر على كثير من الفضلاء تحصيلها وتحقيقها. أعلم: أآن القاعدة المتفق عليها أن المخصص من شرطه أن يكون منافيًا لظاهر العموم، فما لا ينافيه، لا يكون مخصصًا له. ولهذه القاعدة قال الجمهور: إن العام لا يخصص بذكر بعضه؛ لأن بعض الشيء لا ينافيه، فلا يخصصه. وشبه الخصم: أنا إذا قلنا: أكرم إخوة زيد، قلنا: أكرم زيدًا وعمرًا، ومنهم من قال: مفهوم ذكر البعض يقتضي سلب الحكم عن البعض الآخر، فعمدة الخصم مفهوم ذكر البعض، لا ثبوت الحكم في البضع من حيث هو بعض، فما وقع خلاف في أن المخصص لابد أن يكون منافيًا، غير أن الجمهور ألغوا المفهوم من ذكر البعض، والمخالف اعتبره. فإذا قلنا: أكرم إخوة زيد، أكرم إخوة زيد، وكررنا العبارة، كان هذا مؤكدًا إجماعًا، وإذا قلنا: لا تكرم بعض أخوة زيد في حالة من الحالات، كان

هذا مخصصًا قاعدة العام في الأشخاص، مطلق في أربعة: الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقات. فإذا قال الله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، كان عامًا في قتل كل مشرك، بحيث لا يبقى مشرك، ولا يدل على أنهم يقتلون في حالة الجوع أو العطش أو غير ذلك من الحالات، ولا إشعار للفظ بركوب ولا جلوس، ولا هيئة من الهيئات التي يمكن أن يعرض المشركين، ومن ادعى أن لفظ المشركين يدل على الجوع أو العطش أو الجلوس أو غير ذلك فقد أبعد، ويبين ذلك أن المطابقة منفية، فإن لفظ المشركين لم يوضع للجوع ولا للجلوس، ولا يدل (عليه) اللفظ أيضًا تضمنًا، فإن الجلوس ليس جزءًا، ومدلول المشركين بل اللفظ لا يدل على وجود المشركين ألبتة، فضلًا عن هيئاتهم، فإن الله تعالى إذا قال: اجلدوا الزناة المحصنين، قد لا يكون في الوجود زان محصن، وكذلك بقية العمومات. نعم قد يكون الواقع لا يعرى عن المشركين، لكن ليس ذلك من دلالة اللفظ، بل الواقع كذلك خاصة، ولا يلزم من كونه في الواقع شيء، أن يكون اللفظ دالًا عليه، وإذا كان لفظ العموم لا يدل على وجود أفراده، امتنع أن يكون دالًا على أحوالهم التي هي تابعة للوجود، فإن عدم الدلالة على المتبوع،

يستلزم عدم الدلالة على التابع، كما أن عدم المتبوع يستلزم عدم التابع. وكذلك القول في البقاع والأزمان، فإن لفظ المشركين، لا يدل على مدينة خاصة لهم، ولا على جميع مدائنهم، وكذلك لا يدل على زمان معين، فقد يوجد في ذلك الزمان دون هذا، وفي هذا دون ذاك فإن الدلالة إن انتفت عن أصل الوجود، انتفت عن تعيين زمان الوجود ومكانه بطريق الأولى. وكذلك المتعلقات، وهي ما به أشركوا، فلا يدل لفظ المشركين على وقوع الشرك بالكواكب، أو بالقمر، أو بالبقر، أو غير ذلك مما يقع به الشرك، بل إذا سمعنا المشركين أمكن أن يكونوا كلهم أشركوا بالأصنام، أو كلهم أشركوا بالكواكب، أو غير ذلك مما يقع به الشرك، فإن اللفظ إذا لم يدل على أصل الوجود، لم يدل على وجود الشرك بشيء معين، لا بالمطابقة، ولا بالتضمن، ولا بالالتزام، وإذا انتفت الدلالات الثلاث لما تقدم، انتفت الدلالة مطلقًا وهو المطلوب، بل نحن نعلم بالضرورة أن المشرك لا يقتل إلا في زمان ومكان وحالة، ويكون شركه واقعًا بشيء من الأشياء، بل يدل لا على قتل كل مشرك في مطلق الحال، ومطلق الزمان، ومطلق المكان، ومطلق المتعلق، لأن هذه المطلقات من لوازم القتل ووقوعه، فيكون اللفظ دالًا عليها بطريق الالتزام، أما خصوص حالة، أو مكان / أو زمان، أو متعلق فلا، فضلًا عن العموم في ذلك، هذا من حيث النظر العقلي. وبرهان آخر من جهة الأوضاع اللغوية: أن اللغويين نصوا على انك إذا عبرت عن الأجناس العامة والحقائق العالية، نحو: المخلوق، والموجود،

والجسم، ونحوها، فإنك إنما تعبر عنها بلفظ "ما" الموضوعة لما لا يعقل، فإن العام لا يستلزم الخاص، فلا يندرج في تلك الأمور العامة مفهوم العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج من حيث إنه جسم وموجود ومخلوق ونحوها، لكنه من هذه الجهة غير عاقل، وإذا لم يندرج فيه العقلاء من حيث هم عقلاء، كان اللفظ اللائق به هو لفظ "ما"، دون لفظ "من"، فلا تقول: كلمن خلقه الله تعالى ممكن، وأنت تريد جميع المخلوقات، بل: كل ما خلقه الله تعالى ممكن، وتقول: كل ما (هو) في الوجود شاهد بوجود الله تعالى وصفاته العلا، ولا تقول: كل من، وأنت تريد الاستيعاب الذي أراده الشاعر في قوله: وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد فلو أردت أن تضع موضع "شيء": "ما" أو "من"، كان المتعين "ما"، فإن الشيء بما هو لم يندرج فيه مفهوم العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج فيه من حيث هو شيء، ولو قلت: من، لم يكن كلامًا عربيًا، ولذلك قال الله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء}، ولم يقل: إلى من خلق الله من شيء، فإن الشيء بما هو شيء لا يستحق لفظ "من"، بل "ما"، وتقول: كل ما سوى الله تعالى محدث، وكل ما سوى الله تعالى محتاج لقدرته وإرادته، ونحو ذلك من العبارات، ولا تأتي بـ "من" ألبتة، وإن كنت تريد العموم الذي اندرج فيه العقلاء. إذا تقررت هذه القاعدة، فنقول لك في هذه المعاني العامة أربعة أحوال:

أحدها: أن تريد أحد نوعيها، وهو من يعقل، فيتعين التعبير بلفظ "من". وثانيها: أن تريد نوع ما لا يعقل خاصة، فيتعين لفظ "ما". وثالثها: أن تريد النوعين من حيث خصوص من يعقل بما هو عاقل، وخصوص/ ما لا يعقل من حيث (هو) كذلك، فيتعين لفظ "من"، فإن القاعدة أن المتكلم إذا أراد بحكمه من يعقل (وما لا يعقل) يعبر بـ "من"؛ لتغليب من يعقل على ما لا يعقل، ويكون التعبير بلفظ "من"، لأجل التغليب، كأنهم كلهم عقلاء. ورابعها: أن تريد العموم، وتريد النوعين، لا بخصوصهما، بل تقصد استيعاب كل فرد فرد من المخلوقات من حيث هي مخلوقات، أو الأجسام من حيث هي أجسام، فهذه الحالة هي التي يحصل فيها العموم، ويتعين التعبير بلفظ "ما"، وهو المراد بقولنا: كل ما في الوجود من خلق الله تعالى ومن آثار قدرته ونحو ذلك، فيندرج العقلاء لا من حيث إنهم عقلاء؛ بل من حيث الجهات العامة. إذا تقرر هذا، اتضح أن العام في الأشخاص، مطلق في الأحوال؛ بسبب أن العام في الأشخاص لو كان عامًا في الأحوال، لكان شاملًا لحالة العقل وحالة ضدها، وعلى هذا، كان يتعين التعبير بلفظ "من"، لا "ما"؛ لأن القاعدة: أنه إذا اجتمع من يعقل وما لا يعقل، يتعين التغليب، والتعبير بلفظ

"من"، والقول بالعموم في الاحتمال يقتضي اجتماع حالة العقل مع الحالات، فيتعين التغليب والتعبير بلفظ "من". وحيث كان الواقع والمنقول هو التعبير بلفظ "ما"، دل ذلك على عدم العموم في الأحوال، وهذا متجه جدًا. وإذا اتضح ذلك لك في الأحوال، اتضح في الأزمنة والبقاع والمتعلقات، فإن الجميع نسبته واحدة وبحث واحد، فيكون العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، ويكون معنى قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، اقتلوا كل مشرك ما، في حالة ما، في زمن ما، في مكان ما، ويكون شركه شيء ما. وبرهان ثالث على هذا المطلوب: قد دل على قتل كل مشرك مثلًا، والمشرك له أحوال متضادة متنافية كالشبع والجوع، والعطش والري، والإقامة والسفر، والحركة والسكون، والقيام والقعود وغير ذلك من الأحوال الأضداد التي يتعذر الجمع بينهما، فمن المحال أن يقول الله تعالى: اقتلوا كل مشرك في الحالتين المتضادتين، فإن ذلك لا يتأتى إلا بطريقين: إما أن نقتله في حالة اجتماعهما، واجتماع/ الضدين محال، وإما أن نقتله مرة في هذه الحالة، ونقتله مرة أخرى في الحالة الأخرى، وهذا أيضًا محال، لتعذر تكرر القتل في الشخص الواحد، فتعين بالضرورة أن يريد الله إحدى هاتين الحالتين على البدل، إما أن نقتله في هذه، أيهما وجدت وقع القتل فيها، وإذا

كانت إحداهما مرادة بدلًا من الأخرى، أو بالعكس، والمراد على البدل لا شمول فيه؛ لأن المطلقات كلها كذلك، فإن الله تعالى إذا قال: اعتقوا رقبة، كانت كل رقبة مرادة على البدل، فيعتق إما هذه "بدل" عن تلك، أو تلك "بدل" عن هذه، وإذا كان الواقع في الأحوال هو هذا المفهوم، كان المقصود حاصلًا، وهو أنها مرادة على سبيل الإطلاق والبدل، وهو المطلوب، وهو المراد بقولنا: إن الله تعالى أمر بقتل كل مشرك في كل حالة، معناه: إما هذه، وإما تلك. وكذلك القول في الأزمنة والبقاع فإن الجمع بينهما متعذر، كما تقرر في الأحوال المتضادة، فلم يبق حينئذ إلا أحوال غير متضادة، مثل السمع والسفر، والقيام والجلوس، ونحو ذلك من المختلفات. وبقيت المتعلقات أيضًا، فإنها يمكن الجمع بينها، فتشرك بأشياء كثيرة. وهذه الأمور بخصوصياتها إن ادعى أحد أن اللفظ يدل على العموم فيها دون غيرها، وأن الوضع اللغوي يشعر بها دون غيرها، فقد أبعد وتحكم من غير مستند، وأيضًا إذا سلم ذلك، فيقال لقائله: هل أرد الله تعالى قتل المشرك إذا اجتمعت فيه، أو إذا افترقت، أو مجتمعة مفترقة؟ ، فإن أراد: إذا اجتمعت، فلا يقتل من انفرد بحالة منها، وهو خلاف الإجماع، وإن أراد مجتمعة ومفترقة، فإن الاجتماع والافتراق ضدان، لا يجتمعان، فمن المحال أن يراد القتل فيهما، لما تقدم في الضدين، بقي أن يريد: في أحدهما، لا بعينه، على البدل، وهذا هو الإطلاق بالضرورة، وقد تقدم آنفًا بسطه وتقريره. فهذه البراهين وافية، وكل واحد منها كاف في تحقيق هذه القاعدة، وهو

المطلوب، وهذا المعنى بعينه/ قد تقرر في علم المنطق، فيكون تقريره هناك مؤكدًا لما قرر ها هنا، وذلك أن صيغة العموم قد وضح فيما تقدم أنها موضوعة للكلية، وتقدم الفرق بين الكلية والكلي فقد قال المنطقيون في تحقيق الكلية: أنا إذا قلنا: كل "ج" "ر"، ففيه مذهبان: أحدها: أن معناه: كل ما وجد وكان "ج" بالفعل، فإنه "ر"، كان ذلك الموجود في الماضي والحاضر والمستقبل، ولم يشترطوا حصول الوجود في الحال ولا في الماضي بل أخذوا القدر المشترك بين الأزمنة الثلاثة، وذلك يقتضي صدق الكلية فيما لم يوجد بعد. وثانيهما: أن معناها: كل ما هو "ج" بالقوة، فهو "ر"، ولم يشترطوا أصل الوجود، وهذا هو مذهب الفارابي، الأول هو مذهب الجمهور. وظاهر كلامهم أن هذا هو مقتضى الوضع اللغوي في قولنا: كل عدد

زوج، وكل إنسان حيوان، ومن له تحقيق في علم المنطق واللغة علم أن مقصود المنطقين واللغويين في ذلك واحد، وعلم أن هذا المذهب الثاني لا يشترط أصل الوجود، وعلى الأول إنما يشترط أصل الوجود وإن لم يقع. وأما خصوصيات الأزمنة والأحوال والبقاع فبعيدة عن هذين المذهبين بعدًا شديدًا، فإن التعرض للمعنى العام والاقتصار عليه والسكوت عن غيره في تمهيد القواعد - عند من يقصد التحرير - دليل على أآن ذلك العام هو كمال المراد، وان غيره غير منظور إليه، ولا معرج عليه، فقد وضح اجتماع المعقول والمنقول على هذا المقصد، واجتماع الفرق فيه. وإذا وضح لك أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، مع القاعدة الأخرى، وهي: أن من شرط المخصص أن يكون منافيًا لمقتضى العموم، احترازًا من المؤكد والأجنبي مطلقًا، وحينئذ يكون مقتضى العموم: ؛ اقتلوا كل مشرك في حالة ما، موجبة جزئية؛ لأنها مطلق الحالة، من غير تعدد. وقد تقرر في قواعد المنطق أن الذي يناقض الموجبة الجزئية إنما هو السالبة الكلية، فإن قولنا: بعض العدد زوج/، أو بعض الحيوان إنسان، لا يناقضه ويبطله إلا قولنا: لا شيء من العدد بزوج، ولا شيء من الحيوان بإنسان، أما لو قلنا: بعض العدد ليس بزوج، أو بعض الحيوان ليس بإنسان، لم يكن ذلك مناقضًا، لما تقدم، لاجتماع الكلامين على الصدق؛ لأن الثاني

سالبة جزئية، لا سالبة كلية، وحينئذ لا يناقض قولنا: اقتلوا المشركين، الذي معناه: اقتلوا كل مشرك في حالة ما، إلا في قولنا: زيد المشرك، أو الفريق الفلاني لا يقتل في حالة ما ألبتة؛ لأن هذه سالبة كلية تناقض الموجبة الجزئية المتقدمة، إما إذا قال: بعض المشركين لا يقتل في حالة خاصة، كحالة الذمة أو نحوها، فإن ذلك لا يكون منافيًا ولا مناقضًا؛ (لأنه) لا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، ولا من النفي في الأخص النفي في الأعم، ولا يلزم من قولنا: إن الله لا ينعم أهال الجنة في ذكر النار، أن يبقى مطلق النعيم، لاحتمال أن ينعمهم في دار أخرى، وكذلك إذا قلنا: زيد لا يصوم في السفر، لا يلزم (منه) أنه لا يصوم مطلقًا، هذا مثال في النفي في الخاص. وأما نفي الخاص، فلا يلزم منه نفي العام، فنحو قولنا: هذا ليس بإنسان، لا يلزم (منه) أنه ليس بحيوان. وكقولنا: هذا ليس بزوج، لا يلزم أنه ليس بعدد، وهذا ليس بحيوان، لا يلزم أنه ليس بجسم، فظهر لك أن نفي الخاص لا يلزم منه نفي العام، وأن النفي في الخاص لا يلزم منه النفي في العام. وبهذه القواعد يتبين لك أن قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ما دخله تخصيص ألبتة بفريق من الفرق، ولا بشخص من الأشخاص، أما توهم تخصيصه بالنساء فباطل، بسبب أن صيغة المشركين صيغة تذكير، لا تتناول الإناث، والتخصيص فرع التناول، فحيث لا تناول لا تخصيص، وأما أهل الذمة، فلم يحصل بهم تخصيص أيضًا بسبب أنهم طائفة من المشركين،

أخرجوا في حالة خاصة، وقد تقدم أنه لا يلزم من الإخراج في الأخص الإخراج في الأعم، فلا يلزم من أنا لا نقتل طائفة الذمة في هذه الحالة الخاصة - وهي حالة الذمة - أن لا نقتلهم في مطلق الحالة، بل نحن نقتلهم في حالة ما، لأنا نقتلهم إذا حاربوا، والحرابة/ حالة خاصة، ولا يلزم من ثبوت الأخص ثبوت الأعم، فيلزم من قتلهم في حالة الحرابة قتلهم في حالة ما، وهي مطلق الحالة، فنحن باقون على مقتضى العموم، ونقتل كل مشرك في حالة (ما)، وما حصل بخروج أهل الذمة تخصيص ألبتة. وكذلك القول في إخراج الرهبان والفلاحين والتجار وغيرهم ممن قال قائل بعدم قتالهم، وقتلهم كل فريق منهم إنما أخرج في حالة خاصة، فلا يكون مخصصًا، كما تقدم في الذمة بعينه حرفًا بحرف، ونحن نقتل جميع هذه الطوائف في حالة ما، وهي حالة الحرابة، فالعموم باق على مقتضاه لغة، ولم يحصل تخصيص ألبتة. فإن قلت: فعلى هذا التقدير، لا يبقى في النصوص شيء مخصوص، وهو خلاف الإجماع، فإن كل شيء أخرج تقول أنت: إنما أخرج في حالة خاصة، فإنه لابد له من اسم خاص، وحالة خاصة تخصه، وحينئذ يكون من باب النفي في الأخص الذي لا يلزم منه النفي في الأعم، كما قررته، فتبطل حقيقة التخصيص مطلقًا. قلت: لا يلزم مما ذكرته بطلان حقيقة التخصيص، بل أنا أبين لك وجودها في نصوص كثيرة على الشروط والقواعد المذكورة، من غير اختلال شيء منها. فمنها: قوله تعالى: {الله خالق كل شيء}، مقتضى هذا اللفظ، أن كل

ما هو شيء، فهو مخلوق في حالة ما، ودل العقل أن الموجودات الواجبة الوجود، وهي ذات الله تعالى وصفاته العلا، لم تخلق في حالة ما، وهذه سالبة كلية، مناقضة لتلك الموجبة الجزئية، فيكون هذا تخصيصًا. ومنها: قوله تعالى في حق بلقيس: {وأوتيت من كل شيء}، يقتضي ذلك أنها أوتيت من كل شيء في حالة (ما)، ومن ثم أشياء لم تؤت منها شيئًا في حالة من الحالات، وهي السماوات والأرض والكواكب، والنبوة، والذكورة، والتصرف في عالم الكون، أو وصف الملائكة، وغير ذلك مما لا يحصى عدده لم تؤت بلقيس منه شيئًا في حالة ما، فهذه سالبة كلية، مناقضة لتلك الموجبة الجزئية، فيكون ذلك تخصيصًا محققًا. ومنها: قوله تعالى في ريح عاد: {تدمر كل شيء بأمر ربها}، يقتضي هذا العموم أنها تدمر كل موجود في حالة، وهي لم تدمر السماوات، والأرض/ والجبال والكواكب، والبحار، والجان، والملائكة، وغير ذلك مما لا يحصى عدده، لم تدمره في حالة ما البتة، فتكون هذه سالبة كلية، مناقضة

ضابط: يميز بين التقييد والتخصيص

لتلك الموجبة الجزئية، فيكون تخصيصًا قطعًا، وعلى هذا المنوال فاعتبر التخصيص، فإن وجدت شروطه فاقض به، وإن فقدتها فلا تقض به. وحينئذ إذا تقرر لك أن مقتضى العموم هو ثبوت الحكم لكل فرد من أفراده في حالة ما، وان تلك الحالة مطلقة، ويورد نص تعين بعض الحالات، ويسقط بعضها، ويبقى الحكم فيه كما تقدم في مثال المشركين، تعينت حالة الحرابة، وخرج ما عداها على الخلاف بين العلماء في قتل بعض تلك الفرق، فقل حينئذ: هذا تقييد لتلك الحالة المطلقة وزيادة قيد فيها، وهو وصف الحرابة مثلًا، فإنك إذا اعتبرت قولنا: "حالة ما"، وقولنا: "هي حرابة"، وجدت هذا الثاني تقييدًا للأول، مثل قوله تعالى: {فتحرير رقبة}، } فتحرير رقبة مؤمنة}، الكل تقييد، لا تخصيص. وحينئذ يظهر لك الفرق بين التقييد والتخصيص في العمومات، المخرج لبعض الأفراد في جميع الخلاف تخصيص، والمخرج لبعض الأفراد في بعض الأحوال دون بعض تقييد لتلك الحالة المطلقة، لا تخصيص. وكذلك ضابط ظاهر يميز به بين التقييد والتخصيص: أن التقييد زيادة

مسألة: الفرق بين النية المخصصة والنية المؤكدة

على مدلول اللفظ، والتخصيص تنقيص من مدلول اللفظ، فإنك إذا زدت على مفهوم الرقبة أو مفهوم حالة ما، الإيمان أو الحرابة، فقد تصورت معنى زائدًا على ما كان متحصلًا معك أولًا، من غير أن ينقص مما كان معك شيء، أما إذا خصصت وأخرجت بعض أفراد العموم عن حكمه في جميع الحالات، فقد نقصت تلك الأفراد مما كان مدلولًا للفظ أولًا. وينبني على الفرق فرق آخر، وهو أن المخصص معارض لظاهر العموم، فيتعين طلب الترجيح بينهما، والمقيد ليس معارضًا للمطلق، ولذلك يقبل التقييد لمطلق الدليل، ولا يخصص إلا بما هو أرجح، ولو بكونه أخص، فإن الأخص أقوى فيما يتناوله من العام فيما يتناوله الخاص، فإنه/ يجوز إطلاق العام من غير إرادة ذلك الخاص، فإنه يبقى معطلًا ألبتة، لا شيء تحته، وأما العام .... مستعملًا فيما عدا مدلول الخاص، فالخاص راجح من هذا الوجه. إذا تقرر لك الفرق بين المخصص والمقيد والمؤكد، ظهر لك أن أكثر ما يدعى أنه مخصص أو انه مخصوص، ليس كذلك، وأن أكثر ذلك تقييد على ما تقدم تقريره، وكذلك - أيضًا - أكثر ما يدعى أنه ناسخ، إذا اعتبرت شروط النسخ فيه، تجده، مخصصًا، لا ناسخًا. مسألة: وهي بقية هذا الفصل، وهي الفرق بين النية المخصصة والنية المؤكدة، وهي من أغمض المباحث، من المطالب المشكلات، والأغوار البعيدة، التي وقع فيها الغلط لجماعة من الفضلاء والمفتين، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام

رحمه الله - يقول: ما رأيت (مفت) إلا وهو يغلط في هذه المسألة، أو لفظ هذا معناه. وتقرير هذا الفرق وإيضاحه أن نقول: إذا قال القائل مثلًا: والله لا لبست ثوبًا، فله أحوال: الحالة الأولى: في نيته، فتارة يقول: لم تكن لي نية، قلنا: تحنث بكل ثوب؛ لظهور اللفظ في الاستغراق والعموم، واللفظ الظاهر في معنى يفيد حكمه في ذلك من غير احتياج إلى نية. الحالة الثانية: أن يقول: أردت الامتناع في جميع الثياب، فإنا نقول له: تحنث بكل ثوب؛ للفظ الظاهر في ذلك، وقد تأكد بالنية الموافقة له، المؤكدة معناه. الحالة الثالثة: أن يقول: خطرت لي ثياب أني أمتنع منها، ولم يخطر لي غيرها ببال، ولم تكن لي إرادة إلا في الكتان، فإنا نقول له: تحنث بجميع الثياب أيضًا، أما بثياب الكتان، فاللفظ المؤكد بالنية، وأما بغير الكتان؛ فلوجود اللفظ الظاهر فيها، السالم عن النية المخرجة، وليس من شرط إفادة اللفظ لحكمه إذا كان صريحًا فيه أن ينوي، فلا يمنع عدم خطوره ببالك وقصدك إليه ألا يثبت الحكم فيه، فيحنث بالجميع.

وهذا القسم هو موضوع غلط المفتين؛ لأنهم يقولون للسائل: أي شيء أردت بيمينك؟ يقول: أردت الكتان، فيقول: لا تحنث بغيره، وهذا خطأ إجماعًا؛ لأن من شرط المخصص أن/ يكون منافيًا، والقصد لاندراج البعض في الحكم لا يمنع من اندراج البعض ...... لحكم، بظهور اللفظ، فلا يتفطنون لذلك. الحالة الرابعة: أن يقول: أردت ....... ثياب الصوف عن اليمين والامتناع، فيقول له: لا تحنث بثياب الصوف، لأن نيتك معارضة لظاهر لفظك ومنافية له، وهي مقدمة عليه. فهذه هي النية المخصصة، فإذا حصلت حصل التخصيص، سواء حصل قصده للحنث بالكتان واندراجه، أو لم يحصل، فإن قصده لاندراج الكتان مؤكد، والمؤكد ليس شرطًا في التخصيص، فواجب حينئذ على المفتي إذا جاءه الحالف أن يقول له: أقصدت إخراج شيء عن يمينك أم لا؟ فإن قال له: قصدت إخراج الصوف أو غيره. فيقول له المفتي: لا تحنث به، ولا يقول له:

أي شيء أردت بيمينك؟ فيقول (له): أردت به الكتان، فيقول له: لا تحنث بغيره، فهذا السؤال خطأ، وجوابه المفتى -أيضًا- خطأ، فإنه إذا قصد بيمينه شيئًا، لا يلزم منه عدم الحنث بغيره، حتى يقصد إخراجه، فتلقين المفتي هذا السؤال وجوابه عنده خطأ ظاهر، مجمع عليه بين المحققين، وإن كان أهل العصر لا يفعلون إلا ذلك -ولم أر أحدًا يفعل غير ذلك ألبتة- ويجعلون النية المؤكدة مخصصة، وهو خطأ صراح. فإن قلت: كتب العلماء مشحونة بأن اللفظ العام يستعمل في الخاص، ولا معنى لاستعماله فيه إلا إرادته بالحكم، وإذا كان هذا استعمال العام في الخاص، كان ما عدا هذا الخاص لا يثبت الحكم فيه، هذا هو عين التخصيص، وهو يبطل ما ذكرته. قلت: لا نسلم أن هذا تفسير استعمال العام في الخاص، وأن هذا مقصودهم. بل مقصودهم باستعمال العام في الخاص القصد إلى إخراج بعض أفراد العام عن حكمه حتى يبقى اللفظ العام مستعملًا في الخاص الباقي بعد الإخراج، وإجماعهم على أن المخصص لابد أن يكون منافيًا، يعضد ما ذكرته، ويبطل التفسير الأول جزمًا، ويعين ما ذكرته. فإن قلت: لو صرح وقال: والله لا لبست ثوبًا كتانًا، لم يحنث بغير الكتان، وإن لم يكن له نية في إخراج غير الكتان (مع أن الكتان وغيره) كان مندرجًا تحت/ عموم لفظه، فصار لفظ الكتان والتصريح به مؤكدًا لما اندرج في عموم لفظه من الكتان، حتى صار الكتان منطوقًا به مرتين، فقد صار

المؤكد مخصصًا، من غير احتياج لمخرج النية، فوجب أن يكون نيته وقصده للكتان كنطقه به، لا يحتاج لغيره، وإن كان مؤكدًا، والفرق عسر جدًا. قلت: سؤال حسن قوي، والجواب عنه مبني على قاعدة وهي: أن كل لفظ لا يستقل بنفسه إذا اتصل بلفظ مستقل بنفسه، صيره غير مستقل بنفسه، ومن هذه القاعدة قول الزوج لامرأته، قبل الدخول: أنت طالق ثلاثًا، وقوله أنت طالق، يقتضي بينونتهما قبل الدخول، ويكون اللفظ الواقع بعد ذلك لغوًا، كما قاله الشافعي في قوله: أنت طالق، أنت طالق، فإن الثانية لا تلزمه قبل الدخول، خلافًا لمالك رحمة الله عليهم أجمعين. واتفقوا في قوله: أنت طالق ثلاثًا، يلزمه الثلاث، إلا أبا حنيفة، فإن النية عنده لا تؤثر فيما هو خارج عن مدلول اللفظ، وقد تقدم البحث معه

في مسائل العموم، في قوله: لا آكل، وما ذلك إلا أن قوله "ثلاثًا تمييز لفظ لا يستقل بنفسه (وقد انفصل بما هو مستقل بنفسه) - وهو قوله: أنت طالق - فصيره غير مستقل بنفسه، فلذلك لم يؤثر طلاقًا بمفرده، وضم الثاني إليه، فكان المجموع هو المعتبر. وأشد من هذه الأقارير بألفاظ النصوص كقوله: له عندي عشرة إلا اثنين، فإن قوله: عشرة، لفظ نص، ومع ذلك إذا أردفته بقوله: "إلا اثنين"، وهو لفظ لا يستقل بنفسه، صير الأول غير مستقل بنفسه، ولا يلزمه بشيء إلا تضميمه مع (ما) بعده إليه، ويكون المجموع هو المعتبر بنفسه عن معتبر، أو تلزمه ثمانية، لمجموع اللفظين بخلاف ما لو قال: له عندي عشرة وقد قضيتها، فإنه يلزمه عشرة، ولا يسمع منه: "قضيتها"، فإنه مستقل بنفسه، ولا يعكر على الأول فيصير غير مستقل بنفسه، فثبت الأول ولزم مقتضاه. وكذلك إذا قال: له عندي درهم زائف، أو درهم نحاس، فقوله: نحاس، صفة لا تستقل بنفسها، فيصير الأول غير مستقل بنفسه، فلا يلزمه شيء، غير أن الذي دل عليه مجموع اللفظين، وهما: لفظ الموصوف ولفظ الصفة/ ولو قال: له عندي درهم، وهو نحاس، لزمه درهم جيد؛ لأنه يقتضي إطلاقه الأول، ويعد بالثاني نادمًا راجعًا عن إقراره، وهو لفظ مستقل بنفسه، فلا يضاف إلى الأول. ونحو هذه النظائر مما لا يستقل بنفسه، إذا اتصل بما يستقل بنفسه، صيره

غير مستقل بنفسه من الحال، والصفة، والتمييز، والغاية، والشرط، والمجرورات والظروف، وقد بسطت ذلك في كتاب الأنوار والأنواء في القواعد الفقهية. كذلك ها هنا إذا قال: والله لا لبست ثوبًا كتانًا - فقوله: "كتانًا" صفة لا تستقل بنفسها، وقد اتصلت بالعموم المستقل بنفسه فصيرته غير مستقل بنفسه، وأنه لا عبرة به من حيث هو هو، فلم يثبت العموم فيه حينئذ حتى يحتاج إلى التخصيص، بل المعتبر من كلامه إنما هو المجموع المركب من الصفة والموصوف، فتختص اليمين بثياب الكتان، ويكون ما عداها لم يتعرض له اللفظ ألبتة، كما لو قال: والله لا أكلت لحمًا، فإنه لا يتناول الخبز ونحوه. أما النية فليس فيها وضع لغوي يقتضي إبطال مقتضيات الألفاظ، فإن الوضع إنما يكون في الألفاظ، وهي ليست لفظًا، وإنما هي معنى معقول، وليس في العقل ما يقتضي أن الشيء إذا قصد بالثبوت، يكون غير مقصودًا بالإبطال والنفي، فكانت النية لا يعرض فيها لغو منويها ألبتة، نفيًا ولا إثباتًا، فبقي حكم اللفظ على عمومه في غير المنوي، وحكمه عند عدم هذه النية الحنث بغير المنوي، فيحنث بغير المنوي، وهو المطلوب. وها هنا جواب آخر وهو: أن التقييد بالصفة له مفهوم، فهو يقتضي بمفهومه سلب الحكم عما عدا المنطوق، ويكون هذا المفهوم معارضًا لدلالة العموم على ثبوت الحكم في غير الموصوف بتلك الصفة، ودلالة المفهوم أخص من دلالة العموم، فتقدم دلالة المفهوم على دلالة العموم، على قاعدة تقديم الأخص على الأعم، في سائر صور التخصيص. وأما النية فليس لها دلالة ألبتة، فإن المعاني من المدلولات، لا من

الدلالات، وإذا لم يكن لها دلالة ألبتة، انتفت دلالة المفهوم؛ لأنها من باب دلالة الالتزام، وحينئذ لا يكون في النية ما يعارض دلالة العموم، فبقيت سالمة عن المعارض فحصل الحنث بها حينئذ. وهذا/ جواب حسن، وفرق جميل، غير أن عليه سؤالًا صعبًا، وهو: أن الناس اختلفوا في دلالة المفهوم، هل هي حجة أم لا؟ ، وهل هي موجودة أم لا؟ ، وإذا قلنا: بأنها موجودة حجة، فهل يخصص بها العموم، لكونها أخص، أو لا تخص، لضعفها؟ ، وهو اختيار الإمام فخر الدين وجماعة. قولان في ذلك كله، فيلزم على القول بأنه ليس بحجة، أو انه حجة لكنه لا يخصص العموم، أن يحصل الحنث عند القائلين بعدم ذلك، لكنهم لما أجمعوا على عدم التحنيث، دل ذلك على أن المدرك في عدم التحنيث ليس هو دلالة المفهوم، بل هو أمر آخر، وهو المدرك الأول، فإنه ليس عليه سؤال، وهو مدرك حسن، ويمكن أن يقال: المدرك عند القائلين بالمفهوم المدرك الأول مع المفهوم، فلهم مدركان. والقائلون بأنه ليس حجة، أو هو حجة لكنه لا يخصص العموم، المدرك عندهم هو المدرك الأول فقط. فهذا هو تلخيص الفرق بين النية المؤكدة والنية المخصصة، وهو من الأمور المهمة، والمسائل العظيمة، التي يحتاج إليها مع إلمام في الفتاوى، وأكثر العلماء والفقهاء لا يحققها، ولا يحسن السؤال عنها، ولا يحكم الجواب الفاسد فيها من الجواب الصحيح، الذي هو مدار الفتوى، فتأمل ما تقدم، وحققه تنتفع به إن شاء الله تعالى.

الباب الثامن عشر فيما يصير به العام مخصوصا على الحقيقة وعلى المجاز، وما هو الأصل في ذلك، وما هو الفرع فيه؟

الباب الثامن عشر فيما يصير به العام مخصوصًا على الحقيقة وعلى المجاز، وما هو الأصل في ذلك، وما هو الفرع فيه؟ أعلم أن العام إذا أطلق اقتضى أمرين: أحدهما: ثبوت حكمه لجميع أفراده في نفس الأمر، فإن هذا هو شأن كل لفظ صريح في معنى أنه يقتضي ثبوت حكمه، قصد المتكلم استعماله فيه أو لم يقصده، لكن يشترط القصد إلى النطق بأصل الصيغة، فيثبت الحكم، إلا ان يعارضه بقصده الصارف له عن معناه إلى المجاز، فهذا مانع من ثبوت حكمه. وكذلك أن صرائح الطلاق والعتاق تنصرف لمدلولاتها، ويلزم أحكامها من غير نية متعلقة باستعمال تلك الألفاظ في تلك المعاني. وكذلك إذا قصد إلى النطق بقوله: والله لا لبست ثوبًا، / اقتضى هذا اللفظ بعمومه حصول الحنث بلبس كل ثوب، وإن لم يقصد إلى استعماله في العموم، بل يحصل ذلك بالوضع. وهذا هو الفرق بين الصرائح والكنايات، أن الكنايات لا تنصرف لما هي

قول فخر الدين الرازي: الذي يصير به العام هو قصد المتكلم

محتملة له (إلا) بالنية؛ لأجل عدم الصراحة، والوضع الخاص لذلك المعنى، والصرائح تنصرف بالوضع لما وضعت له، هذا أخذ الأمرين الذين يقتضيها اللفظ العام إذا سلم عن المعارض، فيثبت الحكم في نفس الأمر. وثانيهما: أن العموم يقتضي اعتقادًا عند السامع أن المتكلم أراد العموم، وأن حكم العموم ثابت لجميع أفراده؛ لأن الأصل استعمال اللفظ في حقيقته، والأصل عدم التخصيص. إذا تقرر هذان الأمران، وأنهما أثران لانطلاق صيغة العموم، فقد قال الإمام فخر الدين، رحمه الله: "الذي يصير به العام خاصًا هو قصد المتكلم؛ لأنه إذا قصد بإطلاقه: تعريف ما يتناوله، فقد خصه. وأما المخصص للعموم، فيقال على سبيل الحقيقة على شيء واحد، وهو إرادة صاحب الكلام؛ لأنها هي المؤثرة في إيقاع الكلام لإفادة البعض؛ لأنه إذا جاز أن يرد ذلك الخطاب خاصًا وجاز أن يرد عامًا، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بإرادة. ويقال بالمجاز على شيئين: أحدهما من (باب) (إقامة الدلالة) على كون العام مخصوصًا في ذاته.

إرادة صاحب الكلام تخصص العموم حقيقة

وثانيهما: من اعتقد ذلك أو وصفه به، كان ذلك الاعتقاد حقًا أو باطلًا. قلت: هذا كلامه في المحصول، والذي أقول: إن قوله: "لا يقال إلا على شيء واحد على سبيل الحقيقة"، أنه ليس كذلك؛ لأن المخصص هو المخرج والصارف للموجب عن بعض موارده، وذلك نجده حقيقة في شيئين: أحدهما: ثبوت الحكم في نفس الأمر- كما تقدم- وهو الذي قاله الإمام. والثاني: صرف اعتقاد السامع عن ثبوت الحكم في جميع الأفراد إلى اعتقاد الاختصاص بالبعض الباقي. فهذان مخصصان ومخرجان قطعًا، والمخرج في الأول هو إرادة المتكلم، كما قاله الإمام، والمخرج الثاني هو الدليل الدال على هذه الإرادة المخرجة لبعض الأفراد عن حكم / العموم، كان ذلك الدليل عقليًا، أو سمعيًا، أو قرائن الأحوال، أو غير ذلك مما يدل على أن العام مخصوص، فإنه مخرج عن اعتقاد السامع ما كان يثبت لولاه، وإذا وجدت حقيقة المشتق حقيقة أيضًا، فيكون المخصص حقيقة في هذين الشيئين جزمًا. وأما قوله: "إذا جاز أن يرد الخطاب عامًا، وجاز أن يرد خاصًا، لم يترجح أحدهما على الآخر إلا بالإرادة"، فليس كذلك، بل يترجع العموم على الخصوص بالوضع والصراحة، بل كان ينبغي له أن يقول: لما كان مقتضى تعميم الحكم، لم يجز العدول عن العموم إلى الخصوص إلا بالإرادة، والمراد ها هنا: انصراف الحكم في نفس الأمر، لا للانصراف عن اعتقاد السامع،

فإن النية لا مدخل لها في اعتقاد السامع ألبتة؛ لأنها أمر باطني لا يطلع عليه. فإن قلت: كيف يصح أن تقول أنت والإمام: أن النية مخصصة، مع أن الحكم ما وقع في العام المخصوص عامًا فقط، وإنما وقع خاصًا، وإذا كان العموم لم يحصل ألبتة، كيف يحصل التخصيص، فإنه فرع التعميم، وانتفاء الأصل موجب لانتفاء الفرع، فلا تكون النية مخصصة أصلًا. قلت: جعلنا النية مخصصة ليس باعتبار أن العموم حصل في نفس الأمر والنية رفعته، ولو كان كذلك، لكان ذلك نسخًا، بل معنى كونها مخصصة أن مقتضى التعميم وجد، والنية أخرجت منه- باعتبار ما يقتضيه الوضع- بعض أفراده، لا أنها أخرجت بعض ما قصده المتكلم أو بعض ما يثبت في نفس الأمر، (بل بعض ما وجد مقتضي ثبوته، لا وجوده في نفسه)، فقد صرفت لفظ العموم عن أن يثبت بسببه عموم الحكم، ولذلك يسمى الدليل المخصص مخصصًا، وإن كان مقارنًا مانعًا من حصول اعتقاد السامع العموم، لكنه لما وجد مقتضى اعتقاده للعموم وكان ذلك الدليل مانعًا من حصول ذلك الاعتقاد مع وجود موجبه، كان ذلك مخصصًا بالإرادة والدليل (الدال السامع على) تلك الإرادة سواء في ذلك. * *

الباب التاسع عشر في جواز التخصيص ومسائله

الباب التاسع عشر في جواز التخصيص ومسائله وفيه سبع مسائل: - المسألة الأولى: في إطلاق العام لإرادة الخاص. - المسألة الثانية: ما يجوز تخصيصه من اللفظ وما لا يجوز. - المسألة الثالثة: الغاية التي يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إليها. - المسألة الرابعة: أقوال العلماء في العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا؟ - المسألة الخامسة: أقوال العلماء في التمسك بالعام المخصوص. - المسألة السادسة: تأخير البيان عن وقت الخطاب وأقوال العلماء في إرادة العموم من ظاهر اللفظ. - المسألة السابعة: الوقت الذي لا يجوز للمجتهد أن يحكم بموجب العموم.

المسألة الأولى: في إطلاق العام لإرادة الخاص

المسألة الأولى: يجوز إطلاق العام لإرادة الخاص، خلافًا لقول. والدليل على جوازه أمران: أحدهما: وقوعه في القرآن (في القرآن)، كقوله تعالى: {الله خالق كل شيء}، فهو خبر، والمراد من الأشياء الممكنة خاصة، والخاصة ليست مرادة بالخلق في حالة من الحالات، فكأن العام أطلق وصرف عن بعض أفراده، وهو المطلوب. والأمر، كقوله تعالى: {وقولوا للنا حسنا}، والناس الماضون قبل زمن هذا الخطاب ليسوا مرادين بهذا الخطاب أصلًا، بل المتكلم أراد خروجهم عن حكم هذا الخطاب، ويقال في العرف: جاءني كل الناس، والمراد: كثير منهم. وثانيهما: أن الدليل دل على حسن المجاز لغة، وهو اشتماله على محاسن الكلام ومزاياه، ورقته، وحسن تلقيه عند النفوس، وهذا أصل المجاز، واتفقوا على أن هذا المجاز من أرجح أنواع المجاز، فليجز بطريق الأولى. احتجوا أنه إذا أريد بالخبر العام بعضه أوهم الكذب، ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعًا من كونه كذبًا، لما وجد في الدنيا كذب، ودخول التخصيص في الأمر يوهم البداء.

المسألة الثانية: ما يجوز تخصيصه من اللفظ وما لا يجوز

والجواب: أنا إذا علمنا أن اللفظ في أصله يحتمل التخصيص، فقيام الدلالة على وقوعه يمنع من اعتقاد الكذب والبداء، وقبل قيام الدليل على التخصيص لا يعتقد تخصيصًا، فلا كذب، ولا بداء، وحينئذ لا كذب ولا بداء في الحالين، فاندفع المحذوران. ثم إن حقيقة الكذب - كما تقدم تقريرها-: هي عدم مطابقة اللفظ لما استعمل اللفظ فيه، واللفظ المخصوص مطابق لما استعمل فيه اللفظ العام، فاحتمال التخصيص لا يوهم كذبًا، بل يوهم المجاز، وهو ليس بكذب، والبداء هو: أن يخبر عن شيء، ثم يبدو له في ذلك الذي أمر به، وإذا دخل التخصيص، كان البعض المراد الذي أمر به في نفي الأمر ولم يرجع المتكلم عنه، فلا بداء أيضًا على التقدير، فلا يكون احتمال التخصيص موهمًا للبداء، بل/ موهمًا أن يكون المراد غير العموم، وذلك مجاز لا بداء. المسألة الثانية: فيما يجوز تخصيصه من اللفظ وما لا يجوز. أعلم أن اللفظ الدال على الواحد من كل وجه، لا يمكن دخول التخصيص فيه ولا يجوز؛ لان التخصيص: إخراج بعض مدلول اللفظ عنه، وما لا بعض له لا يتصور إخراج بعضه. والذي يتناول ماله بعض قسمان: أجزاء، وجزئيات، فالأجزاء في المركبات، والجزئيات في الأجناس والأنواع، فإذا دخلت عليها صيغ العموم تصور التخصيص وجاز. مثال الأجزاء قولنا: رأيت زيدًا، ويريد بعض أعضائه، أو: أكلت الرغيف، وتريد نصفه.

وأما الجزئيات فأقسام: أحدها: أن يكون عمومه من جهة اللفظ، وهو صيغة العموم، ويصح تطرق التخصيص إليه، كما تقدم. وثانيها: مفهوم الموافقة، كدلالة حرة التأفيف على حرمة الضرب، والتخصيص فيه إذا لم يعد بالنقض الملفوظ، مثل: تقييد الأم إذا فجرت، وضرب الوالد إذا ارتد، فإن إباحة هذين التأديبين لهذين الشيئين الخاصين لا ينافي أن (تحريم التأفيف) من غير سبب يقتضي التأديب، (يقتضي تحريم الضرب من غير سبب)، لجواز الاحترام مطلقًا عند عدم الأسباب، وثبوت الإهانات عند وجود الأسباب، أما إذا عاد على أصله بالنقض، فلا يجوز، مثل: أن يباح ضرب الوالدين أو شتمهما من غير سبب مع تحريم التأفيف، فإن ذلك يناقض تحريم التأفيف. وثالثها: مفهوم المخالفة، فإنه يفيد في المسكوت (عنه) انتفاء حكم المذكور، ويجوز أن تقوم الدلالة على ثبوت مثل حكم المنطوق لبعض المسكوت عنه، كما دل الحديث على وجوب الغسل عند التقاء الختانين، وهو من جملة المسكوت عنه في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الماء من الماء".

ورابعها: العلة الشرعية، تشمل جزئيات كثيرة، وتندرج مع هذه الأقسام في أنه تخصيص من جهة المعنى دون اللفظ، وهل يجوز تخصيصها أم لا؟ أربعة أقوال. ثالثها: الفرق بين المنصوصة/ فيجوز، وبين المستنبطة فلا يجوز. ورابعها: الفرق بين أن يوجد في صورة اللفظ فرق فيجوز، وبين ألا

المسألة الثالثة: الغاية التي يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إليها

يوجد فلا يجوز، والجمهور على جوازه في المنصوصة مطلقًا، وفي المستنبطة مع الفرق. المسألة الثالثة: في الغاية التي يمكن أن ينتهي تخصيص العموم إليها: قال الإمام فخر الدين في المحصول: اتفقوا في ألفاظ العموم، في الاستفهام والمجازاة، على جواز انتهاء التخصيص فيها إلى الواحد، واختلفوا في الجمع المعرف (بالألف واللام)، فزعم القفال أنه لا يجوز تخصيصه بأقل من الثلاثة، ومنهم من جوز انتهاءه إلى الواحد، ومنع أبو الحسين من ذلك في جميع ألفاظ العموم، واوجب أن يراد بها كثرة وإن لم (يعلم) قدرها، إلا أن تستعمل في الواحد المعظم، على سبيل التعظيم، فإن ذلك يجرى مجرى الكثير، قال الإمام فخر الدين: وهو الأصح، أما انه لا بد من بقاء الكثرة، فلأن الرجل لو قال: أكلت كل ما في الدار من الرمان، وكان فيها ألف، وكان قد أكل رمانة واحدة أو ثلاثة عابه أهل اللغة، ولو قال: كل

من دخل داري أكرمته، ثم قال: أردت به زيدًا وحده، عابه أهل اللغة أيضًا. احتج من جوز ذلك: بأن استعمال العام في غير الاستغراق، استعمال له في غير موضعه، وليس استعماله في البعض أولى منه في البعض الآخر، فوجب استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد، وهو المطلوب. والجواب: لا نسلم أنه ليس بعض المراتب أولى من بعض، بل العرف في الاستعمال اللغوي يحسن الكثرة من حيث الجملة، فالكثرة من حيث الجملة هي أرجح من القلة، فدعوى عدم الأولوية باطل بالعرف، وأما انه يجوز استعماله في حق الواحد على سبيل التعظيم، فكما تقدم في قوله تعالى: {الذين قال لهم الناس}، } أم يحسدون الناس}، وقد تقدم كلام العلماء في ذلك. تنبيه: نص العلماء على عمومات يتعلق بها حكم في التخصيص أشد مما تقدم؛ لأجل قرائن تحتف بها، قال الغزالي في المستصفى: العموم منقسم إلى قوي يبعد عن قبول التخصيص/ إلا بدليل قاطع أو كالقاطع، وإلى ضعيف. مثال القوي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" ... الحديث وقد حمله أبو حنيفة على

الأمة، فمنع من قبول قوله بهذا التخصيص قوله عليه الصلاة والسلام: ""فلها" مهر المثل بما استحل من فرجها"؛ لأن مهر الأمة للسيد عند الحنفية والشافعية فلما ورد عليهم هذا السؤال عدوًا إلى الحمل على المكاتبة. قال الغزالي: وهذا تعسف؛ لأن العموم قوي، والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء، وليس من كلام العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ، الذي ظهر منه قصد العموم، إلا بقرينة تقترن باللفظ، حتى يصلح لتنزيله على صورة نادرة. ودليل قصد العموم بهذا اللفظ أمور:

(الأول): أنه عليه الصلاة والسلام صدر الكلام بـ "أي" وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم. الثاني: أنه أكده بـ "ما"، فقال: "أيما"، وهي من المؤكدات المستقلة بإفادة العموم أيضًا. الثالث: أنه قال: "فنكاحها باطل"، رتب الحكم على الشرط في معرض الجزاء، وذلك أيضًا يؤكد قصد العموم، ونحن نعلم أن العربي الفصيح لو اقترح عليه بأن يأتي بصيغة دالة على قصد العموم مع الفصاحة والجزالة، لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة، ونعلم قطعًا أن الصحابة، رضوان الله عليهم، لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة، وأنا لو سمعنا واحدًا منا يقول لغيره: أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهمًا، لا يفهم منه المكاتبة، ولو قال: أردت المكاتبة، نسب إلى الألغاز، والهزو، ولو قال: أيما إهاب دبغ فقد

طهر، ثم قال: أردت به الكلب أو الثعلب على الخصوص (نسب إلى اللكنة والجهل باللغة، ثم لو أخرج الكلب أو الثعلب، لم يشكر ذلك) في اللغة. وكذلك لو قال المريض لغلامه: لا تدخل على الناس، ثم أدخل عليه جماعة من الثقلاء، ثم قال: إن لفظ الناس ليس نصًا في الاستغراق، فأخرجت هذا القبيل منه، لوجب/ تعزيز هذا العبد. ويقرب من هذا الباب قوله عليه الصلاة والسلام: "من ملك ذا رحم (محرم) عتق عليه"؛ إذ خصصه بعض الشافعية بالآباء، وهذا بعيد، لأن الأب يختص بخاصية، تتقاضى تلك الخاصية التنصيص عليها فيما يوجب الاحترام، فالعدول عن لفظ الخاص به إلى لفظ يعم، قريب من الالتباس

والإلغاز، ولا يليق بمنصب الشارع، ذلك إلا إذا اقتربت به قرينة معرفة، ولا سبيل إلى القرائن من غير ضرورة، ولو صح هذا الحديث لعمل به الشافعي رضي الله عنه، لكن قال الشافعي الحديث موقوف على الحسن بن عمارة ومثال العموم الضعيف قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر"، فقد ذهب بعض القائلين بصيغ العموم إلى أن هذا لا يحتج به في إيجاب العشر في الخضروات؛ لأن المقصود منه الفرق والفصل بين العشر ونصف العشر، وبيان الجزء الواجب، لا بيان الواجب فيه. والقاعدة: أن الكلام إذا سيق لمعنى، لا يكون حجة في غيره؛ لأن المتكلم معرض عنه، قال الغزالي وهذا فيه نظر عندنا؛ إذ لا يبعد أن يكون كل

واحد مقصودًا، وهو إيجاب العشر في جميع ما سقت السماء؛ لأن اللفظ عام، فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم، لكن يكفي في التخصيص أدنى دليل، ولم يوجد ذلك الأدنى فوجب التعميم في الواجب والواجب فيه. قلت: قول الشافعي رضي الله عنه هو المتجه؛ لأن قرينة كون الكلام سيق لبيان الجزء الواجب، لا لبيان الواجب فيه، دليل على اعتراض المتكلم عن الواجب فيه، وما المتكلم معرض عنه، هو مثل غير المنطوق به، وغير المنطوق به لا عموم فيه، فكذلك ما أعرض عنه المتكلم ولم يتجه إليه، فهذه القرينة دليل قوي على التخصيص، فوجب القول بسقوط الاستدلال به على التعميم. مسألة: قال الغزالي في المستصفى: قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربي}، فقال أبو حنيفة رحمة الله/: تعتبر

الحاجة مع القرابة، ثم جوز حرمان ذوي القربى، فقال الشافعية: هذا تخصيص باطل، لا يحتمله اللفظ، لأنه أضاف المال إليهم بلام التمليك، وعرف كل جهة بصفة، وعرف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة، وأبو حنيفة ألغى القرابة المذكورة، واعتبر الحاجة المتروكة، وهذا بعيد عن هذا اللفظ. قال الغزالي: وهذا عندي في محل الاجتهاد، وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ ذوي القربى بالمحتاجين منهم، كما فعله الشافعية على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم، في سياق هذه الآية. فإن قال: لفظ اليتم ينبئ عن الحاجة، فلا يحمل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر"، فإن قرينة إعطاء المال هي المنبهة على اعتبار الحاجة مع اليتم. فله أن يقول: واقتران ذي القربى باليتامى والمساكين قرينة دالة أيضًا على ذلك، وإنما دعا إلى ذكر القرابة كونهم محرومين من الزكاة حتى يعلم أنهم

مسألة: في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"

ليسوا بمحرومين من هذا المال، فهذا تخصيص لو دل عليه دليل لوجب قبوله، فليس ينبو عنه اللفظ نبوة حديث النكاح بلا ولي، وأنه أريد به المكاتبة. مسألة: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، حملة أبو حنيفة على القضاء والنذر، وقال الشافعية: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صيام" لفظ عام لا يسبق منه إلى الفهم إلا الصوم الأصلي الشرعي، وهو الفرض والتطوع، ثم التطوع غير مراد، فلم يبق إلا الفرض، الذي هو ركن الدين، وهو صوم رمضان، فأما القضاء والنذر فيجب بأسباب عارضة، ولا تذكر بذكر الصوم مطلقًا، ولا تخطر بالبال، بل تجري مجرى النادر كالمكاتبة في مسألة النكاح. قال الغزالي: وهذا عندي فيه نظر؛ إذ ليس ندور القضاء والنذر كندور المكاتبة، وإن كان الفرض أسبق منه إلى الفهم،

المسألة الرابعة: أقوال العلماء في العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا؟

فيحتاج مثل هذا التخصيص إلى دليل قوي، وليس ظهور بطلانه كظهور بطلان التخصيص بالمكاتبة، وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قريب، والقصر على النادر ممتنع، وبينهما درجات متفاوتة في القرب والبعد، لا تدخل تحت الحصر، ولكل مسألة ذوق يجب أن يفرد بنظر خاص. قلت: وافق الغزالي على هذه المباحث إمام الحرمين في البرهان، والشيخ سيف الدين في الإحكام الموضوع في أصول الفقه، وجماعة من الأصوليين، ونبهوا على استبعاد هذه التخصيصات ونظائرها وإذا حصل المنع في التخصيص بالمكاتبة، وهي فرع من النساء، تحته أفراد غير متناهية، وهو عموم في نفسه، وإذا امتنع التخصيص مع بقاء ما لا يتناهى من أفراد العموم، أولى أن يمتنع من الثلاثة ونحوها، وهذه القاعدة تقضي على تلك النقول المتقدمة بالتخصيص، وأن مراد القائلين بجواز التخصيص إلى الواحد، إنما هو بعض المنصوص، وهي التي لم تختلف بها قرائن مؤكدة للعموم، أما ما اختلف بها ذلك، فلا يريدونه بتلك الأقوال وما نقلت هذه المباحث وهذه المسائل إلا للتنبيه على ذلك. المسألة الرابعة: العام الذي دخله التخصيص هل هو مجاز أم لا؟ قال الإمام فخر الدين في المحصول: اختلفوا في العام الذي دخله

التخصيص هل هو مجاز أم لا؟ فقال قوم من الفقهاء: إنه لا يصير مجازًا كيف كان التخصيص، وقال أبو علي وأبو هاشم: يصير مجازًا كيف كان التخصيص، ومنهم من فصل، وذكروا وجوهًا. قال: والمختار قول أبي الحسين، رحمه الله، وهو: أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صارت مجازًا، وإلا فلا. تقريره: أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان، عقلية، ولفظية. أما العقلية: فكالدلالة الدالة على أن (غير) القادر غير مراد بالخطاب، بناء على منع تكليف ما لا يطاق، وإلا فكالدلالة الدالة على أن واجب الوجود لذته لا يتعلق بع تأثير القدرة، فيخصص في قوله تعالى: {والله على كل شيء قدير}. وأما اللفظية، فيجوز أن يقول المتكلم بالعام: أردت به البعض الفلاني/ دون غيره. وفي هذين القسمين يكون العموم مجازًا، والدليل عليه: أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق، فإذا استعمل هو بعينه في البعض، فقد صار اللفظ مستعملًا في غير مسماه، لقرينة مخصصة، وذلك هو المجاز

فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال: لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق، مع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص. قلت: فتح هذا الباب يقتضي ألا يكون في الدنيا مجاز أصلًا؛ لأنه لا لفظ ألا ويمكن أن يقال: إنه وحده حقيقة في كذا، ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازًا فيه، والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها، هل هو مجاز أم لا؟ فرع على ثبوت أصل المجاز. فأما إن كانت القرينة لا تستقل بنفسها نحو الاستثناء، والشرط، والصفة كقول القائل: جاءني بنو أسد الطوال، فها هنا لا يصير مجازًا، والدليل عليه أن لفظ العموم حال انضمام الشرط أو الاستثناء أو الصفة إليه، لا يفيد البعض؛ لأنه لو أفاده ما بقي شيء يفيده الشرط والصفة والاستثناء، فإذا لم يفد البعض استحال أن يقال: إنه مجاز في إفادة البعض، بل المجموع حاصل من لفظ العموم، ولفظ الشرط، أو الصفة، أو الاستثناء، دليل على ذلك البعض، وإفادة ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة. قلت: قد تقدم بيان أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، وإذا استحضرت ذلك استحضارًا جيدًا، علمت أن إلحاق الصفة للعموم مقيدة لتلك الحال، لا مخصصة، وكذلك الغاية والشرط، وأما الاستثناء فإن إخراج بعض الأفراد في جميع الأحوال كقولنا: أكرم القوم إلا زيدًا فلا تكرمه في حالة ألبتة، كان مخصصًا متصلًا، إن جعلنا التخصيص جنسًا والاستثناء نوعه، وإن جعلناه مباينًا بالكلية- كما تقدم تحريره في حد التخصيص- امتنع أن يكون مخصصًا ومعدودًا من المخصصات، لا المتصلة

ولا غيرها، وإن كان الاستثناء أخرج في حالة من الحالات كقولنا: اقتلوا المشركين إلا أهل/ الذمة، فهذا تقييد أيضًا، لا تخصيص، وقد تقدم الفرق بين المخصص والمؤكد، والمقيد والأجنبي. وإذا سلم له أن هذه الأمور مخصصة، لزم أن يكون اللفظ مجازًا، خلافًا لما قاله، بسبب أن اللفظ وضع للكلية، وقد استعمل في الجزئية، فيكون مستعملًا في غير ما وضع له، فيكون مجازًا. وأما قوله: إن لفظ العموم حالة انضمام هذه المخصصات المتصلة، لا يفيد البعض، لأنه لو أفاده، ما بقي شيء يفيده الشرط والصفة والاستثناء، فنحن ندعي أن لفظ العام من حيث هو هو، يفيد الكلية، وإنما المخصص متصلُا كان أو منفصلًا عارضه في بعضه، وإذا كان مفيدًا للكلية، كان مفيدًا للجزئية جزمًا. وأما قوله: لو أفاده، ما بقي الشرط يفيد شيئًا. قلنا: الشرط وغيره إنما أفاد على التحقيق قيدًا في الحالة المطلقة؛ لأن العام مطلق في الأحوال، وإذا قلنا: إنه مخصص، فهو مفيد إخراج بعض العموم، والبعض المخرج ليس اللفظ مجازًا فيه، إنما هو مجاز في البعض الباقي من الكلية من حيث هو كلية، وزادته هذه المخصصات صفة زائدة، وإذا قال: أكرم بني أسد الطوال، ازداد في البعض التنصيص على الطول،

وقبل ذلك لم يكن الطول معتبرًا في من يكرم، حتى أنه بعد التخصيص إن لم يوجد الطول، لم يتوجه الإكرام لأحد من بني أسد، وكان قبل ذلك متوجهًا باعتبار الطول والقصر، وأي حالة فرضت على البدل من الأجزاء. وأما قوله: إن إفادة ذلك المجموع لذلك البعض حقيقة. فهو ممنوع لوجهين: أحدهما: أن العرب لم تضع المركبات، ولذلك قال: إن المجاز المركب عقلي، كما نص عليه في المحصول، وإذا لم تضع المركبات امتنع أن يقال: المركبات حقيقة أو مجازًا، إذ الحقيقة والمجاز فرع الوضع، والمهملات لا توصف بهما. وثانيهما: أنا وإن سلمنا أن العرب وضعت المركبات، غير أن ذلك إنما قيل به في الكليات، دون الجزئيات، فوضعوا باب الفاعل، والمفعول، من حيث الجملة، وباب إن واسمها وخبرها، (وباب كان واسمها وخبرها)، وأما خصوص هذا الاسم الذي/ هو زيد ونحوه، فلا يتصور الوضع فيه؛ لأنه لم يكن في زمان الواضع حتى يتصور ويضع له، ولذلك وضعوا باب الصفة والموصوف من حيث الجملة، أما أنا نقول: إن بني أسد الطوال مجموع هاتين اللفظتين وضعتا لشيء، فليس كذلك، بل خصوص هاتين مهمل، وإنما الوضع في الصفة والموصوف من حيث الجملة، وإذا كان مهملًا، امتنع أن يكون حقيقة أو مجازًا؛ لأن الحقيقة هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له، وذلك فرع الوضع، فما لا وضع فيه لا حقيقة فيه، والمجاز: اللفظ المستعمل في غير ما

تنبيه: التخصيص بمتصل أو منفصل بالاستثناء في الحال من العموم

وضع له، والمغايرة للوضع فرع الوضع، فحيث لا وضع لا مجاز ولا حقيقة. تنبيه: قال الإمام فخر الدين رحمه الله: إذا قال الله: اقتلوا المشركين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحال- "إلا زيدًا"، فهل هذا تخصيص بدليل منفصل، لتعدد القائل، أو متصل لاتصال الزمان؟ فيه احتمال. قال: والذي يظهر لي أنه منفصل، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يقول: "إلا زيدً" بإذن الله تعالى له في ذلك، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى، وإذن الله تعالى في ذلك كالكلام بالاستثناء، ثم إن الاستثناء المتصل إنما جعل مع الأصل كلامًا واحدًا؛ لكونه لا يستقل بنفسه، ولما اتصل بما هو مستقل بنفسه، صيره غير مستقل بنفسه، وهذا موجود فيه، كان من متكلم واحد أو من متكلمين، فيكون متصلًا. وقد وقع في كتاب "الاستغناء في أحكام الاستثناء"، وهو كتاب كبير وضعته في الاستثناء خاصة، فيه أحد وخمسون بابًا -أن هذا الاستثناء إذا وقع على هذه الصورة ينبني عليه فرع، وهو ما إذ قال الله تعالى: صوموا عشرة أيام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة، فإن قلت: الأول متصل، جاز هذا الكلام، وإن قلنا: الأول منفصل امتنع أن يكون هذا كلامًا عربيًا؛ لأن مدرك الانفصال -كما تقدم- تعدد المتكلم، وأنه بسبب ذلك يصير المجموع كلامين، فيكون الأول قد استعمل اللفظ الموضوع للعشرة في السبعة مجازًا، من باب إطلاق لفظ الكل على الجزء، وذلك/ لا يجوز في أسماء الأعداد؛ لأنها

نصوص لا تقبل المجاز، فيخرج الكلام الأول، بسبب ذلك، عن كونه عربيًا، وإذا خرج الأول عن كونه عربيًا، خرج الثاني أيضًا عن كونه عربيًا؛ لأنه لا يأتي منه وحده كلام عربي، فيبطل الكلام تفريعًا على هذا الاحتمال. وإذا فرعنا على أنه متصل، جاز الكلامان، ويكون المتكلم الأول قد استعمل العشرة في السبعة مجازًا، مع أن النطق بـ "إلا"، وذلك لا يمتنع في النصوص، كما إذا كان المتكلم واحدًا، وقال: عندي عشرة إلا ثلاثة. أو تقول: الاستثناء مع اللفظ المستثنى منه، المجموع حقيقة فيما بقى، وقد قاله جماعة من الأصوليين، قالوا: "وقد" تكون السبعة مثلًا لها عبارتان: سبعة، وعشرة إلا ثلاثة، ويكون هذا اللفظ المركب حقيقة في السبع كلفظ السبعة، وقد صرح بذلك الحنفية أيضًا في كتبهم فقالوا: الاستثناء تكلم بالباقي بعد (الثنيا)، ومرادهم أنه تكلم بالسبعة بعد استثناء الثلاثة، وقولهم: "تكلم" أي موضوع للسبعة حقيقة. فتأمل ذلك، فهي كلها احتمالات يمكن القول فيها لغة، وعادة، وشرعًا.

المسألة الخامسة: أقوال العلماء في التمسك بالعام المخصوص

المسألة الخامسة يجوز التمسك بالعام المخصوص وهو قول الفقهاء. وقال عيسى بن أبان، وأبو ثور: لا يجوز مطلقًا. وقال الكرخي: إن كان قد خص بدليل متصل جاز التمسك به. وإن خص بدليل منفصل لا يجوز التمسك به، ومراده بهذا التفصيل أنه إذا خص بالمتصل، كان اللفظ الذي وقع به التخصيص من شرط أو غاية أو صفة أو استثناء، مع أصل الكلام حقيقة، فما بقي بعد التخصيص والحقيقة لا إجمال فيها، بل هي صريحة، فيتمسك باللفظ حينئذ.

والمنفصل لا يمكن جعله مع الأصل كلامًا واحدًا، نحو قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقتلوا الرهبان"، فهذا كلام مستقل بنفسه، لا يتعين ضمه إلى الأول، بخلاف غير المستقل، وإذا لم يكن حقيقة تعين أن يكون مجازًا، ووجوه المجاز غير محصورة، فيبقى مجملًا، فتعذر التمسك به، وهذا المدرك مبني على المباحث السابقة: أن المتصل يركب مع الأصل أم لا؟ وهل المخصوص/ مجاز أم لا؟ ، والكل مختلف فه، كما تقدم وجه الحق ف ذلك. وقال الإمام فخر الدين: إن خص تخصيصًا مجملًا، امتنع التمسك به، كقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، ثم يقول -مثلًا-: لم أرد بعضهم، أو بعضهم حرم قتله، فلم تعن أحدهما، فيجب التوقف. وهذا القسم الذي قاله الإمام فخر الدين على هذه الصورة، ينبغي أن يحرم بحصول الإجماع في كونه مجملًا؛ والجمهور على جواز التمسك بما عدا هذا القسم، وتمسكوا عليه بوجوه:

الأول: أن اللفظ العام كان متناولًا لجمع أفراد الكلية التي هـ مسمى العموم، وكونه حجة ف أحد تلك الأقسام، إما أن يكون موقوفًا على كونه حجة في القسم الآخر، أو على كونه حجة في الكل، أو لا يتوقف على واحد من هذن القسمين، والأول باطل؛ لأن كونه حجة ف تلك الأقسام، أو كونه موقوفًا في كونه حجة فه، موقوفًا على ما هو موقوفًا عله، أو لا يكون، والأول يلزم منه الدور، والثاني يلزم منه الترجيح من غر مرجح. وكذلك إذا كان كونه حجة في أحد الأقسام، موقوفًا على كونه حجة في الكل، مع أن كونه حجة في الكل موقوفًا على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام، فلزم الدور أيضًا. وإن كان الحق هو القسم الثاني، وهو أنه يكون حجة ف كل قسم من تلك الأقسام من غر توقف، وحينئذ يكون العام المخصوص حجة؛ لأن عدم الحكم من غيره من الأقسام يكون انتفاء لما يتوقف عليه الحكم، وعدم ما لا يتوقف عله لا قدح ف الثبوت، فيكون العام المخصوص حجة وهو المطلوب، مع أنا نعلم بالضرورة استواء نسبة اللفظ بالنسبة إلى كل الأقسام، فلم يكن أحد الأقسام مشروطًا والآخر شرطًا بأولى من العكس. قلت: ورد على حجتهم هذه، أن يختار الخصم التوقف من الجانبين، ولا يلزم الدور، بسبب أن التوقف توقفان: توقف سبقي، وتوقف مع، والأول هو الذي يلزم منه/ الدور دون الثاني. وبيانه بالمثال: إذا قلت لصاحبك: لا أخرج من البيت حتى تخرج منه قبلي، وقال هو -أيضًا- أنا لا أخرج حتى تخرج منه قبل، كان خروج كل

منكما محالًا، مع تحقق هذا الموقف، وإن قلت له لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج معي، وقال الآخر أنا لا أخرج حتى تخرج أنت الآخر معي أمكن خروجكما جمعيًا، مع صدق هذا التوقف، فعلمنا أن التوقف المعي لا وجب دورًا، وإنما يوجب الدور التوقف السبقي، وحينئذ للخصم أن قول: التوقف حاصل بن القسمين على سبل المعية، ولا يلزم دور، ولزم ألا يكون العام المخصوص حجة. الثاني: "أنهم قالوا: المقتض لثبوت الحكم فيما بق بعد التخصيص (قائم، والمعارض الموجود لا يصلح معارضًا، فوجب ثبوت الحكم فيما بقي بعد التخصيص). إنما قلنا: المقتضي قائم، وذلك أن المقتضى: هو اللفظ الدال على ثبوت الحكم وصيغة الحكم [الحكم على] العموم على ثبوت الحكم ف كل الصور. والدال على كون الحكم في كل الصور، دال على ثبوت الحكم فيما بقي يعد التخصص، فثبت أن المقتضي لثبوت الحكم موجود فيما بقي بعد التخصيص، وأما أن المعارض الموجود لا يصلح معارضًا، فلأن المعارض إنما هو بيان أن الحكم غير ثابت فيما خرج بالتخصيص، ولا يلزم من عدم الحكم في هذه الصورة عدمه من الصور الأخرى، فثبت أن المقتضى قائم، والمانع مفقود، فوجب ثبوت الحكم. قلت: وقولهم: "إنه لا يلزم من عدم الحكم في صورة التخصيص عدمه

فما بقي "مصادرة على محل النزاع، قال الخصم يعتقد أنه يلزم من التخصيص ف البعض سقوط الاستدلال بالنص في الباقي. الثالث: قالوا إن عليًا رضي الله عنه، تمسك في الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: {أو ما ملكت أمانكم}، مع أنه مخصوص بصور غير محصورة، منها: المملوكات من الجماد، والنبات، والحيوانات العجماوات، / والذكور من بن آدم وكثر من الإناث نحو: البنات، وأخوات الرضاع، وأخوات النسب، ولم ينكر عله أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فكان ذلك إجماعًا، ولم تزل الصحابة والتابعون

والعلماء في كل عصر ومصر يتمسكون بالعمومات المخصوصة، من غير نكر في ذلك، مع أنه يقال: ما من عام إلا وقد خص، ولو صح ما قاله الخصم، لبطلت عمومات القرآن والسنة وذلك بما يعلم أنه ممنوع. احتجوا بأن العام المخصوص لا يمكن إجراؤه على ظاهره، لقيام المخصص، وحينئذ يتعين حمله على بعض المحامل الخفية المجازية، وليس البعض أولى من البعض، فيصير اللفظ مجملًا، وهو المطلوب. والجواب: لا نسلم أن البعض أولى من البعض، بل يتعين بقة أفراد العموم التي لم يرد فيها مخصص؛ عملًا بدلالة العموم عليها، السالمة من معارضة المخصص فيها، وهذا مرجح قوي منع القول بأنه ترجيح من غير مرجح. حجة الكرخي: أن المخصص بالمنفصل يكون بكون اللفظ المخصص مع صفة العموم المجموع موضوع لما بق، فقول حقيقة، كما تقدم تقريره،

والحقيقة لا إجمال فها، أما إذا كان المخصص منفصلًا، يتعين أن يصر العام مجازًا، وليس بعض مراتب المجاز أولى من بعض، فيتعين الإجمال. وجوابه: منع المقامين: أما كونه حقيقة فممنوع، بل المركب الخاص لم يوضع لما بقي، بل المخصص المتصل للإخراج ونحوه مما وضع له ذلك اللفظ من صفة أو غاية ونحوهما، والعام باق على وضعه للعموم مستعمل في الخصوص مجازًا، وقد تقدم تقرره. وأما قوله "ليس بعض مراتب المجاز أولى من بعض" فممنوع أيضًا، بل ما بقي بعض التخصيص هو المتعين، كما تقدم تقريره. * * *

المسألة السادسة: تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأقوال العلماء في إرادة العموم من ظاهر اللفظ

المسألة السادسة إذا قال صاحب الشرع -مثلًا- اقتلوا المشركين إذا انسلخ الأشهر الحرم -ونحن ف أولها- ولم رد مع هذا العموم مخصص ألبتة، ونحن على قاعدتنا نجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، فجوز أن يرد عند وقت الحاجة بيان التخصيص إذا انسلخ الأشهر الحرم. فهل يجوز لنا إلا أن نعتقد أن العموم مراد، بناء على ظاهر اللفظ/، أو لا يجوز أن يعتقد ذلك، بناء على تجويز ورود المخصص؟ خلاف، الأول قول الصيرفي، والثاني لابن سريج، وعليه الجمهور.

قال المازري ف شرح البرهان: المسألة مصورة في عموم لم تدع الحاجة إلى العمل به، أما إذا دعت الحاجة إلى العمل به فلا يمكن تأخير البيان عن ذلك. وقد قال إمام الحرمين: الكلام في هذه المسألة مبني على القول بتأخير البيان عن زمن ورود الخطاب، وأبو بكر الصيرفي ذهب إلى المبادرة إلى اعتقاد حمل الصيغة على العموم، قال الإمام: وكشف الغطا عن المسألة إنما غلب على ظننا أولًا بالعموم، ثم إذا دخل وقت العمل ولم يرد مخصص فقد نقطع بالتعميم بالقرائن، وقد لا يحصل القطع فيقطع بوجوب العمل بإرادة العموم، بل بظنها. قال الابياري: مذهب الصيرفي في أنه يمنع تأخير البيان عن وقت الخطاب،

وهو مستند قوله في الجزم باعتقاد العموم وقت الحاجة. وقال الغزالي ف المستصفى: لا خلاف أنه تجوز المبادرة إلى العمل بالعموم قبل البحث عن الأدلة التي جوز التخصيص بها في جميع الشريعة، وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل. قال المازري: وطرق الرد عليه أن يقال له: إن اعتقاد العموم مع تجويز المخصص متناقض فإن الاعتقاد جازم، والاحتمال يناقضه، فإن قال: أنا أريد بذلك الظن الذي يمكن اجتماعه مع الاحتمال، فهذا إن أراده الصيرفي غير ممتنع، وإن كان مراده أن يعتقد العموم إذا حضر وقت العمل بعد الفحص عن المخصص، ولم نجده، فهو صحيح؛ لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، وهذا لا يخالف فيه. وعود الخلاف في هذه المسألة إلى خلاف في عبارة: "وإن أراد أنه إذا حضر العمل وجب تنفيذ الخطاب على عمومه ولا يفحص عن المخصص من قياس أو غيره من أدلة الشرع"، فهو غلط؛ لأنه لا يباح للفقيه أن يفتي بأول خاطر يسنح له، ولو عرض له قاس لم يجز له أن يفتي به حتى يفحص عن الشريعة بر يخصصه أم لا، أو قاس خالفه أو قادح قدح فيه، وكذلك العموم، لا يجوز لأحد أن يفتي به حتى يثق بأنه لا معارض ولا مخصص.

قلت: هذا كلام المازري/ وإمام الحرمين وجماعة من العلماء بالأصول، صوروا هذه المسألة فما لم يخص وقت العموم بالعموم. والإمام فخر الدن- رحمه الله- صورها في المحصول تصويرًا صعبًا، على خلاف الإجماع، فقال ابن سريج: لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص، فإذا لم يوجد بعد ذلك مخصص، جاز التمسك به في إثبات الحكم. وقال الصيرفي: يجوز التمسك به ابتداء، ما لم تظهر دلالة مخصصة وهذا التصوير منه يقتضي أن المسألة مفروضة في وقت العمل، وهذا صعب، بسبب أن ما حكاه عن ابن سريج مجمع عليه، كما حكاه العلماء، وأنه لا يجوز لأحد أن يثبت حكمًا بدليل إذا وجده حتى يستوعب جهده في معارضه ومناقضه، ويكون ما حكاه عن الصرفي خلاف الإجماع. ثم احتج الصرفي بأن قال: لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لم يجز التمسك بالحقيقة إلا بعد الفحص عما يوجب صرف اللفظ إلى المجاز. وهذا باطل، فذلك مثله بيان الملازمة، أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص، لكان ذلك الاحتراز عن الخطأ المحتمل، وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ، فجب اشتراكهما ف الحكم، بان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز، أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن

أنه هل يوجد ما يوجب العدول إلى المجاز أم لا؟ وإذا وجب ذلك في العرف، وجب أيضاً في الشرع لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن). وثانيهما: أن الأصل عدم التخصيص، فيكفي في إثبات الحكم ظنه. قلت: وهذا الاستدلال ضعيف كله، وعلى خلاف الإجماع. أما ضعفه؛ فلأن أهل العرف في مخاطباتهم لم يفصحوا عن مجاز ولا مخصص ولا غير ذلك مما يعكر عن الألفاظ، بسبب أن الأحكام المتعلقة بتلك الألفاظ مصالح دنيوية جزئية، لا يلزم من الخطأ فيها مفسدة عامة. وأما الفتيا فهي شرع عام في جميع الخلائق والأعصار والأمصار إلى يوم القيامة ولا يجوز لأحد أن يقدم على ذلك بمجرد مثير لظن، بل لا بد من بذل الجهد ممن هو أهل للاجتهاد، وحينئذ يجوز الإقدام على الفتيا، (138/ ب)

بموجب ظنه، ولولا ذلك لم يكن لاشتراط تلك الشروط العظيمة في منصب الاجتهاد فائدة، فإن أصل الظن لا يتوقف، ويحصل بدونها، وإنما فائدة تلك الشروط النهوض بسببها إلى رتبة علية من الظن، حتى لا يثبت في حكم الشريعة إلا بعد استيفاء القدر المشترط في ثبوته، احتياطا للشرائع العظيمة، التي هي سبب للسعادة الأبدية، ومخالفتها سبب للشقاوة السرمدية، ومثل هذه الأخطار العظيمة، لا يجوز ترتيب أسبابها بمباديء الآراء الضعيفة، بل لو تيسر أن لا يثبت شيئا منها إلا بالعلم اليقيني والكشف الشافي، لم يعدل عنه، لكن تعذره في أكثر الصور أوجب العدول عن العلم إلى الظن، لئلا تتعطل المصالح، والظن بعد هذه الشروط غالب الصواب، نادر الخطأ، فلذلك أقيم مقام العلم. وأما مخاطبات أهل العرف فبعيدة عن هذا النمط بعدا شديدا جدا، فلا يجوز أن تجعل أصلا لهذه المسألة.

وأما الحديث، فيمنع صحته وصحة التمسك به، فهذا وجه ضعفه. وأما كونه خلاف الإجماع، فلما تقدم من النقل عن العلماء. والصواب في المسألة ما صدرتها به فاعتمده، فالخطب فيها على ذلك التقدير يسير قريب. * * *

المسألة السابعة: الوقت الذي لا يجوز للمجتهد أن يحكم بموجب العموم

المسألة السابعة في الوقت الذي يجوز للمجتهد أن يحكم بموجب العموم قال الغزالي في المستصفى: لا يجوز الحكم بالعموم ما لم (يتبين) انتفاء دليل التخصيص، ولا خلاف أنه لا تجوز المبادرة إلى الحكم قبل البحث عن كل ما يمكن أن يكون مخصصاً، وكذلك جميع أدلة الشرع لا يجوز التمسك بشيء منها حتى يفحص عن كل ما يمكن أن يعارضه وإلى أي غاية يصل في البحث عن ذلك، فإن المجتهد إن استقصى، أمكن أن يشذ عنه دليل لم (يعثر) عليه، فكيف يحكم مع إمكانه؟ وقد انقسم الناس في هذا المقام على ثلاثة مذاهب: فقال قوم: يكفيه أن تحصل غلبة الظن (بالانتفاء) عند الاستقصاء في البحث، كالذي يبحث عن متاع في بيته وفيه أمتعة كثيرة فلا يجده، فيغلب على ظنه عدمه. وقال قوم: لابد من اعتقاد جازم وسكون نفسي بأنه لا دليل، أما إذا كان

يشعر بجواز دليل يشذ عنه/ ويحيك في صدره إمكانه، فكيف يحم بدليل يجوز أن يكون الحكم (به) حراما؟ نعم إذا اعتقد جزما، وسكنت نفسه، جاز له الحكم، كان مخطئا عند الله أو مصيبا، كما لو سكنت نفسه بالقبلة فصلى إليها. وقال قوم: لابد وأن يقطع بانتفاء الأدلة، وإليه ذهب القاضي؛ لأن الاعتقاد الجزم من غير دليل قاطع، سلامة قلب وجهل، بل العالم الكامل تشعر نفسه بالاحتمال، حيث لا قطع، والمشكل على هذا طريق (تحصيل) القطع بالنفي، وقد ذكره القاضي رحمه الله في مسلكين: أحدهما: أنه إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذمي عن مخصصات قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مؤمن بكافر) مثلا، فقال: هذه مسألة طال فيها خوض العلماء، وكثر بحثهم، فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم (مدركها)، وهذه المدارك المنقولة عنهم علمت بطلانها، فأقطع بأنه لا مخصص. قال: وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه حجر على الصحابة -رضوان الله عليهم- أن يتمسكوا بالعموم في كل واقعة لم يكثر الخوض فيها، ولم يكثر البحث عنها، ولا شك

في عملهم مع جواز التخصيص، بل مع جواز نسخ لم يبلغهم، كما حكموا بصحة المخابرة، بدليل عموم إحلال البيع، حتى روى رافع بن خديج النهي عنها. الثاني: أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين، بل إنه لا يشذ المخصص عن جميع العلماء؟ ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم؟ فلعل منهم من (تنبه للدليل)، وما كتب في تصنيف ولا نقل عنه، وإن أورده في تصنيف فلعلع لم يبلغه. وعلى الجملة، لا يظن بالصحابة -رضوان الله عليهم- فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي، وكان النهي حاصلا ولم يبلغهم، بل كان الحاصل إما ظن أو سكون نفس.

المسلك الثاني للقاضي: قال القاضي: لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين، وإن لم يدع الإحاطة بجميع المدارك، إذ (يقول): لو كان الحكم خاصا لنصب الله سبحانه وتعالى دليلا للمكلفين ويبلغهم إياه ولا يخفيه عليهم. قال الغزالي: وهذا أيضا من الطراز الأول، فإنه لو اجتمعت الأمة على شيء أمكن القطع بأنه لا دليل يخالفه، إذ يستحيل اجتماعهم على الخطأ. (139/ ب) أما في مسألة الخلاف، كيف يتصور ذلك؟ قال الغزالي: والمختار عندنا، إن (تيقن) الانتفاء إلى هذا الحد لا يشترط، وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز، بل عليه تحصيل علم أو ظن باستيفاء القطع، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه، وأما القطع، فبانتفائه في حقه بتحققه عجز نفسه عن الوصول إليه، بل بعد بذل (غاية) وسعه، فيأتي بالبحث الممكن إلى (حد) يعلم أنه بحثه بعد ذلك سعي ضائع، ويحس في نفسه بالعجز يقينا، فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا، وانتفاء الدليل في نفسه مظنونا، وهو الظن بالصحابة -رضوان الله عليهم- في المخابرة ونظائرها، وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب، وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر.

تنبيه: في التمسك بالعام ونفي المخصص

تنبيه: قال الإمام فخر الدين في المحصول في هذه المسألة: إذا قلنا: يجب نفي المخصص في التمسك بالعام، فذلك مما لا سبيل إليه إلا أن يجتهد في الطلب ثم لا يجد، لكن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود، لا يورث إلا الظن الضعيف. قلت: ليس الأمر كما قال، بل يحصل الظن المقارب للقطع من المجتهدين، بسبب كثرة محفوظاتهم واطلاعاتهم، والظن الضعيف إنما يقال في حق غير الحفاظ، لكنا نشترط في المجتهد أن يكون من الحفاظ، وسير مثل هذا عظيم، ربما قارب القطع. وأوجه هذه الأقوال قول الغزالي، فإنه قول معتدل بين الإفراط والتفريط، فهذه المسائل السبعة كلها تنبني على جواز التخصيص ووقوعه. * * *

الباب العشرون في المخصصات المتصلة، ووقوع التخصيص بها، وما يتفرع عن ذلك

الباب العشرون في المخصصات المتصلة، ووقوع التخصيص بها، وما يتفرع عن ذلك اعلم أن الأصوليين مطبقون على أن من جملة ما يخصص العمومات، المخصصات المتصلة، وهي عندهم أربعة: الاستثناء، والشرط، والغاية، والصفة، هذا مما لم أر فيه خلافا ولا تفصيلا/، بل ذلك مطلق عندهم، ولم أر أحدا زاد على هذه الأربعة شيئا. (140/ أ) والحق في هذا الباب: إما أن لا تكون هذه الأمور مخصصة مطلقا وهو الحق، أو تكون مخصصة، إن سلم ذلك، ولا يكون الحصر واقعا في الأربعة، بل هي نحو العشرة، كل جار على ما ذكروه من الأسئلة في تلك الأربعة. فإن قلنا: اقتلوا المشركين إلا أهل الذمة في الاستثناء، أو: إن حاربوا، في الشرط، أو: حتى يعطوا الجزية، في الغاية، أو: اقتلوا المشركين المحاربين، فإن ذلك يخصص العموم في الأول بغير أهل الذمة، ويخرج أهل الذمة من العموم، ويخرج غير المحاربين بالشرط المذكور، فيكون تخصيصا؛ وتخصيص الغاية من إعطاء الجزية، فيخرجه عن حكم العموم، وكذلك الصفة تخرج غير المحاربين من العموم. فإن قلنا هذا، تساويه الحال، فإنها كالصفة، كقولنا: اقتلوا المشركين محاربين، ولا فرق بينهما في معنى التخصيص. وكذلك المفعول من أجله، نحو: اقتلوهم منعا لهم من الحرابة،

والظروف من الزمان

والحال إلى ترك القتال، فهذا يقتضي أيضا أن كل من لا يحارب لا يقاتل ولا يقتل. وكذلك الظروف من الزمان -وهو السابع في العدد- نحو: اقتلوهم مستهل هذه السنة، فإن التقييد بهذا الظرف يقتضي عدم قتل من وجد من المشركين قبل هذا القيد أو بعده، كالتقييد بالصفة سواء. الثامن: التقييد بظرف المكان، نحو: اقتلوهم في جزيرة العرب، فإن هذا التقييد أيضا يقتضي أنهم لا يقتلون في غير هذا المكان، كالتقييد بالصفة، وأن من وجد منهم بغير هذا المكان لا يقتل، ويكون مخرجا من العموم مخصصا. التاسع: المجرور، نحو: اقتلوهم بحرابتهم، أو اقتلوهم بما حملوا من السيوف، ونحو ذلك من المجرورات، فإن هذا التقييد بهذه المجرورات يقتضي أن يخرج من العموم من ليس له حرابة ومن لم يحمل سيفا كالتقييد بالصفة والغاية. العاشر: التمييز، نحو قولنا: اقتلوهم ثلاثا، ونحو قول القائل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، نصبا على التمييز، فإن التقييد بهذا التمييز يقتضي أنه من وجد بعد الثلاث من مواقع القتال لا يقتل، وقد كان يقتل لولا هذا التقييد، فكان ذلك تخصيصا/ على قاعدتهم في التقييد بالغاية والصفة. (140 م ب) فهذه عشرة ذكرتها على سبيل الحصر؛ للتنبيه على أن الحصر ليس واقعا فيما ذكروه. ويتمهد هذا الباب بفصلين: أحدهما مشتمل على بيان أن هذه الأمور العشرة وما جرى مجراها ليس مخصصا كما زعموه. وثانيهما: في فروع هذه الأمور ومباحثها المرتبة على تسليم كونها مخصصة، فإن في ذلك فوائد ومسائل تتفرع عليها.

الفصل الأول في بيان أن هذه الأمور ليست مخصصة للعموم

الفصل الأول في بيان أن هذه الأمور ليست مخصصة للعموم وهو فصل جليل غامض، يعسر إدراكه على كثير من الناس، وهو مبني على قاعدة وهي: (أن العام في الأشخاص مطلق في أربعة أمور غير الأشخاص، التي هي مدلولة ذلك اللفظ العام من غير هذه الأربعة)، فإن العموم قد يكون في هذه الأربعة فلا يتصور الإطلاق فيها، وإنما ندعي الإطلاق، وإن كان العموم في غير هذه الأربعة فيدعى الإطلاق فيها حينئذ، وهي الأحوال، والأزمنة، والبقاع، والمتعلقة، وقد تقدمت هذه القاعدة وبيانها في الباب السابع عشر غير أني آثرت إعادتها هنا لوجهين: الأول: أن هذا الموضع -أيضا- محتاج إليها، مثل ذلك الموقع. الثاني: أن الواقف على هذا الباب قد لا يتفق له الوقوف على ذلك الباب؛ ولأنها غامضة، ولعلها بتكررها تتضح للواقف عليها أكثر بسبب تغيير العبارات وزيادة الألفاظ، فإذا قال الله تعالى: {اقتلوا المشركين}، كان عاما في قتل كل مشرك، بحيث لا يبقى مشرك، ولا يدل هذا اللفظ من حيث هو هو على أنهم يقتلون في حالة الجوع أو العطش أو السفر أو الإقامة أو غير

ذلك من الحالات، ولا إشعار للفظ بركوب، ولا جلوس، ولا هيئة من الهيئات التي يمكن أن يفرض للمشركين على الخصوص، ومن ادعى أن قولنا: اعتق عبيدي، أنه يدل على أنهم مسافرون على الخصوص أو جياع فقد أبعد، ويدل على ما قلناه وجوه أربعة عقلية ونقلية: الأول: أن لفظ: (اقتلوا المشركين) لو دل على السفر أو الإقامة أو الجوع أو العطش أو غير ذلك من الأحوال أو الخصوص، لدل إما مطابقة/، أو تضمنا أو التزاما، والثلاثة باطلة، فلا يدل مطلقا. (141/ أ) أما أنه لا يدل مطابقة، فلأن لفظ المشركين لم يوضع للجوع ولا للجلوس، ما لا يوضع له اللفظ لا يدل عليه مطابقة. أما أنه لا يدل تضمنا، فلأن الجلوس مثلا ليس جزء مدلول المشركين. أما أنه لا يدل التزاما، فلأن الجوع أو الجلوس أو غيرهما، لا يلزم أحدهما مفهوم المشركين على التعيين، فإنهم قد يكونوا كلهم في ضد الحالة التي فرضت، بل اللفظ لا يدل على وجود المشركين ألبتة، فضلا عن هيئاتهم، فإن الله تعالى إذا قال: {اجلدوا الزناة المحصنين}، قد لا يكون في الوجود زان محصن ألبتة، وكذلك بقية العمومات. نعم قد يكون الواقع أن الدنيا لا تعرى عن مشرك، وأن منهم مسافرين بالضرورة، لكن ليس ذلك من دلالة اللفظ، بل الواقع كذلك، والبحث إنما هو في دلالة اللفظ وإشعاره، فإن التعميم والتخصيص إنما هو متعلق بدلالة اللفظ، ولا يلزم من كون الواقع شيئا، أن يكون اللفظ دالا عليه، وإذا كان

لفظ العموم لا يدل على وجود أفراده، امتنع أن يكون دالا على أحوالهم التي هي تابعة للوجود، فإن عدم الدلالة على المتبوع يستلزم عدم الدلالة على التابع، كما أن عدم المتبوع يستلزم عدم التابع. وكذلك القول في البقاع، والأزمان، فإن لفظ (المشركين) لا يدل على مدينة خاصة، ولا جميع مدائنهم على الخصوص، وكذلك لا يدل على زمان معين، فقد يوجدون في ذلك الزمان دون هذا، وفي هذا دون ذاك، فإن الدلالة إذا انتفت عن أصل الوجود، انتفت عن تعيين زمان الوجود ومكانه بطريق الأولى. وكذلك المتعلقات، وهي ما به أشركوا، فلا يدل لفظ (المشركين) على وقوع الشرك بالكواكب مثلا، أو بالبقر، أو بغير ذلك مما يقع الشرك به، بل إذا سمعنا (المشركين) أمكن أن يكونوا كلهم أشركوا بالأصنام أو كلهم أشركوا بالكواكب، وغير ذلك مما يقع به الشرك، فإن اللفظ إذ لم يدل على أصل الوجود، لم يدل على وجود الشرك بشيء، لا بالمطابقة، ولا بالتضمن، ولا بالالتزام، فتبقى الدلالة مطلقا، وإن كان الواقع أن الشرك وقع من المشركين/ على وجه الأرض بالأصنام والكواكب وغير ذلك، لكنك قد علمت أنه لا يلزم من كون الواقع شيئا أن يكون اللفظ يدل عليه، والبحث إنما هو في دلالة اللفظ من حيث هو لفظ دال. (141/ ب) وإذا تقرر عدم دلالة اللفظ على حالة معينة، وزمان معين، ومكان معين، ومتعلق معين، فنحن نعلم بالضرورة أن المشرك لا يقتل إلا في زمان، ومكان، وحال، وقد يكون شركه واقع بشيء من الأشياء، فيكون اللفظ دالا على قتل كل مشرك في مطلق الحال، ومطلق الزمان، ومطلق المكان، ومطلق المتعلق،

فهذه المطلقات من لوازم القتل ووقوعه، فيكون اللفظ دالا عليها بطريق الالتزام، أما خصوص حالة أو مكان أو زمان أو متعلق فلا دلالة عليه بخصوصه، فضلا عن العموم في ذلك. فإن قلت: لم لا يكون معنى قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، اقتلوهم في جميع الحالات، (ويكون قد أمر بقتل كل مشرك في جميع الحالات)، وإن كان قتله لا يتكرر، لكن يكون المجموع كالظرف لتلك القتلة الواحدة، كما (لو) صرح وقال: جعلت جميع الحالات، أو جميع الأزمنة، ظرفا لتلك القتلة المفردة. كما ولد زيد عام الفيل، (ومات) سنة ثمانين، أو مات عام الفتح، فيجعل جملة السنة ظرفا للولادة، أو الموت، وإن كان لا يتكرر فيها، كذلك تكون جميع الأحوال والظروف محلا لتلك القتلة الواحدة، وإن كانت لا تتكرر فيها، وقد قدمت في هذا الكتاب وغيره أن من أقسام التعليقات المطلق في العام، نحو: متى دخلت الدار فأنت حر، فجميع الأزمنة ظرف ومعلق عليه الحرية، وهي لا تتكرر فكذلك ها هنا. قلت: أنا لا أمنع أن يراد هذا المعنى ولا أن يصرح به المتكلم، فنقول: اقتلوهم في جميع الأحوال، إنما أنا أمنع أن يكون لفظ العموم من حيث هو لفظ عموم يدل على ذلك الواقع، وكذلك الواقع متضمن لذلك، واللفظ لا

يدل عليه، ويدل على ذلك أن قول القائل: اعتق عبيدي، وطلق زوجاتي، لا يدل هذا اللفظ على سفر ولا إقامة ولا مكان معين ولا زمان معين/ من (142/ أ) المستقبلات لذلك الفعل ألبتة، ولا هنالك واقع يتقاضى شيئا من هذه الأشياء على التعبير ألبتة، بل الباب منسد بالكلية وهو صيغة عموم، وقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} صيغة عموم، فقد اشتركا في صيغة العموم، وامتاز المشركون بأن الواقع من أحوالهم المعلوم، أن منهم مسافرا أو مقيما أو جائعا أو خائفا أو أسيرا، وأن مدائنهم بأرض الأندلس أو بجزيرة العرب، وغير ذلك مما هو معلوم في الواقع، فلو كانت صيغة العموم بما هي صيغة دالة على شيء من ذلك لدلت عليه في: أعتق عبيدي، وطلق نسائي، لوجود المقتضى لذلك، وهو صيغة العموم، وما لم يدل على ذلك، علمنا أن لفظ العموم من حيث هو عموم لا يفيد شيئا من ذلك التعيين، وإنه إنما يدل بالالتزام على مطلقات هذه الأربعة لا معيناتها وهو المطلوب. الثاني: في الدلالة على ذلك من جهة الوضع اللغوي: أن اللغويين نصوا على أنك إذا عبرت عن المعاني العامة والحقائق العالية، نحو: المخلوق، والوجود والجسم، ونحوهما، فإنك إنما تعبر عنها بلفظ "ما" الموضوعة لما لا يعقل، فإن الأمر العام لا يستلزم الخاص، فلم يندرج في تلك الأمور العامة مفهوم الخاص العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج في صيغة العموم من حيث إنه جسم، وموجود، ومخلوق، ونحوها، لكنه من هذه الجهة غير عاقل، وإذا لم يندرج فيه العقلاء من حيث هم عقلاء، كان اللفظ اللائق به هو لفظ "ما"، دون لفظ "من"، فلا تقول: كل من خلقه الله

تعالى ممكن، وأنت تريد العموم في جميع المخلوقات، بل تقول: كل ما خلقه الله تعالى ممكن، وتقول: ما في الوجود شاهد بوجود الله تعالى وصفاته العلا، ولا تقول: كل من، وأنت تريد الاستيعاب الذي أراده الشاعر في قوله: وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد فلو أردت أن تضع موضع (كل شيء) "ما"، أو "من"، كان المتعين "ما"، فإن الشيء بما هو شيء لم يندرج فيه مفهوم العاقل من حيث هو عاقل، وإن اندرج فيه من حيث هو شيء، وإن قلت: لفظ "من"، لم يكن كلاما عربيا، ولهذه القاعدة قال الله تعالى: {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء}، ولم/ (142/ ب) يقل: إلى من خلق الله من شيء، فإن الشيء بما هو شيء لا يستحق لفظ "من"، بل "ما" (وقد) قال تعالى: {ويعلم ما في الأرحام}، فأتى بلفظ "ما"، ولم يأت بلفظ "من"؛ لأن المستقر في الرحم من حيث هو مستقر في الرحم أعم ممن هو عاقل، بل قد يكون بهيمة، ومن الحشرات، فإذا دخل لفظ العموم، اندرج العقلاء فيه من جهة عامة، وهي

أنهم مستقرون في الأرحام، لا من جهة أنهم عقلاء، وهذه الجهة أعم، والأعم لا يستلزم الأخص، فلم يندرج العاقل فيها من حيث إنه عاقل، بل من حيث إنه مستقر، وهو من هذه الجهة غير عاقل، فكان المتعين التعبير بلفظ "ما"، دون لفظ "من"، وقاتل الله تعالى: {يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد}، فأتى بلفظ "ما" دون لفظ "من"، بسبب أن حمل الأنثى أعم، والأعم لا يستلزم الأخص، وهو كثير في الكتاب والسنة وكلام العرب، لا يأتي فيه إلا لفظ "ما"، دون لفظ "من"، وتقول: كل ما سوى الله تعالى محدث، وكل ما سوى الله محتاج إليه، ونحو ذلك من العبارات ولا يأتي بلفظ "من" ألبتة، وإن كنت تريد العموم الذي اندرج فيه العقلاء. إذا تقررت هذه القاعدة، فنقول لك: في هذه المعاني العامة أربعة أحوال: أحدهما: أن يريد أحد نوعيها، وهو من يعقل خاصة، فيتعين لفظ "من"

في التعبير عنه. وثانيهما: أن يريد النوعين من حيث خصوص من يعقل بما هو عاقل، وخصوص ما لا يعقل من حيث هو عاقل، فيتعين التعبير عنهما بلفظ "من"؛ لأن القاعدة العربية: أن المتكلم إذا أراد من يعقل وما لا يعقل بالحكم الذي سيق الكلام لأجله، تعين التغليب لمن يعقل على ما لا يعقل، ويكون التعبير بلفظ "من" لأجل التغليب، كأنهم كلهم عقلاء. ورابعها: أن تريد العموم وتريد النوعين لا بخصوصهما، بل تقصد استيعاب كل فرد من المخلوقات من حيث هي مخلوقات، أو الأجسام من حيث هي أجسام، فهذه الحالة التي يحصل فيها العموم ويتعين التعبير بلفظ "ما"، وهو المراد بقولنا: كل ما في خلق الله تعالى ومن آثار قدرته، ونحو ذلك، فيندرج/ العقلاء لا من حيث هم من تلك الجهات العامة. (143/ أ) إذا تقرر ذلك، اتضح أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، بسبب أن العام في الأشخاص لو كان عاما في الأحوال لكان شاملا لحالة العقل وحالة ضدها، وعلى هذا كان يتعين التعبير بلفظ "من"؛ لأجل قاعدة التغليب، والقول بالعموم في الأحوال يقتضي اجتماع من يعقل وما لا يعقل، فيتعين التغليب والتعبير بلفظ "من"، وحيث كان الواقع المنقول هو التعبير بلفظ "ما"، دل ذلك على عدم العموم في الأحوال وهذا متجه أيضا. وإذا اتضح لك ذلك في الأحوال، اتضح أيضا في الأزمنة والبقاع والمتعلقات، ويكون معنى قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، أي اقتلوا كل مشرك في حالة ما، ويكون شركه شيئا ما، على نحو ما. الثالث: الدال على هذا المطلوب، هو أن اللفظ قد دل على قتل كل

مشرك، والمشرك له أحوال متضادة ومتنافية، كالشبع والجوع، والعطش والري، والإقامة والسفر، والحركة والسكون، والقيام والجلوس، وغير ذلك من الأضداد التي يتعذر الجمع بينها فمن المحال أن يقول الله تعالى: اقتلوا كل مشرك في الحالتين المتضادين؛ لأن ذلك إنما يفرض بطريقتين: إما أن يقتله في حاله اجتماعهما قتلة واحدة، وإما أن يقتله في حالة، ويقتله مرة أخرى في حالة أخرى، وهذا أيضا محال؛ لتعذر تكرر القتل في الشخص الواحد فتعين بالضرورة أن يريد الله تعالى، ويكون مدلول اللفظ أحد هاتين الحالتين على البدل، بأن يقتله إما في هذه الحالة، أو الحالة الأخرى، أيهما وجدت وقع القتل فيها، وإذا كانت إحداهما مرادة بدلا من الأخرى أو بالعكس -والمراد على البدل لا شمول فيه؛ لأن المطلقات كلها كذلك- فإن الله تعالى إذا قال: أعتقوا رقبة، كانت كل رقبة مرادة على البدل، فيعتق إما هذه بدلا عن تلك، أو تلك بدلا عن هذه، وإذا كان الواقع في الأحوال هو هذا المفهوم، كان المقصود حاصلا، وهو أنها مرادة على سبيل الإطلاق والبدل وهو المطلوب، وهو المراد بقولنا: إن الله تعالى أمر بقتل/ كل مشرك في حالة، معناه إما هذا أو تلك. (143 م ب) وكذلك القول في الأزمنة والبقاع، فإن الجمع بينها متعذر، كما تقدم في الأحوال المتضادة، فلم يبق حينئذ إلا أحوال غير متضادة، مثل: الشبع والقيام، والسفر والجلوس، ونحو ذلك من المختلفات، وبقية المتعلقات أيضا، فإنها يمكن الجمع بينها ويشرك بأشياء كثيرة، وهذه الأمور بخصوصياتها إن

ادعى أحد أن اللفظ يدل على العموم فيها دون غيرها، وأن الوضع اللغوي يشعر بها دون غيرها، فقد أبعد وتحكم من غير مستند. وأيضا إذا سلم ذلك، فيقال له: إن كان محل النزاع هذه خاصة دون غيرها، فنقول إن كان مراد الله تعالى في هذه الأمور الممكنة الجمع، أن يقتل كل مشرك فيها، فإما أن يريد إذا اجتمعت، أو إذا افترقت، أو مجتمعة ومفترقة، أو لا مجتمعة ولا مفترقة. فإن أراد تعالى الأمر بالقتل إذا اجتمعت، فتكون حالة الاجتماع شرطا من القتل، ولا يقتل من انفرد ببعضها وهو خلاف الإجماع. وإن أراد إذا انفردت، يكون الانفراد شرطا، فلا يقتل من اجتمعت في حقه وهو خلاف الإجماع. وإن أراد مجتمعة ومفترقة، فالاجتماع والافتراق ضدان يتعذر الجمع بينهما، فيتعذر الأمر بالقتل في ذلك، كما تقدم في المتضادات، فيتعين أن يكون المقصود هم القسم الرابع، وهو أن يريد ذلك على البدل، من غير تعرض لشيء من ذلك، وهذا هو الإطلاق بالضرورة. البرهان الرابع على هذه القاعدة: أن أهل المنطق قد قرروا هذه القاعدة في علم المنطق بأن قالوا: إن صيغة العموم، وهو عندهم موسوم بالكلية الموجبة، كقولنا: "ج" "ب"، ففيه مذهبان: أحدهما: أن معناها: كل ما وجد وكان "ج" بالفعل فإنه "ب"،

كان ذلك الموجود في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ولم يشترطوا حصول الوجود في الحال ولا في الماضي، بل أخذوا القدر المشترك بين الأزمنة الثلاثة، وذلك يقتضي صدق الكلية فيما لم يوجد بعد. المذهب الثاني: أن معنى الكلية/: ما لو كان "ج" بالقوة، فهو "ب"، ولم يشترطوا أصل الوجود، وهذا هو مذهب الفارابي. (144/ أ) والأول مذهب الجمهور، فظاهر كلامهم، وهذا هو مقتضى اللغوي، في قولنا: كل عدد زوج، وكل إنسان حيوان، ومن له تحقيق في علم المنطق واللغة علم أن مقصود اللغويين والمنطقيين في ذلك واحد. وعلى هذا المذهب الثاني لا يشترط أصل الوجود، بل يكفي قبول المحل له وإن لم يقع. وعلى المذهبين، الوجود ليس معتبرا في الكلية، فاللفظ الدال عليها غير دال على عوارض الوجود من الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، فإنها تابعة للموجودات، فالدلالة على المتبوع تستلزم انتفاء الدلالة على التابع، وأما خصوصيات الأزمنة والبقاع والأحوال فبعيدة عن هذين المذهبين بعدا شديدا، فإن تعرضهم للمعنى العام وهو أصل الوجود أو أصل القبول والاقتصار عليه والسكوت عن غيره في تمهيد القواعد عند من يقصد التحرير، دليل على أن ذلك العام هو كمال المراد، وأن غيره غير منظور إليه ولا معرج عليه، فقد وضح اجتماع المعقول والمنقول في تحرير هذا المقصد واجتماع الفرق بين المنطقيين

واللغويين فيه يكون حقا، وهو المطلوب. وإذا تقررت هذه القواعد واتضحت، ظهر حينئذ بطلان الغاية والشرط وما ذكر معهما من الأمور العشرة، ليس شيئا منها مخصصا ألبتة. وبيانه: أن قولنا اقتلوا المشركين، قد تحرر، أنه إنما يقتضي قتلهم في حالة مطلقة في جميع الأحوال، فإذا وردت الصفة فقال الله تعالى: اقتلوا المشركين المحاربين، فقد غير تلك الحال المطلقة، وزاد فيها قيدا وخصوصا، وهو كون تلك الحالة حالة الحرابة، وهي (حالة ما)، لأنه متى صدق الخاص صدق العام بالضرورة، فالعموم باق على دلالته، ولم يترك من مقتضاه شيئا بورود هذه الصيغة، بدل قيدنا تلك الحالة المطلقة، ولم يبطل من الكلية فرد ألبتة، والتقييد ضد التخصيص؛ لأن التقييد زيادة/ على مقتضى اللفظ، والتخصيص تبعيض من مقتضى اللفظ، فأين أحدهما من الآخر؟ (144 م ب) وإذا ظهر أن الصفة مقيدة لا مخصصة، بطلت دعوى التخصيص فيها. وكذلك قوله: حاربوا لا يكون هذا الشرط أيضا مخصصا؛ لأنه يقتضي أن يقتل كل مشرك في حالة الحرابة، وهي حالة خاصة، ومتى صدقت حالة خاصة، صدق مطلق الحالة، فالعموم باق على عمومه، وإنما الحالة المطلقة تقيدت.

وكذلك الغاية، في قوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهو صاغرون} لا يكون تخصيصا أيضا؛ لأنه يقتضي قتل كل مشرك في حالة الامتناع عن الجزية، وهذه حالة خاصة، وإذا قتلنا كل مشرك في حالة خاصة، فقد قتلنا كل مشرك في مطلق الحال، وهذا هو مقتضى العموم، فلم يخرج من أفراده شيء، ولم يوجد ما خالف العموم، بل ما قيده. وكذلك قوله: اقتلوا المشركين إلا من يحارب، هذا الاستثناء يقتضي إخراج غير المحارب، وإن كان مشركا، يقتل في حالة الحرابة، وهي حالة خاصة مستلزمة لمطلق الحال، فالعام باق على عمومه. وهذه كلها تقييدات لمطلق الحال المدلول عليها التزاما، لا مخصصا، وكذلك القول في بقية العشرة التي تقدم أنها لاحقة بالأربعة المنصوص عليها. نعم، قد تقع هذه الصيغ في مواد تقتضي لخصوص تلك المواد التخصيص، وخصوص بعض الأفراد من العموم في جميع الأحوال، ولا يثبت لها الحكم في حالة من الأحوال ألبتة، كقولنا: قدرة الله تعالى قابلة للتأثير في كل معلوم إن كان ممكناً، فقولنا: إن كان ممكناً، يقتضي هذا الشرط إخراج المستحيلات والواجبات من قبول تأثير القدرة، ولا يثبت للقسمين قبول التأثير في حالة ألبتة، فإن هذه الحالة الخاصة التي هي حالة الإمكان، لا يمكن أن يتعداها الحكم إلى غيرها ألبتة، بخلاف قولنا: إن حاربوا، فإن المحارب قد يترك الحرابة ويصير ذميا أو غير ذلك، فوصف الإمكان ميسر الزوال، وحصول

(145/ أ) ضده لمحله بخلاف وصف الإمكان، لا يمكن زواله عن محله، فيتعين/ أن محله غير مراد بالحكم على حالة من الحالات، وأما غير المحارب فقد يراد إضافة الحكم إليه في حالة الحرابة. وكذلك الصفة في بعض المواد، يمنع انتقالها، كقولنا: اقتل قريشا الطوال، فإن الطويل يستحيل في مجاري العادات أن يصير قصيرا، فلا يتصور من هذا المتكلم إرادة القصير مع هذه الصفة ألبتة، بخلاف لو قال: أكرم قريشا المسافرين، فإنه يتصور منه أن يريد جميع أفراد قريش، في هذه الحالة، فإن المقيم يمكن أن يكون مسافرا، فإرادة الكلية ممكنة، فلم يتعين التنافي بين هذه الصفة وبينها. وكذلك الغاية، تجوز في بعض المواد أن يخرج بعض الأفراد عن جميع الأحوال، كقولنا: أكرم العرب حتى تصير إلى فزارة، خرجت فزارة من الحكم في جميع الأحوال، فإن وصف الفزارية لازم، ولا يمكن أن يصير الفزاري غير فزاري أبدا، فخرجت فزارة مطلقا. وكذلك الاستثناء، كقولنا: أكرم العرب إلا فزارة، بعين ما تقدم في الغاية. وإذا تقرر أن هذه المخصصات المتصلة، قد تكون مخصصة في بعض المواد، وقد لا تكون مخصصة في بعضها، امتنع أن تكون هذه الألفاظ من حيث هي تلك الألفاظ -مع قطع النظر عن المواد- مخصصة، وإلا لزم ترك العمل بالدليل من غير مانع، وهو خلاف الأصل. وأما ثانيا؛ فلأنها تكون أعم من كل واحد من القسمين، والأعم لا يستلزم

أحد أخصيه عينا، فلا يستلزم التخصيص، لكونها أعم منه وهو المطلوب. وحينئذ يتعين أحد الأمرين: إما أن يقال: إنها ليست مخصصة مطلقا من حيث هي هي، وهو حق، (وإنما تأتي بالتخصيص من قبل المواد معها)، ولا يلزم من إضافة الحكم المجموع المركب من أمرين، أن يكون أحدهما يستقل بنفسه. وإما أن يقال: إنها مخصصة في بعض المواد دون بعض، ولا يقال: إنها مخصصة بقول مطلق، وهذا أيضا حق، ولكن على هذه الطريقة ينبغي أن يفحص في كل عموم ورد فيه/ أحد هذه الأمور، هل مادته تقتضي تخصيصا أم لا؟ ولا يعتمد على صورة اللفظ. (145/ ب) فهذا تلخيص هذا الفصل، وبيان هذه المخصصات المتصلة. * * *

الفصل الثاني في التفريع على أن هذه المخصصات المتصلة مخصصة في بيان فروعها وأحكامها

الفصل الثاني في التفريع على أن هذه المخصصات المتصلة مخصصة في بيان فروعها وأحكامها المخصص الأول: الاستثناء. وفيه سبع مسائل: المسألة الأولى: في حده: "هو اللفظ الذي لا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه مقترنا بلفظ المخرج، ولا يستقل بنفسه". وبيان صحة هذا التعريف: أن الذي يخرج بعض الجملة منها، إما أن يكون معنويا كدلالة العقل والقياس، فيخرج من هذا التعريف بقولنا: "هو اللفظ"، فإنهما ليسا لفظين. وإما أن يكون لفظيا، وهو إما أن يكون منفصلا، فيكون مستقلا بالدلالة، فيخرج بقولنا: ولا يكون مستقلا بنفسه؛ لأن المنفصل لابد أن يستقل بنفسه، أو متصلا، وهو إما الصفة، أو الغاية، أو الشرط، أو بقية تلك العشرة التي تقدم سردها في الفصل الأول.

سؤال: اعتراض النقشواني على التعريف بلفظ "غير" وجواب المصنف عليه

وهذه الأمور التسعة، وهي العشرة ما عدا الاستثناء، قد يدخل في الكلام لا للإخراج، كقولنا: بسم الله الرحمن الرحيم، في الصفة، فإن هاتين الصفتين لم يحصل بهما في هذا الكلام إخراج، بل ثناء محض. كذلك قولك: أكرم زيدا إن أطاع الله، فإن زيدا جزئي لا يحتمل الإخراج، ولفظ الأمر لا يقتضي التكرارـ، فلا يقبل الإخراج، وإن قلنا: إنه يقتضي التكرار مثلا بقولنا: إن جئتني بعبدي الآبق فلك دينار، والغاية، نحو: سرت إلى مكة، فإن هذه الغاية اقتضت تكرار السير وتكثيره إلى مكة؛ لا أنها منقصة، وكذلك بقية العشرة إذا اعتبرته وجدته قد لا يدخل في الكلام تارة لإخراج بعضه، وتارة لإخراج بعضه. أما الاستثناء فلا يدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه، وإذا دخل لإخراج بعض الكلام، فيخرج لأجل دخوله بقولنا: (مقرونا بلفظ المخرج)، فإن قولنا: أكرم بني تميم الطوال، هذه الصفة مخرجة لبعض الكلام وهو القصار، غير أن لفظ القصار لم تنطبق به مع الصفة، أما إذا استثنيت فقلت: / إلا القصار، فقد قرنت باللفظ المخرج لفظ الشيء المخرج، فهذه خصيصة لم تحصل بشيء من تلك الأمور التسعة، فيكون هذا الحد منطبقا على الاستثناء وهو المطلوب. سؤال: قال النقشواني في شرحه للمحصول: إن لفظ (غير) موضوع

للاستثناء، وهو يدخل في الكلام، لا لإخراج، كقولنا: زيد غير عمرو، ومررت برجل غيرك، فتكون صفة الاستثناء، وكذلك (ليس) و (لا يكون)، يكونان للسلب المحض تارة، نحو: لا يكون زيد في الدار أبدا، وليس زيد في الدار، مع أنهما للاستثناء، وكذلك إذا قلت: أكرم القوم لا تكرم كلهم، صارت هذه اللفظة التي هي (لا)، للاستثناء، (وليست مختصة به، بل تدخل للنفي الصرف، نحو: لا رجل في الدار). قلت: المقصود بالحدود المعاني من حيث هي ذوات ألفاظ، وكذلك قيل في حد الحد: أنه القول الشارح، أي: يبين من تفصيل المعاني ما لم يستقل اللفظ الموضوع لها ببيانها، وليس المقصود بالحدود اللفظ من حيث هو لفظ في هذه المواطن. نعن قد يقصد اللفظ من حيث هو لفظ في غير هذه المواطن، كما إذا حددنا المتواطئ أو اللفظ المشترك، أو نحد الاسم أو الفعل أو الحرف، وأما ها هنا فإنما نقصد المعاني من حيث هي ذوات ألفاظ فإذا حددنا العطف، إنما نقصد ضم الشيء إلى غيره بلفظ مخصوص، وكذلك إذا

حددنا الاستثناء، إنما نقصد الإخراج بلفظ مخصص. ولفظ "غير" مشترك بين الاستثناء والصفة، واللفظ المشترك يجب أن يكون له بحسب كل معنى (نحده نخصه) كالعين، فإن حد العين باعتبار العضو الناظر غير حدها باعتبار الفوارة، ولا يرد بعض تلك المعاني نقضا على حد لأن من شرط النقض إيجاد المعنى، فكذلك غير، إنما تدخل في حد الاستثناء (من حيث هي موضوعة للاستثناء)، وهي من هذا الوجه لا تدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه، وإذا وقعت صفة، فذلك معنى لآخر، والحد لم يقع للفظ الاستثناء من حيث هو لفظ، بل من حيث هـ لفظ موضوع للاستثناء، وهذا المفهوم ليس موجودا في (غير) إذا كانت صفة؛ لأنها حينئذ ليست موضوعة للاستثناء، فهذا معنى مباين لما نحن فيه، / فلا يرد نقضا عليه. وإنما كان يرد أن لو كان اللفظ متواطئا فيهما، أما المشترك فلا يرد نقضا إجماعا. وكذلك القول في (ليس) و (لا يكون)، هما أيضا وضعا وضعا مشتركا للسلب المطلق والاستثناء، وهذه الاشتراكات من أوضاع التركيب، فإن العرب وضعت المركبات على القول الصحيح، كما وضعت المفردات، فيقع في وضعها لها المتواطئ والمشترك وأقسام الموضوعات، كما يقع في وضع

المفردات، وإذا كانتا وقعتا بالاشتراك للسلب المطلق والاستثناء، فلا يرد أحدهما نقضا على الآخر، كما تقدم (في غير). فإن قلت: فهل يجري ذلك في الصفة، فيكون وضع الصفة والشرط والغاية مشتركا، يعني ما قلته: في (غير) وأخواتها، وعلى هذا لا يحتاج إلى إخراج هذه الحقائق عن حد الاستثناء، فإنها من حيث وضعت للاستثناء لا تدخل في الكلام إلا لإخراج بعضه؟ . قلت: ليس كذلك، والفرق: أن (غير) يقصد بها الاستثناء تارة، والصفة أخرى، ويكون المقصود مختلفا في الحالين، ومتى كانت المقاصد مختلفة في الاستعمال-والأصل في الاستعمال الحقيقة- لزم أن يكون اللفظ مشتركا؛ لأجل اختلاف المعنى. أما الصفة، فمقصودها في الحالين واحد، وهو الوصف، ثم يتفق بطريق اللزوم الخروج على رأي من رآه، فإذا قلنا: أكرم قريشا الطوال، ليس المقصود إلا الصفة كقولنا: أكرم زيدا الطويل، وإن لزم من ذلك إخراج القصار عن هذا الحكم، فالمقصود واحد، فلا يكون اللفظ مشتركا. وكذلك الشرط، مقصوده في الحالات كلها إنما هو التعليق، وتوقيف أمر، ودخوله في الوجود على دخول أمر آخر، وقد يتفق بطريق اللزوم للإخراج، كقولنا: أكرم قريشا إن أطاعوا الله تعالى، فالمقصود توقيف الإكرام على الطاعة، وإن لزم من ذلك إخراج العصاة، وإن كان المقصود واحدا، لا يكون اللفظ مشتركا، بخلاف "غير" و"ليس" و"لا يكون"، في قولنا: قام القوم لا يكون زيدا، تقديره: ليس بعضهم زيدا، فالمقصود إخراج بعض القوم

(147/ أ) عنهم وإذا قلنا/ليس زيد في الدار، المقصود سلب كونه في الدار، فالمقاصد متباينة، فتعين الاشتراك، بخلاف الصفة والشرط. وأما قولنا: أكرم القوم ولا تكرم كلهم، فليس هذا استثناء عند النحاة، بل هو جملة أخرى مستقلة، ولذلك إذا قلنا: قام القوم وما قام زيد، وهو منهم، ليس استثناء إجماعا، بل جملة مستقلة، وإذا كان جملة مستقلة ليس استثناء، لا يرد عليه نقضا لاختلاف المعنى. * * *

المسألة الثانية: يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه

المسألة الثانية يجب أن يكون الاستثناء متصلا بالمستثنى منه عادة واحترزنا بقولنا: "عادة"، عما إذا طال الكلام، فإن ذلك لا يمنع من كون الاستثناء متصلا، كما إذا قال: أكرم قريشا الطوال يوم الجمعة عند أخيك متكئا إكراما حسنا لأجل نسبهم وشجاعتهم وكرمهم إلا زيدا، فإن هذا الاستثناء وإن وقع بعد هذه الكلمات العديدة فإن أهل اللغة يعدونه متصلا عادة، وكذلك إذا انقطع الكلام بالتنفس والسعال، ثم استثنى عقيبه، فإن أهل اللغة يقضون بأنه متصل، لأن أهل العادة يعدونه كذلك، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جوز الاستثناء المنفصل، وهذه الرواية، أن صحت، فلعل المراد منها ما إذا

بيان أن مسألة ابن عباس وقع فيها انتقال من باب إلى باب

نوى الاستثناء متصلا بالكلام، ثم أظهر نيته بعده، فإنه يدين بينه وبين الله تعالى فيما نواه. قلت: هذه المسألة محكية على هذه الصورة في المحصول، وعند جماعة من علماء الأصول، ويحكون الخلاف عن ابن عباس رضي الله عنهما على هذه الصورة. والظاهر أن المسألة وقع فيها انتقال من باب إلى باب، بسبب اشتراك اللفظ، فإن الاستثناء يطلق على معنيين: أحدهما: الإخراج بإلا وأخواتها، وهو الذي نحن فيه ها هنا. وثانيهما: الشروط والتعاليق، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف)، ومعنى استثنى في هذا الحديث، أي قال: إن شاء الله، فتعلق الفعل على مشيئة الله تعالى، ومنه نهيه عليه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثنيا، قال

العلماء: معناه بيع وشرط، والتعاليق مخالفة للإخراج بإلا وأخواتها، / ولفظ الاستثناء يطلق عليهما بطريق الاشتراك، أو مجاز ي أحدهما، وعلى التقديرين، البابان مختلفان. (147/ ب) والمنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما أنه كان يقول في قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت}، معناه اذكر مشيئة ربك إذا نسيتها، والذكر من المحال أن يقع في زمن النسيان؛ لأنهما ضدان، فيتعين أن يكون هذا الظرف الذي هو "إذا" أوسع من مظروفه حتى تبقى فيه فضلة يقع فيها الذكر بعد النسيان، وهذه القاعدة مشهورة، كقولنا: ولد عام الفيل، ومات سنة سبعين، ومن المعلوم أن الولادة لا تستغرق السنة، بل في جزء منها، وكذلك الموت، لكن الظرف أوسع، فيكون "إذا" أوسع من النسيان الذي جعل مظروفا لـ "إذا". وهذه التسعة لم يتعين فيها حد، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن له أن يقول: إن شاء الله، إلى آخر عمره؛ لأجل عدم التحديد، وقيل: إلى سنة، وقيل: لم يصح ذلك عنه.

وقد قال ابن العربي: إني كنت ببغداد، فسمعت امرأة تقول لجاريتها: إن مذهب ابن عباس ليس بصحيح في الاستثناء، قالت لها: ولم ذلك؟ قالت: لأن الله تعالى قال لأيوب عليه السلام: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث}، فلو كان الاستثناء بمشيئة الله تعالى صحيحا بعد انفصال اليمين وطول الزمان، لقال الله تعالى له: استثن بمشيئة الله تعالى، تنحل يمينك، ولم تكن ها هنا ضرورة لهذا التحليل بالضغث، قال ابن العربي: فانظر إلى ملك تكون نساؤهم بهذا الطور من العقل، فكيف يكون رجالهم؟ ! وروي أن عالمين تناظرا في هذه المسألة، في مجلس بعض الخلفاء، فقال

الخليفة لمانع هذه المسألة: ما صاحبك يقول؟ قال: إنه يقول: إن أمير المؤمنين لا تنعقد له بيعة مع جنده أصلا، وأن لهم أن يقولوا بعد طول المدة: (إن شاء الله)، فيبطل أيمان البيعة التي عليهم، فقال الخليفة: هذا مذهب باطل. فانظر إلى هذه النقول عن العلماء إنما هي كلها في الاستثناء بمشيئة الله تعالى. أما الاستثناء بإلا وأخواتها فباب آخر، لكن لما كان الجميع/ استثناء، أمكن وقوع الوهم، بسبب الاشتراك من باب إلى باب، وهذا (هو) الذي أعتقده، وأن الخلاف عن ابن عباس إنما هو في الاستثناء بمشيئة الله تعالى. (148/ أ) وقول الإمام فخر الدين: إنه ينويه، ويفسره بعد ذلك، هذا إنما يتجه في غير النصوص كالعمومات ونحوها أما الأعداد، فليس له أن يطلقها ويريد بها بعض مدلولها، ويفسره بعد ذلك. احتج المنتصر لابن عباس: بأنه يجوز تأخير النسخ والتخصيص، فكذلك الاستثناء وأنه لما نزل قوله تعالى: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون} فشكى ذلك ابن أم مكتوم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه

كان أعمى لا يقدر على الجهاد، فتعين أنه من القاعدين، فأنزل الله تعالى: {غير أولي الضرر} فسر بذلك ابن أم مكتوم، لأنه من أولي الضرر، وهذا الاستثناء نزل منفصلا. والجواب عن الأول: أن الفرق بين الاستثناء والنسخ، أن النسخ لو تقدم الإعلام به، وقال: هذا الحكم ينسخ بعد سنة، لكان هذا الحكم مغيا من الآن بالسنة، فكان ينبني بذاته ووصوله لغايته لا بالناسخ، فتعجيل النسخ يبطله، بخلاف الاستثناء، لا يبطله تعجيله. وأما التخصيص، فإن كان بالأدلة المتصلة كالغاية والشرط والصفة، منعنا تأخيره، وإن كان بالمنفصلة جوزنا تأخيره، لكن الفرق أنه لفظ مستقل بنفسه، فجاز النطق به وحده بخلاف الاستثناء لا يستقل بنفسه، فيتعين ضمه لغيره حتى يحسن النطق به؛ لئلا يكون المتكلم متكلما بالهذر من الكلام. وعن الثاني: أن معناه عندنا أنه أضيف اللفظ السابق على وجه التكرر، ثم أسقط أحدهما من التلاوة ونسخ التلاوة عندنا وعندكم جائز. أما النطق بكلام لا يفيد بنفسه، ولا يضم معه، بل يحال الأمر فيه على ما

المسألة الثالثة: الاستثناء من غير الجنس

تقدم من سنة، فهذا باطل عند أكثر الناس، كقول القائل لوكيله: بع داري ممن رأيت، ثم يقول بعد سنة: إلا من زيد، وحمل كلام الله تعالى على الجادة أولى من حمله على الشاذة. وهذا هو الجواب عن قول من يقول: الأصل عدم التكرار، فنقول له: التكرار متفق عليه، والنطق/ بكلام غير مفيد في نفسه من غير إضمار معه، لا يجوز إلا على الشذوذ، ومخالفة الأصل بما هو متفق عليه أولى من مخالفته بما هو كالمتفق على بطلانه، والحاصل أن مخالفة الأصول لابد منها، والمخالفة بما ذكرناه أولى. (148/ ب) احتج المانعون من ذلك: بأنه لا يجوز تأخير الشرط، ولا خبر المبتدأ، فكذلك الاستثناء، بجامع أن الجميع لا يستقل بإفادة؛ ولأن اللغة إنما وضعت للإفادة، والنطق بالاستثناء بعد سنة لا يفيد ألبتة، ويعد في العادة ملغزا ومتكلما بالهذر من الكلام. وأجاب المجيزون عن الأول: بأن الشرط تعليق، والتعاليق اللغوية كلها أسباب؛ لأنها يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، وهذا هو حد السبب، بخلاف الشروط العقلية كالحياة مع العلم، والشرعية كالطهارة مع الصلاة، والعادية كالسلم مع صعود السطح، فإنها يلزم من عدمها عدم المشروط، ولا يلزم من وجودها وجوده ولا عدمه، وهذا ضابط الشرط وحده.

وإذا كانت الشروط اللغوية أسبابا، كان لفظ الشرط واقعا على القسمين بطريق الاشتراك، وكانت الشروط اللغوية متضمنة للحكم؛ بسبب أنها أسباب، وهذا هو شأن السبب، والحكة هي مقصود المتكلم فيكون تأخير الشرط اللغوي تأخير للمقصود، وتأخير المقاصد ليس شأن العقلاء بخلاف الاستثناء، إنما هو إخراج ما ليس بمقصود فلا تتعلق العناية به فيجوز تأخيره؛ لأن مما عساه التف في الكلام من غير قصد، فظهر الفرق. وكذلك خبر المبتدأ هو موضع الفائدة ومقصود المتكلم، فلو تأخر لتأخر المقصود بخلاف الاستثناء. وفرق آخر يخص خبر المبتدأ: أنه إذا لم ينطق به لا يكون الكلام تاما يحسن السكوت عليه، وإذا تأخر الاستثناء، كان الكلام تاما يحسن السكوت عليه، فجاز تأخير ما هو فضلة فيه وسع وهو الاستثناء. (149/ أ) وأما الثالث: فهو وجه حسن قوي، وهو/ العمدة في الباب، وعليه المعول. * * *

أقوال العلماء فيه بين الحقيقة والمجاز، وحججهم

المسألة الثالثة الاستثناء من غير الجنس اختلف العلماء فيه، فقيل: هو حقيقة، وقيل، إنه مجاز وهو المشهور. واختلف فيه من وجه آخر، هل يجوز بكل شيء يخطر في نفس المتكلم، أو لابد أن يكون مما لا يلابس الأول ويلازمه بوجه ماظن كقول الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس وحمر الوحش التي هي اليعافير، والعيس التي هي الإبل البيض بصفرة، ليس لها ملابسة الأنس من حيث الجملة، والاستقراء يحقق هذين المذهبين في موارد الاستعمال. واحتج القائلون بالمجاز: بأن الاستثناء وضع لإخراج ما لولاه لوجب اندراجه أو: ما لولاه لجاز اندراجه. فالأول: كقولنا: قام القوم إلا زيدا.

والثاني، كقولنا: أكرم رجالا إلا زيدا، ولم يجزه إلا القليل من علماء اللغة وعلى التقديرين: لا يكون المنقطع حقيقة؛ لأن قولنا: قام إخوتك إلا ثوبا، لا يجب فيه اندراج الثوب، ولا يجوز أن يندرج فيهم، فلا يكون هذا موضع الاستثناء، فيكون مجازا وهو المطلوب؛ ولأن اللفظ حقيقة فيما لولاه لوجب اندراجه في الحكم؛ لأنه مستعمل، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فلو كان حقيقة فيما لولاه لامتنع اندراجه أيضا وهو المنقطع لزم الاشتراك، وإذا تعارض المجاز والاشتراك، فالمجاز أولى. احتج القائلون بأن المنقطع حقيقة، بالقرآن والشعر والمعقول. أما القرآن، فخمس آيات: أحدها: قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ}، والخطأ ليس له، فليس من الأول، فيكون منقطعا. وثانيهما: قوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس}، وهو ما كان منهم، بل من الجن لقوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}. وثالثها: قوله تعالى: {لا أكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}، والتجارة لا تؤكل بالباطل، فيكون منقطعا عن الأول. (149/ ب) ورابعها: قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلا إتباع الظن}، / والظن ليس من جنس العلم.

وخامسها: قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما}، والسلام ليس من جنس اللغو. وأما الشعر: فقول الشاعر: وبلدة ليس فيها أنيس .... إلا اليعافير وإلا العيس وقول النابغة: وقفت بها أصيلانا أسائلها .... أعيت جوابا وما بالربع من احد إلا الأواري ليا ما أبينها .... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد وأحد معناه إنسان، وأواري وما ذكر معها ليس من الأناسي، فيكون منقطعا. وأما المعقول: فهو أن الاستثناء تارة يمنع عما يدل عليه اللفظ دلالة مطابقة، نحو: له عشرة إلا اثنين، وعما يدل عليه اللفظ دلالة تضمن، نحو: بعتك الباب إلا مسمارا. وعما يدل عليه اللفظ دلالة التزام، نحو: له علي ألف دينار إلا ثوبا؛ لأن

قيمة الثوب من لازم الألف، فإذا وقع من الثلاثة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيكون حقيقة في الثلاثة وهو المطلوب، فإن المنقطع لا يخرج عن الثلاثة. أجاب المانعون عن قوله تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ} أنه مجاز؛ لأن المتبادر إلى الفهم في موارد الاستثناء هو المتصل، وغير المتبادر مجاز، فيكون هذا مجازا. وعن قوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن} بوجوه: أحدها: أنه كان من الملائكة، والملائكة يصدق عليها أنها جن، فإن أصل هذه المادة الاختفاء، ومنه الجنين، والجنة، والجنة، والمجن، والجنون، لأن الجنين مختف، والجنة اختفت أرضها بشجرها، والجنة مختفون عن

الأبصار، والمجن الدرقة، وهو يخفي صاحبه من السهام وأسباب الأذى، والجنون يخفي العقل، والملائكة مختفون عن الأبصار، فيصدق عليهم لفظ الجان. وثانيها: سلمنا أن لفظ الجن لا يصدق على الملائكة لكن إبليس من طائفة من الملائكة (كان قد فوض) إليهم حفظ الجنات التي هي دار كرامة الله تعالى لأوليائه، فسموا جنا، لنسبتهم إلى الجنة، لا إلى الجنة بكسر الجيم. وثالثها: سلمنا تعذر اللفظين في حق الملائكة، لكن الملائكة استعمل مجازا في المأمورين، وتقدير الكلام: سجد المأمورون إلا إبليس/ ولا خلاف أنه كان من المأمورين بالسجود. (150/ أ) رابعها: سلمنا أن لفظ الملائكة استعمل في الملائكة، غير أن العرب إذا قالت: بنو تميم أو بنو هاشم، اندرج فيها مواليها ومن طالت مجاورتها لها من باب التغليب، وإبليس طالت صحبته للملائكة وعبادته لله تعالى معهم، حتى قيل: إنه كان يسمى طاووس الملائكة، فاندرج (في) لفظ الملائكة، فكان الاستثناء متصلا. وخامسها: تعذر ذلك كله، لكنه مجاز؛ لأنه المتبادر من الاستثناء هو

المتصل، فيكون المنقطع مجازا وهو المطلوب.\فإن قلت: أيما أولى، جعل اللفظ مجازا في لفظ الملائكة، أو في لفظ الاستثناء؟ . قلت: المجاز في لفظ الملائكة أولى، لأنه مجاز في لفظ مفرد، وهو في لفظ الاستثناء في لفظ مركب، ومجاز الإفراد أرجح من وجهين: الأول: أنه أكثر كلام العرب، والكثرة دليل الرجحان. الثاني: أن المفردات متفق على وضعها، فيكون قبولها المجاز متفقا عليه، والمركبات اختلف الناس هل وضعها العرب أم لا؟ فيكون قبولها المجاز مختلفا فيه. والجواب عن قوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة}، أنه مجاز؛ لأن المتبادر هو المتصل، كما تقدم، وإنما يجب العدول ها هنا إلى المنقطع، لقرينة التعذر، والذي يعدل إليه لقرينة التعذر هو مجاز. وعن الشعر: أن الأنيس أيضا يطلق على اليعافير والعيس، ألا ترى أن السائر في القفار لو عدم الوحوش بالكلية، استوحش، لدلالة عدمها على عدم الماء، وإذا وجدها أنس واستبشر، لدلالة وجودها على قرب الماء، والعيس بالأنس أولى؛ لأنها لا تكون إلا حيث يكون الآدميون غالبا؟ وعن الشعر الثاني: أن (أحدا) فيه، أمكن أن يفسر بأحد الذي هو ليس بإنسان، كقوله تعالى: {قل هو الله أحد}، أي: واحد، ولفظ واحد لا يختص بالإنسان، واللغويون وإن نصوا على لفظ أحد بمعنى إنسان، لا يجوز أن يستعمل إلا في النفي، فلم يمنعوا أن يستعمل أحد بمعنى واحد في

النفي، وعلى هذا التقدير يكون الاستثناء متصلا لا منقطعا. وعن الحجة العقلية: أنه حقيقة في المطابقة والتضمين؛ / لأنه المتبادر، وأما من اللازم فهو مجاز لعدم المبادرة. (150/ ب) فوائد سبع: الأولى: أنك لا تجد أحدا يقول: المنقطع، إلا أنه المستثنى من غير الجنس، والمتصل: هو المستثنى من الجنس، هذا هو المسطور في كتب الأدباء والنحاة والأصوليين، وهو غلط في القسمين، فإن قوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة}، المحكوم عليه بعد "إلا" هو المحكوم عليه قبلها، ومع ذلك فهو منقطع، فيبطل به حد المتصل عندهم؛ لأنه منقطع، والحد موجود فيه؛ لأنه من الجنس، بل هو هو، ويبطل به حد المنقطع مع أنه منقطع، مع أنه لم يوجد الحكم غير الجنس فيبطل الحدان. وكذلك قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى}، فالموتة الأولى بعض أفراد الموت ومن جنسه، ومع ذلك فهو منقطع بالنقل عن العلماء.

وكذلك قوله تعالى} إلا خطأ}، أي: إلا قتلا خطأ، ومعلوم أن القتل الخطأ بعض أفراد القتل، ومع ذلك فهو منقطع، فيبطل به الحدان، لعدم المنع في المتصل وعدم الجمع في المنفصل والمنقطع. بل الحق أن يقول: المتصل هو: أن تحكم على جنس ما حكمت عليه أولا، بنقيض ما حكمت به أولا، فلا بد في المتصل من هذين القيدين، ومتى انخرم أحدهما صار منقطعا، أما بأن يحكم على غير الجنس، نحو: رأيت القوم إلا ثوبا، أو بغير النقيض، فيكون المنقطع متنوعا إلى نوعين، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت}، حصل الانقطاع بسبب أن الحكم بعد "إلا" بغير النقيض؛ لأن نقيض} لا يذوقون فيها الموت} يذوقون فيها (الموت) ويكون معنى الآية: إلا الموتة الأولى ذاقوها فيها، وليس كذلك، بل لم نحكم إلا بذوقها في الدنيا. فحكم بغير النقيض. وكذلك} إلا أن تكون تجارة}، لم نحكم بالنقيض؛ لأن النقيض} لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}، كلوها بالباطل، ولم نحكم به بعد

"إلا"، بل معنى الآية: إلا أن تكون تجارة فكلوها بالسبب الحق، فلم نحكم بالنقيض، بل بغيره، فكان منقطعا. ونقيض قوله تعالى: /} وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ}، له أن يقتله، ولم نحكم به، لأن الخطأ لا يقال فيه: هو له، لأنه يلزم حينئذ أن يكون مباحا، والقتل الخطأ ليس مباحا، فلم نحكم بالنقيض. (151/ أ) وقول الشاعر: "إلا اليعافير" حصل الانقطاع، بالحكم على غير الجنس، وإن كان قد حكم بالنقيض، فمتى حكمت على غير الجنس، كان منقطعا، وإن حكمت بالنقيض. وكذلك "إلا أواري"، فإنه حكم بالنقيض؛ لأن الأواري بالربع وهو ثبوت، والمحكوم بع قبل "إلا" سلب، وهو نقيضه. وكذلك إن حكمت على غير الجنس بغير النقيض، نحو: رأيت إخوتك إلا زيدا مسافرا، فيكون منقطعا للمعنيين. ويتنوع المنقطع إلى ثلاثة: أحدها: الحكم على غير الجنس بالنقيض، وعلى غير الجنس بغير النقيض: وعلى الجنس بغير النقيض، فهذه الثلاثة هي المنقطعة باعتبار الضابط المتقدم، والمتصل نوع واحد وهو: أن تحكم على الجنس بالنقيض. فهذا تحرير المتصل والمنقطع، وعليه يتخرج آيات الكتاب العزيز والسنة

فوائد سبع

ولسان العرب، ولا يشكل بعد ذلك شيء، بخلاف ما سطره (بعض) الأدباء وغيرهم. الفائدة الثانية: في قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما}، قيل: اللغو هو الذي لا فائدة فيه، والسلام فيه فائدة، وليس من جنس اللغو، فيكون منقطعا، وقيل: السلام في الدنيا دعاء بالسلامة، وفي الآخرة جعل الأمان لأهل الجنة، فيتعدد الدعاء بالسلامة، فصار السلام لغوا، لبطلان معناه المقصود، وقيل: على هذا التقدير لم يبطل أيضا، بل هو في الدنيا الدعاء والتحية والإكرام، بطل أحد مقاصده وهو الدعاء، بقيت المكارمة والتعظيم، فليس لغوا، لحصول هذه الفوائد منه. الفائدة الثالثة: قال بعض العلماء: قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا

الفائدة الثالثة: أقوال العلماء في الاستثناء بقوله تعالى: (لا يذوقون فيها إلا الموتة الأولى)

الموتة الأولى} متصل؛ لأن أصل الذوق حقيقة إنما هو إدراك الطعوم باللسان وإطلاقه على الشدائد والموت ونحوه إنما هو مجاز؛ لأنها ليست من ذوات الطعوم، وإذا كان ذلك مجازا، فتحمل الآية على مطلق العلم ويكون معناها: لا يعلمون فيها الموت إلا الموتة الأولى يعلمونها؛ لأنهم في الجنة يعلمون أنهم/ ماتوا في الدنيا، فيكون الاستثناء متصلا، للحكم بالنقيض على الجنس، غايته وقوع المجاز في لفظ الذوق، فالقائل بأنه منقطع يجوز به أيضا إلى إدراك ما يقوم بالإنسان من الموت وغيره، ونحن نجوز بأنه إلى أصل الإدراك، ويكون المجاز على المذهبين من باب التعبير بلفظ الأخص عن الأعم، فيتعارض المجاز الأخص والانقطاع، أيهما يقدم؟ فالقائل بالانقطاع التزم المجاز للأخص والانقطاع، والقائل بالاتصال قال بالمجاز الأعم، وفاته قوة المجاز في الأخص، فهذا تلخيص هذه الآية. الفائدة الرابعة: اليعافير جمع يعفور، وهو حمار الوحش، والعيس: جمع عيساء وهي الناقة البيضاء التي يخالط بياضها اصفرار، وروي (في شعر) النابغة "وما بالربع من أحد" وما بالدار من أحد.

الفائدة الرابعة: في بيان معنى الأبيات التي استدل بها القائلون بأن المنقطع حقيقة

والأواري: جمع أورية وهي العروة التي يربط فيها الخيل في الأرض، وتلك العروة ثابتة أبدا، فمتى جيء بالفرس ربطت فيها. وقوله: "ليًّا" أي ملوية، عبر بالمصدر عن اسم المفعول. و"المظلومة" من الألفاظ المشتركة، يطلق على وضع الشيء في غير محله، وهو الظلم المشهور، وعلى عدم المطر والجدب، و"المظلومة" المراد بها في بيت الشعر: الأرض التي لم تمطر. و"الجلد": الصلب، فهي صارت صلبة، لعدم الماء الذي يلينها. الفائدة الخامسة: في قولهم: (الاستثناء يقع في المطابقة والتضمن والالتزام)، فإني سألت جماعة من الفضلاء، فلم أجد أحدا يذكر مثال التضمن، وهو عسر جدا. وقال بعضهم: هو قولنا: عندي عشرة إلا اثنين، فإن الاثنين هي بعض الخمسة والخمسة بعض العشرة، وقد استثنى من الخمسة المدلول عليها تضمنا. قيل له: هذا باطل من وجهين: أحدهما: أن "الاثنين" ليس جعلهما من الخمسة أولى من جعلهما من الستة والثمانية وغير ذلك من أجزاء العشرة، أو يجعل جزءا من العشرة، فيكون من المطابقة لا من التضمن، وليس بعض هذه الاحتمالات أولى من

باقيها، فلو حكم أنه من ـحدهما دون الباقي، لزم الترجيح من غير مرجح، . وثانيهما: أن كل "ما" استثني من مطابقة يمكن أن يدعى فيه أنه من التضمن، فلا يستقر لنا مثال التضمن ألبتة. والذي رأيته في مثل هذه الثلاثة: أن المطابقة مثل قولنا: له عندي/ عشرة إلا اثنين، وكذلك بقية الأعداد وأسماؤها. (152/ أ) والتضمن: مثل قولنا: له عندي باب إلا مسمارا، فإن الحقائق المركبة قسمان، أحدهما: أجزاؤه متساوية في الماهية من جنس واحد، كالأعداد كلها. وثانيهما: أجزاؤه مختلفة، كالباب مثلا، مركب من الخشب والمسامير، فإذا قلت: هذا الباب إلا مسمارا، تعين الاستثناء أن يكون من المسامير دون الخشب، وإن قلت: إلا خشبة، تعين أن يكون الاستثناء من الخشب دون المسامير، فتعين أحد الجزئين المدلول تضمنا، فكان الاستثناء من التضمن المتعين دون الجزء الآخر، بخلاف العشرة ونحوها من العدد. وكذلك: بعتك هذه النخلة إلا جريدة منها، يتعين أنه استثناء من الجريد المدلول تضمنا، وإن قلت: إلا عرجونا، يعني من العراجين المدلولة تضمنا، وكذلك إذا قلنا: الأمر للتكرار، فإنه يكون موضوعا حينئذ لطلب الفعل مع التكرار، فتكون الأزمنة أحد أجزائه المدلول عليها تضمنا. فإذا قال الآمر: صل إلا عند الزوال، يكون قد استثنى زمنا من الأزمنة الذي هو الزوال، فيكون هذا الزوال متعينا، لأحد الجزئين المدلول عليه تضمنا وهو الأزمنة، وقس على هذه بقية النظائر، ولا يلزم فيها الترجيح من غير مرجح، بل أحدهما متعين بذاته وماهيته عن الآخر، ويحتمل أن يكون أيضا في هذه المركبات من المختلفات أن يكون من المجموع المدلول عليه مطابقة، كما

يحتمل أن يكون الجزء المدلول عليه تضمنا، فإنه يجوز أن يستثنى من المجموع مسمارا، كما يجوز أن يستثنيه من المسامير وحدها، غير أنه إذا ادعى هذا، وهو أنه استثناء من التضمن، لا يلزم الترجيح من غير مرجح الذي تقدم تقريره في الإشكال، بخلاف المركبات البسيطة، يلزم فيها الترجيح من غير مرجح جزما، مع أنه ترجح أن يكون من التضمن دون المطابقة، لقرينة اختصاصه بأحد الجزئين، وإنما ترجح المطابقة في المركبات من البسائط. وأما مثال الالتزام: فهو الاستثناء من لازم من لوازم المسمى أو عارض من عوارضه، كقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {لتأتنني به إلا أن يحاط بكم}، فاستثنى من الأحوال حالة الإحاطة، والأحوال يلزم بعضها مسمى الإتيان، / ولا بعض جزئه. (152/ ب) ومثله: قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون}، أي لا يأتيهم ويأخذهم إلا في هذه الحالة، واستثنى من الأحوال هذه الحالة، والأحوال أمور خارجة عن هذا المسمى، وهو الإتيان. وكذلك قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين}، أي لا يأتيهم ويجدهم إلا في هذه الحالة. قال الفقهاء: ومن هذا الباب قولهم: عندي ألف درهم إلا ثوبا، قالوا: لأن معناه أن الألف يلزمها قيمة ثوب وأكثر من ثوب، فاستثناء الثوب استثناء من اللازم للألف، لا من أجزاء الألف، ولا من الألف.

واختلفت عبارات العلماء في تقرير هذا المثال، فمنهم من يقرره بقوله: تقدير الكلام إلا قيمة ثوب، فيجعله من باب الإضمار والحذف، ومنهم من يقدره بالمجاز ويقول: عبر بالثوب عن قيمته، فلا يكون في المجاز حذف حينئذ، ويتعارض حينئذ في هذا المقام (المجاز) والإضمار، والمجاز أرجح، لأنه أكثر من الكلام. فهذه مثل الاستثناء الثلاثة، من المطابقة والتضمن والالتزام، والعسر فيها هو التضمن، والأخيرتان قريبتان، خصوصا المطابقة. والاستثناء من اللوازم، هو مذهب الشافعي ومالك رضي الله عنهما، وحكاه إمام الحرمين عن الشافعي، وحكاه القاضي عبد الوهاب عن مالك، قال إمام الحرمين: هو تعبير بالثوب عن قيمته ولم يستغرق الألف. قال الإمام في البرهان: ومنع أبو حنيفة ذلك، وجوز استثناء

الفائدة الخامسة: الاستثناء يقع في المطابقة والتضمن والالتزام

المثلى بعضه من بعض، وإن اختلفت أجناس التأويل الذي ذكره الشافعي في الثوب، واستثنى الموزون من المكيل والمكيل من الموزون. واختار أبو الحسين في المعتمد، والمازري في (شرح) البرهان: أن هذا من باب المضاف المضمر، وتقديره: قيمة ثوب. الفائدة السادسة: لا يشترط في المتصل استواء اللفظين، بل لابد وأن يكون الأول شاملا بلفظ يصدق مسماه على الجميع، فإذا قلت: رأيت الحيوان إلا الإنسان، كان متصلا، لشمول لفظ الحيوان الأول له، وإن اختلف اللفظ لا يضر، وإن كان الأول لا يشمل، كقولك: رأيت الإنسان إلا فرسا، والحيوان إلا ثيابا، / كان منقطعا. (153/ أ) فهذان قسمان متميزان، شاملا مطلقا، وغير شامل مطلقا، يتصور فيه قبول الشمول، وعدم الشمول كقولك: رأيت الحيوان إلا الأبيض، فالحيوان يقبل أن يكون أبيضا وغير أبيض، والأبيض يقبل أن يكون حيوانا وغير حيوان فكل واحد منهما أعم وأخص من وجه. والمثالان الأولان أحدهما أعم مطلقا، والآخر مباين مطلقا، فهذا القسم موضع نظر، هل ينظر إلى وجه العموم، ويقضى بأنه متصل، أو إلى وجه التباين فيقضى بأنه منقطع؟ الملائكة مع المأمورين من هذا القسم، فإن الملك قد يكون مأمورا وقد لا يكون من حيث التصور العقلي، والملك يقبل ألا يكون ملكا ويقبل أن يكون، فتأمل ذلك! وهو من مواضع النظر، هل يكون منقطعا أو متصلا؟ وبهذا

التقدير، يمكن أن يقال أيضا: السلام يمكن أن يقع لغوا وغير لغو، واللغو يقع سلاما وغير سلام، فيكون متصلا من هذا الوجه؛ لأن كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، فهذه المثل التي وقعت في القرآن من القسم الثالث. وقد يتفق اللفظ في الاستثناء مع اتفاق المعنى واختلافه، فتقول: قبضت الدراهم إلا درهما، ورأيت العيون إلا عينا، فيتفق المعنى واللفظ، غير أن اللفظ المشترك فيه تقسيم ونظر آخر، وهو إذا قلت: رأيت العيون إلا عينا، إذا أردت بالعيون استعمال اللفظ في أحد مسمياته واستثنيت منه، كان استثناؤك متصلا، أو من غيره كان استثناؤك منقطعا، وإن استعملت اللفظ في جميع مسمياته -على حد القولين في جوازه- فهل يكون استثناؤك متصلا؛ لحصول الشمول في اللفظ، وأنك أخرجت بعض ما تناوله اللفظ ومما هو قبل إلا، أو هو منقطع؛ لأن المتصل المتفق على أنه متصل هو إخراج بعض جنس واحد، وهذه حقائق وأجناس مختلفة أخرجت بعضها، فيكون منقطعا؟ فهذا موضع نظر. ويتحصل من هذه المباحث أن الاستثناء يقع على سبعة أقسام، أحدها: متفق اللفظ والمعنى، وثانيها: مختلف اللفظ والمعنى، وثالثها: مختلف اللفظ متحد المعنى، والمستثنى منه أعم مطلقا، فمتصل، / (153/ ب) ورابعها: (أن) يكون كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فهو موضع الاحتمال، وخامسها: اتحاد اللفظ وهو مشترك، وقد استعمل في أحد مسمياته واستثنى منه، فهو متصل، وسادسها: أن يقصد بالاستثناء من غير الجنس الذي استعمل فيه اللفظ، واللفظ مشترك، فهو منقطع، وسابعها: أن يستعمل اللفظ المشترك

الفائدة السادسة: يشترط في المستثنى منه أن يكون شاملا للمستثنى

في جميع مسمياته ويستثنى من بعض تلك الأجناس، أو بعضها فهي موضع نظر. الفائدة السابعة: وهي تفريع على هذه الفائدة السادسة، قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: قد يستثنى بعض أفراد جنس، ويكون الاستثناء منقطعا، كقولك: رأيت إخوتك إلا زيدا، وأنت تريد بلفظ الأخوة الطوال منهم، على سبيل المجاز، واستعمال لفظ العموم في الخصوص، ويكون "زيدًا" الذي استثنيته قصيرا، فيكون الاستثناء منقطعا؛ لأن القصر ليس من جنس الطوال؛ بسبب تخصيص الأخوة (بإرادتك) الطوال. ولولا هذه النية المخصصة، لكان الاستثناء متصلا؛ لأن زيدا من جملة الأخوة جزما، فهذا استثناء غريب من الاستثناء المنقطع، فتأمله. ومباحث الاستثناء كثيرة جدا، تحتمل مجلدا عظيما يكتب فيها، وقد جمعت فيها مجلدا كبيرا اشتمل على أحد وخمسين بابا، وأربعمائة مسألة، جميع ذلك في الاستثناء، لم يخالطه غيره، وسميته: "كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء". * * *

الفائدة السابعة: قد يستثنى بعض أفراد جنس ويكون الاستثناء منقطعا

المسألة الرابعة فيما اتصل إليه الاستثناء في الكثرة والقلة حكى جماعة من المصنفين الإجماع على فساد الاستثناء المستغرق، كقولنا: له عندي عشرة إلا عشرة؛ لأنه يؤدي إلى اللغو في الكلام، ووقع لابن طلحة الأندلسي في كتابه المسمى بالمدخل في الفقه، إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، فهل يلزمه الثلاث أم لا؟ قولان: فالقول بلزومها؛ بناء على بطلان استثنائه، والقول بعدم لزومها (وهو) الذي يظهر أنه بناء على صحة استثنائه. وعلى هذا النقل وهذا التأويل يكون الإجماع باطلًا؛ لوجود هذا الخلاف في المسألة، أو يكون هذا الخلاف باطلًا/ (154/ أ)؛ لأنه مسبوق بالإجماع، وهو الأقرب، وعلى القول باعتبار هذا الخلاف يكون في المسألة خمسة أقوال: يجوز الكل من الكل، وهو المستغرق، وهو القول المتقدم. لا يجوز المستغرق ويجوز الأكثر. لا يجوز الأكثر ويجوز المساوي، لا يجوز المساوي ويجوز

يصح الاستثناء بشرط أن يكون أقل مما بقي

الأقل. لا يجوز الأقل ويجوز الكثير، فهو عقد. وها أنا أسرد نصوص العلماء وحججهم في ذلك: قال الإمام فخر الدين في المحصول: أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق. ومن الناس من قال: يشترط ألا يكون أكثر مما بقي، بل يجب كونه مساويا أو أقل. وقال القاضي: شرطه أن (لا) يكون أكثر مما بقي، ولا مساويا، بل أقل. وقال الشيخ سيف الدين الآمدي في الإحكام: منع بعض أهل اللغة استثناء عقد، فلا يجوز: له عندي عشرة إلا خمسة، ولا: إلا واحدا، بل لا يجوز إلا: له عندي عشرة إلا نصف واحد، وغير ذلك من أجزاء الواحد. ويجوز: له مائة إلا خمسة، ولا يجوز: إلا عشرة؛ لأن نسبة الواحد للعشرة كنسبة العشرة للمائة، وكنسبة المائة للألف، ولا يجوز أن يقول: له ألف إلا مائة؛ لأنها عقد صحيح بالنسبة إلى الألف، بل لا يستثني إلا بعض المائة نحو: إلا خمسين ونحو ذلك، وأما عقد كامل فلا يجوز ألبتة.

حجة جواز استثناء الأكثر

قال المازري: وهؤلاء منعوا: له عندي عشرة إلا ثلاثة؛ لأنه ليس كسرا، وإنما جاز عندهم قوله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما}؛ لأنه كسر، وأجمع الفقهاء على (أن) قوله: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة، أنه لا يلزمه إلا اثنتان، فيكون ذلك حجة عليهم، وكذلك يجري الخلاف في: عشرة إلا واحدا، ونحو ذلك، فإنه ليس بكسر. وهذا القائل لم يجد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلا الكثير الذي ادعاه، وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا)، فاستثنى واحدا وهو بعض عقدة؛ لأن عقد المائة عشرة، والواحد بعضه. قال الشيخ شمس الدين الأبياري في شرح البرهان: إن مذهب القاضي هو

(154/ ب) مذهب سيبويه/ والخليل، والنضر بن شميل، وجماهير النحويين. وقال الغزالي في المستصفى: قال كثير من أهل اللغة: لا يجوز استثناء عقد، فلا يجوز مائة إلا عشرة، ولا: عشرة إلا درهما، بل مائة إلا خمسة، وعشرة إلا دانقا، ونحو ذلك. والإجماع في فساد الاستثناء المستغرق نقله الغزالي في المستصفى، وقال شرف الدين التلمساني ...................

في شرح المحصول: الإجماع بعيد مع خلاف أحمد بن حنبل في المسألة، فإنه منع الأكثر، وقال القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتاب العمدة في أصول الفقه: لا يصح استثناء الأكثر عندنا، ونص عليه الخرقي في كتاب

حجة من يقول بفساد الاستثناء في المساوي والأكثر

الإقرار في الفروع، وذكر بطلانه في مذهب أحمد، وأنه إذا قال له عندي عشرة إلا تسعة، أنه يلزمه عشرة لبطلان استثنائه، وابن حنبل من أجل الفقهاء، والإجماع دونه لا ينعقد. وقال ابن جني في كتاب الجامع، وأبو إسحاق الزجاج في كتاب المعاني كما قال الخرقي. ونقل المازري قول الخرقي عن عبد الملك بن الماجشون، وهو يؤكد بطلان الإجماع. حجة جواز الأكثر: قال الإمام فخر الدين: يدل على بطلان القول باشتراط الأقل والمساوي إجماع الفقهاء على أن القائل إذا قال: له عندي عشرة

إلا تسعة، أنه لا يلزمه إلا واحد، ولولا أن هذا الاستثناء صحيح لغة وشرعًا، وإلا لما صح ذلك، وقد تقدم ما على هذا الإجماع. قال فخر الدين: ويدل على فساد اشتراط الأقل، وهو مذهب القاضي ومن تقدمت الحكاية عنه في موافقته قوله تعالى: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}، وقوله تعالى حكاية عن إبليس: {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}، فلو كان المستثنى أقل من المستثنى منه لزم في اتباع إبليس وفي المخلصين أن يكون (كل) واحد منهما أقل من الآخر، وذلك محال؛ لأن المستثنى منه في إحدى الآيتين قد جعل بعينه هو المستثنى، فإن كان الباقي بعد الاستثناء يشترط فيه أن يكون أكثر، فهذا الأكثر قد جعل مستثنى في الآية الأخرى، فقد استثنى الأكثر، وإن كان الباقي بعد الاستثناء/ يشترط فيه أن يكون مساويا، فقد جعل مستثنى في الآية الأخرى، فقد استثنى المساوي. (155/ أ) والاستدلال بمجموع الآيتين مدرك قوي جدا في بادئ الرأي، غير أنه باطل من وجهين: أحدهما: أن للقاضي أن يقول: إن الاستثناء إنما شرع في الكلام لإخراج ما عساه (أن) لا يشعر به المتكلم، وذلك إنما يكون في غاية الندرة والقلة؛ لأن الاستثناء يصير الكلام منقضا باطلا فيما استثنى، وهذان المدركان لا يوجدان في الآيتين؛ لأن الإقدام على الهذر من القول وبطلان الكلام وإخراج المستثنى، إنما يتحقق حالة الخطاب، وكون الخارج معلوما

حينئذ، وأن المتكلم مقدم عليه مع العلم به وحالة قول إبليس ذلك (لم يكن) في ظاهر الحال يعلم المخلصين منهم من غيرهم، فلو ظهر الكل مخلصين، لم يكن في عرف الاستعمال مقدما على الهذر من الكلام، ولا ناقضا لقوله. وكذلك قوله تعالى: {إلا من اتبعك}، فهو معلوم للخلق حينئذ، وإن كان الله تعالى يعلم المتبع بعينه من غير المتبع. غير أن خطاب الله تعالى يجري على القانون العرفي، فكل ما تكلم به العرب وكان شائعا، كان ذلك في القرآن على ذلك الوجه، وخصوص الربوبية لا ينقض استعمال اللغات، ألا ترى أن كلمة (أن) لا يعلق عليها المحتمل المشكوك فيه، (وذلك في حق الله تعالى محال)، مع أنها في القرآن في غاية الكثرة، وما المحسن لهما إلا قول المتكلم لو كان عربيا لحسن ذلك منه، فكان صدورها من الله تعالى عليها ما هو معلوم له تعالى والسامع المخاطب كقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} فهم يعلمون أنهم مرتابون، يعني الكفار، وكذلك قوله تعالى: {وإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك}، وهم يعلمون أنهم كذبوه، غير أن هذا الريب، وهذا التكذيب شأنه أن يعرض له الشك في مجاري العادات، فهذا هو المحسن لتعليقه على كلمة (إن). وكذلك يحسن أن يقول أحدنا لغيره: إن جاءك زيد فأكرمه، مع علم

الاثنين أنه يجيء، (مع أن) شأن المجيء أن يكون مشكوكا/ (155/ ب) فيه عادة، بخلاف قولنا: إن طلعت الشمس غدا فأتني، فإنه ليس من شأنه أن يشك فيه. فهذا ضابط هذا الباب: أن يكون ذلك المنوال عربيا، وشأنه في العادة ذلك، فيحسن استعماله مطلقا في كلام الله تعالى وفي غيره، فتأمل هذا المعنى فهو محتاج إليه كثيرا في فهم الكتاب العزيز. فظهر أن القاضي لا يلزمه من الآيتين سؤال، وإنما كان يلزمه السؤال أن لو كان ذلك معلوما للخلق عند النطق بذلك الكلام، كما ينكره القاضي في قول القائل: له عندي عشرة إلا تسعة، فإن القاضي يقول: إقدامه على النطق بالعشرة مع علمه بأن أكثرها لا يلزمه، اشتغال باللغو في الكلام بخلاف إذا لم يعلم، ولا يكون ذلك مفهوما ألبتة عند النطق، بل الغيب يكشف عنه في المستقبل، فهذا فرق عظيم بين البابين. وثانيهما: سلمنا استواء البابين، لكن المستثنى في الصورتين أقل. أما قوله تعالى حكاية عن إبليس} إلا عبادك منهم المخلصين}، (فهؤلاء لا يشمل) المخلصين، لقوله: (منهم)، إشارة إلى بني آدم (وإنه يغوي بعضهم فإن بعض العباد لا يتعين فيهم عموم، بل يصدق بأي عدد كان من بني آدم)، كأنه قال: إلا المخلصين من بني آدم أقل من المجرمين. وأما قوله: {إلا من اتبعك من الغاوين}، فهو أقل أيضا؛ لأن قوله تعالى يشمل الملائكة، لكونه اسم جنس أضيف فيعم، والمتبع له بعض

الغاوين، منهم من يتبع هواه، ومنهم من يتبع الشيطان، وغير ذلك من القرناء وغيرهم، فنصيبه المتبع له بعض الغاوين. ومعلوم أن كل الغاوين أقل من الملائكة وحدهم، فكيف إذا أضيف إليهم صالحو بني آدم؟ وفي الحديث: "إن الملائكة يطوفون بالمحشر بمن فيه سبعة أدوار"، وذلك أعظم ممن في الحشر، وقال عليه الصلاة والسلام: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك يسبح الله تعالى)، ومعلوم أن هذا عدد

عظيم، فإن السماء قدر الأرض مرات كثيرة لا تحصى، حتى يقال: إن الأرض في السماء كالخاتم الملقى في الفلاة، فقامت البراهين في علم الهيئة على ذلك. وفي الحديث: "يدخل البيت المعمور/ (156/ أ) كل يوم سبعون ألفًا لا يرجعون إليه أبدًا"، وهذا يتناول ما قبل خلق آدم إلى قيام الساعة. وفي الحديث أيضًا: "إن كان كل إنسان من بني آدم يأتيه سبعة من الملائكة، فالمتبع له أقل، لكونه بعض بني آدم وبعض الجن، (والجن وبني آدم مجموعهم أقل من الملائكة)، فكيف بعضهم؟ حجة القاضي رحمه الله: أن المقتضى لفساد (الاستثناء) قائم، وما لأجله ترك العمل به في الأقل غير موجود في المساوي والأكثر، (فوجب أن يفسد في المساوي والأكثر.

بيان مقتضى الفساد: أن الاستثناء بعد المستثنى منه إنكار بعد الإقرار، فيكون مردودًا. بيان الفارق: أن الشيء القليل يكون في معرض النسيان؛ لقلة التفات النفس إليه، فإذا أقر بالعشرة، فربما كانت العشرة تنقص شيئًا قليلًا؛ لكونها كانت تامة، وأدلى ذلك الشيء القليل ونسيه؛ لقلته، فلا جرم والكثير يكون مدروكًا مخصوصًا، لكثرة التفات النفس إليه، (فلا جرم) أقر بالعشرة الكاملة، ثم إنه بعد الإقرار تذكر ذلك القدر، فوجب أن يكون متمكنًا من استدراكه، فلأجل ذلك شرعت العرب والشريعة، استثناء الأقل من الأكثر، ولم يوجد هذا المعنى في استثناء المثل أو الأكثر، لما ذكرنا أن الكثرة فطنة الذكر، ومتى ظهر الفارق بقي المقتضى سليمًا عن المعارض. وأجاب خصومه: بأن الاستثناء مع المستثنى منه كاللفظة الواحدة الموضوعة لما بقي بعد الاستثناء، فالخمسة لها عبارتان في اللغة: خمسة، وعشرة إلا خمسة، وعلى هذا التقدير يمنع أن الاستثناء إقرار قعد الإنكار، فإنه حينئذ ما أقر إلا بخمسة، والعشرة لا دلالة لها مع الاستثناء حتى يكون لفظها إقرارًا، بل مجموع اللفظين وضع لما بقي حقيقة، ويؤكد ذلك ما تقدم من القاعدة وهي: "أن ما لا يستقل بنفسه إذا اتصل بما هو مستقل بنفسه صير

المستقل بنفسه غير مستقل بنفسه" والاستثناء غير مستقل بنفسه، فتصير العشرة غير مستقلة بنفسها، فلا يكون إقرارًا. وللقاضي رحمه الله أن يقول: لا نسلم أن الجميع لفظة/ (156/ ب) واحدة، بل لفظ العشرة موضوع لمعنى، ولفظ "إلا" موضوع للإخراج مما قبله، وهذا الكلام الذي يقولونه توسع غير (مساعد عليه)، ويلزم أن يقولوا مثله في كل مجاز معه قرينة لفظية: غير مستقل، نحو: رأيت أسدًا قرشيًا أو مؤمنًا، في كلام عام (معه) مخصص لفظي متصل من صفة أو غاية أو شرط أو غيرها، أن الجميع حقيقة فيما بقي، وهو ظاهر البطلان لوجهين: الأول: أنه يلزم الترادف بين قولنا: زيد، وأسد مؤمن، فإن المراد بهما واحد، والثاني عندكم موضوع لما وضع له زيد إن التزمتموه، وكذلك قولنا: اقتلوا المشركين المحاربين، وقولنا: اقتلوا الحربيين، يكونان مترادفين. الثاني: (أنه يبطل) معنى الاستثناء، فلا يبقى موضوعًا للإخراج، بل المجموع موضوع لحقيقة واحدة، بل لا إخراج، وكذلك لا يبقى لفظ الصفة موضوعًا للصفة، لأن الصفة تعتمد موصوفًا تقدم لفظه، حتى تجري

هذه الصفة عليه. وإذا كان اللفظ موضوعًا لمعنى واحد، فلا صفة ولا موصوف، وحينئذ قال الأبياري في شرح البرهان: نظير أن الاستثناء والمستثنى منه كاللفظة الواحدة قولك: زيد، فيكون مدلوله مفردًا، وتزيد عليه واوًا ونونًا فتقول: الزيدون، فيصير مدلوله الجمع، ويكون المجموع الثاني موضوعًا وضعًا مستقلًا. قلت: الفرق أن مدلول زيد، وهو ذلك الشخص المعين حاصل في الجمع بالضرورة، ولم تبطل هذه الزيادة شيئًا مما تقدم، بل زادت، وفي الاستثناء (الطلب إلا) بعض ما دل عليه لفظ العشرة، لو انفرد بقي الاستثناء مقتضى ينافي معنى، فوجب بقاؤه عليه، والقول بأن الجميع وضع لمعنى واحد يبطل بقاؤه عليه، بخلاف لفظ الإفراد والجمع. ومن وجه آخر أن "إلا" موضوعة للإخراج ومعها أخواتها نحو

اثني عشر، موضوعة للإخراج، كما هو مستوعب في كتب الاستثناء. وأما الواو والنون فليس له مفهوم إلا مع ما يضافان إليه. فوجب أن يكون الجميع هو الموضوع لمعنى واحد. وأحسن من هذا التشبيه، (التشبيه) بقولنا: قام زيد، ثم يدخل عليه "هل" للاستفهام، فيصير موضوعًا للاستخبار، بعد/ (157/ أ) أن كان موضوعًا للخبر، ويبطل المعنى الأول، وكذلك يدخل عليه الشرط فتقول: إن قام زيد، فتبطل الإفادة، ويصير غير مفيد بعد أن كان مفيدًا، وغير مجزوم بوقوعه بعد أن كان مجزومًا بوقوعه، وكلا اللفظين "هل"، و"إن" وضعا لمعنى مستقل كلفظ "إلا"، وانتقل المعنى في الجميع لمعنى آخر غير الأول، ومع صحة التشبيه لا يحصل المقصود للخصم؛ بسبب أن مسمى "إلا" للإخراج، والإخراج لا يتحقق إلا مع تقرر معنى يصح الإخراج منه، أما الاستفهام والشرط فلا يقتضيان تقرر المعنى الأول، ومفهوم الإخراج يتقاضاه، فافترقت هذه الموارد، ويلزم القائلين بأن الخمسة لها عبارتان: خمسة، وعشرة إلا خمسة، أن القائل إذا قال: ما له عندي عشرة. * * *

المسألة الخامسة: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات

المسألة الخامسة: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات مثال الأول: قوله عز وجل} فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا}. مثال الثاني: قوله عز وجل: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتًا؛ لأن بين الحكم بالنفي والحكم بالإثبات واسطة وهي عدم الحكم، فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات. واختلف النقل عنه في الاستثناء من الإثبات، فقال الإمام فخر الدين: الاستثناء من الإثبات نفي إجماعًا حكاه في المعالم، وسألت عظماء الحنفية وكبار مشائخهم عن ذلك فقالوا بأجمعهم: البابان عندنا سواء والاستثناء من الإثبات نفي كالاستثناء من النفي إثبات، والاستثناء في الحالين غير محكوم

عليه بشيء، وأشد من ذلك قالوا: الاستثناء المفرغ، كذلك أيضًا نحو قولنا: (ما قام إلا زيد) قالوا: زيد غير محكوم عليه بالإثبات. واعلم أن ها هنا قواعد حصل الاتفاق عليها بين الناس. أحدها: أن "إلأا" مخرجة. وثانيها: أن "زيدًا" مخرج المستثنى بها. وثالثها: أن من خرج من نقيض دخل في نقيضه، فمن خرج من النفي دخل في الإثبات، ومن خرج من الإثبات دخل في النفي. ورابعها: أنه تقدم قبل ("إلا" أمران) / في مثل قولنا: (ما) قام القوم إلا زيدًا، القيام والحكم به، فأحدهما مخرج منه اتفاقًا. (157/ ب) غير أن الحنفية يقولون: إن "زيدًا" مخرج من الحكم بالقيام، فيدخل في نقيضه وهو عدم الحكم، فيكون غير محكوم عليه بشيء. ونحن نقول: هو مخرج من القيام لا من الحكم به، فيخرج بنقيض القيام، فيكون غير قائم. وإن قلنا: لم يقم القوم إلا زيدًا، خرج من عدم القيام، فيدخل نقيضه وهو القيام، فيكون قائمًا، هذا في غير المفرغ. أما المفرغ، فإذا قلنا: ما قام إلا زيد، فيقول الحنفية: تقدير الكلام: ما

أدلة الجمهور

قام أحد إلا زيد؛ لأن المعنى نقيضه، فيصير كغير المفرغ حرفًا بحرف، ونحن نقول: زيد فاعل بالفعل المنفي السابق قبل "إلا"، وهو الذي أسند إليه عدم القيام، فهو غير قائم، واللازم من مذهب الحنفية أن يعربوه بدلًا، لا فاعلًا، ويكون الفاعل مضمرًا تقديره: ما قام أحد، فلا يكون زيد فاعلًا. وهذا ينكره جمهور النحاة _أعني: حذف الفاعل_ ما أجازه إلا الشذوذ منهم، فهذا هو تلخيص صورة النزاع، والشافعية والحنبلية والمالكية على خلاف الحنفية في هذه المسألة. احتج الجمهور بأمور: أحدها: أن ما ذكرناه هو المتبادر عرفًا، فوجب أن يكون لغة كذلك؛ لأن الأصل عدم النقل والتغيير، فلا يفهم أهل العرف من قولنا: ما قام القوم إلا زيدًا، إلا أن زيدًا قائم. وكذلك: قام القوم إلا زيدًا، لا يفهمون إلا أنه غير قائم، وفي المفرغ: ما قام إلا زيد، لا يفهمون إلا أنه قام. وثانيها: أن الاستثناء من النفي لو لم يكن إثباتًا، لما كان قولنا: لا إله إلا الله موجبًا لثبوت الألوهية (لله عز وجل، بل كان معناه: نفي الألهية عن غيره، فأما ثبوب الألهية له) فلا؛ لأن المستثنى غير محكوم

حجج الحنفية فيما ذهبوا إليه

عليه بشيء عندهم، ولو كان كذلك لما تم الإسلام بكلمة الشهادة، ولما تم الإسلام بها، علمنا أن الاستثناء من النفيي إثبات. وثالثها: قوله تعالى: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله}، ولا يفهم أحد من هذه الآية (إلا) أن الله تعالى أخبر عن نفسه بأنه يعلم الغيب، وعلى رأي/ الحنفية يكون المعنى: أن الله تعالى لم يتعرض للإخبار عن كونه عالمًا بالغيب، بل مسكوت عن ذلك في حقه. (158/ أ) وأجاب الحنفية عن ذلك كله بحرف واحد، وهو أن هذه الأمور كلها إنما تفهم بالقرائن، وأهل العرف يفهمون ذلك بالقرائن المحتفة بمقاصدتهم، وأما كلمة الشهادة فإن المتلفظ بها في العادة إنما يقصد الدخول في الإسلام، مع أن الوحدانية ثابتة بالضرورة، فلما كان هذا هو المقصود منها، أفادته قرائن أحوال المتكلم وحال الربوبية أيضًا وظهور جلالها وربوبيتها وصفاتها العلية. أما علم الغيب من الآية الأخرى، فلقرينة السياق، وأن الكلام إنما سيق لإثبات العلم بالغيب لله تعالى، فلذلك فهم. قلت: وهذه تعسفات، والظاهر أن الفهم مضاف للفظ. احتج الحنفية بأمور: أحدها: أن الألفاظ إنما وضعت للصور الذهنية، دون الأمور الخارجية، كما تقرر في كتب اللغات، فقولنا: قام القوم، أو: ما

قام القوم: إنما يفيد في الرتبة الأولى أن المتكلم يعتقد ذلك، فيفيد بالصورة الحاصلة في ذهنه، والتصديق الذي أخبر عنه، وأن ذلك التصديق في ذهنه، ثم أنا نستدل بظاهر حاله على أن ما حكم به وأخبر عنه حق، عملًا بظاهر الحال، فيستفاد حينئذ قيام القوم أو عدم قيامهم من اللفظ بواسطة الصورة الذهنية بغير واسطة ولا تفيد (الأمور) الخارجية إلا بواسطة، كان صرف لفظ الاستثناء إلى ما هو مستفاد بغير واسطة أولى، وهو الصورة الذهنية، وهي الحكم الذهني، وإذا خرج "زيد" من الحكم الذهني بقي غير محكوم عليه بشيء، وغير المحكوم عليه بالقيام محتمل للقيام وعدمه، فلا يتعين الإثبات، فلا يكون الاستثناء من النفي إثباتًا، وهو المطلوب. وثانيها: قوله تعالى: {إلا إبليس لم يكن من الساجدين}، فلو كان الاستثناء من الإثبات نفيًا، لم يذكر النفي بعد "إلا"؛ لئلا يلزم التكرار، / (158/ ب) فإن مجرد الاستثناء يفيد أنه لم يكن من الساجدين، فقوله تعالى _بعد ذلك_

{لم يكن من الساجدين}، يكون تكرارًا، لكن الأصل في كلام (العرب الإنشاء) دون التكرار، فوجب أن يقال: إن عدم السجود إنما هو مستفاد من قوله تعالى: {لم يكن من الساجدين}، لا من الاستثناء، وهو المطلوب. وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور"، و"لا نكاح إلا بولي"، فلو كان الاستثناء من النفي إثباتًا، لكانت صحة الصلاة حاصلة من الطهارة وعندها، وصحة النكاح حاصلة عند الولي، وليس كذلك، بل إن تطهر الإنسان أمكن أن يصلي، وأمكن أن لا يصلي، وإذا صلى أمكن أن تكون صلاته صحيحة، وأمكن أن تكون باطلة، لعدم شرط أو ركن، وليس في اللفظ إشعار بشيء من ذلك، بل فائدة اللفظ بطلان الصلاة عند عدم الطهارة، أما عند وجودها _كيف يكون الحال؟ _ لم يتعرض اللفظ إليه ألبتة. وكذلك القول في النكاح، وسائر النظائر كذلك.

الإجابات على حجج الحنفية

فلو كان الاستثناء من النفي إثباتًا، لزم ترك العمل (بالدليل) في هذه الصورة، لكن الأصل ألا يترك الدليل، فلا يكون الاستثناء من النفي إثباتًا، وهو المطلوب، وإذا ثبت الحكم في أحد هذه المسائل من النفي أو الإثبات، لزم الثبوت في بقيتها؛ لأنه لا قائل بالفرق. والجواب عن الأول: أن معتمد اللغات السبق إلى الفهم، فكل شيء سبق إلى الفهم يكون هو مسمى اللفظ، وإن كان الاستدلال من حيث المناسبة يقتضي غير ذلك، فلا عبرة بالمناسبة مع سبق الفهم، ألا ترى أن أسماء الأجناس لما كان الذي يسبق إلى الفهم منها هو القدر المشترك ومطلق الحقيقة، لم يمكن أن يجعل للعموم؛ لأن العموم أكثر فائدة وأنسب من المطلق. وكذلك أسماء الأنواع كلفظ الإنسان والفرس، لما كان الذي يسبق إلى الفهم منها الأنواع، لم يمكن جعلها أسماء الأجناس بالمناسبة؛ لأن الجنس أكثر أفرادًا، وأعم فائدة، وكذلك كلما سبق إلى الفهم لا يعرج على ما سواه، بل يقدم السبق إلى الفهم على غيره وإن كان مناسبًا، فكذلك ها هنا/ الذي يسبق إلى الفهم هو ما ذكرناه، دون ما ذكرتموه، فلا نرجع لما ذكرتموه لمجرد المناسبة. وعلى الثاني: أن الآية (لا) حجة لكم فيها، فإنها أفادت فائدة زائدة على عدم السجود، فإن العرب قد فرقت بين قولنا: لم يسجد، وبين قولنا: لم يكن من الساجدين. فالصيغة الأولى يقتصر (فيها) على مجرد السلب.

والصيغة الثانية تقتضي السلب وصفًا آخر وهو أن شأنه أن لا يفعل ذلك بجبلته وسجيته، وكذلك قوله تعالى: {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها}، أي ليس وسعكم ولا شأنكم ذلك، والاستثناء إنما كان يفيد مجرد السلب، أما هذه الزيادة، فالآية أفادت هذه الزيادة، فلم يكن تكرارًا. وعن الثالث: أن معنى قول العلماء: أن الاستثناء من النفي إثبات، يجب أن يكون مخصوصًا بما عدا الشروط، فإن الاستثناء يرد على الأحكام، نحو: قام القوم إلا زيدًا، وعلى الأسباب، نحو: لا عقوبة إلا بجناية، وعلى الموانع، نحو قولنا: لا تسقط الصلاة عن المرأة إلا بالحيض، وعلى الشروط نحو: لا صلاة إلا بطهور. ولما كان الشرط: يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، كان قول العلماء: الاستثناء من النفي إثباتًا، خاصًا بما عدا الشروط، فنحن إنما ندعي ذلك في غير الشروط، فلا ترد الشروط علينا نقضًا؛ لأنهالم تندرج فيما ادعيناه، ولا يلزم من قضائنا بالنفي قبل "إلا" على المشروط لعدم شرطه، القضاء بعد "إلا" بوجود المشروط، لأجل شرطه؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده شيء ألبتة، فعلم أن هذا السؤال ساقط عنا؛ لأنه ليس من الباب الذي ادعيناه ألبتة، فتأمل ذلك، وتحقق أن قول العلماء: الاستثناء من النفي إثبات، ليس على عمومه، بل يجب أن يكون مرادهم فيما عدا الشروط، كما تقدم تقريره.

المسألة السادسة: على أي شيء تعود الاستثناءات إذا تعددت؟

المسألة السادسة الاستثناءات إذا تعددت هل تعود إلى أصل الكلام أو تعود للاستثناء الثاني على الأول، والثالث على الثاني، والرابع على الثالث، فيعود كل استثناء على ما قبله لا على أصل الكلام، بالغة ما بلغت، في ذلك تفصيل وخلاف، ويتضح ذلك بقواعد خمس: القاعدة الأولى: أن العرب لا تجمع بين إلا وواو العطف، / فلا تقول: قام القوم وإلا زيدًا؛ لأن إلا (مخرجة والواو) جامعة، فهما متناقضتان، فلا يجمع بينهما، بل لا تجتمع الواو العاطفة مع "إلا" ألبتة، إلا إذا عطفت استثناء على استثناء، فإنها حينئذ تكون جامعة بين الاستثنائين، أما مع الاستثناء الواحد فلا. القاعدة الثانية: أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، وقد تقدم تقريره. القاعدة الثالثة: أن الاستثناء المستغرق لا يجوز، وقد تقدم أيضًا. القاعدة الرابعة: أن القرب يوجب الرجحان؛ لأنك إذا قلت أعطى

زيد عمرًا بكرًا، كان الأقرب إلى الفعل هو الفاعل في الأخذ، وإن كان مفعولًا من جهة فعل الإعطاء، فيكون عمر مثلًا هو الآخذ لبكر، وبكر هو المأخوذ وكذلك إذا قلت: ضرب زيد عمرًا وضربته، كان الضمير في ضرته عائدًا على عمر الأقرب، للضمير من زيد، وكذلك: أكرمت جيراني وضرت غلماني، فإنما يعود هذا الحال على ضرب الغلمان دون الجيران؛ لأنه أقر، ونظائره كثيرة في اللغة. القاعدة الخامسة: أن الكلام إذا دار بين الإلغاء والإعمال، فالإعمال أولى؛ لأنه شأن العقلاء، والكلام بالهذر المطرح لا يليق. إذا تقررت هذه القواعد الخمس فأقول: إذا قلت: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة، تعين عود الاستثناء الثاني على أصل الكلام؛ لأنه مستغرق وأكثر (منه)، وكذلك (إلا ثلاثة)؛ لأنه مستغرق، فيكون قد اعترف بثلاثة. وإذا قلت: له عندي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين، تعين عوده أيضًا على أصل الكلام؛ لأن العرب لا تجمع بين إلا والواو العاطفة، وهي غير عاطفة، وهو مع كونه أقل وغير مستغرق، فيتعين عوده على أصل الكلام، فيكون قد اعترف بخمسة.

وإن قلت: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، فقد ذه المانع من جهة كونه مستغرقًا، ومن جهة الواو، فهو موضع الخلاف، والأقسام المتقدمة متفق عليها. فقيل: يعود الاستثناء الثاني، وهو قولك: إلا اثنين على أصل الكلم، لأنه [هو] موضوع الاستثناء والإخراج، لتطرق الاحتمال إليه، فإنه دخله الاستثناء الأول، ولا يعود على الاستثناء الأول؛ بسبب/ أن الاستثناء الأول جزم فيه بأنه مخرج غير مراد، ولم يدخله استثناء ولا تخصيص، ففيه من القوة ما يدفع عن نفسه، بخلاف أصل النحاة. قال بعض النحاة: وقيل يعود على الاستثناء؛ لأنه أقر إليه من أصل الكلام، والقرب موجب للرجحان، وكما كان أصل الكلام محتملًا للاستثناء فهذا أيضًا قابل للاستثناء أيضًا، وهذا هو المشهور، وهو الذي أفتى به الإمام في المحصول والمعالم، ووافقه جماعة من النحاة والأصوليين على ذلك.

فعلى المذهب الأول: تكون قد اعترفت بخمسة، لأنك أخرجت من العشرة ثلاثة ثم اثنين، فبقيت خمسة، وعلى المذهب الثاني: تكون قد اعترفت بتسعة؛ لأنك أخرجت أولًا من العشرة ثلاثة، بقيت سبعة، وهذه الثلاثة منفية؛ لأن الاستثناء من الإثبات نفي، وأخرجت بعد ذلك من هذه الثلاثة اثنين، فتكون منفية مضافة لتلك السبعة؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، فيصير المتحصل تسعة. وقرر الإمام فخر الدين رحمه الله هذا المذهب بأن قال: قولك ثانيًا: "إلا اثنين"، إما أن يعود على أصل الكلام، أو على الاستثناء الأول، وهو قولك: إلا ثلاثة، أو عليهما، أو لا عليهما، فهذه أقسام أربعة. والأول: باطل؛ لأن القرب يوج الرجحان، فلا يرجح البعيد على القريب. والثاني: هو المطلوب. والثالث: يلزم منه أن يكون الكلام لغوًا، بسبب أن الاستثناء الثاني إذا عاد عليهما فباعتباره عوده على أصل الكلام تكون قد أخرجت من السعة اثنين وأبطلتهما، فيبقى بعدها خمسة، وباعتبار عوده على الثلاثة تكون قد رددت من الثلاثة اثنين؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فتجبر بهذين الاثنين المثبتين الاثنين الذاهبين من السبعة، فتصير الخمسة بهما سبعة، وينجبر

النقصان بالزيادة، والسبعة هي كانت حاصلة قبل قولك: (إلا اثنين) من قولك: له "عندي" عشرة إلا ثلاثة، فيصير قولك: "إلا اثنين" لغوًا، أما عوده على الثلاثة وحدها لا يكون لغوًا، والإعمال أولى من الإلغاء، للقاعدة المتقدمة. والرابع: باطل وهو أن لا يعود على واحد منهما؛ لأنه يصير لغوًا حينئذ، واللغو لا سبيل إليه مع إمكان الإعمال. فائدة: قال العلماء: إذا قال على النمط المتقدم، وهو عود الاستثناء على ما قبله: له عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحد، يكون المتحصل من هذا الاعتراف مع هذه الاستثناءات في آخرها خمسة، بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي؛ لأن قوله: "إلا تسعة" منفية؛ لأنها استثناء من إثبات، فيكون الاعتراف بواحد، وقوله: "إلا ثمانية" إثبات؛ لأنها مستثناة من نفي، فتضاف إلى الواحد الباقي بعد استثناء التسعة، فيكون المتحصل تسعة، وقوله: "إلا سبعة" منفية، فيكون الاعتراف باثنين، و"إلا ستة مثبتة، فيكون الاعتراف بثمانية، وقوله: "إلا خمسة" منفية، فيكون الاعتراف بثلاثة. وقوله: "إلا أربعة" مثبتة، فيكون الاعتراف بسعة وقوله: "إلا ثلاثة" منفية،

يكون الاعتراف بأربعة، وقوله: "إلا اثنين" مثبتة، يكون الاعتراف بستة، وقوله: "إلا واحدًا" منفي، يكون الاعتراف بخمسة، وهو المطلوب إذا ابتدأنا بعشرة مثبتة، حصل في آخر الأمر، فاستثناء واحد يزداد أبدًا على المقدار الأول ثبوت خمسة. فإن ابتدأ بعشرة منفية، فقال: ما له عندي عشرة إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحدًا، يكون الاعتراف بخمسة أيضًا؛ لأن التسعة ها هنا مثبتة؛ لأنها من النفي، والثمانية منفية فيتعين الاعتراف بواحد، والسبعة مثبتة، فيكون الاعتراف بثمانية، والستة منفية، فيتعين الاعتراف باثنين، والخمسة مثبتة، فيكون الاعتراف بسبعة، والأربعة منفية، فيكون الاعتراف بثلاثة، (وإلا الثلاثة مثبتة، فيصير الاعتراف بستة)، والاثنان منفيان، فيصير الاعتراف بأربعة، والواحد مثبت، فيصير الاعتراف بخمسة. وعلى هاتين القاعدتين تتفرع الأعداد _وإن كثرت_ نفيًا أو إثباتًا. * * *

فائدة: عود الاستثناء وقاعدة الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي

المسألة السابعة: الاستثناء المذكور عقب الجمل، هل يعود إليها بأسرها أم لا؟ مذهب الشافعي رضي الله عنه: عوده إلى الكل، ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه: اختصاصه بالجملة الأخيرة، ومذهب القاضي منا والمرتضى من الشيعة التوقف، إلا أن المرتضى توقف للاشتراك، والقاضي لم يقطع بذلك أيضًا، ومنهم/ من فصل في ذلك، وذكروا وجوهًا. (161/ أ) وأدخلها في التحقيق ما قيل: إن الجملتين، إما أن يكونا من نوع

واحد، أو من نوعين. فإن كان الأول: فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون. فإن كان الثاني: فإما أن يكونا مختلفي الاسم والحكم، أو متفقي الاسم مختلفي الحكم، أو مختلفي الاسم متفقي الحكم. (ونعني بالنوع الواحد): إما أن يكونا أمرين، أو خبرين، أو نهيين. وبالنوعيين: أن يكون أحدهما من الأمر، والآخر من الخبر أو النهي، ونعني بتعلق إحدى الجملتين بالأخرى: أن يكون فعل الثانية لا يفهم إلا من الأولى بالعطف نحو: أكرم قريشًا وبني هاشم، أو اسمهما مضمر يفسره اسم الأولى نحو: أكرم قريشًا واخلع عليهم. قال الإمام فخر الدين: فإذا قال في الأولى: أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال، فالأظهر هاهنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة؛ لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلى جملة أخرى مستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه من الأولى، فلو كان الاستثناء راجعًا إلى الجملتين، لم يكن قد تم مقصوده من الجملة الأولى. وأما الثاني: فقولنا: أطعم ربيعة واخلع على مضر إلا الطوال.

والثالث: كقولنا: أطعم ربيعة وأطعم مضرًا إلا الطوال، فاتفقا في الحكم دون سماع الاسم عكس الذي قبله، فإن الذي قبله متفق الاسم مختلف الحكم، وحكمه كحكمه؛ لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة، فالظاهر أنه لم ينتقل إلى الثانية إلا وقد تم عرضه منها بالكلية. وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى: فإما أن يكون حكم الأولى مضمرًا في الثانية كقولنا: أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال، فيرجع الاستثناء في القسمين إلى الجملتين؛ لأن الثانية لا تستقل إلا مع الأولى، فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما. وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام: فإما أن تكون القضية واحدة أو مختلفة فإن كانت مختلفة فهو كقولنا: أكرم العلماء وهم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية، فالاستثناء راجع إلى ما يليه؛ لاستقلال كل واحد من تلك الجملتين بنفسها، / (161/ ب) (وأما إن كانت القضية واحدة فكقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا}، فالقضية واحدة وأنواع الكلام مختلفة، أمر، ثم نهي، ثم خبر، ثم استثناء، وهو يرجع إلى الجملة الأخيرة، الاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها). قال: والإنصاف أن هذا التقسيم حق، لكنا إذا أردنا

المناظرة اخترنا (التوقف) لا بمعنى الاشتراك، بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا، وهذا هو اختيار القاضي رحمه الله. واحتج الشافعي رحمه الله بوجوه: أحدها: ان الشرط متى تعقب جملًا عاد إلى الكل، وكذلك الاستثناء، والجامع: أن كل واحد منهما لا يستقل بنفسه، وأيضًا فمعناهما واحد؛ لأن قوله تعالى في آية القذف: {إلا الذين تابوا} جار مجرى قوله تعالى: {وأولئك هم الفاسقون} إن لم بتوبوا. ويقرب من هذا الدليل قولهم: أجمعنا على أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى إذا تعقب جملًا عاد إليها، وكذلك الاستثناء. قلت: وللحنفية أن يفرقوا بأن في عود الشرط إلى الكل خلافًا. قلنا: أن نمنع بناء على الخلاف، سلمناه، لكن التعاليق اللغوية يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم، وهذا هو شأن السبب، بخلاف الشروط العقلية: كالحياة مع العلم، والشرعية: كالطهارة مع صحة الصلاة، والعادية: كنصب السلم لصعود السطح، ولا يلزم من وجود واحد من هذه الثلاثة وجود مشروطه، بل إنما يترتب مشروطه على سبب مع الشرط، لا على الشرط

الواقع في أحد هذه الأبواب الثلاثة، بخلاف الشروط اللغوية هي الأسباب، وهي التي يترتب عليها المشروط، وإذا كانت الشروط اللغوية أسبابًا، والأسباب مواطن المصالح والمقاصد وتكون أشرف وأنفع، فيتناسب عودها على جملة الجمل تكثيرًا للمصلحة التي في ضمن السبب، أما الاستثناء فهو إخراج ما عساه اندرج/ (162/ أ) في الكلام وليس منه، فهو يلغي غير المقصود عن المقصود ولا يحقق مقصودًا، فضعف عن رتبة الشرط، وظهر الفرق بينهما، فلا يلحق أحدهما بالآخر. وقوله: "الاستثناء في الآية يجري مجرى الشرط. قلنا: لا نسلم أن معنى قوله: {إلا الذين تابوا} هو معنى: عن لم يتوبوا؛ لأن قوله: إن لم يتوبوا، يقتضي "أن" عدم التوبة بسبب الفسوق، كقولنا لزيد الكافر: مخلد في النار إن لم يسلم، يقتضي أن سبب تخليده هو عدم إسلامه، وها هنا ليس عدم الفسوق هو عدم التوبة، بل القذف السابق، وهو سبب مستقل في ثبوت حكم الفسوق، فلا يحتاج إلى ضم سبب آخر إليه، بل معنى قولنا: إن لم يتوبوا، إشارة إلى نفي المانع من القضاء بالفسوق، ففي هذا الشرط على هذا التقدير توسع بالنسبة إلى قاعدة الشروط وغالبها. وقوله: "الاستثناء بالمشيئة يعم فكذلك هذا الاستثناء". فكما فيه خلاف سلمناه، ولكن الفرق أن الاستثناء بالمشيئة جعله الشرع سببًا

رافعًا لليمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف" أي: ارتفع عنه انعقاد اليمين الذي جعل بالحلف موجبًا للكفارة وإذا كان سببًا رافعًا، والأسباب مواطن الحكم ومظان المصالح الشرعية (والعادية)، فناسب التعميم تكثيرًا للمصلحة، بخلاف الاستثناء، كما تقدم تقريره. وثانيها: أن حرف العطف يصير الجمل المعطوف بعضها على بعض في حكم الجملة الواحدة؛ لأنه لا فرق بين أن يقال: رأيت بكر بن خالد وبكر بن عمرو، وبين أن يقال: رأيت البكرين، وإذا كان الاستثناء الواقع عقيب الجملة راجعًا إليها، فكذلك ما صار بالعطف كالجملة الواحدة. قلت وليس الأمر كذلك لوجوه: أحدها: أنا لا نجوز: رأيت زيدًا وعمرًا إلا عمرًا، ويجوز: رأيت العمرين إلا عمرًا، فقد باين المعطوف الجملة الواحدة، وسببه: أنا في

الأول قد رفعنا بالاستثناء جملة منطوق به بخلاف الثاني، أنا رفعنا بعض منطوق به فجاز؛ لأن من شرط الاستثناء أن لا يكون مستغرقًا. وثانيهما: أن (المعطوفين) لفظ، كل واحد منهما يدل عليه مطابقة استقلالًا، وهو/ (162/ ب) سبب منع استثنائه بجملته، والدلالة على الواحد المستثنى في الجملة الواحدة إنما هي تضمن، وهذا يناسب ألا يعود في الأول، ويعود في الثاني، لعدم الاستقلال. وثالثها: أن الفعل كما عمله في الجملة الأولى قبل النطق بالثانية، فهي مستقلة، والثانية لها فعل أو نهي مستقلة أيضًا، بخلاف قولنا: رأيت البكرين، فإن الفعل فيهما واحد، ولا استقلال لأحد البكرين بالفعل. ورابعها: أن الأولى يحسن السكوت عليها، بخلاف بعض الجملة الواحدة، وإذا حصل التباين في هذه الأحكام واللوازم ظهر الاختلاف، والمختلفات لا يجب اشتراكها في جميع اللوازم ولا في لازم معين إلا بدليل منفصل، بل هذه القاعدة لاختلاف التباين في اللوازم، أما التسوية فلا. وثالثها من حجج الشافعية: قالوا: إنه تعالى لو قال: فاجلدوهم ثمانين جلدة إلا الذين تابوا ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا إلا الذين تابوا، وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا، لكان ركيكًا جدًا، فبتقدير أن يريد لاستثناء من كل الجمل، لا طريق له إلا بذكر الاستثناء عقب الجملة الأخيرة في هذه الصورة، ويكون الاستثناء راجعًا إلى كل الجمل، والأصل في الكلام الحقيقة،

وإذا ثبت كونه حقيقة في هذه الصورة كان كذلك في سائر الصور، دفعًا للاشتراك. قلت: وهذا أيضًا ضعيف؛ بسبب أن الكلام في اللغة من حيث هي لغة، ما مقتضاها، فإذا دل الدليل على أن ألمتكلم ضرورة، وأراده في عود الاستثناء على الكل، فهذا أمر زائد ودليل منفصل اقتضى العود على الكل. ونقول حينئذ: إن هذه الضرورة بسبب المجاز، ولا يلزم الاشتراك، بل استعمال الاستثناء عائد على جملة الجمل عند الخصم، مجاز في التركيب، ولا يلزم من الحمل المجاز لدليل منفصل أن يحمل عليه في بقية الصور، ولا يكون الوضع من حيث هو وضع اقتضى ذلك. ورابعها: قالوا: لو قال: لفلان على خمسة وخمسة إلا سبعة، كان الاستثناء ها هنا عائدًا على الجملتين، والأصل في الكلام الحقيقة، وإذا ثبت ذلك في صورة، فكذلك/ في غيرها، دفعًا للاشتراك. (163/ أ) وأجاب الإمام فخر الدين عن هذا في المحصول بأن قال: إنما رجع الاستثناء إلى الجملتين؛ لأنه لابد من اعتبار (كلام العاقل)، ولما تعذر رجوعه إلى إحدى الجملتين؛ لأنه أريد منها _والاستثناء المستغرق باطل_ وجب رجوعه إليهما، وهذه الضرورة غير حاصلة في بقية الصور. احتجت الحنفية بوجوه: أحدها: أن الدليل ينفي العمل بالاستثناء، تركنا العمل بالدليل باعتبار

الجملة الواحدة فيعمل به في بقية الجمل. بيان أن الدليل ينفي العمل بالاستثناء: أن الاستثناء يقتضي إزالة العموم عن ظاهره، وهو خلاف الأصل. بيان الفارق بين الأخيرة وغيرها، والجملة الواحدة والجمل: أن الاستثناء غير مستقل بالدلالة على الحكم، فلابد من تعليقه بشيء، لئلا يصير لغوًا، والتعليق بالجملة الواحدة يكفي في خروجه عن كونه لغوًا، فلا حاجة إلى تعليقه بسائر الجملة. وإذا ثبت النافي والفارق، ثبت أنه لا يجوز عوده إلى الجمل الكثيرة. والخصم قال، فصار محجوجًا. بقي أن يقال: فلم خصصتموه بالجملة الأخيرة؟ ، فنقول: ذلك لوجهين: الأول: أن أهل اللغة اتفقوا على أن القرب يوجب الرجحان، ويدل عليه بأمور أربعة: الأول: اتفاق أهل اللغة من البصريين على أنه إذا قال: ضربت وضربني زيد، واجتمع عاملان على معمول واحد، أن إعمال الأقرب أولى، وهو "ضربني"، فيرفعه بأنه فاعل، ولا ينصبه بأنه مفعول، خلافًا للكوفيين. الثاني: أنهم قالوا في: ضرب زيد عمرًا وضربته، أن هذا الضمير الأخير

يرجع إلى "عمر" المضروب، دون زيد؛ لأنه أقرب إلى الفعل. الثالث: أنهم قالوا في قولنا: (ضربت سلمى سعدى): أنه ليس في إعراب اللفظ ولا في معناه ما يعين إحداهما للفاعلية والأخرى للمفعولية، فيتعين أن نجعل الفاعل ما هو أقرب إلى الفعل وهو سلمى، ترجيحًا بالقرب. الرابع: أنهم قالوا في قولهم: أعطي زيدًا عمرًا وبكرًا: أنه لما احتمل أن يكون كل واحد من بكر وعمر مفعولًا أولًا _وليس في اللفظ ما يقتضي الترجيح_ وجب اعتبار القرب. الوجه الثاني: أن كل من صرف الاستثناء إلى جملة/ (163/ ب) واحدة، خصصه بالجملة الأخيرة، فصرفه إلى غيرها خلاف الإجماع، وثانيها: أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل لو رجع (إليها لم) يخل: إما أن يضمر مع كل جملة استثناء عقيبها، أو لا يضمر ذلك، بل الاستثناء المصرح به في آخر الجمل هو الراجع إلى جميعها، والأول باطل؛ لأن الإضمار خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة ها هنا، والثاني أيضًا باطل؛ لأن العامل في نصب ما بعد الاستثناء هو ما قبله من فعل أو تقدير فعل، فإذا فرضنا رجوع ذلك الاستثناء إلى كل الجمل، كان العامل في نصب المستثنى أكثر من عامل واحد، لكن لا يجوز أن يعمل عاملان في إعراب واحد، أما أولا؛ فلأن سيبويه نص عليه، وقوله حجة، وأما ثانيًا؛ فلأنه يجتمع على الأثر الواحد

مؤثران مستقلان، وهو محال. قلت: اختلف النحاة في العامل في نصب ما بعد الاستثناء، وهو "زيد" إذا قلنا: قام القوم إلا زيدًا، هل الفعل السابق (عدته إلا فنصبت زيدًا)، ويكون الأمر من جملة المعديات كالهمزة أول الفعل وغيرها من المعديات المذكورة في كتب النحو، أو العامل فعل مقدر يدل عليه الظاهر، أو إلا هي الناصبة، أو انتصبت بتمام الكلام كالتمييز، وحكي هذا القول عن سيبويه، وقيل: هو مذهبه، وإذا كانت الأقوال في ذلك أربعة، منعنا على أحدها مقدمة الحنفية. وأجاب الإمام فخر الدين في المحصول بجوابين: أحدهما: أن نص سيبويه معارض بنص الكسائي. وثانيهما: أن العوامل في الإعراب ليست مؤثرات، بل معرفات، واجتماع المعرفات الكثيرة على المعرف الواحد ليس بمحال، كما أن كل جزء من أجزاء

العالم معرف لنا بوجود الله تعالى وصفاته، إنما المحال اجتماع المؤثرات. وثالثها: أن الاستثناء من الاستثناء يختص بما يليه، فكذا في سائر الصور دفعًا للاشتراك. قلت: وأشار الإمام فخر الدين إلى الجواب، وأنا أبسطه فأقول: الفرق أن الاستثناء بعد الاستثناء لو عاد إلى أصل الكلام وإلى الاستثناء لزم لغو الكلام، بخلاف ها هنا، فإذا قال: له عندي عشرة إلا ثلاثة إلا اثنين، لو أعدنا قولنا: "إلا اثنين" على الثلاثة كان إثباتًا لهما، وعوده/ (164/ أ) على أصل الكلام يكون نفيًا لهما، فينجبر النفي بالإثبات، ويعود الكلام إلى حاله الأول قبل قوله: "إلا اثنين" فإنه كان الإقرار حينئذ بسبعة، وهو الآن على هذا التقدير سبعة، فيصير قوله: "إلا اثنين لغوًا، أما ها هنا لو أعدناه على الجمل كلها لم يكن لغوًا بل زيادة إخراج على إخراج، وذلك من مقاصد العقلاء. ورابعها: أن الجمل إذا كان كل واحد منها مستقلًا بنفسه، والظاهر أنه لم ينتقل عن واحد منها إلى غيرها إلا وقد تم غرضه منها؛ لأن السكوت لما كان يدل على كمال الغرض من الكلام، فكذلك الشروع في كلام آخر لا

تعلق له بالأول، إذا ثبت ذلك، فلو حملنا الاستثناء على جملة الجمل المتقدمة (نقض ذلك قولنا: "إنه لما انتقل عن الكلام الأول تم غرضه"). قلت: والإمام فخر الدين منع قولهم: "إنه لم ينتقل إلا بعد تمام غرضه"، وقال: إن عنيتم أنه فرغ من جميع الأحكام المتعلقة بالأولى فهو ممنوع؛ لأنه أول المسألة؛ لأن من أحكامها عند الخصم هذا الاستثناء المذكور عقيب الجمل، وإن عنيتم شيئًا آخر فاذكروه لننظر فيه. واحتج الشريف المرتضى على الاشتراك بوجوه: أحدها: أن القائل إذا قال: ضربت غلماني وأكرمت أصدقائي إلا واحدًا، جاز استفهامه عن ذلك، هل أراد استثناء واحد من الجملتين أم لا؟ والاستفهام دليل الاشتراك، وقد تقدم الكلام على الاستفهام في أن صيغة العموم مشتركة بين العموم والخصوص، وأنه يكون لأغراض أخرى غير الإجمال الناشئ عن الاشتراك فلا يدل على الاشتراك؛ لأنه أعم من الاشتراك، والأعم لا يستلزم الأخص ولا يدل عليه. وثانيها: أنا وجدنا الاستثناء في القرآن والعربية عائدًا إلى كل (الجمل) تارة، وإلى الأخيرة أخرى، والأصل في الكلام الحقيقة، فوجب القول بالاشتراك.

قلت: وجوابه أن الجواز أولى من الاشتراك. وثالثها: أن القائل إذا قال: ضربت غلماني وأكرمت جيراني قائمًا أو في الدار أو يوم الجمعة, احتمل فيما ذكروه من الحال والظرفية أن يكون المتعلق به جميع (الأفعال المتقدمة, وأن يكون ما هو) الأقرب, والعلم باحتمال الاشتراك وتجويز الأمرين (من مذهب) أهل اللغة ضروري, وإذا صح ذلك في الحالين والظرفين صح في الاستثناء, (والجامع) أن كل واحد منهما فضلة تأتي بعد تمام الكلام. وأجاب الإمام فخر الدين عن هذا بأن قال: لا نسلم التوقف في الحال والظرفين, بل نخصهما بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة رحمه الله, أو بالكل على قول الشافعي رضي الله عنه. سلمنا التوقف, لكن لا على سبيل أنا لا ندري أن الحق ما هو عند أهل اللغة, فإن تمسكهم على الاشتراك بالاستفهام والاستعمال, كان ذلك منه عودا إلى الطريقين الأولين. سلمنا, فلم قلت: إنه يجب أن يكون الأمر كذلك في الاستثناء؟ . قوله: (الجامع): كون كل واحد من هذه الثلاثة فضلة تأتي بعد تمام الكلام. قلنا: الاشتراك من بعض الوجوه لا يقتضي التساوي من كل الوجوه.

فائدة: في عود الاستثناءات على الكل

فائدة: مثال عود الاستثناء على الكل- كما قاله في الوجه الثاني: قوله تعالى: {كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} , هذا في آل عمران, وفي المائدة (قوله تعالى): {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} , فقيل: منقطع وتقديره: لكن ما ذكيتم من غير المذكور, وقيل: متصل يعود على المنخنقة وما بعد, أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات. ومثال العائد على جملة واحدة قوله تعالى: {فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك} , قرئ بالرفع والنصب, فعلى

سؤال: قال النقشواني: بأنه لا يلزم من العود إلى الكل تارة وعلى البعض أخرى، اشتراك ولا مجاز

النصب هي مستثناة من الجملة الأولى, لأنها موجبة, وعلى الرفع هي مستثناة من الثانية, وهي منفية, وتكون قد خرجت معهم ثم رجعت فهلكت. (قال المفسرون): وقوله تعالى: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} , فهذا يتعين عوده على الجملة الأولى دون الثانية؛ لأن مناسبة المعنى تقتضيه. وما هو محتمل للوجهين قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا} , فيتخيل أنه من الجملة السابقة, وإنما هو من لفظ (من) , لأنه أبدل مما تقدم وهو مفرد. سؤال: قال النقشواني: إذا سلمنا العود على الكل تارة وعلى البعض أخرى, لا يلزم الاشتراك ولا المجاز, بل يكون اللفظ موضوعًا للإخراج كيف كان, وهذه أنواع المخرج, كما يكون الإخراج في الحيوان تارة, (وفي النبات

تنبيه: لا تستقيم حكاية الخلاف في هذه المسألة مطلقا

تارة) , وفي الجماد أخرى. تنبيه: لا يستقيم حكاية الخلاف في هذه المسألة مطلقًا, ولا في الشرط, ولا في الصفة الواردين عقيب الجمل؛ لأن الجمل المعطوفة قد تعطف بالحروف الجامعة كالواو, والفاء, وثم, فيكون هذا موطن الخلاف, وتكون الحروف العاطفة الستة الباقية ليس موطنًا للخلاف, ولا تستقيم حكاية الخلاف فيها اتفاقا؛ لأن المراد بها إحدى الشيئين, فكيف يعمها الاستثناء على القول بتعميمه؟ بل ينبغي التوقف (في حتى التي هي حرف عطف)؛ لأنها تتمة وغاية

لغيرها, فينتفي التعميم فيها اتفاقًا, فلا يختلف فيها, أو يقال فيها أمران يشملهما الحكم, فيجزي الخلاف فيها موضع (احتمال) للنظر. أما ما يقتضي أحد الشيئين بعينه وهي ثلاثة: لا, وبل, ولكن, أو لأحد الشيئين لا بعينه نحو: أو, وأم, وأما, فلا يتأتى ذلك فيها؛ لأن المعتبر واحدة من الجمل في ذلك الحكم فقط, فيكون الاستثناء لذلك مختص بمورد الحكم, فتأمل ذلك, ولذلك لما فهرس الشيخ سيف الدين الآمدي هذه المسألة في كتابه الإحكام قال: الجمل المتعاقبة بالواو, ولم يطلق كما أطلق الإمام فخر الدين وغيره كابن برهان في كتابه (الأوسط).

تنبيه: لا ينقض الإجماع في هذه المسألة عود الاستثناء على الجملة الأولى كما في الكتاب والسنة

تنبيه: في الكتاب والسنة اتفق الناس على أنه (عائد) على الجملة الأولى, وليس ذلك خلاف الإجماع في هذه المسألة, إنما هو في اللفظ اللغوي من حيث الوضع, ماذا يقتضي لغة؟ - ما لم يعرض له معارض يعارضه- هل يعود على جميع الجمل, أو يختص بالجملة الأخيرة؟ , ولم يقل أحد بالأولى, أما إذا كان المعارض, فذلك من غير صورة النزاع, فلا يرد عليها, كما في قوله تعالى: {إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم} , فهذا يتعين عوده على الجملة الأولى فإن الاستثناء إنما يكون مما نهي عنه وهو الشرب, ولا ينتظم الاستثناء مع قوله تعالى: {ومن لم يطعمه فإنه مني} , فهذه المناسبة هي الموجبة لتعيين الاستثناء للجملة الأولى. ونظير ذلك أيضًا, الأمر للوجوب, وقد ورد بخمسة عشر محملا, ولم لم يقل أكثر بأكثرها, بل ذلك لعارض خارج عن موجب الأمر لغة اقتضى التجوز لتلك المحامل من التكوين والسخرية, وغير ذلك من تلك المحامل المذكورة في بعضها.

المخصص الثاني المتصل: الشرط

المخصص الثاني المتصل: الشرط وقد تقدم أن هذه المخصصات المتصلة لا يتعين أن تكون مخصصات, بل لا تكاد تقع في غالب الأمر إلا مقيدات, وإن وقعت مخصصة فهي لخصوص تلك المادة إلا للشرط مثلا من حيث هو شرط. وإذا فرعنا على قول الجماعة وأنها مخصصة, فالمراد من الشرط الشرط اللغوي, دون العقلي والعادي والشرعي, وقد تقدم الفرق بينهما, وأن الشرط اللغوي ليس في الحقيقة شرطًا, بل سببًا؛ لأنه يلزم من وجوده الوجود, وشأن الشرط أن لا يلزم من وجوده شيء كالحياة مع العلم, لا يلزم من وجودها وجود العلم البتة, والعام إنما يتصل به الشرط اللغوي, فليكن ملاحظته من حيث هو سبب, ولذلك حده يكون حد السبب, لا حد الشرط, ويكون لفظ الشرط مشتركًا بين الشرط وبعض أنواع الأسباب وهي التعاليق اللغوية, واللفظ المشترك يكون لكل واحد من مسمياته حد يخصه. وحد السبب من حيث هو سبب, الذي يشمل التعاليق اللغوية وغيرها: أنه يلزم من وجوده الوجود, ومن عدمه العدم لذاته. فالقيد الأول احترازًا من الشرط العقلي أو الشرعي أو العادي, فإنه لا يلزم من وجود الطهارة وجود صحة الصلاة, ولا من السلم صعود السطح, وإن كان شرطًا فيه. والقيد الثاني احترازًا من المانع, فإنه لا يلزم من عدمه شيء, فإذا قلنا:

يحتوي هذا المخصص على ثمان مسائل

الدين مانع من وجوب الزكاة, لا يلزم من عدم الدين الزكاة؛ لاحتمال عدم النصاب, ولا عدم وجوب الزكاة؛ لاحتمال وجود النصاب ووجوبها, وكذلك سائر الموانع العقلية والعادية. والقيد الثالث احتراز من أن يخلفه سبب حالة عدمه فيلزم الوجود, لكن ذلك ليس لذاته, بل لأمر خارجي, وهو كونه له خلف وبدل, كما تقول: القتل سبب القتل, فإذا عدم قد يقتل الإنسان بالردة, وهو سبب آخر خلف القتل, والأسباب الشرعية والعادية والعقلية يخلف بعضها بعضا. واحترازا أيضا من أن يكون له شرط أو مانع, فلا يلزم من وجوده الوجود كملك النصاب سبب وجوب الزكاة, ولا يلزم من وجوده وجوب الزكاة؛ لأنه قد جعل له شرط وهو دوران الحول, ومانع وهو الدين, لكن تأخر الوجوب ها هنا لأمر خارج, وهو كونه له مانع أو شرط, أما بالنظر إلى ذاته فهو يقتضي أن يترتب عليه وجوب مسببه من حيث هو لو سلمنا من دلالة الدليل على هذه الأمور الخارجية. وفي هذا المخصص ثمان مسائل: المسألة الأولى. قال الإمام سيف الدين الآمدي: الشرط شرطان, شرط السبب, وشرط الحكم, فما كان عدمه (مخلا) بحكمة السبب (فهو) شرط السبب,

المسألة الثانية: أصل صيغة الشرط "إن"

كالقدرة على التسليم في (باب) البيع, وما كان عدمه مشتملا على حكمة مقتضاها نقيض حكمة السبب, مع بقاء حكم السبب, فهو شرط الحكم, كعدم الطهارة في الصلاة مع الإتيان بمسمى الصلاة. كما أن المانع مانعان, مانع السبب, ومانع الحكم, فمانع السبب: كل وصف يخل وجوده بحمة السبب يقينًا, كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب, ومانع الحكم: هو كل وصف وجودي حكمته مقتضاها نقيض حكمة السبب كالأبوة في باب القصاص مع القتل العدوان. قلت: الطهارة مع الصلاة شرط شرعي, ليس من هذا الباب, بل كثير من المصنفين اغتروا بالاشتراك اللفظي الذي هو موضع للشرط المعروف وبعض أنواع الأسباب الذي هو التعاليق اللغوية, والكل يسمى شرطًا, فجعلوا الباب واحدًا, وليس كذلك. المسألة الثانية: صيغة الشرط أصلها (إن) , وقد تضمنها غيرها من الألفاظ نحو (إذا) في بعض أحوالها نحو: إذا جاء زيد فأكرمه, وقد لا يكون للشرط بل ظرفا محضا, نحو قوله تعالى: {والليل إذا يغشى, والنهار إذا تجلى} , فهي ها هنا حال صرف لا شرط فيها, وتقدير الكلام, أقسم بالليل حالة غشيانه, وبالنهار حالة تجليه. ونحو: متى, ومتى ما, وكيف, وكيفما, وأين , وأينما, وقد تقدم سردها في باب صيغ العموم مستوعبة هنالك, فليكتف بذلك.

قال الإمام فخر الدين: (إن) و (إذا) وإن استويا في أن كل واحد منهما صيغة شرط, لكنهما يفترقان في أن (إن) تدخل على المحتمل لا على المحقق, و (إذا) تدخل عليهما, تقول: أنت طالق إذا احمر البسر وإن دخلت الدار, فالأول محقق, والثاني محتمل, ولا تقول: أنت حر إن احمر البسر, إلا إذا لم يتيقن ذلك. سؤال: إذا قلتم: إن (إن) لا يعلق عليها إلا المحتمل, كيف يرد في كتاب الله تعالى, والله تعالى بكل شيء عليم؟ فكان يلزم أن لا يرد التعليق في كتاب الله تعالى إلا بـ (إذا) ونحوها, أما بـ (إن) فلا, وقد قال الله تعالى: {إن تستغفر لهم سبعين مرة} , وفي آية أخرى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} , وهو كثير. فإن قلت: قول العلماء: (إن) لا يعلق عليها المعلوم, لا يريدون المعلوم

للمتكلم, بل للسامع, والله تعالى بكل شيء عليم. غير أن الخلق لا يعلمون متعلق علمه تعالى, فصح التعليق في كتاب الله تعالى باعتبار السامعين, لا باعتبار المتكلم. قلت: المفهوم من كلامهم أن المقصود بالمعلوم المحقق إنما هو عند المتكلم مع أنه قد وقع التعليق في الكتاب العزيز فيما هو معلوم للمتكلم والسامع معا كقوله تعالى: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} , وقد قال الله تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} , فهو عليه الصلاة والسلام يعلم بهذا الإخبار الرباني وبغيره من قرائن الأحوال أنهم يكذبوه- والله تعالى بكل شيء عليم- فقد وقع التعليق فيما هو معلوم للمتكلم والسامع, وهو محقق مقطوع به. وكذلك قوله تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} , الله تعالى يعلم أنهم في ريب, وهم يعلمون أنهم في ريب, فقد علق المعلوم للمتكلم والسامع, وتعين الإشكال حينئذ. جوابه: أن القرآن عربي, فكلما يحسن من العربي استعماله يرد القرآن به

على منوال العرب, ليكون الكلام عربيًا, فكلما لو كان العربي هو المعلق علق فيه بـ (إن) , فإنه يأتي في القرآن بـ (إن) , وكلما لو كان المعلق عربيًا لا يأتي فيه بـ (إن) , لا يأتي في القرآن بـ (إن) تحقيقًا؛ لكونه عربيًا, ولا يأخذ وصف الربوبية في كونه قرآنا عربيًا, بل (على) منوال العرب فقط. بل ينبغي أن ينبه بحرف آخر, وهو أن يكون الشيء المعلق, شأنه أن يكون مشكوكًا فيه فقط, وقد يكون معلومًا للمتكلم والسامع, كما يقول زيد لعمرو: إن جاء خالد فأكرمه, وزيد وعمرو يعلمان أن خالدًا يجيء, وعملهما بذلك لا يقبح التعليق على (إن) , بسبب أن شأن مجيء خالد أن يكون مشكوكًا فيه. وعلى هذا يتضح الجواب أكثر, فإن المعلق في القرآن, وإن كان معلومًا للسامع والمتكلم, لكن شأن ذلك المعلق أن يكون مشكوكًا فيه, فاندفع الإشكال اندفاعًا بينًا, وهذه قاعدة حسنة يحتاج إليها في عدة مواطن من كتاب الله تعالى, فاضبطها تنتفع بها.

المسألة الثالثة: في أن المشروط متى يحصل؟

ونظير (إن) في أنه لا يعلق عليها إلا غير المعلوم, (متى) , لا يسأل أبها إلا عن زمان مبهم, فلا تقل: متى تطلع الشمس؟ , وكذلك لا يعلق عليها معلومًا, فلا تقل: متى زالت الشمس, وبقية صيغ العموم لا تكاد تدخل إلا على غير المعلوم. قاعدة: عشرة ألفاظ وضعت لعشر حقائق, لا تتعلق بالمعدوم والمستقبل من الزمان: الشرط, وجزاؤه, والأمر, والنهي, والدعاء, والوعد, والوعيد, والترجي, والتمني, والإباحة, فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق, لا يريد دخلة مضت ولا طلاقا متقدم, بل الجميع مستقبل, وكذلك بقية العشرة لا تتعلق إلا بمعدوم, احترازًا من الحاضر, والمستقبل من الزمان, احترازًا من الماضي, وهذه القاعدة جليلة, ولها فوائد كثيرة, وينحل بمعرفتها إشكالات عظيمة, ويتخرج بها مسائل عديدة. المسألة الثالثة: في أن المشروط متى يحصل؟ قال الإمام فخر الدين في المحصول: ذلك يستدعي مقدمة وهي: أن الشرط على أقسام ثلاثة. أحدها: الذي يستحيل أن يدخل في الوجود (إلا) دفعة واحدة بتمامه, سواء كان ذلك في نفسه واحدًا لا تركيب فيه, أو كان مركبًا لا يدخل شيء من أجزائه الوجود إلا مع الآخر.

مثال الأول: مطلق البتة, لا يدخل إلا في زمن فرد دفعة واحدة من غير تعدد. مثال المركب الذي لا يدخل إلا دفعة: هو كل حقيقة مركبة من جزءين يكونان معلولي علة واحدة, متى تحققت تلك العلة تحقق معلولاتها. وهذانك الجزءان يستحيل أن يتقدم أحدهما على الآخر؛ لأن شأن العلة أن لا يتقدم أحد جزئي معلولها قبلها ولا يتأخر عنها كالبنوة والأبوة, هما جزءان معلولان لعلة واحدة هي الوطء الخاص, لا يتقدم أحدهما على الآخر في الوجود, ولا يقعان إلا في زمن واحد. ففي الزمان الذي صدق على الوالد أنه أب, صدق على الآخر أنه ابن. والإشراق والإحراق معلولا النار, فلا يتقدم أحدهما على الآخر في الوجود, بل يتحققان عند تحقق النار, نعم قد يعلم أحدهما قبل الآخر, والعالمية والمعلومية معلولا العلم, فلا يتقدم أحدهما على الآخر البتة. فهذه الأجزاء متى اعتبرها العقل حقيقة واحدة, استحال دخول هذا المركب في الوجود إلا دفعة, ومتى لم يعتبرها العقل حقيقة واحدة, كانا حقيقتين متباينتين من غير تركيب. وثانيها: ما يستحيل أن يدخل بجميع أجزائه في الوجود كالكلام, فإن الحروف لا يمكن النطق منها بحرفين جملة, بل عند النطق بالزاي من زيد

لا ينطق بالياء ولا بالدال, وعند النطق بالدال لا ينطق بالزاي. فلا يمكن أن يوجد كلام مجتمع الحروف البتة, بل لا يدخل الكلام في الوجود إلا مندرجًا. وثالثها: ما يصح أن يدخل في الوجود تارة بمجموعه, وتارة متفرقا, كقوله لعبده: إن أعطيتني عشرة دنانير فأنت حر, فيجوز أن يعطيها له جملة, ويجوز أن يعطيها له دينارًا بعد دينار. إذا تقررت الأقسام الثلاثة, فالمجعول شرطًا حينئذ, إما وجود هذه الأقسام أو عدمها, فإن كان الشرط عدمها, حصل المقصود في الأقسام الثلاثة في أول زمان عدمها, قاله الإمام في المحصول. وفيه نظر؛ بسبب أنه إذا قال لعبده: إن لم تقرأ الفاتحة فأنت حر, فمضى زمن فرد ولم يقراها فقد تحقق الشرط كما قاله الإمام, فإنه علق على العدم, وقد تحقق العدم. وكذلك إذا قال له: إن لم تعطني عشرة دنانير, فمضى زمن فرد ولم يعطه العشرة, تحقق الشرط الذي هو العدم, فالتعليق على العدم يستوي الأقسام الثلاثة في أن الزمن الفرد كاف في تحقق العدم, وهو الشرط, غير أن عادة لسان العرب والأحكام الشرعية تقتضي أن يكون مقصود المعلق أن يكون ذلك العدم شاملا لجميع العمر, ولذلك قال الفقهاء: إذا قال: إن لم أعطك دينارًا فعبدي حر, لا ينجز عليه العتق حتى ينقضي عمره, إلا أن تكون هناك نية أو قرينة أو لفظ مضاف للفظ التعليق يقتضي تعيين زمان معين معجلا

أو مؤجلا, فمتى تحقق العدم في ذلك الزمان المعين ترتب المشروط. غير أن بحثا في هذه المسألة في التعليق من حيث هو تعليق, لا في صميمة أخرى إليه, قال الإمام فخر الدين: وإن كان الشرط وجود هذه الأقسام الثلاثة فنقول: أما القسم الأول, فالحكم يحصل مقارنًا لأول زمان حصول الشرط. وأما القسم الثاني, فإنه يحصل عند حصول آخر جزء من أجزاء الشرط في الوجود, فإنه الذي يعد حصولا لذلك الشرط في اللغة والعادة والشريعة, فإذا نطق بالدال من زيد بعد نطقه بالزاي والياء, يقال: نطق باسم زيد, ولا يحكم أهل العرف بوجود هذه المركبات إلا عند وجود آخر جزء من أجزائها في الوجود, والحكم كان معلقا على وجوده, فوجب أن يحصل الحكم في ذلك الوقت. وأما في القسم الثالث فنقول: وجوده حقيقة إنما يتحقق عند دخول جميع أجزائه في الوجود دفعة واحدة, لكنا في القسم الثاني عدلنا عن هذه الحقيقة للضرورة, وهي مفقودة في هذا القسم, فوجب اعتبار الحقيقة (حتى) إنه (إن) حصل مجموع أجزائها دفعة واحدة ترتب الجزاء عليه, وإلا فلا. هذا مقتضى البحث الأصولي, إلا إذا قام دليل شرعي يقتضي العدول عنه. قلت: وقد قام الدليل الشرعي على عدم اعتبار ذلك, فإن السيد إذا قال لعبده: إن أعطيتني عشرة دنانير فأنت حر, فأعطاه إياها في أزمنة متعددة عتق,

حتى يصرح بقوله: إن أعطيتني إياها مجتمعة, وكذلك يصدق لغة أيضا أنه أعطاه عشرة, فإن إعطاء العشرة يعرض لها وصفان, الاجتماع والافتراق, وهي من حيث هي أعم من كونها مجتمعة أو متفرقة, والتعليق إنما وقع عليها من حيث هي, فيعتق بإعطائها مجتمعة ومفترقة. وبهذا التقرير ننازع الإمام رحمة الله في أن هذا هو مقتضى البحث الأصولي, فإن الأصول مبنية على اللغة. وقوله- أيضًا-: إن المشروط يحصل مقارنًا لأول أزمنة حصول الشرط. وهي مسألة مختلف فيها بين العلماء, هل يحصل المشروط مع الشرط أو بعده؟ . وجه الأول: أن الشرط غايته أن يكون كالعلة العقلية, والعلة العقلية يحصل معها معلولها معًا في الزمان, وإن كانت متقدمة عليه بالذات, ففي الزمان الذي قام بك العلم فيه حصلت لك العالمية, وإن كان العلم قبل العلمية بالذات لا بالزمان. ووجه الثاني: أنه لو حصل معه لم يكن أحدهما مترتبا على الآخر بأولى من العكس, فيجب أن يوجد الشرط في زمان ويترتب عليه المشروط في الزمان الثاني, وعليه يتخرج: إن بعتك فأنت حر, إن قلنا بعده فلا يعتق عليه؛ لأنه بعد البيع يصير في ملك المشتري, وهو لا يعتق عليه ملك غيره, وعلى الأول يقع العتق مع البيع, فلا يصادف ملك المشتري.

المسألة الرابعة: الشرطان إذا دخلا على جزاء واحد

المسألة الرابعة: الشرطان إذا دخلا على جزاء واحد, فإن كانا شرطين على الجمع لم يحصل المشروط إلا عند حصولهما معًا كقوله: إن دخلت الدار وكلمت زيدًا فأنت حر. ولو رتب عليهما جزاءين كان كل واحد من الشرطين معتبرًا في كل واحد من الجزاءين, لا على التوزيع, بل على سبيل الجمع؛ لأن القاعدة أن الفرق حاصل بين الشروط والعلل والأسباب فمتى كان للشيء ألف شرط لا يحصل إلا عند دخول الجميع, وإذا كانت له علل وأسباب, فتحقق واحد منها تحقق عند ذلك السبب وحده وإن لم يوجد معه غيره كنواقض الطهارة, وهو نحو العشرين, ويكفي منها واحد, والطهارة والسترة والنية واستقبال القبلة وغير ذلك شروط, ولا يكفي (في) صحة الصلاة منها واحد, بل لابد من حصول الجميع في صحة الصلاة. وإن جعل الشرطان على سبيل البدل, كان كل واحد منهما كافيا في الحكم لأن الشرط هو المشترك بينهما, وهو مفهوم أحدهما كقوله: إن دخلت الدار أو كلمت زيدًا فأنت حر, وإذا حصل أحدهما عتق. قلت: هذا قول الإمام فخر الدين في المحصول, وبقي عليه قسم آخر, وهو قول القائل: إن دخلت الدار إن كلمت زيدًا فأنت حرة, ولم يأت بشيء من حروف العطف.

قال الفضلاء: هذه مسألة صعبة التصور على أذهان الضعفاء, فإنها إن دخلت ثم كلمت زيدًا لم تعتق, وتعتق إن كلمت زيدًا ثم دخلت (الدار). وفي تحقيق الفرق سر المسألة, فإنه لما قال: إن دخلت الدار, جعل دخول الدار شرطًا وسببا لطلاق امرأته, ثم إنه جعل لهذا الشرط شرطًا ف اعتباره وهو كلام زيد, وكذلك يسمون الثاني شرط الشرط, فيكون كلام زيد سببًا وشرطًا في اعتبار دخول الدار, وسببًا لعتقها. والقاعدة: أن الشيء إذا وجد قبل سببه سقط اعتباره, كوقوع الصلاة قبل الزوال, فإذا وقع دخول الدار قبل كلام زيد, لا يكون معتبرًا, بل وجوده وعدمه سواء, فإذا كلمت زيدا بعد ذلك لا يلزمه عتق؛ لأنه لم يوجد سببه الذي هو دخول الدار المعتبر, فإذا كلمت زيدا أولا ثم دخلت الدار, وقع دخول الدار بعد سبب اعتباره, فيصير كوقوع الصلاة بعد الزوال, فيلزمه العتق أو الطلاق, أي شيء علقه على هذا الوجه الذي صدرا في التعليق المتقدم في اللفظ متقدم على الوقوع, والمتأخر في اللفظ متأخر في الوقوع ولم يلزم المشروط ومتى عكس فجعل المتقدم متأخرا في الوقوع, والمتأخر في اللفظ متقدمًا في الوقوع لزم المشروط, فهذا (هو) ضابط هذه المسألة وسرها, والفرق بين

المسألة الخامسة: الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين

حالتيها, وهي من المسائل التي يطرحها الفضلاء بعضهم على بعض, مع أن إمام الحرمين في النهاية اختار فيها أن يكون الحكم فيها كالحكم في الشرطين المعطوفين بالواو, فإن صورتها صورة عطف البيان, وهو ملحق بعطف النسق بالحروف وللمتكلم أن يورد شرطًا على شرط, ويجعل المشروط موقوفا على ورودهما, تقدم الأول أو تأخر, وكون الثاني شرط الشرط أمر يحتاج إلى نية, والأصل عدم ذلك, والكلام في هذه المسألة حيث لا نية. المسألة الخامسة: الشرط الواحد إذا دخل على مشروطين: فإما أن يدخل عليهما على سبيل الجمع, أو على البدل. فالأول كقولك: إن دخلت الدار فعبدي حر, وعلي صدقة دينار, ومقتضى هذا التعليق لزومهما عند حصول الشرط. والثاني كقولك: (إن دخلت الدار فعبدي حر, أو علي صدقة دينار) , ومقتضى هذا التعليق أحدهما لا يعنيه, وللقائل أن يعين ما شاء منهما؛ لأنه علق بصفة التخيير, فيختار, هذا كلام الإمام فخر الدين في المحصول. وقال الشيخ سيف الدين الآمدي في الإحكام, وأبو الحسين البصري في كتاب المعتمد: هذه المسألة تسعة أقسام؛ لأن الشرط والمشروط: - إما أن يتحدا, أو يتعدد أحدهما, وما يتعدد منهما: - فإما على الجمع, أو على البدل, فهذه تسعة أقسام. الأول: إن جاء زيد, وسلم عليك, فأعطه دينارًا ودرهمًا, فإذا فعلهما

أعطيته إياهما، وإن اختل أحدهما لم تعطه شيئًا. الثاني: إن جاءك، وسلم عليك، فأعطه دينارًا أو درهمًا، فإن فعلهما أعطيته أحدهما، وإن اختل أحدهما، لم تعطه شيئًا. الثالث: أن يقول: إن جاءك، أو سلم عليك، فأعطه دينارًا ودرهمًا، فإن فعل أحدهما أعطيته إياهما معًا، وإن لم يفعل شيئًا لم يستحق شيئًا. الرابع: أن يقول: إن جاءك، أو سلم عليك، فأعطه دينارًا، أو درهمًا، فإن فعل أحدهما أعطيته درهمًا، وإن لم يفعل أحدهما لم يستحق شيئًا. الخامس: أن يقول: إن جاءك، وسلم عليك، فأعطه دينارًا، فإن فعلهما استحقه، وإن لم يفعلهما معًا لم يستحق شيئًا. السادس: أن يقول: إن جاء أو سلم عليك فأعطه دينارًا، أو درهمًا، فإن فعل أحدهما، استحقه وإن لم يفعل شيئًا لم يستحق شيئًا. السابع: أن يقول: إن جاءك فأعطه دينارًا، أو درهمًا، فإن جاءك استحق أحدهما وإن لم يفعل، لم يستحق شيئًا. الثامن: أن يقول: إن جاءك فأعطه دينارًا ودرهمًا، فإن فعل المجيء استحقهما وإن لم يفعل لم يستحق شيئًا. التاسع: أن يقول: إن جاءك فأعطه درهمًا، فإن جاءك استحقه، وإلا فلا. فهذه تسعة: إذا تعددا معًا، فيه أربعة مسائل: أن يكون الشرط وجزاؤه بالواو، وأن يكونا معًا بأو، وأن يكون الشرط وحده بالواو وجزاؤه بأو، وأن يكون الشرط بأو وجزاؤه بالواو.

المسألة السادسة: أقوال العلماء في الشرط الداخل على الجمل، هل يعود على جملتها أم لا؟

وإن تعدد الشرط وحده ففيه مسألتان: - أن يكون الشرط بالواو، وبأو. وإن تعدد الجزاء وحده ففيه مسألتان: - أن يكون بالواو، وبأو. وإن اتحدا معًا، فهي التاسعة. فرع: فلو قال: إن جاء زيد فزينب طالق أو عمرة، بصيغة (أو) التي تقضي طلاق إحداهما، بعينها، ينبغي أن يجري فيه الخلاف الذي بين العلماء فيما إذا قال: إحداكما طالق وظاهر مذهب مالك رحمه الله تعميم الطلاق فيهما معًا؛ لأن (أو) هي التي تفيد معنى إحداهما. المسألة السادسة: اختلفوا في الشرط الداخل على الجمل، هل يرجع إلى جملتها أم لا؟ فاتفق الإمامان الشافعي، وأبو حنيفة رحمهما الله: على رجوع حكمه إلى جميع الجمل- وإن كان أبو حنيفة قد منع في عود الاستثناء إلى الجمل، وخصه بالجملة الأخيرة. وقال بعض العلماء: تختص بالجملة التي تليه، حتى إنه إن كان متأخرًا

المسألة السابعة: اتفاق العلماء على وجوب اتصال الشرط بالكلام

اختص بالأخيرة، وإن كان متقدمًا (اختص) بالأولى. واختار الإمام فخر الدين التوقف، كما اختاره في الاستثناء. والفرق على قول أبي حنيفة بين الاستثناء والشرط: أن التعاليق اللغوية أسباب، والأسباب مظان الحكم والمصالح والمقاصد، فيتعين تعميمه تكثيرًا للمصلحة والحكمة، والاستثناء إنما هو إخراج لما هو غير مراد، ولعله لو بقي لم يخل بحكمه المذكور الذي هو مراد، فأمر الاستثناء ضعيف، وهو يكر على اللفظ بالتخصيص، فيختص بالأخيرة، تقليلًا لمفسدة التخصيص. حجة القول بعودة على ما يليه خاصة: أن القرب يوجب الرجحان، فيختص بالجملة التي هي أقرب إليه كما في الاستثناء، وهو فيه- أيضًا- مفذة التخصيص، بل قد يبطل الكلام بالكلية، ألا ترى إذا قال: أكرم بني تميم واخلع على خزاعة إن أطاعوا الله تعالى، فإطلاق الكلام أولًا يقتضي تعميم الحكم في القبيلتين، فإذا علق، أمكن ألا يطيع إحداهما، فيبطل الحكم في حقها وألا يطيعا معًا، فيبطل الحكم في حقهما معًا، وأن يطيعا معًا فيثبت الحكم لهما معًا، والشرط بصدد التخصيص (والاتصال وهما مفدتان، فيقتصر على أقل ما يمكن في ذلك وهو الجملة الواحدة، ويتعين) القرينة للقرب. المسألة السابعة: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، ودليله ما مر في الاستثناء.

واتفقوا على أنه يحسن التقييد به وإن كان الخارج بسببه أكثر من الباقي، وإن اختلفوا في ذلك في الاستثناء، وعلى أنه يبطل جملة الكلام بالتقييد به، وإن اتفقوا على أن ذلك باطل في الاستثناء. ووجه ما تقدم: أنه سبب، فهو موضع الحكمة والمصلحة، والمصلحة يتعين التعجيل في التنصيص عليها والاهتمام بذكرها، فلذلك اتفقوا على وجوب الاتصال، بخلاف الاستثناء فقد يجوز تأخيره، لضعف الداعية لذكره؛ لأنه إخراج لما ليس فيه مصلحة الكلام، وقد لا يخل بقاؤه مع المقصود، هذا إذا فسرنا الاستثناء بإلا وأخواتها، وإن فسرناه بمشيئة الله والتعليق عليها- كما هو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما- فالفرق، وإن كان كل واحد منهما تعليق وسبب متضمن للحكمة كما (تقدم): أن الاستثناء بمشيئة الله تعالى رافع لما تقدم ومعارض له ومضاد، وهذه الأمور على خلاف الأصل، والشرط اللاحق للجمل لم تتعين مخالفة الأصل في التعليق بالشرط، بل جاز حصول الشرط في جميعها، فلا يحصل إبطال لشيء مما اقتضاه اللفظ، ويكون الشرط زائدًا في المصالح، لا معارضًا لشيء منها، بخلاف المشيئة المعارضة الرافعة لحكم ما تقدم من اليمين، فضعف عن رتبة الشرط العام، فلم تتوفر العناية به على تعجيل النطق به عند ذكر الحكم على رأي من يرى ذلك.

والفرق- أيضًا- في إخراج الأكثر وإبطال الكل كما إذا قال: أكرم بني تميم واخلع على خزاعة إن أطاعوا الله تعالى، فلا يطيع الأكثر، (فيبطل الحكم فيه، بسبب الشرط، أو لا يطيع الكل) فيبطل الحكم في الكل، بسبب الشرط، فيجوز اتفاقًا، بخلاف الاستثناء؛ لأن الاستثناء إذا أخرج به أكثر ما نطق به نحو: له عشرة إلا تسعة، عد أهل العرف المتكلم مقدمًا على النطق بما لا يحتاجه لغير ضرورة، وأنه أقر ثم أنكر، وأنه يناقض لفظه، واشتغل بما لا فائدة فيه وهو النطق بلفظ لم يرد معناه، وهو يعلم بذلك، وهو مقدم عليه، فيعاب ذلك عليه على رأي القاضي وغيره. فأما الشرط، فلم يتعين فيه شيء من ذلك، فإذا قال: (أكرم قريشًا، فهذا يقتضي إكرام جميعهم، فإذا قال): إن أطاعوا الله تعالى: يحتمل أنهم كلهم يطيعون الله، فلا ينخزم من الكلام الأول شيء، ويحتمل ألا يطيع منهم أحد، فلا يبقى من الكلام الأول شيء، ويحتمل البعض والبعض، لكن عند النطق، لم يتعين الإبطال في فرد منهم، بل يكون ذلك قبيحًا، ولا يعده أهل العرف مشتغلًا بالهذر من الكلام ولا قاصدًا لما لا فائدة فيه،

المسألة الثامنة: اتفاق العلماء على جواز تأخير النطق بالشرط وتعجيل النطق بلفظه

ولا ناطقًا بما لا يحتاجه لعدم يقين الإبطال، فلذلك حسن الشرط، وإن أبطل جملة الكلام بل كله، بخلاف الاستثناء. المسألة الثامنة: اتفقوا على جواز تأخير النطق بالشرط وتعجيل النطق بلفظه، واختلفوا في أي ذلك أولى؟ فقال الفراء: تأخير النطق به أولى؛ لأن الشرط لا يستقل بنفسه، فأشبه الحال والتمييز والمفاعيل؛ لأن الكل فضلة في الكلام، وهذه الأمور كلها الأحسن تأخيرها، فكذلك الشرط يكون- أيضًا- كالغاية والصفة، وهذه المواطن حصل فيها الاتفاق. ويرد عليه أن الفرق بين الشرط وغيره: أن الشرط سبب متضمن للحكمة والمصلحة بخلاف هذه الأمور، لأن النحاة يقولون: الشرط له صدر الكلام وإن تأخر في النطق، وأن جوابه لا يتقدم عليه، وأنا إذا قلنا: أنت حر (إن دخلت الدار، فقولنا: حر) سد مسد الجواب عندهم، وليس بجواب في الحقيقة؛ لأن جواب الشرط لا يتقدم عليه، بل وضعه أن يكون متأخرًا، وبالغوا في ذلك فقالوا: المفعول إذا تقدم مفعول متقدم، ولم يقولوا في جواب الشرط: جواب متقدم، مع أن كليهما على خلاف الأصل، بل قالوا: سد مسد الجواب، ولم يقولوا: جواب متقدم، فقد سامحوا في المفعول ما لم يسامحوا في جواب الشرط، وذلك يدل على أن الشرط يقتضي هذه الرتبة اقتضاء قويًا أشد من اقتضائه تأخير المفعول عن الفاعل وعن الفعل وهذا كله يؤكد قول القائل بالتقديم.

حجة القول بالتقديم: أن الشرط سبب، والأسباب مؤثرة في مسبباتها، ووضع المؤثر وطبعه أن يكون متقدمًا على الأثر بالذات. وما كان متقدمًا طبعًا وجب أن يتقدم وضعًا؛ تسوية بين التقدم الطبعي والتقدم الوضعي، وهو متجه.

المخصص الثالث المتصل: الغاية

المخصص الثالث المتصل: الغاية وغاية الشيء طرفه ومنقطعه، وفيه ثلاث مسائل المسألة الأولى: ألفاظ الغاية وهي: حتى، وإلى، كقوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}، وقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق}. واختلف في مدلول هذه الصيغ، هل هو وجودي؟ وهذا يرجع إلى الخلاف بين العلماء في سطح الشيء هل هي وجودي أو عدمي؟ بناء على أن سطح الجسم (آخر أجزاء) الجسم، فيكون وجوديًا؛ لأن آخر أجزائه هو الجزء الأخير، والجزء الأخير وجود، فالسطح وجودي، أو سطح الجسم فناء أجزائه وانقضاؤها وهو أول عدم غيرها، فيكون السطح عدميًا، والغاية والنهاية والسطح معنى الجميع واحد فيكون الخلاف فيها واحدًا.

المسألة الثانية: الحكم فيما وراء الغاية نقيض الحكم الذي قبلها

المسألة الثانية: التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية وهو نقيض الحكم الذي قبلها؛ لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم تكن الغاية منقطعًا، فلم تكن الغاية غاية، وهذا معنى قول العلماء: إن الغاية لها مفهوم وهو أحد أقسام مفهوم المخالفة. وأما ما جعل غاية في نفسه، فهل يندرج في حكم المغيا أم لا؟ أربعة مذاهب: أحدها: ما يندرج، كما في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق} والمرافق تغسل مع اليد. وثانيها: لا يندرج، كما في قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، فالليل لا يصام مع النهار إجماعًا. وثالثها: التفصيل بين أن يكون من جنس المغيا فيندرج، أو من غير جنسه فلا يندرج كما في قوله: بعتك هذا الرمان من هذه الشجرة إلى هذه

الشجرة، فإن كانت الشجرة التي جعلت غاية رمانا دخلت في البيع، أو غير رمان لا تندرج في البيع. ورابعها: التفصيل بين أن يكون بينهما فرق حسي فلا يندرج كما في قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، فإن الليل أسود والنهار أبيض، والسواد والبياض يدركان بالحس، أو يكون الفصل بينهما غير حسي فيندرج كما في قوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق}، فإن المرفق لا يدك الفصل فيه بالحس، بل بالعقل، بناء على مجاري العادات، فإن الإنسان إذا ثنى ساعده على عضده يدرك بالحل اجتماعهما، وحركة الساعد للعضد، أما أن عظم الساعد غير عظم العضد فهو أمر لا يدرك بالحس بل بالعقل،

يقال: جرت العادة بأن العظم الواحد لا ينثني لصلابته، فحيث انثنى دل انثناءه على أنهما عظمان، أما البهيمة التي ليس لها إلا الحس فإنها تقتصر على المقام الأول، وهو إدراك الحركة والالتصاق بين الساعد والعضد، ولا يعرف أن هناك فصلاً بين العظمين أم لا. وعلى هذا المذهب يجاب عن قول القائل: لم كانت الغاية مندرجة في الوضوء دون الصوم؟ بأن الغاية غير معلومة بالحس في الصوم دون الوضوء، فإنه لما لم يكن المرفق منفصلًا بمفهوم معلوم بالحس لم يكن تعيين بعض المفاصل لذلك أولى من بعض، فوجب دخولها في حكم ما قبل الغاية، هذا هو الذي رأيته للأصوليين منقولًا هكذا مطلقًا. والذي أراه التفصيل بين (حتى) و (إلى)، فلا ينبغي أن يجري في (حتى) خلاف البتة، بل يقال: الغاية فيها مندرجة قولًا واحدًا؛ لأن النحاة قالوا: إن المعطوف بحتى يشترط فيه أربع شروط: أن يكون من جنسه، داخلا في حكمه آخر جزء منه، أو متصلا به، فيه معنى التعظيم أو التحقير فصرحوا فيه بأنه مندرج في حكم ما قبل الغاية، ولم أر في هذا الشرط خلافا عند النحاة، ولم يذكروا هذا الشرط فيما بعد (إلى)، وحكاية الأصوليين الخلاف مطلق من غير تفصيل، وقول النحاة فيه تفصيل فينبغي أن يحمل الإطلاق على التفصيل، ويكون الخلاف مختصًا بـ (إلى) دون (حتى).

فائدة: من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية

فائدة: قال الفضلاء والأصوليون والنحاة: من شرط المغيا أن يثبت قبل الغاية ويتكرر حتى يصل إليها كقولنا: سرت من مصر إلى مكة، فالسير الذي هو المغيا ثابت قبل مكة ويتكرر في طريقها، وعلى هذه القاعدة يمتنع أن يكون قوله: {وأيديكم إلى المرافق} غاية لغسل اليد؛ لأن غسل اليد إنما يحصل بعد الوصول إلى الإبط، فليس ثابتًا قبل المرفق الذي هو الغاية، فلا ينظم غاية له. نعم لو قال الله تعالى: اغسلوا إلى المرافق، ولم يقل: أيديكم، انتظم، لأن مطلق الغسل ثابت قبل المرفق ومتكرر إليه، بخلاف غسل جملة اليد فلهذه القاعدة قال بعض فضلاء الحنفية: يتعين أن يكون المغيا غير الغسل المتقدم ذكره، ويتعين إضمار فعل آخر يكون عاملا في المجرور بإلى، فيكون التقدير: اتركوا من إباطكم إلى المرفق، فيكون مطلق الترك ثابتًا قبل المرفق ومتكرر إليه، أو يكون الغسل نفسه لم يغيا به، وفرع هذا القائل على أن الغاية لا تندرج في حكم ما قبلها. قلت: وفي هذا المقام يتعارض المجاز والإضمار، فإن لنا أن نتجوز بلفظ

اليد إلى جزئها حتى يثبت المغيا قبل الغاية، ولا يحتاج إلى إضمار، أو لا نتجوز بلفظ اليد إلى جزئها، فيضمر (على) ما قاله الحنفي، والمجاز أولى من الإضمار على ما قاله الإمام فخر الدين في المعالم؛ لأن المجاز أكثر والكثرة دليل الرجحان، أو هما سواء كما قاله في المحصول؛ لأن كل واحد منهما يحتاج لقرينة، ومن هذا النمط قوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، يقتضي ثبوت الصوم بوصف التمام قبل غروب الشمس، ويتكرر إلى غروب الشمس، وليس كذلك إجماعًا، بل لا يتم الصوم إلا بغروب الشمس، فلا يثبت قبله حتى يثبت البتة، فتشكل الآية على هذا. نعم لو قال: صوموا إلى الليل، انتظم؛ لأن الصوم الشرعي ثابت قبل الليل ومتكرر إليه، بخلاف الصوم بوصف التمام. أورد هذا السؤال الشيخ عز الدين رحمه الله، وأجاب عنه: بأن المراد: أتموا كل جزء من أجزاء الصوم بسننه وفضائله وكرروا ذلك إلى الليل في الأجزاء، فانتقلوا من جزء إلى جزء حتى يأتي الليل، فإن الكمال في الصوم قد يحصل في جزء من أجزاء النهار دون جزء، من اجتناب الغيبة والكذب والنميمة وغير ذلك مما يأباه الصوم، وكذلك آدابه الخاصة به كترك السواك بالأخضر، واجتناب البخورات، والتفكير في أمور النساء، وغير ذلك مما نص

المسألة الثالثة: يجوز اجتماع غايتين

عليه الفقهاء، فأمرونا بتكرار هذا إلى غروب الشمس، فيثبت المغيا قبل الغاية ويتكرر إليها، فيحصل مقصود القاعدة. المسألة الثالثة: قال الإمام فخر الدين في المحصول: يجوز اجتماع غايتين كما لو قيل: لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن، فها هنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة؛ لأنها هي الطرف المحقق، وعبر عن الأولى بلفظ الغاية مجازًا، لقربها منها واتصالها بها. قلت: وفي كلامه نظر في خصوص هذا المثال الذي مثل به، فإن هاتين غايتان لسببين، فما اجتمع غايتان. بيانه: أن التحريم الناشئ عن دم الحيض غايته انقطاع الدم، فإذا انقطع حدث تحريم آخر ناشئ عن عدم الغسل، والغاية الثانية غاية هذا التحريم الثاني، ولذلك قال الفقهاء: إن حكم الحائض بعد انقطاع الدم حكم الجنب،

تنبيه الغاية بعد جملة واحدة أو جمل متعددة

فإذا جوزنا للحائض قراءة القرآن خشية نسيانها لما تحفظه من القرآن، فإنما نمنعها حينئذ من القراءة كما نمنع الجنب؛ لأنها متمكنة من إزاة المانع كالجنب. تنبيه: زاد الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله في تفاريع هذه المسألة فقال: إما أن تكون الغاية بعد جملة واحدة أو جمل متعددة. والأول: إما أن تكون الغاية واحدة أو متعددة، فالواحدة كقولنا: أكرم بني تميم أبدًا إلى أن يدخلوا الدار، فلولا الغاية لعم الإكرام ما بعد الغاية. والمتعددة: إما على الجمع أو على البدل، والأول: كقولنا أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا الطعام، فيستمر الإكرام إلى تمام الغايتين، والبدل: كقولنا: أكرم بني تميم أبدًا إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا الطعام، فيستمر الإكرام إلى حصول إحدى الغايتين لا بعينها دون ما بعدها. وإن كانت عقيب جمل فهي تختص بالأخيرة أو تعم، كانت واحدة أو متعددة، على الجمع أو على البدل، الكلام فيه كالكلام في الاستثناء عقيب الجمل في الشمول والاختصاص بالأخيرة، وأمثلتها ظاهرة مما تقدم، ووافق

فائدة: في اندراج الغاية في المغيا

الشيخ سيف الدين في هذه التفاصيل أبا الحسين في المعتمد. قلت: وإذا قال القائل: لا تكرم زيدًا حتى يأتيك فإذا أتاك فأكرمه، فليس هاهنا غايتان، بل إعادة الغاية الأولى؛ ليترتب عليها الحكم بطريق التنصيص الذي هو أقوى من مفهوم الغاية. وكذلك قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} تحريم مغيا احتمل أن تتعقبه الإباحة، واحتمل أن يتعقبه عدم الحكم بالكلية، فإن عدم التحريم أعم من الإباحة، فأعاد الله تعالى الغاية بعد هذه الغاية بقوله تعالى: {فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله}، ليترتب عليه افذن الشرعي، فما في الآية تأكيد ولا فيها غايتان كما ظنه بعض الفضلاء. فائدة: قال التبريزي في اختصار المحصول (له): هل يجب أن تكون الغاية أول جزء من المعجول غاية إذا كان ذا أجزاء أو آخر جزء منه. فيه خلاف. قلت: وهذا فيه خلاف آخر في اندراج الغاية في المغيا، ولم أر هذا الخلاف حكاه إلا التبريزي، وغيره يحكي الاندراج مطلقًا ولم يتعرض للأجزاء، وجماعة من الفضلاء حكوا- أيضا- الخلاف في اندراج ابتداء الغاية في المغيا كقولك: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، هل تندرج الشجرة الأولى التي صحبتها (من) في البيع أو لا؟ خلاف.

المخصص الرابع المتصل: التقييد بالصفة

المخصص الرابع المتصل: التقييد بالصفة والصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شيء واحد كقولنا: رقبة مؤمنة، ولا شك في عودها إليها، أو عقيب شيئين، وها هنا إما أن تكون إحداهما متعلقة بالأخرى، كقولنا: أكرم العرب والعجم المؤمنين، قال الإمام فخر الدين: فهاهنا تكون الصفة عائدة إليهما. وإما أن لا تكون كذلك كقولنا: أكرم العلماء، وجالس الفقهاء الزهاد، قال: فها هنا تعود الصفة إلى الجملة الأخيرة، وفيه مجال للبحث والنظر كما تقدم في الاستثناء والشرط، وكون الجملة الأخيرة مفتقرة للأولى باعتبار اسمها من جهة الضمير أو فعلها كالمعطوفة بالواو، ونحو ذلك من المباحث المتقدمة في الاستثناء.

الباب الحادي والعشرون في المخصصات المنفصلة

الباب الحادي والعشرون في المخصصات المنفصلة وهي إما أن تكون بغير السمع، أو بالسمع، فهذان فصلان: الفصل الأول: [فيه] أقسام خمسة: الأول: التخصيص بالعقل، كقوله تعالى: {الله خالق كل شيء}، فإنا نعلم بالضرورة العقلية أن كل ما هو واجب الوجود لا يندرج في المراد بهذا العموم، وهو ذات الله وصفاته العلا. واختلف الناس في التخصيص بالعقل:

الفصل الأول: التخصيص بغير السمع، وهو خمسة أقسام

قال الإمام فخر الدين رحمه الله: والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في (اللفظ). أما أنه لا خلاف في المعنى فلأنه لما دل الدليل من قبل العموم على ثبوت الحكم في جميع الصور- والعقل منع من ثبوته في بعض الصور- فإما أن نحكم بصحة مقتضى العقل والنقل، فيلزم صدق النقيضين وهو محال (أو نرجح النقل على العقل وهو محال)، لأن العقل أصل في النقل من جهة أن النقل يتوقف في كونه حجة على شهادة العقل في المعجزة بأنها دالة على النبوة (حتى) يكون المخبر بذلك السمع معصومًا، فالقدح في العقل حينئذ قدح في أصل النقل، والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا. وإما أن نرجح حكم العقل على مقتضى العموم، وهذا هو المراد من تخصيص العموم بالعقل. وأما أن البحث لفظي: فهو أن المخصص العقلي هل يسمى مخصصا أو لا؟ فنقول: إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مدلوله، فالعقل غير مخصص؛ لأن المقتضي لذلك الاختصاص

هو الإرادة القائمة بالمتكلم، والعقل يكون دليلًا على تحقق تلك الإرادة، فالعقل يكون دليل المخصص لا نفس المخصص، ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصًا للكتاب ولا السنة للسنة، لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ. قال الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله: منع التخصيص بالعقل طائفة شاذة (من المتكلمين) لشبهات ثلاث: أحدها: أن دلالة اللفظ بالوضع، والواضع لا يضع لما هو معلوم الخروج مقطوع به، وإنما يضع لما لم يمكن إرادته، والمستحيل لا يمكن أن يراد، فلا يتناوله اللفظ، فلا يتصور التخصيص؛ لأنه فرع التناول. وثانيها: أن التخصيص بيان، والخارج بالعقل بين فلا يحتاج للبيان؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل. وثالثها: العقل لا يكون ناسخًا، فلا يكون مخصصًا. والجواب عن الأول: أن صيغة العموم لم توضع لخصوص مادة حتى يتعين فيها الوضع للمستحيل، بل لتعميم المذكور، وقد يكون ممكنا وقد لا يكون، فالاستحالة إنما جاءت من خصوص المادة لا من الوضع من جهة التركيب مع الحكم الخاص وصيغة العموم لا من لفظ العموم من حيث هو عموم، فيلزم

من ذلك عدم الإرادة في هذا المركب الخاص، ولا يلزم من ذلك عدم وضع لفظ العموم للعموم. وعن الثاني: أن البيان إنما حصل بدليل العقل، وإنما يلزم تحصيل الحاصل أن لو حصل البيان قبله، بل به. وعن الثالث: أن النسخ بيان مدة الحكم، والعقل لا يتصور منه بيان المدة، فإن هذا حكم في أحد طرفي الجائز، بل لا يعلم ذلك إلا بغير العقل والذي يفرق بين جائز وجائز، أما العقل فيسوي بين الجائزات في الجواز، ولا يستقل إلا في ثلاثة مواطن: جواز الجائزات، ووجوب الواجبات، واستحالة المستحيلات. وقال الإمام فخر الدين رحمه الله: يصح النسخ بالعقل؛ لأن من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عرف بالعقل. قلت: وهذا باطل لوجهين: أحدهما: أن (ثبوت الأحكام) في الشريعة يتوقف على حصول محالها وشروطها، فانتفاء الأحكام عند انتفاء المحل والشروط، لا يكون نسخًا، وإلا كان يلزم أن من افتقر وذهب النصاب منه أنه يقال: إنه نسخ وجوب الزكاة في حقه، فيلزم انسخ بعد وفاته عليه الصلاة والسلام (في حق كل واحد)، وكذلك إذا تعذر المحل الذي (يلزم) فيه الطلاق أو العتق أو غيرهما، يلزم أن يكون ذلك كله نسخًا، ولا قائل به، بل لا نسخ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

القسم الثاني: التخصيص بالحس

وثانيهما: أن الصحيح جواز تكليف ما لا يطاق، فيجوز تكليف من سقطت رجلاه أن يغسل رجليه، فلو سلمنا أنه نسخ لمنعنا أن يكون العقل دليلا عليه؛ لأن العقل يجوز التكليف حينئذ، بل إنما يعلم ذلك من جهة السمع، أو نقول: يبقى التكليف متعلقًا بغسل الرجلين بعد قطعهما وبغسلهما مقطوعتين. القسم الثاني: التخصيص بالحس، كالشم والذوق، والبصر، واللمس، فإن هذه الحواس قد تفيد أن بعض أفراد العموم غير مندرج في حكمه، كقوله تعالى: {تدمر كل شيء}، فإن البصر شاهد أنها لم تدمر الأرض والجبال والسماوات والبحار وغير ذلك، وأن هذا الحكم لا يتناول هذه الصور في حالة من الحالات، غير أنه لابد مع الحس من نظر عقلي يجمع بين العموم وما شوهد بالحس، ونقول: هذه الأفراد غير مندرجة في حكم هذا العموم، أما الحس وحده فليس كافيًا إلا في المشاهدة، أما في حصول التخصيص فلا، ولذلك أن البهيمة تشاهد بقاء هذه الأمور ولا تقضي بالتخصيص لعدم العقل من جهتها، وكذلك ما يدرجه الشم من الروائح في تلك الحالة، أو يدركه

القسم الثالث: التخصيص بالواقع

اللمس، أو يدركه اللسان من الطعوم، بل تكون هذه الأمور مع النظر العقلي مخصصات لهذه المدركات. القسم الثالث: التخصيص بالواقع، كقوله تعالى في حق بلقيس: {وأوتيت من كل شيء}، ودل الواقع في العالم أنها م تؤت ملك سليمان ولا بعض التصرف في الجان والرياح والوحش كما كان سليمان عليه السلام يتصرف فيها، ولم تؤت من النبوة شيئًا، ولا من الذكورة، ولا من مقامات الملائكة، ولا من الكواكب، وهو كثير، فيكون الواقع مخصصًا لهذه الحقائق من حكم هذا العموم. ونعني بالواقع: أنا وجدنا الأمر على هذه الصورة، وليس ذلك بالعقل، فإن العقل يجوز أن تعطي هذه الأمور، ولا بالحس فإن الحس لا مدخل له في الملك ولا في الملك، فإنهما حكمان خفيان لا يدركان بالحس؛ لأن مدركات

القسم الرابع: التخصيص بقرائن الأحوال

الحواس الخمس معلومة وليست هذه الأمور منها، والمشاهدة في ذلك الوقت لا تفيدها، فسمت العلماء ذلك التخصيص بالواقع. القسم الرابع: التخصيص بقرائن الأحوال، كقول القائل: صحبت العلماء فما رأيت أفضل من زيد، ونحن نعلم بقرائن أحوال هذا القائل أنه ما رأي جميع العلماء في الزمن الماضي والمستقبل، وكذلك يقول: رأيت إخوتك، وقرينة حالة دالة على أنه ما رأى بعضهم، ثم قرائن الأحوال لا تفي بها العبارات، إنما هي شيء يدركه العقل فيحكم به. القسم الخامس: التخصيص بالعوائد، كقول القائل: من دخل داري فله درهم، فإنا نعلم بالعوائد أنه لم يرد الملائكة ولا الجن ولا ملوك الهند، وإنما أراد من جرت العادة بدخوله الدار، وكذلك إذا قال: من جاءني بعبدي الآبق فله دينار، نعلم أنه لم يرد ملك المدينة ولا قاضيها، وإنما يستعمل هذا العموم فيمن جرت عادته أنه يأتي بالإباق. ومنه قوله تعالى: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا}، ولفظ الأبد عام في الأزمنة المستقبلة، والعوائد دلت على أن الإنسان لا يعيش أبدًا، وأن هذا

القاذف لابد أن يموت، فتخصصه بالعادة، ونقول: المراد بالأبد مدى الحياة. وحيث قلنا بالتخصيص بالعوائد، فمن شرط العادة أن تكون مقارنة لزمن التلفظ، فإن العادة المتأخرة عن زمن (التلفظ) لا عبرة بها فيما تقدمها، ألا ترى أنه لو باعه بعشرة دراهم ولم يعين السكة، تعينت السكة الجارية بها العادة حالة (العهد) والعقد دون ما يتجدد بعد زمن العقد أو كان قبله وبطل، كذلك لا يعتبر من العوائد إلا ما قارن، دون السابق والمنقطع واللاحق الذي لم يوجد حالة العقد. وبهذه القاعدة لا يخصص حديثًا نبويًا ولا آية في كتاب الله تعالى بعادة (إلا إذا كانت موجودة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وكذلك لا تقيد بها) إلا إذا كانت كذلك. وكذلك ألفاظ الحالفين والموصين في الوصايا وألفاظ الأوقاف، لا يقضي عليها إلا بالعوائد المقارنة، دون ما تقدمها وانقطع وما حدث بعدها ولم يكن مقارنًا لها.

الفصل الثاني: التخصيص بالدلائل السمعية وهي قسمان: قطعية السند متواترة، وظنية السند أخبار آحاد

الفصل الثاني: التخصيص بالدلائل السمعية وهي قسمان: قطعية السند متواترة، وظنية السند أخبار آحاد. القسم الأول: التخصيص بالمقطوع السند، وفيه سبع مسائل: المسألة الأولى: تخصيص الكتاب، جائز عندنا، خلافًا (لبعض) أهل الظاهر. استدل الأصحاب بوقوعه على جوازه بقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن

بأنفسهن ثلاثة قروء} مع قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجهلن أن يضعن حملهن}. وبقوله تعالى: {لا تنكحوا المشركات} مع قوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}. قالوا: ووجه التقرير، إما أن يجمع بين دلالة العام على عمومه والخاص على خصوصه (وذلك محال)؛ لاجتماع النفي والإثبات في مدلول الخصوص. وإما أن يرجع أحدهما على الآخر، وحينئذ زوال الزائل إن كان على سبيل التخصيص فقد حصل الغرض، وإن كان بالنسخ، فقد حصل الغرض أيضا؛ لأن (كل) من جوز نخ الكتاب بالكتاب، جوز تخصيصه به أيضا؛ ولأن النسخ أشد من التخصيص، فإذا جوزنا الأشد جوزنا الأضعف بطريق الأولى.

قلت: قد تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، [وقد] تقدم الدليل عليه من أربعة أوجه حسان، فقوله تعالى: {والمطلقات .... } الآية، يقتضي أن تكون عدتهن بالأقراء في حالة ما وهو كذلك، لم يعتبر شيء من العموم بهذا التفسير عن حالة: فلا يكون تخصيصًا؛ لأنهن حالة (الحيض) تكون عدتهن بالأقراء، (وهذه حالة) مخصوصة، وإذا ثبت حكم العموم لجميع أفراده في حالة مخصوصة ثبت في مطلق الحالة؛ لضرورة استلزام الخاص المطلق، فما خرج شيء من العموم البتة. نعم لو قال: بعض المطلقات لا تعتد بالأقراء في حالة ما- أعني في جميع الأحوال- صدق التخصيص؛ لأن العموم اقتضى مطلق الحالة، وهي موجبة جزئية في الأحوال، فلا يناقضها إلا السالبة الكلية، فيتحقق التخصيص حينئذ؛ لأن من شرط التخصيص المنافاة، أما ما يمكن اجتماعه مع العموم

فليس مخصصًا، (وهذا يمكن اجتماعه معه، فلا يكون مخصصًا). وكذلك قوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} يقتضي تحريم نكاحهن- كما مر- في حالة مطلقة، لا في جميع الأحوال، للقاعدة المتقدمة. وقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}، والمراد بالإحصان هاهنا الحرائر، وهذا لا يناقض العموم الأول؛ لأن النكاح جائز، لمجموع النصين في حالة الحرية، وتبقى حالة الرق لا يقع فيها جواز النكاح، وإذا جاز نكاح كل مشركة في حالة الحرية، وتبقى حالة الرق لا يقع فيها جواز النكاح، وإذا جاز نكاح كل مشركة في حالة الحرية وكونها من أهل الكتاب- وهذا المجموع حالة خاصة- فقد جاز نكاحهن في مطلق الحالة؛ لاستلزام الخاص العام، فالعموم باق على عمومه، ولم تحصل منافاة بين النصين. نعم لو كان بعض المشركات لا يجوز نكاحه في جميع الأحوال، حصل التناقض والتخصيص؛ لمنافاة السالبة الكلية الموجبة الجزئية. بل الحاصل من هذه النصوص كلها التي يتوهم أنها مخصصات التقييد لتلك الحالة المطلقة، فإنها تصير مخصوصة معينة، والتقييد ليس بتخصيص؛ لأن التقييد زيادة على مدلول اللفظ، والتخصيص تنقيص لمدلول اللفظ، والتخصيص أيضا مخالفة الظاهر، والتقييد ليس مخالفة للظاهر، فالتقييد ليس بتخصيص ضرورة إذا جرت على هذه القوانين عسر تحقيق التخصيص في كثير من النصوص التي يدعى فيها التخصيص، بل نجدها كلها تقييدات لمطلق

تلك الأحوال التي في تلك العمومات، ولا نجد التخصيص إلا في مثل قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} ونحوه، فإن واجب الوجود لم يثبت له الخلق في حالة من الحالات، وذلك قوله تعالى: {وأوتيت من كل شيء}، و} تدمر كل شيء} كما تقدم تقريره في هذا الباب، فالسالبة الكلية متحققة في جميع هذه النصوص فتكون مخصوصة، غير أن هذه النصوص الكتابية لم تخصص بالكتاب، فلا تصلح مثلا لهذه المسألة، ومثلها على التحقيق يعسر، فتأمل ذلك. احتج الخصم بقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}، ففوض البيان إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما نزل، ولفظ التنزيل حيث أطلق ظاهر في القرآن فيكون بيان القرآن مفوضًا له - صلى الله عليه وسلم -، والتخصيص بيان فلا يقع في الكتاب إلا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المطلوب. والجواب: أن صيغة (تبين) فعل في سياق الإثبات، والفعل في سياق الإثبات مطلق، فلا يتناول إلا فردًا من أفراد البيان، وقوله تعالى: {ما نزل إليهم} يقتضي العموم في كل ما نزل وهو يتناول الكتاب والسنة؛ لأن السنة

المسألة الثانية: تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة

منزلة ووحي، غير أن وحي لم يتعبد بتلاوته، والقرآن يتعبد بتلاوته، فيكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبينًا للكتاب والسنة، غير أن ما به البيان لم يذكر، فيحتمل أن يكون بالكتاب، ويحتمل أن يكون بالسنة، ثم الاستدلال به إنما هو بالمفهوم لا بالمنطوق، وقوله تعالى: {تبيانا لكل شيء}، منطوق فيعارضكم به؛ ولأن تلاوة النبي آية التخصيص بيانًا منه للقرآن، فلا تناقض حينئذ. المسألة الثانية: تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة جائز؛ لأن الحديثين المتواترين إذ تباينا إما أن يعمل بمقتضاهما، أو يترك العمل بهما، أو يرجح العام على الخاص، وهذه الثلاثة باطلة، فتعين تقديم الخاص على العام فيما دل عليه الخاص وهو المطلوب. بيان بطلان العمل بهما: أنه يجتمع النفي والإثبات في مدلول الخاص، وترك العمل بهما يجتمع النفي والإثبات أيضا في مدلول الخاص، وتقديم العام يفضي إلى بطلان جملة الخاص، أما تقديم الخاص فإنه يقتضي بطلان

بعض العام، وبطلان الدليل من وجه أولى من إبطاله من كل وجه، والخاص يبطل من كل وجه، والعام إنما يبطل من وجه، فيكون تقديم الخاص على العام وتخصيصه به أولى. المسألة الثالثة: تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة قولًا كان أو فعلًا جائز. والدليل عليه قال الأصحاب: إن ذلك وقع بالقول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (القاتل لا يرث)، فإنه خصص قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يتوارث أهل ملتين). وأما بالفعل: فلأنهم خصصوا في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} بما تواتر عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجم المحصن، وهو فعل.

قلت: وقد تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فكل ولد أوجب العموم بورثته في حالة مطلقة، وهذا باق على عمومه؛ لأن كل ولد يرث في حال عدم القتل والرق والكفر، وهذه حالة خاصة، فيصدق أنا عملنا بمقتضى العموم، ويكون الحديث مقيدًا لتلك الحالة المطلقة، لا مخصصًا للعموم، وكذلك حديث الرجيم مقيدًا للحالة المطلقة، لا مخصصًا لعموم آية الزناة، فإن الآية إنما اقتضت جلد كل زان وزانية في حالة مطلقة واحدة، ونحن نجلد كل زانية وزان في حالة، وهي حالة عدم الإحصان، فالعموم باق على عمومه، فلا تخصيص حينئذ، بل التقييد فقط. سؤال: كيف تقول العلماء: إن هذه الأحاديث متواترة، مع أن رواتها في الصحاح ما بلغوا حد التواتر، غايته ثبوت الصحة؛ لثبوت العدالة، وهي رواية واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة عن أربعة كذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأعداد لا تفيد التواتر، فكيف يدعى التواتر في غير موطنه؟ جوابه: أن السؤال إنما يرد إذا كان زماننا هو زمان النسخ والقضاء به، لكنا لا ندعي ذلك بل ندعي أن زمان النسخ هو زمان الصحابة رضي الله عنهم، وهذه الأحاديث كانت متواترة في ذلك الزمان، والمتواتر قد يصير آحادًا،

المسألة الرابعة: تخصيص السنة المتواترة بالكتاب

فكم من قضية كانت متواترة في الدول الماضية ثم صارت في زمن آحادًا بل نسيت بالكلية، فلا تنافي بين الكون الخبر متواترًا قديمًا، وآحادًا في زماننا المتأخر، فما تعين بطلان دعوى العلماء لذلك. فإن قلت: كما أنه لم يتعين عدم التواتر في الزمن القديم، لم يتعين التواتر- أيضا- لاحتمال أن يكون آحادًا أولًا وآخرًا، فكيف يصح الجزم بعدم التواتر في هذه الأخبار؟ . قلت: العدول إذا نقلوا أن هذه الأحاديث كانت متواترة، وأن النسخ وقع لها وهي متواترة قبل قولهم في ذلك، وجب اعتقاده كسائر الروايات التي يرويها العدول. المسألة الرابعة: يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب، وعن بعض فقهاء أصحابنا أنه لا يجوز. حجة الجواز: ما تقدم من أنه: إما أن يعلم بالخاص والعام إذا تعارضا، فيجتمع النقيضان، أو يلغيا (وأحدهما) للنفي والآخر للإثبات، فيلزم من إلغائهما إلغاء النفي والإثبات، فيرتفع النقيضان، أو يقدم العام على الخاص، فيلغى الخاص بجملته، وإلغاء الدليل على خلاف الأصل، أو يقدم الخاص على العام، فيكون كل واحد منهما معمولًا (به)، وهو أولى من إلغاء أحدهما بكليته، وهو المطلوب.

المسألة الخامسة: تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع

حجة المنع: أن التخصيص بيان، والسنة وضعها أن تكون مبينة لقوله تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}، فلو بين الكتاب السنة بالتخصيص لكان المتواتر أثرًا، وهو محال. والجواب: أنه لا تناقض بين كون السنة مبينة لبعض الكتاب والكتاب مبين لبعض السنة وهو ما كان مجملًا منهما، وهذه الآية معارضة بقوله تعالى- في القرآن- إنه} هدى للناس وبينات}، و} تبيانًا لكل شيء}، فيتناول بيان السنة، وهو المطلوب. المسألة الخامسة: يجوز تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالإجماع؛ لأنه واقع، لأنهم خصصوا آية الإرث بالإجماع على أنه لا يرث وخصصوا آية الجلد على أن العبد كالأمة (في تنصيف) الجلد.

المسألة السادسة: تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم

قلت: هذا تقرير للأصحاب، وعليه أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال، وكل وارث يرث في حالة الحرية، فما يخرج من العموم إلا بعض الأحوال التي ليس اللفظ عاما فيها وخروج ما لا يعمه اللفظ ليس تخصيصا له. وكذلك المحدودون في الزنا وغيره، اللفظ الدال عليهم عام فيهم، مطلق في أحوالهم، فكلهم يجلدون كمال الحد في حالة الحرية، فما خرج إلا ما ليس اللفظ (عامًا فيه)، فلا يكون تخصيصًا، بل تقييد لتلك الحالة المطلقة. فليطلب لهذه المسالة مثالًا غير هذه المثل. وأما تخصيص الإجماع بالكتاب والسنة المتواترة فإنه غير جائز بالإجماع؛ لأن إجماعهم على الحكم العام- مع سبق المخصص- خطأ، والإجماع على الخطأ لا يجوز. المسألة السادسة: في تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل الرسول عليه الصلاة والسلام (هل هو جائز) أم لا؟

قال الإمام فخر الدين رحمه الله: التحقيق في هذا: أن اللفظ العام إما أن يكون متناولًا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو لا يكون متناولًا له، فإن كان متناولًا له، كان ذلك الفعل مخصصًا لذلك العموم في حقه - صلى الله عليه وسلم -، وهل يكون مخصصًا للعموم في حق غيره؟ فنقول: إن دل الدليل أن حكم غيره كحكمه في الكل مطلقًا، أو في الكلام إلا ما خصه الدليل، أو في تلك الواقعة كان ذلك تخصيصًا في حق غيره أيضًا، ولكن المخصص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده، بل الفعل مع ذلك الدليل، وإن لم يكن كلك لم يجز تخصيص ذلك العموم في حق غيره. قلت: الأدلة المقتضية لكوننا مثله عليه الصلاة والسلام في أحكام الشريعة إلا ما أخرجه الدليل هي كقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} ونحوه مما تناول الثقلين، فعلى تقدير أن الغير المشار إليه في كلامه ها هنا الثقلان، فإنه يلزم على هذا النسخ إبطال النص بالكلية، وذلك ليس تخصيصًا؛ لأن التخصص هو إخراج البعض وإبقاء البعض، وأما إبطال الحكم في الجميع فليس تخصيصًا، فيتعين أن يحمل كلام الإمام رحمه الله على غير خاص، هو بعض الأمة، ووجود مثل هذا عسير، غير أنه لم يلتزمه، غير أنه قال: إن وجد كان الحكم كذلك، مع أنه يمكن تمثيله بأن العموم قد يكون يتناول الثقلين ويخرج - صلى الله عليه وسلم - من عمومه بطريق أنه إمام أو قاض أو نحو ذلك من صفاته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه إمام الأمة وحاكم الحكام، ومفتي المفتين، فيلحق به - صلى الله عليه وسلم - في ذلك التخصيص الأئمة وحدهم أو القضاة وحدهم على حسب ذلك الوصف الذي هو معتمد، كما إذا ورد: (على اليد ما أخذت حتى

ترد)، فسقط الضمان عنه - صلى الله عليه وسلم - بأنه قاض أو غيره من الأسباب المتقدمة، فيسقط عمن سأله في تلك الصفة التي هي مدرك السقوط، فعلى هذا يتصور هذا البحث، لا على أدلة التسوية مطلقًا، فإنها شاملة لجميع الثقلين. وعلى هذا يتعين أن يكون معنى قوله: (إن دل الدليل على أن حكم غيره كحكمه - صلى الله عليه وسلم - في الكل مطلقًا، أو في الكل إلا ما خصه الدليل"، أن مراده بالكل ذلك الحكم، دون كلية الشريعة. وقوله: "أو في تلك الواقعة: ، يحمل على ذلك النوع الخاص من جنس ذلك الحكم، مع أن لفظ "ما" يقتضي كلية الشريعة؛ لأنها من صيغ العموم. هذا هو الظاهر من كلامه، وحينئذ يتعين أن يكون الغير مفسرًا بفرقة مخصوصة من الثقلين تساويه في كل الأحكام، حذرا من النسخ وإبطاله جملة النص، وعلى هذا يعسر تصوره، فلا أعلم فرقة من الثقلين تساويه عليه الصلاة والسلام في كل الأحكام دون غيرها من الفرق. وبالجملة، هذا الموضع (فلو) يتعين تأويله على أحد الوجوه المذكورة، أو يحمل على وجه من وجوه الحديث دون الخروج عن جملته بالكلية، كما

حمل حديث النهي عن استقبال القبلة (واستدبارها) على الأفضية دون الأبنية. وقوله: (المخصص ليس ذلك الفعل، (بل الفعل مع الدليل المسوي)، تقديره: أن الفعل وحده لو انفرد ولم يرد الدليل المسوي لم يجب التأسي والاقتداء، ولو ورد الدليل المسوي دون هذا الفعل، لم يلزم التخصيص؛ لاحتمال أن يكون الحكم هو التعميم في حق الكل، فإذا اجتمعا- حينئذ- يلزم التخصيص. ثم قال الإمام رحمه الله: وإن كان اللفظ العام غير متناول للرسول - صلى الله عليه وسلم - بل الأمة فقط، فإن قام الدليل على أن حكم الأمة مثل حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - صار العام مخصوصًا، لمجموع فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ذلك الدليل، وإلا فلا.

تقريره: أن فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على خلاف العموم الخاص بالأمة، ودل الدليل على أن الأمة مثله عليه الصلاة والسلام، جاز بمقتضى هذا الدليل المسوي فعل ذلك الذي فعله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا يبطل حكم العموم في حق الأمة، فيصير ذلك إبطالًا للنص بالكلية، وهذا ليس تخصيصًا بل نسخًا. وهذا الذي صرح به في هذا القسم هو مراده في القسم قبله، ويبقى الكلام في غاية الإشكال من جهة أنه شرع في التخصيص بما يمنع التخصيص. وأما الشيخ سيف الدين رحمه الله فإنه لم يسلك هذا المسلك، بل قال: إما أن نقول بوجوب التأسي على من سواه أو لا. والأول يلزم منه النسخ دون التخصيص بخروج الجميع من النص. وإن لم نقل بالتأسي، فإن افعل مخصص له - صلى الله عليه وسلم - وحده إن كان النص متناولًا له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته، وإن كان متناولًا للأمة فقط، لا يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - مخصصًا عن العموم، لعدم دخوله، فإن قيل- أيضًا- بوجوب المتابعة على الأمة، كان نسخًا عن الأمة (لا) تخصيصًا. ثم قال: وهذا التفصيل يحكى، (ولا أرى للخلاف) في التخصيص بفعله عليه الصلاة والسلام وجهًا- فإن كان المراد تخصيصه وحده فلا يتأتى فيه خلاف، أو تخصيص غيره فليس هو تخصيصًا بل نسخًا، مع أن الخلاف يحكى في تخصيص العموم يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وقال به الأكثرون من الشافعية والحنفية والحنابلة، ونفاه الأقلون كالكرخي قال: والأظهر عندي الوقف؛ لأن دليل التأسيس عام، فليس مراعاة أحد العمومين أولى من الآخر.

فهذه جملة كلامه في هذه المسألة في الأحكام، ولم نذكر شيئاً من كلام الشيخ فخر الدين رحمه الله. احتج من منع التخصيص مطلقًا: بأن المخصص العام هو الدليل الذي دل على وجوب متابعته - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله: {واتبعوه}، وذلك أعم من الذي يدل على بعض الأشياء فقط، فالتخصيص بالفعل يكون تقديمًا للعام على الخاص، وهو غير جائز. ومثال ذلك: أن الدليل المسوي عام في جملة الشريعة كقوله تعالى: {واتبعوه}} وما آتاكم الرسول فخذوه}، والنص الذي يقصد تخصيصه هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبول أو غائط)، وهذا إنما يتناول فرعًا من الشريعة وهو هيئة قضاء الحاجة، فلا يقضي عليه ذلك العموم الذي هو أعم منه؛ لأن تقديم العام على الخاص خلاف القاعدة. والجواب: أن المخصص ليس هو مجرد قوله تعالى: {واتبعوه}، بل هو مع ذلك الفعل، ومجموعها أخص من العام الذي يدعى تخصيصه بالفعل. وتقريره بالبسط: أن قوله تعالى: {واتبعوه} مع استقباله - صلى الله عليه وسلم - لبيت المقدس لقضاء الحاجة يقتضي خروجنا من النهي في قوله - صلى الله عليه وسلم - (ولا تستقبلوا

القبلة ولا تستدبروها لبول أو غائط) في حالة كوننا في الأبنية، وهذا مجموع أخص من حديث النهي عن الاستقبال. فائدة: قال الغزالي- رحمه الله- في المستصفى: للمسالة ثلاثة مثل: أحدها: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال وواصل، وهذا نص لم يتناوله عليه الصلاة والسلام، وإنما قالوا له: إنك تواصل؛ لأنهم فهموا اندراجه في حكمهم. وثانيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلة واستدبارها، وصيغة الحديث لا يتناوله عليه الصلاة والسلام أيضا، ثم إنه [عليه الصلاة والسلام] استدبر البيت الحرام، ويحتمل أن يكون هذا مخصصًا؛ لأنه كان في خلوة، والبيان لازم له - صلى الله عليه وسلم - إظهاره.

المسألة السابعة: التخصيص بالتقرير

ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن كشف العورة، ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر وعمر، ويحتمل أنه لم يدخل في النهي، أو أريد بالفخذ ما يقرب منه. المسألة السابعة: التخصيص بالتقرير: من فعل فعلا (يخالف العموم) حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره عليه، كان عدم إنكاره عليه الصلاة والسلام على ذلك الفاعل يوجب تخصيص ذلك العموم بهذا الفعل. وأما في حق غيره فإنما يستفاد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (حكمي على الواحد

حكمي على الجماعة) ونحوه من النصوص المستوية، فيكون ذلك التقرير تخصيصًا في حق الكل حينئذ، وإلا فلا. هذا كلام فخر الدين رحمه الله، ويلزم عليه ما تقدم أنه يكون حينئذ نسخًا لا تخصيصًا إذا سوينا الكل بهذا الشخص الذي أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيفضي تقريره النسخ إلى إبطاله، فلا يستقيم في هذا ونحوه إلا ما تقدم من حمله على طائفة معينة من القضاء أو غيرهم. * * *

القسم الثاني: في تخصيص المقطوع بالمظنون

القسم الثاني: في تخصيص المقطوع بالمظنون وفيه مسائل: المسألة الأولى: يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد عند الشافعية والمالكية والحنفية، وقال قوم: لا يجوز أصلًا، وقال عيسى بن أبان: إن كان خص قبل ذلك بدليل مقطوع به جاز، وإلا فلا. وقال الكرخي: إن كان قد خص قبل ذلك بدليل منفصل فصار مجازا فيجوز حينئذ، وإن خص بدليل متصل ولم يخص أصلا لم يجز، واختار القاضي أبو بكر- رحمة الله عليهم أجمعين- الوقف. ووجه قول عيسى بن أبان: أنه إذا خص بدليل مقطوع، قطع بضعفه، فيتسلط عليه حينئذ خبر الواحد فيخصصه، وإن لم يخصص بمقطوع، لم يقطع بضعفه، فلم يجز تخصيصه بخبر الواحد. ووجه قول الكرخي: أن المخصص المتصل عنده يكون مع صيغة العموم حقيقة فيما بقي كلامًا واحدًا، فيكون حقيقة، والحقيقة قوية، فلا ينهض خبر

الواحد لتخصيصه حينئذ، والمخصص المنفصل لا يمكن جعله من لفظ العموم (لفظًا واحدًا، فيتعين أن لفظ العموم) قد بقي مجازًا، بسبب التخصيص السابق. فمدار الفريقين في التخصيص وعدمه: القوة والضعف، غير أن عيسى بن أبان يلاحظ الضعف في الصيغة من جهة (القطع والظن، والكرخي من جهة) المنفصل والمتصل. حجة الجمهور: أن العموم (وخبر الواحد دليلان متعارضان)، وخبر الواحد أخص من العموم، فوجب تقديمه على العموم، وإنما قلنا: إنهما دليلان؛ لأن العموم دليل بموافقة الخصم في هذه المسألة، وأما خبر الواحد فهو- أيضًا- دليل على ما تقرر من موضوعه؛ ولأن الخصم هنا يساعده عليه، وإذا ثبت ذلك، وجب تقديمه على العموم؛ لأن تقديم العموم [عليه] يفضي إلى إلغائه بالكلية، أما تقديمه على العموم فلا يفضي إلى إلغاء العموم بالكلية، فكان أولى في سائل المخصصات. الثاني: أن الصحابة مجمعة على تخصيص القرآن بخبر الواحد، وقع ذلك في صور خمس. إحداها: أنهم خصصوا قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} بما رواه الصديق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث).

وثانيها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل للجدة السدس؛ لأن المتوفاة إذا خلفت زوجًا، وبنتين، وجدة، فللزوج الربع: ثلاثة، وللبنتين الثلثان: ثمانية، وللجدة السدس، عالت

المسألة إلى ثلاثة عشر، وثمانية من ثلاثة عشر أقل من ثلثي التركة. قلت: (وفي هذا المثال نظر، بسبب أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال)، ونحن نورثهما الثلثين في كثير من الأحوال، وإنما خرجت هذه الحالة الخاصة، ولا يلزم من إخراج الخاص إخراج العام، فلا يلزم إخراج مطلق الحالة، فالعموم باق على حاله على ما تقدم تقريره قبل هذا، فليطالع من هناك. وثالثها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: {وأحل الله البيع} لخبر أبي سعيد في المنع من بيع الدرهم بالدرهمين. قلت: وهذا- أيضًا- من الطراز الأول، فإن البيع له أحوال، يقع مع حالة الزيادة، ومع عدم حالة الزيادة، ومع الربويات، ومع غير الربويات، والعام في الأشخاص مطلق في الأحوال، فلا يتناول العموم حالة الزيادة في الربويات، فلا يكون إخراجهما تخصيصًا.

ورابعها: خصصوا قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} بما ورد في المجوس من خبر عبد الرحمن بن عوف، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - بما ورد في المجوس من خبر عبد الرحمن بن عوف، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب). وتقريره: أن الآية اقتضت قتل الكل، وخبر عبد الرحمن إنما ورد فيه الجزية أي سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية، فبطل القتل فيهم مع أهل الكتاب، وخرج الجميع من عموم المشركين، وبقي عبدة الأوثان وما شاكلهم (فيمن لا) يجوز أخذ الجزية منهم.

قلت: وهذا أيضا مما تقدم أن لفظ المشركين عام فيهم، مطلق في أزمنتهم وأحوالهم وبقاعهم، وحالة الجزية حالة خاصة لا يلزم من عدم ثبوت الحكم فيها عدمه في مطلق الحالة، فالذي دل عليه باق، فلا تخصيص، لعدم التنافي. وخامسها: خصصوا قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بخبر أبي هريرة في المنع من نكاح المرأة على عمتها وخالتها وبنت أختها وبنت أخيها. قلت: وهذا أيضًا مطلق في الأحوال، فلا يتعين التخصيص. احتج المانعون بالخبر والإجماع والمعقول: أما الإجماع: فلأن عمر رضي الله عنه رد خبر فاطمة بنت

قيس وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة، لا ندري لعلها نسيت أو كذبت، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعًا. وأما الخبر: فهو ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه)، والخبر الذي يخصص الكتاب على مخالفة الكتاب فوجب رده. وأما المعقول فوجهان: الأول: أن الكتاب مقطوع به، وخبر الواحد مظنون، والمقطوع أولى من المظنون.

الثاني: أن النسخ تخصيص في الأزمان، وهذا التخصيص تخصيص في الأشخاص والأعيان، فنقول: لو جاز التخصيص في الأعيان بخبر الواحد، لجاز التخصيص في الأزمان بخبر الواحد. وتقريره: أن التخصيص في الأشخاص لو جاز لكان لأجل أن تخصيص العام أولى من إلغاء الخاص، وهذا المعنى قائم في النسخ، فيلزم جواز نسخ المتواتر بخبر الواحد، ولما لم يجز ذلك، علمنا أن ذلك أيضا غير جائز. والجواب عن الأول: أن الإجماع ليس بصحيح، بسبب أنه لم يوافق عليه الكل تصريحًا ولا سكوتًا، أما التصريح فلعدم النقل، وأما التلويح والسكوت فلأنه لم يكن الكل حضرين حتى يتعين ذلك، سلمنا ذلك أنه إجماع، لكنا لا ندعي التخصيص بكل ما كان من أخبار الآحاد حتى يكون ذلك واردًا علينا، وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهمًا بالكذب والنسيان، وحديث عمر رضي الله عنه صريح في رواية بالتهمة بالكذب والنسيان، فليس من صور النزاع، فلم يكن ذلك قادحًا في غرضنا، بل هو بأن يكون حجة لنا أولى، وذلك أن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة، لكونها غير مأمونة من الكذب والنسيان، ولو كان خبر الواحد المقتضي التخصيص الكتاب مردودًا كيف ما كان، لما كان لذلك التعليل وجه.

وعن الثاني: أن السابق إلى الفهم أن مخالفة الحديث للكتاب إنما تكون معارضة لما فهم أنه مراد من الكتاب، كما إذا قلنا: زيد يخالف عمرًا في كلامه، أي: فيما فهم عنه أنه مراده، أما إذا خالفه في ظاهر لفظه ووافق مقصوده، إنما يقال له: موافق لا مخالف، والمخصص موافق للمراد وبيان له، فلا يكون مخالفًا له، فلا يتناول هذا الحديث الخبر المخصص، سلمنا أن ظاهره يدل على ذلك، لكن يلزمكم أن لا تجوزوا تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، فإنها على خلاف الكتاب. وعن الثالث: أن البراءة الأصلية يقينية، ثم إنا نتركها بخبر الواحد، فبطل قولكم: (المقطوع لا يترك بالمظنون). وبسط ذلك: أن البراءة الأصلية يقينية الأصل، مظنونة الاستصحاب، بمعنى أن الواحد منا يقطع بأنه ولد بريئًا من جميع الحقوق قطعًا، ثم إنه إذا كبر وصار بالغًا، لا يحصل له ذلك القطع في خصوص ذلك الزمان، بل بظنه، ولذلك يقبل في شغل ذمته الشاهدين، والشاهد واليمين، ولو كان ذلك اليقين باقيًا لما رفعناه بالأسباب المظنونة، كذلك العموم مقطوع السند مظنون الدلالة، وخبر الواحد إنما يفيد في صرف الدلالة عن الفرد المخرج، وهي ظنية، وليس لخبر الواحد اثر في السنة أصلًا، فحصل التشبيه بين البراءة والعموم في أن الخبر إنما رفع المظنون، فالمرفوع فيهما مظنون وأصلهما مقطوع. وعن الرابع: أن الفرق بينهما: أن النسخ رفع للحكم لما علم أنه كان ثابتًا فيه، والتخصيص في الأعيان إخراج لما لم يكن الحكم ثابتًا فيه ألبتة،

المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرا

ولا شك أنه إذا علم ثبوت الحكم في شيء، ثم قصد إلى رفعه بعد، وإبطال الشرع فيه، أنه يحتاط فيه ما يحتاط لما لم يتصف بشيء من ذلك. فلذلك فرق الناس بين التخصيص والنسخ. المسألة الثانية: يجوز تخصيص السنة المتواترة وعموم الكتاب بالقياس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي الحسين البصري، والأشعري، وأبي هاشم أخيرًا. ومنهم من منع منه مطلقًا، وهو قول الجبائي وأبي هاشم أولا، ومنهم من فصل، ثم ذكروا فيه وجوهًا أربعة: أولها: قول عيسى بن أبان: إن تطرق التخصيص للعموم (جاز)، وإلا فلا. وثانيها: قول الكرخي، وهو أنه إذا خص بدليل منفصل جاز، وإن خص

بدليل متصل منع؛ لأجل القوة والضعف الذين تقدم ذكرهما، كما تقدم تقريره. وثالثها: قول كثير من فقهائنا الشافعية كابن سريج وغيره: أنه يجوز بالقياس الجلي، دون الخفي. ثم اختلفوا في تفسير الجلي والخفي على ثلاثة أوجه: أحدها: أن الخفي قياس الشبه، والجلي قياس المعنى. وثانيها: أن الجلي هو الذي يفهم علته من لفظه، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)، فإنه يفهم أن علة ذلك ومنعه من تشويش الفكر، فيتعدى ذلك الجائع، والحاقن، وكل ما يخل بالفكر. وثالثها: قول أبي سعيد الإصطخري: أن الجلي: هو الذي لو قضى

القاضي بخلافه نقض قضاؤه، والخفي: هو الذي لا ينقض قضاء الفاضي بخلافه. ورابعها: قول الغزالي: إن العام والقياس إن تفاوتا في إفادة الظن، رجحنا الأقوى، وإن تعادلا، توقفنا. وأما القاضي أبو بكر وإمام الحرمين فقد ذهبا إلى الوقف. وتحرير ما قاله الغزالي: أن مراتب الظنون الحاصلة من القياس متفاوتة، فالمنصوص على علته أقوى في الظن من القياس الذي استنبطت علته من أوصاف غير مذكورة، وما نص على علته بالتصريح أولى مما نصل على علته بالإيماء، وما كانت علته يشهد نوعها لنوع الحكم، أقوى مما يشهد جنسها بجنس الحكم، وما ثبتت علته بالمناسبة أقوى مما ثبتت بالدوران،

ونحو ذلك مما هو مذكور في باب التعارض والترجيح من الأقيسة. والعموم الذي قلت أفراده (أولى من الذي كثرت أفراده) في إفادة الظن؛ لأن تطرق احتمال المخصص إليه أقل، فإن كثرة الأنواع توجب كثرة احتمال التخصيص، والعموم الذي لا يكاد يوجد إلا مخصوصًا أضعف مما لا يوجد مخصوصًا إلا على الندرة، والعموم الذي يستعمل لفظه مجازًا في كثير من الصور، أضعف مما لم يتجوز بلفظه إلا في الندرة، وهذا عين التخصيص، فإن اللفظ قبل دخول آلة التخصيص عليه قد يستعمل مجازًا ويستعمل حقيقة لا تخصيصًا، إنما التخصيص بعد القضاء بالعموم. إذا تقرر تفاوت رتب الظنون في القياس والعموم، فقد تستوي المرتبتان في الظن، وقد ترجح إحداهما، فتصور ما قاله الغزالي في إتباع الراجح منهما على وجد، وإلا توقفنا، فإن المقصود إنما هو القضاء بالراجح، ويلزم الغزالي على هذا التوقيف الحسن أن يقول بذلك في خبر الواحد مع العموم، فإن هذه المرجحات متجهة هنالك كما هي متجهة ها هنا من جهلة غلبة المجاز على أحدهما وقلته في الآخر وكثرة الأفراد وقلتها، ونحو ذلك.

وهذا السؤال قد يتخيل أنه لازم للواقفة أيضًا، فيقال: لم توقفوا ها هنا ولم يتوقفوا في خبر الواحد مع العموم، لاختلاف الأحوال بينهما كما تقدم؟ غير انه غير وارد عليهم؛ لأنهم لم يسلكوا مسلك الغزالي في استقراء مراتب الظنون، بل خصصوا العموم بخبر الواحد بعمل الصحابة- رضوان الله عليهم- وقواه استفاضة ذلك بينهم، ولم يجدوا مثل ذلك الاشتهار في القياس، فتوقفوا، لتقارب المدارك، والغزالي إنما لزمه ذلك من جهة ما ذكره من التعليل، وأشار إليه في المدرك الذي لم يعرجوا هم عليه، بل توقفوا في ذلك. تنبيه: القول بالوقف يشارك التخصيص من وجه ويباينه من وجه. أما المشاركة؛ فلأن المطلوب من تخصيص العام بالقياس ترك الاحتجاج به في الذي تناوله القياس، والواقف يشاركه فيه. وأما المباينة: فهي أن القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس، والواقف لا يحكم به. واعلم أن نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب، كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر، وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد، والخلاف جار في الكل، وكذا القول في قياس الخبر المتواتر بالنسبة

إلى عموم الكتاب وبالعكس، أما قياس خبر الواحد إذا عارضه عموم الكتاب أو السنة المتواترة، وجب أن يكون تجويزه أبعد. لنا: أن العموم والقياس دليلان متعارضان، والقياس خاص، فوجب تقديمه، أما أنهما دليلان، فبالاتفاق بيننا وبين الخصوم. وأما أنه يجب تقديم الخاص منهما؛ فلأنهما: إما أن يعمل بهما، أو يلغيا أو يقدم العام على الخاص، وهذه الأقسام الثلاثة باطلة، فيتعين الرابع وهو تقديم الخاص على العام وهو المطلوب. احتج المانعون بأمور: أحدها: أن (الحكم) المدلول عليه بالعموم معلوم، والحكم المدلول عليه بالقياس مظنون، والمعلوم راجح على المظنون. وثانيها: أن القياس فرع النص، فإن خصصنا العموم بالقياس، لقدمنا الفرع على الأصل، وإنه غير جائز. وثالثها: أن حديث معاذ دل على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقد ذلك الحكم في الكتاب والسنة، وذلك يمنع من تخصيص النص بالقياس.

ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن من شرط القياس أن لا يرده النص، وإن كان العموم مخالفًا له فقد رده. وخامسها: أنه لو جاز التخصيص بالقياس، لجاز النسخ به، وقد تقدم تقريره. والجواب عن الأول: أن الحكم الثابت بالعموم ليس معلومًا، بل سند الكتاب والسنة المتواترة معلوم، والدلالة ظنية، فيكون الحكم الثابت به مظنونًا. ودلالة القياس قد تكون قطعية إذا كانت مقدماته كلها معلومة، فيكون الحكم الثابت به معلومًا. وعن الثاني: أن القياس فرع لنص آخر غير النص الذي عمومه مخصوص بالقياس، وحينئذ يزول السؤال. وعن الثالث: لا نسلم أن حديث معاذ دل على أنه لا يجوز الاجتهاد إلا بعد فقدان الكتاب، ولا نسلم أن عموم الكتاب إذا عارضه القياس المخصص لبعض صوره يكون الحكم ثابتًا في تلك الصورة التي يتناولها القياس بالكتاب، بل الحكم عندنا حينئذ مفقود من الكتاب، ثم إن حديث معاذ إن اقتضى أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة أيضًا؛ لأنه كما اقتضى تأخير القياس عن الكتاب والسنة، فقد اقتضى تأخير السنة عن الكتاب، فالنسبة بينهما واحدة، ولا شك في فساد ذلك.

وعن الرابع: أن الذي وقع عليه الإجماع هو أن القياس لا ينسخ المتواتر. أما رده لأخبار الآحاد بجملته ذلك الخبر، ففيه خلاف عند الحنفية والمالكية وغيرهم من الفقهاء إذا تعارض قياس وخبر واحد، وإن نصًا لا ظاهرًا هل نعرض عن الخبر بالكلية، أو عن القياس بالكلية؟ خلاف. وإذا بطل الخبر الصحيح الصريح بجميع أفراده، فأولى تخصيص العموم الذي ليس فيه إلا تخصيص بعض الأفراد وإخراجها عن اللفظ؛ لأنه أسهل من الإبطال بالكلية، وليس في هذين الموطنين إجماع. وعن الخامس: ما تقدم من الفرق بين النسخ والتخصيص، من جهة أن النسخ إبطال للحكم من محل اتفقنا على أن الحكم ثابت فيه، أو علم ثبوت الحكم فيه، ورفع الشيء بعد دلالة الدليل على ثبوت الحكم فيه يقتضي الاحتياط فيه أكثر من بيان أن الحكم ليس ثابتًا فيه البتة، لسلامة المخرج حينئذ عن المعارض المقتضي لثبوت الحكم في الصورة المخرجة. فإن قلت: لما كان القياس فرعًا لنص آخر، فكل مقدمة لابد (منها في) دلالة النص على الحكم، كانت معتبرة في الجانبين، وأما المقدمات التي لابد

منها في دلالة القياس، فهي مختصة بجانب القياس فقط، فإذن إثبات الحكم بالقياس يتوقف على مقدمات أكثر، وإثباته بالعموم يتوقف على مقدمات أقل، فكان إثبات الحكم بالعموم أولى وأظهر من إثباته بالقياس، والأقوى (لا) يصير مرجوحًا بالأضعف. وبسطه: أن النصوص تتوقف على عصمة قائليها، وصحة سندها، وعدم إجمالها في دلالتها، ونحو ذلك من مقدمات النصوص المعتبرة فيها، وهي كلها مشتركة بين النص الذي هو أصل القياس وبين النص الذي يخصصه بالقياس. والقياس في نفسه يحتاج لكون حكمه مما يقبل التعليل، وأن أصله معلل بعلة كذا، ووجود تلك العلة في الفرع، وانتفاء الفوارق، فهذه مقدمات تختص بالقياس الذي هو أصله، فحينئذ القياس باعتبار مقدماته ومقدمات أصله يكون أكثر مقدمات من النص الذي يخصصه، فيكون أضعف منه، فيقدم (العموم) عليه. فقد أجيب عن هذا السؤال: بأن دلالة بعض العمومات على مدلوله أقوى وأقل مقدمات من دلالة عموم آخر على مدلوله. وتقريره: ما تقدم من بيان تفاوت الظنون الحاصلة من النصوص في تقرير كلام الغزالي، وحينئذ جاز أن يكون النص القليل المقدمات هو أصل

القياس، والكثير المقدمات هو النص المخصوص، فيكون مجموع مقدمات القياس مع أصله أقل من مقدمات النص المخصوص، فيكون القياس أرجح، فيقدم على العموم. هذا هو جواب الإمام فخر الدين، فلما فرغ منه قال: "وحينئذ يظهر أن الحق ما قاله الغزالي من النظر إلى الحاصل من الظنون الحاصلة من مقدمات القياس ومقدمات العموم. قلت: وجوابه بهذا التفصيل لا يعم جميع العمومات، فإن من العمومات ما مقدماته أكثر، فجاز أن يكون هو أصل القياس، فلا يقدم ذلك القياس على العموم الذي مقدماته أعم، فلا يصح تعميم هذه الدعوى لتخصيص العموم بالقياس مطلقًا، ويتجه حينئذ قوله الغزالي بالتفصيل؛ لأنه لا يرد عليه هذا السؤال؛ لأن الظن متى كان أقوى، كانت المقدمات مساعدة على ذلك الظن، وإلا لما كان الظن أقوى. فائدة: المحدثون والنحاة على عدم صرف "أبان" هذا، وكذلك أبان بن عثمان (ابن عفان)، وحيث وقع لا يصرفونه، ومانع صرفه خفي صعب، فإن العلمية محققة، ولكن أي شيء معها؟ وليس هو من أوزان الفعل المضارع

مثل: أحمد ويشكر، وتغلب، ويزيد ونحوه، فهو مشكل كثيرًا، لخروجه عن ضابط ما لا ينصرف، إلا في العملية وهي وحدها غير مانعة على الصحيح. جوابه: قال ابن يعيش في شرح المفصل: من الناس من يصرفه بناء على أن وزنه فعال، من أبان يبين. والجمهور على عدم الصرف، بناء على أن وزنه أفعل، وأصله أبين، صيغة مبالغة في الظهر الذي هو البيان والإبانة، كما تقول: هذا أبين من هذا، أي أظهر منه، فلوحظ أصله، فلم يصرف. والفرق بينه وبين الاسم إذا سمي بما لم يسم فاعله نحو: بيع وقيل، فإن أصله بيع وقيل بضم الباء والقاف- والقاعدة: أنه إذا سمي بفعل نحو ضرب المبني لما لم يسم فاعله لم ينصرف؛ لأنه من أبنية الأفعال المخصصة بها، فإذا عدل به عن أصله وقيل: بيع، وقيل ينبغي أن لا ينصرف، ملاحظة لأصله كما قلتم في أبان- قال: والفرق أن بيع صار إلى أبنية الأسماء مثل: ديك، وبير، وفيل، وأما "أبان" فهو أقل، وليس في الأسماء وزانه، فلذلك لم ينصرف.

المسألة الثالثة: تخصيص العام بدلالة المفهوم

والسؤال، وجوابه، والفرق، الكل حسن ينبغي أن يكون على الخاطر، لأنها فوائد لا توجد في أكثر الكتب، بل في أفرادها ونوادرها. المسألة الثالثة: قال الإمام فخر الدين- رحمه الله-: إذا قلنا: المفهوم حجة- فلا شك أن دلالة أضعف من دلالة المنطوق، فهل يجوز تخصيص العام بها؟ مثاله: إذا ورد في إيجاب الزكاة قوله عليه الصلاة والسلام: (في كل أربعين شاة شاة)، ثم قال: (في سائمة الغنم الزكاة) وهذا مفهومه يقتضي تخصيص ذلك العام. قال: ولقائل أن يقول: إنما رجحنا الخاص على العام؛ لأن دلالة الخاص على ما تحته أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص، والأقوى أرجح، فأما هاهنا فلا نسلم أن دلالة المفهوم على مدلوله أقوى من دلالة العام على ذلك الخاص، بل الظاهر أنه أضعف، وإذا كان كذلك كان تخصيص العام بالمفهوم ترجيحًا للأضعف على الأقوى، وهو غير جائز. قال الشيخ سيف الدين الآمدي- رحمه الله-: لا أعرف خلافًا بين القائلين بالمفهوم والعموم، أنه يجوز تخصيص العموم بالمفهوم، كان مفهوم موافقة أو مخالفة حتى إذا قال: من دخل داري فأضربه، ثم قال: إن دخل زيد داري فلا تقل له أف، فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد وإخراجه من

العموم بالمفهوم الموافق. قال الغزالي في المستصفى: مفهوم الموافقة كتحريم الضرب من تحريم التأفيف قاطع كالنص مخصص به، ومفهوم المخالفة عند القائلين به كالنص مخصص به، حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة، ثم قال: (في سائمة الغنم الزكاة) خصص العام بالمعلوفة وبقيت السائمة، لأجل المفهوم. قلت: فهذه ظواهر كلام العلماء (فيما) يقتضي التخصيص، وأن الذي قاله الإمام فخر الدين شاذ. * * *

الباب الثاني والعشرون في بناء العام على الخاص

الباب الثاني والعشرون في بناء العام على الخاص قال الشيخ أبو إسحاق في اللمع: عندنا يتقدم الخاص، ويتوقف فيهما عند القاضي أبي بكر، وعند الحنفية: إن تأخر الخاص خصص العام، (وإن تقدم نسخة العام، وقال بعض أصحابنا: إن ورد الخاص بعد) العام كان نسخًا لما يتناوله من العام، بناء على أن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب، قال بعض أصحابنا كما قالت المعتزلة، وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الخاص والعام متفقًا على العمل (بهما)،

أدلة الشافعية على تقديم الخاص

قضي بالخاص على العام كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في الرقة ربع العشر) مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس فيما دون خمسة أواق صدقة)، وقال أهل الظاهر: إن كانا في القرآن، قضي بالخاص على العام، أو في السنة سقطا، فهذه ستة مذاهب. قال الإمام فخر الدين- رحمه الله-: إذا روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبران، خاص وعام- كالمتنافيين- فإما أن يعلم تأريخهما، أو لا يعلم، فإن علم التأريخ، فإما أن يعلم مقارنتها، أو يعلم تأخر أحدهما (عن الآخر)، (فإن علمنا مقارنتهما) نحو أن يقول: في الخيل زكاة، ويقول عقيبة: ليس في الذكور من الخيل زكاة، فالحق: أن يكون الخاص مخصصًا للعام. ومنهم من قال: بل ذلك القدر من العام يصير معارضًا للخاص.

مناقشة القرافي لما أورده الرازي للشافعية

لنا وجوه: الأول: أن الخاص أقوى دلالة على ما يتناوله من العام، والأقوى راجح، فالخاص راجح. بيان الأول: أن العام يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص، (أما ذلك الخاص) فلا يجوز إطلاقه من غير إرادة ذلك الخاص، فثبت أنه قوي. قلت: ومعنى قوله: "كالمتنافيين": أن ظاهر اللفظ يقتضي التنافي، وإذا جمع بينهما، يحمل العام على مأخذ الخاص، ذهب المتنافي فلذلك قال: "كالمتنافيين"، ولم يقل: "متنافيان"، فإن التنافي ليس محققًا، لإمكان الجمع. الثاني: (أن السيد إذا قال لعبده): اشتر كل ما في السوق من اللحم، ثم قال- عقيبه-: لا تشتر لحم البقر، فهم من كلامه الأول أنه أخرج لحم البقر منه. الثالث: أن إجراء العام على عمومه إلغاء للخاص، واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما، فكان ذلك أولى. قلت: فإن قلت: لم لا حملتم قوله في الزكاة على التطوع، وقوله: (لا زكاة في الذكور من الخيل) على نفي الوجوب؟ وهذا وإن كان مجازًا، لكن التخصيص أيضًا مجاز، فلم كان مجازكم أولى من مجازنا؟ قلت: افرض الكلام فيما إذا قال: أوجبت الزكاة في الخيل، ثم قال: لا أوجبها في الذكور من الخيل؛ ولأن قوله: (في الخيل زكاة) يقتضي وجوب الزكاة في الإناث، فلو حملناه على التطوع لكنا قد عدلنا باللفظ عن ظاهره في

الإناث، لدليل لا يتناول الإناث، وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور من قوله: (في الخيل)؛ لأنا نكون أخرجنا من العام شيئاً لدليل يتناوله واقتضى إخراجه. قلت: وعليه مناقشة؛ لأن قوله: (في الخيل زكاة) لا يقتضي الوجوب في الإناث؛ لأنها لا تقتضي الإيجاب، بل هي أعم من الوجوب والندب؛ لأن ثبوت الزكاة فيها يصدق بالطريقتين. ثم قال: أما إذا علمنا تأخير الخاص عن العام، فإن ورد الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام، كان ذلك بيانًا للتخصيص، ويجوز ذلك عند من يجوز تأخير بيان العام، ولا يجوز عند المانعين منهم وإن ورد الخاص بعد وقت حضور العمل بالعام، كان ذلك نسخًا وبيانًا لمراد المتكلم فيما بعد، دون ما قبل؛ لأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة في عادة الشرع، وإن كان العقل يقتضي جوازه بناء على تجويز تكليف ما لا يطاق، لكن تكليف ما لا يطاق غير واقع، فيعتقد إذا عملنا بالعام ولم يأت بيان أن العموم مراد، فيكون الرفع بد ذلك نسخًا لما هو (مراد أو بيانًا)؛ لأن المتكلم أراد عدم الحكم فيما بعد ذلك، دون ما قبله؛ لأن الحكم الثابت قبل العموم، لا بالخصوص الناسخ. أما إذا كان العام متأخرًا عن الخاص، فعند الشافعي وأبي الحسين- رحمهما الله- أن العام مبني على الخاص، وهو المختار، وعند أبي حنيفة والقاضي عبد الجبار: أن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم.

حجج الحنفية في أخذهم بالمتأخر منهما

لنا وجوه: الأول: أن الخاص أقوى دلالة- على ما يتناوله- من العام، كما تقدم تقريره، والأقوى راجح. الثاني: أن إجراء العام على عمومه يوجب إلغاء الخاص، واعتبار الخاص لا يوجب إلغاء واحد منهما بالكلية، فكان أولى. احتج أبو حنيفة وأصحابه- رحمهم الله- بأمور: أحدها: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث) فإذا كان العام متأخرًا، كان أحدث، فوجب الأخذ به. قلت: ويرد على هذا الوجه أن الأحدث صيغة عامة في أفراد (الأحدث)، مطلق في أحوالها ومتعلقاتها وأزمنتها وبقاعها، كما تقدم تقريره،

أدلة ابن القاضي على التوقف

فنحمله على بعض متعلقاته وهو الأحدث من الأحكام، ودن الأدلة، والنزاع إنما هو في الأدلة، ويكون هذا تقييدًا لتلك الحالة أو المتعلق، لا تخصيصًا للعموم، ويبقى لفظ الراوي على عمومه، والأحكام هي السابقة للفهم عند هذا اللفظ، ولذلك قال العلماء: أحكام أوائل الإسلام كانت فيها الرخص كثيرة، ولما قويت عصابة الإسلام واستقرت، تجددت العزائم ناسخة لتلك الأحكام السابقة، وهو معنى الحديث. وثانيها: قالوا: لفظان تعارضا، وعلم التأريخ بينهما، فوجب تسليط الأخير على الأول، كما لو كان الأخير خاصًا. واحترزنا بقولنا: (لفظان) عن العام الذي يخصه الفعل، فإنا- هناك- سلطنا المتقدم. وثالثها: أن اللفظ العام- في تناوله الأفراد، ما دخل تحته- يجري مجرى ألفاظ خاصة، كل واحد منها (يتناول واحدًا فقط من تلك الآحاد؛ لأن قوله: (اقتلوا المشركين)، قائم مقام قوله: (اقتلوا زيدًا المشرك، اقتلوا عمرًا، اقتلوا خالدًا) ولو قال ذلك- بعد ما قال: (لا تقتلوا زيدًا) لكان الثاني ناسخًا. واحتج ابن القاص على التوقف: بأن هذين الخطابين) كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه آخر؛ لأنه إذا قال: (لا تقتلوا اليهود)، ثم قال- بعده- (اقتلوا المشركين)، فقوله: (لا تقتلوا اليهود) أخص من قوله: (اقتلوا المشركين)، من حيث إن اليهودي أخص من المشرك (من وجه)، وأعم منه من حيث إنه دخل في المتقدم من الأوقات ما لم يدخل في

مناقشة ابن القاص

المتأخر، وهو ما بين ورود المتقدم والمتأخر. ظهر أن الخاص المتقدم أعم في الأزمان، وأخص في الأعيان، والعام المتأخر بالعكس، فكل واحد أعم من الآخر من وجه، وأخص من وجه، وإذا ثبت ذلك: وجب الوقف والرجوع إلى الترجيح، كما في كل خطابين هذا شأنهما. والجواب عن الأول: ما تقدم من حمله على الأحكام، أو نقول: هو قول صحابي، وفي كونه حجة خلاف، أو نقول: يحمل كلامه على ما إذا كان المتأخر هو الخاص. وعن الثاني: أن الفرق فيما ذكروه: أن الخاص أقوى من العام، فوجب تقديمه عليه؛ ولأنا لو لم نسلط الخاص المتأخر على العام المتقدم لزم إلغاء الخاص، أما لو تسلط العام المتأخر على الخاص المتقدم، لا يلزم ذلك، فظهر الفرق. وعن الثالث: بالفرق بين صيغة العموم والتنصيص على الأفراد على سبيل الخصوص: أن صيغة العموم حقيقة في العموم، وهي تدل على نوع تضمنًا، وفي التنصيص على الأنواع تدل مطابقة، لفظ التنصيص على الأفراد لا يقبل الاستثناء في كل فرد نص عليه، وفي العموم تقبله؛ ولأن اللفظ إذا كان عامًا، احتمل التنصيص، وليس كذلك إذا كان خاصًا، ولهذا لو كان قوله: (لا تقتلوا اليهود) مقارنًا لقوله: (اقتلوا المشركين) لخصه، ولو قارن المنفصل لناقضه ولم يخصه؛ لأن الخاص لا يحتمل التخصيص.

وأما الذي تمسك به ابن القاص فضعيف؛ لأنه فرض الخاص المتقدم نهيًا فلا جرم عم الأزمان، وفرض العام المتأخر أمرًا، فلا جرم لم يعم الأزمان، بناء على أنه ليس للتكرار، وهو- أيضًا- مما يمنع، فلا جرم صح له ما ادعاه من كون الخاص أعم من العام على هذا الوجه. أما لو فرض الخاص المتقدم أمرًا والعام المتأخر نهيًا، فإنه حينئذ لا يستقيم كلامه؛ لأن الخاص المتقدم، لا شك أنه خاص في الأعيان، وهو أيضًا خاص في الأزمان، بناء على أن الأمر لا يفيد التكرار. وأما العام المتأخر إذا فرضناه نهيا، كان أعم من المتقدم في الأعيان بالاتفاق، وفي الأزمان أيضًا؛ لأن الأمر لا يتناول كل الأزمان، بل زمانا واحدًا، فها هنا المتأخر أعم من المتقدم من كل الوجوه، فبطل ما قاله. ثم تحته مشى على أن النهي- أيضًا- يقتضي التكرار، فيتناول الأزمنة من حين وروده إلى آخر الدهر، والأمر- وإن سلمنا أنه للتكرار- فإنما يتناول من حين وروده إلى آخر المستقبل، فيفصل النهي السنة الكائنة قبل ورود الأمر. ثم إذا سلم له أن كل واحد منهما أعم وأخص من وجه، لا يلزم التوقف أيضًا؛ لأن عموم المشركين في الأشخاص وعموم النهي الخاص في الأزمان، ودلالة الشخص على الأشخاص ليس من الأزمنة، والزمان أبعد منها، والمقصود المهم إنما هو الأشخاص ودلالة الخاص على أفراده أقوى، فوجب ترجيحه. ثم ينبغي له أن لا يتوقف إلا في الأفراد التي يتناولها الخاص من العام، أما ما عداها فسالم عن معارضة هذه الشبهة، فلا يليق إطلاق القول بالتوقف مطلقًا.

فائدة: يقع في (بعض) نسخ الأصول، ابن العاص، بالعين المهملة، وهو تصحيف، وإنما هو القاص بالقاف والصاد المهملة، اسمه: أحمد، واشتهر بأبي العباس، من الفقهاء الشافعية، وهو: أبو العباس (بن أبي) أحمد، المعروف بابن القاص الطبري، صاحب أبي العباس ب سريج، مات سنة خمس وثلاثمائة، وله مصنفات كثيرة: (المفتاح)، و (أدب القضاة)، و (المواقيت)، و (التلخيص)، وفيه يقول الشاعر: عقم النساء فلم يلدن شبيهه *** إن النساء بمثله عقم وعنه أخذ أهل طبرستان، ذكره أبو إسحاق في طبقات الفقهاء وتصحف (بابن الفارض) بالفاء واحدة من فوقها، والراء المهملة. و"بالعارض" بالعين، وإنما هو القاص بالقاف والصاد المهملة.

وأما إذا (لم يعلم) التأريخ، فعند الشافعي- رضي الله عنه- إنما الخاص منهما يخص العام. وعند أبي حنيفة- رضي الله عنه- يتوقف فيهما، ويرجع إلى غيرهما، أو إلى ما يرجع أحدهما على الآخر، وهذا هو مقتضى أصله؛ لأن الخاص دائر ين أن يكون منسوخًا، أو مخصصًا، وناسخًا مقبولًا، وناسخًا مردودًا، وعند حصول التردد يجب التوقف؛ لأن الخاص يحتمل عند الجهل بالتأريخ أن يكون متقدمًا، فيكون منسوخًا عنده بالعام المتأخر، فمقتضى قاعدته. وإن كان متأخرًا وورد قبل العمل بالعام، كان مخصصًا، أو بعد العمل فيكون ناسخًا مقبولًا، إن كان مساويًا له أو أقوى منه من جهة السند، فإن المتقدم إن كان متواترًا لا ننسخه بالآحاد المتأخر، وإن كان متواترًا نسخ العام المتقدم في الأفراد التي يتناولها الخاص، فلم (تعارضت الاحتمالات) وجب التوقف على قاعدته. واحتج أصحابنا على مذهبهم بوجهين: أحدهما: أنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه، أو يتقدمه، أو يتأخر عنه، وقد ثبت تخصيص العام بالخاص على التقديرات الثلاثة، فعند الجهل بالتأريخ يكون الحكم أيضًا كذلك، وهذا الوجه الضعيف، بسبب أن الخاص المتأخر عن العام- إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعام، كان تخصيصًا، وإن ورد بعده كان ناسخًا.

وعلى هذا يقول: إن كان العام والخاص مقطوعين، أو مظنونين، أو العام مظنونًا والخاص مقطوعًا-: وجب ترجيح الخاص على العام؛ لأن الخاص دائر ين أن يكون ناسخًا، أو مخصصًا. وعلى التقديرين: فالخاص مقدم في هذه الصورة. وأما إذا كان العام مقطوعًا، والخاص مظنونًا- فبتقدير أن يكون الخاص مخصصًا- وجب العمل به؛ (لأن تخصيص الكتاب بخبر الواحد حائز، لكن بتقدير أن يكون ناسخًا، لا يجب العمل به)؛ لأن نسخ الكتاب بخبر الواحد لا يجوز. والحاصل: أن الخاص دائر بين أن يكون مخصصًا، وبين أن يكون ناسخًا مقبولًا، (أو ناسخًا مردودًا، وإذا كان كذلك، لم يجب تقديم الخاص على العام مطلقًا، بل يفصل في النصوص، ويقال: هل هما حالة النطق مقطوعين، أو مظنونين، أو أحدهما؟ وتخرج أحكامها على هذه القواعد المتقدمة، ولا يجزم بالتقديم مطلقًا، بل يقدم العام المقطوع على الخاص المظنون؛ لاحتمال تأخره عن وقت العمل بالعام، ويقدم الخاص المقطوع على العام المظنون السند؛ لأن أسوأ حالة أن يكون ناسخًا، وهو يصلح لذلك. وثانيهما: قالوا: العموم يخص بالقياس مطلقًا؛ فلأن يخص بخبر الواحد أولى.

وهذا الوجه- أيضًا- ضعيف؛ لأن القياس يقتضي أصلا يقاس عليه- فذلك الأصل إن كان متقدمًا على العام، لم يجز القياس عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه خاص متقدم على عام، فيكون منسوخًا بالعام على قاعدته، والقياس على المنسوخ باطل. فكذلك إذا جهل تقدمه وتأخره، لا يجوز القياس عليه؛ لأنه دائر عنده بين أن يكون منسوخًا، فيبطل القياس، أو لا، فيصلح القياس، والدائر بين الصحيح والباطل باطل. ولأبي حنيفة- رحمه الله- أن يمنع هذه الطريقة التي للأصحاب على أصله، فلا يستقيم تمسك الأصحاب بها. قال الإمام فخر الدين: إن فقهاء الأمصار- في هذه الأعصار- لم يزالوا يخصصون أعم الخبرين بأخصهما، مع فقد علمهم بالتأريخ، مع أن ابن عمر لم يخص قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحرم

الرضعة والرضعتان}، وعنه أيضًا لما سئل عن نكاح النصرانية حرمه محتجًا بقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن}، وجعل العام رافعًا لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب} مع خصوصه. ويمكن الجواب عنه (من وجهين): أحدهما: أنا (لا) ندعي الإجماع إلا بعده في الأعصار المتأخرة، ولا تنافي بين تقدم الخلاف وتأخر الإجماع. وثانيهما: أن القاعدة المتقدمة (أن العام في الأشخاص، مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات)، ومن جملة الأحوال: خمس رضعات، والرضعة

الواحدة، فيكون التعيين تقييدًا لتلك التي هي المفهومة من قوله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم}، ولعله كان لا يرى بتقييد المطلق، ويرى بتخصيص العام. والكل مختلف فيه. فلعل مدركه عدم التقييد، لا عدم التخصيص. وكذلك} والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم} إنما هي حالة خاصة، ولم يرد التقييد بها، بل بقى المطلق على إطلاقه. ويحتمل أن يكون امتنع من ذلك الدليل وحده، منعه من التخصيص في هذه الصورة. تنبيه: الحنفية لما اعتقدوا: أن الواجب (في) مثل هذا العام والخاص، إما التوقف، وأما الترجيح، ذكر عيسى بن أبان ثلاثة أوجه في الترجيح. أحدها: اتفاق الأمة على العمل بأحدهما. وثانيها: عمل أكثر الأمة بأحد الخبرين، وتعيينهم على من لم يعمل به، كعملهم بخبر أبي سعيد، وعيبهم على ابن عباس حين نفى الربا في الزيادة، وخصصه بالنسيئة معتمدًا على قوله - صلى الله عليه وسلم - (إنما الربا في

النسيئة). وثالثها: أن تكون الرواية لأحدهما أشهر. وزاد أبو عبد الله البصري وجهين (آخرين): أحدهما: أن يتضمن أحد الخبرين حكمًا شرعيًا، والآخر مضمونه حكم عقلي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشرعيات، لا لبيان العقليات. وثانيهما: أن يكون (أحد) الخبرين بيانًا للآخر بالاتفاق، كاتفاقهم على أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا قطع إلا في ثمن المجن)، بيانًا لآية السرقة،

لأنهم لو لم يتفقوا على أنه بيان لما تقدم؛ لأن التخصيص كله بيان، فلولا الإجماع، لوجب التوقف عند هذا القائل بين العموم وهذا المخصص، لكن لما دل الصادق المعصوم الذي هو الإجماع: على أنه بيان له، وجب المصير لما قاله الإجماع اضطرارًا. قال أبو الحسين البصري: وهذه الأمور المرحة أمارة لتأخير أحد الخبرين، إذ لو كان متقدمًا منسوخًا، لما اتفقت الأمة على استعماله، ولما كان نقله أشهر، ولما أجمعوا على كونه بيانًا لناسخه، وكون الحكم غير شرعي يقتضي كون الخبر الذي تضمنه (مصاحبًا) للعقل، وأن الخبر المتضمن للحكم الشرعي متأخر. قال الإمام فخر الدين: وهذا الوجه ضعيف. قال ابن يونس الموصلي- في تعليقه على المحصول-: يزيد أن هذا لا

مقارنة هذه المسألة عند النقشواني بالشهادتين والعمل بهما مع تقدم أحدهما

يفيد اعتقاد أنه متأخر، بل لعل سبب ذلك ما ذكره الجمهور من كونه خاصا، وهو الموجب لتقديمه على العموم. سؤال: قال النقشواني في شرح المحصول: الشهادتان، إذا علم تقدم أحداهما، عمل بها، وقدمت. وإن جهل التأريخ، عمل بهما، مع أن كل واحدة منهما يمكن أن تكون مقبولة ومردودة، فعلى هذا لا ينبغي التوقف عند الجهل بالتأريخ، بل يعمل بهما، فما الفرق بين البابين؟ ومثاله: إذا شهدت إحداهما: أنه أقرضه مائة، وشهدت الأخرى: بأنه أبرأه من خمسين، حتى يبقى فيهما أعم وأخص، فإن علم تقدم الإبراء، لم يعتبر، أو تقدم القرض، اعتبر (وبرئ من خمسين)، وإن جهل التأريخ، اعتبرت البينات، ولزمت خمسون فقط مع جهل التأريخ، ولا يحصل ها هنا توقف أصلا، مع جواز أن يكون الإبراء قبل القرض، فلا يؤثر إسقاطًا، وتبقى المائة

على حالها، لتأخرها عن زمن الإبراء- مع أنه لم يقل به أحد. فكما لم يحصل التوقف في الشهادتين في حالة من الحالات- علم التأريخ أم جهل، فكذلك في الخبرين، وهذا مستندهم في الإعابة على من ترك العمل بخبر أبي سعيد في الربا، وتقديم احتمال التخصيص على احتمال النسخ؛ لأنه أخف، وكما في الشهادتين. * * *

الباب الثالث والعشرون فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك

الباب الثالث والعشرون فيما ظن أنه من مخصصات العموم مع أنه ليس كذلك وفيه عشر مسائل: المسألة الأولى: الخطاب الذي يرد جوابًا عن سؤال سائل- إما أن لا يكون مستقلا بنفسه، أو يكون. والأول على قسمين: لأن عدم استقلاله إما أن يكون لأمر يرجع إليه، كقوله عليه الصلاة والسلام- وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر- فقال: (أينقص إذا جف؟ ) قالوا: نعم، قال: (فلا، إذن). وإما أن يكون الأمر يرجع إلى العادة، كقوله: (والله لا أكلت)، في جواب من يقول: (كل عندي)؛ لأن هذا الجواب مستقل بنفسه، غير أن العرف يقتضي عدم استقلاله، حتى صار مقتصرًا على السبب الذي خرج عليه.

وعدم استقلال: الأول: لأجل اللفظ؛ (لأنه لو نطق عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله): (فلا، إذن) وحده، لم يستقل. وأما (لا أكلت)، فإنه جملة مستقلة، يحسن السكوت عليها، ويستقل العقل بفهم معناها، وإنما العادة منعت فيها الاستقلال، لأجل تقدم قوله: (كل عندي)، أما لو لم يتقدم هذا السؤال، استقل بنفسه، ولم ينضم إلى غيره؛ لا عادة ولا لغة. فائدة: لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرطب هل ينقص إذا جف؟ (يقتضي) أنه كان لا يعلم ذلك؟ بل كان يعلمه، بل قصد بهذا السؤال تنبيههم على علة المنع، وسبب السؤال والجواب ومحاورة اللفظ، تقرر العلة في أذانهم، ويتضح الحكم أيضًا قويًا، فهذا هو حكم السؤال، لا يحصل العلم بالمسئول عنه. والقسم الثاني: - وهو المستعمل- على ثلاثة أنواع؛ لأن الجواب: إما أن يكون أخص، أو مساويًا، أو أعم. والأعم: إنما يكون أعم مما سئل عنه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن ماء البحر-: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فهذا أعم مما سئل عنه، أي ضم إلى جنس السؤال جنس آخر وهو الميتة.

وقد يكون أعم مما سئل عنه في ذلك الجنس خاصة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن بئر بضاعة: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه). والمساوي: كقولك- لمن قال لك: هل في الدار زيد؟ - فتقول: نعم. تنبيه: لم يقض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بئر بضاعة بشيء، لا بطهارة ولا بنجاسة بل ذكر ضابطًا عامًا للماء، فكأنه قال: أعرضوا بئر بضاعة على هذا الضابط، فإن كان لم يتغير فهو طهور، وإلا فنجس. وقد فهم جماعة من الفقهاء وأئمة الحديث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم في بئر بضاعة بالطهورية، حتى قال بعضهم: دخلت على البستان الذي فيه البئر بالمدينة، فوجدته صغيرًا- وذكر مساحته- ثم قال: فمثل هذه المساحة لا يضرها التغيير؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - حكم له بالطهورية، مع قولهم له عليه الصلاة والسلام: (إنه تلقى فيه الجيف والنتن)، ذكره أبو داود، وهو متجه لمن تأمله.

إذا عرفت هذه الأقسام، فنقول: أما الجواب الذي لا يستقل بنفسه، فإنه يقيد مع سببه، فيكون السبب موجودًا في كلام المجيب تقديرًا، وإلا لم يفد، ولو أن المتكلم أتى بالسبب في كلامه، فقال: (والله لا أكلت عندك)، لكان اليمين مقصورًا على الأكل عنده. وأما الجواب المستقل المساوي، فلا إشكال فيه. وأما الأخص فهو جائز بثلاثة شروط: أحدها: أن يكون فيما خرج عن الجواب/ تنبيه على ما لم يخرج عنه حتى (لا يحتمل العموم). وثانيها: أن يكون السائل من أهل الاجتهاد، ليكون له أهلية فهم ما بقي مما ذكره. وثالثها: أن (لا) تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد.

وبدون هذه الشرائط لا يجوز. أما إذا كان الجواب أعم في غير ما سئل عنه، فلا شبهة في أنه يجري على عمومه. أما إذا كان الجواب أعم فيما سئل عنه خاصة، فالحق: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، خلافًا للمزني، وأبي ثور فإنهما زعما أن خصوص السبب يكون مخصصًا لعموم اللفظ، قال إمام الحرمين: وهو الذي صح عن الشافعي رضي الله عنه. هذا نقل الإمام فخر الدين رحمه الله. وقال الإمام في البرهان: لا يجوز تخصيص العموم بسبب؛ لأنه يدخل فيه دخولا أوليًا. ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تخصيصه به- وهو بعيد جدًا- وظهر ذلك للناقلين في حديثين:

أحدهما: حديث العجلاني في اللعان فإنه لاعن امرأته وهي حامل، ونفي حملها فانتفى، ومنع أبو حنيفة نفي الحمل باللعان، وإن لم يرد في اللعان غير قضية العجلاني. والحديث الآخر حديث عبد بن زمعة، وكان سأل عن ولد أمه في ملك

اليمين، فقال: ولد على ملك أبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) فألحق أبو حنيفة الولد بالنكاح- وإن استحال الوطء- ولم يلحق ولد المملوكة بمولاها، وإن أقر بالوطء والافتراش، قال: ولا يليق نسبة هذا له، بل يحمل على أن الحديثين لم يبلغاه بتمامهما. لنا وجهان: الأول: أن المقتضي للعموم قائم، وهو اللفظ الموضوع للعموم، والمعارض الموجود- وهو: خصوص السبب- لا يصلح معارضًا؛ لأنه (لا) منافاة بين

عموم اللفظ وخصوص السبب (في عادة لسان العرب، والعلم باجتماع العموم والسبب واندراج السبب فيه) اندراجًا أوليًا من لسان العرب ضروري. الثاني: أن الأمة مجمعة على أن آية اللعان، والظهار، والسرقة، وغيرها إنما نزلت في أقوام معينين، مع أن الأمة عممت أحكامها، والأصل عدم مخالفة الدليل، فيكون حكم الأمة على وفق الدليل، وهو المطلوب. احتج المخالف: بأن المراد من ذلك الخطاب، إما أن يكون ما وقع السؤال عنه أو غيره. فإن/ كان الأول: وجب أن لا يزاد عليه، وذلك يقتضي أن يختص بخصوص السبب. وإن كان الثاني: وجب أن لا يتأخر البيان عن تلك الواقعة، ولا إليها. والجواب: (أن ما ذكروه يقتضي) أن يكون ذلك الحكم مقصورًا على ذلك السائل، وعلى ذلك الزمان، وذلك المكان، وتلك الهيئة. أو يقول: لم لا يجوز أن يقصد بالعموم إنشاء معنى عام يلزم منه بيان جواب السؤال؟ لأنه يقصد به بيان مشكل تقدم حتى يلزم تأخير البيان إلى هذه الواقعة، بل قصد به الإنسان، والبيان في السؤال يحصل ضمنًا. قال الإمام فخر الدين: هذا العام- وإن كان حجة في موضع السؤال وفي غيره- إلا أن دلالته على موضع السؤال أقوى منه على غير ذلك الموضع، وهذا يصلح أن يكون من المرجحات.

المسألة الثانية: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي

المسألة الثانية: الحق أنه لا يجوز تخصيص العموم بمذهب الراوي، وهو قول الشافعي -رحمه الله- لأنه قال: (إن كان الراوي حمل الحديث على أحد محمليه: صرت إلى قوله، وإن ترك الظاهر: لم أصر إلى قوله)، خلافًا لعيسى بن أبان. ومنهم من فصل، وقال: إن وجد خبر يقتضي تخصيصه، أو وجد في الأصول ما يقتضي ذلك، لم يخص الحديث بمذهبه، وإلا خص بمذهبه. ومثله إمام الحرمين في البرهان بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء وهاء) وحمل رواية عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على التقابض في

المجلس. وحكى القاضي عبد الوهاب المالكي في الملخص، في هذه المسألة- خمس مذاهب: تقديم ظاهر الخبر مطلقًا. وتقديم تفسير الراوي مطلقًا. والثالث: إن عدل عن الظاهر قدم الظاهر، وإن كان تأويلا فالتفسير أولى. والرابع: لبعض المالكية، إن كان مما يعلم بمشاهدة الحال ومخارج الكلام، فهو أولى بالاستدلال، فالخبر أولى. والخامس: زيادة على الرابع- إن كان لا طريق إلا ذلك فهو أولى، وإن احتمل ذلك وغيره، فالخبر أولى. وقال الشيخ شمس الدين الأبياري في شرح البرهان: ما علمت أحدًا يقول بتقديم تفسير الراوي على الخبر، لكن (تفسيره يدل) على دليل تقدم على الخبر وإلا لما قدمه الراوي لعدالته. قلت: وهذا ليس بخلاف للجماعة؛ لأنه مدركهم.

ومثل ابن برهان- في المسألة- في كتابه المسمى بالأوسط/ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه)، فخصصه راويه بالرجل دون المرأة، وتخرج على الخلاف حجة الحنفية في أن المرأة لا تقتل. ومثله الإمام فخر الدين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا) فخصصه راويه أبو هريرة -رضي الله عنه- بأنه

يغسل ثلاثًا. قلت: وهذا المثال أبعد المثل، بسبب أنه اسم عدد، وأسماء الأعداد لا يدخلها المجاز، لأنها نصوص، والتخصيص مجاز فلا يدخل في لفظ السبع بل يحمل مذهب أبي هريرة (على) أن السبع مندوب إليها، والثلاثة هي الواجبة، فيكون هذا قولا بالمجاز في المقتضي للطلب، وهي صيغة الأمر، لا في لفظ العدد، ولا عموم هاهنا البتة. وكذلك (مثال) إمام الحرمين لا يتجه، بسبب أن التوسع في القبض إلى آخر المجلس حالة من حالات بيع الذهب بالذهب والعام في الأشخاص، مطلق في الأحوال- فلا يلزم من إخراج هذه الحالة الخاصة وتعيين حالة أخرى للحكم أن لا يكون الحكم ثابتًا في جميع الأفراد، ثابتًا في حالة مطلقة، بل ثبوته في حالة خاصة يستلزم ثبوته في حالة مطلقة، لضرورة استلزام الخاص العام.

المسألة الثالثة: لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافا لأبي ثور

المسألة الثالثة: لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه خلافًا لأبي ثور. وهذه المسألة مشروطة بالاتفاق في الحكمين، كقولنا: (اقتلوا المشركين، اقتلوا عبدة الأوثان)، وهم بعض المشركين، والحكم في الكلامين (في) وجوب القتل. أما لو اختلف الحكم، كان غير التخصيص، كقولنا: (اقتلوا المشركين، ولا تقتلوا النصارى في حالة ما). ومثل الإمام فخر الدين هذه المسألة بقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقد طهر)، ثم قال في جلد شاة ميمونة: (دباغه طهوره)، يريد أن التنصيص على جلد شاة

ميمونة) يقتضي اختصاص الحكم الأول بجلود الشياه, وجلود الشياه بعض الأهب. وهذا فيه تكلف من جهة أنا إن حملنا العام على جلد شاة ميمونة خاصة, كان بعدًا شديدًا عن ظاهر اللفظ العام, وإن حملناه على جلود الشياه كلها, فالحديث لم يتعرض له البتة بلفظه. والأحسن تمثيله بنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم يضمن, ونهيه- مع ذلك-عن بيع الطعام قبل قبضه, والطعام بعض المنصوص عليه في الحديث الأول.

فهل يحمل (العموم عليه) خاصة- وهو مذهب مالك رحمه الله-؟ وهو مشكل من جهة أن الصحيح والمشهور: أن العام لا يخص بذكر بعضه, والفرع على الضعيف ضعيف. وتوهم بعضهم: أن هذا من باب حمل المطلق على المقيد, (وليس كذلك, كما سيتضح لك- إن شاء الله- في باب حمل المطلق على المقيد) , وأن من شرطه أن يكون في كل, لا كلية. حجة الجمهور: أن المخصص للعام لابد أن يكون بينه وبين العام منافاة, ولا منافاة بين كل الشيء وبعضه؛ لأن كل الشيء محتاج إلى بعضه, والمحتاج إليه لا ينافي المحتاج. قلت: ويرد عليه أن هذا ليس مدرك الخصم, فإنه لم يجعل الجزء منافيًا لكل الشيء, حتى يلزم من إبطال مدركه إبطال مذهبه. ويتعين المذهب الآخر, بل مدركه: أن ذكر بعض الشيء, وتخصيصه بالذكر, يقتضي أن حكم الكل مغاير للحكم المذكور في البعض, فلا يفهم العرب من قول القائل: قبضت بعض الدين, أو قبضت دينارًا- وله عنده مائة- إلا أن الباقي لم يقبض, فكذلك هاهنا, ففرق بين كل الشيء وبعضه,

وبين كل الشيء وذكر بعضه على وجه الاختصاص, فهو عنده من باب دلالة المفهوم المنافي للمنطوق؛ (لأن المنطوق ينافي المنطوق) , فلا جواب لنا عن حجته. إلا أنا نمنع أن المفهوم حجة, أو نقول: هو حجة, لكن ظاهر العموم أولى تقديمًا للمنطوق على المفهوم, ويؤل الحال في المسألة إلى جواز تخصيص العموم بالمفهوم. وإن سلم تخصيص العام بالمفهوم, أمكن أن نمنع في هذا المفهوم, لا سيما إذا لم يصرح بلفظ البعض, بل ذكر اسم جنس كالطعام, هو بعض أنواع جنس آخر, كما تقدم في بيع ما لم يضمن. ويخصص تخصيص العام بالمفهوم بما إذا كان المفهوم مفهوم صفة, نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - (في سائمة الغنم الزكاة) , مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل أربعين شاة شاة) , فإن السائمة بعض الغنم, أو مفهوم الشرط, وغير ذلك من المفهومات القوية. وبهذا يجاب عن النقض إذا ورد على المالكية وغيرهم.

المسألة الرابعة: التخصيص بالعادات

المسألة الرابعة: التخصيص بالعادات تقدم التنبيه على هذه المسألة, لكن إعادتها هاهنا, لبيان تتمات حسنة. منها: أن العادة قد تكون عادة الناس, وقد تكون عادة صاحب الشرع. فإن كانت عادة الناس, خصصت العمومات التي ينطق بها الناس في وصاياهم وأيمانهم ونذورهم وطلاقهم, وغير ذلك من تصرفاتهم, فكل من له عادة في لفظه (حمل لفظه) على عرفه الذي تقدم نطقه, (أما المتأخر عن نطقه) , فلا يخصص لفظه, كانت العادة خاصة به أو عامة في بلده, كالنقود في الأثمان, وتعيين المنافع في الأعيان, أو في جميع الأقاليم, ولا يحمل كلام متكلم على عادة غيره ولا يخصص به, ولا يخصص عموم أهل بلدة بعادة بلد آخر. وكذلك يمتنع التقييد- كما يمتنع التخصيص- بالعوائد المتأخرة مطلقًا, لا تخصيص ولا تقييد, وما علمت في ذلك خلافًا. وأما عرف الشرع وعادته فيحمل لفظه عليها, كما تقول: للشرع عادة في الإيمان- وهو الحلف بالله تعالى- فيحمل عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف واستثنى عاد كمن لم يحلف).

وكذلك إذا كانت للناس عادة علم بها - صلى الله عليه وسلم - وأقرهم عليها, كانت معتبرة بتقريره - صلى الله عليه وسلم -. ومتى احتمل في العادة أن تكون متأخرة عن زمن النطق وأن تكون متقدمة, لم تخصص بها؛ لأن الأصل بقاء العموم على عمومه, حتى يتعين المخصص, والمنافاة بينهما. ومن ذلك أن العوائد قسمان: فعلية, وقولية. فالعوائد القولية تخصص وتقيد, بخلاف الفعلية فإنها ملغاة, وهذا موضع صعب تحقيقه على جمع كثير من الفضلاء, وعسر عليهم تصور الفرق بينهما وتحرير معناهما, فاضبطه وتأمله وتحققه, فإنه من نفائس العلم. فالعوائد القولية معناها: أن الناس يطلقون ذلك اللفظ ولا يريدون به في عوائدهم إلا ذلك الشيء المخصوص, كالدابة, لا يريدون بهذا اللفظ إلا الفرس في العراق, والحمار بمصر, مع أنه موضوع في اللغة لمطلق ما دب. وكذلك الغائط والنجو, والخلاء, وغير ذلك من الألفاظ مما جرت العادة أنه يستعمل في غير مسماه, فيحمل ذلك المنقول إليه في الاستعمال الطارئ على اللغة. ثم النقل والعوائد قد تكون في الألفاظ المفردة نحو: الدابة, وقد تكون في الألفاظ المركبة, وله مثل:

أحدها: قوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم}، كان أصل هذا التركيب أن يفيد في ظاهرة تحريم الأم نفسها من جهة الوضع؛ لأن مفعوله في الظاهر إنما هو الأمهات، ودل العقل والعادة والشرائع على أن الذات من الأمهات وغيرها لا يتعلق بها تحريم ولا تحليل؛ لأن من شرط الذي يتعلق به حكم شرعي أن يكون فعلا للمكلف، مقدورًا له، والذوات ليست مقدورة للعباد، فلا يتعلق بها حكم شرعي، فيتعين حذف مضاف تقديره: يحرم عليكم استمتاع أمهاتكم، أو وطئ أمهاتكم، (يصح اللفظ، وينتظم التكليف، هذا هو مقتضى اللغة)، ثم صار هذا اللفظ في العرف منقولا لهذا المضاف المحذوف، وبقى هذا اللفظ المركب موضوعًا لتحريم الاستمتاع، لا يفهم منه إلا ذلك، ولا يحتاج إلى حذف مضاف أصلا، بل بقي اللفظ مستقبلا بنفسه في الدلالة على ذلك من غير إضمار شيء. وثانيها: قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير}، وهذه الأشياء لا تحرم، لما تقدم من تقرير: أن الذوات لا تحرم، فيقدر في كلامه (في ك) واحد منها ما يليق به من الحذف، كما ينتظم

التكليف- كما تقدم- وذلك مقتضى الوضع، لكن صار هذا اللفظ المركب منقولا لتحريم أكل هذه الحقائق وتناولها، ولا يحتاج- مع هذا النقل- إلى مضاف يقدر البتة؛ لأن الوضع الثاني صار يفيده. وثالثها: قول أهل العرف: الخمر حرام، لا يحتاج إلى تقدير مضاف، وهو شربها، بل صار هذا اللفظ المركب موضوعًا لتحريم شربها، ولو أفرد أحد هذه المركبات نحو: الأمهات، وحدها، أو: الخمر، وحده، لم يفد هذا المعنى؛ لأن الذوات أنفسها يصح تركيبها مع أفعال أخرى نحو: الأمهات آدميات، أو ممكنًا، والخمر معتصرة أو مائع، ونحو ذلك لما يصح من غير مضاف محذوف، وإنما يحتاج إلى الحذف أو النقل في الأفعال الخاصة التي لا يصح تركيبها مع الذوات التي لا يقدر عليها الخلق. ورابعها: ما وقع للفقهاء في قول الحالف: والله لا أكلت رؤوسا، هل يحنث برأس كل حيوان كالسمكة والعصفور ونحوهما، أو لا يحنث إلا برؤوس الأنعام؟ . ووجه الأول: أنه مقتضى اللفظ لغة. ووجه الثاني: أن أهل العرف غلب استعمالهم هذا المركب في رؤوس الأنعام خاصة، فلا يكادون ينطقون بلفظ (الرأس) و (الرؤوس) بدون لفظ الأكل مع

غير رؤوس الأنعام، فإذا قالوا: رأينا رأسًا، احتمل رأس آدمي أو حيوان غيره. وكذلك: ضربت، وغيره من الأفعال، بخلاف (أكلت) مع لفظ (الرؤوس). هذا المركب يختص في عرف الاستعمال بالرؤوس من الأنعام. ومنشأ الخلاف بين العلماء: هل وصل الاستعمال في العرف في الكثرة إلى حد يصيره منقولا، أم لم يصل إلى ذلك؟ والحق وصوله، وضابط الوصول: أن يصير الذي يدعي النقل إليه يفهم من اللفظ من غير قرينة. والخامسة: ما وقع للفقهاء من قولهم: (أيمان المسلمين تلزمني)، أي شيء يتعين لزومه له؟ فعينت المالكية الطلاق والعتاق والصدقة، وكفارة يمين الحنث، والحج إلى بيت الله الحرام، ولم يعينوا الاعتكاف ولا الصوم ولا الجهاد ولا الرباط، مع أن هذه الأمور يصح نذرها كما يصح نذر الصدقة، ويلتزم كما يلتزم الطلاق والعتاق وغيرهما. غير أن الفرق: أن أهل العرف عليهم تركيب النذر والأيمان بهذه الأمور التي عينها الفقهاء، دون التي تركوها، فإنها لا تنذر إلا على الندرة، فلم يحصل فيها النقل بسبب قلة الاستعمال، فلما صارت تلك الأمور من الطلاق وغيره، اللفظ منقولا إليها، بسبب غلبة الاستعمال، حمل اللفظ عليها عند الطلاق، دون غيرها. ويغلط كثير من الفقهاء فيقول: إنما حمل على هذه الأمور؛ لأن عادة الناس

يفعلونها، وهو غلط، بل لما ذكرته، ولما ستقف عليه من النقول في العرف الفعلي. وأما العوائد الفعلية: فتظهر بالمثال، فإذا حلف الملك: لا أكلت خبزًا، فأكل خبز الشعير حنث، وإن كانت عادته لا يأكل إلا القمح، أو حلف لا يلبس ثوبًا، يحنث بلبس ثياب الكتان، وإن كانت عادته يلبس ثياب الحرير. والسبب في ذلك: أن العرف القولي ناسخ للغة، وناقل للفظ، والناسخ مقدم على المنسوخ، والفعل لا ينقل؛ لأنه لا يلزم من لباس الثياب الصوم/ دائما تغيير لفظ الثوب عن موضعه، فلا معارضة بين العرف الفعلي والوضع اللغوي، فلذلك لم يخصص ولم يقيد. والعرف القولي معارض للغة، فقضى به عليها، فتأمل الفرق، فكثير من الفقهاء لم يخطر بباله هذا البحث، ولا هذا الفرق. وقد قال الشيخ سيف الدين الآمدي -رحمه الله-: إذا كان قوم لا يأكلون طعامًا مخصوصًا- فورد تحريم الطعام بصيغة العموم- حمل على عمومه في المعتاد وغيره عند الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قاس أحد العرفين على الآخر، وهو غير متجه، لما تقدم من الفرق، وحكي الغزالي في المستصفى

هذا المثال بعينه، وجزم بعدم التخصيص به، ولم يحك خلافًا، وقال المازري في شرح البرهان: إن العادة الفعلية ليست مخصصة، بخلاف القولية. ومثال الفعلية قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا)، مع أن عادتهم لا يضعون في أوانيهم التي يصل إليها الكلاب إلا الماء، فيختص ذلك بالماء، أو يعم جميع ما يتصور فيه الولوغ، خلاف مذهب مالك، قال: وكأنها عادة قولية، (فلم يجزم بذلك. قلت: وتوقف في موضع التوقف، بل المخصص عادة قولية)؛ لأنهم لم يكونوا يضعوا في الآنية التي يصل إليها الكلاب إلا الماء، فكان الغالب نطقهم (بصيغة (ولغ) في الماء خاصة، فكان ذلك كغلبة نطقهم) بلفظ الدابة في الحمار، ولم يحك (-أيضًا- خلافًا) غير ما عرض به من التردد. وكذلك قال أبو الحسين البصري في كتابه المسمى بالمعتمد، قال: إن العادة قولية، وإن التخصيص إنما يقع بالعادة القولية، دون الفعلية، ولم يحك خلافًا. ولم أر أحدًا حكى الخلاف في العادة الفعلية إلا الشيخ سيف الدين. وأخشى أن يكون ذلك كما أشار إليه المازري وحكاه عن المالكية، ويكون مدرك الحنفية في تلك الفروع وهو عادة قولية، وقد التبست بالفعلية، كما

تقدم بيانه في ولوغ الكلب, فيظن أنهم خالفوا وما خالفوا, وأظن أني سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يحكي الإجماع في عدم اعتبار العادة الفعلية, وقد طالعت على هذه المسألة في شرح المحصول ستة وثلاثين تصنيفا في علم أصول الفقه, فلم أجد أحدًا حكي الخلاف صريحًا إلا الشيخ سيف الدين الآمدي, وما يبعد أن يكون استنبطه من الفتاوى- والمدرك غير ما ظنه- وما زال الناس يستدلون بالفتاوى على المدارك, لكن قد يصادف, وقد لا يصادف. وقد قال العالمي في أصول الفقه له على مذهب أبي حنيفة لأنه حنفي-: العادة الفعلية لا تكون مخصصة إلا أن تجمع الأمة على استحسانها, ثم قال: ولقائل أن يقول: هذا تخصيص بالإجماع, لا بالعادة. ولعل هذا أيضًا مدرك الشيخ سيف الدين في النقل عنهم, ولو أن في مذهب الحنفية خلافًا في ذلك لنقله العالمي وغيره لما صنفوا في هذه المسألة. فلما لم ينقلوه, دل على (أن غيرهم إنما نقله بالتأويل من الفتاوى. والظاهر انعقاد الإجماع في المسألة, وأي) تعارض بين الفعل والوضع حتى يقضى عليه به؟ فإذا وضع اللفظ لمعنى (لا يختل وضعه لذلك المعنى, فعلنا نحن مسماه أو لم نفعله. أما إذا وضع اللفظ لمعنى) , وصار أسبق إلى الفهم بسبب

الوضع, فإنا إذا غلب استعماله في عرفنا لغير ذلك المعنى, بطل ذلك السبق إلى الفهم, وانتقل السبق للفهم للمعنى الذي غلب فيه الاستعمال, فحصل التعارض, والنسخ, والإبطال, في السبق إلى الفهم, وغلبة الظن أنه المراد, فقدم ذلك على الوضع الأول تخصيصًا وتقييدًا. أما العرف الفعلي فلم يوجد فيه شيء من ذلك, فلا معنى لجعله مخصصًا, ولا مقيدًا, ولا ناسخًا مبطلا. فتأمله, فهو من المواضع النفيسة, عظيم النفع في الأصول والفروع الفقهية, فكثير ما يغلط الفقهاء في الفتيا بسببه, وكذلك في التدريس, والتخريج لما ليس بمنصوص على المنصوص.

المسألة الخامسة: كون المتكلم ناطقا بالخطاب, ومتكلما به, لا يقتضي تخصيص العموم بخروجه منه

المسألة الخامسة: كون المتكلم ناطقًا بالخطاب, ومتكلمًا به, لا يقتضي تخصيص العموم بخروجه منه. أما في الخبر, فكقوله تعالى: {والله بكل شيء عليم}؛ لأن اللفظ عام, ولا مانع من ثبوت حكمه للمتكلم. وأما في الأمر الذي جعل جزاء الشرط- كقوله: من دخل داري فأكرمه, قال الإمام فخر الدين: يشبه أن يكون كونه أمرًا قرينة مخصصة. قلت: وربما (كان) في بعض المواد يختص الجزء- في بعض صور التعاليق- بالمتكلم خاصة, كما لو قال: من دخل داري فعبده حر, أو امرأته طالق, فإن هذا الحكم العام لا يتعداه, ولا تطلق إلا امرأته بالدخول فقط, ولذلك يختص الطلاق بامرأته وحده.

المسألة السادسة: العموم المتناول للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة كقوله تعالى: {يا أيها الناس} ,} يا أيها الذين آمنوا} , يعم الحكم الجميع

المسألة السادسة: العموم المتناول للنبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة كقوله تعالى: {يا أيها الناس} ,} يا أيها الذين آمنوا} , يعم الحكم الجميع. وقال بعضهم: يختص بالأمة؛ لأن علو قدره - صلى الله عليه وسلم - يقتضي إفراده بالذكر إذا أريد بالحكم, فحيث لم يفرد لم يكن مرادا, وهي عادة الملوك والعظماء إذا خاطبوا عامة رعيتهم خصصوا وزراءهم, (وكبراء خاصتهم) بخطاب يخصهم, إذا كانوا مرادين بذلك الحكم, وإذا كانت هذه العادة في الخطاب, وكلام الله تعالى يخصص بالعوائد, فيخصص بهذه العادة؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم البرية, وسيد الكونين. وأجاب الجمهور عن هذه النكتة: أن عوائد الملوك إنما كانت كذلك؛ لأن عظماء دولتهم يقاربوهم في الجلالة والعظمة, فاقتضى الحال في سياستهم أن

يميزوا عن الرعية, حفظًا لقلوبهم عن الفساد, وما يخشى من غوائلهم في إفساد الممالك. وأما الله سبحانه وتعالى, فالعلم كله وجميع المخلوقات بالنسبة إلى عظمة جلاله, لا أقول كالذرة الملقاة في الفلاة, بل كالعدم الصرف, فالتسوية بين أجزاء العالم وجلال الله تعالى ضعيفة جدا, بل ذلك جناب عظيم, كل عظيم بالنسبة إليه ليس بعظيم. فهذا فرق عظيم يمنع من ملاحظة عوائد الملوك في خطاب الله تعالى. وقل الصيرفي: كل خطاب لم يصدر بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتبليغه, يتناوله, وإن صدر بأمره بتبليغه, لم يتناوله, كقوله تعالى: {قل يا أيها الناس}. وهذا صحيح من اللغة, أما من جهة العوائد فلا, فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مأمور بتبليغ الشريعة كلها, وهو داخل فيها كلها بإجماع الأمة إلا ما خصه الدليل.

المسألة السابعة: العموم المتناول لما يندرج فيه السيد والكافر, لا يخصص بخروج هذين الفريقين منه؛ لأن العموم شامل لهما, ولا مانع من بقائه على عمومه

المسألة السابعة: العموم المتناول لما يندرج فيه السيد والكافر, لا يخصص بخروج هذين الفريقين منه؛ لأن العموم شامل لهما, ولا مانع من بقائه على عمومه. وما يتخيل من أن المانع ما ثبت في وجوب خدمة السيد في كل وقت يستخدمه فيه- وذلك يمنعه من العبادات في هذه الأوقات- فضعيف, بسبب أن الله تعالى إنما ملك السادات ما عدا أوقات العبادات, وثبوت حق السادات على وجه العموم ممنوع, فأوقات الصلوات ونحوها مستثناة من الملك إجماعًا, ولا مقال للسيد فيما أوجبه الله تعالى إلا ما أجمعت (عليه الأمة) كالجمعة والحج ونحوهما, لكن الأصل بقاء العموم على عمومه بحسب الإمكان. وأما كفر الكافر فلا يمنعه من اندراجه في صيغ العموم, كما لم يمنع المحدث حدثه من الاندراج في الخطاب بالصلاة. والدهري مندرج في الخطاب الدال على وجوب الإيمان بالرسل, مع أن الإيمان بهم فرع التصديق بالربوبية, فكذلك هاهنا.

المسألة الثامنة: إذا ورد العموم في سياق المدح والذم, لا يوجب تخصيص العام؛ لأن الموجب للعموم موجود, والجمع بين جميع الأنواع فيه ممكن يوجب التعميم

المسألة الثامنة: إذا ورد العموم في سياق المدح والذم, لا يوجب تخصيص العام؛ لأن الموجب للعموم موجود, والجمع بين جميع الأنواع فيه ممكن يوجب التعميم. وقال بعض فقهاء الشافعية بتخصيصه, كقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة}. تمسك به المعممون على وجوب الزكاة في الحلي المتخذ لاستعمال مباح. وقالت هذه الفرقة من الشافعية: لا يصح التمسك به؛ لأن مقصود الكلام إلحاق الذم بمن يكنز, لا سيما وقد نص أرباب علم البيان على قاعدة, وهي: أن الكلام إذا سيق لمعنى, لا يستدل به في غير ذلك المعنى؛ لأن المتكلم لا يتوجه إليه, كما قلنا لأبي حنيفة- رضوان الله عليه- لما استدل بقوله عليه الصلاة والسلام: (فيما سقت السماء العشر) على وجوب الزكاة في الخضروات: إن هذا الكلام إنما سيق لبيان الجزء الواجب, لا لبيان الواجب فيه.

وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) , سيق لبيان أن المجوس يسوى بينهم وبين أهل الكتاب في أخذ الجزية, فلا يستدل به على جواز نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم, نظرًا لاسم الجنس إذا أضيف وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (سنة أهل الكتاب) , أضيفت السنة لما بعدها, فيوجب ذلك العموم, كما تقدم بيانه في بيان صيغ العموم. وبالجملة, فهذه قاعدة مشهورة: (إذا سيق الكلام لمعنى, لا يستدل به في غيره) , مع أن فيها خلافًا, وحكاها القاضي عبد الوهاب المالكي في الملخص مسألة مستقلة, وفهرسها بوقف العموم على المقصود منه, وحكي عن متقدمي المالكية وبعض الشافعية منهم القفال: أنه توقف على ما سيق الكلام لأجله, ويخص به وإن كان عامًا, وحكي عن متأخري المالكية القول بإجرائه على عمومه. فالتمسك بالمنع على الآية ظاهر, وإنما في المسألة غور آخر, وهو أن العام إن تقدمه ذكر قوم, نحو: أكلة الربا ظلموا أنفسهم, ثم يقول: إنه لا يفلح الظالمون, فهل يحمل اللفظ على عمومه؟ وتقول: لا يفلح كل ظالم كيف كان من هؤلاء أو من غيرهم, وكذلك إذا قال: أحسنوا لأقاربكم, وصلوا أرحامكم, ثم يقول: إن الله مع المحسنين, هل يحمل على كل محسن, أو يختص بمن تقدم ذكره؟ ونحو هذه السياقات التي يتجه فيها أن المدح والذم لا يوجب تخصيص العام. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام- رحمه الله-: ويتعين أن يستثنى من

غير هذه القاعدة إذا كان المتقدم شرطًا, كقوله تعالى: {إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا} فإنه يتعين أن الوعد بالغفران هاهنا مختص بمن تقدم ذكره, من المخاطبين في قوله تعالى: {إن تكونوا} , ولا يعم هذا الحكم جميع الخلائق, ولا جميع الأمم الماضية, بسبب أن التعاليق اللغوية أسباب, والجزاءات المترتبة عليها مسببات, والمسبب ناشئ عن سببه, وصلاحنا نحن لا يكون سببًا لمغفرة ذنوب الأمم السالفة في عادة الله تعالى في خلقه, وإن صلاح كل أمة يختص بها, ولا يتعد إصلاح أحد لغيره إلا أن يكون له في ذلك سبب أو معونة, لقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} , وقوله - صلى الله عليه وسلم - (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث, صدقة جارية , أو علم ينتفع به, أو ولد صالح يدعو له, فإذا لم يكن شرطا, فالصحيح الحمل على العموم.

المسألة التاسعة: اختلفوا في العموم إذا تعقبه استثناء أو صفة حكم, وكان ذلك لا يتأتى في (بعض ما تناوله) العموم, هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أو لا؟

المسألة التاسعة: اختلفوا في العموم إذا تعقبه استثناء أو صفة حكم, وكان ذلك لا يتأتى في (بعض ما تناوله) العموم, هل يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض فقط أو لا؟ . مثال الاستثناء قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} إلى قوله: {إلا أن يعفون} , فاستثنى العفو, وأضافه للضمير الراجع للنساء, ومعلوم أن العفو لا يصح إلا من الرشيدات المالكات أمرهن, دون المحجور عليهن, فهل يجب أن يقال: المحجور عليهن لجنون أو صغر ونحوهن غير مرادات بلفظ النساء؟ وهو العموم السابق في أول الكلام؛ لأن القاعدة العربية: (أن الضمير هو عين الظاهر) , فإذا كان الضمير المراد به الرشيدات, كان الظاهر كذلك, وإلا اختلف الظاهر والمضمر, وهو خلاف القاعدة الموجبة لاتحادهما في المعنى, حتى يدل الدليل على خلافه, أو يقال: كما يلزم مخالفة الظاهر بعدم اتحاد المعنى في اللفظ الظاهر, فيلزم- أيضًا- مخالفة الظاهر (في تخصيص العموم؟ وهو خلاف الظاهر) , بل مراعاة العموم أولى

بسبب أنه يصير اللفظ مجازًا بالتخصيص، ويكون مجازًا في الإفراد. وأما عود الضمير على معنى تضمنه الظاهر فليس مجازًا في الإفراد، فإن الضمير حينئذ يستعمل في موضعه. نعم يلزم المجاز في التراكيب، فإن العرب لم تضع لفظ الضمير يركب إلا مع ظاهر معناه، هو معناه، فإذا رأيته مع لفظ ليس معناه، كان مجازًا في التركيب، والمجاز في التركيب أخف من المجاز في الإفراد، لاختلاف العلماء في أن العرب وضعت المركبات أم لا. فعلى القول بعدم الوضع: لا يكون مجازًا في التركيب البتة؛ لأن الحقيقة والمجاز فرعا الوضع، فحيث لا وضع، لا حقيقة ولا مجاز البتة. فمجاز التركيب أضعف حينئذ وأقرب إلى عدم مخالفة الأصول، فوجب التزامه دون مجاز الإفراد. ومثال الصفة: قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}، ثم قال تعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا}، يعني الرغبة في الرجعية/ والرغبة في الرجعية- صفة للمطلق- حكم شرعي، ومعلوم أن ذلك خاص بالرجعيات، فهل يقال: هذا الضمير لما اختص بالرجعيات وجب أن يكون العموم السابق المراد به الرجعيات، حتى يعمل بقاعدة (عود الضمائر على الظواهر)، وأن معناها يجب أن يكون واحدًا، أو نقول: التزام العموم والمجاز في التركيب أولى من الإفراد، كما تقدم تقريره؟ .

ومثال التقييد بالحكم الشرعي قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء}، ثم قال: {وبعولتهن احق بردهن في ذلك}، وكونهم أحق: حكم شرعي؛ لأنه تقديم من قبل صاحب الشرع، وإباحة الأزواج المطلقات طلاقًا رجعيًا، وهذا الحكم لا يتأتى إلا في الرجعيات، ولا يتناول هذا الضمير من جهة المعنى غيرهن، فيتعارض القاعدتان السابقتان، والترجيح المتقدم كما تقدم تقريره. إذا عرفت ذلك، فنقول: ذهب القاضي عبد الجبار -رحمه الله- إلى أنه لا يجب تخصيص العموم بهذه الأشياء. ومنهم من قطع بالتخصيص. ومنهم من وقف، وهو اختيار الإمام فخر الدين -رحمه الله- محتجًا بأن ظاهر العموم المتقدم يقتضي الاستغراق، وظاهر الضمير يقتضي الرجوع إلى كل ما تقدم؛ لأنه شأن الضمائر؛ لأن الإنسان إذا قال: من دخل الدار من عبيدي ضربته، يقتضي ذلك عود الضمير على كل العبيد، وجرى ذلك مجرى قوله في الضمير: ضربت عبيدي، فليس أحد الظاهرين أولى من الآخر، وقد تقدم جوابه، وأن أحدهما أولى بالمراعاة. فائدة: مثل عود هذه الضمائر على غير ظواهرها قوله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}، فالضمير في

قوله تعالى: {أو تركتموها} ظاهره لفظ لينة وهي النخلة، وقد وصفها بالقطع بقوله: (قطعتم)، النخلة المقطوعة من المحال أن يتركها قائمة على أصولها، فإن القطع ضد البقاء، وإذا قطعت تعذر عودها عادة، فيتعين عود الضمير على غير اللينة المقطوعة. قال العلماء: فيعود على الجنس الذي دل عليه لفظ اللينة، وجنس اللينة/ يقبل أن يبقى منه البعض، إذا قطع البعض، فقد عاد الضمير على غير ظاهره، بل على بعض معناه. وكذلك قوله تعالى: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}، (والمعمر لا ينقص من عمره، فيكون الضمير في قوله (من عمره) عائدًا على جنس الإنسان الذي دل عليه لفظ (معمر) دون خصوص العمر، كما تقدم في اللينة. وقد يعود الضمير على معلوم غير مذكور البتة كقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر}، والضمير عائد على القرآن، ولم يتقدم له ذكر؛ لأن هذا الكلام أول السورة، فتعين أن يكون عائدًا على غير معلوم عند السامع، ليس بمذكور.

وكذلك قوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب}، الضمير المستتر في توارت (عائد) على الشمس- ولم يتقدم لها ذكر-بل عاد الضمير على معلوم، وهو كثير في القرآن والسنة وكلام العرب، وهو يؤكد القول بحمل اللفظ على عمومه؛ لأجل كثرة المسامحة في الضمائر.

المسألة العاشرة: عطف الخاص على العام هل يقتضي تخصيصه؟

المسألة العاشرة: عطف الخاص على العام هل يقتضي تخصيصه؟ هذه مسألة وقع فيها البحث بين الفرق مع الحنفية وهي (قتل المسلم بالذمي)، قال به الحنفية، دون بقية الفرق. احتج الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - (ألا لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده). فقال الحنفية: صدر الحديث وإن كان لكم، فآخره عليكم، وتقريره بثلاثة قواعد: القاعدة الأولى: أن المعاهد أدنى رتبة من الذمي، ومساو لمعاهد مثله، وإنما الذي هو دونه الحربي خاصة. القاعدة الثانية: أن الأدنى يقتل بالأعلى إجماعًا. القاعدة الثالثة: أن العطف يقتضي التسوية. إذا تقررت هذه القواعد فنقول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولا ذو عهد في عهده)، يتعين أن يكون معناه بحربي، ولا يمكن حمله على الذمي ونحوه؛ لأنه يقتل بهما إجماعًا، عملا بالقاعدة الثانية، وهو أدنى، عملا بالقاعدة الأولى. وإذا تقرر أن الذي لا يقتل به هو الحربي، تعين أن يكون المسلم كذلك؛ لأنه معطوف عليه، والعطف يقتضي التسوية- وهي القاعدة الثالثة- وحينئذ تسقط الدلالة من الحديث؛ لأن المقصود هو الذمي، أما الحربي فمجمع عليه.

أجاب الجمهور بأربعة أجوبة: أحدها: لا نسلم أن هذه الواو معناها العطف، بل هي للاستئناف، وحينئذ يبطل التشريك بين ذي العهد والمسلم فيما ذكرتموه. وثانيها: سلمنا أنها للعطف، لكن القاعدة المنقولة عن النحاة: (أن العطف يقتضي التشريك في أصل المعنى الذي سيق الكلام لأجله، دون متعلقاته وظروفه وأحواله، فإذا قلت: اشتريت ثوبًا بدرهم وفرسًا، لا يلزم أنك اشتريت الفرس بدرهم أيضًا، فلم يحصل التشريك إلا في أصل الشراء، دون متعلقاته الذي هو الثمن، وإذا قلت: مررت بزيد يوم الجمعة أو في الدار أو قائمًا، ثم تقول: وبعمرو، لا يلزم مشاركة زيد لعمرو إلا في أصل المرور، دون الظرفين والحال. إذا تقررت هذه القاعدة، فنقول: اللفظ يقتضي أن ذا العهد لا يقتل كالمسلم، أما بمن؟ فهذا هو متعلق القتل الذي لا تلزم الشركة فيه، وعلى هذا يندفع السؤال، ويصح الاستدلال. وثالثها: سلمنا أن العطف يقتضي التسوية في جميع الأمور، غير أنا لا نسلم أن (في) للظرفية، بل للسببية.

وتقريره: أن صاحب الشرع أراد إعلامنا أن المعاهد بسبب (العهد) العصمة، وأن من عاهدناه يحرم دمه، بسبب المعاهدة خاصة، ولم يرد صاحب الشرع أن المعاهد إذا قتل أحدًا يقتل به أو لا يقتل، بل التنصيص على سببية المعاهدة خاصة، ودل على ذلك بلفظ (في)، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (في النفس المؤمنة مائة من الإبل)؛ لأن الظرفية متعذرة هاهنا، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإسراء: (أنه - صلى الله عليه وسلم - وجد امرأة حميرية عجل بروحها إلى النار، بسبب أنها حبست هرة حتى ماتت جوعًا وعطشًا، فدخلت النار فيها)، أي بسببها، وهو

كثير في الكتاب والسنة، فكذلك هذا الحديث: أي لا يقتل المعاهد، بسبب عهده، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال أيضًا. ورابعها: سلمنا أن (في) للظرفية، لا للسببية، لكن مقصود هذا الحديث في المعاهد، أن المعاهد لا يقتل في زمن معاهدته خاصة، وقال ذلك - صلى الله عليه وسلم - نفيًا، لتوهم (ما) يحصل للناس- أن عقد المهادنة يدوم كما يدوم عقد الذمة، فنبه عليه الصلاة والسلام أن عدم قتله/ وعصمته إنما هي في زمن المعاهدة خاصة دون ما بعدها. فهذه أربعة أجوبة سديدة حاسمة لمادة السؤال، ودافعة للإشكال، ونفي الحديث حينئذ يدل على مذهب الجمهور من غير معارض. سؤال: قال النقشواني: هذا المثال هو المذكور في المسألة في جميع كتب الأصوليين، وعليه مناقشة، وذلك أن عطف الخاص على العام له صورتان: إحداهما: عام معطوف على عام، ونعلم بالدليل أن الثاني دخله التخصيص، فهل يلحق هذا بالأول الذي هو المعطوف عليه كقوله: لا تضرب رجلا ولا امرأة، ثم بين أن (المرأة غير القاذفة) وشاربة الخمر.

والصورة الثانية: تعطف خاصًا بلفظه على عام، فهل يقتضي ذلك تخصيص العام الأول كقوله: لا تضرب رجلا ولا امرأة كهلة، فالمرأة الكهلة أخص من المرأة، فهل يخصص الرجل بالكهل؟ والمثال الذي هو من القسم الأول لم يتعين سؤاله.

الباب الرابع والعشرون في حمل المطلق الكلي على المقيد

الباب الرابع والعشرون في حمل المطلق الكلي على المقيد إنما قلت: المطلق الكلي، احترازًا من تقييد العمومات، وأريد به- أيضًا- أن لا يكون في نفي ولا نهي فإن هذه المطلقات- أعني العمومات والنفي والنهي- أفرد له بابًا بعد هذا- إن شاء الله تعالى- وأبين فيه أن ما قاله الأصوليون من إطلاق القول في الجميع لا يستقيم، وأن الذي يستقيم هو هذا الذي عينته خاصة. وإنما وضع الأصوليون حمل المطلق على المقيد في كتاب الخصوص والعموم، بسبب أن المطلق هو قسم العام، التقييد قسيم التخصيص. وهذه الأقسام تلتبس- جدًا- على كثير من الفضلاء، وربما اعتقدوا المطلق عامًا، والتبس عموم الصلاحية والبدل بعموم الشمول، والتبس التقييد بالتخصيص من جهة أن التقييد يقتضي إبطال الحكم في صورة عدم القيد، فدعت الضرورة لبيان ذلك قي باب العموم والخصوص، ليتميز البابان-وبضدها تتميز الأشياء- فتستقر القواعد عند طالب العلم من غير لبس. وقد تقدم في هذا الكتاب باب مفرد في الفرق بين المطلق والعام، وإنما المقصود ها هنا حمل المطلق على المقيد.

القسم الأول: أن يختلف الحكم والسبب معا

قال الشيخ أبو بكر بن العربي- رحمه الله- في كتابه المحصول: الحكم وسببه إما أن يتفقا، أو يختلفا، أو يختلف أحدهما دون الآخر، فهذه أقسام أربعة. القسم الأول: أن يختلف الحكم والسبب معًا، فلا حمل لأحدهما على الآخر كتقييد الرقبة بالإيمان، وإطلاق الشاة في الزكاة، فلا حمل ولا تقييد، بل يبقى المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، لا يتعدى للمطلق، لحصول التباين من كل وجه. القسم الثاني: أن يتفقا معًا، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (في كل أربعين شاة شاة)، فهذا مطلق، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (في الغنم السائمة الزكاة)، فهذا مقيد بالسوم، فيتخرج هذا القسم على القول بأن المفهوم حجة، وأنه يخصص به العموم. وفي المقامين خلاف، فإن قلنا بهما، خصصنا الحديث الأول بالسائمة وأخرجنا المعلوفة، والسبب في الصورتين واحد، وهو المتعة ونعمته، والحكم واحد، وهو وجوب الزكاة. القسم الثالث: أن يكون السبب مختلفًا والحكم واحدًا، كالظهار والقتل سببان مختلفان والحكم واحد، وهو وجوب الإعتاق لرقبة، قيد في أحدهما بالإيمان، وأطلق في الظهار.

القسم الرابع: أن يكون الحكم مختلفا والسبب واحد

القسم الرابع: أن يكون الحكم مختلفًا والسبب واحد، كقوله تعالى في الوضوء: {وأيديكم إلى المرافق}، فقيد غسل اليدين بالمرافق، وأطلق في آية التيمم فقال تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه}، فأطلق اليد ولم يقيدها، فهل يحمل التيمم على الوضوء، فيجب إلى المرافق؟ . فيه خلاف. وقال المازري في شرح البرهان: إن اختلف السبب والحكم، لم يختلف فيه، وإن اختلف السبب وحده، فهو موضع الخلاف، قال: واختلف العلماء في تمثيله والجمهور مثلوه بآيتي الظهار والقتل والإعتاق، ومثله بعضهم بالوضوء والتيمم، وأنكره الأبهري، وقال: التقييد- ها هنا- بعضو وهو الذراع، والمقصود: التقييد بصفة، وقال بعضهم: الكل سواء. قال: ويمكن تمثيل اختلاف السبب دون الحكم ويكون القيد صفة بقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطن عملك}، فأطلق في هذه الآية السبب، وقيد في الآية الأخرى بقوله تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

فمالك أبقى المطلق على إطلاقه، وأفتى بحبوط العمل بمجرد الردة مات عليها، أو تاب ورجع إلى الإسلام. وحمل الشافعي- رضي الله عنه- المطلق على المقيد، فلم يقل بحبوط العمل في حق من أسلم من المرتدين، بل إذا مات على الكفر. قال: ويمكن أن يقال: المطلق ها هنا خطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمقيد عام، فما استوى البابان. قلت: وها هنا بحث آخر حسن، وهو أنه عليه سؤالان آخران. أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم منصبًا، ومن عظم منصبه عظمت مؤاخذته، كما قال تعالى في حقه - صلى الله عليه وسلم -: {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات}، أي نعذبك مثل ما نعذب غيرك على هذا الذنب مرتين في الحياة والممات، وقال تعالى في حق أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين}، وذلك كثير وردت به الشريعة.

وثانيهما: سلمنا أن المراد أمته - صلى الله عليه وسلم -، لكن المقيد فيه أمران، وهما جزآن مرتبان على شرط مركب، فرتب الحبوط والخلود على الردة والوفاة عليها، فأمكن التوزيع، فلا يحصل في ذلك المطلق تقييد. وهذا كما تقول: من شرب الخمر وسرق، جلد وقطعت يده، فالشرط المتقدم مركب، والمشروط مركب، والتوزيع واقع، وأحد أجزاء المشروط مرتب على أحد أجزاء الشرط، والآخر على الآخر، فالجلد مرتب على الشرب، والقطع على السرقة. ونظائره كثيرة، فما تعين أنه من باب التقييد والإطلاق، وإذا حصل الشك والاحتمال، بقي المطلق على إطلاقه؛ لأن الأصل، وبهذا اندفع عن المالكية سؤال صعب، فإنهم يرون بحمل المطلق (على المقيد)، وها هنا خالفوا أصولهم، وبهذا البيان لم يكونوا قد خالفوا أصولهم. إذا تقرر تمثيل المسألة من حيث الجملة، فنقول: أما إذا كان السبب واحدًا، وجب حمل المطلق على المقيد؛ لأن المطلق جزء من المقيد، والآتي بالكل آت بالجزء ولا محالة، فالآتي بالمقيد يكون قد عمل بالدليلين معًا، والآتي بغير ذلك المقيد لا يكون عاملًا بالدليلين، بل تاركًا لأحدهما، والعمل بالدليلين عند إمكان العمل بهما أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر. فإن قيل: لا نسلم أن المطلق جزء من المقيد. بيانه: أن الإطلاق والتقييد ضدان، والضدان لا يجتمعان. سلمنا ذلك، لكن المطلق له عند عدم التقييد حكم، وهو تمكن المكلف من

الإتيان بأي فرد شاء من أفراد ذلك الجنس وتلك الحقيقة، والتقييد ينافي ذلك، فليس تقييد المطلق أولى من حمل المطلق على الندب، وعليكم الترجيح. قلنا: أما أن المطلق جزء من المقيد، فإنه قد تقدم في (باب من) هذا الكتاب قبل هذا، وأن المطلق هو الماهية من حيث هي هي، لا يعتبر فيها قيد السلب ولا قيد الثبوت، فهي حينئذ من حيث هي هي تحتمل سلب القيد وثبوته، وإذا احتملت القيد، لا ينافيه، فلا يكون بينهما تضاد ولا منافاة، وإنما يلزم التضاد والمنافاة من جهة أنكم أخذتم المطلق بوصف عدم القيد، وعدم القيد مناف للقيد؛ لأنه يقتضيه فحصل التنافي حينئذ بين المطلق والمقيد، والإطلاق والتقييد. أما إذا حرر ذلك على ما قلناه، فلا تنافي ولا تضاد حينئذ، ونحن لا نريد بالمطلق والإطلاق إلا هذا المفهوم، وفرق بين الحقيقة بشرط وبين الحقيقة بلا شرط، فالتنافي في الأول دون الثاني، ونحن نري بالثاني دون الأول، فإن شرط العدم غير عدم الشرط، وأيضًا فشرط الخلو عن جميع القيود غير معقول؛ لأن هذا الخلو قيد. وأما قولكم: (المطلق له حكم حالة عدم التقييد، وهو التمكن من الإتيان بأي فرد شاء من أفراد تلك الحقيقة).

فجوابه: أن هذا الحكم غير مدلول عليه باللفظ، وإنما اللفظ لما دل على طلب المطلب، والمطلق هو الحقيقة المشتركة بين جميع الأفراد، وأي فرد تحقق، تحققت تلك الحقيقة فيه، فلا جرم، قال العقل: المكلف مخير بين جميع الأفراد في الإتيان بهذه الحقيقة، فهذا التمكن إنما جاء من جهة العقل، دون اللفظ. أما ثبوت القيد مع المطلق، فهو مدلول باللفظ الدال على القيد، ومراعاة ما هو مدلول باللفظ أولى مما دل عليه العقل. وأما إذا كان السبب مختلفًا كالظهار والقتل، والعتق في الرقبة مقيد في القتل بالإيمان، مطلق في الظهار، وفي هذا القسم مذاهب ثلاثة: اثنان طرفان، والثالث هو الوسط. أما الطرفان، فأحدهما: قول جماعة من المالكية والشافعية. وثانيهما: قول كافية الحنفية: أنه لا يجوز تقييد هذا المطلق بطريق ما ألبتة. وثالثها: المذهب المتوسط وهو قول جماعة من الشافعية: أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك القيد، وإلا فلا يدعون وجوب هذا القياس، بل يدعون أنه حصل قياس صحيح، ثبت التقييد، وإلا فلا. احتجوا على القول الأول: بأن القرآن كالكلمة الواحدة، فكان التقييد

في أحد الموضعين كالمنطوق به في الموضع الآخر، فإن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور، حملنا المطلق على المقيد، فكذلك هاهنا. وأجاب الحنفية- القائلون بالقياس- عن الأول: بأن القرائن كالكلمة الواحدة، بأن لا تناقض في كل شيء، ولولا ذلك لوجب تقييد كل مطلق بتقييد المطلق في موضع واحد، وتخصيص كل عام بتخصيص عام واحد، وليس كذلك. وعن الثاني: أنا إنما قيدنا بالإجماع، لا بما ذكرتموه من القاعدة؛ ولأن سبب الاحتياج للثبات عام في جميع الصور، وهو ضبط الحقوق، وهذا لا تختلف فيه الصور، وسبب قبول قولها وتصديقها هو ظاهر حالها، وهو أن الغالب على العاقل البالغ المسلم الصدق، وهذا واحد في جميع الصور. وإذا اتحد سبب الحاجة وسبب القبول، ظهر الفرق بين صورة النزاع وهذه الصورة؛ لأن صورة النزاع الأسباب فيها مختلفة، واختلاف الأسباب يقتضي اختلاف الأحكام بالتقييد والإطلاق، فتناسب في القتل لعظم مفسدته بكثير الشروط والتغليظ في الجوائز، بخلاف الظهار، مفسدته إنما هي الكذب وقول

الزور، وأين الكذب من قتل النفس في المفسدة؟ فاختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فلا يحمل المطلق على القيد، بل يبقى المطلق على إطلاقه. أما مع اتحاد السبب كالشهادة، فإن موجب اشتراط العدالة هو ضبط الحقوق وصونها عن الضياع بقول الفساق، وهذا معنى عام في جميع الصور. فلا جرم عم التقييد جميع الصور، فهذا فرق عظيم بين صورة النزاع وصورة الشهادة، فلا تلحق أحدهما بالآخر. احتجت الحنفية على بطلان التقييد مطلقًا: بأن النص دل على التمكن من الإتيان بأي فرد شاء المكلف، وهذه المكنة ثابتة بالنص، وما هو ثابت بالنص لا يبطل بالقياس؛ لأن النص مقدم على القياس، ويلزم النسخ النص بالقياس، وهو باطل. وأجاب الشافعية: بأن هذه المكنة عقلية، لا ثابتة بالنص، حتى يلزم رفعه بالقياس، والثابت بالنص إنما هو إيجاب المشترك، والقياس قيد هذا المدلول، وزاد عليه القيد، ولم يبطله، فبطل ما ذكرتموه. ونقضوا عليهم أصلهم، بأنهم اشترطوا في الرقبة السلامة من العيوب. وهذا قيد زادوه على المطلق، وإذا جوزوا ذلك في السلامة من العيوب، ولم يكن إبطالًا ولا نسخًا، فليفعلوا ذلك في التقييد بالإيمان، إذا دل (القياس عليه)؛ ولأن قوله: (اعتق رقبة)، لا يزيد في الدلالة على قوله باللفظ العام: (اعتق الرقاب)، وإذا جاز التخصيص بالقياس- مع مخالفته لصريح

العموم وإخراج بعض ما تناوله اللفظ العام- فأولى أن يجوز هاهنا، بسبب أن التقييد زيادة على موجب اللفظ، لا ينقص من موجب اللفظ والتخصيص منقص، فإذا جاز التخصيص فليجز التقييد بطريق الأولى. وأجاب الحنفية عن الوجه الأول: بأن التقييد بالإيمان (ليس) مثل التقييد بالسلامة من الغيوب، بسبب أن لفظ الإنسان وجميع ألفاظ الأجناب إنما وضع للسليم من ذلك الجنس، ألا ترى أنك إذا سمعت قول القائل: جاء لزيد ولد، فإنما يفهم منه أول الأمر أنه ذو عينين ورجلين ويدين وغير ذلك من أعضائه، والمتبادر للفهم هو الذي وضع له اللفظ، عملا بسائر الألفاظ؛ ولأن الأصل في الاستعمال الحقيقة، وأن السابق إلى الفهم عند التجرد هو مسمى اللفظ، فحينئذ الوضع إنما هو السليم، فشرط السلامة من العيوب أفاده اللفظ بوضعه، فلم يزد على مسمى اللفظ شيء، فليس تقييدًا في المعنى. أما شرط الإيمان فلم يتناوله اللفظ إجماعًا، فكان التقييد به تقييدًا زائدًا على مسمى اللفظ- وهو موضع النزاع- بخلاف القيود الداخلية في مسمى اللفظ. قلت: هذا كلام حسن، غير أنه يشكل عليه شيء وهو أنه إذا أطلق لفظ الإنسان على الأعمى، أو الأقطع، أو من فقد بعض أعضائه، أن ذلك يكون مجازًا، وأن لا يصدق الإنسان حقيقة إلا على الكامل المطلق، وكذلك الفرس المقطوع الأذن، يلزم أن لا يستحق اسم الفرس لغة، وهو بعيد، وحينئذ يكون في هذا المقام مخالفة إحدى القاعدتين، إما أن تستحق هذه الحيوانات

مسألة: إذا أطلق الحكم في موضع وقيد في موضعين بقيدين متضادين

أسماءها عند فقد بعض أعضائها- وهو خلال الظاهر- وإما أن لا تكون المبادرة للفهم دليل الحقيقة- وهو خلاف الظاهر، فينظر في ذلك. والأظهر عندي: أن لفظ الحقيقة صادق على المعيب من الحيوانات، وأن سبق السلامة للذهن إنما هو لأصل الغلبة؛ لأن الغالب من الحيوانات السلامة، فسبق ذلك للفهم، ومدرك هذا اسبق الغلبة؛ لاختصاص اللفظ في الوضع بالسليم. وهذا- أيضًا- يصح أن يكون جوابًا للحنفية، فيقولون: إنما شرطنا السلامة من العيوب لدلالة الغالب عليها، لا لأن اللفظ وضع لها، ولأصل حمل المطلق على المقيد، فلم ينتقض أصلنا في ذلك. قال المازري في شرح البرهان: ورد على الحنفية نقوض: أحدها: اشتراط السلامة من العيوب في الرقبة. وثانيها: اشتراط الفقر في ذوي القربى. وثالثها: أنه يجزي عندهم الأقطع دون الأخرس. ورابعها: لو حلف لا يشتري رقبة، فاشترى رقبة معيبة، فلم تعتبر السلامة في الحنث، يخالف قاعدة الشيخ- لأن الزيادة عنده نسخ، وهنا نسخ القرآن بغير دليل قاطع. مسألة: إذا أطلق الحكم في موضع، وقيد في موضعين بقيدين متضادين.

مثاله: قضاء رمضان الوارد مطلقًا في قوله تعالى: {فعدة من أيام أخر}، وصوم التمتع الوارد مقيدًا بالتفريق في قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}، وصوم كفارة الظهار الوارد مقيدًا بصوم التتابع في قوله عز وجل: {فصيام شهرين متتابعين}. اختلفوا في هذه المسألة على حسب ما تقدم. من قال: إن المطلق (يحمل على المقيد من جهة) اللفظ، ترك المطلق- هاهنا- على إطلاقه؛ لأنه ليس تقييده بأحد القيدين أولى من الآخر. ومن حمل المطلق على المقيد بالقياس، حمله هاهنا- على ما كان القياس عليه أولى. ومن قال بعدم الحمل مطلقًا، قال به هاهنا. واتفق لي مع قاضي القضاة صدر الدين الحنفي- حمه الله- حكى لي يومًا: أنه اجتمع في دمشق مع السيد الشريف شمس الدين، قاضي

العسكر، نقيب الأشراف في الدولة الكاملية، قال: فقلت له: إن الشافعية نقضوا أصلهم، بأنهم قالوا: (يحمل المطلق على المقيد)، وقد ورد في قوله - صلى الله عليه وسلم - في غسل الإناء في ولوغ الكلب سبعًا (إحداهن بالتراب) ورد مقيدًا، أعني لفظ: (إحداهن)، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (أولاهن بالتراب)، ومع ذلك فلم يحملوا المطلق على المقيد، بل أبقوا المطلق على إطلاقه، قال: فلم يجد جوابًا، ولا يمكنهم الجواب عنه. فقلت له: لنا قاعدة وهي: أن المطلق إذا قيد بقيدين متضادين، سقط القيدان، وبقي المطلق على إطلاقه باتفاق الفريقين، وهاهنا كذلك؛ لأنه ورد في الحديث أيضًا: (أخراهن بالتراب)، فسقط القيدان (أولاهن)،

تنبيه: تقييد المطلق بالقياس مع اختلاف الأسباب

و (أخراهن)، لتضادهما، فليس الحمل على أحدهما أولى من الآخر، وبقي المطلق الذي هو: (إحداهن بالتراب) على إطلاقه. وهذا أحسن ما مثلث به المسألة، فإن السبب واحد، والحكم واحد، والقيود متضادة. تنبيه: كيف يصح تقييد المطلق بالقياس مع اختلاف الأسباب، واختلاف الأسباب يوجب اختلاف المصالح، ومع اختلاف المصالح كيف يصح القياس؟ وجوابه: أن الأسباب قد تختلف وتختلف مصالحها- كما تقدم في القتل والظهار- وقد تتفق مصالحها، فيتجه القياس، كالأسباب النواقض للطهارة الصغرى والكبرى، كانت حكمتها واحدة، وإلا لما كان حكمها واحدًا. وكشرب الخمر والقذف حدهما واحد، وذلك يقتضي أن تكون حكمتها واحدة، وإلا اختلف الحد، ولذلك قال علي-رضي الله عنه- لما أراد أن (يسوي بينهما في الحد، إشارة) إلى تقارب الحكمة بقوله: إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فأرى عليه حد المفتري.

فائدة: التقييد والإطلاق اسمان للألفاظ باعتبار معانيهما

فجاز أن يقع التقييد والإطلاق فيما حكمتهما واحدة، وهما مختلفان في الصورة. فائدة: التقييد والإطلاق اسمان للألفاظ باعتبار معانيهما، لا أسماء للمعاني باعتبار ألفاظها، ولذلك تقول: لفظ مطلق، ولا تقول: معنى مطلق، ونظيره من أسماء الألفاظ: لفظ نكرة، ومعرفة، ومترادف، ومتواطئ، ومجمل، ونحو ذلك من أسماء الألفاظ.

الباب الخامس والعشرون في تحقيق الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الأمر والنهي

الباب الخامس والعشرون في تحقيق الفرق بين حمل المطلق على المقيد في الأمر والنهي، والخبر (في الثبوت)، والخبر في النفي، وبين أن يكون المطلق والمقيد كليًا، أو كلا، أو كلية. فإن هذه الحقائق مختلفة الأحكام في حمل المطلق على المقيد، وقد وقعت التسوية بينها في كتب الأصول، والتسوية لا يعضدها الدليل في بعض المواطن. فأردت في هذا الباب بيان ما لا يكون من باب حمل المطلق على المقيد- وإن جعله منه الدليل الذي ذكروه- وهو أن العامل بالمقيد عامل بالدليلين، دليل الإطلاق ودليل التقييد. ولا شك أن هذا الجمع بين الدليلين ميسر في الأمر والمأمور به كلي، نحو: اعتق رقبة، اعتق رقبة مؤمنة، فإن مفهوم قولنا: (رقبة) حاصل في قوله: (رقبة مؤمنة) فإن الثابت مع صفة، ثابت- بالضرورة- بالعامل، فقولنا: (رقبة مؤمنة) عامل بالدليلين. وكذلك: خبر الثبوت، إذا كان مخبره كليًا، كقولنا: بعث الله في آخر الزمان رجلا للخلق كافة، ثم نقول: بعث الله تعالى رجلا نبيًا، فإن مفهوم الأول داخل في الثاني، ولا ينافي أحدهما الآخر، وكذلك: مررت اليوم برجل، مررت برجل صالح، لا يتنافيان، فإذا اعتقدنا أن الذي وقع به المرور هو الرجل الصالح، يكون قد أعملنا الدليلين.

يجمع بين المطلق والمقيد في: الأمر والمأمور به الكلي

وكذلك الأمر إذا كان مأموره كليًا، نحو: صم عشرة أيام، فإن لفظ (العشرة) موضع في لسان العرب لمفهوم هو (كل)، وهو مجموع العشرة- وقد تقدم الفرق بين الكلي والكلية والكل، والجزء والجزئية والجزئي- فإذا قال- بعد ذلك-: صم عشرة أيام متتابعات، فصامها متتابعات، كان قد عمل بالدليلين؛ لأن مفهوم قولنا: (عشرة) داخل في مفهوم قولنا: (عشرة أيام متتابعات). وكذلك الخبر إذا كان خبرًا كلًا، نحو: رأيت عشرة رجال، رأيت عشرة رجال صالحين، فالمطلق الأول حاصل في المقيد، فإذا اعتقدنا: أنه رأى عشرة رجال صالحين، فقد أعملنا الخبرين، واعتبرنا الدليلين. فهذه أربعة أقسام يتجه فيها العمل بالدليلين. أما إذا كان الأمر مأموره كلية، نحو: زكوا عن الغنم، فإن صيغة الغنم صيغة عموم؛ لأجل لام التعريف، فإذا قال- بعد ذلك-: زكوا عن الغنم السائمة، فهذا مقيد بالسوم، ويلزم من حمل المطلق الأول عليه خروج المعلوفة عن وجوب الزكاة، ولا يحصل مفهوم العموم الحاصل من الإطلاق في مفهوم المقيد، بل بعضه خاصة، وهو السائمة، فهذا تنقيص وتخصيص وتناف

ونحوه خبر الثبوت المتعلق بكلية

بين الدليلين، بل هذا من باب التخصيص، لا من باب التقييد، وقد تقدم أن التخصيص عكس التقييد، وأن التخصيص تنقيص، والتقييد زيادة، وأين الزيادة من النقص؟ . فتأمل ذلك. وكذلك إذا كان خبر الثبوت متعلقًا بكلية، كقولنا: رأيت قريشًا، فهذا عام كلية، أو رأيت إخوتك، فإذا قال- بعد ذلك-: رأيت إخوتك الصالحين، أو: قريشًا الصالحين، خرج الصالحون من هذا المطلق الأول، وحصل التخصيص، ولم يحصل مفهوم المطلق الأول في مفهوم المقيد الثاني البتة، بل بعضه، فهو من باب التخصيص، لا من باب التقييد. وكذلك النهي إذا تعلق بكلي، نحو: لا تعتق رقبة، فإنه حينئذ يكون من صيغ العموم، فإن النكرة في النهي مثلها في النفي، فكما أن النكرة في سياق النفي تعم، كذلك النكرة في النهي تعم؛ لأن معنى النهي في النكرة: أن لا تدخل تلك الحقيقة الوجود البتة، وذك يقتضي نفي جميع أفرادها، فلو دخل فرد (منها لدخلت الحقيقة) في الوجود، وهو خلاف ما دل عليه النهي، فحينئذ النهي إذا تعلق بنكرة، اتبعت جميع أفرادها، وحصل العموم من هذا الوجه، واستوى النفي والنهي، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء}، فاقتضى ذلك عموم النهي في الفاعل والمفعول جميعًا، فلا يحل لأحد أن يسخر من أحد البتة، رجلا كان أو امرأة، فالنهي إذا تعلق بكلي حصل العموم، فإذا قال: لا تعتق رقبة، اقتضى ذلك النهي عن جميع الرقاب، فإذا قال- بعد

ومن باب العموم خبر النفي إذا كان متعلقه كليا

ذلك-: لا تعتق رقبة كافرة، خرجت الرقبة المؤمنة من النهي بهذا التقييد، وبقيت الكافرة خاصة، قد حصل التخصيص في العموم الأول، ولم يحصل مفهوم المطلق في المقيد البتة، بل تنافيا وتصادما. وكذلك إذا كان متعلق النهي كلية، كقوله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، فهذا عام في كل نفس، والقضاء فيه بالسلب على كل فرد فرد من أفراد النفوس، فإذا قال- بعد ذلك-: لا تقتلوا النفس القرشية التي حرم الله إلا بالحق، خرج من النهي من ليس بقرشي، ولم يحصل مفهوم العموم الأول الذي في ضمن المقيد البتة، بل حصل التنافي بين النصين والتنافر، وتعذر الجمع بين مفهوم المطلق والمقيد. وكذلك إذا كان متعلق النهي كلا، نحو قولنا: (لا تضرب عشرة رجال، فهذا المطلق مدلوله (كل) فإذا قلنا- بعد ذلك): لا تضرب عشرة رجال مؤمنين، تنافى النصان، بسبب أن الصيغة الأولى اقتضت العموم، فإن (عشرة) نكرة في سياق النهي، وقد تقدم أن النكرة في سياق النهي كالنكرة في سياق النفي، تعم فيهما، وإذا كان الأول للعموم، فقال- بعد ذلك-: (عشرة مؤمنين)، خرج الكفار من هذا العموم، وتنافر النصان وتضادا، ولم يمكن الجمع بينهما البتة، وكان هذا تخصيصًا، لا تقييدًا، وقد تقدم الفرق بين التخصيص والتقييد. وكذلك خبر النفي، إذا كان متعلقه كليًا، نحو قولنا: ما رأيت أحدًا، فهذا

وكذلك إذا كان مخبره كلية أو كلا

الكلي في هذا الخبر يقتضي العموم؛ لأنه نكرة في سياق النفي، فإذا قال- بعد ذلك-: ما رأيت أحدًا نبيًا، خرج من العموم من ليس بنبي، ولا يحصل الأول في هذا المقيد البتة، بل بعضه، وهو الأنبياء عليهم السلام. فقد تنافر اللفظان، وتنافى الدليلان، وتعذر الجمع بينهما البتة، وحصل التخصيص دون التقييد، فلا سبيل إلى الجمع البتة. وكذلك خبر النفي إذا كان مخبره كلية، نحو: ما رأيت الرجال، فالمفعول هنا كلية وصيغة عموم، فإذا قال- بعد ذلك-: ما رأيت رجالا صالحين، خرج من هذا المقيد من ليس برجل صالح، وهو مندرج في الأول، فقد تنافر اللفظان في الإطلاق والتقييد، وتعذر الجمع بينهما، لحصول التخصيص دون التقييد. وكذلك إذا كان متعلق خبر النفي كلا، نحو: ما رأيت عشرة، فإن هذا اللفظ المطلق اقتضى العموم أيضًا، فإن قولنا: (عشرة)، نكرة في سياق النفي فتعم- كما تقدم- فإذا قال- بعد ذلك-: ما رأيت عشرة صالحين، كان هذا المقيد متناولا لبعض ما تناوله المطلق، وهو الرجال الصالحون دون الصالحين، فلم يمكن الجمع بين مدلول المطلق ومدلول المقيد البتة، بل تنافر اللفظان، وحصل التخصيص دون التقييد. وتقريب هذا المرام أن نقول: أقسام الصيغ الدالة في الرتبة الأولى أربعة: (أمر، نهي، وخبر ثبوت، وخبر نفي)، وكل واحد من هذه الأربعة إما أن

يتعلق بـ (كلي)، أو (كل)، أو (كلية)، فيكون مع كل واحد ثلاثة، وثلاثة في أربعة باثني عشر، فينقسم هذا الباب إلى اثني عشر قسمًا. الذي نحن فيه أن يقال: هو من باب حمل المطلق على المقيد أربعة من هذه الاثنى عشر قسمًا وهي: الأمر بكلي أو كل، وخبر الثبوت بكلي أو كل خاصة، وتبقى ثمانية أقسام لا تكون من باب حمل المطلق على المقيد، بل من حمل العام على الخاص وهي: الأمر بالكلية، نحو: زكوا عن الغنم، والنهي عن الكلي، نحو: لا تضرب رجلا، والكل، نحو: لا تضرب عشرة، والكلية، نحو: لا تقتل النفس، وخبر الثبوت عن الكلية، نحو: رأيت الرجال، ثم تقول: رأيت الرجال الصالحين، وخبر النفي عن الكلي، نحو: ما رأيت رجلا، وخبر النفي عن الكل، نحو: ما رأيت عشرة، وخبر النفي عن الكلية، نحو ما رأيت إخوتك. ثم تقول- بعد ذلك في الجميع-: اللفظ المتقدم مع زيادة صفة وعقيب كل مطلق من هذه المطلقات بمقيد يناسبه. فإذا أحطت بهذه الاثنى عشر قسمًا، فقد أحطت بجميع ما يمكن أن يتوهم أنه من هذا الباب، بحيث لا يبقى منه قسم البتة، وظهر- حينئذ- ما هو من باب التقييد وما هو من باب التخصيص، ويتجه لك من هذا الاطلاع على ذلك مباحث وفروق وأسئلة وأجوبة في علم الأصول والفروع.

وإذا حصل التعارض بين قسمين من هذه الأقسام، أمكن الترجيح بأن أحدهما حصل فيه الجمع بين الدليلين، والآخر (ما) حصل فيه ذلك، بل مدلول المطلق فائت ومتعذر، ولم أر أحدًا تعرض لذلك، بل يسوون في الأصول والفروع بين هذه المثل، ويجعلون البحث واحدًا، وليس كذلك. بل ينبغي لك أن تحيط بجميع هذه التفاصيل علمًا؛ لتخرجها على هذه القوانين المتقدمة، ولا تسوي بين المختلفات، فيحصل لك الغلط، وقد بسطت لك ذلك بسطًا شافيًا كافيًا بفضل الله تعالى، بحيث اتضح في غاية الوضوح، والحمد لله على ذلك. وهذا التلخيص هو المقصود من هذا الباب الذي أنا فيه، ولذلك أفردته بالذكر حتى يتضح عند الناظر في هذا الكتاب إيضاحًا جيدًا. وهذا آخر ما تيسر لي في كتاب (العقد المنظوم في الخصوص والعموم)، وهو من نعمة الله تعالى وفضله، نفع الله تعالى به قارئه وكاتبه ومن كان السبب فيه، بمنه وكرمه، إنه على ما يشاء قدير، وحسبنا الله، ونعم الوكيل.

§1/1