العقد المفصل

حيدر الحلي

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل محمّداً حسن الأخلاق، محمود الشمائل والأعراق، طاهر المولد والنقيبة، طيب المحتد والضريبة، قد أكمل منه الحقيقة، وابتعثه إلى جميع الخليقة، بعد أن نظمها بسلك الإنشاء لأجله، ونثر عليها فرائد نعمائه وفوائد فضله، ثمّ أثنى عليه في الذكر الحكيم بقوله عزّ من قائل: (وَإنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) نعترف له بتبليغ الرسالة، ونصلّي عليه صلوة تبلغ في كمالها كماله، وعلى عترته المنتجبة، الذين تفرّعوا من شجرته الطيّبة، وصحبه الأماثل، ما ناوب الطالع الآفل. أمّا بعد؛ فلقد كان ممّا سمع به الدهر على شحه، أن أطلع في سماء الكرم نيّر صبحه، في عصر كأنّه المعنيّ بقول عمّنا المهدي: قد مات من كلتا يديك الكرم ... وسمع جدواك عراه الصمم وغاض من وجهك ماء الحيا ... فعاد منك الوجه صخراً أصم بل أصدق مواعيد أشرافه كالسراب الآفك في ترقرق نطافه، قد تواصت حتّى أمجاده بالبخل، وتعاقدت على طرد بني الآمال طرد غرائب الإبل، فما أحقّهم فيما جبلوا عليه من الطبع الردي بقول الشريف أبي الحسن الرضي الموسوي: وأيد جفوف لا تلين كأنّها ... ولو مطرت فيها العيون جماد لهنّ على طرد الضيوف تعاقد ... هراش كلاب بينهنّ عقاد ولقد أخذه من قول أبي عيادة البحتري: لو صافحوا المزن ما ابتلت أكفّهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا جفّوا من البخل حتّى لو بدى لهم ... ضوء السهي في ظلام الليل لاحترقوا ما فيهم إلاّ من هو منبسط اللسان بالعود، منقبض البنان عن الرفد، حريص إلاّ على حسبه، سمح إلاّ بما أضبت عليه يده من نشبه، كأنّه لم يسمع بقول أبي فراس: وما راح يطغيني بأثوابه الغنى ... ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر وما حاجتي بالمال أبغي وفوره ... إذا لم يفر عرضي فلا وفر الوفر فلا ومن جعل السماحة في الأنجاب غريزة، والشحة فى الأحساب غميزة، ما ضمن ثوب هذا الزمن غير "محمّد حسن" فهو لما فيه من كرم الأخلاق وشرف النفس وطيب الشمائل وحسن المخائل كما قيل فيه، وأنا القائل: ملك عظيم القدر أمّ ملك ... من تحت علياه جرى الفلك لبست به الدنيا أشعّتها ... فانجاب عن أقطارها الحلك نصر الرجا بالحود حين غدا ... بين الرجا واليأس معترك إن تنفرد بالجود راحته ... فالناس فى معروفها اشتركوا لا تلتقي أجفان حسده ... سهداً كأَنّ لها الكرى حسك ولقد كان برقة أخلاقه وشرف طبعه وكرم أعراقه وجميل صنعه قد راض كرائم فكري حتّى استلان جماحها ومسج بيد شرفه غررها وأوضاحها، فجعلت ما أنشأته فيه من المدائح أزاء ما اصطنعه إليّ ابتداء من تلك المنايح لأنّ أفضل المكافات عَلَى الصنيعة شكر من أسداها، والثناء على من أولاها من حيث تظمن الثناء نشر المفاخر وتعداد المآثر على أنّه لظرفه ولما عنده من الهزة والأريحية على وقاره كان كثير الإعجاب بأبكار فكري الأتراب، فرأيت أنّ من تمام القيام بحقوق المحبّة لهذا الماجد أن أجمع شمل ما نظمته فيه وزيّنت به حسان معاليه، وأن أضيف إليه ما أنشأته أنا وعمّنا المهدي في أبيه وأُسرته في ضمن كتاب لطيف امع بين حسن العبارة والتأليف، وأن أُودّع فيه ما كتبنا به إليهم من الرسائل، وأوشّح كلّ مقام انتهي إليه بذكر ما يناسبه من الإستحسانات البديعيّة والإستضرافات الأدبيّة والنوادر الغريبة والحكايات العجيبة، لأنّ ذلك أدعى لتناقل المدح، وأبقى على الدهر لذكر الممتدح، وقبل الشروع بهذا المشروع أوعز هو إليّ أن أضمّ إلى ذلك الشمل ما نظمته في غيرهم من ذوي الفضل، وما اتّفق لي من الأبيات والقصائد في الأغراض والمقاصد، فأجبته إلى ما عزم به عَلَيّ إلاّ أنّي لم أثبت فيه ما كان لي في غيرهم إلاّ ما هو آخذ بنصيب وافر من الحسن والظرف إضراباً عن الإطناب المخل، واجتناباً عن الإكثار من إيراد ما يخرج عن المحل، فنظمت تلك القصائد والفوائد وضممت إليها شمل هاتيك البدائد في سلك هذا الكتاب راجياً أن يقع موقع الإستحسان من نضر ذوي الألباب، ووسمته ب "العقد المفصّل" في قبيلة المجد المؤثل، ورتّبته على مقدّمة وثمانية وعشرين باباً وخاتمة.

فصل في نسبه وحسبه وأصله وشرف بيته

أمّا المقدّمة ففي ترجمة من كان لأجله تنميق الكتاب وذكر أشياء تناسبها وفيها فصول وقد ألزمت نفسي أن أنظم في كلّ فصل ما يناسبه. فصل في نسبه وحسبه وأصله وشرف بيته أقول: أمّا نسبه فهو القمر الطالع بأعلا آفاق العراق، محمّد الملقّب بالحسن، المكنّى بأبي الهادي بن محمّد، الملقّب بصالح الزمن بن المصطفى للكرم، وأتقى من عرف واستلم. نسب أناف على الأنام به ... شرفاً فطال به على قصره هو عقد فضل لم تزل أبداً ... تتزيّن العلياء في درره ذكرت بقولي على قصره قول أبي العلا المعرّي في تعزية الشريفين المرتضى وأخيه الرضي: أنتم ذووا النسب القصير فطولكم ... باد على الكبرآء والأشراف والراح إن قيل ابنة العنب اكتفت ... باب من الأسماء والأوصاف يريد: أنتم في النسب لا تحتاجون إلى تعدّد آباء كثيرة، بل يكفيكم ذكر أب واحد، لأنّ آبائكم كلّهم كبراء كالراح إذا قيل ابنة العنب كفاها هذا النسب عن ذكر أوصاف زائدة على هذه النسبة. وأسماء تكسبها شرفاً، وهذا من أجود التمثيل وأحسنه، لأنّ الرجل إذا كان شريفاً وذكر أباه وعرف به قصر نسبه، وإذا لم يكن شريفاً افتقر إلى أن يذكر آباءً كثيرة حتّى يصل إلى أب شريف يعرف به، وما أحسن قول أبي المناقب وهو يماثل قول المعرّي هذا: لا تمتدحه بآباء له كرموا ... وأحرزوا الأمد الأقصى أباً فأبا فالراح قد أكثر المدآح وصفهم ... لها ولم يذكروا في وصفها عنبا وحكى الفرزدق قال: خرجت من البصرة أُريد العمرة، فرأيت عسكراً في البرية، فقلت: عسكر من هذا؟ فقيل: عسكر الحسين بن علي، فقلت: لأقضينّ حقّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيته وسلّمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: الفرزدق بن غالب، فقال: هذا نسب قصير، قلت: أنت أقصر منّى نسباً، أنت ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال رؤبة العجاج: قد رفع العجاج ذكري فادعني ... باسمي إذا الأسماء طالت تكفّني ويقال: إنّه دخل رؤبة على دغفل النسابة، فقال له: من أنت؟ قال: ابن العجاج، فقال دغفل: قصرّت وعرّفت. وقال الجمحي وقد أتاه بعض الناس يستشيره في امرأة أراد التزويج بها: أقصيرة هي أم غير قصيرة؟ فلم يفهم ذلك، فقال الجمحي: أردت القصيرة النسب تعرف بأبيها أو جدّها، وعلى هذا قول بعضهم: أحبّ من النسوان كلّ قصيرة ... لها نسب في الصّالحين قصير قوله: كلّ قصيرة، أراد المقصورة في البيت لا تترك أن تخرج منه. ولطيف في ذلك قول ذي الرمة: وأنت التي حبّبت كلّ قصيرة ... إليّ وما تدري بذاك القصائر عنيت قصيرات الجمال ولم أرد ... قصار الخطا شرّ النساء البحاتر ولنذكر هنا نبذاً ظريفة وجملاً طريفة في الأسماء والكُنى والألقاب من حديث عليّ عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سمّيتم الولد محمّداً فأكرموه، وأوسعوا له في المجلس، ولا تقبحوا له وجهاً. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم عليها من اسمه محمّد أو أحمد فأدخلوه في مشورتهم إلاّ خيّر لهم، وما من مائدة وضعت وحضر عليها من اسمه محمّد أو أحمد إلاّ وقدّس ذلك المنزل في كلّ يوم مرّتين. وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما من بيت فيه أحد اسمه محمّد إلاّ وسّع الله عليه الرزق، فإذا سمّيتموه فلا تضربوه ولا تشتموه، ومن ولد له ثلاثة ذكور ولم يسمّ أحدهم محمّداً أو أحمد فقد جفاني. وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: جاء في الحديث: تسمّوا بأسماء الأنبياء، وأحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرّة. وكان سعيد بن المسيّب بن حزن المخزومي أتى جدّه رسول الله فقال له: من أنت؟ قال: حزن، فأراد النبي تغيير اسمه، فقال: لا بل أنت سهل. فقال: لا بل أنا حزن، عاوده فيها ثلاثاً، ثمّ قال: لا أحبّ هذا، الإسم السهل يوطىء ويمتهن، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: فأنت حزن. فكان سعيد يقول: ما زلت أعرف تلك الحزونة فينا.

وقال الزمخشري: قد قدم الخلفاء وغيرهم من الملوك رجالاً بحسن أسمائهم، وأقصوا قوماً لبشاعة أسمائهم، وتعلّق المدح والذم بذلك في كثير من الأثر، كتب الجاحظ إلى أبي الفرج بن نجاح بن سلمة رسالة، منها: وأقد أظهر الله في أسمائكم وأسماء آبائكم وكناكم وكني أجدادكم من برهان الفال الحسن ونفي طيرة السوء ما جمع لكم صنوف الأمل، وصرف إليكم وجوه الطلب، فأسمائكم وكناكم بين فرج ونجاح وسلامة وفضل، ووجوهكم وأخلاقكم وفق أعراقكم وأفعالكم، فلم يأخذ التفاوت فيكم بنصيب. وأراد عمر الإستعانة برجل، فسئله عن اسمه، فقال: سراق بن ظالم، فقال: تسرق أنت ويظلم أبوك، فلم يستعن به. وسأل بعضهم رجلاً عن اسمه، فقال: ما اسمك؟ قال: بحر، قال: أبو من؟ قال: أبوالفيض، قال: ابن من؟ قال: ابن الفرات، قال: ما ينبغي لصديقك أن يلقاك إلاّ في زورق. وكان بعض العرب اسمه وثّاب، وله كلب اسمه عمرو، فهجاه أعرابي آخر، فقال: ولو هيّا له الله ... من التوفيق أسبابا لسمّى نفسه عمرواً ... وسمّى الكلب وثّابا وقال محمّد بن صدقة ليموت بن المزرع: صدق الله فيه اسمك، فقال له: أحوجك الله إلى اسم أبيك. وما أظرف قول بعضهم في نحوي اسمه نفطويه: لا خير في النحو وطلاّبه ... إن كان من طلاّبه النفطويه أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي نياحاً عليه ومثّل هذا في الظرافة قول بعضهم في من اسمه موسى، وإن كان بمعزل عن البشاعة: حلّقت لحية موسى باسمه ... وبهارون إذا ما قلبا ومن الملح النادرة ولم تحضرني كلّها ما حكي أنّ صبيّاً كان اسمه مرّة، واسم أبيه حنظلة، فقال له أبوه: إنّك لمرّ يا مرّة، فقال له: أعجبتني حلاوة أبي. ويروى أنّه لمّا أقبل قحطبة بن شبيب نحو ابن أبي هبيرة، أراد ابن أبي هبيرة أن يكتب إلى مروان بخبره وكره أن يسمّيه، فقال: اقلبوا اسمه، فوجدوه "هبط حق"، فقال: دعوه على هيئته. وقال برصوما البرام لاُمّه: ويحك أما وجدتي لي اسماً تسمّيني به غير هذا؟ فقالت: لو علمت أنّك تجالس الخلفاء والملوك لسمّيتك يزيد بن مزيد. ودخل شريك بن الأعور على معاوية وهو يختال في مشيته، فقال له معاوية: إنّك لشريك وما لله من شريك، وإنّك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور، وإنّك لدميم والوسيم خير من الدميم، فبم سوّدك قومك؟ فقال له شريك: وإنّك معاوية وما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت فسمّيت معاوية، وإنّك ابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنّك ابن حرب والسلم خير من الحرب، وأنت ابن اُميّة وما اُميّة إلاّ أمة صغرت فسمّيت اُميّة، فبم صرت أميرالمؤمنين؟ فقال له معاوية: أقسمت عليك إلاّ خرجت عنّي، فخرج وهو يقول: أيشتمني معاوية بن حرب ... وسيفي صارم ومعي لساني وحولي من ذوي يمن ليوث ... ضراغمة تهشّ إلى الطعان يعيّر بالدمامة من سفاه ... وربّات الحجال من الغواني ذوات الحسن والريبال جهم ... شئيم وجهه ماضي الجنان وقيل: ولد لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ولد ذكر فبُشِّر به وهو عند معاوية بن أبي سفيان، فقال له معاوية: سمّه باسمي ولك خمسمائة ألف درهم، فسمّاه معاوية، فدفعها إليه وقال: اشتر بها لسميّي ضيعةً. ويقال أنّه ارتفع إلى بعضهم وكان يتشيّع خصمان اسم أحدهما علي والآخر معاوية، فانحنى على معاوية فضربه مائة سوط من غير أن اتّجهت عليه حجّة، ففطن من أين أُتي، فقال: أصلحك الله، سل خصمي عن كنيته، فإذا هو أبو عبد الرحمن، وكانت كنية معاوية بن أبي سفيان، فبطحه وضربه مائة سوط، فقال لصاحبه: ما أخذته منّي بالإسم استرجعته منك بالكنية. ودخل جرير على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي، فقال الوليد لجرير: أتعرف هذا؟ قال: لا يا أميرالمؤمنين، قال: هذا عدي بن الرقاع، فقال جرير: شرّ الثياب الرقاع، فممّن هو؟ قال: من عامله، فقال جرير: (عامِلَةٌ ناصِبَة، تَصْلى ناراً حامية) ، ثمّ قال: يقصر باع العاملي عن العُلى ... ولكن أير العاملي طويل فقال له عدي: أُمّك كانت خبّرتك بطوله ... أم أنت امرء لم تدر كيف تقول

فقال جرير: بل لم أدر كيف أقول، فوثب عدي إلى رجل الوليد يقبّلها وقال: أجرني منه، فقال الوليد لجرير: إن ذكرته في شعرك لأسرجنّك ولألجمنّك حتّى يركبك فيعيرك بذلك الشعراء. وأظنّ أنّ من تتمّة هذه القصّة ما هذا مضمونه: إنّ جريراً لمّا خرج من عند الوليد وإلى جنبه عدي، قال لمن على الباب: كدت أخرج إليكم وهذا القرد على عاتقي. وقيل لبعض صبيان الأعراب: ما اسمك؟ قال: قراد، قيل: لقد ضيّق عليك أبوك الإسم، قال: إن ضيق الإسم لقد أوسع الكنية. قيل: ما كنيتك؟ قال: أبو الصحاري. ونظر المأمون إلى غلام حسن الوجه في الموكب، فقال له: ما اسمك؟ قال: لا أدري، قال: يا غلام أو يكون أحد لا يعرف اسمه؟ فقال: يا أميرالمؤمنين اسمي الذي أُعرَفُ به "لا أدري"، فقال المأمون: وسمّيت لا أدري لأنّك لا تدري ... بما فعل الحبّ المبرح في صدري ومن أبيات المعاني: وحللت من مضر بأمنع ذروة ... منعت بحدّ الشوك والأحجار قالوا: يريد بالشوك أخواله وهم قتادة وطلحة وعوسجة، وبالأحجار أعمامه وهم صفوان وفهر وجندل. وجمع ابن دريد ثمانية اسماء في بيت واحد وهو قوله: فنعم أخ الجلى ومستنبط الندى ... وملجأ مكروب ومفزع لاهث عياذ بن عمرو بن الجليس بن عامر بن زيد بن منظور بن زبد بن وارث وقال بعضهم: لعمرك ما الأسماء إلاّ علامة ... منار ومن خير المنار ارتفاعها وقال الفرزدق: وقد تلتقي الأسماء في النّاس والكُنى ... كثيراً ولكن ميّزوا في الخلائق وقال البحتري: وإذا الأنفس اختلفن فما ... يغني اتّفاق الأسماء والألقاب قال الزمخشري في ربيع الأبرار: إعلم أنّ الإسم كلّما كان غريباً كان أشهر لصاحبه وأمنع من تعلّق النبز به، كما سمّيت "اسما" بنت أبي بكر "ذات النطاقين"، وقد صارت لها هذه الصفة علماً بالتغليب بحيث لم يوجد في نظم الشعراء من وصف به غيرها من النساء، وسمّيت بذلك لأنّها كانت تطارق نطاقاً فوق نطاق عند معاناة الأشغال، أو كانت تظاهر بين نطاقين لزيادة التستّر، أو غير ذلك ممّا هو منقول في محلّه. قال ابن الأثير في نهايته: المنطق النطاق وجمعه مناطق وهو أن تلبس المرأة ثوبها ثمّ تشدّ وسطها بشيء وترفع وسط ثوبها وترسله على الأسفل لئلاّ تعثر في ذيلها، وهذا أليق بالقول الأوّل وهو أنّها تصنع ذلك عند معاناة الأشغال. وفي القاموس: المنطقة كمكنسة ما ينتطق به وكمنبر وكتاب شقّة تلبسها المرأة وتشدّ وسطها فترسل الأعلا على الأسفل إلى الأرض، والأسفل ينجرّ على الأرض ليس لها حجزة ولا نيفق ولا ساقان، وانتطقت لبستها. قوله: ولا نيفق، نيفق السراويل، الموضع المتّسع منها، وهذا أليق بالوجه الثاني وهو أنّها تصنع ذلك لزيادة التستّر. وكما سمّيت هنيدة بنت صعصعة "ذات الخمار" وهي عمّة الفرزدق، وكانت تقول: من جاءت بأربعة كأربعتي من نساء العرب يحلّ لها أن تضع خمارها عندهم فصرمتي لها: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزبرقان بن بدر. قولها: فصرمتي لها، الصرمة بكسر الصاد وسكون الراء القطعة من الإبل. وكما سمّي الإسكندر "ذاالقرنين" من حيث ملك الشرق والغرب. وقيل: لكونه رأى في النوم أنّه أخذ بقرني الشمس، أو غير ذلك ممّا ذُكر. وكما سمّي خزيمة "ذا الشهادتين" وسبب تسميته بذلك أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم استقضاه يهودي ديناراً، فقال له: أولم أقضك؟ فطلب البيّنة، فقال لأصحابه: أيّكم يشهد لي؟ فقال خزيمة: أنا يا رسول الله، فقال: وكيف تشهد بذلك ولم تحضره ولم تعلمه؟ فقال: يا رسول الله إنّا نصدّقك على الوحي من السماء، فكيف لا نصدّقك أنّك قضيته، فأنفذ شهادته وسمّاه بذلك لأنّه صيّر شهادته شهادة رجلين. وكما سمّي قتادة بن النعمان "ذا العينين" وسبب ذلك أنّه اُصيبت عينه يوم اُحد فسقطت على خدّه، فردّها رسول الله فكانت أصحّ وأحسن من الاُخرى وكانت تعتلّ الباقية ولا تعتل المردودة، فقيل له ذا العينين أي له عينان مكان الواحدة. وكما يُسمّى الجارح من الطير "ذا النظرتين" لأنّه ينظر ثمّ يطأطأ فإذا أثبت الصيد مكانه قصده. وكما يُسمّى الجاسوس من الطّير "ذا العينين".

وطاهر بن الحسين "ذا اليمينين" سمّى بذلك لأنّه قال له المأمون: يمينك يمين أميرالمؤمنين وشمالك يمين فبايع بيمينك يمين أميرالمؤمنين. وكتب إليه بعض أصحابه كتاباً عنونه بقوله: للأمير المهذّب المكنّى بأبي الطيب ذي اليمينين طاهر بن الحسين. والفضل بن سهل "ذا الرياستين" لأنّه دبّر أمر السيف والقلم، وولي رياسة الجيوش والدواوين، ودخل عليه شاعر يوم المهرجان وبين يديه الهدايا، فقال: اليوم يوم المهرجان ... وهديّتي فيه لساتي لك دولتان قديمة ... وحديثة ورياستان لك في الذرى من هاشم ... بيت وبيت خسرواني علم الخليفة حيث أنت ... فصرت في هذا المكان فأمر له بجميع الهدايا. وللشعراء تصرّفات عجيبة وتفنّنات غريبة في جملة من الأسماء من تفأل وهجاء وغير ذلك من ظرائف الأنحاء. قال بعضهم في هجاء من اسمه لؤلؤ: سمّتك أُمّك لؤلؤ فكأنّها ... علمت بأنّك بعد حين تثقب وسمعت تدعى بالجواد فلم أزل ... متعجّباً حتّى رأيتك تُركب نظير قول بعضهم من جملة أبيات: إذا قيل في الدنيا جواد فقل نعم ... جواد ركوب لا جواد عطاء وقال الباخرزي في مأبون: فكأنّه فرعون إلاّ أنّه ... من جانب الوجعاء ذوالأوتاد والوجعاء المراد بها الاُست لا مطلقاً بل أُست المأبون. وسمع البحتري قول ابن الرومي: سمّاه أُسرته العلاء وإنّما ... قصدوا بذلك أن يتمّ علاه فقال: أخذه من قولي: كأنّ أباه حين سمّاه صاعداً ... رأى كيف يرقى في المعالي ويصعد وقال البحتري: سمّاه سعداً ثمّ لم يسعد به ... عمري لقد ألفاه سعد الذابح ومن ظريف ما يُحكى أنّ شهاب الدين كان يوماً عند الملك الأشرف، فدخل عليه سعدالدين الحكيم، وكانت بينهما وحشة، فقال الأشرف: ما تقول يا شهاب الدين في سعدالدين؟ فقال: إذا كان عندك فهو سعد السعود، وإذا كان على السماط فهو سعد بلع، وفي الخيام عن الضيوف سعد الأخبية، وعند المريض سعد الذابح (وهذه الأربعة في برج الجدي والدلو ينزلها القمر) . وممّا جاء للشعراء في مدح الأنساب والإفتخار بها في الأشعار قول أبي تمام: نسب كان عليه من شمس الضحى ... نوراً ومن فلق الصباح عمودا وقول البحتري: نسب كما اطّردت كعوب مثقف ... لدن يزيدك بسطة في الطول وقول الشريف الرضي: لهم نسب كاشتباك النجوم ... ترى للمناقب فيه ازدحاما وقول مهيار: أعجبت بي بين نادي قومها ... أُمّ سعد فمضت تسئل بي سرّها ما علمت من خلقي ... فأرادت علمها ما حسبي لا تخالي نسباً يخفضني ... أنا من يرضيك عند النسب قومي استعلوا على الدهر علاً ... ومضوا فوق رؤس الحقب عمّموا بالشمس هاماتهم ... وبنوا أبياتهم بالشهب وأبي كسرى على أيوانه ... أين في الناس أب مثل أبي سؤدد الملك القدامى وعلى ... شرف الإسلام لي والأدب قد قبست المجد من خير أب ... وقبست الدين من خير نبي وضممت الفخر من أطرافه ... سؤدد الفرس ودين العرب وقولي في نسب بعض أكابر العلويين: نسب عقدن أصوله ... بذوائب العليا فروعه ولنختم هذا المقام بما قاله أبوالحسين ابن عبد الله السلامي مخاطباً للشريف الرضي، ولعمري إنّ من ألّفت لأجله هذا الكتاب لخليق بذلك الخطاب: متناسلين وأنت كنت مرادهم ... متردّدين إليك في الأصلاب حتّى ولدت فأغفلوا أنسابهم ... وغدى وجودك أشرف الأنساب وأمّا حسبه: فغرّة في جباه المآثر، وزهرة في رياض الفضل، قد عطّر جيب الدهر بأرجه، ولألأ سماء الشرف بأشعّته. حسب لو لبست شمس الضحى ... نوره ما لبست ثوب غروب برد فخر وعلى خير الورى ... بيّد السؤدد مزور الجيوب والحسب هو ما يعدّ من مفاخر الآباء أو المال أو الدين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الشرف الثابت في الآباء، وقد يكون الحسب والكرم لمن لا آباء له شرفاء بخلاف المجد، والذي أراه أنّه لا يكمل للمرء فخره بحسبه إلاّ إذا كان له من المآثر ما كان لآبائه، وإلى ذلك يشير قول الشاعر: إنّا وإن أحسابنا كرمت ... لسنا على الأحساب نتّكل

نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثلما فعلوا وممّن أجاد في الإفتخار بحسبه أبوالطمحان وذلك حيث قال: وإنّي من القوم الذين هم هم ... إذا مات منهم سيّد قام صاحبه أضائت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتّى نظّم الجزع ثاقبه نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدى كوكب تأوى إليه كواكبه وما زال منّا حيث كان مسوّد ... تسير المنايا حيث سارت مواكبه أخذ قوله: أضائت لهم إلى آخره أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم المعروف بالحصيري القيراوي فنقله من الإفتخار إلى الغزل، فقال: حتّى إذا طاح منها المرط من دهش ... وانحلّ بالظلم نظم العقد في الظلم تبسّمت فأضاء الليل فالتقطت ... حباة منتثر في ضوء منتظم وأخذ السيّد الرضي فقال: بتنا ضجيعين في ثوبي هوى وتقى ... يلفّنا الشوق من قرن إلى قدم وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواقع اللثم في داج من الظلم وقال أبو التمام وأحسن ما شاء في نعت الأحساب: ما إن ترى الأحساب بيضاً وضحاً ... إلاّ بحيث ترى المنايا سودا وقال أبوطالب المأموني مفتخراً: أرى مأربكم في نظم قافية ... وما أرى لي في غير العلا إربا عدّوا عن الشعر إنّ الشعر منقصة ... لذي العلاء وهاتوا المجد والحسبا ويشعر بذلك قول أفلاطون الحكيم: من جمع إلى شرف أصله شرف نفسه فقد قضى الحقّ الذي عليه واستدعى التفضيل بالحجّة، ومن أغفل نفسه واعتمد على شرف آبائه فقد عقّهم واستحقّ أن لا يقدم بهم على غيره. وقوله أيضاً: كما أنّ من كان له سلف في الشجاعة والسخاء لا يستحقّ أن يكرم لسلفه إذا كان جباناً بخيلاً، فكذلك سائر أنواع الشرف لا يستحقّ المنتسب إليها التقديم إلاّ إذا حوى ما يذكر به أسلافه. وقال أيضاً: السعيد من تمّت به رياسة آبائه، والشقي منهم من انقطعت عنده. أقول: بل أرى المرء بحسبه أكمل في الفخر إذا زاد بشرف نفسه ذكر آبائه نباهة، وما أحسن قول مهيار في زيادة الابن على آبائه شرفاً: وجئت بمعنىً زائد فكأنّهم ... وما قصروا عن غاية المجد قصّروا وقوله أيضاً وهو من بدائعه ونوادره، بل هو بالسحر أشبه منه بالشعر، وذلك حيث قال: إن كنت ممّن طواه الدهر ممترياً ... منهم فعندك من منشورهم خبر هذا الحسين حيوة خلّدت لهم ... ما هم بأوّل موتى بابنهم نشروا صلّى فزادت على السبّاق حلبته ... محلّق العرف جار خطوه حضر كالسهم أحرز ذكراً يوم ترسله ... لم يعطه أبواه القوس والوتر عصارة فضّلت في الطيب طينتها ... والخمر أطيب شيء منه يعتصر قوله: جار خطوه حضر أي واسع. وأمّا أصله: فأقول إنّه تفرّع عن أصل تروّت بماء الكرم أرومته، ونمت في طينة الشرف جرثومته، وبسقت أراكة شرفه في آفاق المآثر آخذةً بأطراف المفاخر، فتفيّأ العفاف ظلّ أفنانها، واجتنت أكفّ الآمال ثمار أغصانها. كريم تفرّع عن دوحة ... ذكى في العلا طيب أعراقها وكم قد تغنّت بأحلى المديح ... حمام الثناء على ساقها وعلى ذكر الأصل ما رواه الصلاح الصفدي في شرح لامية العجم، قال: نقلت من بعض مجاميع القاضي شمس الدين بن خلّكان قال: أنشدني بعض الاُدباء في الجمال أبي الحسين الجزّار ولا أعرف قائله ولا الأبيات المضافة إليه، فقلت لأبي الحسين ذلك، وقلت إن كنت تعرف ذلك فأنشدنيه وعرّفني قائله، فقال: وما البيت؟ فأنشدته: فليس يرجوه نمير كلب ... وليس يخشاه نمير تيس قال: فاستحسن ذلك المعنى، وجائني ثاني يوم وقال: قد عملت أبياتاً، وأنشدني قوله: ألا قل للذي يسئل ... عن قومي وعن أهلي يريقون دم الأنعام ... في حزن وفي سهل وما زالوا لما يبدون ... من بأس ومن بذل يرجّيهم بنو كلب ... ويخشاهم بنو عجل قال الصلاح: وأوّل البيتين اللّذَين أوردهما ابن خلّكان هو: إن تاه جزّاركم عليكم ... بفطنة في الورى وكيس

وثانيهما البيت الذي مرّ ذكره، وهما لمجاهد الخيّاط، وله في أبي الحسين المذكور عدّة مقاطيع يهجوه بها، وقد عبث الناس بأبي الحسين وهجاه من أهل عصره خلق كثير بالشعر والأرجاز، وما كان في طبقته ممّن هجاه من يقاربه في النظم. ولأبي الحسين الجزّار أيضاً وهو في غاية الحسن: إنّي لمن معشر سفك الدماء لهم ... دأب وسل بهم إن شئت تصديقي تضيء بالدم أشراقاً عراصهم ... وكلّ أيّاهم أيّام تشريق ومن هذا الباب ما قال بعضهم فيمن كان أبوه حجّاماً وهو في غاية الظرافة: أبوك أوهى النجاة عاتقه ... وكم كمي أردى وكم بطل له رقاب الملوك خاضعة ... من بين حاف وبين منتعل يأخذ من مالها ومن دمها ... لم يمس من ثاره على وجل ومن الحكايات اللطيفة في هذا الباب ما رواه الصلاح الصفدي عن بعضهم قال: كنت جالساً عند بعض ولات الطوف ليلة، فجاء بعض غلمانه إليه برجلين فقال لأحدهما: من أبوك؟ فقال: أنا ابن الذي لا تنزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود ترى الناس أفواجاً على باب داره ... فمنهم قيام حولها وقعود فقال الوالي: ما كان أبو هذا إلاّ كريماً، ثمّ قال للآخر: من أبوك؟ فقال: أنا ابن من دانت الرقاب له ... مابين مخزومها وهاشمها خاضعةً أذعنت لطاعنه ... يأخذ من مالها ومن دمها فقال الوالي: ما كان أبو هذا إلاّ شجاعاً وأطلقهما، فلمّا انصرفا قلت للوالي: أمّا الأوّل فكان أبوه يبيع الباقلاء المصلوقة، وأمّا الثاني فكان أبوه حجّاماً، فقال الوالي: كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مضمونه عن النسب إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي وفي معنى هذين البيتين ما روي أنّ الخصيب صاحب مصر سأل أبا نؤاس عن نسبه، فقال: أغناني أدبي عن نسبي. وممّا يناسب هذا المعنى قول المتنبي: لا بقومي شرّفت بل شرّفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كلّ من نطق الضاد ... وعوذ الجاني وغوث الطريد ويقال لمن يفخر بنفسه هو "عصامي" إشارة إلى قول النابغة في عصام حاجب النعمان: نفس عصام سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما وصيّرته ملكاً هماما ويقال لمن يفخر بآبائه "عظامي" إشارة إلى فخره بالأموات من آبائه ورهطه، قال الشاعر: إذا ما الحي عاش لعظم ميت ... فذاك العظم حيّ وهو ميت ودخل عبيد الله بن زياد التميمي على أبيه وهو يجود بنفسه، فقال: ألا اُوصي بك الأمير؟ فقال: إذا لم يكن للحي إلاّ وصيّة الميّت فالميّت هو الحي. ويقال: إنّ عطاء بن سفيان قال ليزيد بن معاوية: أغنني عن غيرك، قال: حسبك ما أغناك به معاوية، قال: فهو إذاً الحي وأنت الميّت. قال علي عليه السلام: من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه. وقال عليه السلام: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب آبائه. قال الشاعر: لئن فخرت بآباء ذوي حسب ... لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا وكان يقال: أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية، وتبجح بالقرون الماضية، واتّكل على الأيّام الخالية. وكان يقال: من طريف الاُمور حيّ يتّكل على ميّت. وكان يقال: ضعة الدني في نفسه الرفيع في أصله أقبح من ضعة الوضيع في نفسه وأصله، لأنّ هذا تشبه بآبائه وسلفه وذاك قصر عن أصله وسلفه، فهو إلى الملامة أقرب وعن العذر أبعد. وافتخر شريف بآبائه فقيل له: لو وفّقت لما ذكرت أباك لأنّه حجّة عليك تنادي بنقصك وتقرّ بتخلّفك. وكان جعفر بن يحيى يقول: ليس من الكرام من افتخر بالعظام. وقال الفضل بن الربيع: كفى بالمرء عاراً أن يفتخر بغيره. وقال: من افتخر بآبائه فقد نادى على نفسه بالعجز، وأقرّ على نفسه بالدنائة. وقيل لرجل يدلّ بشرف أبيه: لعمري لك أوّل ولكن ليس لأوّلك آخر. ومثله: إنّ شريفاً بآبائه فاخر شريفاً بنفسه، فقال الشريف بنفسه: إنتهى إليك شرف أهلك ومنّي ابتدء شرف أهلي، وشتّان بين الإبتداء والإنتهاء. وقيل لشريف ناقص الأدب: إنّ شرفك بأبيك لغيرك، وشرفك بنفسك لك، فافرق بين ما لك وما لغيرك، ولا تفرح بشرف النسب فإنّه دون شرف الأدب. قال ابن الرومي:

وما الحسب الموروث لا درّ درّه ... بمحتسب إلاّ بآخر مكتسب إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة ... من المثمرات اعتدّه الناس في الحطب وقال آخر: وما فخري بمجد قام غيري ... إليه وقد رقدت الليل عنّه إلى حسب الفتى في نفسه انظر ... ولا تنظر هديت إلى ابن من هو وقال آخر: إذا فخرت بآبائي وأجدادي ... فقد حكمت على نفسي لأضدادي هل نافعي إنّ سعي جدّي لمكرمة ... ونمت عن أختها في جانب الوادي وقال آخر: أيقنعني كوني ابن من كوني ابنه ... أبى لي أن أرضى لفخري بمجده إذا المرء لم يحو العلاء بنفسه ... فليس بحاو للعلاء بجدّه وهل يقطع السيف الحسام بأصله ... إذا هو لم يقطع بصارم حدّه ويقال لمن يفخر بغير أولية كانت له "خارجي"، قال كثير العبد العزيز: أبا مروان لست بخارجي ... وليس قديم مجدك بانتحال وأمّا بيته: فأقول إنّه نشأ في بيت رفعت يد العزّ على أوّل الدهر قواعده، وطهرت للطائفين والعاكفين محاريبه ومساجده، ووقّرت الهيبة مجلسه، وزهرت به بشاشته المؤنسه، فلا ينطق نديّه العوراء، ولا تمرّ بأطراف سماطه البذائة والفحشاء، ومن كان له هذا البيت صدق فيه بيت الأرجاني: وأحسن حلية بيت حديث ... يصاغ لمن له بيت قديم بيتٌ هو معرس السفر، ومغرس الحمد والشكر، ومجتمع الرغائب، ومنتجع المواهب. بيت مجد إن حوى شكر الورى ... فعلى معروفه كانوا عيالا لم يكن للجود إلاّ مطلعاً ... يملأ العين هلالاً فهلالا ولقد أجاد الإفتخار في بيته الفرزدق بن غالب وذلك حيث قال: إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزّ وأطول بيتاً زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبوالفوارس نهشل حدّث سلمة بن عياض مولى بني عامر بن لوي قال: دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوس وقد قال قصيدته التي منها: إنّ الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمه أعزّ وأطول بيتاً بناه لنا المليك وما بنى ... ملك السماء فانّه لا ينقل وقد أُفحم، فقلت: ألا أرفدك؟ فقال: وهل عندك ذاك؟ قلت: نعم، ثمّ قلت: بيتاً زرارة محتب بفنائه ... ومجاشع وأبوالفوارس نهشل فاستجاد البيت وغاظه قولي، فقال لي: ممّن أنت؟ فقلت: من قريش، قال: من أيّها؟ قلت: من بني عامر بن لوي، فقال: لئام والله وضيعة جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم، فقلت: ألأم والله منهم وأوضع قومك، جائك رسول مالك بن المنذر وأنت سيّدهم وشاعرهم فأخذ بأُذنك يقودك حتّى حبسك فما اعترضه أحد ولا نصرك، فقال: قاتلك الله ما أمكرك، وأخذ البيت وأدخله في قصيدته. وحدّث أبو مالك الرواية قال: سمعت الفرزدق يقول: أبق غلامان لرجل منّا يقال له النضر، فحدّثني قال: خرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أُريد اليمامة، فلمّا صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران، ارتفعت سحابة فأرعدت وأبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرى، فأجابوا، فدخلت داراً لهم وأنخت راحلتي وجلست تحت ظلّة لهم من جريد النخل، وفي الدار لهم جويرية سوداء إذ دخلت جارية كأنّها سبيكة فضّة وكأنّ عينيها كوكبان درّيّان، فسألت الجارية: لمن هذه العيساء - تعني ناقتي -؟ فقيل: لضيفكم هذا، فعدلت إليّ وسلّمت عَلَيّ، فرددت عليها السلام، فقالت: ممّن الرجل؟ فقلت: من بني حنظلة، فقالت: من أيّهم؟ فقلت: من بني نهشل، فتبسّمت وقالت: أنت إذاً ممّن عناه الفرزدق بقوله، وذكرت الأبيات السابقة، قال: فقلت: نعم جعلت فداك وأعجبني ما سمعت منها، فضحكت وقالت: فإنّ ابن الخطفي قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي قد فخرتم به وذلك حيث يقول: أخزى الذي رفع السماء مجاشعاً ... وبنى بناءً بالحضيض الأسفل بيتاً يحمّم قينكم بفنائه ... دنساً مقاعده خبيث المدخل قال: فوجمت، فلمّا رأت ذلك في وجهي قالت: لا بأس عليك فإنّ الناس يقال فيهم ويقولون، ثمّ ساقت حديث اليمامة وقصّة ابن عمّها عمرو بن كعب بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء. رجع إلى ما كنّا فيه: قال بعضهم وأحسن كلّ الإحسان بقوله مفتخراً:

فصل في كرمه وأخلاقه

إن أكن مهدياً لك الشعر إنّي ... لابن بيت تهدى له الأشعار أخذ هذا المعنى الصاحب بن عباد أخذاً حسناً فقال مفتخراً: إنّ خير المداح من مدحته ... شعراء البلاد في كلّ نادي وقال مهيار الديلمي في أبي الحسن محمّد بن علي بن المزرع وقد بلغ النهاية في الحسن: وحبّذا بين بيوت أسد ... بيت إذا ضلّ الضيوف هادي أتلع طال كرماً ما حوله ... تشرّف الربى على الوهاد موضحة على ثلاثة ناره ... إن سرقوا النيران في الرماد بيت وسيع الباب مبلول الثرى ... ممهّد المجلس رخص الزاد إن قوّض البيوت أصل جائر ... طنّب بالآباء والأجداد ترفع من محمّد سجوفه ... جوانب الظلماء عن زياد فصل في كرمه وأخلاقه أمّا كرمه: فإنّه ومنشىء البشر للكريم الذي صدق فيه المخبر والخبر، وشهد بجوده السمع والبصر، لا كمن كاصله أياديه، خبر يلفقه لسان راويه؛ قد حسن منظره وقبح مخبره. إن يبلغنّك عن جود امرء خبر ... فكذّب السمع حتّى يشهد البصر ولا يغرّنّك من راقت ظواهره ... فربّ دوح نظير ما له ثمر كأنّما بعث في الجود وحده، مرسلاً لا نبيّ بعده، في زمن لا تندى صفاته، ولا تلين الإستعطاف حصاته، فلا يشار في صلة الأرحام والأواصر إلاّ إليه، ولا تنعقد الخناصر في تعداد الكرام إلاّ عليه، ويحقّ لي أن أُنشىء فيه: توسّمت أبناء الزمان فشمتهم ... وبعضهم في لؤمه مشبه بعضا فبين ضنين بالعطا متوقّف ... ولكنّه في المنع كالسيف بل أمضى وبين شديد الحرص لو يبس كفّه ... على الأرض يلقى لحظة أمحل الأرضا فلم أر للمعروف أهلاً سوى امرء ... يرى صلة الوفّاد يوم الندى فرضا على أنّه إنّما يحسن إهداء الثناء إليه، مع غنائه عنه بما تثني ألسنة مكارمه عليه، من حيث أنّ المدح يذيع بنشره كما يذيع النسيم الغض بريا المسك على طيب نشره، كما قلت فيه - وفيه التضمين -: محمّد الحسن استغنيت بالحسن ... من مدح مجدك عمّا قيل في الزمن فكارم العرب في تلك الجفان وقل ... "هذي المكارم لا قعبان من لبن" وفاخر الصيد في لبس الثناء وقل ... "هذي المفاخر لا ثوبان من عدن" والتضمين المذكور في شطرين من بيتين لبعضهم وهما: هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا هذي المفاخر لا ثوبان من عدن ... خيطا قميصاً فعادا بعد أسمالا وممّا ورد في مدح الكرم وأربابه وذمّ البخل وأربابه: قال أميرالمؤمنين علي عليه السلام: الكريم لا يلين على قسر ولا يقسو على يسر. وقال عليه السلام: من قبل عطائك فقد أعانك على الكرم، ولولا من يقبل الجود لم يكن من يجود. وقال عليه السلام: من انتجعك مؤمّلاً فقد أسلفك حسن الظن. وقال عليه السلام: أحبّ الناس إليك من كثرت عندك أياديه، فإن لم يكن فمن كثرت عنده أياديك. وقال عليه السلام: الرغبة إلى الكريم تحرّكه على البذل، وإلى الخسيس تغريه بالمنع. وقال الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام: إنّ الحاجة لتعرض للرجل عندي فاُبادر بها خوفاً من أن يستغني عنها أو تأتيه وقد استبطاها فلا يكون لها عنده موقع. وكانت أُمّ البنين تقول: أُفٍّ للبخل، لو كان ثوباً ما لبسته، ولو كان طريقاً ما سلكته. وقال المأمون: لئن أخطىء باذلاً أحبّ إليّ من أن أُصيب مانعاً. وقال محمّد بن السماك: أهنىء المعروف ما لا مطل في أوّله ولا مَنٌّ في آخره. ومدح نصيب الشاعر عبد الله بن جعفر فأجزل عطيّته، فقيل له: تسنع بهذا العبد الأسود مثل هذا؟ فقال: إن كان أسود فإنّ ثناه أبيض بقق، وشكره عربي ذو رونق، ولقد استحقّ بما قال أكثر ممّا نال، وهل هي إلاّ رواحل تنضى وثياب تبلى وما يفنى، استعضنا عنه مديحاً يروى وثناء يبقى. وكتب رجلاً من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوّفه الفقر، فردّ عليه: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بالفَحْشاء واللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً واللهُ واسِعٌ عَليمٌ) ، وأنا أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعلّه لا يقع.

وقيل لابن عبّاس: من سادة الناس؟ فقال: أمّا في الدنيا فالأسخياء، وأمّا في الآخرة فالأتقياء. وسُئِل شعيب: ما الجود؟ فقال: أن لا يضن الرجل بما يملك عمّن هو لعطيّته أهل. ومن أمثالهم: ألبخل يهدم مباني الكرم. وقد ذمّ رجل رجلاً فقال: ما تبل إحدى يديه الاُخرى. وقال آخر في البخيل: البخيل يملأ بطنه والجار جايع، ويحفظ ماله والعرض ضايع. وقال معاوية لعمرو: ما السخاء يا أبا عبد الله عند العرب؟ قال: جهد المقل. ينظر فيه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جهد المقل أكثر من عفو المكثر. وكان يقال: ما عزّة أثبت أركاناً ولا ألزم بنياناً من بثّ المكارم واكتساب المحامد. ومن مختار قول الحكماء في الكرماء واللؤماء قولهم: الكرام في اللئام كالغرّة في جبهة الفرس. ومن مختار قول الثعالبي في ذلك: الكريم إذا سُئل ارتاح، واللئيم إذا سُئل ارتاع. الكريم في مركز القلب، واللئيم في مزجر الكلب. وقال في الكريم على حدّه: طلعة الكريم طلقة عند اللقاء ويده منطلقة بالعطاء. وقال في اللئيم على حدّه: همّة البخيل هامدة ومنّته خامدة ويده جامدة، الإحسان إلى اللئيم أضيع من الرقم على بساط الهواء والخط على بسيط الماء. وأحسن ما قيل في المبالغة بقلّة الكرام وكثرة اللئام قول الشيخ أبي تمام: ولقد يكون ولا كريم نناله ... حتّى نخوض إليه ألف لئيم ومن الغايات قوله في المدح بالسخاء: هو البحر أي النواحي أتيته ... فلجته المعروف والجود ساحله تعود بسط الكف حتّى لو أنّه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله قوله: تعود بسط الكف الخ لحظه السيّد الرضي فقال متحمّساً: أبر على الآمال فضلي ونائلي ... وطال على الجوزاء قدري ومحتدي ألفت يدي بذل النوال فلو نبت ... عن الجود يوماً قلت ما هذه يدي وممّا يبهي بحسنه قول أبي الحسن بن مرزويه مهيار: تعطي حياءً مطرقاً ملثّماً ... وقد وهبت مسنياً ومجزلا ويسفر الناس على بخلهم ... لأنّهم لا يعرفون الخجلا وقال البحتري: يعطي عطاء المحسن الخضل الندي ... عفواً ويعتذر اعتذار المذنب وقال أيضاً: كاد ممتاحه لسابق جدواه ... يكون الإصدار قبل وروده وقال أيضاً: دع المطي مناخات بأرحلها ... لم ينض عنهنّ تصدير ولا حقب فما تزيد على إلمامة خلس ... بأحمد بن عليّ ثمّ تنقلب وقال أيضاً: أعطيتني حتّى حسبت جزيل ما ... أعطيتنيه وديعةً لم توهب فشبعت من بر لديك ونائل ... ورويت من أهل لديك ومرحب وقال أبو نصر عبد العزيز: قد جدتني باللهى حتّى بها ... وكدت من ضجري أثني على البخل لم يبق جودك لي شيئاً أؤمّله ... تركتني أصحاب الدنيا بلا أمل وقال البحتري: إنّي هجرتك إذ هجرتك وحشةً ... لا العود يذهبها ولا الابداء أحشمتني بندى يديك فسوّدت ... مابيننا تلك اليد البيضاء وقطعتني بالجود حتّى أنّني ... متخوّف أن لا يكون لقاء صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبر راح وهو جفاء ومنه أخذ أبوالعلا المعرّي معنى قوله وزاد فيه التمثيل فقال: لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للإفراط في الخصر وفي هذا المعنى ما حكاه علي بن جبله المعروف بالعكوك قال: زرت أبا دلف بالجبل فكان يظهر من برّي وإكرامي والتحفي بي أمراً مفرطاً حتّى تأخّرت عنه حيناً، فبعث إليّ معقلاً فقال: يقول لك الأمير: قد انقطعت عنّي وأحسبك استقللت برّي فلا تغضب من ذلك فسأزيد فيه حتّى ترضى، فقلت: والله ما قطعني عنه إلاّ إفراطه في البرّ، وكتبت إليه: هجرتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر ولكنّني لمّا أتيتك زائراً ... فأفرطت في برّي عجزت عن الشّكر فملآن لا آتيك إلاّ مسلّماً ... أزورك في الشهرين يوماً وفي الشهر فإن زدتني برّاً تزايدت جفوةً ... فلا نلتقي حتّى القيامة في الحشر

فلمّا وقف أبو دلف على الأبيات قال: قاتله الله ما أحسن شعره وأدقّ معانيه، وبعث إليّ بوصيف معه ألف دينار. أقول: قوله: فملآن لا آتيك معناه فمن الآن، فحذف النون، وهذا الحذف شايع مستعمل عند مضايقة الكلام، قال ابن دريد في مقصورته: من رام ما يعجز عنه طوقه ... ملعبأ يوماً آض مهزول المطا أي من العبأ. وقال الشريف الرضي: من أيّ الثنايا طالعتنا النوائب ... مأي حمىً منّا رعته المصائب أي من أيّ الثنايا والنظائر كثيرة. رجعٌ إلى ما كنّا فيه من المدح بالسخاء: قال أبو عبادة البحتري: بدت على البدو نعمىً منه سابغة ... وقد تحضر أُخرى مثلها الحضر لا يتعب النائل المبذول همّته ... وكيف يتعب عين النّاظر النّظر وقال أيضاً: لا يستريح من الألفاظ منطقه ... إلاّ إلى نعم تفتر عن نعم وقال مهيار: لهم دوحة خضراء رويّ أصلها ... بماء الندى الجاري وطيب فرعاها نمت كلّ مغرور عن المجد سنّه ... يقول نعم في المهد أوّل ما فاها وما أحلى قول البحتري في قصيدة: إذا باكرته غاديات همومه ... اراح عليها الراح حمراء كالورد كأنّ سناها بالعشي لشربها ... تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد له ضحكة عند النوال كأنّها ... تباشير برق بعد بعد من العهد كأنّ "نعم" في فيه حين يقولها ... مجاجة مسك خيض في ذائب الشهد وقال إسماعيل بن أحمد الشاشي: ما قال لا قطّ مذ حلّت تمائمه ... بخلاً بها فوجدنا الجود في البخل ما ألطف هذا المعنى وأشرفه وهو يشبه قول أبي محمّد الخازن في مدح الصاحب ابن عباد: نعم تجنب لا يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاء لثغة الراء وهو من قول الفرزدق: ما قال لا قط إلاّ في تشهّده ... لولا التشهّد كانت لائه نعم ومثله ما قيل في قثم بن العباس: أعفيت من حل ومن رحلة ... يا ناق إن أدنيتني من قثم إنّك إن أدنيتنيه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم في وجهه نور وفي باعه ... طول وفي العرنين منه شمم أصم عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم لم يدر "ما" لا و"بلى" قدري ... فعافها واعتاض عنها نعم ومثله قول بعضهم: أبى جوده "لا" البخل واستعجلت به ... "نعم" من فتىً لا يمنع الجود قائله قال الزمخشري في أحاجيه: هذا البيت غامض ما رأيت أحداً فسّره. وحكى يونس عن عمرو بن العلا أنّه جرّ البخل بإضافة لا إليه وأورده أبو علي بنصب البخل وزعم أنّه مفعول أبى وأنّ لا زائدة، وحكى ذلك عن أبي الحسن الأخفش. قال: وأمّا بقيّة البيت فلم يفسّره وهومشكل جدّاً. أقول: ويترجّح في نظري ما فسّره به بعض القدماء قال في معناه أنّه مدح لكريم، أبى جوده أن ينطق بلا التي للبخل واستعجلت بجوده نعم أي سبقت نعم لا صادرة من فتىً لا يمنع. والهاء في قائله تعود على نعم أي قائل نعم لا يممنع الجود، وهذا أليق التفاسير على كثرتها. ومن ذلك ما قاله الوليد في معاوية يهجوه وقد عكس فيه المعنى المتقدم: فإذا سُئلت تقول لا ... وإذا سألت تقول هات تأبى فعال الخير لا ... تسقي وأنت على الفرات أفلا تميل إلى نعم ... أو ترك لا حتّى الممات وقال آخر في المدح: بدأت بمعروف وثنّيت بالرضا ... وثلّثت بالحسنى وربّعت بالكرم وباشرت أمري واعتنيت بحاجتي ... وأخّرت لا عنّي وقدّمت لي نعم وصدّقت لي ظنّي وأنجزت موعدي ... وطبت به نفساً ولم تتبع الندم فإن نحن وافينا بشكر فواجب ... وإن نحن قصّرنا فما الودّ متّهم وأمّا أخلاقه: فأقول أنّه قد تحلّى بطباع شفافه، وأخلاق أرقّ من السلافه، لا تحمل قذى الواشين لصفائها، ولا تروى عن ابنة العنقود سورة صهبائها، تزيّنها شيم الطف من روضة باكرها الطل، وأطيب من شيحة تتحدّث عن أريجها النسائم. خلق شف فالنسيم كثيف ... عنده إن قرنت فيه النسيما لأخي شيمة تعلم منها ... الغيث إذ يستهلّ أن لا يريما قد حواها عن معشر أورثوها ... منه من كان مثلهم مستقيما

فهي في اللطف أوّلاً وأخيراً ... شرع تفضل العرار شميما فكأنّ القديم كان حديثاً ... وكأنّ الحديث كان قديما قال علي عليه السلام: ربّ عزيز أذلّه خرقه، وذليل أعزّه خلقه. وقال عليه السلام: من لم تصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبه. وكان يقال: ألق صاحب الحاجة بالبشر فإن عدمت شكره لم تعدم عذره. ووصف أعرابي رجلاً بحسن البشر فقال: لا تراه الدهر إلاّ كأنّه لا غنى به عنك فإذا أذنبت غفر وكأنّه المذنب، وإن أحسن اعتذر وكأنّه المسيء. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسط الوجوه وحسن الأخلاق. أقول: وحسبك مدحاً لحسن الخلق قوله تعالى لنبيّه: (إنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مكارم الأخلاق عشرة تكون في الرجل ولا تكون في ابنه، وتكون في الإبن ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيّده. قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وصدق البأس، وإعطاء السائل، والمكافات بالصنايع، وصلة الرحم، والتذمّم للجار والصاحب، والحلم في القدرة، والمواساة في الشدّة، وقرى الضيف، ورأسهنّ الحياء. وقال عصام بن المصطلق: دخلت المدينة فرأيت الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فأعجبني سمته وروائه فأثار منّي الحسد ما كان يجنّه صدري من البغض لأبيه، فقلت له: أنت ابن علي بن أبي طالب؟ فقال: نعم، فبالغت في شتمه وشتم أبيه، فنظر إليّ نظرة عاطف رؤف، ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ، وَإمَّا يَنْزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ باللهِ إنَّهُ سَميعٌ عليم، إنَّ الَّذينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُون) ثمّ قال لي: خفّض عليك، أستغفر الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا أعنّاك، ولو استرفدتنا رفدناك، ولو استرشدتنا أرشدناك. قال عصام: فتوسّم في الندم على ما فرط منّي، فقال: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْم يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين) ، أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، حيّاك الله وبيّاك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجد عندنا أفضل ظنّك إنشاء الله. قال عصام: فضاقت عَلَيّ الأرض بما رحبت ووددت لو ساخت بي ثمّ تسلّلت منه لواذاً وما على وجه الأرض أحد أحبّ إليّ منه ومن أبيه. أقول: أمّا قوله: شنشنة أعرفها من أخزم فهو مثل قائله أبو أخزم الطائي جدّ حاتم الطائي أو جدّ جدّه على ما قيل، ويقال: إنّ ابنه أخزم مات وترك بنين فوثبوا على جدّهم فأدموه، فقال: إنّ بَنِيَّ رمّلوني بالدم ... من يلق آساد الرجل يكلّم ومن يكن ذا أود يقوم ... شنشنة أعرفها من أخزم والشنشنة السجيّة والطبيعة. وفي بعض النسخ: ومن يكن درء به يقوم، والدرء الميل والإعوجاج في القنات. وعلى ذكر عقوق الأولاد: حدّث المدائني قال: كان جرير بن عطيّة الخطفي الشاعر المشهور من أعقّ الناس بأبيه، وكان ابنه بلالاً أعقّ الناس به، فراجع جرير بلالاً في الكلام فقال له بلال: الكاذب منّي ومنك من ناك أُمّه، فأقبلت عليه أُمّه وقالت: يا عدوّ الله تقول هذا لأبيك؟! فقال لها جرير: دعيه فوالله لكأنّي أسمعها وأنا أقولها لأبي. ونظير ذلك ما حكي عن يونس بن عبد الله الخيّاط أنّه مرّ برجل وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقّاً به، فقال له: ويحك أتفعل هذا بأبيك، وخلّصه من يده، ثمّ أقبل على الأب يعزّيه ويسكّن منه، فقال له الأب: يا أخي لا تلمه واعلم أنّه ابني حقّاً، والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه، فانصرف الرجل وهو يضحك. وما أحسن قول أُم ثواب في ابن لها وقد عقّها: ربّيته وهو مثل الفرخ أطعمه ... أم الطعام ترى في جلده الزغبا حتّى إذا آض كالفحال شذّ به ... أباره ونفى عن متنه الكربا أمسى يخرق أثوابي يؤدّبني ... أبعد شيبي يبغي عندي الأدبا قالت له عرسه يوماً لتسمعني ... مهلاً فإنّ لنا في أُمّنا إربا ولو رأتني في نار مسعرةً ... ثمّ استطاعت لألقت فوقها حطبا

فصل في حلمه ونهاه ووقاره وحجاه

قولها: كالفحال هو من النخل ما كان من ذكوره فحلاً لإناثه، جمعه فحاحيل، ولا يقال فحال إلاّ في النخل خاصّة. وشذّ به أباره يقال: جذع مشذّب أي مقشّر، وتقشير الجذع إزالة الكرب عنه، وتأبير النخل إصلاحه. وقال قرعان في ابنه منزل وقد عقّه من جملة أبيات يقول فيها: جرت رحم بيني وبين منازل ... جرّاء كما يستنزل القطر طالبه تربّيته حتّى إذا آض شيظماً ... يكاد يساوي غارب الفحل غاربه وكان له عندي إذا جاع أو بكى ... من الزاد أحلا زادنا وأطائبه تعمّد حقّي ظالماً ولوّى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه وربّيته حتّى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه وجمعتها دهماً جلاداً كأنّها ... أشاء نخيل لم تقطع جوانبه فأخرجني منها سليباً كأنّني ... حسام يمان فارقته مضاربه وقال آخر في ولد له: فلمّا بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمّل جعلت جزائي غلظة وفضاضةً ... كأنّك أنت المنعم المتفضّل رجع الكلام إلى كلام الحسن عليه السلام: قوله: حيّاك وبيّاك، معنى حيّاك أبقاك الله وملّكك، ومعنى بيّاك أضحكك أو قرّبك أو جاء بك أو بوّئك منزلاً أو أنّه تباع لحيّاك. ومن محاسن الأخلاق ما يروى عن بهرام أنّه خرج متصيّداً فعنّ له حمار وحش فأتبعه حتّى صرعه وقد انقطع عن أصحابه، فنزل عن فرسه يريد ذبحه وبصر براع فقال له: أمسك على فرسي، وتشاغل بذبح الحمار وحانت منه التفاتة فنظر إلى الراعي وهو يقلع جواهر عذار فرسه، فحوّل وجهه عنه وقال: تأمّل العيب عيب، وعتاب من لا يستطيع الدفاع عن نفسه سفه، والعفو من شيم الملوك، ثمّ قال: يا غلام آتني بفرسي، فلمّا أتاه به ضرب بهرام بيده إلى شريان الراعي ثمّ قال: يا غلام ما بال شريانك يضطرب، لعلّك آذاك وطئنا أرضك بحوافر خيلنا؟ قال: نعم وقد عزمت على السفر لأرض كذا وهو موضع بعيد، فقال بهرام: لا ترع فهذا الموضع وما فيه لك، وكان الراعي خبيثاً داهياً، فقال: إنّ الملوك إذا قالوا قولاً أتبعوه بفعل، فرجع بهرام إلى عسكره وقال له: أتبعني لأوثق لك من هذه الأرض، فأتبعه، فلمّا بصر به الوزير قال: أيّها الملك إنّي أرى جواهر عذار فرسك مقلعاً، فتبسّم وقال: نعم أخذه من لا يردّه ورآه من لا ينم عليه. وممّا جاء في الشّيم قولهم: شيم الأحرار إحرار الشّيم. وقال الثعالبي: أحسن الشيم ما يشام منه بارق الكرم. ومن جيّد ما جاء في الشيم والأخلاق الأنيقة قول بعض الشعراء: تزين الفتى أخلاقه وتشينه ... وتذكر أخلاق الفتنى وهو لا يدري وقول الآخر: وبعض أخلاق الفتى ... أولى به من نسبه وقول مهيار: حببّه إلى النفوس خلق ... لو ذاقه عدوّه حلى له وقوله: فلو سبكت خلقه المطرب في ... الكاسات ما غودرت الأثملا وقول أبي طاب المأموني: وخلائق كالخمر درّ فعاله ... حبّب لهنّ وما لهنّ خمار وقول الآخر: ولي شيمة في وجنة الدهر شامة ... تنير على رغم الصباح الدياجيا وقول مهيار: ملآن من شرف التحيّة نفسه ... تحوي الفضائل من جميع جهاتها وقول المعرّي: وسجايا محمّد أعجزت في الو ... صف لطف الأفكار والأذهان وقول البحتري: قد وجدنا محمّد بن عليّ ... غاية المجد قائلاً وفعولا ولقينا شمائلاً تنثر المسك ... سحيقاً كما لقيت شمولا وقول أبي تمام: فلو صوّرت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع فصل في حلمه ونهاه ووقاره وحجاه أقول: إنّه الحليم الذي ما ضمنت أحلم منه معاقد حبوه، ولا التفت عللى أوقر منه مجامع ندوه يزينه من الحجى ركانه، ومن النهى ما يعلى على النبلاء مكانه. زعيم بني الشرف الواضح ... وربّ النهى والحجى الراجح حليم إذا ما عرا فادح ... توقّر يرسي على الفادح وقور على مقذعات الحسود ... وهل يعبأ البدر بالنابح الحلم هو الأناة، والنُّهى العقل، والوقار الحلم، والركانة الوقار والرزانة، والحجى العقل أيضاً. قالت الحكماء: الحلم أفضل من العقل لأنّ الله سبحانه وتعالى وصف نفسه به.

فصل في تجاربه وذكائه

ويقال في المثل: حسب الحليم أنّ الناس أنصاره. وقال أميرالمؤمنين علي عليه السلام: ربّ كلمة يخترعها حليم مخافة ما هو شرّ منها، وكفى بالحلم ناصراً. وقال عليه السلام: لِن واحلم تُنْبل، ولا تعجب فتُمقَت وتُمتَهَن. وقيل: من مناقب المرء الحلم من غير ضعف، والجود بغير طلب ثواب الدنيا. وقال بعض الحكماء: من اتّخذ الحلم لجاماً إتّخذه النّاس إماماً، ومن لم يكن حليماً لم يزل سقيماً. وقيل لمعاوية: من أصبر الناس؟ قال: أردّهم لجهله بحلمه. وكان يقال: دلّ على عقل المرء إختياره. قال بعض الشعراء: قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلاً على اللبيب اختياره وقال علي عليه السلام: العقل إصابة الظنّ ومعرفة ما لم يكن بما كان. وقال عليه السلام: ذمّ العقلاء أشدّ من عقوبة السلطان. وقال عليه السلام: من زاد عقله نقص حظّه، وما جعل الله لأحد عقلاً وافراً إلاّ احتُسِبَ به من زرقه. وقال عليه السلام: الروح حياة البدن، والعقل حياة الروح. وقال عليه السلام: ليس شيء أحسن من عقل زانه علم، ومن علم زانه حلم، ومن حلم زانه صدق، ومن صدق زانه رفق، ومن رفق زانه تقوى، إنّ ملاك العقل ومكارم الأخلاق صون العرض والجزاء بالقرض والأخذ بالفضل والوفاء بالعهد والإنجاز للوعد، ومن حاول أمراً بالمعصية كان أقرب إلى ما يخاف وأبعد ممّا يرجو. ويقال: العقل منهاة فمن لم تنه تجاربه عدّ من البهائم. وقال الثعالبي: العقل أحسن معقل. وقال: العاقل من يروى له ثمّ يروي، ويُخْبَر ثمّ يخبِر، ويُشاهد ثمّ يشهد، ويعلم ثمّ يعمل. وقال أيضاً: العاقل من يستدلّ بأسارير الوجوه على أسرار القلوب. وقال: العاقل من يرى بأوّل رأيه أواخر الاُمور، ويهتك عن أسبابها ظلم الستور. وقال: العاقل من يشتهي فينتهي، ويبصر فيقصر. ومن جيد الشعر في هذا الفصل قول بعضهم: الحلم يعقب راحةً ومحبّةً ... والصفح عن ذنب المسيء جميل وقال الآخر: من خير ما رُزِق العباد وأُلهموا ... علم يُعاشُ به وحلم راجح وقول الرضي: وأحلم خلق الله حتّى إذا دنا ... إليها الأذى طارت بها جهلاتها ينظر فيه إلى قول النابغة الجعدي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا وهذا هو الغاية في بابه. ومن جيد ما قيل في الحلم والوقال قول ابن دريد في مقصورته: يعتصم الحلم بجنبي حبوتي ... إذا رياح الطيش طارت بالحبى وقول البحتري: ووقور تحت السكينة ما ير ... فع من طرفه ضجاج الخصوم وقول المتنبي: وبقايا وقاره عاقت الناس ... فكانت ركانةً في الجبال فصل في تجاربه وذكائه أقول: إنّه هو الذي سبر غور الأيّام بتجاربه، واستشف له النظر فيها أستار عواقبها، ولو تقدّم في الأعصر الأوّل لضرب بذكائه المثل، ورآه الناس أذكى من أياس. حازم يسلس من بعد الشماس ... كلّ أمر راضه صعب المراس ذو ذكاء لو أياس رامه ... لدعاه الفخر عد عنه بياس قتل الأيّام خبراً وله ... قبس التجريب أسنى الإقتباس لو سيوفاً طبعت آرائه ... لبرت ما أدركت حتّى الرواسي قال علي عليه السلام: العقل غريزة تربّيها التجارب. وقال عليه السلام: عليك بمجالسة أصحاب التجارب فإنّها تقوم عليهم بأغلا الغلا، وتأخذها منهم بأرخص الرخص. وقال عليه السلام: في التجارب علم مستأنف، والإعتبار يفيدك الرشاد، وكفاك أدباً لنفسك ما كرهته لغيرك، وعليك لأخيك مثل الذي عليه لك. أقول: وبهذا يعلم أنّ العقل نوعان: غريزة ومكتسب بالتجارب، كما أشار إليه أميرالمؤمنين عليه السلام، ولم يحكم الأمور محكم كالتجربة. وقيل: التجارب لا غاية لها. والذكاء حدّة الفؤاد. قال علي عليه السلام: ذكّ قلبك بالأدب كما تذكّي النّار الحطب. والحزم ضبط الرّجل أمره وأخذه بالثقة. قال علي عليه السلام: أحزم الناس من ملك جدّه هزله، وقهر رأيه هواه، وأعرب عن ضميره فعله، ولم يختدعه رضاه عن حظّه ولا غضبه عن كيده. وقال عليه السلام: الرأي يريك غاية الاُمور مبدؤه.

فصل في فصاحة لسانه وبلاغة بيانه

وممّا جاء للشعراء في هذا الفصل قول بعضهم: إذا ما قتلت الشيء علماً فقل به ... ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله وكان يقال: قتل أرضعاً عالمها وقتلت أرض جاهلها. قال أبوالطيب المتنبّي: قد بلوت الخطوب حلواً ومرّاً ... وملكت الأيّام حزناً وسهلاً وقتلت الزمان علماً فما يغر ... ب قولاً ولا يجدّد فعلا وقال أيضاً: هذا الذي أفنى النظار مواهباً ... وعداه قتلاً والزمان تجاربا وممّا ورد لبعض الشعراء يصف شاعراً بالذكاء لكنّه أخرجه مخرج التهكّم، وهو ظريف جدّاً: وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط أذكاء أقام يجهد أيّاماً قريحته ... وشبّه الماء بعد الجهد بالماء يريد بهذا قول القائل: كأنّنا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء قوله: أوقد الطبع الذكاء له، يقال: وقدت النار توقّدت هي وأوقدتها أنا واستوقدتها. ومن الغايات في المدح بالذكاء قول أبي الطيب المتنبّي: تعرف في عينه حقائقه ... كأنّه بالذكاء مكتحل أشفق عند اتّقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل وفي معنى البيت الثاني قول الخالدي: لو لم يكن ماء علمي قاهراً فكري ... لأحرقتني في نيرانها فكري وعكس هذا المعنى أبوالعلا المعرّى، فنقله من المدح بالذكاء إلى المدح بالشجاعة وشدّة العزم، فقال: من كلّ من لولا تلهّب بأسه ... لا خضر في يمنى يديه الأسمر قوله: الأخضر في يمنى يديه الأسمر، أخذه مهيار الديلمي أخذاً لطيفاً فقال، ونقله إلى المدح بالكرم: لو ركبوا في عواليهم أناملهم ... يوم الوغى خضرت أطرافها الحمر وحكى أبوالحسن العمري قال: دخلت على الشريف المرتضى فأراني بيتين قد عملهما وهما: سرى طيف سعدي طارقاً فاستفزّني ... هبوباً وصحبي بالفلاة هجود فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعلّ خيالاً طارقاً سيعود فخرجت من عنده ودخلت على أخيه السيّد الرضي، فعرضت عليه البيتين، فقال بديهاً: فردّت جواباً والدموع بوادر ... وقد آن للشمل المشتّ ورود فهيهات من لقيا حبيب تعرّضت ... لنا دون لقياه مهامه بيد فعدت إلى المرتضى بالخبر، فقال: يعزّ عَلَيّ أخي قتله الذكاء، فما كان إلاّ يسيراً حتّى مضى لسبيله. وكان أياس معروفاً بالفطنة والذكاء والفراسة، وذكره أبو تمام في قوله: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء أياس وقد جمع في ذكائه مجلّد. يقال: إنّه نظر إلى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال: هذه حامل وهذه مرضع وهذه بكر، فسُئِلنَ فكان الأمر كما ذكر، فقيل له: من أين لك ذلك؟ فقال: لمّا فزعن وضعت إحداهنّ يدها على بطنها والاُخرى على ثديها والاُخرى على فرجها. أقول: وهو أياس بن معاوية، حكى المسعودي في شرح المقامات أنّ المهدي دخل البصرة فرأى أياس بن معاوية وهو صبي وخلفه أربعمائة من العلماء وغيرهم وهو مقدّمهم، فقال المهدي: أُف لهؤلاء الفتّانين، أما كان فيهم شيخ يتقدّمهم غير هذا الحدث؟! ثمّ إنّ المهدي إلتفت إليه وقال: كم سنّك يا فتى؟ فقال: سنّي أطال الله بقاء أميرالمؤمنين سنّ أُسامة بن زيد بن حارثة حين ولاّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً فيه أبو بكر وعمر، فقال له: تقدّم بارك الله فيك. وقال السيّد الرضي يصف نفسه بالحزم: ومالي بعلم الغيب إلاّ طليعة ... من الحزم لا يخفى عليها المغيّب وقال مهيار في صدق الرأي: يرى بوجه اليوم صدر غده ... تعطيه ما في المصدر الموارد وقال أيضاً: يطلعه نجد كلّ مشكلة ... فكرّ وراء الغيوب مطلع وقال البحتري: ومصيب مفاصل الرأي إن حا ... رب كانت آرائه من جنوده قوّمت عزمه الأصالة والرمح ... يقيم الثقاف من تأويده فصل في فصاحة لسانه وبلاغة بيانه أقول: هو قادح زند الفصاحة، وماسح غرر سوابق البلاغة، لسانه صفحة منصل، وبيانه عقد مفصّل. بوركت طلعتك الغرّاء يا ... قمراً في فلك العلياء مفرد أنت ريحانة فضل لا أرى ... مثل ريّاها بهذا العصر يوجد لك ذكر نشره يهدي شذى ... فيه أنفاس النسيم الغض تشهد

ولسان في القضايا ذرب ... ينطق الفصل إذا الفصل تردد وبيان لو يجاري سحره ... سحر هاروت وماروت لبلد عقد الألباب تنحل به ... وبه ينتظم الأمر فيعقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الجمال في اللسان. وقال أميرالمؤمنين عليه السلام: من طال لسانه وحسن بيانه فليترك التحدّث بغرائب ما سمع، فإنّ الحسد لحسن ما يظهر منه يحمل أكثر الناس على تكذيبه. وقال: المرء مخبوّ تحت لسانه. وقال بعضهم: كفى بالمرء عيباً أن تراه ... له وجه وليس له لسان وقالت الحكماء: الصورة الحسنة بلا منطق حسن كالبيت الحسن ليس به ساكن. وقيل: المرء بأصغريه قلبه ولسانه. وقيل: المرء مخبوّ تحت طيّ لسانه لا طيلسانه. وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلاّ ضالّة مهملة أو بهيمة مرسلة. وقيل: دخل بعض الفصحاء على بعض الاُمراء فازدراه لدمامته وقال: لإن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: مهلاً أيّها الأمير، فإنّما المرء بأصغريه قلبه ولسانه، إن تكلّم تكلّم بلسان وإن قاتل قاتل بجنان، ثمّ أنشأ يقول: وما المرء إلاّ الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصوّر فإن غرّة راقتك منه فربّما ... أمر مذاق العود والعود أخضر وأنشد أيضاً: وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلّم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلاّ صورة اللحم والدم وحسبك شاهداً في هذا المقام بالحكاية التي تقدّمت في نقل ما جرى بين شريك بن الأعور ومعاوية بن أبي سفيان، وقوله في آخر كلامه: أيشتمني معاوية بن حرب ... وسيفي صارم ومعي لساني فقوله: وسيفي صارم ومعي لساني يشبه الكلام الذي مرّ في قولهم: إن تكلّم تكلّم بلسان وإن قاتل قاتل بجنان، ويشبهه قول مهيار: مالي أذلّ وسيف نصري في فمي ... والمجد يحفظ سارحي وغريبي وقول الآخر وهو من شعراء اليتيمة: وإذا السيوف قطعن كلّ ضريبة ... قطع السيوف القاطعات لساني وقول السيّد الرضي: ومقولي كالسيف يحتمى به ... أشوس إباء على المقاول وقوله أيضاً: ما مقامي على الهوان وعندي ... مقول صارم وأنف حمي وإباء محلق بي عن الضيم ... كما راغ طائر وحشي وقوله أيضاً: إن لم تكن في الجمع أمضى طعنةً ... فلأنت أنفذ خطبةً في المجمع بنوافذ للقول يبلغ وقعها ... ماليس يبلغ بالرماح الشرّع وقوله في رثاء الحسين بن الحجاج: وما كنت أحسب أنّ المنون ... تفلّ مضارب ذاك اللسان لسان هو الأرزق القعضبي ... تمضمض في ريقة الأفعوان وقول مهيار: من طاعني ثغر الخطوب ... بكلّ سكّيت مفوه أُمراء معركة الخطابة ... فاتحو الشبهات عنوه في كلّ جلسة كاتب ... منهم إلى الأعداء غزوه والشعر في هذا الباب كثير جدّاً، وأقول: إنّما يشبه اللسان بالسيف تاره وبالسنان أُخرى لأنّ بعض الكلام الذي هو أثر اللسان وصفته له تأثير في النفوس كتأثير الجرح الحاصل من السنان والسيف، قال الشاعر: جرحات السنان لها التئام ... ولا يلتام ما جرح اللسان وفي بعض النسخ "الكلام" بدل اللسان وهو أولى إن كان البيت استهلالاً من حيث يكون مصراعاً. ولا بأس بإيراد شيء ممّا ورد من الكلام المنثور في البلاغة والكلام البليغ والمتكلّم البليغ: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: البلاغة النصر بالحجة، والمعرفة بمواضع الفرصة، ومن النصر بالحجة أن يدع الإفصاح بها إلى الكناية عنها إذا كان الإيضاح أوعر طريقه، وكانت الكناية أبلغ في الدرك وأحقّ بالظفر. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل. وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟ قال: هي التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنّه يحسن مثلها. وقال معاوية للضحّاك العبدي: ما البلاغة؟ قال: أن تجيب فلا تخطي، وتقول فلا تبطي. فقال: أكذلك أنت؟ قال: أقلني يا أميرالمؤمنين، البلاغة أن لا تخطي ولا تبطي. وقال عبد الحميد الكاتب: البلاغة ما فهمته العامّة ورضيته الخاصة. وقيل لكلثوم بن عمرو الغساني: ما البلاغة؟ فقال: ما أفهمك لفظه من غير إعادة ولا حبسه.

وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟ قال: السلاطة والجزالة. وقال آخر: البلاغة التقرّب من البعيد والتباعد من الكلفة، والدلالة من القليل على الكثير. ومن مختار قول الثعالبي في هذا الباب: أبلغ الكلام ما حسن إيجازه وقلّ مجازه وكثر إعجازه وتناسبت صدوره وإعجازه. وقال: ربّ كلام له حسن الوجوه الصباح، وسحر الحدق الملاح. وقال في صفة البليغ: البليغ من يبلغ الأغراض البعيدة بالألفاظ القريبة. وقيل: البليغ من إذا نطق طبق المفصل، وإذا كتب نسق الدر المفصل. نبذة فيما ورد لبعضهم من الكلام البليغ قيل لأعرابي: إنّك لكذوب خوار، فقال: والله إنّي لأصدق من قطاة، وأصلب من صفاة. وقال آخر: يكتفي اللبيب بوحي الحديث، وينبو البيان عن قلب الجاهل. وذكر أعرابي محلة قوم فقال: ارتحلت عنها ربّات الخدور، وأقامت بها رواحل القدور، ولقد كانوا يعفون آثار الرياح، فعفت آثارهم فذهبت بأبدانهم وبقت ديارهم، فالعهد قريب واللقاء بعيد. ودعى آخر على رجل فقال: اللهمّ اجعل معيشته السؤال، ومنيته الهزال، ولبوسه العار، ومصيره إلى النّار، وأقلل عدده، وأفني مدده. ودعت أعرابيّة على زوجها فقالت: ضربك الله بداء لا يكون له دواء إلاّ أبوال القطا. وسُئِل أعرابي عن بلدين كم بينهما؟ قال: أديم يوم وعمر ليله. ودخل خالد بن صفوان على أبي العباس السفاح وعنده أخواله من بني الحرث ابن كعب، فقال: ما تقول يا خالد في أخوالي؟ فقال: هم هامة الشرف، وعرنين الكرم، إنّ فيهم خصالاً ما اجتمعت في غيرهم من قومهم، إنّهم لأطولهم أُمماً، وأضربهم قمماً، وأكرمهم شيماً، وأطيبهم طعماً، وأوفاهم ذمماً، وأبعدهم همماً، هم الجمرة في الحرب، والرفد في الجدب، والرأس في كلّ خطب، وغيرهم بمنزلة العجب. فقال السفاح: لقد وصفت يابن صفوان فأحسنت، فزاد أخواله في الإفتخار، فغضب أبوالعباس لأعمامه فقال: أفخر يا خالد، قال: أو على أخوال أميرالمؤمنين؟ قال: وأنت من أعمامه، فقال: كيف أُفاخر قوماً هم بين ناسج برد وسائس قرد ودابغ جلد، دلّ عليهم هدهد وأغرقهم جرد وملكتهم أُم ولد، فتهلّل وجه أبي العباس. قال الجاحظ وقد ذكر كلام خالد هذا: والله لو فكّر في جميع معائبهم واحتضار اللفظ في مثالهم بعد ذلك المدح المهذّب حولاً كاملاً لكان قليلاً، فكيف وهو على بديهته لم يرض فكراً ولم يجهد خاطراً. ومثله ما روي أنّه وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميان، فقال له الزبرقان: يا رسول الله أنا سيّد تميم المطاع فيهم والمجاب منهم، آخذ لهم الحق وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك منّي؛ يعني عمرواً، فقال: أجل يا رسول الله، إنّه لمانع لحوزته، مطاع في عشيرته. فقال الزبرقان: لقد علم أكثر ممّا قال، ولكنّه حسدني شرفي، فقال عمرو: أمّا لئن قال ذلك ما علمته إلاّ ضيق العطن، زمر المروّة، أحمق الأب، لئيم الخال، حديث الغنى. فتبيّن الكراهة في وجه رسول الله لاختلاف قوله، فقال: يا رسول الله رضيت فقلت أحسن ما علمت، وعضبت فقلت أقبح ما علمت، ولقد صدقت في الاُولى وما كذبت في الاُخرى. فقال النبي عند ذلك: إنّ من البيان لسحراً، وإنّ من الشعر لحمة. وتظلّم رجل إلى المأمون من عامل له، فقال: يا أميرالمؤمنين ما ترك لنا ذهباً إلاّ ذهب به، ولا فضّة إلاّ فضّها، ولا غلّة إلاّ غلّها، ولا ضيعةً إلاّ أضاعها، ولا علقاً إلاّ علّقه، ولا عرضاً إلاّ عرض له، ولا ماشيةً إلاّ أمتشها، ولا جليلاً إلاّ أجلاه، ولا دقيقاً إلاّ دقّه، فعجب المأمون من فصاحته وكشف ظلامته. وقال المنصور لمعن بن زائدة الشيباني: كبرت يا معن؟ قال: في طاعتك يا أميرالمؤمنين. قال: وإنّ فيك لبقيّة، قال: هي لك يا أميرالمؤمنين. قال: وإنّك لجلد، قال: على أعدائك يا أميرالمؤمنين. قال: أيّ الدولتين أحبّ إليك: دولتنا أم دولة بني أُميّة؟ قال: ذلك إليك؛ إن زاد إحسانك على إحسانهم فدولتك أحبّ إليّ وإن نقص عنه فدولتهم أخفّ عَلَيّ. وقال المنصور لإسحاق بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أُميّة؟! فقال: يا أميرالمؤمنين من وفى لمن لا يرجى كان لمن يرجى أوفى، قال: صدقت.

ووصف بعض البلغاء رجلاً فقال: إنّه لبسط الكفّ، رحب الصدر، وطىء الأكناف، سهل الأخلاق، كريم الطباع، ضاحك السنّ، طلق الوجه، سحاب ماطر، وبحر زاخر، يستقبلك بحسن بشر، ويستدبرك بكرم غيب، عبد لضيفه غير ملاحظ لأكيله، ريّان من العقل، ظمآن من الجهل، راجح الحلم، ثاقب الرأي، كاس من كلّ مكرمة، عار من كلّ ملامة، إن سُئِل بذل، وإن قال فعل. ومدح أعرابي رجلاً فقال: ذاك والله صريح النسب، مستحكم الأدب، من أيّ أقطاره أتيته تلقاه بكرم فعال وحسن مقال. وذكر أعرابي قوماً فقال: هم أقلّ الناس ذنباً إلى أعدائهم، وأكثر جرماً إلى أصدقائهم، يصومون عن المعروف، ويفطرون على المنكر. وذمّ آخر رجلاً فقال: هو غني من اللؤم، فقير من الكرم، موته حياة وحياته موت. وذمّ آخر رجلاً فقال: هو أكثر ذنوباً من الدهر. وذُكِرَ عند أعرابي رجل مريض فقال: ذاك إلى من يداوي عقله من الجهل أحوج منه إلى من يداوي جسمه من المرض. وقال آخر: فلان غناه فقر، ومطبخه قفر، يملأ بطنه والجار جائع، ويحفظ ماله والعرض ضايع. قوله: ومطبخه قفر نظيره قول الشريف الرضي: بيوتهم سود الذرى ولنارهم ... مواقد بيض ما بهنّ رماد وذكر أعرابي قوماً فقال: ألقوا من الصلاة الأذان مخافة أن تسمعه الأذان فتدلّ عليهم الضيفان. وحدّث محمّد بن سلام قال: تكلّم الخطباء عند المهدي فأطنبوا في وصفه ومدحه، فقام شبيب المنقري فقال لأميرالمؤمنين: أعزّه الله أشباه فمنها القمر الباهر ومنها الفرات الزاخر ومنها الغيث الباكر ومنها الأسد الخادر؛ فأمّا القمر الباهر فأشبه منه حسنه وبهائه، وأمّا الفرات الزاخر فأشبه منه جوده وسخائه، وأمّا الغيث الباكر فأشبه منه طيبه وحبائه، وأمّا الأسد الخادر فأشبه منه شجاعته ومضائه. فقال المهدي: لا حاجة بنا بعد هذا إلى كلام. ومثل هذا الكلام البليغ ما حكاه أبو محكم قال: اجتمع الشعراء على باب المعتصم، فبعث إليهم محمّد بن عبد الملك الزيّات فقال لهم: إنّ أميرالمؤمنين يقول لكم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري في الرشيد: خليفة الله إنّ الجود أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع من لم يكن ببني العبّاس معتصماً ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع إن أخلف القطر لم تخلف مخائله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتّسع فليدخل وإلاّ فلينصرف، فقام محمّد بن وهيب فقال: فينا من يقول مثله، قال: وأيّ شيء قلت؟ فقال: ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر فالشمس تحكيه في الإشراق طالعة ... إذا تقطّع عن إداركها النظر والبدر يحكيه في الظلماء منبلحاً ... إذا استنارت لياليه به الغرر يحكي أفاعيله في كلّ نائبة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر فالغيث يحكي ندى كفّيه منهمراً ... إذا استهلّ بصوب الديمة المطر وربّما صال أحياناً على حمق ... شبيه صولته الضرغامة الهصر والهند وانى يحكي من عزائمه ... صريمة الرأي منه النقض والمرر وكلّها مشبه شيئاً على حدّة ... وقد تخالف فيها الفعل والصور وأنت جامع ما فيهنّ من حسن ... فقد تكامل فيك النفع والضرر فالخلق جسم له رأس مدبّرة ... وأنت جار حتاه السمع والبصر فأمر بإدخاله وأحسن جائزته. ولا بأس بذكر أبيات من قصيدة النميري في الرشيد: قال السيّد المرتضى: روي أنّ أبا عصمة الشعبي لمّا أوقع بأهل ديار ربيعة، أوفدت ربيعة وفداً إلى الرشيد فيهم منصور النميري، فلمّا صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل منهم عليه، فاختاروا عدداً بعد عدد إلى أن اختاروا رجلين النميري أحدهما ليدخلا ويسألا حوائجهما، وكا النميري مؤدّباً لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك ولا عرف به، فلمّا مثّل هو وصاحبه بين يدي الرشيد، قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النميري فأنشده: "ما تنقضي حسرة منّي ولا جزع"، فقال له الرشيد: قل حاجتك وعد عن هذا، فقال: "إذا ذكرت شباباً ليس يرتجع"، وأنشده القصيدة حتّى انتهى إلى قوله: ركب من النمر عاذوا بابن عمّهم ... من هاشم إذا لحّ الأزلم الجذع متوا إليك بقربى منك تعرفهم ... لهم بها في سنام المجد مطّلع

إنّ المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع إذا رفعت امرءً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متّضع نفسي فدائك والأبطال معلمة ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع حتّى أتى على آخرها، فقال: ويحك قل حاجتك، فقال: يا أميرالمؤمنين أُخربَت الديار وأُخذت الأموال وهُتِكَ الحرم، فقال: أُكتبوا له بكلّ ما يريد، وأمر له بثلاثين ألف درهم، واحتبسه عنده وشخص أصحابه بالكتب، ولم يزل عنده يقول الشعر فيه. وقيل: ورد منصور بن سلمة النميري على البرامكة وهو شيخ كبير، فحدّث مروان بن أبي حفصة قال: دخل رجل شامي إلى الرشيد وكان قد تقدّمته البرامكة في الذكر عنده، فأذن له، فدخل فسلّم فأجاد، فأذن له الرشيد، فجلس، قال مروان: فأوجست منه خوفاً فقلت: يا نفس أنا حجازي نجدي شافهت العرب وشافهتني وهذا شامي أفتراه أشعر منّي، قال: فجعلت أرفق نفسي إلى أن استنشده هارون، فإذا هو والله أفصح الناس، فدخلني له حسد، قال: فأنشده قصيدة تمنّيت أنّها لي وأنّ عَلَيّ غرماً، ثمّ ذكر مروان أنّه حفظ من القصيدة أبياتاً وهي: أميرالمؤمنين إليك خضنا ... غمار الموت من بلد شطير بخوص كالأهلّة جانفات ... تميل على السرى وعلى الهجير حملن إليك آمالاً عظاماً ... ومثل الصخر والدرّ النثير فقد وقف المديح بمنتهاه ... وغايته وصار إلى المصير إلى من لا تشير إلى سواه ... إذا ذكر الندى كفّ المشير قال مروان: فوددت أنّه أخذ جائزتي وسكت، وعجبت من تخلّصه إلى تلك القوافي، ثمّ ذكر ولد أميرالمؤمنين عليه السلام فأحسن التخلّص، ورأيت هارون يعجب بذلك، فقال: يد لك في رقاب بني عليٍّ ... ومن ليس بالمنّ اليسير فإن شكروا فقد أنعمت فيهم ... وإلاّ فالندامة للكفور مننت على ابن عبد الله يحيى ... وكان من الحتوف على شفير وقد سخطت لسخطتك المنايا ... عليه فهي حائمة النّسور ولو كافأت ما اجترحت يداه ... دلفت له بقاصمة الظهور ولكن جلّ حلمك فاجتباه ... على الهفوات عفو من قدير فعاد كأنّما لم يجن ذنباً ... وكان قد اجتنى حسك الصدور وإنّك حين تبلغهم أذاة ... وإن ظلموا لمحترق الضمير قال: فلمّا سمع الرشيد هذا البيت منه قال: والله هذا معنىً كان في نفسي، وأدخله بيت المال فحكّمه فيه، ثمّ قال مروان: وكان هارون يبسم وكاد يضحك للطف ما سمع ثمّ أومأ إليّ أن أنشده، فأنشدته قصيدتي التي أقول منها: خلّوا الطريق لمعشر عاداتهم ... حطم المناكب كلّ يوم زحام حتّى أتيت على آخرها، فوالله ما عاج ذلك الرجل بشعري ولا حفل به، وأنشده منصور يومئذ: إنّ لهارون أمّا الهدى ... كنزين من أجر ومن برّ يريش ما تبري الليالي ولا ... تريش أيديهنّ ما ييري كأنّما البدر على رحله ... ترميك منه مقلتا صقر وقال الجاحظ: كان منصور هذا ينافق الريد ويذكر هارون في شعره ومراده بذلك أميرالمؤمنين عليه السلام لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلى أن وشى به عنده بعض أعدائه؛ وهو العتابي، فوجّه الرشيد برجل من بني فزارة وأمره أن يضرب عنقه حيث تقع عينه عليه، فقدم الرجل رأس عين بعد موت منصور بأيّام قلائل. قال المرزباني: ويصدّق قول الجاحظ أنّه كان يذكر هارون في شعره ويعني به أميرالمؤمنين عليه السلام ما أنشده محمّد بن الحسن بن دريد: آل الرسول خيار الناس كلّهم ... وخير آل رسول الله هارون رضيت حكمك لا أبغي به بدلاً ... لأنّ حكمك بالتوفيق مقرون وممّا امتعض منه هارون الرشيد قوله: شاء من الناس راتع هامل ... يعللّون النفس بالباطل تقتل ذريّة النبي وير ... جون خلود الجنان للقاتل ما الشك عندي في لؤم قاتله ... لكنّني قد أشكّ في الخاذل

ونظير قول المعتصم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري الخ ما رواه ميمون بن هارون قال: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ وحاله متماسكة، فسألته فقال: كنت من جلساء المستعين، فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلاّ ممّن قال مثل قول البحتري في المتوكّل: فلو أنّ مشتاقاً تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر فرجعت إلى داري وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن ممّا قاله البحتري في المتوكّل، فقال: هاته، فأنشدته: ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظنّ لظنّ البرد أنّك صاحبه وقال قد أعطيته ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه وقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت فبعث إليّ سبعة آلاف دينار وقال: أذخر هذه للحوادث من بعدي ولك عَلَيّ الجراية والكفاية ما دمت حيّاً. ويناسب هذه الحكاية ما روي عن ابن هرمة أنّه دخل على المنصور ممتدحاً له، فقال له المنصور: وما عسى أن تقول فيّ بعد قولك في عبد الواحد بن سليمان: إذا قيل من عند ريب الزمان ... لمقتر فهر ومحتاجها ومن يعجل الخيل يوم الهياج ... بإلجامها قبل إسراجها أشارت نساء بني مالك ... إليك به دون أزواجها قلت: يا أميرالمؤمنين فإنّي قلت فيك أحسن من هذا، وأنشده: إذا قيل أيّ فتىً تعلمون ... أهشّ إلى الطعن بالذابل وأضرب للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل أشارت إليك أكفّ الأنام ... إشارة غرقى إلى الساحل قال المنصور: أمّا هذا فمسروق من ذاك، وأمّا نحن فلا نكافىء إلاّ بالتي هي أحسن، ثمّ أنعم عليه وأحسن جائزته. ومثل ذلك ما رواه يموت به المزرع أنّ أحمد بن محمّد بن عبد الله أباالحسن الكاتب المعروف بابن المدبّر الضبي كان إذا مدحله شاعر ولم يرض شعره قال لغلامه: إمض به إلى المسجد ولا تفارقه حتّى يصلّي مأة ركعة، فتحاماه الشعراء إلاّ الأفراد المجيدون، فجائه أبو عبد الله الحسن بن عبد السلام المصري فاستأذنه في النشيد، فقال له: قد عرفت الشرط؟ قال: نعم، ثمّ أنشده هذه الأبيات: أردنا في أبي حسن مديحاً ... كما بالمدح تنتجع الولاة فقلنا أكرم الثقلين طرّاً ... ومن كفّيه دجلة والفرات فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهنّ الصّلاة فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي إنّما الشّأن الزكاة فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصلاة هي الصلاة فضحك ابن المدبّر واستظرفه، فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: من قول أبي تمام الطائي: هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فانّهنّ حمام فاستحسن ذلك وأجزل طلبته. وتكلّم خالد بن صفوان بين يدي هشام بن عبد الملك بكلام استحسنه هشام، فحسده بعض جلسائه فقال له: ما اسمك؟ فقال: خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال الرجل: اسمك كاذب وما أحد بخالد، وأبوك صفوان وهو حجر صلد، وجدّك أهتم والصحيح خير من الأهتم. فقال خالد: قد سألت فأجبناك، فممّن أنت؟ قال: من أهل الحجاز، قال: بخّ بخّ بلد العرب، ومنشأ أهل الأدب، فمن أيّ الحجاز؟ قال: من مكّة، قال: بخّ بخّ حرم الله وأمنه ومهجر إبراهيم ومولد إسماعيل، فمن أيّ أهل مكّة أنت؟ قال: من عبد الدار، قال: لم تصنع شيئاً يا أخا عبد الدار، هشمتك هاشم، وأمتك أُميّة، وخزمتك مخزوم، وجمحت بك جمح، وسهمتك سهم، وألوت بك لوي، وغلبتك غالب وأنافت بك مناف، وزهرت عليك زهرة، فأنت ابن عبد دارها، ومنتهى عارها، فتفتح لها إذا دخلت، وتغلق ورائها إذا خرجت. فمرض الرجل بعد ذلك أيّاماً ثمّ مات، فادّعى أهله على خالد ديته لأنّه مات بسبب كلامه.

وقال بعض الروات: وفد علبة بن مسهّر الحارثي على ذي فائش الملك الحميري وكان ذو فائش يحبّ اصطناع سادات العرب ويقضي حوائجهم ويقرب مجالسهم، وكان علبة شاعراً محدثاً ظريفاً، فقال له الملك ذات يوم: يا علبة ألا تحدّثني عن أبيك وأعمامك وتصف لي أحوالهم؟ قال: أيّها الملك، هم أربعة: زياد ومالك وعمر ومسهر؛ أمّا زياد فما استلّ سيفه منذ ملكت يده قائمة إلاّ أغمده في جثمان بطل أو شوامت جمل، وكان إذا حملق النجيد وصلصل الحديد وبلغت النفس الوريد خاض ظلام العجاج، وأطفأ نار الهياج وألوى بالأعراج، وأردف كلّ طفلة مغناج، ذات بدن رجراج، وقال لأصحابه: عليكم النهاب والأموال الرغاب، عطاء لا ضنين شكس، ولا حفلد نكس. وأمّا مالك فكان عصمة الهوالك إذا اشتبهت الأعجاز بالحوارك، يفري الرعيل فري الأديم بالأزميل، ويخبط البهم خبط الذئب نقاد الغنم. وأمّا عمرو فكان البحر الزاخر، والسحاب الماطر، يجود إذا بخل الغيث، ويقدم إذا أحجم الليث، ما قدر إلاّ عفى، ولا عاهد إلاّ وفى. وأمّا مسهّر فكان الذعاف الممقر، والأسد المخدر، يخبي الحرب وييسعر، ويبيح النشب فيكثر، ولا يجنحن ولا يستأثر. فقال: لله درّك يا علبة، مثلك فليصف أُسرته وقومه. روى أثيرالدين أبو زرعة العراقي الشافعي والمدايني في كتاب الأمثال عن المفضّل الضبي أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا خرج من مكّة يعرض نفسه على القبائل، خرج إلى ربيعة ومعه علي وأبوبكر، فدفعوا إلى مجلس من مجالسهم، فتقدّم أبوبكر وكان نسّابةً، فسلّم فردّوا عليه السّلام، فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أفمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، قال: أيّ هامتها أنتم؟ قالوا: ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يقال: لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم بسطام وذو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جساس حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الخوفزان قاتل الملوك وسالبها أنعمها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم أصهار الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذاً ذهل الأكبر، بل أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من شيبان يقال له دغفل حين بقل وجهه فقال: إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبأ لا يعرفه أو يحمله يا هذا إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئاً، فممّن الرجل؟ قال: من قريش، قال: بخّ بخّ أهل الشرف والرياسة، فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرّة، قال: أمكنت والله الرامي من الثغرة، أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فصار يدعى مجمعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه؟ قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا، فاجتذب أبوبكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هارباً من الغلام، فقال الفتى: صادف درء السيل درء يدفعه ... يهيضه حيناً وحيناً يصدعه أما والله يا أخا تيم لو ثَبَتَّ لأخبرتك أنّك من زمعات قريش ولست من الذوائب. فتبسّم رسول الله، وقال علي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر: لقد وقعت من الغلام الأعرابي على باقعة؟ قال: أجل يا أباالحسن، ما من طامّة إلاّ ولها ظامةٌ و"البلاء موكّل بالنطق"، فذهبت مثلاً. ودغفل هذا هو ابن حنظلة النسابة، يضرب فيه المثل بالنسب، وقد كان له معرفة بعلم النجوم وغيره من علوم العرب. وقدم مرّةً على معاوية بن أبي سفيان فاختبره فوجده رجلاً كاملاً عالماً، فقال: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سئول، وقلب عقول، وآفة العلم النسيان. وحكى البلاذريى قال: دخل صبي من بني أسد سنّه سبع سنين على الرشيد ليعجب من فصاحته، فقال له الرشيد: ما تحبّ أن أهب لك؟ قال: جميل رأيك فإنّي أفوز به في الدّنيا والآخر، فأمر بدنانير ودراهم فوضعت بين يديه، فقال: إختر أحبّها إليك، فقال: أميرالمؤمنين أحبّ خلق الله إليّ وهذه من هاتين، وضرب بيده إلى الدنانير، فضحك منه الرشيد ووصله بمال وأمر أن يضم إلى ولده.

وقال بعض الروات: لمّا استخلف عمر بن العزيز، قدم عليه وفد من أهل الحجاز فاشرأبّ منهم غلام للكلام، فقال عمر: يا غلام ليتكلّم من هو أسنّ منك، فقال: يا أميرالمؤمنين إنّما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا أمنح الله تعالى عبده قلباً حافظاً ولساناً لافظاً فقد أجاد له الإختيار، ولو أنّ الاُمور بالسنّ لكان في الناس من هو أحقّ بمجلسك منك. فقال له عمر: صدقت، تكلّم، فهذا هو السحر الحلال. فقال: يا أميرالمؤمنين إنّا وفد التهنية لا وفد المرزئة، لم تقدمنا عليك رغبة ولا رهبة، لأنّا قد أمنّا في أيّامك ما خفنا، وأدركنا ما أمّلنا. فسأل عمر عن سنّ الغلام، فقيل له: عشر سنين. ونظير هذه القضيّة ما ذكره الزمخشري في ربيع الأبرار قال: حدّث معبد بن خالد وكان ذميماً قال: وفدنا معشر عدوان على عبد الملك، فقدّموا رجلاً منّا وسيماً، فقال: ممّن؟ قال: عدوان، فأنشد عبد الملك: عذيري الحي من عدوا ... ن كانوا حيّة الأرض بغى بعضهم بعضاً ... فلم يرعوا على بعض ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض ثمّ قال للرجل: إيه، فقال: لا أحفظها، قال معبد: وكنت خلفه فقلت: ومنهم حكم يقضي ... فلا ينقض ما يقضي قال للرجل: مَن الحكم؟ قال: لا أدري، فقلت: عامر بن الضرب، فقال له: من القائل؟ قال: لا أدري، فقلت: ذوالأصبع، فقال له: لم قيل ذوالأصبع؟ قال: لا أدري، فقلت: نهشته حيّة فقطعت أصبعه، فقال: ما اسم ذي الأصبع؟ قال: لا أدري، فقلت: حرثان بن الحارث، فقال عبد الملك للرجل: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة ديناراً، فقال لي: وكم أنت؟ قلت: ثلاثمائة، فقال: اجعلوا هذا لهذا، فانصرفت وعطائي سبعمائة وعطائه ثلاثمائة. وهذه القصّة وإن لم تكن ممّا نحن فيه إلاّ أنّي أوردتها لناسبتها للقضيّة المتقدّمة قبلها. ولمّا مات سعيد بن العاص وفد ابنه عمرو على معاوية فاستنطقه، فقال: إنّ أوّل كلّ مركب صعب، وإنّ مع اليوم غداً. فقال معاوية: من أوصى بك أبوك؟ فقال: إنّه أوصى إليّ ولم يوص بي. فقال معاوية: إنّ ابن سعيد هذا لأشدق، فسمّي عمرو الأشدق من ذلك اليوم. وحكي عن النظّام أنّه جاء به أبوه وهو حَدِث إلى خليل بن أحمد ليعلّمه، فقال الخليل له يوماً يمتحنه، وبيده قدح زجاج: يا بنيّ صف لي هذه الزجاجة، فقال: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: تُريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء، قال: فذمّها، قال: سريع كسرها، بطيء جبرها، قال: فصف لي هذه النخلة، قال: بمدح أم بذم؟ قال: بمدح، قال: حلو مجتناها، باسق منتهاها، ناضر أعلاها، قال: فذمّها، قال: هي صعبة المرتقى، بعيدة المجتنى، محفوفة بالأذى. فقال الخليل: يا بني نحن إلى التعليم منك أحوج. قال السيّد المرتضى: وهذه بلاغة من النظّام حسنة، لأنّ البلاغة هي وصف الشيء ذمّاً أو مدحاً بأقصى ما يقال فيه. والنظّام هذا هو أبو إسحاق ابن سيّار النظّام. قال الجاحظ: إنّ عبد الوهّاب الثقفي ذكره يوماً فقال: هو أحلى من أمن بعد خوف، وبرء بعد سقم، وخصب بعد جدب، وعنىً بعد فقر، وطاعة المحبوب وفرح المكروب مع الشباب الناعم، وله شعر كثير جيّد، فمنه قوله: يا تاركي جسداً بغير فؤاد ... أسرفت في الهجران والإبعاد إن كان تمنعك الزيارة أعين ... فادخل إليّ بعلّة العواد كيما أراك وتلك أعظم منّة ... ملكت يداك بها منيع قيادي إنّ العيون على القلوب إذا جنت ... كانت بليّتها على الأجساد وله أيضاً: تأمّله طرفي فألّم خدّه ... فصار مكان الوهم من نظري أثر وصافحه كفّي فألّم كفّه ... فمن صفح كفّي في أنامله عقر ومرّ بفكري خاطراً فجرحته ... ولم أر خلقاً قط يجرحه الفكر يقال: إنّ الجاحظ لمّا بلغه ذلك قال: هذا ينبغي أن لا يناك إلاّ بأير من الوهم. ويقال: إنّ أبا العتاهية قال: أنشدت النظّام: إذا همّ النديم له بلحظ ... تمشّت في محاسنه الكلوم قال: ينبغي أن ينادم هذا أعمى. قال السيّد المرتضى: وأبيات النظّام تتضمّن معنى بيت أبي العتاهية، ولسنا ندري أيّهما أخذ من صاحبه، والنظّام يكرّر هذا المعنى كثيراً في شعره، فمن ذلك قوله: رق فلو بزت سراويله ... علّقه الجوَّ من اللطف

يجرحه اللحظ بتكراره ... ويشتكي الإيماء بالطرف قال السيّد المرتضى: وشبيه مقالة النظّام في وصف الزجاجة والنخلة خبر لبيد المشهور في هجائه للبقلة التي امتحن بهجائها واختبر بذمّها فقال فيها أبلغ ما يقال في مثلها وذلك أنّ عمّاراً وأنساً وقيساً والربيع بن زياد العبسيين وفدوا على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريّون بنو أُمّ البنين وعليهم أبو البراء عامر بن جعفر بن كلاب؛ وهو ملاعب الأسنّة، وكان العامريّون ثلاثين رجلاً وفيهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان ويكثر عنده ويتقدّم على من سواه وكان يُدعى الكامل لسطاطه وبياضه وكماله، فضرب النعمان قبّة على أبي البراء وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، فكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فافتخروا يوماً بحضرته، فكاد العبسيّون يغلبون العامريّين، وكان الربيع إذا خلال بالنعمان طعن فيهم وذكر معائبهم، ففعل ذلك مراراً لعداوته لبني جعفر لأنّهم كانوا أسروه، فصدّ النعمان عنهم حتّى نزع القبّة عن أبي البراء وقطع النزل، فدخلوا عليه يوماً فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم، فخرجوا من عنده غضاباً وهمّوا بالإنصراف، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدوا بإبلهم فيرعاها فإذا أمسى إنصرف بها. فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: مالكم تتناجون؟ فكتموه وقالوا له: إليك عنّا، فقال لهم: أخبروني فلعلّ لكم عندي فرجاً، فزجروه، فقال: والله لا أحفظ أمتعتكم ولا أسرح بإبلكم أو تخبروني، وكانت أُمّ لبيد عبسيّة في حجر الربيع، فقالوا له: خالك قد غلبنا على الملك وصدّ عنّا وجهه، فقال: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه غداً حين يقعد الملك فأرجز به رجزاً ممضّاً مؤلماً لا يلتفت إليه النعمان بعده أبداً؟ قالوا له: وهل عندك ذاك؟ قال: نعم، قالوا: فإنّا نبلوك بشتم هذه البقلة، وقدّامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فروعها بالأرض، تدعى الترِبة، فاقتلعها من الأرض فأخذها بيده وقال: هذه البقلة التفلة الرذلة لا تذكي ناراً، ولا تأهل داراً، ولا تسر جاراً، عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قيل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى، وأشدّها قلعاً، فحرَباً لجارها وجدعاً، ألقوا بي أخا عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس. فقالوا: نصبح ونرى فيك رأينا، فقال لهم عامر: أُنظروا إلى غلامكم هذا، فإن رأيتموه نائم فليس أمره بشيء وإنّما تكلّم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهراً فهو صاحبكم، فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلاً يكدم واسطته حتّى أصبح، فلمّا أصبحوا قالوا: والله أنت صاحبنا، فحلّقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلّة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان، فوجدوه يتغذّى ومعه الربيع ليس معه غيره، والدار والمجلس مملوئة بالوفد، فلمّا فرغ من الغذاء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، والربيع وإلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد وقد دهن أحد شقّي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً واحدة، وكذلك العرب كانت تفعل شعرائها في الجاهليّة إذا أرادت الهجاء، فمثّل بين يديه ثمّ قال: يا ربّ هيجا هي خير من دعه ... إذ لا تزال هامتي مقزّعه نحن بني أُمّ البنين الأربعه ... ونحن خير عامر بن صعصعه المطعمون الجفنة المدعدعه ... والضاربون الهام تحت الخيضعه مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ... إن استه من برص ملمّعه وإنّه يدخل فيها إصبعه ... يدخلها حتّى يواري أشجعه فلمّا فرغ لبيد، إلتفت النعمان - كأنّه يطلب شيئاً ضيّعه - إلى الربيع يرمقه شزراً وقال: أكذلك أنت؟ قال: والله كذب ابن الحمق اللئيم، فقال: أُفٍّ لهذا الطعام لقد خبث على نفسي، فقال الربيع: أبيت اللعن، أمّا إنّي فعلت بأُمّه لا يكنى، وكانت في حجره، فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أمّا إنّها ممن نسوة غير فعّل وأنت المرء.

قال هذا في تتميمه: وفي رواية أُخرى: أمّا إنّها من نسوة فعُّل، قال ذلك لأنّها كانت من قوم الربيع فنسبها إلى القبيح وصدّقه عليها تهجيناً له ولقومه، فأمر الملك بهم جميعاً فأُخرجوا وأعاد على أبي البراء ألقبه، وانصرف الربيع إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه وأمره بالإنصراف إلى أهله، فكتب: إنّي تخوّفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد ولست برائم حتّى تبعث إليّ من يجرّدني ليعلم من حضرك من الناس أنّي لست كما قال، فأرسل إليه: إنّك لست صانعاً فانتفائك ممّا قال لبيد شيئاً ولا قادراً على ردّ ما زلّت به الألسن فالحق بأهلك، ثمّ كتب إليه النعمان في جملة أبيات جواباً عن أبيات كتبها إليه الربيع: قد قيل ذلك إن حقّاً وإن كذباً ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا ويقال: إنّ حجّاج بن يوسف الثقفي بينما هو جالس في القبّة الخضراء وعنده وجوه أهل العراق وقد حفّت به الوزراء إذ دخل عليه غلام له من العمر عشر سنين، فقال بعد أن نظر في القبّة يميناً وشمالاً: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تُعْبَثُون، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُون، وَإذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارين) وكان الحجّاج متّكئاً فاستوى جالساً وقال: يا غلام إنّي لأرى لك عقلاً وذهناً، أفحفظت القرآن؟ قال: أوخفت على القرآن الضياع حتّى أحفظه؟ قال: أفجمعت القرآن؟ قال: أوكان متفرّقاً حتّى أجمعه؟ قال: أفأحكمت القرآن؟ قال: أوليس الله أنزله محكماً. قال الحجّاج: أو استظهرت القرآن؟ قال: معاذ الله أن أجعل القرآن وراء ظهري، قال: ويلك ماذا أقول لك؟ قال: بل لك الويل، قل أوعيت القرآن في صدرك؟ قال الحجّاج: فاقرأ لي شيئاً من القرآن، فاستفتح الغلام يقول: أعوذ بالله منك ومن الشيطان الرّجيم (إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يخرجون مِنْ دِينِ اللهِ أفْواجا) فقال الحجّاج: ويلك إنّه يدخلون في دين الله، فقال الغلام: نعم كانوا يدخلون وأمّا اليوم فيخرجون، قال: ولِمَ ذلك؟ قال: لسوء رأيك فيهم، قال: ويلك هل عرفت المخاطب لك؟ قال: نعم شيطان ثقيف الحجّاج، قال له: ويلك مَن أبوك؟ قال: الذي زرعني، قال: فمن أُمّك؟ قال: التي ولدتني، قال: وأين وُلِدتَ؟ قال: في بعض الفلوات، قال: فأين نُشِأتَ؟ قال: في بعض البراري، قال: ويلك أمجنون أنت فأُعالجك؟ قال: لو كنت مجنوناً ما وصلت إليك ووقفت بين يديك كأنّي فيمن يرجوا فضلك ويخاف عقابك.

قال الحجّاج: فما تقول في أميرالمؤمنين؟ قال: رحم الله أباالحسن، قال: إنّما أعني عبد الملك بن مروان! قال: على الفاسق الفاجر لعنة الله، قال: ويلك بِمَ استحقّ اللعنة؟ قال: والله ما أنكر حقّه غير أنّه أخطأ خطيئة ملأت السّماء والأرض، قال: وما هي؟ قال: استعمالك على رعيّته تستبيح أموالهم وتستحلّ دمائهم، فالتفت الحجّاج إلى أصحابه وقال: ما تشيرون عَلَيّ في أمر هذا الغلام؟ قالوا: أسفك دمه فإنّه خلع الطاعة وفارق الجماعة. فقال الغلام: يا حجّاج، جلساء أخيك خير من جلسائك، قال: أخي محمّد بن يوسف؟ قال: على الفاسق الفاجر لعنة الله، إنّما أعني أخاك فرعون حين قال لجلسائه: ماذا تأمرون في موسى؟ قالوا: أرجه وأخاه، وهؤلاء أمروك بقتلي، إذاً تقوم لله عليك الحجّة غداً بين ملك الجبّارين ومذلّ المتكبّرين. قال الحجّاج: يا غلام قيّد ألفاظك وقصّر لسانك فإنّي أخاف عليك بادرة الاُمراء، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم تستعين بها. فقال الغلام: لا حاجة لي فيها، بيّض الله وجهك وأعلا كعبك. فالتفت الحجّاج إلى أصحابه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: بيّض الله وجهك وأعلا كعبك؟ قالوا: لا، قال: أمّا قوله: بيّض الله وجهك فأراد به البرص والعما، وأمّا قوله: وأعلا كعبك فأراد به الصلب والتعليق، ثمّ التفت إلى الغلام وقال: ما تقول فيما قلته؟ قال: قاتلك الله من منافق ما أفهمك، فقال للحرسيّ: أضرب عنقه. فقال رجل من القوم يقال له الرقاشي: هبه لي أصلح الله الأمير، قال: هو لك، لا بارك الله لك فيه، فقال الغلام: لا أدري أيّكما أحمق: الواهب أجلاً قد حضر أم المستوهب أجلاً لم يحضر؟ قال الرقاشي: إستنقذتك من القتل وتكافيني بهذا الكلام؟! فقال الغلام: هنيئاً لي بالشهادة إن أدركتني السعادة، يا عجباه، جئت من بلاد الضنك والضيق وأرجع إلى أهلي صفراً، يا ليتني أُقتل أحبّ إليّ. قال الحجّاج: قد أمرنا لك بمأة ألف درهم، وعفونا عنك لحداثة سنّك وصفاء ذهنك، وإيّاك والجرائة على أرباب الملك فتقع مع من لا يعفو عنك، ولئن رأيتك في شيء من عملي لأضربنّ عنقك. فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكوى إليه لا إليك، لا جمع الله بيني وبينك أو يلتقي السامري وموسى، ثمّ خرج، فابتدر الخادم على أثره، فقال لهم: دعوه فما رأيت أشجع منه قلباً ولا أفصح منه لساناً، ولا والله ما وجدت مثله وعسى أن لا يجد مثلي قط. أقول: ونظير قوله: أفحفظت القرآن، أفجمعت القرآن، أو استظهرت القرآن، وهو ينحو بالجواب إلى غير ما قصده، الحكاية العجيبة التي ذكرها السيّد المرتضى في الدرر قال: من المعمّرين عبد المسيح بن بقيلة الغسّاني، ذكر الكلبي وأبو مخنف أنّه عاش ثلاثمائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام فلم يسلم وكان نصرانيّاً، روي أنّ خالد بن الوليد لمّا نزل الحيرة وتحصّن منه أهلها، أرسل إليهم: ابعثوا إليّ رجلاً من عقلائكم وذوي أحسابكم، فبعثوا إليه بعبد المسيح بن بقيلة، فأقبل يمشي حتّى دنا من خالد، فقال: أنعم صباحاً أيّها الملك، قال: قد أغنانا الله عن تحيّتكم هذه، فمن أين أقصى أثرك أيّها الشيخ؟ قال: من ظهر أبي، قال: فمن أين خرجت؟ قال: من بطن أُمّي، قال: فعلام أنت؟ قال: على الأرض، قال: ففيم أنت؟ قال: في ثيابي، قال: أتعقل لا عقلت؟ قال: إي والله وأقيد، قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن رجل واحد. قال خالد: ما رأيت كاليوم قطّ إنّي أسأله عن الشيء وينحو في غيره. قال: ما أجبتك إلاّ عمّا سألت، فاسأل عمّا بدا لك. قال: أعرب أننتم أم نبط؟ قال: عرب استنبطنا ونبط استعربنا، قال: فحَرْبٌ أنتم أم سِلْم؟ قال: بل سلم، قال: فما هذه الحصون؟ قال: بنيناها لسفيه نحذر منه حتّى يجيء الحليم وينهاه، قال: كم أتى لك؟ قال: خمسون وثلاثمائة سنة، قال: فما أدركت؟ قال: أدركت سفن البحر ترقى إلينا في هذا الجرف، ورأيت المرأة من أهل الحيرة تخرج وتضع مكتلها على رأسها لا تتزوّد إلاّ رغيفاً واحداً حتّى تأتي الشام، ثمّ قد أصبحت اليوم خراباً يباباً وذلك دأب الله تعالى في العباد والبلاد.

قال: ومعه سمّ ساعه يقلّبه في كفّه. قال خالد: ما هذا في كفّك؟ قال: السمّ، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن كانت الاُخرى لم أكن أوّل من ساق إليهم ذلاًّ وبلاءً، أشربه فأستريح من الحياة الدّنيا، فإنّما بقي من عمري اليسير. قال خالد: هاته، فأخذه ثمّ قال: بسم الله وبالله ربّ الأرض والسماء الذي لا يضرّ مع اسمه شيء، ثمّ أكله فتجللته غشية ثمّ ضرب بذقنه في صدره طويلاً ثمّ عرق فأفاق كأنّما نشط من عقال، فرجع ابن بقيلة إلى قومه فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سمّ ساعه فلم يضرّه، صانعوهم وأخرجوهم عنكم فإنّ هذا مصنوع لهم، فصانعوهم على مائة ألف درهم. وهذه وإن كانت ليس هذا محلّها لأنّا في ذكر بلاغة الصبيان، فقد ذكرتها لمناسبة القضيّة التي قبلها. ويقال: دخل صبي على المنصور فجعل يسأله عن أبيه، وكلّما سأله عن أمر من أُموره قال: فعل رحمه الله كذا، وصنع رضي الله عنه كذا، فزجره الربيع صاحب المنصور وقال: إلى متى تترحّم على أبيك في مجلس أميرالمؤمنين؟ فالتفت الصبيّ إليه وقال: إنّك لم تعرف حلاوة الآباء، وكان الربيع لقيطاً. وعن عكرمة قال: دخل المعتصم على خاقان يعوده فرأى ابنه الفتح في صحن الدار، فمازحه وقال: يا فتح أيّما أحسن: داري أم داركم؟ فقال: يا أميرالمؤمنين أيّ الدّارين كنت فيها هي أحسن من الاُخرى، فجلس المعتصم مكانه وقال: لا أبرح حتّى ينثر عليه مائة ألف درهم، فنثرت عليه. قال عكرمة: هذا قول الفتح ولم يبلغ العشر. وعن الأصمعي قال: دخلت البادية فرأيت أعرابيّة من أحسن الناس وجهاً متزوّجة بأقبح الناس وجهاً، فقلت: يا هذه أترغبين أن تكوني تحت هذا؟ فقالت: بئسما قلتَ، لقد أحسن فيما بينه وبين ربّه فجعلني ثوابه، وأسأت فيما بيني وبين ربّي فجعله عقابي. ودعت أعرابيّة على زوجها فقالت له: ضربك الله بداء لا يكون له دواءً إلاّ أبوال القطا. ويقال: إنّ امرأة أبي الأسود الدئلي خاصمته إلى زياد في ولدها، فقالت له: أيّها الأمير إنّ هذا يريد أن يغلبني على ولدي وقد كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له وطاء. فقال أبوالأسود: أفبهذا تريدين أن تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولا سواء؛ إنّك حملته خَفّاً وحملته ثقلاً، ووضعته شهوةً ووضعته كرهاً. فقال له زياد: يا أباالأسود إنّها امرأة عاقلة فادفع إليها ابنها فأخلق أن تحسن أدبه. وفي شرح نهج البلاغة: روى ابن قتيبة في عيون الأخبار قال: دخل الحجّاج على الوليد بن عبد الملك وعليه درع وعمامة سوداء، وقوس عربيّة وكنانة، وذلك في أوّل قدمة قدمها عليه من العراق، فبعثت أُمّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان وكانت تحت الوليد إليه تسأله من هذا الأعرابي المستلئم بالسلاح عندك وأنت في غلاله، فأرسل إليها: هذا الحجّاج، فأعادت إليه الرسول: لئن يخلو بك ملك الموت أحياناً في اليوم أحبّ إليّ من أن يخلو بك الحجّاج يوماً، فأخبره الوليد بذلك وهو يمازحه، فقال: يا أميرالمؤمنين دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فلا تطلعها على سرّك ومكايدة عدوّك. فلمّا دخل الوليد عليها أخبرها وهو يمازحها بمقالة الحجّاج، فقالت: يا أميرالمؤمنين حاجتي أن تأمره غداً أن يأتيني مسلّماً، ففعل ذلك، فأتاها الحجّاج فحجبته، فلم يزل قائماً ثمّ أذنت له، فقالت: أنت الممتنَّ على أميرالمؤمنين بقتلك ابن الزبير وابن الأشعث، أما والله لولا أنّ الله علم أنّك شرّ خلقه ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام، ولا بقتل ابن ذات النطاقين، أوّل مولود ولد في دار هجرة الإسلام، وأمّا نهيك أميرالمؤمنين عن مفاكهة النساء وبلوغ لذّاته وأوطاره فإن كنّ ينفرجن عن مثلك فما أحقّه بالأخذ منك، وإن كنّ ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك، أما والله لقد نفض نساء أميرالمؤمنين الطيب من غدائرهنّ فبعنه في أعطية أهل الشام حين كنت في أضيق من قرن قد أظلّتك رماحهم وأثخنك كفاحهم، وحين كان أميرالمؤمنين أحبّ إليهم من آبائهم وأبنائهم فأنجاك الله من عدوّ أميرالمؤمنين بحبّهم إيّاه، قاتل الله القائل حين ينظر إليك وسنان غزاله بين كتفيك: أسد عَلَيَّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر

هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى ... أم كان قلبك في جناحي طائر قم فاخرج، فقام فخرج. وروي عن محمّد بن عمّار بن ياسر قال: بلغ الحرث بن حجر الكندي عن الخنساء ابنة عوف بن محلم جمالاً وكمالاً، فأرسل إليها امرأة من كندة يقال لها عصام وقال لها: إذهبي واعلمي لي علم الجارية، قالت: فأتيت أُمّها فإذا أنا بامرأة كأنّها جازية من الضباء، وحولها بنات لها كأنّهنّ الغزلان، فأعلمتها الذي جئت له، فأرسلت إلى ابنتها: يا بنيّتي هذه خالتك قد أتتك تنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها وجهاً، ولا تخفي عليها خلقاً، وناطقيها إن استنطقتك، فأذنت لها، فلمّا دخلت عليها وتوسّمت خلقها رأيت أحسن الناس وجهاً وجسماً، ثمّ خرجت وهي تقول: تركَ الخداع مَن كشف القناع، حتّى دخلت على الحرث، فقال لها: ما ورائك يا عصام؟ فقالت: أصلح الله الملك، صرّح المخض عن الزّبد، أقول حقّاً وأخبرك صدقاً، رأيت وجهاً كالمرآة الصينيّة الوضيئة، يزينه شعر حالك كأذناب الخيل، إن أرسلته قلت سلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد جلاها وابل، لها حاجبان كأنّما خطّا بقلم أو سوّدا بحمم، تقوّسا على مثل عيني الظبية العبهرة التي لم تَرَ قانصاً ولم يذعرها قسورة، تبهتان المتوسّم إن فتحتهما، وتجللان بأشفارهما ما تحتهما، بينهما أنف كحدّ السيف المصقول، لم يخنس به قصر ولم يعبه طول، حفّت به وجنتان كالأرجوان في بياض محض، كالجمال شقّ فيه فم لذيذ المتبسّم، فيه ثنايا ذات أشر، وأسنان كالدرر، ينطق فيه لسان ذو فصاحة، وبيان يحرّكه عقل وافر بجواب حاضر، تنطبق عليه شفتان حمراوان كأنّهما في اللين الزبد، تحملان ريقاً كالشهد، ركّب ذلك على عنق بيضاء بضّه مثل سبيكة الفضّة، على صدر كصدر التمثال، قدّ منه عضدان مدمجتان ممتليتان لحماً مكسوّتان شحماً، متّصل بينهما ساعدان رقيق قصبهما، لين عصبهما، وافر لحمهما، متّصل بهما كفّان ما فيهما عرق يمس، ولا عظم يجس، تعقد إن شئت منهما الأنامل وتغيب الفصوص في عقد تلك المفاصل، نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين، يخرقان عنها ثيابها، ويمنعانها أن تقلّد سخابها، تحت ذلك كلّه بطن كالقباطي المدمجة، والطوامير المدرّجة، أحاطت تلك العكن بسرّة كمدهن العاج، خلف ذلك ظهرٌ فيه كالجدول ينتهي إلى خصر لطيف، لولا رحمة الله لانبتر لها كفل بنهضها إذا قعدت، ويقعد بها إذا نهضت، كأنّه دعص رمل لبّده سقيط الطل، تحمله فخذان لفّاوان، وإن قلبتا على نضيد جمان، تحملها ساقان خدلجتان فيهما شعر أسود كأنّه حلق الزرد، تحمل ذلك كلّه قدم كحذو اللسان، فتبارك الله مع صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما. قال: فتزوّجها فولدت له الأملاك الأربعة: حجراً وشرجيلاً وسلمة ومعدي كرب. ونظير ما وصفت به هذه المرأة وصف النابغة الذبياني المتجرّدة زوجة النّعمان بن المنذر، والنابغة هذا اسمه زياد بن معاوية بن ضباب، ينتهي نسبه لذبيان ثمّ لمضر، ويكنّى أبا أمامة، وإنّما سمّي النابغة لقوله: وقد نبغت لهم منّا شؤون، وهو أحد الأشراف الذين غضّ منهم الشعر، وهو من الطبقة الاُولى المتقدّمين على سائر الشعراء، وكان خاصّاً بالنّعمان بن المنذر وكان من ندمائه، فرأى زوجته المتجرّدة يوماً وقد غشيها شيء شبيه بالفجأة فسقط نصيفها واستترت بيدها وذراعها، فكانت ذراعها تستر وجهها لعبالتها وغلظها، فقال: من آل أُميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوَّد زعم البوارح أنّ رحلتنا غداً ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود لا مرحباً بغد ولا أهلاً به ... إن كان تفريق الأحبّة في غد أزف الترحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأنّ قد في أثر غانية رمتك بسهمها ... فأصاب قلبك غير أن لم تقصد بالدرّ والياقوت زيّن نحرها ... ومفصل من لؤلؤ وزبرجد سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد بمخضب رخص كأنّ بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد وبفاحم رجل أثيث نبته ... كالكرم مال على الدعام المسند نظرت إليك لحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العوَّد ومنها: وإذا لمست لمستَ أختم جاثماً ... متحيّزاً بمكانة ملأ اليد وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسّة بالعبير مقرمد

وإذا نزعت نزعت عن متحصّف ... نزع الحزوَّر بالرشاء المحصد فملكت أعلاها وأسفلها معاً ... وأخذتها قسراً وقلت لها اقعدي وهذا البيت الأخير ليس من القصيدة، وكان سبب إلحاقه فيها ما رواه أبو نؤاس قال: رأيت النابغة الذبياني في منامي فقال لي: بماذا حبسك الرشيد؟ فقلت: بقولي: أهج نزاراً وأفر جلدتها ... وهتك الستر عن مثالبها فقال لي: أهل ذلك أنت يابن المومسة، فقد استوجبت من كلّ نزاريّ عقوبةً مثلها بما ارتكبت منها، فقلت: وأنت حبسك النّعمان ببيت قلته ستره النّعمان عن الناس، قال: ما هو؟ قلت: قولك: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد فقال: أو كان هذا مستوراً؟ فقلت: بقولك: وإذ لمست لمست أختم جاثماً ... متحيّزاً بمكانه ملأ اليد فقال: اللهمّ غفراً، فقلت: فبماذا؟ قال: بقولي: فملكت أعلاها وأسفلها معاً ... وأخذتها قسراً وقلت لها اقعدي فحدّث أبو نؤاس بهذا الحديث الزيدي فألحق البيت بقصيدة النابغة. ويماثل قصيدة النابغة هذه ما قاله بعض العرب وهو القصيدة المشهورة المعروفة بالدّعديّة ولا بأس بذكرها لاشتمالها على نظائر تلك النعوت المارّة في الحكاية السابقة، فمنها: آه على دعد وما خلقت ... إلاّ لطول بليّتي دعد بيضاء قد لبس الأديم أديم ... الحسن فهو لجلدها جلد ويزين فوديها إذا حسرت ... ضافي الغدائر فاحم جعد فالوجه مثل الصبح منبلج ... والشعر مثل الليل مسودّ ضدّان لمّا استجمعا حسنا ... والضدّ يظهر حسنه الضدّ وجبينها صلت وحاجبها ... شحط المخطّ أزجّ ممتدّ فكأنّها وسنى إذا نظرت ... أو مدنف لمّا يفق بعد بفتور عين ما بها رمدٌ ... وبها تداوى الأعين الرَّمد وتريك عرنيناً يزيّنه ... شَمم وخدّ لونه الورد وتجيل مسواك الأراك على ... ثغر كأنَّ رضابه شهد والجيد منها جيد جازية ... تعطوا إذا ما طلّها البرد وامتدّ من أعضادها قصب ... فعم زهته مرافق درد والمعصمان فما يرى لهما ... من فعمة وبضاضة زند ولها أنامل لو أرادت لها ... عقداً بكفّك أمكن العقد فكأنّما سقيت ترائبها ... والوجه ماء الحسن إذ تبدو وبصدرها حقّان خلتهما ... كافورتين علاهما ندّ والبطن مطويّ كما طويت ... بيض الرياط تصونها الملد والتفَّ فخذاها وفوقهما ... كفل يجاذب خصره النهد وبخصرها هيف يزيّنه ... فإذا تنوء تكاد تنتقد فقيامها مثنى إذا نهضت ... من لينها وقعودها فرد ما شأنها طول ولا قِصر ... أزرى بها فقوامها قصد ولهاهن راب مجسّته ... ضيق المسالك حرَّه وقد فإذا طعنت طعنت في لبد ... وإذا جذبت يكاد ينسدّ فكأنّه من كبره قدح ... أكلَ العيال وكبّة العبد والساق خرعبة منعّمة ... ثملت وطوق الحجل مشتدّ ومشت على قدمين خصرتا ... والتفّتا فتكامل العقد إن لم يكن وصل لديك لنا ... يشفي الصبابة فليكن وعد إن تتهمي فتهامة وطني ... أو تنجدي إنّ الهوى نجد قد كان أورق وصلكم زمناً ... فذوي الوصال وأورق الصدّ لله أشواقي إذا نزحت ... دار لكم ونأى بكم بعد وإذا المحبّ شكى الصدود ولم ... يعطف عليه فقتله عمد أما ترى طمريَّ بينهما ... رجل ألحَّ بهزله الجدّ فالسيف يقطع وهو ذو صدء ... والحدَّ يفري الهام لا الغمد هل ينفعنّ السيف حليته ... يوم الجلاد إذا نبا الحدّ ويشبه قوله: أما ترى طمريَّ الخ قول بعضهم فيما أخبر به محمّد بن الخطّاب الكلابي: إنّ فتىً من الأعراب خطب ابنة عمٍّ له، فأبى أبوها أن يزوّجه إيّاها لأنّه كان معسراً، فكتب إلى ابنة عمّه بهذه الأبيات: يا هذه كم يكون اللوم والفند ... لا تعذلي رجلاً أثوابه قِدَد إن يمس منفرداً فالبدر منفرد ... والليث منفرد والسيف منفرد أو كنتِ أنكرت طمريه وقد خلقا ... فالبحر من فوقه الأقذار والزَّبد

أو كان صرف الليالي رثَّ بزّته ... فبين ثوبيه منه ضيغم لبد وإنّما أوردت ذلك المقدار من المقصيدة وإن كان فيه ما هو خارج عمّا نحن فيه لحسنها وجودتها. ونظير تلك الحكاية أيضاً ما روي في عائشة بنت طلحة. أقول: هي عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرّة، أبوه ابن عمّ أبي بكر لحّاً، وكانت بارعة في الجمال، تامّة الخلق، موصوفة بحسن المعاشرة، محبّبة إلى الأزواج، وكانوا يتنافسون عليها، وتزوّجها عدّة من الرجال، فكان الثانيى من أزواجها يضاعف لها مهرها عن الأوّل حتّى بلغ مهرها عند الأخير ألوفاً كثيرة من المال، وهذا خلاف العادة، فإنّ العرف يقضي بانحطاط مهر الثيّب عن البكر والثالث عن الثاني وهلمّ جرّا، وما ذاك إلاّ لمعنىً في عائشة دون غيرها، ونحن نذكر شيئاً من أوصافها وبعضاً من أخبارها: حكى أبوالفرج في الأغاني قال: اجتمع مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وعمرو بن سعيد بن العاص وأتتهم عزّة الميلاء، فقالوا لها: إنّا قد خطبنا وأردنا منك أن تنظري لنا نسائنا، فسألت مصعباً عمّن خطب، قال: عائشة بنت طلحة، وسألت عمرو بن سعيد عمّن خطب، فقال: عائشة بنت عثمان، وسألت عبد الله فقال: أُمّ القاسم بنت زكريّا، فتوجّهت إليهنّ لتنظرهنّ، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فدخلت عليها، فأكرمتها عائشة وسُرَّت بها فسألتها عن حاجتها، فقالت لها: إنّي كنت في نسوة من قريش فتذاكرنا جمال النساء وخلقهنّ فذكرناكِ فلم أدرِ كيف أصفكِ، فقالت: ماذا تريدين؟ فقالت لها: فديتك أقبلي وأدبري، فأقبلت وأدبرت، فارتجّ كلّ شيء منها، ثمّ قالت لها عزّه: خذي ثوبك، فأخذته فرأتها من أحسن النساء ثورة وأتمّهنّ محاسن، فعوّذتها وقالت: ما أظنّ أنّ الله تعالى خلق لصورتك هذه شبيهاً في الدّنيا، وودّعتها وانصرفت إلى أُمّ القاسم، فأكرمتها وسُرّت بها وسألتها عن حاجتها، فعرّفتها بمثل ذلك وسألتها أن تقبل فأقبلت وأن تدبر فأدبرت، فرأت منها ما أعجبها فعوّذتها وقالت لها: يا أُم القاسم والله ما رأيت حسناً إلاّ وأنتِ أحسن منه، وودّعتها وانصرفت وفعلت مثل ذلك مع عائشة بنت عثمان، ورجعت إليهم وهم ينتظرونها. فقالت لمصعب: أمّا عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة، مخطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقيّة الثغر، وضيئة الوجه، فرعاء الشعر، لفّاء الفخذين، يرتجّ ما بين أعلاها إلى أسفلها، وفيها عيبان: اُذنان يحاذيان الخدّ في الكبر، وقدمان كذلك، ولكن الأوّل يواريه الخمار والثاني يواريه الخف. ثمّ قالت لعبد الرحمن: وأمّا أُم القاسم فكأنّها خوطة بان، أو جدول عنان، لو شائت أن تعقد وتعقد أطرافها لفعلت، ولكنّها شحّة الصدر وأنت عريض الصدر وإن قبيحاً لا والله حتّى يملأ كلّ شيء مثله. وقالت لعمرو بن سعيد: أمّا عائشة فوالله ما رأيت خلقتها قط لامرأة لكأنّما أفرغت في قالب الحسن إفراغاً غير أنّ في وجهها ردّة، فوصلوها وتزوّجوهنّ. قولها: في وجهها ردّة بفتح الراء، تُريد أنّ وجهها ينقص في الحسن عن بدنها. وذكر أنّ عائشة بنت طلحة كانت تستلقي على قفاها ثمّ تدحرج الاُترجة من تحت ظهرها فتخرج من الناحية الاُخرى لوفور عجيزتها، وقد قال فيها الحارث بن خالد المخزومي: قرشيّة عبق العبير بها ... عبق الدهان بجانب الحقّ وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق قال مسلم بن قتيبة: رأيت عايشة بنت طلحة بمنى - أو قال بمسجد الخيف - ومعها امرأتان تنهضانها للقيام فانخزلت عجيزتها لعظمها، فقالت: إنّي لمعناة منكما. قال مسلم: فذكرت قول الحارث بن خالد المخزومي: وتنوء تثقلها عجيزتها، البيتان. قالت سلافة: زرت مع مولاتي عائشة بنت طلحة وأنا يومئذ وصيفة، فرأيت عجيزتها خلفها وهي جالسة كأنّها غيرها، فوضعت يدي عليها لأعلم ما هي، فلمّا وجدت مسّ يدي قالت: من هذه التي تمسّني؟ فقلت: أنا، رأيت هذا الذي خلفك فخلت أنّها امرأة جالسة معك فجئت لأنظر من هي، فضحكت وقالت: ما أكثر ما يعجب ممّا تعجبين منه. قالت سلافة: ولم أر أحسن جسماً من عائشة بنت طلحة.

وحكى أبوالفرج في الأغاني: إنّ رملة بنت عبد الله بن خلف وكانت ضرّة عائشة عند عمرو بن عبيد الله قالت ذات يوم لمولاة عائشة: أريني عائشة إذا كانت متجرّدة ولك عندي ألف، فأخبرت عائشة بذلك، ثمّ قامت عائشة كأنّها تغتسل، فأقبلت رملة ورأتها مقبلة ومدبرة، فلمّا فرغت من ذلك أعطت مولاتها الألف وقالت لها: وددت أنّي أُضاعف لك العدد ولم أكن رأيتها. وذكر صاحب كتاب نثر الدرر قال: لمّا تزوّج مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة حمل إليها ألف ألف درهم؛ خمسمائة ألف مهر وخمسمائة ألف هديّة، وقال لمولاتها: لك ألف درهم إن دخلت بها الليلة، فأمر بالمال فحمل إلى عائشة وغطّي بالثياب، فخرجت عائشة فرأته فاستكثرته وظنّته فراشاً وثياباً، فسألت مولاتها فأعلمتها أنّه مال فاستكثرته وتبسّمت، فقالت لها مولاتها: ما جزاء من حمل هذا أن يبيت وحده، فقالت لها: وهو كذلك ولكن لا يجوز الدخول إلاّ بعد أن أتهيّىء وأتزيّن، فقالت لها: والله إنّ وجهك لأحسن من كلّ زينة، ولا تحتاجين إلى شيء من طيب أو حلى إلاّ وهو عندك، وأكبّت على رجليها تقبّلهما وتطلب منها أن يكون دخوله بها تلك الليلة، فقالت لها: ويحك كيف يكون هذا بهذه السرعة؟ فصدّقتها الخبر وأعلمتها بما جعل لها مصعب من المال، فأمرتها أن تأذن له، فسار إليها من ليلته وأدنى إليه طعام فأكله كلّه حتّى أعرى الخوان منه، ثمّ سأل عن المتوضّأ فأُخبر فقام فتوضّأ ثمّ صلّى ثمّ قام فأسبل الستر وأقام معها حتّى نال منها سبعاً تلك الليلة، ولم يكن عند عائشة أحظى منه في أزواجها، وكان ينال ما يشاء منها عفواً من دون مناكرة. وذكر هذه الحكاية أبوالفرج في الأغاني وأنّها جرت لها مع عمرو بن عبد الله بن معمر وكان قد تزوّجها بعد مصعب بن الزبير. وقال إسحاق بن إبراهيم: قيل لنعيمان المخنَّث: كيف رأيت عائشة بنت طلحة؟ قال: أحسن البشر، قيل له: صفها، قال: تناصف وجهها في القسامة، وتجزّء معتدلاً في الوسامة. قوله: تناصف وجهها في الوسامة أي أخذ كلّ موضع منه حظّه من الحسن، لم ينفرد بالحسن موضع دون الآخر فيغبن أحد الموضع حظّه. والقسامة الحسن، وهذا أيضاً معنى الفقرة الثانية أي إنّ وجهها أجزاء متساوية في الحسن لا يزيد جزء على جزء، ولقد وصف فأجز وبالغ. وحدّث حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال: كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها فعاتبها مصعب في ذلك فقالت: إنّ الله تعالى وسمني بميسم الجمال فأحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم، فما كنت لأستره. فكان مصعب إذا عزم عليها في الإستتار استترت وإذا سكت عنها أسفرت وباشرت الناس. وحكى صاحب كتاب نثر الدرر قال: لمّا زفّت عائشة بنت طلحة إلى زوجها مصعب بن الزبير سمعت منها امرأةٌ وهو يجامعها شخيراً وغطيطاً في الجماع لم تسمع مثله، فقالت لها في ذلك، فقالت لها عائشة: إنّ الخيل لا تشرب إلاّ بالصفير. قلت: وقد نظم بعض الشعراء قولها: إنّ الخيل لا تشرب إلاّ بالصفير، فقال: أدرها بالصغير وبالكبير ... وخذها من يدي قمر منير ولا تشرب بلا طرب فإنّي ... رأيت الخيل تشرب بالصفير أقول: والشيء بالشيء يُذكَر حدّث الصولي عن أبي نؤاس قال: حججت مع الفضل بن الربيع حتّى إذا كنّا بأرض بني فزارة أيّام الربيع سرّحت عيني رامقاً في أحسن منظر، واستنشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر، فقلت لمن معي: أمضي بنا إلى هذه الخيام فلعلّنا نجد عندها من نؤثر عنه خبراً نرجع به إلى بغداد، فلمّا انتهينا إلى أوائلها فإذا نحن بخباء وعلى بابه جارية مبرقعة ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر قد حشي فتوراً وملىء سحراً، وقد مدّت يداً كلسان طائر بأطراف كالمذاري، وخضاب كأنّه عنم، فقلت لصاحبي: والله إنّها لترنوا عن مقلة لا رقية لسليمها ولا برء لسقيمها، فاستنطقها فقال: كيف السبيل؟ فقلت: استسقها، فدنى منها فاستسقاها، فقالت: نعمة عين فإن نزلتما فالرّحب والسعة، ثمّ قامت تتهادى في مشيتها كأنّها خوط بان أو قضيب خيزران تتثنّى، تجرّ خلفها كالعرارتين، فراعني والله ما رأيت، فأتت بالماء فأخذته فشربت منه وصببت باقيه على يدي، ثمّ قلت: وصاحبي أيضاً عطشان، فأخذت بالإناء ودخلت الخباء، فقلت لصاحبي: من الذي يقول: إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع

يريك عيون المهى غرَّةً ... ويكشف عن منظر أشنع فمضت مسرعة فنزعت برقعها وتقنّعت بخمار أسود وجائت وهي تقول: ألا حيّ ركبي معشر قد أراهما ... أطالا ولمّا يعرفا مبتغاهما هما استسقيا ماءً على غير ظمأة ... ليستمتعا باللحظ ممّن سقاهما يذمّان لبّاس البراقع ظلّةً ... كما ذمَّ تجرٌ سلعتين اشتراهما فشبهت كلامهما عقد درٍّ وهي من سلكه فهو ينتثر بنغمة عذبة رخمة رطبة لو خوطب بها الصمّ الصلاب لانبجست ماءً لرطوبة منطقها وعذوبة ألفاظها، كما قال ذوالرمّة: ولمّا تلاقينا جرت من عيوننا ... دموعٌ كففنا مائها بالأصابع ونلنا سقاطاً من حديث كأنّه ... جنى النحل ممزوجاً بماء الوقائع ولم أتمالك أن خررت ساجداً وأطلت من غير تسبيح، فقالت: ارفع رأسك غير مأجور، وامض لشأنك غير موزور، ولا تذم بعدها برقعاً فربّما يكشف عمّا لا يردّ الكرى، ويحلّ القوى من غير بلوغ إرب، ولا قضاء وطر، وليس إلاّ للحين المجلوب، والأمل المكذوب، فبقيت والله معقول اللسان عن الجواب، فالتفت إليّ صاحبي فقال لمّا رأى هلعي: اَلِلَمْعَةِ وجه برقت منه بارقة حسن لعلّك لا تدري ما تحته، أما سمعت قول ذي الرمة: على وجه مي مسحةٌ من ملاحة ... وتحت الثياب الخزي لو كان باديا فقلت: اُلامُ كلاّ والله لأنا أشبه بقوله: منعّمةٌ حوراء يجري وشاحها ... على كشح مرتجًّ الروادف أهضم لها بشرٌ صاف وعينٌ مريضةٌ ... وأحسن إيماء بأحسن معصم وكوفية بالحسن قد تمَّ حسنها ... ورومية في اللون ظاهرة الدم خزاعية الأطراف مريَّة الحشا ... فزارية العينين طائية الفم فرفعت ثيابها فإذا قضيب فضة قد حُشي بماء الذهب، يهتزّ على مثل قضيب نقي وصدر كالوذيلة، عليه كالرمانتين أو حقيْ عاج يملاءن يد اللامس، وخصر مطويّ الإندماج يهتزّ على كفل رجراج، لو رمت عقده لانعقد، وسرّة مستديرة يقصر فهمي عن بلوغ وصفها، من تحتها أحمّ جاثم كجبهة ليث خادر، وساقان خدلجان يخرسان الحجلين، ثمّ قالت: أَعارٌ نرى؟ فقلت: لا والله ولكن سبب قدر المحتاج وتعجيل همّ يتبعه سقم. فخرجت عجوز من الخباء فقالت: يا هذا امض لشأنك فإنّ قتيلها مطول لا بؤدى، وأسيرها مكبول لا يفدى، فقالت لها: دعيه فمثله مثل عيلان بقوله: فإنْ لم يكن إلاّ تعلّل ساعة ... قليلاً فإنّي نافع لي قليلها فولّت العجوز وهي تقول: فمالك منها غير أنّك ناكح ... بعينيك عينيها فهل ذاك نافع؟ فبينما نحن كذلك وإذا بطبل الرحيل قد ضرب، فانصرفنا مبادرين بكمد قاتل وحسرة كاملة وأنا أقول: يا ناظراً ما أقلعت لحظاته ... حتّى تشحّط بينهنّ قتيل أحللت قلبي في هواك محلّةً ... ما حلّها المشروب والمأكول بكمال صورتك التي في مثلها ... يتحيّر التشبيه والتمثيل فوق القصيرة والطويلة فوقها ... دون السمان ودونها المهزول

فصل في نعت نثره ونظمه

فلمّا قضينا حجّنا وكررنا راجعين، مررنا بذلك الموضع وقد تضاعفت أنواره وكملت بهجته، فقلت لصاحبي: إمض بنا إلى صاحبتنا لعلّنا نجدها، فلمّا أشرفنا على الخيام ونحن دونها نسير في روضة من تلك الرياض وقد طلعت الغزالة وحباب الطل يغازلها كأعين شرقت بدموعها على قضب زبرجد، فصعدنا رَبوة ونزلنا وهْدةً وإذا بها بين خمسة لا نصلح أن تكون خادمة لإحداهنّ يجتنين من كور ذلك الزهر، ويتقلّبن على ما اعتمّ من عشبه، فلمّا رأينا وقفْن، فقلت: السلام عليكم، فقالت من بينهنّ: وعليك السلام، وقصّت عليهنّ قصّتي، فقلن لها: ويحك ألا رحمتيه وزودتيه شيئاً يتعلّل به من جوى البرحاء؟ قالت: نعم زوّدته يأساً حاضراً ورأياً حائراً، فابتدرت أنظرهنّ خدّاً وأرشقهنّ قدّاً وأبرعهنّ طرفاً فقالت: والله ما أحسنتِ بداً، ولا أجملتِ موعداً، ولقد أسأتِ في الردّ، ولا كافيتيه في الودِّ، وإنّي لأحسبه بك وامقاً، وإلى لقائك شائقاً، فما عليك يا سعافة وإنّ المكان لخال، وإنّ معك من لا ينمّ عليك؟ فقالت: والله ما أفعل من ذلك شيئاً أو تفعليه قبلي وتشركيني في حلوه ومرّه. فقالت لها الأُخرى: تلك قسمة ضيزى، تُعْشَقين أنت فتزَهينَ ويذلّ لك فتمنعين الرّفد، ثمّ تأمرين بما يكون منك لذّةً وشهوةً ومنّي سخرة، ما أنصفتِ في القول ولا أجملتِ في الفعل، ثمّ أقبلن عَلَيّ فقلنَ: إلى مَ قصدت؟ فقلت: تبريد غلّة وإطفاء لوعة أحرقت الكبد وأذابت الجسد. قلن: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ قلت: نعم، وأنشدتهنّ: حججت رجاء الفوز بالأجر قاصداً ... لحطّ ذنوب من ركوب الكبائر فآبت كما آب الشقي بخفّتي ... حنين ولم اوجر بتلك المشاعر دهتني بعينيها وبهجة وجهها ... فتاةٌ كضوء الشمس وسنى النواظر فقلن: اقترِعْنَ، فاقترعْنَ فوقعت القرعة على أملحهنّ، فضرب إزار على باب غار، فعدلت إليه وأبطأن عَلَيّ قليلاً، وأنا أتشوّف واحدة منهنّ إذ دخل عَلَيّ أسود كأنّه ساريه، بيده هراوة وهو منعظ بمثل ذراع البكر، فقلت له: ما تريد؟ قال: أفعل بك الفاحشة، فخفت وصحت بصاحبي وكان أيداً، فخلّصني منه، فخرجت من الغار وإذا بهنّ يتعادين إلى الخيام كأنّهنّ اللئالي ينحدرن من سلك، وهنّ يتضاحكن، ومعهنّ نياط قلبي يجذبنه بينهنّ، فانصرفت بأخزى من ذات النحيين. أقول: وقد أسهبنا في النقل من هذه الحكايات والنوادر، وفيما ذكرناه كفاية. قال الثعالبي: أحسن الكلام ما كان قالباً لأهواء القلوب، ويشهد بهذا المعنى قول مهيار بن مرزويه الديلمي الكاتب: إقا قال فاعقد خيوط التميم ... عليك فألفاظه تسحر وقال أبو عبد الله محمّد بن أحمد الخازن في تهنئة الصاحب بن عباد بمولود ولد له: وخذْ إليك عروساً بنت ليلتها ... من حازم مخلص ودّاً ومعتقدا أهديتها عفو طبعي وانتحيت لها ... سحراً وإن كنت لم أنفث له عقدا وقال مهيار أيضاً: سحرت جودك فاستخرجت كامنه ... إنّ الكريم ببيت الشعر مسحور فصل في نعت نثره ونظمه أمّا نثره: فنثار طل تساقطه الأنداء، ووشي زهر ينمنم به الربيع، ديباجة روضة غناء. وأمّا نظمه: فجان سلك تتمنّى الحور لو زانت به نحورها، ووشحت به الهيف خصورها، إن نسب أغرب، وإن شبب أطرب، فنسيبه الحلو الحلال، وتشبيبه العذب الزلال، بل هو في جميع فنون الشعر طويل الباع، غزير الإطلاع، سمح البديهة، حسن الروية، صادق النظرة، ولود الفكرة، رقيق حاشية النظم، موشي ديباجة النثر. كم مقامات نهىً حرّرها ... ليس فيها للحر يرى مقامه وأنقياتِ بهى لو شامها ... جوهري الشعر ما سام نظامه فما أحقّ كلامه بقول القائل: كلام الإمام إمام الكلام ... وفوه يفوه بحرّ النظام مزاج معانيه في نظمها ... مزاج المدام بماء الغمام وهذا من قولهم: كلام الملوك ملوك الكلام، وقولهم: عادات السادات سادات العادات. رجْعٌ إلى وصف كلامه: أقول: كلامه هو الذي ليس به عثار، ولا عليه غبار، قد ولي الفضل تحبيره، وملك العقل رسمه وتصويره، فهو كما قال القائل: سمع البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنّما ألفاظه من ماله هبني وفيت بحمده عن فضله ... من ذا يفي بالشكر عن إفضاله بل كما قال هذا القائل:

قد أصبحت ألفاظه صور النُّهى ... وقوالب الأسماع والألباب وإذا حللتَ له جناباً واحداً ... حلَّ المؤمّل منك ألف جناب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ من الشعر لحكمةً، وإنّ من البيان لسحراً. وقال علي عليه السلام: خير الشعراء ما كان مَثلاً، وخير الأمثال مالم يكن شعراً. وقال الخليل بن أحمد: الشعراء أُمراء الكلام، يصرّفونه أنّى شاؤا، جائزٌ لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تفريق اللفظ وتعقيده، ومدّ مقصوره وقصر ممدوحه، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته. وقال السيّد المرتضى في الدرر في أثناء كلام أملاه ردّاً على الآمدي فيما عاب به البحتري: أنّ الشاعر لا يجب أن يؤخذ عليه في كلامه التحقيق والتحديد، فإنّ ذلك متى اعتبر في الشعر بطل جميعه، وكلام القوم مبنيّ على التوسّع والتجوّز والإشارات الخفيّة والإيماء إلى المعاني تارةً بعد أُخرى من قرب، لأنّهم لم يخاطبوا بشعرهم الفلاسفة وأصحاب المنطق وإنّما خاطبوا من يعرف أوضاعهم ويفهم أغراضهم. وقال الجاحظ في كتاب البيان: كان الشاعر من العرب يمكث في القصيدة الحول، ويسمّون تلك القصائد: الحوليّات والمنقّحات والمحكمات، ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً وشاعراً مفلقاً، وفي بيوت الشعراء الأوابد والأمثال ومنها الشواهد والشوارد. طبقات الشعراء والشعراء أربع طبقات: أوّلهم: الفحل الخنذيذ وهو التام، ودون الخنذيذ: الشاعر المفلق، ودون ذلك: الشاعر فقط، والرابع: الشعرور. وقال بعضهم: طبقات الشعراء ثلاثة: شاعر، وشويعر، وشعرور. وما أصدق قول القائل: الشعراء فاعلمنَّ أربعهْ ... فشاعرٌ يجري ولا يجرى معهْ وشاعرٌ من حقّه أن ترفعهْ ... وشاعرٌ من حقّه أن تسمعهْ وشاعرٌ من حقّه أن تصفعهْ وذكر شارح الكامل: إنّ الحطيئة دخل على سعيد بن العاص وهو يتغذّى، فأكل أكل جايع، فلمّا فرغ من طعامه وخرج الناس أقام مكانه، فأتاه الحاجب ليخرجه فامتنع وقال: أترغب عن مجالستي، فلمّا سمعه سعيد وكان لا يعرفه قال للحاجب: دعه، ثمّ تذاكروا الشعر، فقال الحطيئة: ما أصبتم جيد الشعر ولو أعطيتم القوس باريها بلغتم ما تريدون. وقيل: إنّه أوّل من قال: أعط القوس باريها، فانتسبوه، فانتسب لهم، وذاكروه فقال لسعيد: اسمع ثمّ أنشد: الشعراء فاعلمنّ أربعهْ ... فشاعرٌ لا يرتجى لمنفعهْ وشاعر ينشد وسط المجمعهْ ... وشاعر آخر لا يجرى معهْ وشاعرٌ يقال خمرٌ في دعهْ ومعنى قوله: خمر في دعه، غطّ وجهك حياءً من قبح ما أتى به، ثمّ أنشد: الشعر صعبٌ وطويل سلمهْ ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمهْ زلّت به إلى الحضيض قدمهْ ... يريد أن يعربه فيعجمهْ أقول: حمل لظة يعجمه على القطع والإستيناف كأنّه قال: فإذا هو يعجمه ولم يحمله على الفعل الذي عملت فيه أن، ولو عطفه عليه لبطل المعنى ولم يكن مستقيماً. وقيل للمفضَّل الضبيِّ: لِمَ لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به؟ قال: علمي به يمنعني عن قوله، وأنشد: وإنّما الشعر لبّ المرء يعرضه ... على المجالس إن كيساً وإن حمقا وإنّ أفضل بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا وقال بعضهم: والبيت لا يحسن إنشاده ... إلاّ إذا أحسن منْ شادَه وقال الآخر: لا تعرضنَّ على الرواة قصيدةً ... مالم تبالغ قبل في تهذيبها فمتى عرضت الشعر غير مهذّب ... عدَّوه منك وساوساً تهذي بها وقال أبوالفضل الميكالي: يا من يقول الشعر غير مهذَّب ... ويسومني التعذيب في تهذيبه لو أنّ كلّ الناس فيك مساعدي ... لعجزت عن تهذيب ما تهذي به وما أظرف قول العماد الكاتب في هذا الباب وألطفه: هي كتبي وليس تصلح من بعدي ... لغير العطّار والإسكاف فهي إمّا مزاود للعقاقير ... وإمّا بطائن للخفاف وممّن بالغ في هجاء بعضهم على خطله، وبلغ غاية الجدّ في هزله الحسين بن الحجّاج في قوله: قيل إنّ الوزير قد قال شعراً ... يجمع الشمل نظمه ويعمهْ ثمّ أخفاه فهو كالهر يخري ... في زوايا البيوت ثمّ يطمهْ ومن الكلم النوابغ: العجب ممّن يكثر غلطه ثمّ يكثر لغطه.

ذكرت بقول الحطيئة: الشعراء فاعلمنّ أربعة ما حكاه الثعالبي قال: قال لي سهل بن مرزبان يوماً: إنّ من الشعراء من شلشل، ومنهم من سلسل، ومنهم من قلقل، ومنهم من بلبل. فقلت: أخاف أن أكون رابع الشعراء، وأردت قول الشاعر: وشاعر من حقّه أن تصفعه، الأبيات المتقدّمة. قوله: ومنهم من بلبل أراد قول الثعالبي: وإذا البلابل أفصحت بلغاتها ... فانف البلابل باحتساء بلابل والأعشى هو المعني بقوله: ومنهم من شلشل، لقوله: وقد غدوت على الحانوت يتبعني ... شاو مشل شلول شلشل شول والمعني بقوله: ومنهم من سلسل، مسلم بن الوليد، لأنّه القائل: سلت وسلت ثمّ سلّ سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا وأبوالطيب المتنبي هو المعني بقوله: ومنهم من قلقل، وذلك حيث يقول: وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل وإنّما عيب عليهم ذلك لتكرير اللفظ الواحد في البيت لغير تجنيس بحيث صار مستثقلاً إلاّ أنّ بيت الثعالبي وإن وقع التجنيس في لفظته المكرّرة إذ المراد بالاُولى جمع بلبل؛ وهو طائر معروف، وبالثانية الهموم، وبالثالثة قناة الكوز التى نصب الماء، والبلبلة الكوز الذي فيه بلبل إلى جنب رأسه، ولكنّه صار مستثقلاً للتكرير الذي فيه ولهذا تراه أخف في الجملة من الأبيات الآخر، وقد تفنّن الشعراء في وصف الشعر، فمنهم من عدّه لنفسه شرفاً وفخراً، واستطال به جلالة وقدراً كأبي الطيب المتنبي في قوله: لا تحسب الفصحاء تنشد هاهنا ... بيتاً ولكنّي الهزبر الباسل وقوله: لا بقومي شرفت بل شرّفوا بي ... وبجدّي فخرت لا بجدودي وبهم فخر كلّ من طق الضاد ... وعوذ الجاني وغوث الطريد أنا ترب الندى وربّ القوافي ... وسمام العدى وغيظ الحسود وقوله: خليلَيّ مالي لا أرى غير شاعر ... فلمْ منهم الدعوى ومنّي القصائد وقوله: أفي كلّ يوم تحت ضبعي شويعرٌ ... ضعيفٌ يقاويني قصير يطاول وكالبحتري في قوله: فإذا ما بنيت بيتاً تبخترت ... كأنّي بنيت ذات العماد وقوله: ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والحمد وتلطّف ما شاء بقوله: لا تخف عيلتي وهذي القوافي ... بيت مال ما إن أخاف ذهابه وقول المعرّي: وإنّي وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل وقول مهيار: وما الشعر إلاّ النسر بُعداً وصورةً ... فلو شاء لم يطمع يداً فيه رافع وقد أفلَ النجمان منه فلا يفت ... على عين راء ثالث منه طالع بقيت لكم وحدي وإن قال معشر ... وفي القول ما تنهاك عنه المسامع ولو شئتُ لي أخفى زهير ثنائه ... على هرم أيّام تجري الصنائع وكان غبيناً في أُميّة من شرى ... مديح عتاب وهو مغل فبايع على كلّ حال أنت مُعط وكلّهم ... على سعة الأحوال مُعط ومانع وقد وهبوا مثل الذي أنت واهب ... فما سمعوا بعض الذي أنت سامع قوله: ثالث منه طالع يعني نفسه لقوله بعده: بقيت لكم وحدي، ويُشير بقوله: وقد أفل النجمان إلى ابننباته والسيّد الرضي، وكنّى بالاُفول عن موتهما، وكان لا يرى غيرهما متقدّماً في هذا الفن، ورثاهما معاً، قال في رثاء ابن نباته من قصيدة جليلة أوّلها: حملوكَ لو علموا من المحمول ... فارتاض معتاص وخفَّ ثقيل واستودعوا بطن الثرى بك هضبةً ... وأقلّها أنّ الثرى لحمول منها: يا ناشد الكلم الغرائب أعوصت ... منها فليس لآيها تأويل قف ناد في النادي هل ابن نباتة ... أُذن فيسمع أو فم فيقول منها في وصف شعره: وإذا وسمن على لئيم عرضه ... عاراً فليس لما علطنَ نصول ويظللن يوماً بالملوك حوالياً ... يحفى لهنّ الشمّ والتقبيل أبكارهنّ المطمعات نواشز ... وإناثهنّ المغزلات فحول من كلّ بيت أمره بك نافذ ... وعلى اشتطاطك حكمه مقبول قال الثعالبي: وهذا ابن نباته هو أبو نصر عبد العزيز بن عمر ابن نباته السعدي، كان من محاسن الدهر، لا يُعاب إلاّ بعدم من لا يعرف قدره. وقال مهيار أيضاً في رثاء السيّد الرضي، وهو دليل على ما ذكرناه:

ولقولة عوصاء ارتجّ بابها ... ففلجتها لمّا ولجت خصامها وقلائد قذفت بحارك درّها ... وقضى لسانك وصفها ونظامها هي آية العرب التي انفردت بها ... راعيت فيها عهدها وذمامها كم معجز منها ظهرت بفضله ... سنن الرجال فلم تجد أفهامها وغريبة مسحت يداك موآنساً ... منها الثغور ومفصحاً أعجامها حمست حتّى قيل صبَّ دمائها ... وغزلت حتّى قيل صبّ مدامها ماتت بموتك غير ما أودعته ... في الصحف أو أمددته أقلامها رجْعٌ إلى ما كنّا فيه: وممّن عدّ الشعر فخراً القاضي الأرجاني في قوله - وأبدع فيما قال وأغرب -: وأحقّ من عني الملوك به ... مَنْ سار فيما قال ذكرهم لولا زهير والمديح له ... لم يدر هذا الناس مَنْ هرم وأنا الذي لم يسخ بي أحد ... إلاّ غدا ونديمه الندم وقال أيضاً أبو سعيد الرستمي: من الناس من يعطي المزيد على الغنا ... ويحرم ما دون الغناء شاعرٌ مثلي كما لحقت واوٌ بعمر زيادةً ... وضويق بسم الله في ألف الوصل وقال الأرجاني: لو كان بالفضل التقدّم يقتنى ... ما كان "لا" في أوّل التوحيد وأجاد مهيار متظلماً بقوله: مالي ولم أسبق إلى الغنم ... قسم الرجال وأغفلوا سهمي الحقّ لي والحظّ عندهم ... أظمي ويروى معشر باسمي وممّن عدّ الشعر منقصةً في شرفه ومزاياه الموروثة عن سلفه أبوالحسن الشريف الرضي في قوله: مالكَ ترضى أنْ تكون شاعراً ... بُعداً لها من عدد الفضائل وقوله في مدح أبيه: أمعثر الأحداث في أذيالها ... وأفاك مدحي والجدود عواثر إنّي لأرضى أن تعيش ممدَّحاً ... وعلاك لا يرضى بأنّي شاعر ومنهم أبوطالب المأموني حين وفد على الصاحب ابن عباد فأعجب به وبالغ في إكرامه على حسن نظامه، فحسد بعض حاشية الصاحب ودبّت عليه عقارب كيدهم وطفقوا يركبون فيه الصعب والذلول ويرمونه بما يصرف وجه الصاحب عنه وإسقاط منزلته عنده، فقال في ذلك قصيدةً يستأذنه فيها للرحيل، وأحببت إيرادها لحسنها ولأنّ كلّ بيت منها نادرة باهرة، وبديعة سائرة، وهي: يا ربع لو كنت دمعاً فيك منسكباً ... قضيتُ نحبي ولم أقض الذي وجبا لا ينكرنّ ربعك البالي بلى جسدي ... فقد شربت بكأس الحبّ ما شربا ولو أفضت دموعي حسب واجبها ... أفضت من كلّ عضو مدمعاً سربا عهدي بربعك للذّات مرتبعاً ... فقد غدا لغوآدي السحب منتحبا فيا سقاك أخو جفني السحاب حياً ... يحبو ربى الأرض من نور الرياض حبا ذو بارق كسيوف الصاحب انتضيت ... ووابل كعطاياه إذا وهبا ومنها: وعصبة بات فيها الغيظ متّقداً ... إذْ شدت لي فوق أعناق العدى رتبا ومن يرد ضياءَ الشمس إن شرقت ... ومنْ يسدَّ طريق الغيث إن سكبا فكنت يوسف والأسباط هم وأبو ... الأسباط أنت ودعواهم دماً كذبا قد ينبح الكلب مالم يلق ليث شرىً ... حتّى إذا ما رأى ليثاً مضى هربا أرى مأربكم في نظم قافية ... وما أرى لي في غير العلا إربا عدّوا عن الشعر إنّ الشعر منقصة ... لذي العلاء وهاتوا المجد والحسبا فالشعر أقصر من أنْ يستطال به ... إن كان مبتدعاً أو كان مقتضبا أسير عنك ولي في كلّ جارحة ... فمٌ بشكرك يجري مقولاً ذربا إنّي لأهوى مقامي في ذراك كما ... تهوى يمينك في العافين إن تهبا لكن لساني يهوى السير عنك لأن ... يطبق الأرض مدحاً فيك منتخبا أظنّني بين أهلي والأنام هم ... إذا ترحّلت عن مغناك مغتربا وقول الآخر: ولست أعدَّ الشعر فخراً وإنّني ... لأنظم منه ما يفوق الدراريا ولكنّني أحمي حماي وأتّقي ... عداي وأرمي قاصداً من رمانيا وقولي في هذا المعنى في رثاء عمّي المهدي وفيه تلميح إلى قوله تعالى: (وَكُلَّ إنسان أَلْزَمْناهُ طائرَهُ في عُنُقِهِ) لأنّه أوصى إليّ في بعض قصائد كان نظمها في مدح جدّه وعترته أن أجعلها معه في كفنه. وأرى القريض وإن ملكت زمامه ... وجريت في أمد إليه بعيد

لم ترض منه غير ما ألزمته ... من مدح جدّك طائراً في الجيد ومنهم من بالغ بالوصيّة في التحفّظ على الشعر ووضعه في موضعه كالأعشى بقوله: والشعر قلّدته سلامة ذا ... فائش والشيء حيثما جعلا وكالرستمي في قوله: بناتي عن أيدي اللئام أصونها ... وغير عجيب أن أصون بناتي وكالمهيار في قوله: والشعر صنه فالشعر يحتسب الله إذا لم يصنْ على الشاعرغالِ به واستم المهور الثقيلات وصاهر أكفائه صاهرواحن عليه فإنّه ولد ... أبوه فكر وأُمّه خاطر صرّفه فيما ترضى العلاء به ... وبعمر العرض بيته العامر لا تمتهنه في كلّ سوق فقد ... تربح حيناً وبيعك الخاسر أُنظر إلى مَن وفى مدائح مَن ... أنت وقد بات نائماً ساهر إختر وَلوداً للفهم منجبةً ... ما كثر الفهم محمق عاقر أُمّاً لفخر يصدق النسب الحرَّ ... ويحيي ذكر الأب الداثر أوّلاخ يشفع الوداد له ... يرضيه منه بالفذ والنادر أو ملك رحت منه في نعم ... أنت لها لا محالةً شاكر وممّن أسف على جعل الشعر في غير موضعه الحطيئة، قيل: إنّه لمّا حضرته الوفاة اجتمع إليه قومه، فقالوا: يا أبا مليكة أوصِ، فقال: ويل للشعر من رواية السوء. فقيل: أوصِ يرحمك الله، فقال: من ذا الذي يقول: إذا نبض الرامون عنها ترنّمت ... ترنّم ثكلىً أوجعتها الجنائز قيل له: الشمّاخ. قال: بلّغوا غطفان أنّه أشعر العرب. قالوا: ويحك ما هذه وصيّة، أوصِ، قال: بلّغوا أهل ضابي أنّه شاعر حيث يقول: لكلّ جديد لذّة غير أنّني ... وجدت جديد الموت غير لذيذ قالوا: أوصِ ويحك بما ينفعك، قال: بلّغوا أهل امرء القيس أنّه أشعر العرب حيث يقول: فيالك من ليل كأنَّ نجومه ... بكلّ مغار الفتل شدّت بيذيل قالوا: اتّق الله ودع عنك هذا، قال: بلّغوا الأنصار أنّ صاحبهم أشعر العرب حيث يقول: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسئلون عن السواد المقبل فقالوا: إنّ هذا لا يغني عنك فقيل غير ما أنت فيه، فقال: الشعر صعب وطويل سلّمه، الأبيات التي مرّت. فقالوا: يا أبا مليكة ألك حاجة؟ قال: لا ولكن أجزع على المديح الجيّد يُمْدَحُ به من ليس له أهلاً. وعلى قول حسان: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم، البيت، ذكرت ما حُكي عن بعض الشعراء قال: قلت بيتاً هو أشعر من بيت حسان، قيل له: وكيف؟ قال: قال حسان: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... لا يسئلون عن السواد المقبل وقلت أنا: يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ... أحداً ولا يسلون من ذاالمقبل فقيل له: هو بيت حسان إلاّ أنّك أفسدته. ونظير هذا الأخذ قول أبى محمّد الخازن: قل لباغي الندى خف الله لا تسئله عمراً فإنّه موهوبأخذه من قول أبى تمام: ولو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتّق الله سائله وأقبح من هذا الأخذ ما اتّفق لبعض شعراء عصرنا وذلك أنّه عزّى الحاج محمّد صالح عن كريمة له توفّيت فرثاها بقصيدة سرقها من مهيار الديلمي إلاّ أنّه أفسدها إفساداً قبيحاً، ولولا أنّ العلاّمة الماجد المعنيّ في هذا الكتاب عزم عَلَيّ في إثباتها برمّتها لما أثبتّها على أنّ عدم التنبّه لها يدلّ على خلو عصرنا من أهل الإطلاع على مثل ذلك مع أنّ إنشادها في مثل ذلك النّادي المعظم وقاحة شديدة، قال الشيخ السارق: لكم البقا يا آل بيت محمّد ... إنّ السلوَّ بغيركم لم يحمد حزتم محامد لا تقاس بغيرها ... فمحمّد ينمى لخير محمّد لكم ولي والناس طرّاً سلوٌ ... بالوالد البرّ الرؤف محمّد هو صالح الأعمال بل هو منتهى ... الآمال شمس هداية المسترشد هو خير من صحّت مآثر مجده ... هو خير من بردا المكارم مرتدي هو خير من ألقى النزيل رحاله ... بفنائه من خائف أو مجتدي هو ملجأٌ للخائفين وعصمة ... ومعرَّس للطالبين ندي اليد لا قبل نائله إذا سئل الندى ... وعدٌ ولا قبل اللقاء بموعد قال مهيار: لا قبل نائله إذا سئل الندى ... وعد ولا قبل اللقاء وعيد

أُنظر كيف سرق هذا البيت سرقة قبيحةً وأفسد الأخذ من حيث لم يفهم معنى بيت مهيار، لأنّه أطرى هذا الملك بالكرم والشجاعة وبالغ في ذلك فجعل كرمه لمجتديه لا يسبقه وعد ولا لقائه لعدوّه لا يسبقه وعيد وهذا مقصد جليل من مقاصد الشعراء، قال مهيار: غضبان يسبق بطشه أخباره ... حتّى يغامر في الرعيل الأوّل وقال أبو فراس الحمداني: ويا ربّ دار لم تخفني منيعة ... طلعت عليها بالردى أنا والفجر وقال الطغرائي: هجوم على الأعداء من صوب أمنهم ... متى ما يشأ يعمي النواظر بالكحل وهو كثير جدّاً فأخذه الشيخ برمّته ومدح به الحاج محمّد صالح إمّا لظنّه أنّ البيت كلّه مدح بالسخاء أو لجهله وعدم معرفته بأنّ مثله لا يُمْدَح بشجاعة ولا هيجاء، وقال الشيخ المذكور: ومع الحفيظة قسوة وفضاضة ... حتّى كأنّ فؤاده من جلمد وقال مهيار: لك من خلائقه إذا مارسته ... جنبان ذا سهل وذاك شديد فمع المروّة هزّة وتعطّف ... فتقول غصن البانة الأملود ومع الحفيظة قسوة وفضاضة ... حتّى كأنّ فؤاده جلمود فأجل فكرك في قلّة معرفة الشيخ مع كبر سنّة الذي أفناه في نظم الشعر، فإنّ مهياراً وصف ذلك الملك بالحزم في جعله ذاخلقين متّصفين بالسهولة والشدّة يجدهما الممارس له محبّاً أو مبغضاً؛ فإن كان محبّاً وجد عنده من الهزّة والتعطّف عليه ما اتّصف به غصن البانة الأملود مبالغةً في حنوّه على أهل مودّته، وإن كان مبغضاً وجد عنده لشدّة حفيضته من قسوة القلب وفضاضته ما يظنّ معه أنّ فؤاده جلمود؛ وهوالقاسي من الصخر، وهذه ملاحظة جيّدة إن شئت سمّيتها بالمقابلة وإن شئت سمّيتها بالطباق المعنوي نظير قوله عزّ من قائل: (أشِدَّاءُ عَلَى الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) ، وستقف على بيان ذلك في محلّه مفصّلاً، فما بال الشيخ غفل عن ذلك هذه الغفلة ووصفه بالقسوة والفضاضة فقط؟ وهل يحسن ذلك وإن جعله مع الحفيظة؟ ألم يتصفّح نظم الشعراء في مثل هذا المورد ويحذو حذوهم؟ قال أبو عبادة البحتري: معارك حرب لا يزال موكّلاً ... بقطب رحىً للدارعين طحون وسائس جيش يرجع الحزم والحجى ... إلى شدّة في جانبيه ولين وقال: إذا الخطوب مرّتْ أخلاف درّته ... درَّت بخلفين من شري ومن عسل وقال بعضهم: متى يسئلوه المال تندَ بنانه ... وإنْ يسئلوه الضيم تندَ عوامله وقال مهيار: إن سيل رفداً فهي ينبوع الندا ... أو سيل ضيماً فهي ينبوع الدم ولا أدري ايّهما أخذ من الآخر إلاّ أنّهما أخذا جميعاً من أبي عبادة البحتري حيث قال: يدني يداً بيضاء يختلط الندى ... فيها إذا لقي الفوارس بالدم ولابن دريد في مقصورته: قد مارت منّي الخطوب مرساً ... يساور الهول إذا الهول علا لي التواء إن معاديَّ التوى ... ولي استواء إن مواليَّ استوى طعمي شَرْي للعدوّ تارةً ... والأري بالراح لمن ودّي ابتغى لينٌ إذا لو ينت سهلٌ معطفي ... ألوي إذا خوشنت مرهوب الشذا هكذا جرت الشعراء على نمط واحد في مثل هذه الموارد، وفيما أوردناه كفاية في بيان ما نحن فيه. قال الشيخ: هو ذلك الولى الأجل وووالد ال ... غرر الذين نشوا بأحسن مولد وأبو كواكب كالفراقد في سما ال ... عليا لها مالم يكن للفرقد إنّي لهم بصفاهم من مفخر ... أو مظهر أو عنصر أو محتد وإذا سرى نقص القبائل أقبلت ... تنمي مكارمهم بغير مزيّد وقال مهيار: وإذا سرى نقص القبائل أقبلت ... تنمي مكارم فيهم وتزيّد وقال الشيخ: شرف كمال الملك في أطرافه ... حام على النسب الكريم بمذود وقال مهيار: شرف كمال الملك في أطرافه ... حام عن النسب الكريم يذوّد وقال الشيخ: وإذا أناخ بهم وفود شمتهم ... كرماً قياماً والوفود بمقعد وقال مهيار: وإذا أناخ به الوفود رأيتهم ... كرماً قياماً والوفود قعود وقال الشيخ: وإذا قصدت طروقه لملمة ... فالمصطفى باب لذاك المقصد وقال مهيار: وإذا أردت طروقه لملمة ... فأبوا المعالي بابه المقصود وقال الشيخ:

عشق العلا فسعى وأدرك وصلها ... وطحا بقلب الحاسد المتلدّد وقال مهيار: عشق العلا فسعى وأدرك وصلها ... متمهّلاً وحسوده ملدود وقال الشيخ: ووفى بأشراط الكفاية داخلاً ... من بابها ورتاجها لم يسدد وقال مهيار: ووفى بأشراط الكفاية داخلاً ... من بابها ورتاجها مسدود فتأمّل في سرقة الشيخ لهذا البيت مع سوء فهمه، فإنّه جعل رتاج الكفاية لم يسدّد فشارك الممدوح فيها بالدخول غيره وليس هذا من المدح بمكان، ومهيار الديلمي جعل رتاجها مسدوداً وإنّ غير الممدوح لم يدخل إليها من بابها ويريد بذلك انفراده بالرياسة والتدبير والسياسة وهذا من أشرف المدح. قال الشيخ: عبقٌ بأرواح السيادة أنّه ... في غير حجر سيادة لم يولد وقال مهيار: عبق بأرواح السيادة عطفه ... فكأنّه في حجرها مولود وقال الشيخ: فكأنّه بدر بهالة أنجم ... كلٌّ به عند الشدائد يهتدي وشقيقه الحسن الزّكي محمّد ... مصباح مشكاة البلاغة في الندي وكفاك في عبد الكريم مكارماً ... وسليله الندب الأمين محمّد وبفرقدي فلك المفاخر بضعة ... المهدي نجل العابد المتهجّد وبجعفر الفضل الخضم عبابه ... وجواد جود فواضل لم يرعد أمحمّد الفضل الحسين وجعفر ال ... جود الروي لغلّة المسترفد يا بَني محمّد حسبكم بأبيكم ... فخراً وأنفسكم وفتية أمجد قسماً ولم أقسم بسكّان الحمى ... عن ريبة لكنّه لتأكّد وقال مهيار في غزل قصيدته: قسماً ولم أقسم بسكّان الحمى ... عن ريبة لكنّه تأكيد وقال الشيخ: لهم الأُولى منعوا مسنّة مقصدي ... وهم الأُولى منعوا مسنّة موردي وقال مهيار: لهم الأُولى منعوا مكان مطالبي ... وهم وإن كرهوا الذين أُريد وقال الشيخ: وأُكذّب الواشي إليّ بغدرهم ... وعلى الحديث شواهد لم تُشهَدُ وقال مهيار: وأُكذّب الواشي إليّ بغدرهم ... وعلى الحديث دلائل وشهود وقال الشيخ: أعنوا لهم وأنا العزيز بنفسه ... وألين عمداً والنجار مجلّدي وقال مهيار: أعنوا لهم وأنا العزيز بنفسه ... وألين عمداً والفؤاد جليد وقال الشيخ: وإذ عزفت فبنت عن دين الهوى ... جذب الغرام إليهم في مقودي وقال مهيار: وإذا عزفت فبنت عن دين الهوى ... جذب الغرام بمقودي فأعود وقال الشيخ: طفق العذول وما ارتفدت برأيه ... فيهم ليصلحني بما هو مفسدي وقال مهيار: طفق العذول وما ارتفدت برأيه ... فيهنّ ببدى ناصحاً ويعيد وقال الشيخ: يا أُسرة المجد الذي لم ينتبه ... عن مثله عصر لكرّة مرقد وقال مهيار: يا أُسرة المجد الذي لم تنتبه ... عن مثلها الأيّام وهي رقود وقال الشيخ: بكم رددت يد الزمان وباعه ... متوسّع بمسائتي متعمّدي وقال مهيار: بكم رددت يد الزمان وباعه ... متوسّع بمسائتيى ممدود وقال الشيخ: وعنيت أنت بخلّتي فسددتها ... ونظمت في جدواك كلّ مبدّد وقال مهيار: وعنيت أنت بخلّتي فسددتها ... ونظمتها بالجود وهي بديد وقال الشيخ: وإذا تقاعد صاحب عن نصرتي ... أصبحت منك بنصرة وتأيّد وقال مهيار: وإذا تقاعد صاحب عن نصرتي ... فالنصر حظّي منك والتأييد وقال الشيخ: فلا جزيتك خير ما جازى امرءٌ ... وجد المقال فقال غير مقنّد وقال مهيار: فلا جزيتك خير ما جازى امرءٌ ... وجد المقال فقال وهو مجيد وقال الشيخ: ممّا تخال قوافياً ومعانياً ... للسمع قرط لئالىء وزمرّد وقال مهيار: ممّا تخال قوافياً ومعانياً ... بالسمع وهي حبائر وبرود وقال الشيخ: ما أحسب الدنيا تطيب لأهلها ... إلاّ إلى تدبيركم بتردّد وقال مهيار: ما أحسب الدنيا تطيب وأمرها ... إلاّ إلى تدبيركم مردود وقال الشيخ: لا يبعد الله الأُولى حفظوا العلا ... في بيت مجد للنجوم مشيد وقال مهيار: لا يبعد الله الأُولى حفظوا العلا ... بيت لهم حول النجوم مشيد وقال الشيخ:

لا يعدم الجود الغريب ومنكم ... أطناب أخبية لقوم بأعمد وقال مهيار: لا يعدم الجود الغريب ومنهم ... شخص على وجه الثرى موجود وقال الشيخ: جللٌ عرا فطفقت فيه مؤرخاً ... أعني المصاب بموت بنت محمّد ما زلّ تهتان الرضى يهمي على ... جدث ثوت فيه وتربة مرقد أقول: لولا أنّه ألزمني برسم هذه القصيدة التي أخلق بها محاسن قصيدة مهيار لما سوّدتُ وجه قرطاس من هذا الكتاب برسم أغلاطها الفاحشة. السرقات الشعريّة وحيث انتهى جريان القلم إلى هذا المقام فلا بأس بالكلام على السرقات الشعريّة، وقبل الخوض فيها لابدّ من تقرير شيء يكون تمهيداً للمطالب، فنحن نذكر كما ذكروه ونزيده إيضاحاً. قالوا: إن كان الإتّفاق بين الشاعرين المتّفقين في غرض من الأغراض العامّة المتقرّرة في العقول والعادات كالوصف بالشجاعة والجود ونحو ذلك فهذا ما لا كلام في أنّه لا يعدّ سرقةً ولا أخذاً ولا استعانةً لاشتراك كلّ أحد في معرفته من حيث أنّه مغروس في جميع النفوس لم ينفرد واحد من النّاس بمعرفته دون الآخر، وإن كان الإتّفاق في وجه الدلالة على الغرض، مثلاً إذا كان الغرض إثبات وصف من أوصاف الشجاعة أو السخاء لإنسان لأنّهما يشتملان على أوصاف كثيرة كالإقدام وعدم المبالات وكثرة القتلى وكثرة القرى والعطاء وغير ذلك، فقول القائل فلان يقري الوحوش في الجلاد، وفلان كثير الرماد ليس المراد بهما مطلق الشجاعة والسخاء، بل كثرة القتلى وكثرة القرى، فوجه الإستدلال على إثبات هذين الوصفين هو كون قرى الوحوش لازم من لوازم كثرة القتلى، وكثرة الرماد لازم من لوازم كثرة إيقاد النار للقرى، فهذا أي وجه الدلالة الذي يقع الإتّفاق فيه لا يخلو إمّا أن يكون من المبتذلات التي تشترك الناس في معرفتها لابتذالها فلا يعدَّ سرقة بل هو الإتّفاق في الغرض العام، وإمّا أن يكون ممّا لا تشترك النّاس في معرفته لكونه لا ينال إلاّ بفكر ولا يصل إليه كلّ أحد فهذا هو الذي يحكم فيه بالتفاضل بين الشاعرين المتوافقين فيه ككون إحداهما أكمل من الآخر أو أنّ في الثاني زيادة على الأوّل أو نقصاً عنه، ثمّ إنّ وجه الدلالة على الغرض بهذا المعنى ضربان: أحدهما: ما هو قاض بنفسه أنّه غريب لا ينال إلاّ بفكر. وثانيهما: ما هو عامي لكنّه تصرّف فيه بما أخرجه عن الإبتذال إلى الغرابة. إذا تمهّد هذا فنقول: الأخذ والسرقة نوعان: ظاهر وغير ظاهر؛ أمّا الظاهر فهو أن يؤخذ المعنى كلّه إمّا مع اللفظ كلّه أو بعضه، أو يؤخذ وحده، فهذا قسمان: والأوّل منهما إمّا مع عدم تغيير النظم؛ وهو الترتيب والتأليف الواقع بين المفردات، أو مع تغيير النظم، فهذه عدّة أقسام، ولا بأس بذكر ما يُسمّى به كلّ قسم منها وذكر أمثلته. أقول: ما أُخذ اللفظ كلّه من غير تغيير لنظمه فمذموم، وهو سرقة محضة، ويُسمّى نسخاً وانتحالاً، كما حُكي عن عبد الله بن الزبير أنّه فعل ذلك بقول معن بن أوس المزني حين دخل على معاوية بن أبي سفيان فأنشده لنفسه: إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل ويركب حدَّ السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل فقال له معاوية: لقد شعرتَ بعدنا يا أبابكر، ولم يفارق عبد الله المجلس حتّى دخل معن بن أوس المزني وأنشد قصيدته التي أوّلها: لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل ... عَلَى أيّنا تغدو المنيّة أوّل حتّى أتمّها، وفيها البيتان المتقدّمان، فأقبل معاوية على عبد الله بن الزبير فقال: ألم تخبرني أنّهما لك؟! قال: أنا سوآيت المعاني وهو ألّف الألفاظ، وبعد فهو ظئري فما قال من شيء فهو لي - وكان ابن الزبير مسترضعاً في زمينه - فقال معاوية: وكذباً يا أبابكر، فقام عبد الله وخرج. وأمّا إبدال الألفاظ كلّها بما يرادفها فذلك أيضاً مذموم وهو سرقة محضة، كما في قول الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فأنت الطاعم الكاسي فإنّة يُقال فيه: ذر المآثر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنّك أنت الآكل اللابس وأمّا إبدال بعض الكلمات بما يرافها فهو كذلك مذموم وسرقة محضة، قال امرؤ القيس في لاميته: وقوفاً بها صحبي عَلَيّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسىً وتحمل

فإنّه أورد طرفه في داليّته فقال: وقوفاً بها صحبي عَلَيّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلّد فهذا بيت امرؤ القيس بعينه إلاّ أنّه أقام تجلّد مقام تحمّل. وقال العباس بن عبد المطّلب: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم وقال الفرزدق: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف فإنّه بيت العباس بعينه إلاّ أنّه أقام تعرف مقام تعلم. وأمّا إبدال الألفاظ بما يضادّها في المعنى فهو أيضاً مذموم وسرقة محضة، كقول ابن أبي فنن: ذهب الزمان برهط حسّان الأُولى ... كانت مناقبهم حديث الغابر وبقيت في خلف تحلّ ضيوفهم ... فيهم بمنزلة اللئيم الغادر سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر فإنّه عكس قول حسان بن ثابت: بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطراز الأوّل وأمّا أخذ اللفظ كلّه أو بعضه مع تغيير لنظمه فيُسمّى إغارةً ومسخاً، وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الثاني أبلغ من الأوّل لاختصاصه بفضيلة لا توجد في الأوّل كحسن السبك والإختصار والإيضاح أو زيادة معنىً، وهذا القسم ممدوح مقبول ويُسمّى حسن الإتّباع، كقول بشار بن برد: لو كنتِ تلقين ما ألقى قسمت لنا ... يوماً نعيش به منكم ونبتهج لا خير في العيش إن دمنا كذا أبداً ... لا نلتقي وسبيل الملتقى نهج قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم ... ما في التلاقي ولا في غيره حرج من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج أخذ هذا البيت سلم الخاسر فقال في أبيات أوّلها: بان شبابي فما يحور ... وطال من ليلي القصير أهدى لي الشوق وهو خلوٌ ... أغنّ في طرفه فتور وقائل حين شبَّ وجدي ... واشتعل المضمر الستير لو شئت أسلاك عن هواه ... قلبٌ لأشجانه ذكور فقلت لا تعجلنّ بلومي ... فإنّما ينبّؤ الخبير عذّبني والهوى صغيرٌ ... فكيف بي والهوى كبير من راقب الناس مات غمّاً ... وفاز باللذّة الجسور فبيت سلم هذا أجود سبكاً وأخصر لفظاً.. ولقد حدّث أحمد بن صالح قال: لمّا بلغ بيت سلم بشاراً غضب واستشاط وحلف أن لا يدخل إليه ولا يُفيده ولا ينفعه مادام حيّاً، فاستشفع إليه بكلّ صديق وكلّ من يثقل عليه ردّه فكلّموه فيه فقال: أدخلوه إليّ، فأدخلوه فاستدناه ثمّ قال له: يا سلم! من الذي يقول: من راقب الناس لم يظفر بحاجته؟ فقال: أنت يا أبا معاذ جعلني الله فداك، قال: فمن ذا الذي يقول: من راقب النّاس مات غمّاً؟ قال: تلميذك وخرِّيجك وعبدك يا أبا معاذ، فاجتذبه إليه وقنّعه بمخصرة كانت بيده ثلاثاً وسلمٌ يقول: لا أعوذ إلى ما تكره يا أبا معاذ، ولا آتي شيئاً تذمّه، وإنّما أنا عبدك وصنيعك، وبشار يقول له: يا فاسق أتجيء إلى معنىً سهرت له عيني وتعب فيه فكري وسبقت الناس إليه فتسرقه ثمّ تختصر له لفظاً يقرّبه لتزري به عَلَيّ وتذهب ببيتي، وهو يحلف له أن لا يعود، والجماعة يسئلونه الرضا والكفّ عنه، فبعد جهد شفّعهم فيه وكفَّ عنه وعن ضربه، ثمّ رجع له ورضي عنه. وسُمّي سلم هذا الخاسر لخسرانه في تجارته، لأنّه باع مصحفاً ورثه واشترى بثمنه عوداً يضرب به، كذا في الأساس. وكقول بعضهم: خلقنا لهم في كلّ عين وحاجب ... بسمر القنا والبيض عيناً وحاجبا أخذه ابن نباته السعدي وأحسن إتّباعه فقال: خلقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب فبيت ابن نباته هذا أبلغ لاختصاصه بزيادة معنىً وهو الإشارة إلى انهزامهم حيث أوقع الطعن والضرب على ظهورهم. وثانيها: أن يكون الثاني دون الأوّل لفوات فضيلة توجد في الأوّل وهو مذموم مردود، كقول أبي تمام من قصيدة في رثاء محمّد بن حميد بن مسلم الطائي وقد استشهد في بعض غزواته: هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إنّ الزّمان بمثله لبخيل أخذه أبوالطيب المتنبّي فقال: أعدى الزمان سخائه فسخا به ... ولقد يكون به الزمان بخيلا

فالمصراع الثاني من بيت أبي الطيب مأخوذ من المصراع الثاني من بيت أبي تمام لكن مصراع أبي تمام أجود سبكاً. وثالثها: أن يكون الثاني مثل الأوّل وهذا أبعد من الذم والفضل للأوّل، كقول أبي تمام: لو حار مرتاد المنيّة لم يجد ... إلاّ الفراق على النفوس دليلا أخذه أبوالطيب فقال: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا وكقول الأرجاني: لم يبكني إلاّ حديث فراقهم ... لمّا أسرّ به إليّ مودّعي هو ذلك الدر الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من مدمعي وقول جار الله في مرثية أُستاذه: وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين فقلت هو الدر الذي قد حشا به ... أبو مضر أُذني تساقط من عيني هذا إذا لم يكن فيه دلالة على السرقة، وأمّا إذا كان فيه دلالة عليها باتّفاق الوزن والقافية فهو مذموم، كقول أبي تمام: مقيم الظن عندك والأماني ... وإن قلقت ركابي في البلاد وما سافرت في الآفاق إلاّ ... ومن جدواك راحلتي وزادي وقول أبي الطيب: وإنّي عنك بعد غد لغاد ... وقلبي في فنائك غير غادي محبّك حيثما اتّجهت ركابي ... وضيفك حيث كنت من البلاد وأمّا القسم الثاني من النوع الظاهر: وهو أخذ المعنى وحده فيُسمّى إلماماً من ألمّ به إذا قصده، وأصله من ألمَّ بالمنزل إذا نزل به، ويُسمّى أيضاً سلخاً، والسلخ كشط الجلد عن الشاة ونحوها، واللفظ للمعنى بمنزلة الجلد فكأنّه كشط من المعنى جلده وألبسه جلداً آخر، وهو على ثلاثة أقسام: الأوّل: أن يكون الثاني أبلغ من الأوّل، كقول أبي تمام: هو الصنع إن يعجل فخيرٌ وإن يرث ... فللريث في بعض المواضع أنفع وقول أبي الطيب: ومن الخير بطؤ سيبك عنّي ... أسرع السحب في المسير الجهام فبيت أبي الطيب أبلغ لاشتماله على زيادة بيان للمقصود حيث ضرب المثل بالسحاب. الثاني: أن يكون الثاني دون الأوّل، كقول البحتري: وإذا تألّق في الندي كلامه ... المصقول خلت لسانه من عضبه وقول أبي الطيب: كأنّ ألسنهم في النطق قد جعلت ... على رماحهم في الطعن خرصانا فبيت أبي الطيب دون بيت البحتري لأنّه قد فاته ما أفاده البحتري بلفظتي تألّق والمصقول من الإستعارة التخييليّة حيث أثبت التألق والصقالة للكلام كإثبات الأظفار للمنيّة، ويلزم من هذا التشبيه كلامه بالسيف وهو استعارة بالكناية. الثالث: أن يكون مثل الأوّل، كقول أبي زياد: ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعاً وقول أشجع في جعفر المكي: وليس بأوسعهم في الغنا ... ولكن معروفه أوسع وكقول بعضهم في مرثية ابن له: والصبر يحمد في المواطن كلّها ... إلاّ عليك فإنّه مذموم وقول أبي تمام: وقد كان يُدعى لابس الصبر حازماً ... فأصبح يُدعى حازماً حين يجزع وكقول أبي بكر بن النطاح: كأنّك عند الكرّ في حومة الوغى ... تفرّ من الصفّ الذي من ورائكا وقول أبي الطّيب: وكأنّه والطعن من قدّامه ... متخوّف من خلفه أن يطعنا هذا هو النوع الظاهر من الأخذ والسرقة. وأمّا غير الظاهر فهو على أقسام: منها: أن يتشابه المعنيان في البيتين، كقول جرير: فلا يمنعك من إرب لحاهم ... سواء ذوالعمامة والخمار وقال أبي الطيب: ومنْ في كفّه منهم قناة ... كمنْ في كفّه منهم خضاب فتعبير جرير عن الرجل بذي العمامة كتعبير أبي الطيب عنه بمن في كفّه قناة، وكذا تعبيره عن المرأة بذات الخمار كتعبيره عنها بمن في كفّه خضاب. ومنه قول الطرمّاح: لقد زادني حبّاً لنفسي إنّني ... بغيضٌ إلى كلّ امرء غير طائل وقال أبوالطيب: وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة بأنّي كامل ويجوز في تشابه المعنيين اختلاف الموردين، كأن يكون أحد البيتين نسيباً مثلاً والآخر مدحاً أو هجاءً، فإنّ الشاعر الحاذق إذا قصد إلى المعنى المختلف احتال بإخفائه فغيّر لفظه وصرفه عن مورده وعن وزنه وقافيته. ومنها: أن ينقل المعنى إلى محلٍّ آخر، كقول البحتري:

سلبوا وأشرقتِ الدماء عليهم ... محمّرة فكأنّهم لم يسلبوا وقول أبي الطيب: يبس النجيع عليه وهو مجردٌ ... من غمده فكأنّما هو مغمد فنقل المعنى من القتلى والجرحى إلى السيف. ومنها: أن يكون معنى الثاني أشمل من معنى الأوّل، كقول جرير: إذا غضبت عَلَيّ بنوا تميم ... حسبت النّاس كلّهم غضاباً وقول أبي نؤاس: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد فالأوّل مختصّ ببعض العالم وهو الناس، وهذا يشملهم وغيرهم. ومنها: القلب؛ وهو أن يكون معنى الثاني نقيض معنى الأوّل، كقول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حبّاً لذكرك فليلمني اللوَّم وقول أبي الطيب: أحبّه وأحبّ فيه ملامه ... إنّ الملامة فيه من عذَّاله فهذا نقيض معنى بيت أبي الشيص، والأحسن في هذا النوع أن يبيّن السبب كما في هذين البيتين إلاّ أن يكون ظاهراً، كقول أبي تمام: ونغمةُ معتفي جدواه أحلا ... على أُذنيه من نَغَم السماع وقول أبي الطيب: والجراحات عنده نغماتٌ ... سبقت قبل سيبه بسؤال أراد أبو تمام أنّ الممدوح يستلذّ نغمات السائلين لما فيه من غاية الكرم ونهاية الجود، وأراد أبوالطيب أنّه إن سبقت نغمة سائل عطاء الممدوح بلغ ذلك فيه مبلغ الجراحة من المجروح، لأنّ عاته أن يعطي بغير سؤال. ومنها: أن يؤخذ بعض المعنى ويضاف إليه ما يحسّنه، كقول الأفوه الأودي: وترى الطير على أثارنا ... رأي عين ثقةً إن ستمار وقال أبو تمام: وقد ظللت عقبان أعلامه ضحىً ... بعقبان طير بالدماء نواهل أقامت مع الرايات حتّى كأنّها ... من الجيش إلاّ أنّها لم تقاتل فإنّ أبا تمام لم يلم بشيء من معنى قول الأفوه: رأي عين، ولا: ثقةً إن ستمار، لكن زاد عليه زيادة محسّنة لبعض المعنى الذي أخذه بقوله: إلاّ أنّها لم تقاتل، وبقوله: في الدماء نواهل، وبقوله: أقامت مع الرايات، مع قوله: كأنّها من الجيش، وبهذه الزيادة يتمّ حسن قوله، إلاّ أنّها لم تقاتل، لأنّه لو قيل: ظللت عقبان أعلامه ضحىً بعقبان الطير إلاّ أنّها لم تقاتل لم يحسن هذا الإستثناء المنقطع ذلك الحسن لأنّ إقامتها مع الرايات حتّى كأنّها من الجيش يوهم أنّها تقاتل مثل الجيش فيحسن الإستدراك الذي رفع التوهّم الناشي من الكلام السابق بخلاف وقوع ظلّها على الرايات. وهذه الأنواع المذكورة منها مقبول ومنها ما هو فوق ذلك من حيث أنّه يخرجه حسن التصرّف من الإتّباع إلى الإبتداع، وكلّما كان الإتّباع أشدّ خفاءً بحيث لا يعرف أنّ الثاني مأخوذ من الأوّل إلاّ بعد إعمال روية ومزيد تفكّر كان أقرب إلى القبول لكونه أبعد عن الأخذ والسرقة وأدخل في الإبتداع والتصرّف، هذا آخر القول على السرقة وأنواعها. أقول: وسرقة الشعر مذمومة، قال في ذمّها الحريري في إحدى مقاماته: واستراق الشعر عند الشعراء أفضع من سرقة البيضاء والصفراء، وغيرتهم على بنات الأفكار كغيرتهم على البنات الأبكار، وأوّل من ذمّ ذلك طرفه ابن العبد في قوله: ولا أغير على الأشعار أسرقها ... عنها غنيت وشرّ الناس من سرقا وأبو تمام الطائي ضجّ من سرقة محمّد بن يزيد الأموي شعره، فقال: من بنوا بجدل من ابن الحباب ... من بنو تغلب حداة الكلاب من طفيلٌ وعامرٌ ومن الحا ... رث أو من عيينة بن شهاب إنّما الضيغم الهصور أبو الأش ... بال جبّار كلّ خيس وغاب من عدت خيله على سرح شعري ... وهو للحين راتع في كتابي غارة أسخنت عيون المعالي ... واستباحت محارم الآداب لو ترى منطقي أسيراً لأصبح ... ت أسيراً لعبرتي وانتحابي يا عذاري الأشعار صرتنّ من بع ... دي سبايا تبعن في الأعراب طال رغبي إليك يا ربّ يا ربّ ... ورعبي إليك فاحفظ ثيابي وكان البحتري قال قصيدة في أبي العباس ابن بسطام أوّلها: من قائل للزمان ما أربه ... في خلق منه قد بدا عجبه فعارضه فيها أبو أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر بقصيدة يمدح بها الموفّق أوّلها: أجدَّ هذا المقال أم لعبه ... أم صدق ما قيل فيه أم كذبه

فاستعار من ألفاظها ومعانيها ما أوجب أن قال البحتري: ما الدهر مستنفد ولا عجبه ... تسومنا الخسف كلّه نوبه نال الرضا مادح وممتدح ... فقل لهذا الزمان ما غضبه أجلى لصوص البلاد يطردهم ... وظل لص القريض ينتبه أُردد علينا الذي استعرت وقل ... قولك يعرف الغالب غلبه وقد ذمّ ابن الرومي البحتري بالسرقة فقال: قبحاً لأشياء يأتي البحتري بها ... من شعره الغث بعد الكدّ والتعب كأنّها حين يسعى السامعون بها ... ممّن يميّز بين النبع والغرب رقى العقارب أو هذر البنات إذا ... أضحوا على شعث الجدران في صخب منها: حيٌ يغير على الموتى فيسلبهم ... حرَّ الكلام بجيش غير ذي لجب ما أن تزال تراه لابساً حللاً ... أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب شعرٌ يغير عليه باسلاً بطلاً ... فينشد الناس إيّاه على رقب حتّى إذا كفّ عن عاداته فله ... شعرٌ يئنّ مقاسيه من الوصب شعرٌ كنافض حمّى الخيبري له ... برد وكرب فمن يرويه في كرب قل للعلاء بن عيسى والذي نصلت ... به الدواهي نصول الآل في رجب أيسرق البحتري الناس شعرهم ... جهراً وأنت نكال اللصّ ذي الربب وتارة يبرز الأرواح منطقه ... والخلق مابين مغصوب ومغتصب ومنها: إذا أجاد فأوجب قطع مقوله ... فقد دعا شعراء الناس بالحرب وإن أساء فأوجب قتله قوداً ... بمن أمات إذا أبقى على السلب ولا يخفى على ذي لبّ ما في هذه الأبيات من التشنيع على البحتري والإنتقاص من حقّه وفيه يقول ابن الحاجب أيضاً: والفتى البحتري سارق ما قا ... ل ابن أوس في المدح والتشبيب كلّ بيت له يجوَّد معناه ... فمعناه لابن أوس حبيب وللسري الرفاء من قصيدة خاطب فيها أبا الخطاب الفضل بن ثابت الصابي وقد سمع أنّ الشاعرين الخالديين يريدان الرجوع إلى بغداد وذلك أيّام المهلبي الوزير، أوّلها: بكرت عليك مغيرة الأعراب ... فاحفظ ثيابك يا أباالخطّاب ورد العراق ربيعة بن مكدَّم ... وعتيبة بن الحارث بن كلاب أفعندنا شكٌّ بأنّهما هما ... في الفتك لا في صحّة الأنساب جلبا إليك الشعر من أوطانه ... جلب التجار طرائف الأجلاب فبدائع الشعراء فيما جهّزا ... مقرونة بغرائب الكتّاب شنّا على الآداب أقبح غارة ... جرحت قلوب محاسن الآداب فحذار من نفثات صلي قفرة ... وحذار من فتكات ليثَي غاب لا يسلبان أخا الثراء وإنّما ... يتناهبان نتائج الألباب إن عزَّ موجود الكلام عليهما ... فأنا الذي وقف الكلام ببابي أو يهطبا من ذلّة فأنا الذي ... ضربت على الشرف المطلّ قبابي كم حاولا أمدي فطال عليهما ... إن يدركا إلاّ مثار ترابي عجزا ولن تقف العبيد إذا جرت ... يوم الرهان مواقف الأرباب ولقد حميت الشعر وهو لمعشر ... رمم سوى الأسماء والألقاب وضربت عنه المدّعين وإنّما ... عن حوزة الآداب كان ضرابي فغدت نبيط الخالديّة تدّعي ... شعري وترفل في حبير ثيابي قوم إذا قصدوا الملوك لمطلب ... نقضت عمائهم على الأبواب من كلّ كهل تستطير سباله ... لونين بين أنام البوّاب مغض على ذلَّ الحجاب يردّه ... دامي الجبين تجهّم الحجّاب ومفوّهين تعرّضاً لحرابتي ... فتعرّضت لهما صدور حرابي نظراً إلى شعري يروق فترّبا ... منه خدود كواعب أتراب شرباه فاعترفا له بعذوبة ... ولربّ عذب عاد سوط عذاب في غارة لم تنثلم فيها الضبا ... ضرباً ولم تبد القنا بخضاب تركتْ غرائب منطقي في غربة ... مسبيّة لا تهتدي لإياب جرحى وما ضربت بحدّ مهنّد ... أسرى وما حملت على الأقتاب لفظ صقلت متونه فكأنّه ... في مشرقات النظم درّ سحاب وكأنّما أجريت في صفحاته ... قمر اللجين وخالص الزّرياب أغربت في تحبيره فرواته ... في نزهة منه وفي استغراب وقطعت فيه شبيبةً لم تشتغل ... عن حسنه بصباً ولا بتصابي

وإذا ترقرق في الصحيفة ماؤه ... عبق النسيم فذاك ماء شبابي يصغي اللبيب له فيقسم لبّه ... بين التعجّب منه والإعجاب أعزز عَلَيّ بأن أرى أشلائه ... تدمى بظفر للعدوّ وناب أفمنْ رماه بغارة مأمونه ... باعت ظباء الروم في الأعراب إنّي نبذت على السواء إليكما ... فتأهّبا للفادح المنتاب وإذا نبذت إلى امرء ميثاقه ... فليستعد لسطوتي وعقابي وهي طويلة متناسبة في الحسن والعذوبة. وله من قصيدة مدح بها أباالبركات لطف الله بن ناصر الدولة يتظلّم إليه من الخالديين وقد ذهبا بشعره ومدحا به المهلبي وغيره. يا أكرم الناس إلاّ أنْ يعدَّ أباً ... فات الكرام بآباء وآثار أشكو إليك حليفَيْ غارة شهرا ... سيف الشقاق على ديباج أفكاري ذئبين لو ضفرا بالشعر في حرم ... لمزّقاه بأنياب وأظفار سلاّ عليه سيوف البغي مصلتةً ... في جحفل من شنيع الظلم جرّار وأرخصاه فقل في العطر ممتهنا ... لديهما يشتري من غير عطّار لطائم المسك والكافور فائحة ... منه ومنتخب الهندي والغار وكلّ مسفرة الألفاظ تحسبها ... صفيحة بين إشراق وإسفار أرقت ماء شبابي في محاسنها ... حتّى ترقرق فيها ماؤها الجاري كأنّما نفس الريحان تمزجه ... صبا الأصائل من أنفاس أنوار إن قلّداك بدر فهو من لججي ... أو ختّماك بياقوت فأحجاري باعا عرائس شعري بالعراق فلا ... تبعد سباياه من عون وأبكار مجهولة القدر مظلوم عقائلها ... مقسومة بين جهّال وأغمار ما كان ضرّهما والدر ذو خطر ... لو حلّياه ملوكاً ذات أخطار وما رأى الناس سبياً مثل سبيهما ... بيعت نفائسه ظلماً بدينار والله ما مدحا حيّاً ولا رثيا ... ميتاً ولا افتخرا إلاّ بأشعاري هذا وعندي من لفظ أشعشعه ... سلافة ذات أضواء وأنوار وله من قصيدة في أبي إسحاق الصابي وقد ورد عليه كتاب عن الخالديين بأنّهما منحدران إلى بغداد: قد أظلّتك يا أبا إسحاق ... غارة اللفظ والمعاني الرقاق فاتّخذ معقلاً لشعرك يحميه ... مروق الخوارج المرّاق قبل رقراقة الحديد تريق ... السمَّ في صفو مائه الرقراق كان شنُّ الغارات في البلد القفر ... فأضحى على سرير العراق غارة لم تكن بسمر العوالي ... حين شنّت ولا السيوف الرقاق جالس فرسانها عَلَيّ جلوساً ... لا أقلّتهم ظهور العتاق فجعت أنفس الملوك أبا الهي ... جاء حرباً بأنفس الأعلاق بقواف مثل الرياض تمشّت ... بين أنوارها جياد السواقي بدع كالسيوف أرهفن حسناً ... وسقاهنّ رونق الطبع ساقي مشرقات تريك لفظاً ومعنى ... حمرة الحلي في بياض التراقي يا لها غارة تفرّق في الحو ... مة بين الحمام والأطواق تسمّ الفارس المقدَّم بالعار ... وبعض الأقدام عار باقي لو رأيت القريض يرعد منها ... بين ذاك الإرعاد والإبراق وقلوب الكلام تخفق رعباً ... تحت سامي لوئها الخفّاق وسيوف الضلال تفتك فيها ... بعذاري الطروس والأوراق والوجوه الرقاق دامية الأب ... شار في معرك الوجوه الصفاق فتنفّست رحمةً للخدود ال ... حمر منهنّ والقدود الرقاق والرياض التي ألحّ عليها ... كاذب الودق صادق الإحراق والنجوم التي تظلّ نجوم ... الأرض حسّادها إلى الإشراق بعدما لحن في سماء المعالي ... طلعاً وانتثرن في الآفاق وتخيّرت حليهنّ فلم تعد ... خيار النحور والأعناق وقطّعت الشباب فيه إلى أن ... همّ برد الشباب بالأخلاق فهو مثل المدام بين صفاء ... وبهاء ونفحة ومذاق منطق يخجل الرييع إذا حلّ ... عليه السحاب عقد النطاق يا هلال الآداب يابن هلال ... صرف الله عنك صرف المحاق سوف أهدي إليك خدم المج ... دا إماءً تعاف قبح الإباق كلّ مطبوعة على اسمك باد ... وسمها في الجباه والآماق وقال في أبي تغلب من قصيدة ذكر فيها أحد الخالديين:

ولابدّ أن أشكو إليك ظلامة ... وغارة مغوار سجيّته الغصب تخيّل شعري أنّه قوم صالح ... هلاكاً وأنّ لخالديّ له سقب رعى بين أعطان له ومسارح ... فلم يرع فيهنّ العشار ولا النجب وكان رياضاً غضةً فتكدّرت ... مواردها وأصفر في تربها العشب يساق إلى الهجن المقارف جلبه ... وتسلّبه الغرّ المحجّلة القبّ غضبت على ديباجه وعقوده ... فديباجه غصب وجوهره نهب وأبكاره شتّى أذيل مصونها ... وريعت عذاراها كما روّع السرب وكنت إذا ما قلت شعراً حدت به ... حداة المطايا أو تغنّى به الشرب وقال أيضاً في أبي عثمان الخالدي: لابدّ من نفثة مصدور ... فحاذروا صولة محذور قد أنست العالم غاراته ... في الشعر غارات المغاوير أثكلني غيد قواف غدت ... أبهى من الغيد المعاطير أطيب ريحاً من نسيم الصبا ... جائت بريّا المسك عن حور من بعدما فتحت أنوارها ... فابتسمت مثل الأزاهير وبات فكري بتصانيفها ... ينقشها نقش الدنانير يا وارث الأغفال ما حبّروا ... من القوافي والمشاهير أعط قفانبك أماناً فقد ... راحت بقلب منك مذعور وله أيضاً من قصيدة أُخرى وقد تظلّم بها إلى سلامة بن فهد من الخالديين والتلعفري: هل الصبر مُجد حين ادّرع الصبرا ... وهل ناصرٌ للشعر يوسعه نصرا تحيف شعري يابن فهد مصالت ... عليه فقد أعدمت منه وقد أثرى وفي كلّ يوم للغبيين غارة ... تروّع ألفاظي المحجّلة الغرّا غريب كسطر البرق لمّا تبسّمت ... مخائله للفكر أودعته سطرا فوجه من الفتيان يمسح وجهه ... وصدر من الأقوام يسكنه الصدرا تناوله مثر من الجهل معدم ... من الحلم معذور متى بلّغ العذرا فبعَّد ما قرَّبتُ منه غباوة ... وأورد ما سهّلت من لفظه وعرا فمهلاً أبا عثمان مهلاً فإنّما ... يغار على الأشعار من عشق الشعرا لأطفأتما تلك النجوم بأسرها ... واد نستما تلك المطارف والأزرا فويحكما هلاّ بشطر فنعتما ... وأبقيتمالي من محاسنه شطرا أقول: ولمّا اشتملت عليه هذه القصائد والمقاطيع من الرقّة والإنسجام وحسن الأُسلوب وجودة السبك والمعاني القريبة والألفاظ الرائقة تمهّد العذر في الإطالة بها، مع ما فيها من التزيّد من السريّ وكثرة التشنيع على الخالديين وسلبهما من التملّي بالأدب إذ مقامهما فيه مشهور، ومحلّهما منه على الألسنة مذكور ومشكور، وناهيك بأبي إسحاق الصابي نقداً للأدب وقد قال فيهما: أرى الشاعرَين الخالديين سيرا ... قصائد يفني الدهر وهي تخلد جواهر من أبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصد تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومرّ جدال بينهم يتردّد فطائفةٌ قالت سعيد مقدَّمٌ ... وطائفة قالت لهم بل محمّد فصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلاّ بالّتي هي أرشد هما في اجتماع الفضل روح مؤلّف ... ومعناهما من حيث بيّنت مفرد كذا فرقدا الظلماء لمّا تشاكلا ... علاً أشكلا هذاك أم ذاك أمجد فزوجهما ما مثله في اتّفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد فقاموا على صلح وقالوا جميعهم ... رضينا وساوى فرقد الأرض فرقد فما أعدل هذه الحكومة من أبي إسحاق، فما منها إلاّ محسن يحطب في حبل الإبداع ما أراد، ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الأفراد. ذكرتُ بهذه الحكومة حكومة الصلتان العبديّ الشاعر المشهور وقد قيل له: إقض بين جرير والفرزدق أيّهما أحسن شعراً وأجلّ حسباً وفخراً؟ فقال: أنا الصلتانيّ الذي قد علمتموا ... متى ما يحكم فهو بالحقّ صادع أتتني تميم حين هابت قضاتها ... وإنّي لبالفضل المبين قاطع كما أنفذ الأعشى قضيّة عامر ... وما لتميم في قضائي رواجع سأقضي قضاء بينهم غير جائر ... فهل أنت للحكم المبين سامع قضاء امرء لا يتّقي الشتم منهما ... وليس له في المدح منهم منافع فإن كنتما حكّمتماني فأنصتا ... ولا تجزعا وليرض بالحقّ قانع

فإن يك بحر الحنظليين واحداً ... فما تستوي حيتانه والضفادع وما يستوي صدر القناة وزجّها ... وما تستوي شمّ الذرى والأارع وليس الذنابي كالقدامي وريشها ... وما تستوي في الكفّ منك الأصابع ألا إنّما تحظى كليب بشعرها ... وبالمجد تحظى دارم والأفارع أرى الخطفى بزّ الفرزدق شأوه ... ولكنّ خيراً من كليب مجاشع فيا شاعراً لا شاعر اليوم مثله ... جرير ولكن في كليب تواضع ويرفع من شعر الفرزدق أنّه ... له بذخٌ لذي الخسيسة دافع وقد يحمد السيف الدوان بغمده ... وتلقاه رثاً جفنه وهو قاطع يناشدني النصر الفرزدق بعدما ... أناخت عليه من جرير صواقع فقلت له إنّي ونصرك كالذي ... يثبت أنفاً هشّمته الجوادع وفي ذلك يقول جرير: أقول ولم أملك سوابق عبرة ... متى كان حم الله في كرب النخل أقول: وممّا يليق أن أذكره في هذا المقام ما صنعه بعض الأُدباء مع بعضهم من التبكيت عليهم في دعوى انتحالهم الشعر إظهاراً للقدرة وافتخاراً بالإستطالة، فمن ذلك ما حكي أنّ صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص قال يصف باكورة ورد حملت إلى أبي عامر محمّد بن أبي عامر المقلّب بالمنصور: أتتك أبا عامر وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها رأسها فاستحسن المنصور ما جاء به، فحسده الحسين بن العريف فقال: هي للعباس بن الأحنف، فناكره صاعد، فقام ابن العريف إلى منزله ووضع أبياتاً وأثبتها في صفح دفتر عتيق كان قد نقض بعض أسطره وأتى بها قبل افتراق المجلس، وهي هذه: عشوت إلى قصر عبّاسة ... وقد جدّل النوم حرَّاسها فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرّع السكر أنّاسها فقالت أسار على هجعة ... فقلت بلى فرمت كاسها ومدّت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها رأسها وقالت خف الله لا تفضحنّ ... ابنة عمّك عبّاسها فولّيت عنها على غفلة ... ولا خفت ناسي ولا ناسها قال: فخجل صاعد وحلف، فلم يقبل منه، وافترق المجلس على أنّه سرقها، وتمكّنت من صاعد بأنّه كان يوصف بغير الثقة فيما ينقله. وحدّث البحتري قال: أوّل ما رأيت أبا تمام أنّي دخلت على أبي سعيد محمّد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي التي أوّلها: آفاق صبّ من هوىً فأفيقا ... أم خان عهداً أم أطاع شقيقا فسرّ بها أبو سعيد فقال: أحسنت والله يا فتى. قال: وكان في المجلس رجل نبيل رفيع المجلس منه، فوق كلّ من حضر عنده، يكاد تمسّ ركبته ركبته، فأقبل عَلَيّ ثمّ قال: يا فتى أما تستحيي منّي هذا شعري تنتحله بحضرتي؟ فقال أبو سعيد: أحقّاً ما تقول؟ قال: نعم وإنّما علقه منّي فسبقني به إليك وزاد فيه، ثمّ اندفع فأنشد أكثر القصيدة حتّى شكّكني - علم الله - في نفسي وبقيت متحيّراً، فأقبل عَلَيّ أبو سعيد فقال: يا بني قد كان في قرابتك منّا وردّك لنا ما يغنيك عن هذا، فجعلت أحلف بكلّ محرجة من الأيمان أنّ الشعر لي ما سبقني إليه أحد، ولا سمعته ولا انتحلته، فلم ينفع ذلك شيئاً، وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتّى تمنّيت أنّي سخت في الأرض، فقمت منكسر البال أجرّ رجلي، فخرجت فما هو إلاّ أن بلغت باب الدار حتّى جاء الغلمان فردّوني، فأقبل عَلَيّ الرجل فقال: الشعر لك يا بنيّ، والله ما قلته قط ولا سمعت به إلاّ منك، ولكنّني ظنت أنّك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتّى عرّفني الأمير نسبك وموضعك، ولوددت أن لا تلد طائيّة أبداً إلاّ مثلك، وجعل أبو سعيد يضحك، فدعاني الرجل فضمّني إليه وعانقني وأعلمني أنّه أبو تمام، وأقبل يقرضني، ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به.

ومن ذلك ما اتّفق لعمّي المهدي طابت تربته مع السيّد راضي ابن السيّد صالح القزويني من التبكيت عليه في نسبته إلى انتحال أبيات أرسلها يفتخر بها، وقد أورد هذه القضيّة عمّنا المشار إليه في كتابه مصباح الأدب الزاهر في أثناء كلام عاب به على أب السيّد راضي المذكور في قصيدة له، وبعد فراغه من عدّ معائب تلك القصيدة قال: ومن أيسر تلك الأُمور أنّ ابن رئيس فصحاء هذا العصر في النظم والنثر، الشريف أبو أحمد السيّد راضي ابن السيّد الصالح القزويني نزيل بغداد زهى بنفسه وحسب أنّه وحيد الدهر في النظم والنثر وما برح يجلس في أندية أهل بغداد يطري نفسه ويحسب أنّه ما في الكون أحد يضاهيه بقرض الشعر فإذا عنّ ذكرنا سدّد سهامه وبلغ منّا مرامه بلا جناية منّا سبقت ولا إسائة تقدّمت، ولم تك لنا بعد ببغداد معرفة ولا لنا مع أشرافها أُلفة ولا نحن ممّن يعدّ الشعر يكسو المجيد فخراً أو يرفع له قدراً، بل هو عندنا يخفض الشريف ويضع قدره، فأتّفق أنّ السيّد المذكور حضر نادي بعض أشراف بغداد وان فيه من ذوي المودّة لنا الشيخ حسن الفلوجي فجرى ذكر الأُدباء حتّى انتهى الكلام بهم إلى الحلّة الفيحاء، فأنكر السيّد أن يكون في الحلّة أحد من الأُدباء المجيدين، ووافقه على ذلك الزعم زعيم النادي، فقال الشيخ مُشيراً لنا: إنّ في الحلّة من لو عرفتم لا استعظمتم ما استحقرتهم، فأشار السيّد المشار إليه إلى أبيات نظمها في مدح الإمامين الجوادين: موسى بن جعفر الصادق ومحمّد بن عليّ الرضا سلام الله عليهم بزعم أنّها لا تتشطّر، فأمر أن تبعث لنا لنشطرها، فأرسلها الشيخ المذكور ضمن كتاب إلى الحلّة وابتلى بها غيرنا من أُدبائها حذراً من الفتنة، وذكر في أثناء كتابه أن تعرض الأبيات عَلَيّ، فتفرّست من تلك العبارة أنّها من باب: إيّاك أعني واسمعي يا جاره، فكان الأمر كما تفرّست، وها هي الأبيات: موسى بن جعفر والجواد ... ومن هما سرّ الوجود هذا غياث الخائفين ... وذاك غيث للوفود ملكا الوجود فطوّقا ... بالجود عاطل كلّ جيد فلمّا عرضت عَلَيّ أمرت من ابتلي بها بالإحجام وخلقت لها مقامةً كمقامات الحارث بن همام في كتاب كتبته: إلى واسطة عقد جيد الزمن، الشيخ حسن، وعزوت الكتاب لولدنا حيدر الذي فاق بنظمه أبا تمام ومسلم ترفّعاً عن مجارات ذلك الصبيّ الذي تزبّب وهو حصرم، وهذا نصّ الكتاب - بعد سلام وثناء طويلين طوينا ذكرهما -: أمّا بعد؛ فقد وردت الوكة محبتك ورود الحياة إلى الأجساد بعد الممات، فلمّا فضضنا ختامها، وكشفنا عن لؤلؤ ثغرها لثامها، ضحك ثغر فصاحتي بعد استعبار وقال: أتنكّر الشمس في رابعة النهار، وهل يقال لأمواج البحور أنّها آل يمور، وللسبعة السيّارة تشببها الحصى بالإنارة، فيالله العجب من إنسانَي عين الأدب، ولسانَي الفصاحة في الخطب والخطب، علمَي المجد المشيّد الحاجّين المحترمَين: عيسى وأحمد، كيف يستحليان بناديهما أكل لحومنا وهو مرّ المذاق؟ ويستحلاّن أن يحملا على هزّل الهجاء يلملم بلاغتنا وإنّ حمله لا يطاق؟ مع أنّنا إذا نشر الأعداء ذمّهما طويناه بالمدح، بجدّ كان أو بمزح، حفظاً للحمة الأدب، فإنّها عندنا أوثق حرمةً من قرابة النسب، ولولا تلك العلاقة الأبيّة لنشر لسان فصاحتي الفرزدق وجرير، وطبقت شقشقته الزوراء بالهدير، لكن من ذا الذي تسخو نفسه بأكل لحمه، وهشم عظمه، وأعجب من هذا كلّه ما وقع ممّن هو لسان قصيّ، وصبح فصاحة لوي، وشمس بلاغة غالب، وكوكب معجزها الثاقب الشريف أبو أحمد السيّد الراضي، من زعمه أنّي لا أعرف طارف الشعر وتليده حتّى امتحنني بتشطير أبيات عزاها إليه مكيدة، مع علمه أنّي أصمعيّ هذا الزمان، ولتدوين آثار من غبر ابن خلّكان، فيا سبحان الله أيجهل أنّي ضربت سير قضايا أهل الأدب، وسيّان عندي من بَعُدَ منهم وقرب، ولئن أردت قصّة تلك الأبيات فهي من الغرائب، وذلك أنّ جماعةً من مفلّقي الشعراء وردوا من النجف الأشرف إلى الزوراء، وقد صحبهم جماعة من الحلّة الفيحاء، فلمّا استقرّ بهم الجلوس في نادي المنادمة، أنشد الشيخ حسن بن نصار على بديهته هذه الأبيات: موسى بن جعفر والجواد ومن هما ... سرّ الوجود وعلّة الإيجاد هذا غياث الخائفين وذاك غي ... ث للوفود وروضة المرتاد

مَلكا الوجود فطوَّقا بالجود عا ... طل كلّ جيد للأنام وهادي واقترح عَلَيّ الجماعة تشطيرها، فابتدرهم من شعراء الحلّة الفيحاء ذوالشرف والعفّة محمّد بن إسماعيل الخلفة فقال: موسى بن جعفر والجواد ومن هما ... للخلق كالأرواح للأجساد بهما الوجود قد استفاد لأنْ هما ... سرّ الوجود وعلّة الإيجاد هذا غياث الخائفين وذاك غي ... ظ الحاسدين وحاصد الأجناد بل ذا مغيث الصارخين وذاك غي ... ث للوفود وروضة المرتاد ملكا الوجود فطوّقا بالجود عا ... فيه معاً وقماقم الأمجاد حتّى برفد نداهما قد زين عا ... طل كلّ جيد للأنام وهادي فقام الشيخ محمّد رضا بن الشيخ أحمد النحوي وضرب بيده على فخذه مغضباً وقال: يا للرجال! موتوا عجباً، ما كنت أحسب أنّ الشيخ على جلالة قدره ينتحل شعري الذي قلته في مدح الجوادين، ويزيد لكلّ بيت كلمتين، وينشده بحضرتي، من غير احتفال بسطوتي، كأن لم يدر أنّي قلت، وأنشد: موسى بن جعفر والجواد ... ومن هما سرّ الوجود هذا غياث الخائفين ... وذاك غيث للوفود ملكا الوجود فطوّقا ... بالجود عاطل كلّ جيد فأزجع الشيخ مسلم بن عقيل وصاح بأعلا صوته: ما هذه الزخارف والأباطيل، وأنتما لفصاحة قمراً سماها، ومصباحاً دجاها، لقد أفسدتما أبياتي، وبددتما نظام كلماتي، وكنت قد أحكمت صدورها بقوافيها، وطرزتها بالجناس متانقاً فيها، ثمّ طلب من ذوي الفضل أن يحكموا بينهم بالعدل، ثمّ التفت إليهم وأنشد: موسى بن جعفر والجواد ومن هما ... سرّ الوجود وجعفر الجود هذا غياث الخائفين وذاك غي ... ث للوفود شفاء مفؤد ملكا الوجود فطوّقا بالجود عا ... طل كلّ جيد للأماجيد فقال السيّد صادق الفحّام: على أدب الشيخ مسلم السّلام، إذا كان هذا في النظم نضرك، فكلّما قالت الشعراء شعرك، أنا كلّما أجلت فكرتي بالتقاطك لئالىء نظمي من سلكي، أعجب كيف سلمت منك قفانبك، وإذا كان هذا ديدنك في النظام، فما هذه الغفلة منك عن كتاب الله الواحد العلاّم، فطرّزه بالجناس، وافتخر به بين النّاس. فقال مسلم: مهلاً مهلاً لا يخرجك الغضب من الهزل إلى الجدّ، وتنضوا لخصومتي سيفاً ماضي الحد. فقال الصادق: ويلك يا مسلم أتضع سبابتك في فم الأرقم، وتزعم أنّك تسلم، أرأيت نملة حملت ثبير، أو البعوض جرّت الأثير، فأعرني سمعك لأُبيّن لك الخطأ فيما سرقت، فإنّه لا يتغطّى قبحه بحسن التجنيس، أُنظر إلى البيت الأوّل هل ترى للواو في "ومن هما" من محصل؟ وهل فيه فائدة إلاّ حفظ الوزن أن يختل؟ وأجل فكرك في ثاني الأبيات ترى أنّك أهملت معناه، وراعيت بالجناس لفظه، إذ جعلت أحدهما غيثاً والآخر غياثاً، فخصصت أحدهما بالشجاعة والآخر بالكرم، مع أنّ كلاًّ منهما جامع للوصفين ولسائر صفات الكمال، وأعد نظرك إلى البيت الثالث فإنّ أجدر لك بعد قولك ملكا الوجود أن تقول: طوّقا جميع ما حواه بالجود، وأجدر بك إذ سرقته أن تنشده كما وجدته، ثمّ اندفع ينشد: موسى بن جعفر والجواد هما ... سرّ الوجود وعيبة العلم فهما غياث الخائفين هما ... غيث الوفود ومنتهى الحلم ملكا الوجود فطوّقا كرماً ... ما في الوجود بنائل جمِّ ثمّ التفت إليه وقال: إنّ عثرتك لا تقال، فإن كنت نائماً انتبه لما أنت به، فقد أسفر الصباح لذي عينين، واستبان للناقد النحاس من اللجين، ثمّ تمثّل بهذه الأبيات: يا صاح قد لحنت في قولي وما ... كان بقلبي فيه أمسى مودّعا واللحن في المقال لا يعرفه ... إلاّ فتىً برمزه قد برعا فإن تجدني قد ذكرت المنحني ... فاعلم بأنّي قد قصدت لعلعا أو قلت حزوى فمرادي رامةٌ ... أو الغضا فقد أردت الأجرعا فسكت الشيخ مسلم ولم يتكلّم، وظهر عليه أنّه خجل وتندّم. قال عمّنا بعد فراغه من هذا الكتاب: والعجب العجيب أنّ كتابي لمّا ورد بغداد ورآه السيّد الشريف خال أنّ هذه القضيّة المبتدعة قضيّة حقيقيّة، مع أنّ فيها إشارات واضحة على أنّها مخترعة خلقيّة، ولم يشعر بأنّ أبياته من مجزوّ الكامل المذال بحرف، وإنّا أضفنا إليه تلك الزيادات مكيدة لئلاّ يعرف.

أقول: ما أنسب ذكر أبيات لمهيار الديلمي بهذا المقام وهي: رحمت قوماً وقد مالت رقابهم ... تحت القريض فظنّوا أنّهم حملوا وقعقعوا دونه الأبواب فاعتقدوا ... بطول ما قرعوا أنّهم وصلوا وحظّهم منه حظّ الناقفات رجت ... أن يجتنى من هبيد الحنظل العسل تشرّعوا في بحور منه طامية ... والمنبض العذب فيما بينها وشل بحجّة سبلها البيضاء خافية ... وكلّها من مزايا أعين سبل والصحف تملؤ والأقلام متعبة ... وكلّما سمعوا من خاطب نقلوا والقول والنقل مخلوقان في عدد ... قل كلّما تخلق الأسماع والمقل لا يكسبان بتقليد ولا أدب ... ولا يفيدهما علم ولا عمل رَجْعٌ: قيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا طمع. وفي الفتح القريب: سئل حسان: من أشعر الناس؟ فقال: قبيلةً أم قصيدة؟ قيل: كلاهما. قال: أمّا أشعرهم قبيلة فهذيل، وأمّا أشعرهم قصيدة فطرفة. وسئل طرفة: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وسئل الحطيئة أيضاً: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: لا أعدّ الإقتار عدماً ولكن ... فقدُ مَنْ قدر زيته الإعدام وهو لأبي داود الأيادي. قالوا: ثمّ مَن؟ قال: عبيدة بن الأبرص. قالوا: ثمّ مَن؟ قال: كفاك والله بي إذا حدّثني رغبة أو رهبة ثمّ عويت في أثر القوافي عواء الفصيل في أثر أُمّه. وقال بعضهم: اتّفقت العرب على أنّ أشعر الشعراء في الجاهليّة طرفة، وبعده الحارث بن حلزه، وعمرو بن كلثوم. وقال القالي في أماليه: قال عقيل بن بلال: سمعت أبي - يعني بلالاً - يقول: سمعت أبي - يعني جريراً - يقول: دخلت على بعض خلفاء بني أُميّة فقال: ألا تحدّثني عن الشعراء؟ قلت: بلى. قال: فمن أشعر الناس؟ قالت: ابن العشرين - يعني طرفة -. قال: فما تقول في ابن أبي سلمى والنابغة؟ قلت: كانا ينيران الشعر ويسديانه. قال: فما تقول في امرء القيس بن حجر؟ قلت: اتّخذ الشعر نعلين يطؤ بهما كيف يشاء. قال: ماذا تقول في ذي الرمّة؟ قلت: قدر من الشعر على ما لم يقدر عليه أحد. قال: فما تقول في الأخطل؟ قلت: ما باح بما في صدره من الشعر حتّى مات. قال: فما تقول في الفرزدق؟ قلت: بيده نبعة الشعر قابض عليها. قال: فما أبقيت لنفسك شيئاً؟ قلت: بلى والله يا أميرالمؤمنين، أنا مدينة الشعر التي يخرج منها ثمّ يعود إليها، ولأنّي سبحت الشعر تسبيحاً ما سبحه أحد قبلي. قال: وما التسبيح؟ قلت: نسبت فأطريت، وهجوت فأدريت - يعني أسقطت - ومدحت فأسنيت، ورحلت فأعرزت، وزجرت فأنحرت، فأنا قلت ضروباً من الشعر لم يقلها أحد قبلي. وسأل معاوية الأحنف عن أشعر الشعراء؟ فقال: زهير. قيل: وكيف؟ قال: ألقى على المادحين فضول الكلام وأخذ خالصه وصفوته. قيل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله: وما يك من خير أتوه فإنّما ... توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطيّ إلاّ وشيجة ... وتغرس إلاّ في منابتها النخل وقال من أحجّ لزهير: إنّه كان أحصفهم شعراً، وأبعدهم من السخف، وأجمعهم لكثير من المعنى وقليل من المنطق، وأشدّهم مبالغة في المدح، وأبعدهم تكلّفاً وعجرفيّة، وأكثرهم حكمةً ومثلاً سائراً في شعره. وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: أفضل شعرائكم القائل: ومَن، ومَن؛ يعني زهيراً وذلك في قصيدته التي يقول فيها: ومَن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومَنْ لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدّم ومن لم يظلم الناس يظلم ومَنْ هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السماء بسلَّم ومَنْ يجعل المعروف من دون عرضه ... يفرْهُ ومن لا يتّق الشتم يُشتَم وأمّا النابغة فكان لجلالة قدره وتقدّمه في الشّعر تضرب له قبّة بسوق عكاظ فتعرض العرب عليه أشعارها. قال من احتجّ له: إنّه كان من أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأنّ شعره كلام ليس بتكلّف، والمنطق على المتكلّم أوسع منه على الشاعر، لأنّ الشاعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلّم مطلق يتخيّر الكلام كيف شاء.

قالوا: والنابغة نبع في الشعر بعد أن احتنك، وهلك قبل أن يهتزّ. وكان أبو جعفر يحيى بن محمّد بن أبي زيد العلوي البصري يفضّل النابغة قال ابن أبي الحديد وكان تلميذاً له: استقرأني يوماً وبيدي ديوان النابغة قصيدته التي يمدح بها النعمان بن المنذر ويذكر مرضه ويعتذر إليه ممّا اتّهم به وقذفه أعداؤه، ولا بأس بإيراد ما ذكره من القصيدة في شرح النهج كما سطره فإنّه لا يخلو من فائدة، وهو: كتمتك ليلاً بالخموطين ساهراً ... وهمّين همّاً مستكنّاً وظاهرا أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ... وورد هموم لو يجدن مصادرا تكلّفني أن يغفل الدّهر همّها ... وهل وجدت قبلي على الدهر ناصرا ألم تر خير النّاس أصبح نعشه ... على فئة قد جاوز الحيَّ سائرا ونحن لديه نسئل الله خلده ... يردّ لنا ملكاً وللأرض عامرا فنحن نرجّي الخير إن فاز قدحنا ... ونرهب قدح الدهر إن جاء قامرا لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً ... وأصبح جدّ النّاس بعدك عاثرا وردَّت مطايا الراغبين وعريت ... جيادك لا يحفى لك الدهر حافرا رأيتك ترعاني بعين بصيرة ... وتبعث حرّاساً عَلَيَّ وناظرا وذلك من قول أتاك أقوله ... ومن دسّ أعداء إليك المأبّرا فياليت لا آتيك إن كنت مجرماً ... فلا أبتغي جاراً سوائك مجاورا فأهلي فداء لامرء إن أتيته ... تقبّل معروفي وسدّ المفاقرا سأربط كلبي إن يريبك نبحه ... وإن كنت أرعى مسحلان وحامرا وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع ... تخال به راعي الحمولة طائرا تزلّ الوعول العصم عن قذفاته ... وتضحي ذراه بالسحاب كوافرا حذاراً على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتّى يمتن حرائرا أقول وقد شطت بي الدار عنكم ... إذا مالقيت من معد مسافرا ألا أبلغ النعمان حيث لقيته ... فأهدى له الله الغيوث البواكرا وأصحبه فلجاً ولا زال كعبه ... على كلّ من عادى من النّاس ظاهرا وربّ عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على المعادين ناصرا قال: فجعل أبو جعفر يهتزّ ويطرب، ثمّ قال: والله لو مزجت هذه يشعر البحتري لكادت تمتزج لسهولتها وسلالة ألفاظها وما عليها من الديباجة والرّونق، ومَنْ يقول إنّ امرء القيس وزهير أشعر من هذا هلمّوا فليحاكموني. أقول: قوله: لو مزجت هذه أي القصيدة بشعر البحتري لكادت تمتزج، فيه إشعار بأنّه يفضّل البحتري على غيره من طبقته بل وغيرها، لأنّ في قوله: لكادت تمتزج، إعلاناً بتفضيله على النابغة الذي هو عنده مقدّم على من سواء. فأمّا امرء القيس فاحتجّ له من يقدّمه على الشعراء بأنّه ما قال ما لم يقولوه ولكنّه سبقهم إلى أشياء ابتدعها استحسنها العرب وأتبعه الشعراء عليها، منها: استبقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء وبالبيض، وتشبيه الخيل بالعقبان والغضا، وقيد الأوابد، وأجاد في النسيب، وفصّل بين النسيب والمعنى، وكان أحسن الطبقة تشبيهاً. وقيل: إنّ خاله مهلهلاً أوّل من أرقّ المراثي، واسمه عدي، وأوّل من قصّد القصائد، وفيه يقول الفرزدق: ومهلّل الشعراء ذاك الأوّل. ولم يقل أحد قبله عشرة أبيات غيره. وقال في الأغاني: عديٌ لقب مهلهلاً لطيب شعره ورقّته. وقيل: هو أوّل من قصّد القصائد، وقال الغزل، فقيل: فهلهل الشعر أي أرقّه، وهو أوّل من كذب في شعره. وحدّث عوانة عن الحسن أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لحسان بن ثابت: مَن أشعر العرب؟ قال: الزرق العيون من بني قيس، قال: لست أسألك عن القبيلة إنّما أسألك عن رجل واحد، فقال حسان: يا رسول الله إنّ مثل الشعراء والشعر كمثل ناقة نحرت وجاء امرء القيس ابن حجر فأخذ سنامها وأطائبها ثمّ جاء المتجاوران من الأوس والخزرج فأخذا ما والى ذلك منها، ثمّ جعلت العرب تمرّغها حتّى إذا بقي الفرث والدم جاء عمرو بن تميم والنمر بن قاسط فأخذاه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذلك رجل مذكور في الدنيا وشريف فيها، خامل يوم القيامة، معه لواء الشعراء.

فصل في إثبات فصول من نثره وعقود من نظمه

أقول: والإختلاف في تفضيل الشعراء بعضهم على بعض المتقدّمين منهم والمتأخّرين كثير لا تحصى أقوالهم فيه، وهذا القدر منه كاف في الذكر والإطّلاع. فصل في إثبات فصول من نثره وعقود من نظمه قال أعزّه الله مقرضاً على الكتاب المعروف ب "مصباح الأدب الزاهر"، الذي ألّفه عمّي المهدي في أبيه الصالح طابت تربته: هذا الكتاب الرائقة عباراته، الفائقة إشاراته، الشريفة مراميه ومقاصده، اللطيفة مصادره وموارده، المثني على منشئه بلسان إحسانه وإبداعه، وبيان نظمه وأسجاعه، روضة تلحظ منها الأبصار زهرا، فتقطفه فتراه درّاه، فتحقّقه الأفكار فتجده سحرا، فلا تعلم أشاهدت روضةً أو وجدت بحرا، وهذا غير بعيد ممّن خصّهم الله بالتأييد. كواكبُ في سماء الطرس لاحت ... به الساري اهتدى في الشعر نهجه وينظرها الظريف إذا رآها ... مزينةَ حدائق ذات بهجه وكتب إليّ أيضاً بهذه الرسالة في غرض له: إنّ أبهى ما رقم في الطروس، وأزهى ما ترتاح إليه النفوس، دعوات هتكت حجاب الظلماء، وقرعت أبواب السماء، حتّى كتبت مع المجرّة سطرا، ورفعت في ديوان القبول صدرا، وتحيّات تعطر أنفاس الصبا والشمائل، وتثبت أشواقاً أنضت الضلوع، وأودت بمهجة كم فيها لبينك من صدوع، تشكوا غراماً لا يهدء وإن ردكت رياح الأشواق، وجفناً لا يغمض وإن نامت عيون العشّاق، أهديهما - بأتمّ الإكرام - إلى من طاب فرعاً وأصلا، واشتمل على الفواضل والفضائل شابّاً وكهلا، صافي الأُرومة، زاكي الجرثومة، الراقي من رتب المجد أسناها، والمتسنّم من ذروة النجد أعلاها، لا برح علم مجده مرفوعاً أبداً، وبناء سعده منصوباً بخفض العدى، ما ألقى الحام درس سجعه، وسقى الغمام غرس نبعه. أمّا بعد؛ يا أيّها النّدب، والمنهل العذب، أُعلمك - ثمّ أفاض في ذكر غرضه وهو نظم أبيات لمجاراة بعض شعراء الشام لأمر يقتضيه (وسوف تأتي الأبيات في باب الدال) . ومن رسالة كتبها إليّ وقد ذهب عَلَيّ أوّلها حين نقلها منها: ذاك من تتبّع آثار آبائه وجدوده، وانتهت إليه مآثر فضلهم وفضلهم لا إنتهاء لحدوده، أدام الله له سنيّ الخلود، وأضفى عليه جلابيت الإقبال والسعود، ما دامت الأفلاك دائره، والأنجم سائره بمحمّد وأهل بيته الذين من تمسّك بهم نجى، وأصحابه الذين نالوا بشرف صحبته كلّ مرتجا، ومنها في التشوّق لي أنا لا زلت ولا أزال مترقّباً عود ليالي الإقبال وإن طوتها يد النوى، متطلّعاً ورود مافيه ورود السلسبيل الزلال، عسى ينطوي الجوى، فلم تفز نفسي بمناها، ولم تحظ عيني بما يجلو قذاها، فلو شرّفني سيّدي بكتابه، ونوّه باسمي في خطابه، ناقعاً بعباراته العذبة غلّة صدري، ورافعاً بها بعد الإنخفاض قدري، لكان ذلك الأليق بكرمه، والأوفق بشيمه، لكنّي لست أعلم سبباً للحرمان، الممتدّ إلى هذا الأوان - هذه نبذة يسيرة من نظمه البديع، وستسمع له في خاتمة الكتاب فصولاً كثيرة من النثر المزري بعقود الدر. وأمّا منظومه: فإنّي مورد له في هذا الكتاب ما هو السحر الحلال الجدير بقوله من قال: كلمٌ هي الأمثال إلاّ أنّها ... بين الورى أضحت بلا أمثال وسأثبت له من الغزل والنسيب، والمدح والفخر، والتأبين والتهجين، وسائر ضروب الشعر وفنونه قوافياً سائرة، تزري بالرياض الناظره، فمن غزله قوله: حيّ عنّي بالحمى عهداً قديما ... وتعهّدْ لي به الظبي الرخيما رشأٌ بالنبل من الحاطة ... غادر القلب على عمد كليما إنْ أقلْ ريم صريم نافرٌ ... فلكمْ أخجل بالعينين ريما لا ومن أرشق قلبي لحظه ... أنا لا أعرف لولاه الصريما أبلج الخدّين ما ألطفه ... قامةً هيفاء أو كشحاً هظيما راع بالرقّة من وجنته ... رائق الورد وبالطبع النسيما خلته والشعر في عارضه ... شمس أفق زاحمت ليلاً بهيما فامنح الدرياق من عذب اللمى ... فلكم بت بصدغيك سليما فالتصابي لي سمير في الدجى ... والجوى في الصبح لي صار نديما ومنه قوله وهو الذي يكاذ يسيل لرقّته: ضاع قلب الموله المفتون ... بربى الكرخ لا ربى جيرون فانشداه بين الظعون فإنّي ... خلته سار بين تلك الظعون حنّت النيب يوم حنَّ فؤادي ... وشجى الساجعات رجع أنيني

وصبغت الرياض حمراً ولكن ... بمذاب من الفؤاد هتون فهي طوراً تذوي بنار زفيري ... وهي طوراً تزهو بماء شئوني يا غزالاً تاقت له النفس شوقاً ... لا لغيد من الظباء العين أنت ليلاي والرصافة نجدي ... وأنا في هواك كالمجنون ومنه قوله وأبدع فيه: أنا إنْ همتُ صوبةً بالعذار ... في الغرام العذريّ صحّ اعتذاري فاحمرار الشقيق يزهو إذا ما ... حفَّ من آس روضة باخضرار فنجديه مثل ما بفؤادي ... من لهيب تذكية جذوة نار رشأ تستعير رقّته الخمر ... إذا ما مرّ كالنسيم الساري كم دموع صبغت فيها أقاح ال ... رمل بعد ابيضاضه باحمرار وإذا ما أضمرت كتم هواه ... عن عذولي لم يجدني اضماري كيف يجدي كتمان سرّ غرامي ... ودموعي تنمّ بالأسرار يا عذولي عَلَى التصابيَّ دعني ... والتصابي إنّ التصابي شعاري لا تزد في الهوى أواري فإنّي ... عن عيون الورى أواري أواري بأبي من عصيت فيه اللواحي ... وعصاني على هواه اصطباري ذو قوام إن مرَّ يخطر راع ال ... صب في لدن قدّه الخطّار بي رفقاً فلا تزدني أواراً ... إنّ زند الغرام في القلب واري ومن ذلك أيضاً قوله لا فضّ فوه: مالقلبي تهزّه الأشواق ... خبّرينا أهكذا العشّاق كلّ يوم لنا فؤاد مذاب ... ودموع على الطلول تراق عجباً كيف تدعي الورق وجدي ... ولدمعي بجيدها أطواق كم لنا في الحمى معاهد أُنس ... والصبا يانع الجنى رقراق عهد لهو به الليالي ترامت ... ماله عرّست به الأحداق يالظعن به النياق تهادى ... نهنهي السير ساعة يا نياق فباحداجك استقلّت ضياءٌ ... آنسات بيض الخدود رقاق فارحمي يا أميم لوعة صبٍّ ... شفه يوم ذي الأثيل الفراق كاد يقضي من الصبابة لولا ... أن تحاماه في الوداع العناق ومنه قوله وقد أغرب فيه: الصبر غار وأنجد الدمع ... من ناظري فاعشوشب الربع والقلب حيث نأَى الخليط نأى ... رفقاً به فله الهوى طبع حتام ترشق باللحاظ حشاً ... ما مسّها لولا النوى صدع وببانة الجرعاء لي رشأٌ ... باهى ذكاءَ بوجهه الربع رشأ رشيق القدّ ذو غنج ... أهواه إنْ وصلٌ وإنْ قطع قمر تباهى الشمس طلعته ... إن أقض فيه هوىً فلا بدع أُمناي هل من ريق فيك رُقىً ... فلكمْ لصدغك في الحشا لسع ومن ذلك ما قاله من قصيدة وأجاد فيه: رشاءٌ يخيط فؤاد عاشقه ... إن خاط بالألحاظ لا الأبر قمر إذا ما هزَّ قامته ... أزرى بغص البان والقمر النار في خدّيْه موقدةٌ ... ترمي فؤاد الصب بالشرر يا ما أحيلا عين ذي غنج ... مكحولة الأجفان بالحور يا سائقاً ظعن الخليط ضحىً ... رفقاً فإنّ القلب في الأثر قف بالحمول على ديارهم ... واسئل فهل بالربع من خبر ومنه قوله مرتجلاً: أنا لم أنس بالحمى لك عهداً ... ما أحيلا عهد الحمى ما أحيلا وبذات الأثيل قد ضاع قلبي ... مستفزّاً فلا عدمت الأثيلا عرصات روضتهنَّ بدمع ... عن دم أفعم المفاوز سيلا فبها عرّست ركائب لهو ... أركضت في حشا المتيم خيلا خلِّ عنّي ذكر الدمى وهواها ... ودع الغانيات يسحبن ذيلا واطوِ يا صاح ما تقادم عهداً ... من أحاديث قيس لبني وليلى وأعد ذكرهم فقد طال ليلي ... وحديث الغرام يعذب ليلا ومن ذلك قوله: أصهباء تروق لنا مزاجا ... مزاجكِ يا صبا نجد مزاجا أم الروض الأريض سقاه نوءٌ ... من الأنواء فابتهج ابتهاجا فلو سالت برقتها طباعٌ ... لأفعمنا برقتك الزجاجا على أنّ المعاطف منك ماجت ... فكنَّ كجدول بالبرد ماجا مرضنَ بلحظك الأحشاء لكن ... رضا بك كان للمرضى علاجا أعرت الغص ليناً والحميّا ... عذوبة فيك والقمر انبلاجا فرفقاً يا رشيق القدّ رفقاً ... فقلبي فيك للزفرات هاجا ومذ ناسبت لطف الراح كادت ... بك الأرواح تمتزج امتزاجا

ولمّا فاح خالك وهو مسك ... علمنا حقَّ نهدك كان عاجا فقم بي نغتبط للهو ربحاً ... فسوق مواسم اللذّات راجا ومن هذا الباب قوله وأحسن فيه: نحن قول إذا نظرنا صبونا ... وإذا العشق ملنا ما سلونا لم نرح من هوىً معافين إلاّ ... وعلى جمرتين منه غدونا جئت مستعدياً من الحبّ عقلي ... فإذا العقل للصبابة عونا فتنتنا بحسنها وجناةٌ ... ككؤس الطلا صفاءً ولونا وجفون رشقننا بنبال ... نحن منها لولا الهوى ما دنونا يا حياتي بختري وصلينا ... ودعي الغانيات يمشين هونا وارشفينا من لثتيك رضاباً ... ما مررنا عليه إلاّ حلونا أفبعداً بعد التداني يميناً ... ليرى الصب بين هذين بونا وله من قصيدة فريدة: ما شمت أبهج منظراً ... من وجنة زينت بخال ممنوعة عن ناظري ... بالبيض والسمر العوالي رقَّ الفؤاد لها هوىً ... بالله هل رقّت لحالي ومن ذلك هذه الموشحة الفذَّة في حسنها: حبّذا ليل به ظبي الصريم ... مسعف والليل والنجم تحلى وسرى في الربع معتلّ النسيم ... والدجى في غرّة البدر تجلّى أطربتني روضة قد زانها ... خدّ مَنْ أخجل قدّاً بانّها والصبا قد سرّحت ريحانها ... وعلى وجنة غنيَّ النديم فتثنّى مائساً كالغصن دلاّ من ثناياه الورود ابتسمت ... وبخدّيه البرايا افتتنت رشأ منه ذكاً قد خجلت ... واستعارت منه ولدان النعيم حسن الحاظ تروق العين كحلى أبلج الخد عليه الصدغ رف ... ذو شباب رق أعطافاً وشف ما ثنى عنّي عطفاً بل عطف ... وهداني بمحيّاه الكريم نحو نهج في الهوى عزّ وجلاّ ذو طباع كالصبا في لطفها ... وسجاياه اعجزت عن وصفها وحمياً راقني في رشفها ... من ثناياه التي تشفي السقيم برضاب من جنا اليعسوب أحلا لست أنسى ذلك الربع الحسن ... قرَّ طرفي فيه بالظبي الأغن من به قدماً حشا قلبي افتتن ... وأنا اليوم على العهد مقيم مغرم أصبو ولن أسمع عذلا ومن ذلك قوله من قصيدة أوّلها: نعم الأنيس الراح للأرواح ... فألفه ألف العيد للأفراح يا مرسل الأصداغ فوق خدوده ... عجباً سدلت الليل فوق صباح تصحو ويسكرك الصبا متدلّلاً ... نفسي فدائك من نزيف صاحي كم رمت وصلك مجهداً بوسيلة ... فقصصت لي المرتاش من أجناحي وتركتني حيران أختبط الدجى ... لا أهتدي قصداً للحي اللاحي ريم تدجّج مذرنا متمايلاً ... تيهاً بلدن قناً وبيض صفاح ومنه قوله وأجاد ما شاء فيه: غنى النديم فارقص الحببا ... وتصفقت أكوابه طربا قمرٌ وشمس عقاره ازدوجت ... بالماء حتّى انتجت شهبا رقّت كرقّته سلافته ... فكأنّه في كأسه انسكبا عصرت زبيباً ثمّ مازجها ... سرّ الغمام فارجعت عنبا مثل اللجين القسّ عتقها ... فغدا النديم يديرها ذهبا نار ولكن في اليد انسكبت ... وطلاً ولكن مائها التهبا ومن ذلك قوله وفيه حسن التضمين لأنّه ضمن فيه قولهم: الرشف أنقع. وربّ غرير لم يروع فؤاده ... أخو حنق في روضة الحسن يرتع يناولني بالراح راحاً وتارة ... يرشّفني من فيه والرشف أنقع ومنه قوله وأحسن للغاية لتضمينه قول بعضهم: وللناس فيما يعشقون مذاهب. وبي رشأ غض الشبيبة أهيف ... رقيق الحواشي وهو للحسن سالب يرقّ لحالي إذ يراني متيّماً ... أليف جوى والقلب منّي ذائب ينادي بعذّالي دعوه وحبّه ... فللنّاس فيما يعشقون مذاهب ومنه قوله: ... ومهفهف كلمته ... بلسان من يهوى كلامه يا مخجلاً بالجيد وال ... عين الكحيلة ريم رامه ومورد الوجناة غضّ ... القد إذ يثني قوامه ما هذه السوداء تحرس ... روض خدّك قال شامه ومن ذلك قوله: وحبيب طلّق المحيا أسيل ... الخد يثني لصبّه أعطافه نيقدٌ يعرف النزاهة ممّن ... هام فيه ونسكه وعفافه

قد حباني لكن بطيف خيال ... قبلةً في شفاهه وارتشافه لم أكن أعرف السلافة لكن ... بلماه عرفت معنى السلافه ومنه وهو من نوادره السائرة: عيناه أخجلتا جأذر رامة ... بملاحة فتكت بنا والحورا خدّاه في وسط الحشا قد أضرما ... ناراً وعمّا في البريّة نورا ومنه وهو من بدايعة النادرة: سباني ضبي أتلع الجيد أهيف ... طليق المحيّا بالملاحة منعوت أليف صباً حلو الشمائل أحورٌ ... تعلّم من أجفانه السحر هاروت فلم أستطع صبراً لمرّ فراقه ... وتالله لم يصبر بديمومة حوت ومنه قوله وهو من نفائس أبكاره: يا حبّذا ليلة بالخيف قد زهرت ... فيها النجوم وبدر التم قد سطعا والماء يجري نميرا والرياض زهت ... ونسمة الليل هبّت والحبيب رعى فلم تكن لحظة هاتيك من قصر ... حتّى بفرقتنا داعي الصباح دعا ومن ذلك قوله وهو من عرائس خواطره الباهرة: فما روضة من رياض الربيع فلت ... فلت أنمل القطر ريحانها وما شطة الريح قد سرَّحت ... ذوائب آس بها زانها ولا طفلة عضة إنْ ثنت ... معاطفها أخجلت بانها إذا رمقت أو لوت جيدها ... فقد فضحت ثمه غزلانها بألطف ممّن بهجرانه ... أبان عن النفس سلوانها ومن ذلك قوله وأحسن فيه تضمين قوله بعضهم: وكلّما فعل المحبوب محبوب. وأحور فاتر العينين كلّفني ... بالهجر والدمع من عيني مسكوب كأنّه يوسف في حسن غرّته ... وإنّني في جليل الحزن يعقوب جفا ولكنّني راض بجفوته ... وكلّما يفعل المحبوب محبوب ومنه قوله وهو من نكاته البديعة: إنّي أُحبّك لا لأنّك مخجل ... شمس الضحى وجهاً أغرّ وسيما لكن جبلت على هواك طبيعةً ... فأصبت معدوم النظير كريما ومن ذلك أيضاً وهو من الغريب: ودّعت من أهوى فودّعني ... يوم الوداع حشاي والصبر وتسعّرت كبدي لظىً فلذا ... من مقلتيّ تساقط الجمر ومن ذلك قوله من قصيدة فريدة أنشأها في عرس سليل شقيقه المصطفى، الكوكب الدرّي، الحاج عبد الغني، أوّلها: قف بالديار فذاك موقفهاحيث الرياض يروق مألفها، فمنها: يا جارتاه وللهوى شعبٌ ... غير المتيّم ليس يعرفها أو تعجبين وأنت عالمة ... قدماً بأنّ القلب مدنفها فلربعها الخالي تشوّقها ... ولريمها الحالي تشوّفها ألوت لها ولهاً أعنتها ... فعن المنازل ليس تصرفها لا أبتغي لدمي بها دية ... ملك الفؤاد عَلَيّ أهيفها إن همت فيه هوىً فلا عجب ... بغداد مصر وهو يوسفها يرنوا إليّ بمقلة شربت ... كأساً لديَّ يروق قرقفها لعبت بها النشوات فاترةً ... فكأنّ من شفتيه يرشفها وشقائق بهرت بوجنته ... لا عذر أو بالعين أقطفها فكأنّه شمس يزاحمها ... من وفرة الأصداغ مسدفها ومنه قوله وهو من سوائره الفريدة: وقهوةِ طاب من أرواحها عبق ... فلذَّ مصطبح منها ومغتبق كالشمس تعبث بالنادي أشعّتها ... إذ لاح من وجنة الساقي لها شفق عنيت صهباء قد شيبت بريقته ... أو الّتي من دجى ظلمائها الغسق من كفّ ساق ولكن من لواحظه ... وما أرقّ مداماً كاسها الحدق أرخى على الأبلج القاني غدائره ... فالليل منسدل والصبح منفلق يا جيرة الحيّ من نجران ما ذرفت ... عيناي إلاّ وشبّت في الحشا حرق سقياً لدارك من دار أرقت لها ... وأين منّي لولا عهدها الأرق ومن غرره في التأبين قوله في رثاء أبيه وهي من أوائل شعره: ءأبيَّ كيف تذوق عيني لحظةً ... نوماً وكيف من المدامع تجمد أم كيف قلبي لا يذوب ومهجتي ... كمداً بنار الحزن لا تتوقّد وظعنت عن غضّ النسيم إلى البلا ... ياليت لو أنّي مكانك ألحد وتركت من تحنو عليه رقّةً ... أسفاً يحنّ إلى لقاك وينشد ياللرجال قضى فؤادي نحبه ... وجداً فهل فيكم لقلبي مسعد ويحقّ لي أن لا أراني صابراً ... فالصبر لي من بعده لا يحمد

ومن نظمه في الفخر من العقود المرزية بنظام الدر، قوله عند فراغه من الحج ورجوعه: حمداً لربّ المشعرين فإنّه ... أعلا بزمزم والمقام مقامي فحطمت خائنة المقاول والضبا ... أي والحطيم بمذودي وحسامي وبدرت أمنع جار بيت مكارمي ... حيث امتنعت بذمّة الإسلام ومنه وقد جمع فيه بين الإفتخار والعتاب: أنحن نحنوا عليكم دائم الأبد ... حنوَّ مرضعة ولهى على ولد وإنّكم لم تراعوا حقَّ عهدكم ... بل خنتموه فيا وجدي ويا كمدي ومن هذا الباب قوله في جواب بعض شعراء النجف: بناء الأكارم فيَّ إحتكم ... وشمل المكارم فيَّ انتظم وطبعي من خفة كالنسيم ... ويثقل حلمي كطود أشم فقل لاُناس سعت جهدها ... لتدرك منّي تراب القدم تنحّوا ألم ينهجم عجزكم ... فأين الوجود وأين العدم فما تبلغون مقاماً به ... خدين المعالي عليّ الهمم وقل لأخي الفضل فرع الكرام ... حميد الخصال وفي الذمم تقول ولست بمستعظم ... علوّ مقامي بين الأُمم حلبت لكم لبناً صافياً ... وأنتم حلبتم مشوباً بدم تجرمت جوراً بهذا الكلام ... وإنّي أُجيبك أن لا جرم سأعفو وأصفح عمّا ارتكبت ... ومن شأننا العفو عمّن ظلم ومنه قوله وفيه الإقتباس من القرآن المجيد: يا قاصداً بالكرخ أبحر الندى ... يهنيك منها نهل وعلّ روضة مأمولك من سمائنا ... إن لم يصبها وابل فطلّ ومنه قوله وقد جمع فيه الفخر والتهجين: أبى شرفي عتباً عليك وأنت مَنْ ... علمت فته جهلاً وما شئت فاصنع ويرزي بحقّي بل وبالهجو إنّني ... أذلّك هجواً فالسهى تحت موضعي ومنه قوله مخمّساً لهذين البيتين: ورثت عزمة أسد الغاب عن سلفي ... حتّى أذقت عدوّي منهل التلف بصولتي وأنا ابن التالد الشرف ... تبكي الفوارس والهنديَّ يضحك في يوم الهياج وبالخطيّ تكتحللا غرو إن نال خصمي الرعب والولهُ ... فالسيف عانقه والرمح قبّله بموقف مذ وهبت الجو قسطلهُ ... غنى الحسام بشجو والدماء له خمر وقامت نشاوى ترقص الأسلومن فرائده اليتيمة في باب التهجين، وهو أقلّ شعره، قوله يهجو جماعة: يدعون الإسلام في ظاهر الحا ... ل ولا يعرفون منه المحجّه فعماهم عن الصواب دليل ... لهدانا على الرشاد وحجّه وقوله فيمن اسمه نظام الملك وهو بديع جدّاً: أيدعى نظام الملك من لم يكن له ... نظاماً ولكن كان عاراً على الملك وينسبني منه افتراءً وإنّني ... نصير الهدى والدين جهلاً إلى الشّرك أقول له قولاً يشابه قوله ... بأنّك فينا من ذوي الدين والنسك فقابلته إفكاً بإفك وإن يكن ... لساني قدماً لم يعوَّد عَلَى الإفك ومنه قوله مداعباً بعض خلصائه: أتنسبني جهلاً إلى الخلف عالماً ... بأنّك يا كذّاب أجدر بالخلف ولا عجب ممّن غدى الجهل ألفه ... إذا ما هذى والألف يعرف بالألف ومن مدحه، بل ملحه، وهي في الحقيقة من منحه، قوله ف مدح عمّي (المهدي) عند وفودنا عليه: لولا الهموم الطارقات وإن أكن ... فرغت شطر القلب في ذكراكا لنظمت حبّات الفؤاد فرائداً ... عربيّةً يزهو بها مغناكا لكنّني ماذا أقول وإنّما ... يتحيّر النحرير في معناكا وقال فيه أيضاً: أنور أقاحي الفضل من قد زهت له ... رياض نظام هنّ أبهى من الزهر لقد جزت جوزاء الفضائل والنهى ... وأمسيت بدراً مشرقاً في سما الفخر وقوله وكتب بهما إليّ: نلت أقصى العلا بمجد أثيل ... يا خدّين العلا وقد حزت عزّا أحرز الماهرون منْ بلغاها ... لك من معدن الفصاحة كنزا وقوله يخاطب الشيخ أحمد قفطان الأصم ذاكراً لي: ءأحمد إن كنت لم تسمع ... نداء خدّين المعالي فع لقد فاق في نظمه حيدر ... لبيد الفصاحة والأصمعي وقال يخاطبه أيضاً: أحمد الإسم والمسمّى عديم ال ... ند في المكرمات طلق اليدين إنّما أنت واحد الدهر ثاني ال ... بحر جوداً وثالث القمرين

وكتبت إليه بهذه المقطوعة في شهر جمادي الاُولى سنة 1287: شهدت لنفسك أنّ الكمال ... أتى معها يوم ميلادها كما شهدت لك أُمّ العلا ... بأنّك أكرم أولادها رضعت النجابة في حجرها ... وضمّك أطهر أبرادها فكفّك كعبة معروفها ... ووجهك قبلة قصّادها تكاثر في جانبيك الضيوف ... نجوم السماء بأعدادها تعلّلها وببرد الحديث ... تزيل حرارة أكبادها فتمسي وبشرك عن مائها ... ينوب وخلقك عن زادها فعال أخي كرم أرغمت ... مكارمه أنف حسّادها وذهنك لولم يكن روضة ... لما أتحفتنا بأورادها ترفّ بأنفاسك الطيّبات ... عليها حشاشة روّادها لك الفائقات بنات القريض ... بإنشائها وبإنشادها تودّ الكواعب منها يخط ... طراز الجمال بأجسادها فلو بمذهبها قلّدت ... لزان مفضّض أجيادها ولو بممسكها ضمّخت ... رمت بالغوالي لأضدادها ولو لعواقدها سحرها ... لحلّت به عزم آسادها فأجابني على الوزن والقافية، ولقد أجاد فيما قال: أريحانة العزّ من هاشم ... وفهر وفلذة أكبادها وبدر سماها عزّها المستنير ... وحائز عزمة آسادها وبحر سماحتها المستفيض ... لوفّادها ولورّادها لقد فقت في نثرك ابن الهلال ... أبا بدرها وابن عبّادها وفي شعرك الحكمي الرضي ... أبا طيبها نور أورادها وأبرزت من فكرك الحيدري ... عروساً عديمة أندادها برائق فضلك جلببتها ... فها هي تزهو بأبرادها وقلّدتها بالمعاني الرقاق ... فزنت عواطل أجيادها وطوّقت نحري بها أنعماً ... يكلّ لساني بتعدادها فلو أنّ نفسي غدت مهرها ... لأكمدت أنفس حسّادها زهى ربع أنسى بإنشائها ... ونادى علاي بإنشادها إذا نظرتها عيون الظريف ... تشاهد أسعد أعيادها وأرسل إليّ قصيدة فريدة يطلب منّي تخميسها وهي تعريض بالإستجفاء وتلويح بالعتب عَلَيّ الإبطاء فخمستها وجريت في التخميس مجراه في الأصل لأُمور عتبت بها عليه ثمّ أرسلتها إليه وها هو الأصل والتخميس. عجباً سمرت بذكر غير مسامري ... وسهرت فيمن ليس فيَّ بساهر ولأجل أن يجتاز بين محاجري ... ناديت من سلب الكرى عن ناظري وتجلّدي بقطيعة وفراقودعوت دونك يا صبا بحياته ... عتباً نسيمك كان خير رواته فاستخجلي لي في شذا نفحاته ... من أخجل الغزلان في لفتاته والشمس من خدّيه بالإشراقهبني أقول وما أسألت إقالةً ... يا تاركاً منّي الدموع مذالةً أرأيت قبلك إذ هجرت ضلالةً ... من مال عنّي واستقلّ ملالةً والدمع فيه النهل من آماقيفلو أنّ لي إذ كان هجرك حائحي ... قلباً سواك نبوت نبوة جامح كن كيف شئت فما هواك ببارح ... أُمناي أنت القلب بين جوانحي أُمناي أنت النور في أحداقييا من أقام على الجفاء وما ارعوى ... لا توقدنَّ مكان حبّك بالجوى فعلى سواه فؤاد صبّك ما انطوى ... أُمناي حنَّ إليك من فرط الهوى توقاً فؤاد متيّم مشتاقأيداً بغيرك ما شغفت بفاتن ... وعلى الوفاء أقمت منك لظاعن ألهيتني عن أن أهيم بشادن ... وغدا الجوى ألفي وليس فداوني غير الوصال لدائه من راقيرفقاً بصب في هواك معذّب ... لك في عوير حشاه أحسن ملعب يدعوك دعوة خائف مترقّب ... هلاّ ترقّ لمدنف متجلبب بردا العفاف رمية الأشواق بالوصل خلتك قد برقت إثابةً ... فمطرتني هجراً وكنت سحابةً أوما كفاك بأنْ أشفَّ كآبةً ... فحشاشتي ذابت عليك صبابةً والعين ترعف بالدم المهراقأنا في هواك قطنت أولم تقطن ... كلف حسنت لديك أو لم أحسن يا ثالث القمرين صل وتبيّن ... إن كنتَ فرداً في الجمال فإنّني تالله فيك لواحد العشّاقوانظر لنفسك إن أردت تحوّلا ... أيليق غير حشاشتي من منزلا أنت المنير السعد شمس ضحى الملا ... وأنا الأثيل المجد بدر سما العلى فرع المكارم طيّب الأعراقمن دوحة في المجد طاب نماؤها ... لبني الزمان مظلّة أفيائها

أنا من عليه تجمّعت أهواؤها ... فإذا الملا اضطربت بها آراؤها لعظيمة كشفت لهم عن ساقأوضحت مشكلها بأوّلِ نظرة ... وفتحت مقفلها بأسرع خطرة ما زلت إن ظلّ الأنام لخبرة ... أهديهم نهج الصواب بفكرة كالشمس مشرقة على الآفاقشهدت لي الدنيا غداة أتيتها ... أنّي نهضت لأهلها فكفيتها فإذا بها التوت الخطوب لويتها ... وإذا السنون تتابعت أوليتها من راحتيَّ بوابل مغداقوإذا القنا انتظمت نثرت عقودها ... بيد تحلّ طلى العدى وبنودها وإذا الظبا ازدحمت ثنيت حدودها ... وإذا الوغى استعرت أذقت أسودها طعم الحمام على متون عتاقألقى الوفود بطلعة ميمونة ... ويد بربح ثنائها مفتونة تثني العدى في صفقة مغبونة ... بأسنّة خطّيّة مسنونة وصوارم صمّ الشفار رقاقحاربت بالهجران من لك سالما ... حتّى كانا كأشجان تظالما بك لبست لأوابيك أعدل عالما ... فلئن وصلت أخا الهو فطالما كنت الحريَّ بأكرم الأخلاقأفبعد صدق مودّة لم تمنن ... تجفو وتكذب ظنَّ من لم يظنن فلئن لحظتَ فأنت عين المحسن ... ولئن أقمت على الجفاء فإنّني أشكوك مبتهلاً إلى خلاّقيمتحرّك شوقي لمن هو ساكن ... أدعوه وهو مع التجنّب بائن أين المودّة والوفاء معادن ... فأجابني خجلاً ودادك كامن بحشاي خيفة عامد لنفاقشوقي لوصلك يابن أكرم ماجد ... صلتي إليك وأنت أكرم عائد فتصفّح الدعوى بفكرة ناقد ... والقلب منك وسله أعدل شاهد لي المودّة والقلوب سواقيما مالني لهوىً به استانفته ... عوداً كما بدءً عليه الفته والصدق فيما يدّعيه عرفته ... فلثمته في فيه ثمّ رشفته وجذبته وضممته لعناقودعوت وصلك لي نهاية بغيتي ... فلقد حفظت عليَّ فيه بقيّتي بشراي فزت بمن يشاق لرؤيتي ... وطفقت أنشد نلت غاية منيتي يا حبّذا لو أنّ وصلك باقي أقول: هذه نبذة يسيرة من نظم هذا الهمام، الذي برع في فنونه وهو غلام، ولعمري ما هذه نغمات شاعر، بل نفثات ساحر، فلا أدري بأيّة لحظة يوفي النظم والنثر حظّه، وقد نيطت إليه حين ترعرع أمور يقصر العدّ عنها، إذ هو مركز رياستها، وجماع سلسلة سياستها، يقري الضيوف، ويؤمن المخوف، ويصطنع المكارم، ويفرّج العظائم، ويحمل المغرم، ويوضح من الرأي ما استبهم، بين حلّ وعقد، وعكس في القضايا وطرد، فالعيون إليه محدقة، والنفوس بأجنحة الآمال إليه محلقة، وكلّها ألسن تنشده: يا أيّها المولى الذي ... تبهى به الرتب الجليله وكلامه سحر وأس ... حر منه فطنته الجميله ما جود كفّك والرجا ... إلاّ الغدير سقى الخميله راجي سواك يحزّ لا ... في مفصل بمدى كليله ففداء همّتك الصحي ... حة في الندى الهمم العليله كرمٌ كغادية السحا ... ئب يمطر النعم الجزيله على أنّ هذه النجعة من نثره، واللمعة من شعره، من نتائج صباه، ونسائج شبيبته، فكيف يكون لو امتدّ به العمر، فتنقل في الرتب العاليه، بهمم نامية: وما مرّ يوم جديدٌ عليه ... إلاّ وبان بفضل جديد وسأثبت له في خاتمة الكتاب من محاسن النثر وفنون النظم ما يبهر الشعراء والكتّاب. ولنختم هذه المقدّمة بذكر ما ورد في الحثّ على اكتساب الآداب: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: عليكم بالآداب فإن كنتم ملوكاً برزتم، وإن كنتم وسطاً فقتم، وإن أعوزتكم المعيشة عشتم بأدبكم. وقال: لا تتّكلوا على البخت فربّما لم يكن وربّما كان وزال، ولا على الحسب فطالما كان بلاءً على أهله، يقال للناقص هذا ابن فلان الفاضل فيتكامل غمّه وعاره، ولكن عليكم بالعلم والأدب، فإنّ العالم يكرم وإن لم ينتسب، ويكرم وإن كان فقيراً، ويكرم وإن كان حدثاً. وقال: الأدب عند الأحمق كالماء العذب في أصول الحنظل، كلّما ازداد ريّاً زاد مرارةً. وقال الأصمعي: بينا أنا في المسجد إذا أعرابيٌّ يقول: أيّها الناس تعلّموا الأدب فإنّه زيادة في الفضل، ودليل على العقل، وصاحب في الغرابة، وأنيس في الوحدة، وصلة في المجلس، ورياسة في الناس. فقلت: يا أعرابي، أما من حجّة؟ قال: بلى، وأنشأ يقول:

تعلّم فليس المرء يولد عالماً ... وليس أخو علم كمَنْ هو جاهل وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغيرٌ إذا التفّت عليه المحافل وقال آخر: لكلّ شيء حسن زينةٌ ... وزينة العاقل حسن الأدب قد يشرف المرء بآدابه ... فينا وإن كان وضيع النسب وكان يقال: حسن الأدب خلفٌ من الحسب. وسمع معاوية رجلاً يقول: أنا الغريب، فقال له: الغريب من لا أدب له. وقال بعض الشعراء: قد كانت الآداب في دهر ... تعلّم النّاس فعال الكرام فصارت الآداب في عصرنا ... تفيد ما يأنف منه اللئام وقيل لبعض الحكماء: أخبرنا عن دعائم الحكمة، فقال: هي أربع: العقل والعلم والمعرفة والأدب. وقيل: حليّ الرّجال الأدب، وحليّ النّساء الذهب. وقالت الحكماء: الأدب أشرف النسب. وقالوا: قد يستغنى بالأدب عن الحسب. وقال سيبويه: تكلّم رجل من أهل الأدب بين يدي المأمون، فقال له: ابن من تكون؟ فقال: ابن أدب، أعزّ الله الأمير، فقال له: نعم النسب الذي انتسبت له. وسمع بعض الأعراب رجلاً يتكلّم في فنّ الآداب، فازدراه لمّا اراد الكلام معه لخساسة حاله، فقال: مالكم يا عبدة الثياب ويا شياة الذئاب حقّرتموني لأطماري ولم تسألوني عن مكنون أخباري؟! وقدم عبد الملك بن صالح بن عليّ بن عبيد الله بن عباس من الرقة بعد خروجه من الحبس، وقد ولاّه الأمين الشام والجزيرة والعواصم، فلقيه ولد أبيه، فلم يرهم أُدباء، فقال: سوأةً لكم يا شرّ خلف من خير سلف، أبتزّ العزّ من أُميّة آبائكم قسراً، وحضوه وحاطوه ثمّ مضوا إلى رحمة الله وخلّفوا لكم فرشاً ممهّدةً، فأهملتم وضيّعتم إقبالاً على الأشربة الخبيثة الملاهي الفاحشة. لله درُّ أخي كلاب حيث يقول: إذا الحسب الرفيع تواكلته ... ولاة السوء أوشك أن يضيعا ورثنا المجد عن آباء صدق ... أسأنا في ديارهم الصنيعا وقال عبد الملك: لقد استهتر أحداثنا باللذّات، وشغلوا بالشهوات، وبطروا النعم، وأضاعوا الكرم، فصاروا كما قال عبد الرّحمان بن حسان بن ثابت: إنّي رأيت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا حرَّ الثياب وتشبعوا فإذا تذوكرت المكارم مرّةً ... في مجلس أنتم به فتقنّعوا تمّت مقدّمة الكتاب بعونه تعالى، فلنشرع بذكر الأبواب، وهي مرتّبة على حروف الهجاء، متضمّنة ذكر ما أنشأته أنا وعمّنا المهدي فيه وفي أبيه وإخوته والأماجد من قبيلته، وأذكر في الأثناء ما اشتملت عليه تلك القصائد من الأنواع البديعية، والمطالب الأدبيّة، والبعض من تراجم من يجيء له ذكر في أثناء ذلك الشعر، وليعلم أنّ هذه الأبواب المشيّدة البناء ليستدعي فتح أقفالها المحكمة ذكر نبذة من ترجمة ابيه وإخوته ليعلم بذلك أنّ هذا العرق في أيّ طينة وشج، وبأيّ أعراق لفّه الشرف فانتسج: كان أبوه محمّد الملقّب ب "الصالح" ديمة منن ومنايح يباري النجوم، ويجاري الغيوم، فيباهي تلك مناقب، ويضاهي هذه مواهب، بل أين غيوث السماء من سما يده البيضاء، وهي في استهلال عواديها كما قلت فيه وفيها: صدقتْ بروقك والبوارق خلّبٌ ... وأضاءَ بشرك والزمان مقطّب لا قسمت كفّك بالسحاب مساوياً ... بالجود بينهما مخافة أكذب فالسحب يحلبها النسيم وكفّك ال ... بيضاء طبعاً جودها يتحلّب وكان مع خطره وعظمه في النفوس، حلو البشاشة، طيّب المفاكة، سهل الخليقة، حسن السمت، يديم اصطناع المعروف، ويتابع للعفاة برّه الموصوف، ولقد بنى في الزوراء دار كرم بيد مجده، لإضافة وفده، فخمد ركب الآمال فيها مناخه، وربى طائر الرجاء فيها أفراخه، ولم يكفه ذلك حتّى بنى على كواهل الطرق حصوناً منيعة، وبيوتاً رفيعة، يريح إليها السفر، ويأمن فيها غائلة القفر، وما برح شاغلاً أوقاته بأداء نفل أو قضاء فرض، وما انفكّ عن عمل الصالحات وتربية العلم وطلاّبه أجمع، وتشييد بيوت أذن الله أن ترفع، حتّى سافر إلى نعيم الآخرة، ولم تدنّس الدنيا بعلائقها أثوابه الطاهرة، كانت ولادته 1201، وقد أرّخت ذلك العام، وإن لم أدركه، بقولي: أتى اليوم خاتم أهل النهى ... على أنّه للندى فاتح أغرّ غدا السعد لمّا استهلّ ... وهو لغرَّته ماسح

وهنّى به المجد وفّاده ... وبشَّرها الشرف الواضح فقالوا جميعاً وقد أرّخوا ... نرى ولد الخلف الصالح عاش ستّاً وثمانين سنة، وتوفي سنة 1287، فانهدّت لمماته قواعد الزوراء، وحمل باحتفا عظيم إلى النجف الأشرف، ودفن حيث قبور أُسرته اليوم، وأرّخت عام وفاته بقولي: إن يطو مصباح المكارم ضارح ... فلقد أضائت في علاه مصابح ملك له الشرف الرفيع مشيّع ... وعليه حتّى المكرمات نوائح شكت العفاة لدائه لمّا شكى ... وقضى فالخد والقلوب ضرائح مَنْ جاره هود دعاه فأرّخوا ... أسعد جوارك ذا محمّد صالح أنجب هذا الماجد أولاداً أكبرهم: المهدي، ولد سنة 1219، وكان مذ ترعرع فريد زمانه، في كرمه وإحسانه، وواحد عصره فيى شرف نفسه وفخره، قد برع في البلاغة والفصاحة، واشتهر من كرم أخلاقه بالسجاحة والسماحة، جامعاً بين نباهة الذكر، وجلالة القدر، عاش اثنين وخمسين عاماً، وتوفي في حياة أبيه سنة 1271، وقد أرّخت عام وفاته بقولي: ألا بكّر الناعي بثاو بنانه ... توسّده المعروف تحت ثرى اللحد وعاش الهدى فيه ومات بموته ... فأرّخ معاً غاب الهدى وهو المهدي واستقلّ بعده بجميع تلك التكاليف وتدبير أموره الزعامة أخوه محمّد الملقّب ب "الرضا"، ولد سنة 1245، وكان أرقّ طبعاً من الهواء، وأطهر من ماء السماء، إن سكت فوقار مهاب، وإن نطق ففصل خطاب، توفي في حياة أبيه الصالح أيضاً سنة 1282، وقد أرّخت عام وفاته بقولي: وقف المجد ناعياً عند قبر ... وارت المكرمات فيه حشاها ودعا أنت جنّة قلت أرّخ ... طاب مأوى نعيمها لرضاها ثمّ انتهت بعده الرياسة في تلك المكارم إلى أخيه المصطفى، وكانوا كما قال الناظم: نجوم سماء كلّما انقضّ كوكب ... بدى كوكب تأوي إليه الكواكب ولد هذا الماجد سنة 1255، وها هو اليوم قمر دارة المجد، وقطب دائرة الثناء والحمد، تشدّ إليه الرحال، وتكثر عليه مزاحمة الآمال. أمّا أخوهم محمّد الملقّب ب "الحسن" المعنيّ في هذا الكتاب فقد ولد سنة 1269 ولا غرو أن أستمل الفكر حتّى يمل، وأستنطق لسان القلم حتّى بكل، في ذكر مناقب هذا الهمام الماجد، ولعمري إنّ مناقبه في الإنارة لتباهي الكواكب السيّارة، علم جم، وأدب وافر، وفضل باهر، وشرف نفس، وعلوّ جدّ، وصراح حسب، وصريح مجد، وببشاشة ونبل، مع طلعت ميمونة، ووجه أنقى من صفحة مرآة، وعرض أملس من صفاة، ولقد رأى ولرأيه الإصابة، أن لا يؤثر خبر الجود إلاّ عمّن أنسى عرابه، ولا يقال جلى في حلبه المكارم وإلاّ من غبر في وجه حاتم، فصقل بجوده حسبه، وأشاع له فرنداً تقتبس المكارم من أشعّته الملتهبة، وبالآخرة أقول أنّ مناقب هذا الهمام لا تحصى، ومزاياه الحميدة لا تستقصى، ولا أقول فيها ما قال أبو تمام: إذا شئت أن تحصى فضائل كفّه ... فكن كاتباً أو فاتّخذ لك كاتباً فلقد عيب عليه ذلك لما جاء عن الحكماء: لا خير في المعروف إذا أُحصي. وقال بعضهم: إذا أحصي المعروف فقد حصر، وإذا حصر فقد وقف على غاية، ولا يكون ذلك إلاّ مع القلّة. وقال أبوبكر الصولي على تعصّبه لأبي تمام وتفضيله له: إنّ هذا البيت لم يقع له جيّداً. أقول: وربّما يعتذر له بتخريج معنىً وإن كان بعيداً وذلك أن يقال إنّه أراد بلفظتي "كاتب" في البيت "المَلَك الحفيظ" مبالغةً في كثرة فضائل كفّه حيث جعل إحصائها غير ممكن للبشر، بل لا يحصيها إلاّ الملك الحفيظ أو من شأنه أن يتّخذ كاتباً بهذا المعنى، فهو يقول لمن يخاطبه: إذا أردت إحصاء فضائل كفّه فذلك متعذّر عليك إلاّ أن تكون من الحفظة الكاتبين أو تتّخذ لك كاتباً منهم لأنّ إحصائها خارج عن طوق البشر، ولعلّ هذا المعنى أليق وأنسب بالبيت الذي قبله وهو: لو اقتسمت أخلاقه الغرّ لم تجد ... معيباً ولا خلقاً من النّاس عائبا لأنّه جعل حسن أخلاقه يفضل على جميع الناس لو اقتسمتها، فكيف يجعل واحداً منهم يحصي فضائل كفّه؟ وممّا يبعث انقداح المعنى الذي ذكرناه في الذهن قول أبي الطيب المتنبّي، وكأنّه نظر إليه فقال: خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمنّي من ثناك الواجبا فلقد دهشت لما فعلت ودونه ... ما يدهش الملك الحفيظ الكاتبا

ألا تراه كيف لمحه على أنّه لم يرض بإحصاء الملك الكاتب لفعله، بل جعله يندهش بدونه وهو بعضه فضلاً عن استطاعته كلّه. هذا ولا بأس بتوشيح هذا المقام بذكر ما يؤثر من الأخبار عن بعض الكرام: قال معاوية لعرابة الأوسي: بم سدت قومك؟ قال: لست بسيّدهم ولكنّي رجل منهم. قال: عزمت عليك إلاّ أخبرتني. قال: أعطيت في نائبتهم، وحلمت عن سفيههم، وشددت على يدي حليمهم، فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن قصر عنّي فأنا أفضل منه، ومن جاوزني فهو أفضل منّي. وكان هرم بن سنان المرّي قد آلى على نفسه أن لا يسلم عليه زهير بن أبي سلمى إلاّ وأعطاه غرّة من ماله؛ فرساً أو ناقة أو عبداً أو أمةً، فأضرّ ذلك بهرم وقدح في حاله، فجعل زهير يمرّ بالجماعة فيهم هرم فيقول: عموا صباحاً خلا هرم، وخيركم تركت. وعن أبي عبيدة قال: مرّ حاتم الطائي ببلاد عنزة فناداه أسير في أيديهم: يا أبا سفانة! قتلني الأسار والقمّل، فقال له: ويحك والله لقد أسأت إذ نوّهت باسمي في غير بلاد قومي ومالك مع ذلك منزل، ثمّ نزل فشدّ نفسه مكانه في القيد ثمّ أطلقه فلم يزل في الأسر إلى أن عرف خبره ففداه أهله. وقال الأعشى: أتيت سلام ذا فائش فأطلت المقام ببابه حتّى وصلت إليه بعد مدّة، فأنشدته: إنّ محلاًّ وإنّ مرتحلا ... وإنّ في جود من مضى مثلا إستأثر الله بالوفاء وبال ... عدل وولّى الملامة الرّجلا والشعر قلّدته سلامة ذا ... فائش والشيء حيثما جعلا فقال: صدقت، الشيء حيثما جعل، وأمر لي بمائة من الإبل، وكساني وأعطاني كرشاً مدبوغة مملوّة عنبراً فبعتها بثلاثمائة ناقة حمراء. وقال أبو عمرو بن العلاء: قدم عبد القيس ابن خفاف البرجمي على حاتم بن عبد الله الطائي في دماء حملها، فقام ببعضها وعجز عن بعض، فقال: يا أبا سفانة إنّي حملت دماء عوّلت فيها على مالي وآمالي؛ فقدّمت مالي وكنت أكبر آمالي، فإن تحمّلتها فكم من حقّ قضيت وهمٍّ كفيت، وإن حال دون ذلك حائل لم أذمّم يومك ولم أيأس من غدك، فحملها حاتم جميعها عنه، فأنشأ البرجمي يقول: يعيش الندى ما عاش حاتم طيىء ... فإن مات قامت للسخاء ماتم يفيد الذي فيه الغنا وكأنّه ... لتحقيره تلك العطيّة خادم وقال النوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض وأغبر أُفق السماء وضنّت المراضع على أولادها وجلفت المال وأيقنّا بالهلاك، فوالله إنّا لفي ليلة صنبرة بعيدة مابين الطرفين وصبيتنا يتضوّرون من الجوع؛ عبد الله، وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيّين وقمت إلى الصبية فوالله ما سكنوا إلاّ بعد هدأة من الليل، فأقبل يعلّلني بالحديث فعلمت ما يريد، فتناومت، فلمّا توارت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت، فقال حاتم: من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون عواء الذئاب، فما وجدت معوَّلاً إلاّ عليك أبا عديّ، فقال: عجّلي بهم فقد أشبعك الله وإيّاهم، فمضت وجائت تحمل اثنين وتمشي خلفها أربعة كأنّها نعامة حولها رئالها، فقام حاتم إلى فرسه فوجأ لبّته ثمّ كشط جلده عنه ودفع المدية إلى المرأة وقال: شأنك، قالت النوار: فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، وجعل يأتي الحي بيتاً بيتاً فيقول: هبوا أيّها النيام عليكم النّار، فاجتمعوا عليه والتفع هو بثوبه ناحية ينظر إلينا حتّى فرغنا ولم يذق منه مزعةً وإنّه لأجوع إليه منّا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلاّ عظم وحافر، فأنشأ يقول: مهلاً نوار أقلي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا يرى البخيل سبيل الجواد واحدة ... إنّ الجود يرى في ماله سبلا وذكر صاحب الأنيس والجليس: أنّه وقف رجل على باب خمارويه بن أحمد بن طولون سنةً كاملة لا يقدر على الوصول إليه، فأرق ذات ليلة خمارويه فقال لغلامه: أخرج وانظر من بالباب من الشعراء، فخرج فوجد ذلك الرجل الشاعر فأدخله، فلمّا مثل بين يديه وسلّم عليه قال: يا أخا العرب هات ما عندك، فقال: أيّها الملك، إنّ لي اليوم سنة كاملة لم أقدر على الدخول إليك وقد قلت فأكثرت، ومدحت فأطنبت غير أنّني جائني بالأمس كتاب من امرأتي من بغداد ورددت جوابه. فقال: وماذا كتبت إليك؟ وماذا رددت جوابها؟ فقال شعراً: كتبت تبتغي الإياب وتوصي ... ني بتعجيله أشدّ وصيّه

وشكت علّة إليّ وقالت ... عُدْ إلينا ولو بغير هديّه قد لبسنا ثوب التجمّل من بع ... دك حتّى لم تبقَ فيه بقيّه فإلى كمْ تغيب والغائب النا ... زح يخشى عليه صرف المنيّه أتزوّجت أم أصبت بمصر ... غضةً بضة البنان صبيّه فتشاغلت عن عيون تراعي ... ك على البعد بكرةً وعشيّه فرددت الجواب مهلاً فإنّي ... سوف آتيك منه بالأُمنيّه بألوف من الدنانير حمر ... من خمارية ومن أحمديّه قال: إذ ضمنت لها ذاك يا أخا العرب لأعجلنّ سراحك إليها، ولألفينّ لك ضمانك لها، يا غلام، عَلَيّ بألف دينار من ضربي وثلاثة آلاف من ضرب أبي، فأُتي بها. قال الأعرابي: فضممتها وخرجت مسرعاً فلم أشعر إلاّ والخادم في أثري قد لحقني فقال: إرجع، فرجعت إليه وظننت أنّه يستعيدها منّي، فلمّا وقفت بين يديه قال: يا أخا العرب إنّك ضمنت لها الوفاء في شعرك ثمّ ذكرنا أنّه لابدّ من النفقة في الطريق لتصل إليها بغير ما ضمنته لها، يا غلام، سلّم إليه خمسة آلاف أخرى، فضممتها وخرجت مسرعاً فلم أشعر إلاّ والخادم في أثري قد لحقني وقال: إرجع، فرجعت إليه فلمّا وقفت بين يديه قال: يا أخا العرب إنّها تذكر لك: أتزوّجت أم أصبت بمصر ... غضة بضة البنان صبيّه وقد أردت أن أحقّق ظنّها فيك، يا غلام، سلّم إليه جارية بخمسمائة دينار وجهّزها بمثلها، قال: فضممتها المال والجارية وانصرفت في أحسن حال وأنعم بال. وعن العتبي قال: اجتمعنا بباب أبي دلف العجلي أربعمائة شاعر وزائر، فكان يعدنا بمال الكرج، فبينما نحن ذات يوم عزين فى يمحالسنا إذ مرّت بنا الجمال عليها الأحمال، فقلنا: ما هذا؟ فقيل: مال الكرج، فتباشرنا ووافينا بابه من الغد، فإذا بالباب قد فتح وبالنطوع قد بسطت وشققت عليها البدر، فكانت أنانبير دراهم ودنانير ووضع لنا أربعمائة كرسي، ونادى مناديه: ليجلس كلّ رجل على كرسي، فلمّا أخذنا مجالسنا خرج علينا أبو دلف في حلّة حمراء متقلّداً سيفاً، فوضع قائم سيفه بالأرض واتّكأ عليه وأنشأ يقول: أيا معشر الزوّار لا يد عنكم ... أياديكم عندي أجلّ وأكثر كفاني من مالي جواد ونثرة ... وأبيض من صافي الحديد ومغفر ثمّ ولّى عنّا وقال: شأنكم والمال، فانتهبناه وحمل كلّ واحد منّا على قدر طاقته. وقال أبو العبّاس الشيباني: وفد على أبي دلف عشرة من ولد علي بن أبي طالب عليه السلام في العلّة التي مات فيها، فأقاموا شهراً لا يؤذن لهم من شدّة العلّة التي كانت به، فوجد منها راحةً يوماً فقال لبشر الخادم: نفسي تحسّ أنّ بالباب قوماً لهم إلينا حوائج، فافتح ولا تمنعنّ أحداً. قال: فدخلوا إليه وسلّموا عليه، ثمّ ابتدر رجل من ولد جعفر الطيّار فقال: أصلحك الله، إنّا قوم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفينا من ولده، وقد حطمتنا السنون وأجحفت بنا النوائب، فإن رأيت أن تجبر كسرنا وتنفي فقرنا فافعل. فقال للخادم: خذ بيدي وأجلسني، فأجلسه ثمّ أقبل عليهم متعذراً إليهم ودعا بدواة وقرطاس وقال: ليأخذ كلّ واحد منكم فليكتب بخطّه أنّه قبض منّي ألفي دينار. قال: فبقينا متحيّرين عند قوله، ولمّا كتبنا الرقاع وضعناها بين يديه، فقال للخادم: عَلَيّ بمال كذا وكذا، فوزن لكلّ واحد منّا ألفي دينار، فلمّا قبضناها قلنا: أيّها الأمير، نفديك بالآباء والأُمّهات، والله ما لنا مال ولا عرض دنيا فخطوطنا ما تصنع بها؟ قال لخادمه: أُنظر يا بشر إذا أنا متُّ فاجعلها في أكفاني وذلك أنّي إذا لقيت جدّكم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم غداً في عرصة القيامة توسّلت إليه بأنّي قد أغنيت عشرة من ولدك، يا غلام، إدفع لكلّ واحد منهم ألف درهم زيادة إلى ما معه حتّى لا ينفقوا في الطريق شيئاً ممّا أعطيناهم، ثمّ قال: ألحقوا بأهاليكم بارك الله فيكم. وذكر أنّ جاراً لأبي دلف ركبه دين فادح حتّى احتاج إلى بيع داره، فساوموه بها فطلب ألفي دينار، فقالوا: إنّها تساوي خمسمائة دينار، قال: وجوار أبي دلف بألف وخمسمائة، فبلغ ذلك أبا دلف فأمر بقضاء دينه وقال: لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا. وروي ما هذا مضمونه أنّ بعض الشعراء امتدح ابن العلاء، فلمّا أنشده:

دع العيس تذرع أرض الفلا ... إلى ابن العلاء وإلاّ فلا أمر له بألف دينار وقال: حسبك من الإنشاد فإنّه يلزمنا لكلّ بيت ألف دينار وما في خزانتنا ما يفي بذلك. ووقف أعرابي على مروان بن الحكم أيّام الموسم بالمدينة فسأله، فقال: يا أعرابي ما عندنا ما نصلك به ولكن عليك بابن جعفر، فأتى الأعرابي باب عبد الله بن جعفر فوجد ثقله قد صار نحو مكّة وراحلته بالباب عليها متاعه وسيف معلّق، فخرج عبد الله، فأنشأ الأعرابي يقول: أبا جعفر إنّ الحجيج ترحّلوا ... وليس لرحلي فاعلمنَّ بعير أبا جعفر ضنَّ الأمير بماله ... وأنت على ما في يديك أمير وأنت امرؤ من هاشم في صميمها ... يصير إليك الجود حيث تصير فقال: يا أعرابي! صار الثقل فدونك الراحلة بما عليها، وإيّاك أن تُخْدَعْ عن السيف فإنّي أخذته بألف دينار، فأنشأ الأعرابي يقول: حباني عبد الله نفسي فداؤه ... بأعبس مهريّ سباط مشافره وأبيض من ماء الحديد كأنّه ... شهابٌ بدا والليل داج عساكره وكلّ امرء يرجو نوال ابن جعفر ... سيجري له باليمن والسعد طائره سأثني بما أوليتني يابن جعفر ... وما شاكر عرفاً كمن هو كافره ودخل أبوالدهماء العنبري على جعفر بن سليمان، وكان قد مدحه قبل ذلك بمدّة يسيرة ووصله بصلة سنيّة، فأنشده: ما زال عودي في ثرىً ثريّ ... مورّقاً من سيبك الوسميّ حتّى إذا ما همَّ بالذويّ ... جئتك واحتجت إلى الوليّ وما غنيّ عنك بالغنيّفضحك جعفر وقال: ما مللناك فلا تملنا، وعد إلينا متى شئت، وأجزل عطيّته وصلته. وقال أبوالشبل: حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان إليّ محسناً وعَلَيّ مفضّلاً، فجرى ذكر البرامكة، فوصفهم الحاضرون فأطنبوا في ذكر سماحتهم وفضلهم، فقمت في وسط الناس وقلت لعبيد الله: أيّها الوزير! قد حكمت في هذا الأمر حكماً نظمته في بيتَي شعر لا يقدر أحد أن يردّه عَلَيّ، وإنّما جعلته شعراً ليبقى ويدوّن، أفيأذن الوزير بإنشادهما؟ فقال قل، فربَّ صواب قلته، فأنشدت: رايت عبيد الله أفضل سؤددا ... وأكرم من فضل ويحيى بن خالد أولئك جادوا والزمان مساعد ... وقد جاد هذا وهو غير مساعد فتهلّل وجه عبيد الله وظهر فيه السرور وقال: أفرطتَ، قلت: ولا كلّ هذا قضيت، والله ما حابيتك أيّها الوزير، وما قلت إلاّ حقّاً، وأتبعني القوم في وصفه وتقريضه، فما خرجت من مجلسه إلاّ وعَلَيّ الخلع وتحتي فرس بسرجه ولجامه، وبين يديَّ خمسة آلاف دينار. وعن أبي الشبل قال: دخل العتابي على عبيد الله بن طاهر فأنشده: جسم ظنّي وحسن ما عوّد الله ... سوائي منك الغداة أتى بي أيُّ شيء يكون أحسن من حسن ... رجاء حدا إليك ركابي فأمر له بجائزة، ثمّ دخل عليه من الغد فأنشده: جودك يكفينيك في حاجتي ... ورؤيتي كافيتي عن سؤال وكيف أخشى الفقر ما عشت لي ... وإنّما كفاك لي بيت مال فأمر له بجائزة، ثمّ دخل عليه في اليوم الثالث فأنشده: بهجات الثياب يخلقها الدهر ... وثوب الثناء غضٌّ جديد فأكسني ما يبيد أصلحك الله ... فإنّي أكسوك ما لا يبيد فأجازه وخلع عليه. وقدم على يزيد بن المهلّب رجل من قضاعة فأنشده: مالي أرى أبوابهم مهجورة ... وكأنّ بابك مجمع الأسواق أرجوك أم خافوك أم شاموا الغنى ... بيديك فانتجعوا من الآفاق إنّي رأيتك للمكارم عاشقاً ... والمكرمات قليلة العشّاق ولّيت أنعمك البلاد فأصبحت ... تجبى إليك مكارم الأخلاق فأمر له بألف دينار، فلمّا كان العام المقبل وفد إليه فأنشده: والله ما أدري إذا ما فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلّب ولقد ضربنا في البلاد فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب فاصبر لعادتك التي عوّدتنا ... أو لا فأرشدنا إلا مَنْ نذهب فأمر له بألف دينار، وقال: إنّا صابرون على عادتك، فعد متى شئت.

وذكر أنّ عمر بن هبيرة الفزاري أشرف من قصره فإذا هو بأعرابي يحثّ بعيره، فقال لحاجبه: لا تحجب هذا الأعرابي عنّي، فلمّا دنى سأله الحاجب عن شأنه، فقال: إنّي وفدت على الأمير، فأدخله إليه، فلمّا مثل بين يديه قال له عمر: ما خطبك يا أعرابي؟ قال: أصلحك الله قلّ ما بيدي ... ولا أُطيق العيال إذ كثروا أناخ دهري عَلَيّ كلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا قال: فأخذت عمر الأريحيّة فجعل يهتزّ في مجلسه ويقول: أرسلوك وانتظروا؟ إذاً والله لا تجلس حتّى ترجع إليهم، ثمّ أمر له بألف دينار وردّه من ساعته على بعيره. وكتب معاوية لمروان بن الحكم يأمره ببيع دور كثير بن الصلت لغرمائه، قال كثير: ففكآرت بمن أذهب إليه فلم أجد مثل قيس بن سعد بن عبادة، وكانت بيني وبينه هجرة، فتحاملت على الذهبا إليه على ما كان بيني وبينه على ما أعلمه من كرمه واحتماله، فلمّا رآني رحّب بي وأدناني وقال: ما الذي أتى بك إلينا؟ فأعلمته بالذي يراد من بيع دوري لغرمائي، وإنّي تذكّرت من أفزع إليه فلم أجد أحداً سواه، فسرَّ بذلك وقال: قد أصبت بالذي قد فعلت، كم دينك؟ قلت: تسعون ألف درهم، فأعطاني إيّاها، فأصبحت فقضيت النّاس الأوّل فالأوّل حتّى لم يبق عَلَيّ شيء ثمّ يسّر الله تعالى بعد ذلك فأتيته بها وجزيته خيراً، فقال: والله ما كان ليرجع إليّ شيء خرج منّي في ذمّة الله عزّوجلّ، فردّها عَلَيّ ولم يقبلها. وذكر بعض الروات أنّ مالك بن طوق بينا هو جالس في بهو مطلّ على رحبته ومعه جلساؤه إذ أقبل أعرابي تخدّ به راحلته، فقال: ما أقدمك يا أعرابي؟ قال: الأمل في سيب الأمير، والرجاء لنائله. قال: فهل قدّمت أمام رغبتك وسيلة؟ قال: نعم، أربعة أبيات قلته بظهر البريّة، فلمّا رأيت ما بباب الأمير من الأُبّهة والجلالة استصغرتها. قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك ولك أربعة آلاف درهم، فإن كانت أبياتك أحسن فقد ربحنا عليك وإلاّ فقد نلت مرادك وربحت علينا؟ قال: قد رضيت، وأنشده: وما زلت أخشى الدهر حتّى تعلّقت ... يداي بمن لا يتّقي الدهر صاحبه فلمّا رآني الدهر تحت جناحه ... رأى مرتقىً صعباً منيعاً مطالبه رآني بحيث النجم من رأس باذخ ... تظلّ الورى أكنافه وجوانبه فتىً كسماء الغيث والناس دونه ... إذا أجدبوا جادت عليهم سحائبه فقال مالك بن طوق: قد ظفرنا بك يا أعرابي، ما قيمتها إلاّ عشرة آلاف درهم. فقال الأعرابي: إنّ لي صاحباً شاركته فيها ما أراه يرضى ببيعي. قال: أظنّك حدّثت نفسك بالنكث؟ قال: نعم، وجدت النكث في البيع أسهل من خيانة الشريك، فضحك مالك منه وأمر له بالعشرة آلاف درهم. وقيل: أتى عبيد الله بن العبّاس رجل من الأنصار فقال له: يابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد الليلة لي مولود وقد سمّيته باسمك تبرّكاً بك، وإنّ أُمّه ماتت، فقال له عبيد الله: بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثمّ دعا بوكيله وقال: إنطلق الساعة فاشتر للمولود جاريةً تحضنه، وادفع للرّجل مائتي دينار للنفعة على تربيته، ثمّ قال للأنصاري: عد إلينا بعد فإنّك أتيتنا وفي العيش يبس وفي النفقة قلّة. فقال الأنصاري: جعلت فداك والله لو سبقت حاتماً بيوم واحد ما ذكرته العرب، ولكنّه سبقك فصرت له تالياً وأنا أشهد أنّ عفو جودك أكثر من مجهوده، وطلّ كرمك أغزر من وايله. وأتاه سائل وهو لا يعرفه، فقال له: تصدّق فإنّي نبّئت أنّ عبيد الله بن العبّاس أعطى سائلاً ألف درهم وهو لا يعرفه واعتذر إليه، فقال له: وأين أنا من عبيد الله بن العبّاس؟ قال له: أين أنت منه في الحسب أو في كثرة المال؟ قال: فيهما جميعاً. فقال: أمّا الحسب في الرجل فمروّته وفعله فإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً، فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق نفقته، فقال له السائل: إن لم تكن عبيد الله فأنت خير منه، وإن كنت إيّاه فأنت اليوم خير منك أمس. وذكر صاحب الأنيس والجليس أنّ شاعراً وقف على باب معن بن زائدة الشيباني سنة كاملة لا يصل إليه، فرقّ عليه الحاجب وقال: يا هذا أُكتب إليه حاجتك واختصر فيها، فقال: والله لا زدت على بيت واحد من الشعر، ثمّ كتب في رقعة وختمها ودفعها إلى الحاجب، فأخذها إلى معن، فإذا مكتوب فيها:

أيا جود معن ناج معناً بحاجتي ... فمالي إلى معن سواك رسول فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثمّ اشتغل بالحديث ساعة ثمّ التفت فرأى الرقعة فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثمّ اشتغل بالحديث ساعة ثمّ التفت فرأى الرقعة فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثمّ اشتغل بالحديث ساعة والتفت إلى الرقعة فأمر له بعشرة آلاف درهم، فلم يلحقه الرسول فرجع وقال: يا سيّدي! ما لحقت الرجل، فقال معن: أتراه ظنّ أن نسترجعها؟ والله لو وقف لنفذت إليه بعشرة تتبعها عشرة إلى أن تفني بيوت المال. وقيل: كان معن بن زائدة الشيباني قد استخفى من المنصور لأمر أنكره عليه، فجدّ المنصور في طلبه وجعل لمن دلّ عليه عشرة آلاف درهم، قال معن: فاضطربت لشدّة الطلب إلى أن أقمت في الشمس حتّى لوّحت وجهي وخففت من عارضيّ ولحيتي ولبست جبّة صوف وركبت جملاً ثقيلاً وخرجت عليه أطلب البادية لأقيم فيها، فلمّا خرجت من الباب تبعني عبد أسود متقلّد سيفاً حتّى إذا غبت من أعين النّاس والحرس قبض على خطام الجمل فأناخه، فقلت: ما تريد؟ قال: أنت طلبة أميرالمؤمنين؟ قلت: ومن أنا حتّى يطلبني أميرالمؤمنين؟ قال: أنت معن بن زائدة الشيباني. قلت: يا هذا اتّق الله في دمي، وأين أنا من معن؟ فقال: دع ذا عنك فأنا والله أعرف بك من ولدك وأخيك. قال معن: فقلت له: إن كان الأمر على ما تقول فهذا جوهرٌ قد حملته معي بأضعاف ما بذله المنصور فيَّ فخذه ولا تسفك دمي، قال: هاته، فأخرجته، فنظر إليه ساعةً وقال: صدقت في قيمته ولست قابله منك حتّى أسألك عن شيء فإن صدّقتني فيه أطلقتك، فقلت له: قل، فقال: إنّ النّاس قد وصفوك بالسخاء والجود فأطنبوا، فأخبرني هل وهبت قط مالك كلّه؟ قلت: لا، قال: فنصفه؟ قلت: لا، قال: فثلثه؟ قلت: لا، فلم يزل حتّى بلغ العشر؟ فقلت: أظنّ أنّي فعلت هذا، فقال: ما ذاك بعظيم، أنا رجل رزقي عشرين درهماً على المنصور في الشهر، وهذا الجوهر قيمته آلاف دنانير وقد وهبته لك ووهبتك لجودك المأثور بين الناس لتعلم أنّ في الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك وتحتقر بعد هذا كلّ شيء تفعله، ولا تتوقّف عن مكرمة، ثمّ رمى بالعقد في حجري وخلّى خطام الجمل وانصرف، فقلت له: يا هذا فضحتني ولسفك دمي أهون عَلَيّ ممّا فعلت، فخذ هذا الجوهر فإنّي عنه غنيّ، فقال: يا معن! أردت أن تكذّبني في مقامي هذا، والله لا أخذته ولا أخذت لمعروف ثمناً أبداً ومضى، فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن جاء به ما شاء، فما عرفت له خبراَ وكأنّ الأرض ابتلعته. وحدّث عون بن الحسين الهمداني قال: كنت يوماً في خزانة خلع الصاحب بن عباد فرأيت في دستور كاتبها، وكان صديقي، مبلغ العمائم الخزّ التي صرفت في تلك السنة للعلويّين والفقهاء والشعراء خارجة غير عمائم الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرين، قال: وكان يعجبه الخزّ ويأمر بالإستكثار منه في داره، فنظر أبوالقاسم الزعفراني يوماً إلى جميع من فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الفاخرة الملوّنة، فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئاً، فنظر إليه الصاحب وقال: عَلَيّ به، فاستهمل الزعفراني ريثما يتمّ مكتوبه، فأمر الصاحب بأخذ الدرج من يده، فقام وقال: أيّد الله مولانا، شعرٌ أسمعه ممّن قاله، فقال: هات يا أباالقاسم، فأنشده أبياتاً منها: سواك يعدُّ الغنى ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يخزنا وأنت ابن عباد المرتجى ... فعند نوالك نيل المنى وخيرك من باسط كفّه ... وممّن تنائى قريب الجنى غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملكوه الغنى وغادرت أشعرهم مفحما ... وأشكرهم عاجزا الكنا أيا من عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتيْ من نأى أو دنا كسوت المقيمين والزائرين ... كسىً لم يخل مثلها ممكنا وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخزّ إلاّ أنا ولست أذكر بي جارياً ... على العهد يحسن أن يحسنا فقال له الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة أنّ رجلاً قال له: أحملني أيّها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغلة وحمار وجارية، ثمّ قال لو علمت مركوباً غيرها لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخزّ بجبّة ودراعة وقميص وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وجورب ولو علمنا لباساً آخر غير هذا يتّخذ من الخزّ لأعطيناك.

وقال الصاحب بن عباد: حضرت مجلس ابن العميد عشيّة من عشايا شهر رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلّمون للمناظرة وأنا أذكر ذلك في ريعان شبابي، فلمّا تقوّض ذلك المجلس وانصرف القوم وقد حلّ الإفطار أنكرت ذلك بيني وبين نفسي وعجبت من إغفال الأمر بتفطير الحاضرين مع رياسته، وعاهدت الله تعالى أنّيى لا أخلّ بما أخلّ به إذا قمت مقامه. قيل: فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلاّ بعد الإفطار، فكانت داره لا تخلو ليلة من ليالي الشهر من ألف نفس مفطرة، وكانت صلاته وصدقاته وفقته في هذا الشهر مبلغ ما يطلق منها في جميع السنة. وممّا يناسب هذا ما ذكر عن ابن العميد؛ وابن العميد هذا هو أبو الفضل محمّد بن العميد، كان فريد زمانه في الفصاحة والعلوم العربيّة، ولقد كان متوسّعاً في علم النجوم والفلسفة والأدب والترسّل، فلم يقارنه فيها أحد في زمانه، وكان يسمّى الجاحظ الثاني، وكان كامل الرياسة، جليل المقدار، ومن بعض أتباعه الصاحب بن عباد، ولأجل صحبته قيل له الصاحب، وكانت له في الرياسة اليد العليا. وقال الثعالبي في اليتيمة: كان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان الصاحب بن عباد سافر إلى بغداد، فلمّا رجع إليه قال له ابن العميد: كيف وجدتها؟ قال: بغداد في البلاد كالأُستاذ في العباد. وكان يقال له الأُستاذ والرئيس وكان سائساً مدبّراً للملك قائماً بحقوقه. وقصده جماعة من مشاهير الشعراء من البلاد الشاسعة ومدحوه بأحسن المدائح كأبي الطيب المتنب وأضرابه، وكان ممّن مدحه أبو نصر عبد العزيز بن نباتة السعدي، وكان ابن نباتة هذا قد ورد على ابن العميد وهو بالريّ، وامتدحه بقصيدة أوّلها: برح اشتياق وادّكار ... ولهيب أنفاس حرار ومدامع عبراتها ... ترفضُّ عن نوم مطار لله قلبي ما يجن ... من الهموم وما يواري لقد انقضى سكر الشباب ... وما انقضى وصب الخمار وكبرت عن وصل الصغار ... وما سلوت عن الكبار سقياً لتغليسي إلى ... باب الرصافة وابتكاري أيّام أخطر في الصبا ... نشوان مسحوب الإزار حجّي إلى حجر الصّرا ... ة وفي حدائقها اعتماري ومواطن اللذّات أو ... طاني ودار اللهو داري لم يبق لي عيش يلذّ ... سوى معاقرة العقار حتّى بألحان قمرت ... بهنّ ألحان القماري وإذا استهلّ ابن العميد ... تضائلت ديم القطار حرّ صفت أخلاقه ... صفو السبيك من النضار فكأنّما زفّت موا ... هبه بأنواع التجار وكأنّ نشر حديثه ... نشر الخزامى والعرار وكأنّنا ممّا تفرّق ... راحتاه من النضار كلف بحفظ السرّ تح ... سب صدره ليل السرار إنّ الكبار من الأمو ... ر تنال بالهمم الكبار وإلى أبي الفضل ابتعثت ... هواء حسناء السوار فتأخّرت صلته فشفّع هذه القصيدة بأخرى وأتبعها برقعة فلم يزده ابن العميد غير الإهمال مع رقّة حاله التي ورد عليها فتوصّل إلى أن دخل يوم الخميس ومجلسه حفل بأعيان الدولة ومقدّمي أرباب الديوان، فوقف بين يديه وأشار إليه وقال: أيّها الرئيس! إنّي لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذلّ النعل، وأكلت المحرق انتظاراً لصلتك ووالله ما بي الحرمان، ولكن شماتة قوم نصحوني فأغششتهم، وصدّقوني فاتّهمتهم، فبأيّ وجه ألقاهم؟ وبأيّ حجّة أُقاومهم، ولم أحصل من مديح ومن نثر بعد نظم إلاّ على ندم مؤلم، ويأس مسقم، فإن كان للنجاح علامة وأين هي وما هي؟ إلاّ أنّ الذين نحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك، وإنّ الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظمهم شأناً، وأنورهم شعاعاً، وأشرقهم دفاعاً. فحار ابن العميد ولم يدر ما يقول، فأثرق ساعة ثمّ رفع رأسه وقال: هذا يضيق عن الإطالة منك في الإستزادة، وعن الإطالة في المعذرة، وإذا ما تواهبنا ما دفعنا إليه، إستأنفنا ما نتحامد عليه.

فقال ابن نباتة: أيّها الرئيس! إنّها نفثة صدر قد دوى بعد زمان، وفضلة لسان قد خرس منذ دهر، والغني ذا مطل لئيم. فاستشاط ابن العميد وقال: والله ما استوجبت هذا من أحد من خلق الله، ولقد نافرت العميد من دون ذا، حتّى دفعنا إلى قرى غائم ولجاج قائم، ولست وليّ نعمتي فأحتملك، ولا صنيعتي فأغضي عليك، وإنّ بعض ما قرّرته في مسامعي ينقض مرّة الحلم، ويبدّد شمل الصبر، وهذا وما استقدمتك بكتاب ولا استدعيتك برسول ولا كلّفتك مدحي ولا سألتك تقريضي. فقال ابن نباتة: صدقت أيّها الرئيس، إنّك ما استقدمتني بكتاب، ولا استدعيتني برسول، ولا سألتني مدحك، ولا كلّفتني تقريضك، ولكن جلست في صدر إيوانك بأُبهّتك، وقلت: لا يخاطبني أحد إلاّ بالرياسة، ولا ينازعني خلق في أحكام السياسة، فإنّي كاتب ركن الدولة، وزعيم الملّة والحضرة، والقيّم بمصالح المملكة، فكأنّك دعوتني بلسان الحال، ولم تدعني بلسان المقال. فثار ابن العميد مغضباً ودخل حجرته، وتقوّض المجلس، وسمع ابن نباتة وهو مارٌّ في صحن الدار يقول: والله إنّ سفَّ التراب والمشي على الجمر أهون من هذا، فلعن الله الأدب إذا كان بائعه مهيناً له، ومشتريه ممّا كساً فيه، فلمّا سكن غيظ ابن العميد وثاب إليه حلمه التمسه من الغد ليعتذر إليه، ويزيل ما كان منه، فكأنّما غاص في سمع الأرض وبصرها، فكانت حسرة في قلب ابن العميد إلى أن مات. ولا بأس بذكر ما ورد في ذمّ البخل وذكر بعض قضايا البخلاء وذكر بعض الشعر الذي ورد في ذمّهم: قيل: البخل يهدم مباني الكرم. آخر: بشّر مال البخيل بحادث أو وارث. آخر: أيّ داء أدوى من البخل. وفي آخر: شرّ أخلاق الرجال البخل والجبن وهما من أخلاق النساء. وقالت الحكماء: من انتجع لئيماً كان كمنتجع السراب أو نار الحباحب. وفي مثل آخر: ما أفلح بخيل قط. ومن أمثال البخلاء واحتجاجاتهم: قول لا، يدفع البلا، وقول نعم، يُزيل النِعَم. وقال بعضهم لابنه: يا بني كن مع الناس كالضارب بالقداح، إنّما غرضك أخذ متاعهم وحفظ متاعك. ومن بعض الحكايات عنهم: عن المطالبي قال: مرّ ابن الحمامة الشاعر بالحطيئة وهو جالس بفناء بيته، فقال له: السلام عليكم، قال: كلمة نقولها، قال: إنّي خرجت من أهلي بغير زاد، قال: ما ضمنت لهم قراك، قال: أفتأذن لي أن آتي ظلّ بيتك أتقيّؤ به؟ قال: دونك الجبل يفيء عليك، قال: إنّي ابن الحمامة، قال: انصرف وكن ابن أيّ طائر شئت. وبينما أبوالأسود الدئلي جالس في دهليز داره إذ مرّ به رجل من العرب فقال: السلام عليكم، قال: قلت ما لا ينكر، قال: أأدخل؟ قال: وراك أوسع، قال: إنّ الرمضاء أحرقت قدمي، قال: بُل عليهما تبردا، قال: فهل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نأكل ونطعم العيال فإن فضل شيء كنت أحقّ به من الكلب. قال الأعرابي: تالله ما رأيت ألأم منك؟ قال: بلى قد رأيت ولكنّك نسيت. وأتى رجل الحطيئة وهو في غنم له، فقال: السّلام عليك يا راعي الغنم، فرفع الحطيئة عصاه وقال: إنّها عجراء من سلم، قال: إنّي ضيف، قال: وللضيفان أعددتها. وكان خالد بن صفوان إذا حصل له الدرهم نقره وقال: طالما شرّقت وغرّبت، والله لأطيلنّ ضجعت ولأديمنّ صرعتك، ولأجعلنّه آخر عهدك بأيدي الرجال. وممّا يحكى أنّ بعض البخلاء انتقل إلى دار، فلمّا نزلها وقف به سائل، فقال: صنع الله لك، فأتاه آخر، فقال له مثل الأوّل، ثمّ ثالث فقال له كذلك، ثمّ التفت إلى ابنته وقال لها: ما أكثر السؤال في هذا المكان، فقالت: يا أبة! ما تمسّكت لهم بهذه الكلمة فما تبالي قلّوا أم كثروا. ومن ذلك ما حكي أنّه كان محمّد بن يحيى بن خالد بن برمك شديد البخل، فدخل يوماً بعض ندمائه على أبيه يحيى بن خالد، فقال له: صف لي مائدة محمّد، قال: هي فترٌ في فتر، وصحافه من حبّ الخشخاش منقورة، وبينه وبين أكيله رغيف، قال: فمن يحضر مائدته؟ قال: الكرام الكاتبون، قال: فمن يأكل معه؟ قال: الذباب، قال: فأنت خاصّ به وثوبك خلق، قال: والله لو ملك محمّد ابنك بيتاً عرضه من بغداد إلى خراسان مملوّاً أبراً ثمّ جاء جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وأولاد يعقوب يسألونه عارية إبرة يخيطون بها قميص يوسف الصدّيق لما فعل. ونظم ابن الرومي هذا المعنى في قوله:

لو أنّ قصرك يابن يوسف ممتل ... اُبراً يضيق بها فضاء المنزل وأتاك يوسف يستعيرة إبرةً ... ليخيط قدَّ قميصه لم تفعل ومن ذلك ما حكي أنّه حضر أعرابي سماط هشام بن عبد الملك، فبينما هو يأكل إذ تعلّقت شعرة بلقمته، فقال له هشام: يا أعرابي نحّ الشعرة عن لقمتك، قال: إنّك لتكثر لمضغي ملاحظة حتّى ترى الشعرة في اللقمة، والله لا أكلت عندك أبداً، وخرج من عنده وهو يقول: وللموت خير من زيارة باخل ... يلاحظ أطراف البنان على عمد وروي ما هذا مضمونه أنّه قيل لبعض البخلاء: من أشجع النّاس؟ قال: من سمع صرير الأسنان على طعامه ولم تتفتّت كبده. ومن ذلك ما حكي عن أبي القاسم القطّان وكان صاحب نوادر أنّه دخل يوماً من أيّام شهر رمضان والحرُّ شديد على الوزير ابن هبيرة وعنده نقيب الأشراف، فقال له: أين كنت؟ قال: في مطبخ سيّدي النقيب، فقال الوزير: وما تصنع ويلك في شهر رمضان في المطبخ؟ قال: وحياة مولانا كسرت الحرّ، فتبسّم والوزير وضحك الحاضرون وخجل النقيب. أقول: وقد أسهبنا في ذلك فلنورد بعض ما ورد في ذمّ البخل والبخلاء من رائق النظم. روي ما هذا مضمونه أنّ شريك بن عبد الله امتدح المدبّر بأبيات فردّها إليه مع الحاجب وقال: أمدح بها غيري، فاعتزل ناحية عن بابه وكتب إليه هذه الأبيات: رددت عَلَيّ شعري بعد مطل ... وقد دنّست ملبسه الجديدا وقلت امدح به من شئت غيري ... ومن ذا يقبل المدح الرديدا ولاسيما وقد أعبقت فيه ... مخازيك اللواتي لن تبيدا وهل للحيّ في أثواب ميت ... لبوس بعد ما امتلأت صديدا وقال أبو تمام: ليسودنَّ يفاع وجهك منطقي ... أضعاف ما سوّدت وجه قصيدي وليفضحنّك في المواسم كلّها ... صدري كما فضحت يداك ورودي وقال أيضاً: عيّاش أنّك للئيم وانّني ... إذ صرت موضع حاجتي للئيم وقال مهيار: بخيلٌ لو أنّ البحر بين بنانه ... وفرّقها عن قطرة لم تسرَّب أخذه بعضهم فقال: لو عبر الشط أبو ساعده ... في ليلة مظلمة بارده وكفّه مملوئة خردلاً ... ما سقطت منها ولا واحده وقال البحتري: لو صافحوا المزن ما ابتلّت أكفّهم ... ولو يخوضون بحر الصين ما غرقوا جفوا من البخل حتّى لو بدا لهم ... ضوء السهى في سواد الليل لاحترقوا وقال كشاجم: يا من يؤمّل جعفراً ... من بين أهل زمانه لو أنّ في أُستك درهماً ... لاستلّه بلسانه وقال دعبل الخزاعي: إنّ هذا الفتى يصون رغيفاً ... ما إليه لناظر من سبيل هو في سفرتين من أدم الطا ... ئف في سلنين في منديل ختمت كلّ سلّة بحديد ... وسيور قددن من جلد فيل في جراب في جوف تابوت موسى ... والمفاتيح عند إسرافيل وقال بعضهم: فتىً لو أدخل الحمّام حولاً ... وحولاً بعد أحوال كثيره وألبس ألف فرو بعد فرو ... ولحفاً حشوها قطن الجزيره وواقدت الجحيم عليه حتّى ... تصير عظامه مثل الذريره لما عرقت أنامله لبخل ... بعشر عشير معشار العشيره وقال ابن الرومي: فتىً على خيره ونائله ... أشفق من والد على ولده رغيفه منه حين تسأله ... مكان روح الجبان من جسده وقال بعضهم وهو لطيف: عوَّذ لمّا بتُّ ضيفاً له ... أقراصه منّي بياسين وعوّذ الماء بسمر القنا ... وبالأفاعي والثعابين وظريف قول بعضهم: ابا سعيد لنا في شاتك العبر ... جائت وما أن لها بولٌ ولا بعر وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان الشمر والقمر وقال بعض الأُدباء: ويسرع بخل المرء في هتك عرضه ... ولم ير مثل الجود للعرض حارسا وقال البحتري: أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فرط إعجابه ولا في فراهة برذونه ... ولا في نظافة أثوابه ولكنّه في الفعال الكريم ... والخطر الأشرف ألنابه رأيتك تهوي اقتناء المديح ... وتسهل مقدار إيجابه لئن كنت أنحله الأكرمين ... فما أنت أوّل أربابه وإنْ أتطلّب به نائلاً ... فلست مليّاً بأطلابه

الباب الأول في قافية الألف

وإنْ أتصدّق به حسبةً ... فإنّ المساكين أولى به وقوله أيضاً: الله يسهر في مديحك ليله ... متململاً وتنام دون ثوابه يقظان ينتخب الكلام كأنّه ... جيش لديه يريد أن يلقى به فأتى به كالسيف رقرق صيقل ... مابين قائم سنخه وذبابه فجبهته حتّى تخيل أنّه ... هاج أتاك بشتمه وسبابه وممّا ينظم إلى البخل الإخلاف في المواعيد والمطل، بل عدّه بعضهم أقبح منه فقال: ألأم من البخل، لأنّ من لم يفعل المعروف لزمه ذمّ اللؤم وحده، ومن وعد وأخلف لزمه ثلاث مذمّات: ذمّ اللّؤم وذمّ الخلف وذمّ الكذب. كتب العتابي إلى بعض أهل السلطان: أمّا بعد؛ فإنّ سحائب وعدك أبرقت فلين وابلها سالماً من علل المطل. وقيل: الوعد نافلة والإنجاز فريضة. وقيل: الوعد مرض المعروف، والإنجاز برؤه، والمطل تلفه. وقيل: خلف الوعد خلق الوغد. قال بعض الشعراء: فما أقبح الخلف بعد المقال ... وما أسمج الخلف بالباخلينا وقالت الحكماء: لا مريحة، خير من نعم نجيحة. وقالوا: المطل مفسدة للصنيعة. وقالت الحكماء أيضاً: الخلف ماحي شرف الكرام ومعف لرسول الجود، وهو أقصى مراتب اللؤم، وفاعله قد باء بغض من الله. قال الشاعر: فإن تجمع الآفات فالبخل شرُّها ... وشرٌّ من البخل المواعيد والمطل وقال أبو نؤاس: وعدتني وعدك حتّى إذا ... أطعمتني في كنز قارون جئت من الليل بغسّالة ... تغسل ما قلت بصابون وقال آخر: يحتاج من يرتجي نوالكم ... إلى ثلاث بغير تكذيب كنوز قارون أن تكون له ... وعمر نوح وصبر أيّوب وقال آخر: إنّ أبا أيّوب في فعله ... مؤيّدٌ بالحجج البالغه ما فيه من عيب سوى أنّه ... يدهن من قارورة فارغه لو غيره أخلفني موعداً ... أتته منّي عقربٌ لادغه لا يقدر الأعشى على نقضها ... ولا امرء القيس ولا النابغه وما أحلى قول الصفي الحلّي وفيه حسن التعليل وهو: وعدت جميلاً فأخلفته ... وذلك بالحرّ لا يجمل وقلت بأنّك لي ناصر ... إذا قابل الجحفل الجحفل وكم قد نصرتك في كرَّة ... تكسر فيها القنا الذبل ولست أمنُّ بنفعي عليك ... فأعجب بالقول إذ أعجل كما قاله الباز في عزّه ... به حين فاخر البلبل وقال أراك جليس الملوك ... ومن فوق أيديهم تحمل وأنت كما عملوا صامت ... وعن بعض ما قلته تنكل وأحبس مع أنّني ناطق ... وحالي عندهم مهمل فقال صدقت ولكنّهم ... بذا عرفوا أيّنا الأكمل لأنّي فعلت وما قلت قط ... وأنت تقول ولا تفعل وقال الآخر: وعدلك لا ينقضي له أمد ... ولا لليل المطال منك غد عللتني بالمنى غداً فغداً ... إنّ غداً سرمدٌ هو الأبد ومن الغايات في هذا الباب قول عمّي المهدي طاب ثراه وأظنّه لم يسبق إليه: وقلت خذ في الحشر ما وعدته ... ترغم به اليوم أنوف الحسد فقمت من آخرتي أنقل لل ... دنيا عطاياً فضلها لم يجحد وقولي في غرض لي: قالوا طريق الكرخ سمحٌ فلمْ ... تشكو أذى السير اشتكاء العليل قلت نعم سمحٌ ولكنّه ... أبعد من انجاز وعد البخيل إنتهى ما أردنا ذكره من ذلك، وفيما أوردناه كفاية للطالب ومقنع للراغب، ولنشرع بذكر الأبواب. الباب الأوّل في قافية الألف وتشتمل على فصول فصل في المديح قلت فيه هذه المقطوعة: أنجوم بنورها يستضاء ... نثرتها بأفقها العلياء أم مزاياً تودُّ لو أنَّ منها ... فصّلت نظم عقدها الجوزاء مكرمات بنشرها الفضل يحيى ... لكريم لولاه مات الرجاء لا تقس واصلاً بمن كلّ يوم ... واصلٌ منه للوفود عطاء كرماً تستهلُّ في كلّ قطر ... من غواديه ديمة وطفاء يا مطيب القرى إذا مااقشعرّت ... ببني الدهر شتوة غبراء أين من يرتقي لعلياك منهم ... وهم في الهبوط عنك سواء وسماءٌ تظلّهم وهي أرض ... لك لكنّها عليهم سماء إنّ هذي الدنيا يشعّ عليها ... رونق منك رائق وبهاء

قد زهت بالزورا لأنّك فيها ... فهي عين لها وأنت الضياء لك يا ما أرقّ طبعك حلم ... هو في الخطب صخرة صمّاء وسجاياً تنفّس الروض منها ... عن نسيم تطله الأنداء أقول: فأمّا الفضل فذكره ابن خلّكان قال: هو الفضل ابن يحيى ابن خالد البرمكي، كان من أكثر البرامكة كرماً مع كرمهم وسعة جودهم، وكان أكرم من أخيه جعفر، وكان أخوه جعفر أبلغ في الرسائل والكتابة منه، وكان هارون الرشيد قد ولاّه الوزارة قبل جعفر، وأراد أن ينقلها إلى جعفر فقال لأبيهما يحيى: يا أبتي، وكان يدعوا الفضل يا أخي، فإنّهما متقاربان في المولد، وكانت أُمّ الفضل قد أرضعت الرشيد واسمها زبيدة، من مولدات المدينة، والخيزران أُمّ الرشيد أرضعت الفضل، فكان أخوين من الرضاع، وفي ذلك قال مروان بن أبي حفصة يمدح الفضل: كفى لك فضلاً أنّ أفضل حرّة ... غذّتك بثدي والخليفة واحد لقد زنت يحيى في المشاهد كلّها ... كما زان يحيى خالداً في المشاهد قال الرشيد ليحيى: قد احتشمت من الكتابة في ذلك إليه فاكفنيه، فكتب إلى الفضل ولده: قد أمر أميرالمؤمنين بتحويل الخاتم من يمينك إلى شمالك، فكتب إليه الفضل: قد سمعت مقالة أميرالمؤمنين في أخي وأطعت، وما انتقلت عنّي نعمة صارت إليه، ولا عزبت عنّي رتبة طلعت عليه. فقال جعفر: لله أخي ما أنفس نفسه وأبين دلائل الفضل عليه، وأقوى منّة العقل فيه وأوسع في البلاغة ذرعه. وكان الرشيد قد جعل ولده محمّداً في حجر الفضل بن يحيى، والمأمون في حجر جعفر، فاختصّ كلٌّ منهما بمن هو في حجره. وكان أبوالهول الحميري قد هجا الفضل، ثمّ أتاه راغباً إليه، فقال له: ويحك بأيّ وجه تلقاني؟ فقال: بالوجه الذي ألقى به الله عزّوجلّ وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك، فضحك ووصله. ومن كلامه: ما سرور الموعود بالفائدة كسروري بالإنجاز. وأمّا أبوه: فكان وزير هارون الرشيد، وكان جدّهم برمك من مجوس بلخ وكان يخدم النوبهار وهو معبد كان للمجوس بمدينة بلخ توقد فيه النيران، واشتهر برمك وبنوه بسدانته، وكان برمك عظيم المقدار عندهم، وساد ابنه خالد وتقدّم في الدولة العباسيّة وتولّى الوزارة لأبي العبّاس. وأمّا واصل بن عطاء ويُكنّى أبا حذيفة كان معتزليّاً يعرف بالغزّال مولى بني ضبه، وقيل: مولى بني مخزوم. وقال المبرّد في الكامل: لم يكن واصل بن عطاء غزّالاً ولكنّه كان يلقّب بذلك لأنّه كان يلازم الغزّالين ليعرف المتعفّفات من النساء فيجعل صدقته لهنّ. وقال السيّد المرتضى: قيل إنّه كان مولىً لبني هاشم وإنّما لقّب بالغزّال لأنّه كان يكثر الجلوس في الغزّالين عند رضيع له يعرف بأبي عبد الله الغزّال، فلقّب بالغزّال كما لقّب أبو سلمة حفص بن سليمان بالخلاّل، وهو وزير أبي العبّاس السفّاح قبل خالد بن برمك، ولم يكن أبو سلمة خلاّلاً وإنّما كان منزله بالكوفة بقرب الخلاّلين، فكان يجلس عندهم فسمّي خلاّلاً. وقال أبو عبّاس المبردّ: كان واصل بن عطاء ألثغاً قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلّص كلامه منها ولا يفطن لذلك لاقتدراه على الكلام وسهولة ألفاظه، وكان يضرب به المثل في إسقاط حرف الراء من كلامه، وقد استعمله الشعراء في أشعارهم كثيراً، فمنه قول أبي محمّد الخازن من جملة قصيدة يمدح بها الصاحب ابن عبّاد وذلك قوله: نعم تجنّب لا يوم العطاء كما ... تجنّب ابن عطاء لثغة الراء وقال آخر في محبوب له وكان ألثغاً: أعدْ لثغةً لو أنّ واصل حاضرٌ ... ليسمّعها ما أسقط الراء واصل وقال آخر: أجعلت وصلي الراء لم تنطق به ... وقطعتني حتّى كأنّك واصل وقيل: إنّ رجلاً قال لواصل: كيف تقول أسرج الفرس؟ فقال: ألبد الجواد. وقال له آخر: كيف تقول ركب فرسه وجرّ رمحه؟ فقال: استوى على جواده وسحب عامله. وقال بعضهم فيه: ويجعل البرَّ قمحاً في تصرّفه ... وخالف الراء حتّى احتال للشعر ولم يطق مطراً والقول يعجله ... فعاذ بالعيث إشفاقاً من المطر

أقول: وقد اشتملت هذه المقطوعة على نوع من أنواع التوجيه، والتوجيه هو: إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين، من قولهم: كلام موجّه إذا كان له ظاهر وباطن، فكأنّه ذو وجهين؛ فالنوع الذي أشرنا إليه بأنّ هذه المقطوعة اشتملت عليه هو في قولنا فيها: مكرمات بنشرها الفضل يحيى ... لكريم لولاه مات الرجاء لا تقس واصلاً بمن كلّ وقت ... واصلٌ منه للوفود عطاء فلفظة "النشر" تحتمل معنيين هاهنا: أحدهما: النشر الذي هو خلاف الطيّ، والمراد به الإذاعة، من نشر الخبر إذا أذاعه. وثانيهما: النشر الذي هو الإحياء بعد الموت، وليست هذه اللفظة من التوجيه بشيء، وإنّما جيء بها لمناسبة الألفظ التي وقع فيها التوجيه، وهذا النوع يسمّى التوجيه بأسماء الأعلام، كما سيأتي، لأنّ لفظة "الفضل، ويحيى، وواصل، وعطاء" تحتمل معنيين: أحدهما العلميّة، وثانيهما: الفضل الذي هو خلاف النقص، ويحيى: الفعل من الحيوة الذي هو ضدّ يموت، وواصل: إسم فاعل الاُولى من وصله، والثانية: من وصل إليه، وعطاء: هو الإسم من أعطاه. إذا تقرّر هذا فنقول: إنّ التوجيه قد يكون باستعمال ألفاظ أهل صناعة معلومة فيكون ظاهره تلك الصناعة وباطنه غيرها، وقد يكون بإيراد الكلام يحتمل المدح والذم، كقول ابن هاني الأندلسي: لا يأكل السرحان شلوَ طعينهم ... ممّا عليه من القنا المتكسّر فإنّه يحتمل المدح ويكون المقتول منهم والرماح لأعدائهم، ويحتمل الذمّ ويكون المقتول من أعدائهم والرماح لهم، ومثله قول الآخر: بارك الله للحسن ... ولبوارن في الختن يابن هارون قد ظفرت ... ولن ببنت مَنْ فلا يُعْلَم ما أراد ب "بنت مَنْ" في الرفعة أو الحقارة. وقد يكون بإيراد كلام يحتمل الدعاء له والدعاء عليه، كقول من قال: خاط لي عمروٌ قباء ... ليت عينيه سواء قلت شعراً ليس يُدرى ... أمديح أم هجاء فهو يحتمل تمنّي العوراء أن تكون صحيحة أو بالعكس. وقائل هذا بشار بن برد، يُروى أنّه فصّل قباءً عند خيّاط أعور اسمه زيد أو عمرو، فقال له الخيّاط على سبيل العبث به: سآتيك به لا تدري أهو قباء أم فرّاجة، فقال له: إن فعلت ذاك لأنظمنّ فيك بيتاً لا يعلم أحد ممّن سمعه أكان لك أم عليك، ففعل الخيّاط، فقال هو البيت. ومثله ما حكاه ميمون بن مقرون قال: تقدّم جعيفران الموسوس إلى يوسف الأعور القاضي بسرّ من رأى لحكومة في شيء كان في يده من وقف له، فدفعه عنه وقضى عليه، فقال: أراني الله أيّها القاضي عينيك سواء، فأمسك عنه وردّه إلى داره، فلمّا رجع أطعمه ووهب له دراهم ثمّ دعا به فقال له: ماذا أردت بدعائك؟ أردت أن يردّ الله عَلَيّ من بصري ما ذهب؟ فقال له: والله لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم تسخر بي وإنّي لأسخر منك لأنّك أنت المجنون لا أنا، أخبرني كم من أعور رأيته عمي؟ فقال: كثير، قال: فهل رأيت أعوراً صحّ قط؟ قال: لا، قال: فكيف توهّمت عَلَيّ الغلط، فضحك منه وصرفه. وقال محمّد بن عبد الله بن سنان الخفاجي في كتابه: إنّه ينبغي أن لا يُستعمل في الكلام المنظوم والمنثور ألفاظ المتكلّمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم، ولا الألفاظ التي يختصّ بها بعض علوم الهيئة وغيرها، لأنّ الإنسان إذا خاض في علم وتكلّم في صناعة وجب عليه أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة، ثمّ مثّل ذلك بقول أبي تمام: مودّة ذهبت أثمارها شبهٌ ... وهمّة جوهرٌ معروفها عرض وبقوله أيضاً: خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلعّب الأفعال بالأسماء

واعترضه ابن الأثير في المثل السائر فقال: إنّ الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة، إنّ الذي أنكره منه هو الذي يشتهيه قلبي. وقال: إنّما قوله: إنّه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلّم في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة فهذا مسلّم لكنّه شذّ عنه أنّ سناعة المنظوم والمنثور مستهدفة من كلّ علم وكلّ صناعة، لأنّها موضوعة على الخوض في كلّ معنى وهذا لا ضابط له يضبطه، ولا حاصر له يحصره، فإذا أخذ مؤلّف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنىً من المعاني وأدّاه ذلك إلى استعمال معنىً فقهي أو نحوي أو خيالي فليس له أن يتركه ويحيد عنه لأنّه من مقتضيات ذلك المعنى الذي قصده، ألا ترى إلى قول أبي تمام في الإعتذار: فإن يك جرم عنَّ أوْ تكُ هفوة ... على خطإ منّي فوزري على عَمَد فإنّ هذا أحسن ما يجيء في باب الإعتذار عن الذنب، وكان ينبغي له على ما ذكره ابن سنان أن يترك ذلك ولا يستعمله حيث فيه لفظتا الخطأ والعمد اللتان هما من أخصّ ألفاظ الفقهاء، وكذلك قول أبي الطيب المتنبّي: ولقيت كلّ الفاضلين كأنّما ... ردّ الإله نفوسهم والأعصرا نسقوا لنا علم الحساب مقدّما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخّرا وهذا من المعاني البديعة وما كان ينبغي لأبي الطيب أن يأتي في مثل هذا الموضع بلفظة فذلك التي هي من ألفاظ الحساب، بل كان يترك هذا المعنى الشريف الذي لا يتمّ إلاّ بتلك اللفظة موافقةً لابن سنان فيما رآه وذهب إليه، وهذا محض الخطأ وعين الغلط، إنتهى. وأجاب ابن الأثير أيضاً عن البيت الأوّل الذي أنكره ابن سنان على أبي تمام بأنّه ليس منكراً لما استعمل فيه من لفظتي الجوهر والعرض اللتين هما من خصائص ألفاظ المتكلّمين، بل إنّه ركيك في نفسه لتضمّنه لفظة الشبه فإنّها عامية ركيكة وهي التي استخفّت في البيت، وعن البيت الثاني بأنّه ليس بمنكر وهل يشكّ في أنّ التشبيه الذي تضمّنه واقع في موقعه، ألا ترى بأنّ الفعل ينقل الإسم من حال إلى حال وكذلك الخمرة تفعل في العقول في تنقّل حالاتها. رجعٌ إلى ذكر بقيّة أنواع التوجيه وأمثلتها: فمن ذلك التوجيه بقواعد النحو. قال بعض المتأخّرين: عوامل رزق أعملت لغة الردى ... فجسم له خفض ورأس له نصب وقال أمين الدين علي السليماني: أضيف الدجى معنىً إلى لون شعره ... فطال ولولا ذاك ما خصَّ بالجرّ وحاجبه نون الوقاية ما وقت ... على شرطها فعل الجفون من الكسر وكان بالعراق عاملان: أحدهما اسمه عمر، والآخر اسمه أحمد، فعزل عمر عن ولايته واستقرّ مكانه أحمد لمال قدّمه، فقال بعض الشعراء: أيا عمر استعدَّ لغير هذا ... فأحمد في الولاية مطمئن فإنّك فيك معرفة وعدل ... وأحمد فيه معرفة ووزن ومثله قول ابن عنين فيمن عزل عن وظيفته وكانت سيرته غير مشكورة: شكى ابن المؤيّد من عزله ... وذمّ الزمان وأبدى السفه فقلت له لا تذمّ الزمان ... فتظلم أيّامه المنصفه ولا تغضبنَّ إذا ما صرفت ... فلا عدل فيك ولا معرفه ورشيق قول شرف الدين: أتيت حانة خمّار وصاحبها ... محارف متقن للنحو ذو لسن وحوله كلُّ هيفاء منعّمة ... وكلّ علق رشيق أهيف حسن فقال لي إذ رأى عيني قد انصرفت ... إلى النساء كلام الحاذق الفطن أنّث وركّب وصف واعدل بمعرفة ... واجمع وزد واسترح من عجمة وزن وبديع قول الشهاب: وإذا الثنية أشرقت وشمّمت من ... أرجائها أرجاً ونشر عبير سل هضبها المنصوب أين حديثها ... المرفوع عن ذيل الصبا المجرور وقول الصفي الحلّي في رياض الممطور: إن جزت بالممطور مبتهجاً به ... ونظرت باطن دوحه الممطور وأراك بالآصال خفق هوائه ال ... ممدود تحريك الهوى المقصور سل بانّه المنصوب أين حديثه ... المرفوع عن ذيل الصبا المجرور وظريف قول بعضهم: عرّج بنا نحو طلول الحمى ... فلم تزل آهلة الأربع حتّى نطيل اليوم وقفاً على ال ... ساكن أو عطفاً على الموضع وقول أبي الفتح البستي: عزلت ولم أذنب ولم أك خائناً ... وهذا لإنصاف الوزير خلاف

حذفت وغيري مثبت في مكانه ... كأنّي نون الجمع حين يضاف وقوله أيضاً: أدرجت في أثناء نسيانكم ... حتّى كأنّي ألف الوصل وقوله أيضاً: أفدي الغزال الذي في النحو كلّمني ... مناظراً فاجتنيت الشهد من شفته وأورد الحجج المقبول شاهدها ... محقّقاً ليريني فضل معرفته ثمّ افترقنا على رأي رضيت به ... والرفع من صفتي والنصب من صفته وما ألطف قول السرّاج الورّاق: كم أُناديك مفرداً علماً أر ... فعه عالماً بشرط المنادى وجوابي ملغىً يحاكي للولا ... خبر اللو وإنّه ما أفادا وظريف قول ابن العفيف: يا ساكناً قلبي المعنى ... وليس في سواك ثاني لأيّ معنىً كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان قال الصلاح الصفدي: وهذا المعنى فيه نقص لأنّ القلب ظرف لاجتماع الساكنين وحينئذ يكون الساكنان غير القلب، والكسر إنّما وقع على القلب لا على أحد الساكنين. قال صاحب المعاهد: ومن تأمّله حقّ التأمّل وجده موجّهاً، ثمّ قال: وقد ذكرت ذلك لجماعة من كبار المتأدّبين وما رأيت فيهم من تنبّه له. وفي معناه قول ابن شرف القيرواني في رجل عجز عن افتضاض عرسه: كم ذكر في الورى وأُنثى ... أولى من اثنين باثنتين أرى الليالي أتت بلحن ... لجمعها بين ساكنين وقول السراج الورّاق: يا ساكناً قلبي ذكرتك قبله ... أرأيت قبلي من بدى بالساكن وجعلته وفقاً عليك وقد غدا ... متحرّكاً بخلاف قلب الآمن وما أحسن قول ابن نباتة المصري: بكيت وما يجدي البكاء على العاني ... ولكنَّ تشتيت الأحبّة أشجاني كأنّ زماني خاف لحناً فلم يكن ... ليجمع بين الساكنين بأوطاني ولمحاسن الشوّاء: أرسل فرعاً ولوى هاجري ... صدغاً فأعيى بهما واصفه فخلت هذا حيّة خلفه ... تسعى وهذا عقرباً واقفه وللسليماني: نصبت على التمييز إنسان مقلتي ... أُشاهد قدّاً منه نصباً على الظرف ءأخشى فراقاً بعدها أو قساوة ... وقد جاء واو الصدغ للجمع والعطف ولصاحب المعاهد مثله: تطمعني في الوصل أصداغه ... حين تريني أحرف العطف ومن لطائف البهاء زهير قوله في هذا الباب: يقولون لي أنت الذي سار ذكره ... فمن صادر يثني عليه ووارد هبوني كما قد تزعمون أنا الذي ... فأين صلاتي منم وعوائدي ونظير ذلك مااتّفق لابن عنين وذلك أنّه مرض فكتب إلى الملك المعظّم عيسى بن الملك العال أبي بكر بن أيّوب صاحب دمشق: أُنظر إليّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي أنا كالذي احتاج ما تحتاجه ... فاغنم دعائي والثناء الوافي فعاده الملك المعظم ومعه خمسمائة دينار وقال له: أنت الذي، وأنا العائد، وهذه الصلة. ومثله قول جعفر العلوي الأديب المصري: وافيت نحوكم لأرفع مبتدا ... شعري وأنصب خفض عيش أغبرا حاشاكم أن تقطعوا صلة الذي ... أو تصرفوا من غير شيء جعفرا وقول الأمير أمين الدين السليماني: وإنّي الّذي أحببته وهجرته ... فهل صلة أو عائد منك للذي وقول الآخر: لا تهجروا من لا تعوَّد هجركم ... وهو الذي بلبان وصلكم غذي ورفعتم مقداره بالإبتدا ... حاشاكم أن تقطعوا صلة الذي وقول الصفي الحلّي: لمّا رأت علياك إنّي كالّذي ... أبدو فينقصني السقام الزائد وافيتني فوفيت لي بمكارم ... فنداك لي صلة وأنت العائد وقول ابن أبي حجلة: قطع الأحبّة عادتي من وصلهم ... فكان قلبي بالتواصل ما غذي وإذا سمعتهم في النحاة بعاشق ... منعوه من صلة له فأنا الذي وما ألطف قول محاسن الشوّاء: وكنّا خمس عشرة في التئام ... على رغم الحسود بغير آفه فقد أصبحت تنويناً وأضحى ... حبيبي لا تفارقه الإضافه وقول ابن العفيف التلمساني: ومستتر من سنا وجهه ... بشمس لها ذلك الصدغ في كوى القلب منّي بلام العذار ... فعرَّفني أنّها لام كي ولمحاسن الشوّاء أيضاً: لنا صديق له خلالٌ ... تعرب عن أصله الأخس

أضحت له مثل "حيث" كفٌ ... وددت لو أنّها "كأمس" ومثله قول أبي محمّد الواسطي: لنا صديق به انقباض ... ونحن بالبسط نستلذ لا يعرف الفتح في يديه ... إلاّ إذا ما أتاه أخذ فكفّه "أين" حين يعطي ... شيئاً وبعد العطاء "منذ" وقول السراج الورّاق: ومبخل بالمال قلت لعلّه ... يندى وظنّي فيه ظنٌّ مخلف مع الدراهم فيه جمع سلامة ... فأجابني لكنّه لا يصرف ومن التوجيه في علم العروض والنحو، قول السباسكوني يهجوا عروضياً نحوياً: لا تنكروا ما ادّعى فلان من ال ... شعر إذا قال أنّه شاعر فالنحو ثمّ العروض قد شهدا ... له على الشعر أنّه قادر يقصر ممدوده ويرفعه ... في الجرّ نصب الغرمول في الآخر يريك وهو البسيط دائرة ... تجمع بين الطويل والوافر وقال الآخر: أنا الذي مرضت شهراً كاملاً ... فما رأيت عائداً ولا صله لولا الوزير الصاحب الندب الذي ... نعماه لي من الأنام واصله شارف قلعاً وتدي وخاف قط ... عاً سببي وقلت هذي الفاصله ومن التوجيه في علم العروض، قول ابن سارة: وبي عروضيٌ سريع الجفا ... وجدي به مثل جفاه طويل قلت له قطعت قلبي أسىً ... فقال لي التقطيع شأن الخليل وقول نصرالله ابن الفقيه المصري: وبقلبي من الجفاء مديدٌ ... وبسيطٌ ووافرٌ وطويل لم أكن عالماً بذاك إلى أن ... قطع القلب بالفراق الخليل وللسليماني: لا تعذلنّي في العروض ... ولو رأيت القصد جائر ... دارت عَلَيّ دوائرٌ ... فجهدت في فكّ الدوائر وله أيضاً: تقاطع صاحباي على هناة ... جرت بعد التصاون والتصافي ودا مالا يضمّها مكان ... كأنّهما معاقبة الزحاف ومن التوجيه في صناعة الكتابة، قول ابن الساعاتي: لله يوم في سيوط وليلة ... حلف الزمان بمثلها لا يغلط بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرع أشمط والطلُّ في تلك الغصون كلؤلؤ ... نظم يصافحه النسيم فيسقط والطير يقرؤ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط ومنه قول ابن لنكك البصيري: قف أُنظر إلى درّ السحاب كأنّه ... نثار وأحداق الأزاهير تلقطه إذا كتبت أيدي الرياض على الثرى ... بنور فأيدي الغيم بالقطر تنقطه وقول أبي زهير مهلهل بن نصر بن حمدان: ءأخا الفوارس لو شهدت مواقفي ... والخيل من تحت الفوارس تنحط لقرأت منها ما تخط يد الوغى ... والبيض تشكل والأسنّة تنقط وقال الصاحب ابن عباد يصف الوحل: إنّي ركبت وكفّ الأرض كاتبة ... على ثيابي سطوراً ليس تنكتم فالأرض محبرة والحبر من لثق ... والطرس ثوبي ويمنى الأشهب القلم وما أحسن قول ابن عبد الطّاهر: مفردٌ في جماله إذ تبدّى ... خجلت منه جملة الأقمار كيف أرجو الوفاء منه وعامل ... ت غريماً من لحظه ذاانكسار ذو حواش تلوح من قلم الري ... حان في خدّه لجلّ الباري فيه وجدي محقّق وسلوّي ... وكلام العذول مثل الغبار فلساني في وصفه قلم الشعر ... ورقي المكتوب بالطومار وبديع قول ابن جابر وذكر الأقلام السبعة: تعليق ردفك بالخصر الخفيف له ... ثلث الجمال وقدوفّته أجفان خدٌّ عليه رقاع الحسن قد خلعت ... وفي حواشيه للصدغين ريحان خطّ الشباب بطومار العذار به ... سطراً ففضاحه للناس فتّان محقّق نسخ صبري عن هواه ومن ... توقيع مدمعي المنثور برهان يا حسن ما قلم الأشعار خطّ على ... ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان أقسمت بالمصحف السامي وأحرفه ... ما مرَّ بالبال يوماً عنه السلوان ولا غبار على حبّي فعندك لي ... حساب شوق له في القلب ديوان ومن التوجيه في علم الرمل، قول البهاء زهير: تعلّمت علم الرمل لمّا هجرتني ... لعلّي أرى شكلاً يدلّ على الوصل فقالوا طريق قلت يا ربّ للوفا ... وقالوا اجتماع قلت يا ربّ للشمل وقول ابن مطروح:

حلا ريقه والدرّ فيه منضد ... ومن ذا رأى في العذب درّاً منضدا رأيت بخدّيه بياضاً وحمرةً ... فقلت لي البشرى اجتماع تولّدا ومن التوجيه في علم الهندسة، قول ابن جابر أو العلوي المصري في مليح مهندس: محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأنّ به أقليدساً يتحدّث فعارضه خطّ استواء وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلّث وقول ابن النبيه في صبي يشتغل بالهندسة: وبي هندسي الشكل يسبيك لحظه ... وخال وخدّ بالعذار مطرّز ومذ خطّ بيكار الجمال عذاره ... كقوس علمنا أنّما الخال مركز وقول ابن التلميذ أو أبي علي المهندس المصري: تقسّم قلبي في محبّة معشر ... بكلّ فتىً منهم هواي منوط كان فزادي مركزٌ وهم له ... محيط وأهوائي إليه خطوط وظريف قول بعضهم: لمّا انثنى وهو البسيط تبيّنت ... لي منه دائرةٌ كحلقة خاتم ورأيت في الشكل المدوّر نقطة ... فحللت مركزها بخطٍّ قائم وقول ابن هشام بن أحمد: قد بيّنت فيه الطبيعة أنّها ... ببيديع أعمال المهندس باهره عبثت بمبسمه فخطّت فوقه ... بالمسك قوساً من محيط الدائره ومن التوجيه في علم النجوم، قول ابن جابر: يا حسن ليلتنا التي قد زارني ... فيها فأنجز ما مضى من وعده قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خدّه وقول الأرجاني أيضاً: معقرب الصدغ يحكي نور غرّته ... بدراً بدا في سواد الليل معتجرا مذ سافر القلب من صدري إليه هوىً ... ما عاد بعد ولم أعرف له خبرا وهو المسيء اختياراً إذ نوى سفراً ... وقد سرى طالعاً في العقرب القمرا ومن التوجيه في علم الموسيقيا، قول البدر بن لؤلؤ الذهبي: وبمهجتي المتحمّلون عشيّة ... والركب بن تلازم وعناق وحداتهم أخذت حجازا بعد ما ... غنّت وداء الركب بالعشّاق ومن التوجيه اللطيف، قول ابن نباتة المصري في أسماء متنزّهات دمشق: يا حبّذا يومي بوادي جلق ... ونزهتي مع الغزال الحالي من أوّل الجبهة قد قبّلته ... مرتشفاً لآخر الخلخالي ومن التوجيه في بعض الأسماء، قول القاضي مجدالدين بن عبد الظاهر يصف نهراً صافياً في روضة نزهة: إذا فاخرته الريح ولّت عليلة ... بأذيال كثبان الربى تتعثّر به الفضل يبدو والربيع وكم غدا ... به الروض يحيى وهو لا شك جعفر وقول ابن الوردي في بعض أسماء الأعلام: رأسي بها شيبان والطرف من ... نبهان والعذال فيها كلاب وقول الآخر: أرح ناظري من عابس الوجه يابس ... له خلق صعب ووجه مقطب أقول له إذ آيستني صفاته ... وإن قيل إنّي في المطالع أشعب متى يظفر الآتي إليك بسؤله ... وينجح من مسعاه قصد ومطلب ولؤمك سيّار وبشرك باسر ... ووجهك عبّاس وخلقك مصعب وقول الوداعي: من أمَّ بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن فالعين عن قرّة والكفّ عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن فإنّ هذا البيت يصدق على المعنى الواحد وهو أسماء الأعلام من رواة الحديث، وعلى المعنى الآخر وهو المناسبة بين العين والقرّة والكف والصدر والقلب والجبر والسمع والحسن. وقول صاحب المعاهد: بأبواب الكرام وضعت رحلي ... لكي يروى بفيض الجود محلي ومن أضحى نزيل المجد يحيى ... بجعفر فضله السامي المحل وقوله أيضاً: ومن هو بحرٌ لا يقاس بفضله ... ربيعٌ وكم يحيى إذا جاء جعفر ومن هذا القسم قولنا في هذه المقطوعة المصدّر بها هذا الباب: مكرمات بنشرها الفضل يحيى ... لكريم لولاه مات الرجاء لا تقس واصلاً بمن كلّ وقت ... واصل منه للوفود عطاء

ومن ذلك عدّة توجيهات في بعض الأسماء قلتها مقرضاً على الكتاب الموسوم بالروض الخميل فيما قيل من النظم والنثر في بني جميل وهم أجلّ قوم أمجاد من أكابر أهل بغداد، فنثرت هذه الفصول ونظمت معها أبياتها الباهرة الفائقة بمحاسنها الوافرة، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا الروض الخميل، المتضوّع في نشر ذكر آل الجميل، تزهو به كلّ زهرة، ما زهى مثلها على صفحتي نهر المجرّة، وتتمنّى رعي نرجسه الغزالة، ويودّ المشتري أن يبتاع حلّة وشيه بالنثرة، وأنّى له. روض بدا بين الأنام زاهراً ... لسحب جود بالندى تدبّجه فزهرة نعوت أخلاقهم ... ووصف طيب الأصل منهم أرجه كأنّما نثرت فيه، أو نظمت سلك قوافيه، كلّ حبّة قلب فهو إلى كلّ قلب محبّب، فما دمية القصر بين الأتراب، تنشد الأغاني في مغاني منازل الأحباب وتعاطي نداماها السلافة ممزوجة لهم بالغيث الذي انسجم، مشفوعةً لهم بمستظرف النغم، ولا يتيمة الدهر مجلوةً في المعاهد، حاليةً بدرر الفوائد وغرر القلائد، بأزهى من أوانس فقره، وأبهى من عرائس أشطره، ولعمري إنّه ليجب على من هو مسلم إذا نظر فيه أن يكون صريع غوانيه فينشىء مطرياً، وينشد معجباً: هذا كتاب أم حديقة روضة ... تنتزّه الأحداق في أورادها وتودّ لو شرت العيون بياضه ... وسواده ببياضها وسوادها نظمت به غرر الكلام مصاقع ... روح الفصاحة قام في أجسادها غرراً بدت كالشهب إلاّ أنّها ... بزغت بليل من سواد مدادها لو شنّف الشادي الحمام بها إذاً ... خلعت له الأطواق من أجيادها يهوى فؤاد المرء يغدو مسمعا ... ليحوز حظّ السمع من إنشادها لفظ أرقُّ من الصبا وفخامةً ... معناه تحسب قدّ من أطوادها دع ما يزخرفه الربيع وإن زهت ... أزهاره بين الربا ووهادها وتصفّح الروض الخميل رغبةً ... لتراه تنسى العين طيب رقادها تحظى بكلّ طريفة من حسنها ... غدت العقول العشر من روّادها ويعدّ من آل الجميل مناقباً ... تهوى النجوم تكون من أعدادها وممّا جاء من التوجيه في قواعد الفقه، قول القاضي شرف الدين المقدسي وتلطّف ما شاء: أحجج إلى الزهر لنحظى به ... وارم جمار الهمّ مستنفرا من لم يطف بالزهر في وقته ... من قبل أن يحلق قد قصّرا وقال آخر: كم ليلة فيها وصلنا السرى ... لا نعرف الغمض ولا نستريح واختلف الأصحاب ماذا الذي ... يزيل من شكواهم أو يريح فقيل تعريسهم ساعةً ... وقيل بل ذكراك وهو الصحيح ومن التوجيه في الحديث، قول ابن جابر الأندلسي: قالت أعندك من أهل الهوى خبر ... فقلت إنّي بذاك العلم معروف مسلسل الدمع من عينيَّ مرسلة ... على مدبج ذاك الخدّ موقوف وقوله أيضاً: عارضوا مرسل الظلام بنقل ... مسند عن حسان تلك الفروع عدلوا في رواية الحب جفني ... مع جرح الدموع عند الهموع عنعنوا نقل لوعتي عن دموعي ... عن جفوني عن قلبي الموجوع وقول الشيخ عبد علي الحويزي: بحبّك آحاد الهموم تواترت ... عَلَيّ فدمعي مستفيض بها انهمر يسلسل في خدّي مراسيله التي ... يضعّفها الشوق الذي صحّح الخبر ومن التوجيه في أسماء السور، قول السراج الورّاق: كلّ قلب عَلَيّ كالصخر ملآن ... وهيهات أن تلين الصخور مغلق الباب ما تلا سورة الفتح ... وقافٌ من دونه والطور وقول أبي الحسين الجزّار: أشكو لعدلك جور دهر جائر ... فضلّت به فضلائه الجهّال منعت به عقلاؤه إذ قسّمت ... بالجور في أنعامه الأنفال وقول المولى الفاضل علي بن مليك: ألا يا بني الروم القتال فدونكم ... فإنّا تدرّعنا الحديد إلى الحشر ولا زال آي الفتح تتلوا رماحنا ... وأسيافنا نتلوا بها سورة النصر ولصاحب المعاهد: واقعةٌ قد صار منها تغابن ... على الروم لا ينفكّ أو يحصل الحشر لقد سمعوا وقع الحديد فلا ترى ... لهم همّة نحو القتال ولا كرّ وم التوجيه في الحكمة، قول الشيخ عبد علي الحويزي: أثبتَّ بالوصل الرقاد لناظري ... وشفّعت ذاك له بهجر زائد

فنفيته والنفي والإثبات لا ... يتواردان على محلّ واحد وقوله أيضاً: جمعت في طرف المحبّ الكرى ... والسهد في وصلك والبين وليس يرضاه أخو فطنة ... لأنّه جمع نقيضين وقوله أيضاً من التوجيه في الرياضي: قلت له كسرت قلبي ويدي ... عندك ما قابلتها بنافله فاجبر وقابل منعماً فقال ما ... قرأت علم الجبر والمقابله وقوله أيضاً: لا ترج تعريف الورى بصناعة ال ... تنصيف والتحذير والتضعيف واجهد بجمع المال تضح معرَّفاً ... فالمال فيه آلة التعريف وله أيضاً وهو من التوجيه في علم الهيئة: كم قد شهدت الحرب مستلئماً ... سابغة تضمن وقع الحمام كالفلك الأطلس في ذاته ... لا يقبل الخرق ولا الإلتئام وله ايضاً فيه: قلت هل تقسم لي ... جوهر لفظ أشتهيه قال ثغري الجوهر الفر ... د ولا قسمة فيه وله أيضاً وهو من التوجيه في علم المنطق: إن رمت نسلاً فتزوّج غادةً ... أصغر سنّاً منك في التعمّر فأوّل الأشكال لا ينتج ح ... تّى يدخل الأصغر تحت الأكبر وله أيضاً وهو من التوجيه في علم الأُصول: تقول أصلى نار حبّي به ... وظاهرٌ إنّك لا تصلّى فهذه مسألة عندنا ... معارض ظاهرها الأُصلاّ وله فيه أيضاً: وجهك لمّا قد غدا ظاهرا ... مخبراً عن أصلك الطاهر حقّقت من هذا الذي بان لي ... تطابق الأصل مع الظاهر وله أيضاً قصيدة وهي تشتمل على عدّة توجيهات: قلبي وطرفك منصوب ومكسور ... كلاهما مطلقٌ منّا ومأسور ناديت دمع جفوني كي ترخمه ... يا مستغاثي حالي منك تحذير حاكى فؤادي منك الوجه وافترقا ... فذاك نارٌ لتعذيبي وذا نور قدّي وقدّك مخفوض ومنتصب ... والثغر والدمع منظوم ومنثور بخفض قدري فيك الناس تعرفني ... وهكذاالحب تعريف وتنكير قد أعرب الحب نحواً بيننا حسناً ... فالشعر والشعر مرفوع ومجرور يا طرف من نهبت قلبي محاسنه ... ذكري كسيفك في الآفاق مشهور ينجاب ذوالجهل عنّي حين يبصرني ... كأنّما أنا صبح وهو ديجور لو رمت فخراً على المحبوب قلت له ... دمعي وثغرك ياقوتٌ وبلّور استاف جونة عطّار بطلعته ... فخاله عنبرٌ والخدُّ كافور أقام سوق الهوى خدٌّ له أبداً ... لحبّة القلب فيه اليوم تسعير لا ترج منّي امتناعاً عن محبّته ... فطرفه قادر والقلب مقدور لنا بمقلته النجلاء ذو شطب ... له على فلك المرّيخ تدوير أبدى ضروب بديع طرفه فله ... في فتية العشق تصريع وتشطير حمّت لواحظه معسول ريقته ... يا كوثراً منعتنا ورده الحور تقول إن صدقتنا القول مقلته ... يا محرمي العشق إنّي كعبه زورور قد أخلصت كيمياء الحب وجنته ... كأنّها للهوى العذريّ أكسير لو لم يكن كيمياء ما تييسّر للأ ... نفاس والدمع تصعيدٌ وتقطير يحيى بجعفر دمعي فيه فضل وفاً ... أنا الرشيد به والقلب مسرور يا دمع مقلتي الكشاف أنت لِقر ... آن المحبّة تأويل وتفسير وسمت بالدمع أشكالاً خلفت بها ... أقليدساً وهي في خدَّيَّ تحرير لله مجلسنا والغصن يعطفه ... من نسمة الصبح تقديم وتأخير والنهر جسم بثوب الزهر ملتحف ... والزهر برد من الريحان مزرور فصل الربيع إذا ماالعش وافقه ... للقلب فيه وللأشجار تفطير ولسماء التباسٌ بالرياض لما ... حكت كواكبها منها التصاوير فالزهرة الورد والسعد الشقائق وال ... مجرة النهر والجوزاء منثور تصرّفت بي أيّامي لتنقصني ... فما تغيّرت والتصريف تغيير لا ينفع المرء تأديب يهذّبه ... إلاّ إذا عضد التدبير تقدير أقول: وإنّما ذكرت هذه القصيدة بتمامها لما اشتملت عليه من أنواع التوجيه مع حسن السبك وحلاوة الألفاظ وحسن المطلع والمقطع يعرف ذلك بالذوق السليم. رجعٌ إلى ذكر ما نظمته سابقاً فيه على روي هذا الباب.

أقول: وبعثت إليه هذه المقطوعة المخمّسة مشفوعة بهذه الفقرات متعذراً إليه من إبطاء كتابنا هذا عليه، والفقرات هذه: ما عقد الحمد خنصره، ولا فتح المجد بصره، على أنضر عود مكارم، وأزهر طلعة لشائم، من أبلج بسام العشية في الزمن البهيم، سيماء الشرف الوضّاح على قسمات وجهه الكريم، يسفر للجود عن محيّا أنور من بدر تم، يقرأ الوافد عنوان صحيفته هذا قبلة الكرم. وجهٌ كأنَّ البدر شا ... طره الضياء أو النجوما لو قابل الليل البهيم ... لمزَّق الليل البهيما يجلو الهموم وربّ وجه ... إن بدا جلب الهموما فبوركت طلعة ذلك الأغر، وحيّاه الله ما تعاقب الالبيضان الشمس والقمر، ماجدٌ ما اسودَّ ليل الظن لطامع، إلاّ ابيضّ من أشعّة وجهه بالقمر الطالع، وإنّي وإن أحكمت منّي يد الإخلاص عقد ودّه، وأحنت عليها أن تحلّ بيد هجرانه وصدّه، لمعتذر إليه من إبطائي عليه فلقد ساورني الدهر، بشواغل هي قيد الفكر، فأصبحت قليل الحظوه، ثقيل الخطوه، عاثراً بذيل التقصير، ناظراً منالخجل على البعد بطرف حسير، فبعثت العذر على لسان هذه الغادة الكعاب، التي ربّما وقف الحياء بها دون الباب، وعلمي بكرم أخلاقه، وشرف أعراقه، أن يعيرها سمع مسامح، وها هي الغادة: إحدى الغواني إلى الزوراء ... جائتك تمشي على استحياء جميلةٌ من بنات الفكر ... مكنونةٌ في حجاب الصدر حيّتك تبدي جميل العذر ... فحيّ منها ألوف الخدر يا ساكناً مثلها أحشائي سيرتها في سماء الحمد ... زهرة مدح لبدر السعد لمن أياديه جلت عندي ... قد خففت في ثقيل الرفد عن كاهلي منة الأنواء معشوقة أقبلت للوصل ... لسانها ناطق بالفصل تغنيك عن غيرها في النقل ... غناء كفيك لي في المحل حتّى عن الديمة الوطفاء كم رقَّ ديباج نظمي وشيا ... وراق صوغي القوافي حليا لجوهر زان نحر العليا ... ذاك الذي لم تلد لي الدنيا نظيره من بني حوّاء ذو طلعة وهي أُمُّ البشر ... من شامها قال بنت البدر وراحة وهي أُخت البحر ... كم قلّدت للورى من نحر بجوهر الرفد والنعماء سماؤها لم تزل منهله ... بها رياض المنى مخضله وغيرها ليس تشفي غلّه ... عن الندى لم تزل معتله بالبخل لا أفرقت من داء يا هل ترى مخلفاً للوعد ... من لم يجد غير بذل الجهد إن كنتُ أبطأَت عمّا عندي ... فأنت يا مسرعاً بالصدّ أعجل بالعتب من إبطائي لا تشمتنّ هجرنا بالوصل ... ولا تسم عقدنا بالحلّ فمثلك اليوم خلاًّ من لي ... ومن لك اليوم خلاًّ مثلي ونحن كالماء والصهباء أتت على النفس منها أغلا ... وأنت في العين منها أحلا وأنت أولى بقلبي كلاّ ... ذاك الهوى لا تخله ملا فمال عنه مع الأهواء ومن الشعر الأجنبي الّذي اتّفق لي في غيرهم على هذا الروي، قولي مقرضاً على تخميس فارس أهل العصر، في ميدان النظم والنثر، عبد الباقي أفندي العمري، للقصيدة الهمزية المعروفة ب "البويصيريّة" والتقريض هذا: نسيت في عرفانك الحكماء ... فقبيح أن تذكر الشعراء أيُّ فضل لهم يبين وهل لل ... بدر نورٌ إذا استنارت ذكاء جئت في النظم مبصر الفكر والدن ... يا جميعاً بصيرةٌ عمياء فأزلت العمى بآيات نظم ... أذعنت طاعةً لها البلغاء نشرت طيىء الفصاحة لكن ... طويت في انتشارها الفصحاء حكم حلوة إلينا بيع عفواً ... سلسلتها رؤية سمحاء يرشف السمع لفظها العذب راحاً ... لجميع العقول منها انتشاء لو تلاها مردّداً لفظها المرء ... لما احتجن روحه الأعضاء وكفى شاهداً بفضلك ما تر ... ويه عنك الهمزية الغرّاء بنت فكر مجلوة في قواف ... لم تلد قطُّ مثلها الآراء ألفاتٌ مثل الغصون تلتها ... لك من كلّ همزة ورقاء لبست من جمان نظمك عقداً ... ما تحلّت بمثله عذراء أين يابن الفاروق منك الذي ... أبدع في نظمها ولا إطراء لو رأى ما أودعت فيها لأضحى ... وهو والنظم واصل والراء

الفصل الثاني في الرثاء

زبرة قد أشعّت في المتن منها ... جوهراً في فرنده يستضاء فهي عادت منه كمثل عصا مو ... سى وتخميسك اليد البيضاء ومن ذلك أنّ عبد الباقي أفندي سألني تخميس مستهل هذه القصيدة التي خمسها والبيت الذي بعده وذلك حين عزم على تخميسها وأراد الشروع فيه، فأرسلت إليه قولي: ما لحيث انتهى بك الأُسراء ... لمهب العشر العقول ارتقاء وإذا لم يكن إليك انتهاء ... كيف ترقى رقيك الأنبياء يا سماءً ما طاولتها سماءجزت إذ فتحت لك الحجب فتحاً ... لعلىً دونها علا الرسل تمحى فلهم لو غدا ذرى العرش سطحاً ... لم يساووك في علاك وقدحا لسنىً منك دونهم وسناءومن ذلك ما قلته في غرض من الأغراض وهإيراده في فصل المديح أليق. سعدت من عشية زار فيها ... قمر المجد ربعنا فأضاء وأظنّ الرياح قد حسدتنا ... فهي وجداً تنفّس الصعداء الفصل الثاني في الرثاء لمّا توفّي المهدي خلف الخلف الصالح وكان نابه الذكر جليل القدر رثيته بقصيدة فريدة عزيت بها أباه وسلّيته بولديه، والقصيدة هذه: غمضت بغتةً جفون الفناء ... فوق إنسان مقلة العلياء وله نقبت بغاشية الحز ... ن محيّا الدنيا يد الغمّاء حملت وقر عبئها كاهل الده ... ر فأمسى يرغو من الأعياء نكبة لم تدع جليداً على الخطب ... ولا صابراً على اللأواء يا صريع الحمام صلّى عليك ... الله من نازل بربع الفناء وسقى منه تربتةً ضمنت جس ... مك غيث الغفران والنعماء فحقيرٌ نوه الجفون وما قد ... ر جفون السحاب والأنواء أين عيس المنون منك استقلّت ... بالحصيف المظفّر الآراء ذهبت في معرَّس السفر جوداً ... وروا حوَّم الأماني الظماء يا عفات الأنام شرقاً وغرباً ... دوكم فاحتبوا بثوب العفاء وانحبوا عن حريق وجد لمن كان ... عليكم أحنى من الآباء يستقلّ الحبا لكم إن وفدتم ... ولو المشرقان بعض الحباء رحلوا العيس قاصدين ضريحاً ... فيه ما فيه من علاً وسخاء وأعقروا عنده وجلَّ عن العق ... ر قلوباً مطلولة السوداء جدث ماء عيشكم غاض فيه ... فانضحوا فوقه دم الأحشاء حلَّ فيه من قد كفى آدماً في ... غيث جدواه عيلة الأبناء ليت شعري أنّى دنا الموت منه ... وهو في ربع عزّة قعساء هل أتاه مسترفداً حين أعطى ... ما حوته يداه للفقراء فحباه بنفسه إذ أتاه ... مستميحاً يمشي على استحياء ودّت المكرمات أن تفتديه ... ببنيها الأماجد الكرماء هم مكان الجفون منها ولكن ... هو من عينها مكان الضياء وهم في الحياة موتى ولكن ... هو ميّتٌ يعدُّ في الأحياء يا عقيدي على الجوى عظم الخط ... ب فأهونْ بالدمعة البيضاء أجر من ذوب قلبك الدمعة الحم ... راء حزناً في الوجنة الصفراء إن سلني عن ظلمة الكون لما ... حلن أنوار أرضه والسماء فلبدر الغبراء حال أخوه ... بدر أهل الغبراء والخضراء وخفقن النجوم حزناً بجنح ... سام أنوارهنّ بالأطفاء وإلى الشمس قد نعوه فماتت ... جزعاً من سماع صوت النعاء وقف المجد ناعياً يوم أودى ... شاحب الوجه كاسف الأضواء هل ترى صالحاً على الأرض لمّا ... غاب فيها "المهدي" بدر العلاء قلت خفّض عليك من عظم الرز ... ء ونهنه من لوعة البرحاء ليس إلاّ "محمّد" صالح يو ... جد في الأرض من بني حوّاء ليس ينفكّ للجميل قريباً ... وبعيداً عن خطّة الفحشاء ومهاباً له على أعين الده ... ر قضى الكبرياء بالأغضاء وبليغاً قد انتظمن معاني ... هـ بسلك الأعجاز للبلغاء وفصيحاً بنطقه أخرس الده ... ر فما قدر سائر الفصحاء فارس المشكلات إن ندبوه ... لبيان مقالة العوصاء فهو من غرّ لفظه يطعن الثغ ... رة منها بالحجة البيضاء يا رحاب الصدور في كلّ خطب ... وثقال الحلوم عند البلاء إن اسمكم حسن الأسى فلا ضعا ... ف أساكم تضمّنت أحشائي

الفصل الثالث في الغزل

فلكم بعضكم ببعض عزاء ... ولنا فيكم جميل العزاء وتوفّيت كريمة لمحمّد الصالح في بلاد فارس وجاء بنعشها إلى النجف بعلها الجواد، فرثيتها بقصيدة تأتي في محلّها، ورثاها عمّي المهدي بقصيدة طويلة جمع فيها بين التعزية بوفاتها والتهنئة بقدوم بعلها. قد بكى الخدر والتقى والحياء ... هل قضت معدن التقى حوّاء وعلى ذي الأعواد آسيةٌ تح ... مل أم تلك مريم العذراء أم على النعش هاجرٌ سار فيها ... من كرام الملائك العظماء أم به سارةٌ سرت لضريح ... عطّرت من أريجة الأرجاء مَهْ فهذي التي تربت ببيت ... حسدت ساح أرضه الخضراء هي بنت الراقي سرادق علياً ... حيّرت في رقيها الآراء فلعظم احتجابها في خباها ... ليس يدري لمن يكنُّ الخباء وذووا قربها بها ليس تدري ... أهي في الخدر أم به العنقاء لو بدت لا ترى الأنام رداها ... فكأنّ كلُّ مقلة عمياء هي من عترة التقى في بيوت ... أسّستها على التقى الأتقياء سار فيها الجواد من حيث منه ... رامت العزَّ عزّةٌ قعساء وأتى فارساً ومنها اختلاساً ... بيد الحتف سلت الحوباء فارتأى أن يسير فيها لأرض ... هي فيهم ما طاولتها سماء قد لعمر العلى أتاها فتاها ... وسروراً تاهت به العلياء وبه رأس عترة المجد أبدى ... فرحاً فيه زالت الغمّاء مَنْ سما للعلى بهمة ندب ... بلغته من العلى ما يشاء إنّما الفعل منه للقول تلوٌ ... ومن القول في الأنام هذاء فنعم للسؤال ما قال إلاًّ ... وتلتها من كفّه النعماء وهو للمؤمنين يخفض جنحاً ... دون أدنى محلّه الجوزاء أقبيل العلياء قد برزت من ... فكرتي غادةٌ لكم حسناء لبستَتْ حلتَيْ سرور وحزن ... نسجتها السرّاء والضرّاء فهي تجلى في التهنئات عروساً ... وهي من مرثياتها الخنساء ولها تارة غناً وابتسام ... وبأخرى لها عناً وبكاء ولهذين في قريضي كلٌّ ... منهما حقّه رعاه الوفاء وتوفي ولد لي في السنة السادسة والستّين بعد المائتين والألف، فرثيته بهذا المقطوعة: هل يطربنّك يا زمان نعائي ... أم إنّك استعذبت ماء بكائي في كلّ يوم منك ألقى شدّة ... ولأنت يوماً شدّة ورخاء لازلت ملحم غارة الأزراء ... أو حاشداً جيشاً من النكباء حتّى أصبت صميم قلبي بغتة ... وطرقتني بفجيعة صمّاء لم تبق لي جلداً وكنت أخالني ... جلداً بكلّ ملمّة دهياء ومعنّف طرب المسامع ما رمى ... عينيه صرف الدهر بالأقذاء قد لامني وحشاه بين ظلوعه ... والأرض مطبقة على أحشائي أمعيب حزني لو ملكتُ تجلدي ... ما بتُّ أمزج أدمعي بدمائي ابنيَّ لو خلع البقاء على امرء ... لخلعت من شغفي عليك بقائي مغف قد امتلئت ردى بدل الكرى ... عيناك فاقد لذَّة الإغفاء داءٌ ترحّل فيك عنّي معقب ... في مهجتي للوجد أقتل داء لهفي عليك بكلّ حين أبتغي ... فيه لقاك ولات حين لقاء ولئن حجبت بحيث أنت من الثرى ... عن ناظريَّ فأنت في أحشائي قربت بك الذكرى وفيك نأى الردى ... نفسي فداؤك من قريب نائي لو متُّ من أسفي عليك فلم يكن ... عجباً ولكنَّ العجيب بقائي لا زال قبراً ضمّ جسمك تربه ... متنسّمٌ بلطائم الأنداء ولئن أبت حيث استقلّ بك الردى ... أن تستهلّ حوافل الأنواء فحدت إليك على العباد مدامعي ... غيثاً جنوب تنفّس الصعداء الفصل الثالث في الغزل قلت في ذلك: فتاة الحيّ حسبك من جفائي ... صلي قبل التفرّق والتنائي أظامية الوشاح إلى مَ أظمي ... وريقك في ترشّفه روائي فرفقاً يابنة الغيران رفقاً ... بذي كبد تحنّ إلى اللقاء صدودك في حشاه أمضُّ داء ... ووصلك عنده أشفى دواء فال خاط الكرى عينَيَّ شوقاً ... لرؤية وجهك الحسن الرواء أما والراميات إلى المصلّى ... كأمثال السهام من النجاء

الباب الثاني في قافية الباء

لقد قلّبن أيدي الشوق منّي ... صريعاً بين ألحاظ الظباء فكم منها لهوت بذات خدر ... يجول بخدّها ماء الحياء بمسبلة المساء على صباح ... ومطلعة الصباح من المساء هظيم الكشح مرهفة التثني ... كسول المشي لاعبة العشاء الباب الثاني في قافية الباء وفيها فصول الفصل الأوّل في المديح قلت فيه هذه المقطوعة: قفا حييا بالكرخ عنّي ربيبها ... فياطيب ريّاه الغداة وطيبها تفيّأ من تلك المقاصير ظلّها ... فعطّر فيهنّ الصبا وجنوبها غزالٌ ولكن في الرصافة ناشىءٌ ... وهل تألَف الغزلان إلاّ كثيبها فوالله ما أدري أزرَّ جيوبه ... على الشمس أم زرّت عليه جيوبها تعشّقته نشوان من خمرة الصبا ... منعم أطراف البنان خضيبها لو أنّ النصارى عاينت نار خدّه ... إذاً أوقدت ناقوسها وصليبها يرشفينها ريقةً عنبيّةً ... كخلق أبي الهادي روت عنه طيبها فتىً كلّ فخر إن نظرنا قداحه ... وجدنا معلاّها له ورقيبها تراه الورى في المحل فرّاج خطبها ... ندىً ولدى فصل الخطاب خطيبها إلى الحسن اجتبنا الفلا بنزائع ... خفاف سيثقلن الحقائب نيبها حلفت بأيديها لسوف أزيرها ... على الكرخ وضّاح العشايا طروبها إذا ما طرحتُ الرّحل عنها بربعه ... غفرت لأيّام الزمان ذنوبها أقول: الكرخ: محلّة من محال بغداد، وبغداد تسمّى الزوراء، قيل: سمّيت بذلك لانحراف قبلتها، وتسمّى مدينة السلام، ويقال: إنّ السلام إسم الدجلة، وهي بلدة أحدثها المنصور سنة أربعين ومائة، ونزلها سنة ست وأربعين، وفي سنة تسع وأربعين تمّ بناؤها، وهي بغداد القديمة التي بالجانب الغربي على دجلة، وهي بين دجلة والفرات، وبغداد الثانية؛ وهي الجديدة، التي في جانب الشرقي، وفيها دور الخلفاء، وهي عبارة عن سبع محال لا تفتقر محلة منها إلى غيرها على شاطىء دجلة، فالذي في الجانب الشرقي الرصافة؛ بناها المنصور حين ضاقت بالرعية والجند سنة إحدى وخمسين وهي مدينة مسوّرة. الثانية: مدفن أبي حنيفة مسوّرة. والثالثة: جامع السلطان غير مسوّرة. والرابعة: مدينة المنصور في الجانب الغربي وتُسمّى باب البصرة، وكان بها ثلاثون ألف مسجد وخمسة آلاف حمّام. والخامسة: مشهد الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مسوّرة. والسادسة: الكرخ مسوّرة. والسابعة: دارالقز مسوّرة. ويقال: إنّ المنصور سمّي بالدوانيقي لأنّه كان يحاسب العملة على الدانق لبخله. والنصارى أُمّة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. قال في كتاب الملل والنحل: أنّه أوحي إليه إبلاغاً عند الثلاثين، وكانت مدّة دعوته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيّام، فلمّا رفع إلى السماء اختلف فيه الحواريون وغيرهم، واختلافاتهم فيه تعود إلى أمرين: أحدهما: كيفيّة نزوله واتّصاله بأُمّه وتجسّد الكلمة. والثاني: كيفيّة صعوده واتّصاله بالملائكة توحّد الكلمة. أمّا الأوّل فمنهم من قال أشرق على الجسد إشراق النور على الجسم المشف، ومنهم من قال ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني، ومنهم من قال تدرّع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء. وأثبتوا لله ثلاثة أقانيم، قالوا: الباري تعالى جوهر واحد يعنون به القائم بالنفس لا التحيز والحجمية فهو واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنومية، ويعنون بالأقانيم الصفات كالوجود والحياة والإبن وروح القدس، وإنّما تدرّع وتجسّد دون سائر الأقانيم. وقالوا في الصعود أنّه قتل وصلب، قتله اليهود حسداً وبغياً وإنكاراً لنبوّته ودرجته، ولكنّ القتل ما ورد على الجزء اللاهوتي وإنّما ورد على الجزء الناسوتي كما قالوا. وكمال الشخص ثلاثة أشياء: نبوّة وإمامة ومملكة، وغيره من الأنبياء موصوفين بهذه الخصال الثلاث أو بعضها والمسيح درجته فوق ذلك، لأنّه الابن الوحيد فلا نظير له ولا قياس له إلى غيره من الأنبياء، وهو الذي غفرت به زلّة آدم عليه السلام، وهو الذي يحاسب الخلق.

ولهم في النزول خلاف: فمنهم من يقول ينزل قبل يوم القيامة، ومنهم من يقول لا نزول له إلاّ يوم الحساب، وإنّه بعد أن قتل وصلب نزل فرأى شخصه شمعون الصفا، كلّمه وأوصى إليه ثمّ فارق الدنيا وصعد إلى السماء، ومعتقداتهم الفاسدة كثيرة لا داعي إلى الإطالة في ذكرها. والناقوس هو الذي تضرب به النصارى لأوقات الصلواة. قال جرير: لمّا تذكّرت بالديرين أرَّقني ... صوت الدجاج وضرب بالنواقيس وما أحسن قول البحترى في هجائه قوماً من النصارى وذلك حيث يقول: دارٌ بها جهل السماح وأنكر ال ... معروف بين شماسمس وقسوس لم يسمعوا بالمكرمات ولم ينخ ... في دراهم ضيف سوى إبليس أسيافهم خشب وحلف نسائهم ... إمّا حلفن بفيشة القسّييس آذانهم وقرٌ عن الداعي إلى ال ... هيجاء مصغيةٌ إلى الناقوس والصليب، قال في مجمع البحرين هو للنصاري هيكل مربّع يدّعون أنّ عيسى عليه السلام صلب على خشبة على تلك الصورة، وقيل هو شيء مثلّث كالتماثيل تعبده النصارى. قال البحتري يهجو نصرانياً وذكر الناقوس والصليب، وذلك أنّ البحتري إدّعى على ذلك النصراني بدين فأنكره عليه، فقال له البحتري: أحلف بما أحلف به من شعري، ثمّ أنشأ قصيدته التي أوّلها: تظنُّ همومي لم تعتلج ... وقد خلج البين من قد خلج فخالفت مريم في دينها ... وفارقت ناموسها المنتهج إلى أن يقول: وخرقت غفورها كافراً ... بمن غزل الثوب أو من نسخ وأوقدت ناقوسها والصليب ... تحت عشائك حتّى نضج وبكرت تخرؤ في المذبح ال ... كبير وتلطخ تلك الدرج وأعظمت ما أعظمته اليهود ... تصلّي لقبلتهم أو تحج وأير طماس إذا ما أشضَّ ... في صدع امرأتك المنفرج ونكت عجوزك حتّى ترد ... في وجهها داخلاً ما خرج فقال النصراني: أنا لا أستحلّ أن أعود لسماع مثل هذا فكيف أحلف به، ثمّ خرج إليه من ذلك الدين الذي كان عليه. وهجا مهيار الديلمي نصرانياً وذلك أنّه مدح بعض الرؤساء فأحاله في جائزته على عامل عنده وكان نصرانيّاً، ثمّ سافر ذلك الممدوح فمطله النصراني ولم يقضه، فكتب مهيار إلى الرئيس بهذه القصيدة ويذكر فيها قصّته مع النصراني، أوّلها: إذا عارضٌ نحو أرض عدل ... وطاب الهواء له واعتدل إلى أن يقول منها: فخالف أمرك فيما أمرت ... ثقيل إذا خفّ رضوى ثقل كأنّي أنا قلت في مريم ... وحاشا لها من بغيّ الحبل وهدّمت قبلة ماسرجس ... وأطفأت قنديلها المشتعل وشاركت في دم عيسى اليهود ... كما عنده أنّ عيسى قتل فقولي في البيت الذي تعرّضت فيه لذكر النصارى وهو: لو أنّ النصارى عاينت نار خدّه الخ، معناه أنّ النصارى لو عاينت نار خدّه لانقلبت مجوساً، وأوقدت ناقوسها وصليبها بمعنى تركت معتقدات النصرانية ودانت بمعتقدات المجوسيّة من عبادة النّار. قال أبو تمام: وكذاك أهل النّار في الدنيا هم ... يوم القيامة جلُّ أهل النّار وقال الصفي الحلّي من جملة موشّحه: فاسقنيها قهوة تكسو الكؤسبسنا الأنواروتميت العقل إذ تحيي النفوسراحة الأسراربنت كرم عتقت عند المجوسفي بيوت النّارغرست كرمتها بين القيانيد أفلاطونوبماء الصرح قد كان يطاندنّها المخزونوعلى ذكر المجوس حكاية أبي الهذيل مع المجوسي روى ذلك السيّد المرتضى في الدرر عن أبي الهذيل قال: قلت لمجوسي: ما تقول في النّار؟ قال: بنت الله، قلت: فما البقر؟ قال: ملائكة الله قصَّ أجنحتها وحطّها إلى الأرض يحرث عليها، قلت: فما الماء؟ قال: نور الله، قلت: فما الجوع والعطش؟ قال: فقر الشيطان وفاقته، قلت: فمن يحمل الأرض؟ قال: بهمن الملك أعظم ملائكة الله، فقلت: ما في الدنيا شرّ من المجوس، أخذوا ملائكة الله فذبحوها ثمّ غسلوها بنور الله ثمّ شووها ببنت الله ثمّ دفعوها إلى فقر الشيطان وفاقته ثمّ سلحوها على رأس بهمن أعزّ ملائكة الله، فانقطع المجوسي وخجل ما لزمه. والقداح سهام الميسر وهي عشرة؛ ثالثها الرقيب وسابعها العلى، ومن ضرب بها فأحرز هذين السهمين فقد فاز بالإنصباء العشرة.

وعلى قولنا في هذه المقطوعة: ولدى فصل الخطاب خطيبها، ما روي عن السفّاح أنّه أراد أن يخطب يوماً فارتجّ عليه، كانت أوّل خطبة خطبها، فقال: أيّها النّاس! إنّما اللسان بضعة الإنسان، يكلُّ بكلاله إذا كلَّ، وينفسح بانفساحه إذا انفسح، ونحن أُمراء الكلام، منّا تفرّعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنّا لا نتكلّم هذراً، ولا نسكت حصراً، بل نتكلّم مؤيّدين، ونسكت معتبرين، ثمّ نزل، فبلغ ذلك أبا جعفر أخاه، فقال: لله هو لو خطب بمثل ما اعتذر به لكان من أخطب العرب، وهذا من أبلغ الإعتذار عند استغلاق الكلام وأحسنه. وخطب آخر فلمّا بلغ إلى قوله أمّا بعد، أُرتجّ عليه فكرّرها ثمّ قال: أمّا بعد؛ فإمرأتي طالق ثلاثاً. وخطب بعض الأُمراء فلمّا بلغ إلى قوله أمّا بعد، أُرتجّ عليه، فركل المنبر برجله وقال: فتى حروب لا فتى منابر. وخطب ثابت مولى يزيد بن المهلّب فارتُجَّ عليه، فنزل وهو يقول: فإلاّ أكن فيكم خطيباً فإنّني ... بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب وفي رواية أُخرى: فإلاّ أكن فيكم خطيباً فإنّني ... ضروب بماضي الشفرتين صقيل فبلغ ذلك يزيداً فقال: لو قاله على المنبر لكان من أخطب الناس، إنتهى. واعلم أنّه ينبغي للمنشىء، شاعراً كان أو كاتباً، أن يتأنّق من قصيدته أو خطبته أو رسالته في ثلاثة مواضع: الإبتداء، والتخلّص، والإنتهاء، وإن كان ينبغي له التأنّق والمحافظة في جميع كلامه، إلاّ أنّ الإهتمام بشأن هذه المواضع الثلاثة ألزم، ورعايته أوجب، لأنّ الإبتداء أوّل ما يقرع السماع ويصافح الذهن، فإن وافق السمع ابتداءً مليحاً أصغى إليه، وربّما اغتفر لأجله بعض التقصير فيما بعد، وإن وافق ابتداءً قبيحاً نفره ومجّه، وربّما توجّه اللوم على صاحبه وإن أجاد فيما بعد. ولأنّ التلخّص؛ وهو الإنتقال ممّا يبقى منتظراً له السامع، مرتقباً كيف يكون، فإن كان حسناً متلايم الطرفين، حرّك من نشاط السامع وأعان على الإصغاء إلى ما بعده وإلاّ فبالعكس. ولأنّ الإنتهاء آخر ما يعيه السمع ويرتسم في النفس، فإن كان مختاراً حسناً تلقّاه السمع واستلذّه، وإن كان بخلاف ذلك كان العكس. ولا بأس بالكلام على هذه المواضع الثلاثة مفصّلاً، وذكر بعض المقابح التي اتّفقت للشعراء في أثناء قصائدهم. أقول: أمّا الإبتداء: فقد قال بعض علماء الفن أنّه يُسمّى حسن الإبتداء، ويُسمّى براعة المطلع، وحسن المطلع، وبراعة الإستهلال، وينبغي التأنّق فيه بأن تكون ألفاظه متقاربة في الرقّة والجزالة والعذوبة والسلاسة، وأن تكون متناسبة من غير أن يكتسي اللفظ الشريف المعنى السخيف، ولا اللفظ السخيف المعنى الشريف، بل يصاغان صياغة تلايم وتناسب، وبأن يكون سالماً من التناقض والإمتناع ومخالفة العرف والإبتذال وأمثال ذلك من التعقيد وغيره، وأن يستعمل الألفاظ الرقيقة في ذكر الأشواق ووصف أيّام البعاد وفي استجلاب المودّاة وملاينات الإستعطاف وأمثال ذلك، فمن حسن الإبتداء في تذكار الأحبّة والمنازل قول امرء القيس: قفانيك من ذكري حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل قالوا: إنّه أبدع فيه لأنّه وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في نصف بيت عذب عذب اللفظ حسن السبك، إلاّ أنّهم انتقدوا عليه عدم المناسبة في الشطر الثاني، وقالوا أحسن منه في تناسب القسمين قول النابغة: كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... وليل أُقاسيه بطيّ الكواكب فإنّ قسميه متناسبان، وألفاظه متلائمة، وإن كان بيت امرء القيس أكثر معانياً منه، وما سمع أشدّ مباينة من قسمي بيت جميل: ألا أيّها النوّام ويحكم هبوا ... أُسائلكم هل يقتل الرّجل الحبّ ولقد قال الرشيد يوماً لبعض ندمائه: هل تعرف بيتاً نصفه بدوي في شملة وباقيه محتب بذلة، فأنشده البيت، فاستحسن ذكره. ومن حسن الإبتداء قول أشجع السلمي: قصرٌ عليه تحيّة وسلام ... خلعت عليه جمالها الأيّام وقول أبي تمام: لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خفّ الهوى وتولّت الأوطار وقول المتنبي: أتراها لكثرة العشّاق ... تحسب الدمع خلقة في المئآقي وقول الشريف أبي جعفر البياضي مشيراً إلى الإبل: رفقاً بهنَّ فما خلقن حديدا ... أوما تراها أعظماً وجلودا

وأحسنه ما ناسب المقصود، بأن يكون فيه إشارة إلى ما سيق الكلام لأجله، ليكون الإبتداء مشعراً بالمقصود، وهو بهذا الإعتبار يُسمّى براعة الإستهلال، من برع الرجل براعة إذا فاق أصحابه في العلم وغيره، فكأنّ هذا الإبتداء فاق غيره من الإبتداءات التي يستهلّ بها الشعراء فمنه قول أبي محمّد الخازن في تهنئة الصاحب بن عبّاد بمولود لابنته: بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا ... وكوكب المجد في أُفق العلى صعدا وقول المتنبّي في التهنئة بزوال المرض: المجد عوفي مذ عوفيت والكرم ... وزال عنك إلى أعدائك الألم وقول مهيار المشعر بالإعتذار: أما وهواها عذرة وتنصّلا ... لقد نقل الواشي إليها فأمحلا وقول الباخرزي المشعر بالتهنئة في النصر على الأعداء: وفت السعود بوعدها المضمون ... وتباشرت بالطائر الميمون وعلا لواء المسلمين وشافهوا ... تحقيق آمال لهم وظنون وقول أبي الطيب المتنبي في الإعتذار والتهنئة: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال ومن البديع الفائق قول أبي تمام يهنّي المعتصم بالله في فتح عمورية، وكان أهل التنجيم زعموا أنّها لا تفتح في ذلك الوقت: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهنَّ جلاء الشك والريب والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب ولولا خوف الخروج عمّا نحن فيه لذكرت هذه القصيدة برمّتها، لأنّها من خيار الشعر وأبلغه وأحسنه. ولا بأس بذكر ما عيب على بعض الشعراء في ابتداء قصائدهم وفي أثنائها، من وقوع ما لا يليق أن يخاطب به الملوك، وما يتطيّر منه، وما يكون مستثقلاً بسبب تكرار اللّفظ الواحد في البيت لغير تجنيس، وما يتضمّن معنيين حسناً وقبيحاً إلى غير ذلك ممّا تجب المحافظة على اجتنابه، فلقد عيب على امرء القيس قوله: غدائره مستشزرات إلى العلا ... تظلّ العقاص في مثنى ومرسل لتنافر لفظة مستشزرات وثلها على اللسان وعسر النطق بها. ورؤبة بن العجّاج في قوله: وفاحماً ومرسنا مسرجا ... وكفلاً وعثا إذا ترجرجا لفظة "مسرج" فيها الغرابة. وأبي النجم الفضل بن قدامة بن عبيد الله العجلي في قوله: الحمد لله العليّ الأجلل قالوا: لفظة "أجلل" مخالفة للقياس اللغوي، إذا القياس الأجلّ بالإدغام. والفرزدق في قوله: وما مثله في الناس إلاّ مملكا ... أبو أُمّه حيٌّ أبوه يقاربه عابوا عليه التعقيد، لأنّ بيته لم يكن ظاهر الدلالة على المراد لهذا الخلل الذي في نظمه. وقيل: إنّ ذا الرمّة أنشد عبد الملك قوله: ما بال عينيك منها الماء ينسكب، وكانت عين عبد الملك دائماً تدمع، فتوهّم أنّه خاطبه وعرّض به، فقال له: وما سؤالك عن هذا يابن الفاعلة؟ وأمر بإخراجه. وجرير الخطفي لمّا أنشد عبد الملك: أتصحو أم فؤادك غير صاحي ... عشيّة همّ صحبك بالرواح فقال له عبد الملك: بل فؤادك يابن الفاعلة. والأخطل لمّا دخل على عبد الملك وأنشده: خف القطين فراحوا منك أو بكروا، فقال له: بل منك يابن الفاعلة. وكذلك أبوالنجم لمّا أنشد هشاماً وكان أحولاً: صعوآء قد كادت ولمّا تفعل ... كأنّها في الأُفق عين الأحول ظنّ هشام أنّه عرّض به فأمر بضربه، فضُرِب، وقال: أدبه خير من جائزته. وأبو عبداة البحتري لمّا أنشد يوسف بن محمّد قوله: لك الويل من ليل بطاءٌ أواخره فقال: بل لك الويل والحرب. وابن مقاتل الضرير لمّا أنشد الداعي العلوي: موعد أحبابك بالفرقة غد، قال: بل موعد أحبابك ولك المثل السوء. وأنشد أيضاً يوم المهرجان: لا تقل بشرى ولكن بشريان ... غرّة الداعي ويوم المهرجان فبطحه وضربه خمسين سوطاً وقال: إصلاح أدبه خير من ثوابه، وأمر بتغيير الإبتداء بأن يقال: إن تقل بشرى فهذي بشريان. ويقال: إنّه اعترض عليه الداعي بعد ضربه وقال: كان ينبغي أن يؤخّر المصراع الأوّل ويفتتح بالثاني، فقال: أيّها الفاضل! أفضل الذكر لا إله إلاّ الله، فقال: أحسنت أحسنت، وأمر له بصلة.

وأبو تمام لمّا أنشد أبو دلف العجلي قصيدته البائية التي ابتداؤها: على مثلها من أربع وملاعب، وكان في المجلس رجل يشنؤه، فقال: لعنه الله والملائكة والناس أجمعين. وكان في أبي تمام حبسة شديدة فانقطع خجلاً. ونقل صلاح الدين الصفدي أنّ شاعراً أنشد الشريف فخرالدولة ابن أبي الحسن نقيب الطالبيين قصيدة يهنّيه في شهر رمضان، وكان الشريف يتأذّى بالصوم لمرض يجده، فكان ابتداء قصيدته: أيّامنا بك كلّها رمضان، فقال الشريف: طوالٌ والله مشؤمة لديّ، مكروهة عندي، مبغضة إليّ، وحرمه ولم يعطه شيئا. ودخل أبو إسحاق الموصلي على المعتصم وقد فرغ من بناء قصر، فأنشده: يا دار غيرك البلى ومحاك ... ياليت شعري ماالذي أبلاك فتطيّر المعتصم من هذا الإبتداء وأمر بهدم القصر على الفور. وأبو نؤاس مدح الفضل في قوله: أربع البلا إنّ الخشوع لبادي ... عليك وإنّي لم أخنك ودادي فتطيّر الفضل من هذا الإبتداء، فلمّا بلغ إلى قوله: سلام على الدّنيا إذا ما فقدتموا ... بني برمك من رائحين وغادي إستحكم تطيّره ولم يمض أُسبوع إلاّ ونزلت بهم النازلة. وقال الثعالبي في يتيمة الدهر: إنّ لأبي الطيب المتنبّي إبتداآت ليست لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستشنعة لا يرفع السمع لها حجابه، ولا يفتح القلب لها بابه، كقوله في استفتاح قصيدة في مدح ملك يريد أن يلقاه بها أوّل لقية: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا وفي الإبتداء بذكر الداء والموت والمنايا ما فيه من الطيرة التي تنفر منها السوقة، فضلاً عن الملوك. وقوله أيضاً: أوه بديلٌ من قولتي آها، وهو بحمة العقرب أشبه في افتتاح الكلام في مخاطبته ملكاً. وقوله أيضاً: آحاد في سداس في آحاد ... ليلتنا المنوطة بالتناد وهذا كلام الخطل، ورطانة الرطن، وما ظنّك بممدوح شمر للسماع من مادحه فسك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة، والمعاني المنبوذة، وأيّ هزّة تبقى لذاك؟ وأيّ أريحيّة تبقى لهذا؟ ومن ابتداآته المستبشعة التي تنكّرها بديهة السماع قوله: ملثّ القطر أعطشها ربوعا ... وإلاّ فاسقها السمَّ النّقيعا وقوله أيضاً: هذي برزت لنا فهجّت رسيسا ... ثمّ انثنيت وما شفيت نسيسا فإنّه لم يرض بحذف النداء من هذي، وهو غير جائز عند النحويين، حتّى ذكر الرسيس والنسيس، فأخذ بطرفي الثقل والبرودة. قال الصاحب بن عبّاد: ذكر الأُستاذ الرئيس يوماً الشعر، فقال: أوّل ما يحتاج فيه حسن المطلع، فإنّ أبا دلباب أنشدني يوم نوروز قصيدة ابتداؤها: أقبر فما طلب النوال بطائل، فتطيّرت من افتتاحه بالقبر وتنغّصت باليوم والشعر. قلت: كذا كانت حال ابن مقاتل لمّا مدح الداعي العلوي بقوله: لا تقل بشرى ولكن بشريان، فإنّه نفر من قوله: لا تقل بشرى وقال: أعمى وابتدأ بهذا في يوم المهرجان. قال الصاحب: وهي من عيون قصائده التي تحيّر الأوهام. وقال ابن ضافر: صنعت قصيدةً بالشام سنة تسع وثمانين ومائة في الملك الأفضل أبي الحسن علي ابن الملك الناصر نورالدين، أوّلها: دعها ولا تحبس زمام المقود ... تطوي بأيديها بساط الفدفد وأنشدتها لمّن كان بالعسكر من أصحابنا المنتسبين إلى الأدب، فما منهم إلاّ من بذل جهده في نقدها ورمى بأفلاذ كبده فيها فكره، ثمّ حملتها إلى حضرته فصادفت قبولاً واتّفق بعد ذلك أن أنشدتها لابن الأجلّ التكريتي، فلمّا أنشدته البيت الأوّل قال: ما يؤمنك إذا أخذ مدرجها في يده وفتحه فوجد أوّل ما فيها: دعها أن يلقيها من يده ويقول قد فعلت ألست كنت تفتضح؟ قلت: بلى والله ولكن قد وقى الله. قال: وهذا نقدٌ غريب. وقال الصاحب بن عبّاد: ما زال الناس يستبشعون قول مسلم بن الوليد: سلت وسلت ثمّ سل سليلها ... فأتى سليل سليلها مسلولا حتّى جاء المبدع يعني أباالطيب المتنبي فقال: وأفقد من فقدنا من وجدنا ... قبيل الفقد مفقود المثال قال: والمصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي، وقوله أيضاً: عظمت فلمّا لم تكلّم مهابةً ... تواضعت فهو العظم عظماً على عظم قال صلاح الدين الصفدي: لو سمّي هذا البيت جبانة لكان لائقاً به.

قال الصاحب بن عبّاد: ما أحسن ما قاله الأصمعي لمّن أنشده: فما للنوى جدّ النوى قطع النوى ... كذاك النوى قطاعة لوصال سلّط الله على هذا البيت شاةً تأكل هذا النوى كلّه. وقول أبي الطيب المتنبي أيضاً: أُسدٌ فرائسها الأُسود يقودها ... أُسدٌ تصير له الأُسود ثعالبا قال ابن رشيق: لا أدري من أين تخلّص من هذه الغابة المملوّة أُسوداً. وقوله أيضاً: العارض الهتن ابن العارض الهتن ... ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن قال ابن وكيع: لولا انتهاء القافية لمضى في العارض الهتن إلى آدم، وبانتهاء القافية علمنا نهاية عدد آبائه المستحقّين للمدح وهم ثلاثة ويقف هذا الأمر. وقوله أيضاً: جواب مسائلي أله نظيرٌ ... ولا لك في سؤالك لا إلى لا قال الصاحب: إنّ مثل هذا البيت يلج سمعاً وقد سمعت بألفافا وما سمعت باللآلاء حتّى رأيت قائل هذا البيت المتكلّف المتعسّف الضعيف الذي لا يقف حيث يعرف. وقوله أيضاً: ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنّه بي جاهل وقوله أيضاً: ولا ضعف حتّى يتبع الضعف ضعفه ... ولا ضعف ضعف الضعف بل مثله ألف وقوله أيضاً: ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام وقوله أيضاً: وقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشا ... قلاقل عيس كلّهنّ قلاقل وذكر صلاح الدين الصفدي قال: أنشد الصاحب أبوالقاسم ابن عبّاد عضدالدولة قصيدته الملقّبة باللاكنيّة لكثرة ما كرّر فيها "لكن" وأوّلها: أشبب لكن بالمعالي أشبب ... وانسب لكن بالمفاخر أنسب وبي صبوة لكن إلى حضرة العلى ... وبي ظمأ لكن من العزّ أشرب فلمّا بلغ إلى قوله فيها: ضممت على أبناء تغلب تائها ... فتغلب ماكر الجديدان تغلب قال عضدالدولة: يكفي الله تطيّراً من قوله تغلب. وروى صاحب معاهد التنصيص قال: حدّث أبو دعامة أنّ سلم الخاسر دخل على الرشيد فأنشده قوله: حيّ الأحبّة بالسلام، فقال الرشيد: حيّاهم الله، فقال: أعلى وداع أم مقام؟ فقال الرشيد: حيّاهم الله على أيّ ذلك كان، فأنشده: لم يبق منك ومنهم، إلاّ الجلود على العظام، فقال الرشيد: بل منك ومن أحبابك، وأمر بإخراجه وتطيّر منه ومن قوله، فلم يسمع باقي قصيدته ولا أثابه بشيء. ومثله في إسائة الأدب قول أبي الطيب المتنبي: فغدا أسيراً قد بللت ثيابه ... بدم وبلَّ ببوله أفخاذا وقوله أيضاً: خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العوانق قال الثعالبي: وذكر البول والحيض ممّا لا يحسن ذكره في مخاطبة الملوك. وقول عامر بن شهيد: ذكرٌ على ذكر يصول ... وصارمٌ يسطو بصارم قال ابن ظافر: قد غفل عامرٌ غفلة شديدة، وأساء من حيث ظنّ أنّه أحسن في قوله لممدوحه: ذكر على ذكر. وقول أبي الفتوح ابن قلاقس على أنّه شمس علاء وعطارد ذكاء: بطلاقة أبدت بصفحة وجهه ... وضح الصباح لمن له عينان قالوا: ما علمنا أنّه يجعل في وجهه وضحاً حتّى جاء هذا الفاضح ابن شهيد فجعله على ذكر. وقول الصاحب بن عبّاد حين أنشد عضدالدولة ابن بويه الديلمي: ولو كنت تأذن لي بالمسير ... إذاً نهضت جملة الحاشيه سبقت جوادك مدّ الطريق ... وسرت وفي يدي الغاشيه فعتب عليه في قوله: في يدي الغاشيه. وقول مهيار الديلمي: وإنّك مذخور لإحياء دولة ... إذا هي ماتت كان في يدك النشر قال صلاح الدين الصفدي: إنّي لأعجب من مهيار الديلمي على جلالة قدره واتّقاد خاطره وحسن تخيّله كيف يقول لممدوحه في يدك النشر. وقول أبي بكر الخالدي حين أنشد سيف الدولة قصيدة تأنّق فيها وأحكم ألفاظها بقوافيها، وكان المخنّث حاضراً، فلمّا انتهى فيها إلى قوله: وأنكرت شيبة في الرأس واحدة ... فعاد يسخطها من كان يرضيها فقال المخنّث: أما تستحي تخاطب الأمير بقولك: واحدة؟ فجنّ الخالدي تعجّباً منه فقال له: ما أقول؟ قال: قل: لائحة أو واضحة. وكان أبوبكر وأبو عثمان الخالديّان من خواص سيف الدولة، فبعث إليهما وصيفاً ووصيفة ومع كلّ منهما بدرة وتخت ثياب مصريّ، فقال أحدهما قصيدة طويلة يشكره على صنيعه، فيها:

لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا ... إلاّ ومالك في النوال حبيس خوّلتنا شمساً وبدراً أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس رشأ أتانا وهو حسناً يوسفٌ ... وغزالةٌ هي بهجة بلقيس هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتّى بعثت المال وهو نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرةً ... وأتى على ظهر الوصيف الكيس وحبوتنا ممّا أجادت حوكه ... مصرٌ وزادت حسنه تنبيس فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس فقال له سيف الدولة: أحسنت إلاّ في لفظة المنكوح فليس هو ممّا يخاطب به الملوك. وقال أبوالطيب المتنبي: علَّ الأمير يرى ذلّي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا عابوا عليه ذلك حيث جعل ممدوحه ساعياً بينه وبين محبوبته في الوصال، ولا خفاء في دنائة هذه الرتبة، وقد سبقه إلى ذلك أبو نؤاس مع أنّه أقلّ شناعة، وإن كان الكلّ شنيعاً، وذلك حيث يقول: سأشكو إلى الفضل ابن يحيى بن خالد ... هواك لعلَّ الفضل يجمع بيننا وقد سبقهما إلى ذلك قيس بن ذريح حين طلّق زوجته لبنى وتزوّجت غيره، فندم على ذلك وشبّب بها في كلّ معنى، فرحمه ابن أبي عتيق فسعى في طلاقها من زوجها وأعادها إليه، فقال يمدحه: جزى الرحمن أفضل ما يجازي ... على الإحسان خيراً من صديق وقد جرّبت إخواني جميعاً ... فما ألفيت كابن أبي عتيق سعى في جمع شملي بعد صدع ... ورأي حدت فيه عن الطريق وأطفأ لوعةً كانت بقلبي ... أغصّتني حرارتها بريقي فلمّا سمعها ابن أبي عتيق قال لقيس: أمسك يا حبيبي عن هذا المدح، فما يسمعه أحد إلاّ ويظنّني قوّاداً. وقول أبي الطيب المتنبي من قصيدة يرثي أخت سيف الدولة ويعزّيه عنها: وهل سمعت سلاماً لي ألمَّ بها ... فقد أطلتُ وما سلمتُ عن كثب عابوا عليه وقالوا: ما باله يسلّم على حرم الملوك ويذكر منهنّ ما يذكره المتغزّل. وقوله أيضاً من هذه القصيدة: يعلمن حين يحبي حسن مبسمها ... وليس يعلم إلاّ الله في الشنب قال أبوبكر الخوارزمي: لو عزّاني إنسان في حرم لي بمثل هذا لألحقته بها وضربت عنقه على قبره. وقال الصاحب بن عبّاد: مررت لأبي الطيب على مرثية في أُمّ سيف الدولة تدلّ على فساد الحس في سوء أدب النفس، وما ظنّك فيمن يخاطب ملكاً في أُمّه فيقول: بعيشك هل سلوت فإنّ قلبي ... وإن جانبت أرضك غير سالي فيتشوّق إليها ويخطي خطاً لم يسبق إليه وإنّما يقول هذا من يرثي بعض أهله فأمّا إستعماله إيّاه في هذه المواضع فدالٌّ على ضعف البصر بمواقع الكلام. وفي هذه القصيدة يقول: صلاة الله خالقنا حنوطا ... على الوجه المكفّن بالجمال قال الصاحب بن عبّاد: لا أدري هذه الإستعارة أحسن أم وجه والدة الملك يرثيها بالجمال أم قوله في وصف قراباتها وجواريها: أتتهنّ المصيبة غافلات ... فدمع الحزن في كحل الدلال وقول المتنبي أيضاً من قصيدة أُخرى: فلا يحزن الله الأمير فإنّني ... لآخذ من حالاته بنصيب قال الصاحب بن عبّاد: لا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ المتنبّي بنصيب من حالاته. وقوله أيضاً: تبلُّ خدّي كلّما ابتسمت ... من مطر برقه ثناياها قالوا: هذه كانت تبصق في وجهه. وقوله أيضاً: يقلّبهم وجه كلّ سابحة ... أربعها قبل طرفها تصل قيل: إنّ الجزار التغلبي قال عندما سمع هذا البيت: هذه كانت عينها في أُستها. وقوله أيضاً: كفّي بجسمي نحولاً إنّني رجلٌ ... لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني قالوا: فهو إذاً ضرطة تسمع ولا ترى. وقول الحاجري: ومااخضرّ ذاك الخدّ نبتاً وإنّما ... لكثرة ما شقّت عليه المرائر فلمّا سمعه الناصر بن العزيز قال: عسى أن يكون الخدّ مسلخاً. وقول مهيار: في صدرها حجرٌ وتحت صدارها ... ماءٌ يشف وبنانة تتعطّف قالوا: أُنظر إلى قوله: في صدرها حجر، ما أبشعه لما فيه من إيهام الدعاء.

هذا خلاصة ما أردنا إيراده من محاسن براعة المطلع ومقابح الإبتداء، وما وقع من الهفوات في أثناء قصائد الشعراء، وهي كثيرة يلزم من الوقوف على جميعها الخروج عمّا نحن فيه، وهذا القدر كاف في التنبيه لمن له لبّ وذهن. وأمّا التخلّص ويُسمّى حسن التخلّص، وبراعة التخلّص وحقيقته: الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره بلطيفة تلايم بين الكلام الذي خرج منه والكلام الذي خرج إليه، فإن كان الخروج بغير لطيفة وبغير مناسبة تربط بين الكلامين فهو الإقتضاب ويُسمّى الإقتطاع والإرتجال أيضاً وهو أن ينتقل الناثر والناظم ممّا ابتدء به الكلام إلى ما لا يالائمه، وهذا مذهب الجاهليين والمخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام مثل لبيد وحسّان، وبعض الإسلاميّين جرى على منهاجهم في ذلك كأبي تمام وغالب شعر البحتري وغالب شعر أبي نؤاس، فممّا جاء لأبي نؤاس قوله في مدح الأمين: يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن سنّة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن ظنَّ بي من قد كلّفت به ... فهو يجفوني على الظنن نام لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن ما بدا إلاّ استرقّ له ... حسنه عبداً بلا ثمن فاسقني كأساً على عذب ... كرهت مسموعه أُذني من كميت اللون صافية ... خير ما سلسلت في بدن ما استقرّت في فؤاد فتى ... قد رأى ما لوعة الحزن مزجت من صوب غادية ... حلبته الريح من مزن تضحك الدنيا إلى ملك ... قام بالآثار والسنن فهو كما ترى انتقل من وصف الخمرة إلى المديح من غير لطيفة ولا مناسبة تلايم بينهما. ولأبي عبادة البحتري من قصيدة: سقاني الفهوة السلسل ... شبيه الرشأ الأكحل مزجت الراح من فيه ... بمثل الراح أو أفضل إلى أن قال فيها: فلمّاسرّت الراح ... به سمح واسترسل وقطع التكّة الرأي ... إذا التكّة لم تحلل جزى الله أبا نوح ... جزاء المنعم المفضل وهذا كما تراه قد انتقل من وصف محبوبه إلى الدعاء لممدوحه بغير لطيفة ولا مناسبة. وأمّا حسن التخلّص الذي نحن بصدده فقد ولع به المتأخّرون فأبدعوا فيه وجاؤوا منه بكلّ غريب، ونحن نذكر من ذلك ما يدلّ على صدق الدعوى. قال أبو نؤاس يمدح الخصيب صاحب مصر: تقول التي من بيتها خفَّ محملي ... يعزُّ علينا أن نراك تسير أما دون مصر للغنا متطلّب ... بلى إنّ أسباب الغنا لكثير فقلت لها واستعجلتها بوادرٌ ... جرت فجرى في أثرهنّ عبير دعيني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير إذا لم تطأ أرض الخصيب ركائبي ... فأيُّ فتىً بعد الخصيب تزور فتىً يشتري حسن الثناء بماله ... ويعلم أنّ الدائرات تدور فما جازه جود ولا حلَّ دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير وهذه القصيدة من طنانات أبي نؤاس، وقد عارضها أحمد بن درّاج القصطلي بقصيدة إن لم تزد عليها في البلاغة فما تنقص عنها، وأمّا ابن فضل الله فقد حكم لها بالمزيّة على قصيدة أبي نؤاس، فمنها قوله: ألم تعلمي أنّ الثواء هو التوى ... وإنّ بيوت العاجزين قبور تخوّفني طول السفار وإنّه ... لتقبيل كفّ العامريّ سفير دعيني أرد ماء المفاوز آجناً ... إلى حيث ماء المكرمات نمير فإنّ خطيرات المهامة ضمّنٌ ... لراكبها إنّ الجزاء خطير ولمّا تدانت للوداع وقد هفا ... بصبري منها أنّةٌ وزفير تناشدني عقد المودّة في الهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير عييٌ بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير فكلّ مفدات الترائب مرضع ... وكلّ محيّات المحاسن ضير عصيت شفيع النفس فيه وقادني ... رواح لتدءآب السرى وبكور وطار جناح العيس بي وهفت بها ... جوانح من ذعر الفراق تطير لئن ودّعت منّي غيوراً فإنّني ... على عزمتي من شجوها لغيور ولو شاهدتني والهواجر تلتظي ... عَلَيَّ ورقراق السراب يمور أُسلّط حرَّ الهاجرات إذا سطا ... عَلَيّ حرّ وجهي والأصيل هجير

واستنشق النكباء وهي لواقح ... واستوطىء الرمضاء وهي ثغور وللموت في عين الجبان تلوّنٌ ... وللذعر في سمع الجريّ صرير لبان لها أنّي من الضيم جازع ... وأنّي على مضّ الخطوب صبور ولو أبصرتني والسري جلُّ عزمتي ... وجرسي لجنيّ الفلات سمير وأعتسف الموماة في غسق الدجى ... وللأسد في غيل الغياض زئير وقد حوّمت زهر النجوم كأنّها ... كواعب في خضر الحدائق حور ودارت نجوم القطب حتّى كأنّها ... كؤسٌ خوال ما لهنَّ مدير وقد خيّلت طرق المجرّة أنّها ... على مفرق الليل البهيم قتير وثاقب عزمي والظلام مروَّع ... وغضي وأجفان النجوم فتور لقد أيقنت أنّ المنى طوع همّتي ... وأنّي بعطف العامري جدير وروي أنّ أبا نؤاس لمّا قدم على الخصيب صادف في مجلسه جماعة من الشعراء ينشدونه مدائح لهم فيه، فلمّا فرغوا قال الخصيب: ألا تنشدنا أبا عليّ؟ قال: أنشدك أيّها الأمير قصيدة هي بمنزلة عصا موسى تلقف ما يؤفكون، فأنشده قوله: أجارة بيتينا أبوك غيور ... وميسور ما يرجى لديك عسير إلى آخر القصيدة وهي هذه التي تقدّمت، فاهتزّ لها وأمر له بجائزة. وأقول: إنّ ما ابتدأ به أبو نؤاس وأحمد بن درّاج وافتتحا به قصيدتيهما وتنقّلا فيهما بتلك المعاني اللطيفة والمقاصد الظريفة من أبلغ تلطّفات الشعراء في التوصّل إلى استعطاف الملوك والأُمراء. وممّن تلطّف في التوصّل لاستعطاف ممدوحه في خطاب زوجته أبو سعيد الرستمي في مدح الصاحب بن عبّاد، وأحببت إيراد ذلك لما فيه من اللطف والظرافة وإن لم يكن ممّا نحن فيه، قال: أمنجزتي وعدي فقد رحل الركب ... ولم تتأنَّ العيس أم تقف الصحب خليلَيَّ لا تستنكرا طول عتبها ... عَلَيَّ فإنّ الحبّ أكثره عتب بنفسي بيضاء العوارض أعرضت ... بوجه كان الشرق من حسنه غرب وبين الإزار المرتوي حقتُ رملة ... وبين الوشاح الملتوي غصنٌ رطب وتحت لثام الخزّ أنفاسها لظىً ... وفوق رداء الكبر أدمعها سكب تبدّت مع الأتراب تدعو على النوى ... وإن لم يكن في الغانيات لها ترب تسيل على الخدّ الأسيل دموعها ... وصبٌّ دموع العين يروى به الصبّ وقد وكلت إحدى يديها بقلبها ... مخافة أن يرفضَّ من صدرها القلب فلمّا أجزنَ الجسر قمن ورائه ... كسرب من الغزلان ليس لها سرب وعضّت بدرّ الثغر فضّة معصم ... يكاد يثنيه من الذهب القلب وكادت تحطّ الرحل لولا عزيمتي ... وجيهية قب ومهريّة نجب وقائلة أذرت مع الكحل دمعها ... إلى أيّ أرض ترحل العيس ظاعناً وخلفك أفراخٌ بها ظمأ زغب تقِ الله فينا لا تزدنا صبابةً ... ببعد فما نلقاه من كثب حسب فقلت ثقي بالله يا أُمَّ معمر ... فبعض الصدى ريٌّوبعض النوى قرب إذا ماانخت العيس بالريّ سالماً ... فمشرعنا عذب ومرتعنا خصب دعيني وطيي نحوها البيد بالسرى ... يقع طائرانا حيث يلتقط الحَبّ ألم تعلمي أنّ الحيا من جنابها ... تصوب عزاليه علينا فينصب فقالت وجالت في نواحي ردائها ... دموعٌ لها في كلّ ناحية غرب فتى رستم لا تذكر البين باسمه ... فديناك إنّ البين أيسره صعب إلى أن يقول فيها ويعرض بذكر أولاده وأُمّه ويخاطب ممدوحه: إذا سار مشتاقٌ إليك فإنّني ... برأسي أخطو بل على هامتي أحبو وما عاقني إلاّ بنون كأنّهم ... فراخ الدَّبي في الجو حدثان مادبوا وقائلة من بعد سبعين حجّة ... شفيعي إليك الضعف والسنُّ والرب أتترك أُمّاً هامت اليوم أو غداً ... يضيق بها من بعدك البلد الرحب منها: سأثني بما أوليتني من صنيعة ... عليك كما يثني على المطر العشب وأدررت لي أضعاف ما قد مريته ... بشعري من نعماك فامتلأ القعب وعاد إنائي من نوالك فيهقا ... يبل الثرى رشحاً وماانقطع الشخب وأسكر أشعاري نداك فرنحت ... بشكرك في الدنيا كما رنح الشرب ومنها: وعمَّ جهات الأرض فيض نواله ... فلم يخل واد من نداه ولا شعب

جوادٌ له في كلّ أُفق غمامة ... وفي كلّ أرض للندى مشرع عذب إذا عدَّ كعب في السماح أبت له ... يمينٌ لها في كلّ أنملة كعب وهي طويلة وكلّ أبياتها فرائد غرر. وقال أبو محمّد الخازن من جملة قصيدة أوّلها: بين المجرَّة والثريّا موقفي ... فتأمّلي ثمّ اعذري أو عنّفي هو موقفٌ خفرته أطراف القنا ... وحمته أشفار الحسام المرهف واصطفت الأُمراء حول سريره ... مثل الأهلّة والنجوم الوقّف وتلألأت شرفاته عن طلعة ... يرتدّ عنا الطرف إن لم يخطف ما قيل إجلالاً وتعظيماً له ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي نظمت ملوك بني بويه لتاجه ... خرزات ملكهم الأغرّ الأشرف وبنوا له صعداء مجد طنّبت ... بشبا المهنّد والسنان المرهف رمقت جبابرة الملوك يفاعها ... بنواظر من خوفه لم تطرف من كلّ وضّاح الجبين متوّج ... علق بلثم بساطه متشرّف غصّت بهم عرصاته فكأنّما ... غصّت بهم عرصات يوم الموقف منها في خطاب محبوبته وهو بالمعنى الذي أوردنا هذا الشعر لأجله، وذلك قوله: يا هذه لو شمت برقك لم يكن ... هذا المقام محصّبي ومعرّفي ولقد سبقت الدهر فيه منشدا ... وكذا الجواد ببذّ شأو المقرف لم تثن عبرتك التي غيّضتها ... عزمي ولا نغمات قولك لي قف هيهات لم ينقض زماعي لؤلؤ ... أذراه نرجس طرفك المستعطف مَنْ مبلغٌ سكني بنجد أنّني ... قد ضقت ذرعاً بالخليل المنصف وبلوت أطواد الزمان فلم أجد ... إلاّ الحسام المنتضى خلاًّ يفي عرضت لألثمها بخدٍّ ورده ... يصفرُّ أحمره إذا لم يقطف فنبا مناط وشاحها عن مخطف ... طاو ومهوى قرطها عن نفنف واستحجبت أترابها ثمّ انثنت ... ترنوا بطرف كالغزال الأهيف ففرشنَ عرض طريقها بغدائر ... تناسب بين محلّق ومصفّف ورمقنَ من حمر القباب بأعين ... رقعن خرق خصاصها المتكشّف ونفرنَ من شيبي ولولا نوره ... لضللت في ظلم الشباب المسدف شيبٌ يناسبه الربيع منوّراً ... بنهاره وبهاره المستظرف لولا بياض النور لم تكن الربى ... وتلاعها إلاّ كقاع صفصف كم منّة مشكورة ومبرَّة ... عند الحدائق للغمام الأوصف لو لم يحلّ بصوبه عطل الربى ... ما اهتزَّ بين مديح ومفوّف كم دوحة لفّآء بين حديقة ... غنّاء في ظلّ الغمام المغدف إلى أن يقول: وتلثّمت شمس النهار ببرقع ... من طرّتيه والسماء بمطرف والأقحوان الغض يجلو مبسّما ... لولا مغازلة الحيا لم يرشف حتّى انتهى إلى قوله: في سدَّة للملك مدَّ رواقها ... علياء فخر الدولة العدل الوفي ملكٌ حوى الدنيا ببأس عابس ... وتبسّم باد وتدبير خفي فحمى قواصيها بعزم ثاقب ... ولوى نواصيها برأي محصف ولقد أجاد أبو تمام وأحسن ما شاء بقوله في هذا المقام: خذي عبرات عينك عن زماعي ... وصوفني ما أذلت من القناع أقلّي قد أضاق بكاك ذرعي ... وما ضاقت بنازلة ذراعي ءألفة النحيب كم افتراق ... أطلَّ فكان داعية اجتماع توجّع إنْ رأت جسمي نحيفاً ... كأنَّ المجد يدرك بالصراع فتى النكبات من يأوي إذا ما ... يطفن به إلى خلق وساع حتّى قال: يثير عجاجة في كلّ ثغر ... يهيم به عديّ ابن الرّقاع (بمهديّ بن أصرم) عاد عوري ... إلي أيراقه وامتدَّ باعي ثمّ نعود إلى ما كنّا في ذكره من التلخّصات البديعية: واعلم أنّ أكملها وأحسنها أن يكون الإنتقال في بيت واحد بحيث لا يفطن السامع إلاّ وهو يرى الشاعر قد انتقل ممّا ابتدأ به إلى ما قصده، وهذا أشبه شيء بالسحر، وما ورد من ذلك للمتقدّمين فقليل، فمن ذلك قول زهير بن أبي سلمى في هرم بن سنان: وركب كأنَّ الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الليل وهي تلفّهم ... إلى شعث الأكوار من كلّ جانب إذا أبصروا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب وقول ذي الرمّة:

سمعت النّاى ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا وصيدح اسم ناقته، وبلال ممدوحه؛ وهو ابن أبي موسى الأشعري وكان يمدحه كثيراً. وأمّا تخلّصات المتأخّرين من الشعراء فقد اعتنوا بها غاية الإعتناء. قال أبو تمام: تقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منّا السرى وخطا المهريّة القود أمطلع الشمس تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلت كلاّ ولكن مطلع الجود قال صلاح الدين الصفدي: والناس يستحسنون هذا من أبي تمام ويعدّونه من الجيد له، وقد أخذه بلفظه من مسلم بن الوليد واجترأ عليه اجتراء السادة على البعيد، لأنّ مسلم هو البادي وأبو تمام هو العادي، وذلك حيث يقول: تقول صحبي وقد جدّوا على عجل ... والخيل تستنُّ بالرّكبان في اللجم أمطلع الشمس تبغي أن تؤمَّ بنا ... فقلت كلاّ ولكن مطلع الكرم وهذا في غاية الحسن التي تكبوا الفحول دون بلوغها، وتعجز الشعراء عن الظفر بمصوغها، فإنّ عين النهى تصل النظر إلى رفعتها وتتأمّل، ومطايا التخييل تكلُّ عن النهوض بعبئها فتتجمّل وما تتحمّل. وقد أخذه أبو إسحاق الغزي فسبكه فلكبه لمّا قال: تقول إذا حثثناها وضلّت ... تناجينا بألسنة الكلال إلى أُفق الهلال مسير ركبي ... فقلنا بل إلى أُفق النوال فأين معالي الشمس ممّا يحاول؟ وأين الثريّا من يد المتناول؟ ولكن هذه الأشياء يتّفق لها سعادة، فما تعارض ولا تقارض. وقال البحتري من جملة قصيدة فريدة: إذا باكرته غاديات همومه ... أراح عليها الراح حمراء كالورد كأنَّ سناها بالعشيّ لشربها ... تبلج عيسى حين يلفظ بالوعد وبديع قول بديع الزمان: أبى المقام بدار الذلّ لي كرمٌ ... وهمّةٌ تصل التوحيد والخببا وعزمةٌ لا تزال الدهر ضاربة ... دون الأمير وفوق المشتري طنبا وقال بعضهم: ومدامع تجري فتحسب أنّ في ... آماقهنَّ بنان إسماعيلا وقول مهيار: فكأنّ دمعي مدّ من أيدي بني ... عبد الرحيم وجودها المستتبع وكأنّ ليلي من تقارب طوله ... أسيافهم موصولة بالأذرع وقوله أيضاً: كأنّما قولنا للبابليّ أدر ... سلافة قولنا للمزيديّ هب وقول الشابّ الظريف محمّد بن العفيف من قصيدة يمدح بها ابن عبد الظاهر، مطلعها: أرح يمينك ممّا أنت معتقل ... أمضي الأسنّة ما فولاذه الكحل يا من ترينا المنايا واسمها نظر ... من السيوف المواضي واسمها مقل ما بال الحاظك المرضى تحاربني ... كأنّما كلُّ لحظ فارسٌ يطل من دونها كثب من دونها حرس ... من دونها قضب من دونها أسل ومعشر لم تزل في الحرب تنظرهم ... حمر الخدود وما من شأنها الخجل يثني حديث الوغى أعطافهم طرباً ... كأنَّ ذكر المنايا بينهم غزل من كلّ ذي طرّة سوداء يلبسها ... وشيبها من غبار الحرب منتصل ضائت بحسنهم تلك الخيام كما ... ضائت بوجه ابن عبد الظاهر الدول وقول البهاء زهير من قصيدة يمدح بها الأمير نصيرالدين الملطي، مطلعها: بها خفرٌ يوم اللقاء خفيرها ... فما بالها ضنّت بما لا يضيرها أعادتها أن لا يعاد مريضها ... وسيرتها أن لا يفك أسيرها يقول فيها: فها أنذا كالطيف فيها صبابة ... لعلّي إذا نامت بليل أزورها من الغيد لم توقد مع الليل نارها ... ولكنّها بين الظلوع سعيرها تقاضى غريم الشوق منّي صبابة ... مروعة لم يبق إلاّ يسيرها وإنّ الّذي أبقته منّي يد الهوى ... فداء نصير يوم وافى نصيرها ومنها قول شيخ شيوخ حماة من قصيدة داليّة يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويلاه من نومي المشرّد ... وآه من شملي المبدّد ولم يزل يدير على خصور هذه الألفاظ الرقيقة، وشاحات معاينة البديعة، إلى أن قال: ألبسني نشوة بطرف ... سكرتُ من خمره فعربد غصن نقاً حلَّ عقد صبري ... بلين خصر يكاد يعقد فمن رأى ذلك الوشاح ال ... صائم صلّى على محمّد ومن التخلّصات البديعيّة قول القاضي الفاضل من قصيدة يمدح بها بعض الخلفاء المهديين، مطلعها:

ترى لحنيني أو حنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغمائم وهل من طلوع أو ربوع ترحّلوا ... فكلٌّ أراها دارسات المعالم دعوا نفس المقروح تحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم تأخّرت في حمل السلام عليكم ... لديها لما قد حمّلت بسلالم فإنَّ فؤادي بعدكم قد فطمته ... من الشعر إلاّ مدحه لابن فاطم ومن الجيّد قول بعضهم وفيه قلب الحروف: قيل كلّ القلوب من ... رهب الحب تضطرب قلت هذا تخرّصٌ ... قلب بهرام ما رهب وأمّا براعة الختام؛ وهو الذي سمّاه التيفاشي حسن المقطع، وسمّاه ابن أبي الأصبع الختام، وسمّاه صاحب التلخيص حسن الإنتهاء، فهو عندهم عبارة عن أن يختم المنشىء إنشائه بأحسن كلام يحسن السكوت عليه، ولا ينتظر المخاطب غيره، ولقد أحسن الحريري المحافظة على ذلك في مقاماته. وأمّا أواخر السور فممّا لا يجاري لأنّها وردت على أكمل الوجوه من الإبتداء والإنتهاء، وكيف لا وهو كلام ملهم الكلام. وأمّا براعة الكلام في الشعر؛ فهي عبارة عن أن يختم القصيدة بأجود بيت يحسن السكوت عليه، لأنّه آخر ما يبقى في الأسماع، وربّما حفظه السامع دون غيره لقرب العهد به، والحذّاق النقّاد يحافظون عليه، قال السيّد الرضي في مدح أبيه: أمعثّر الأحداث في أذيالها ... وافاك مدحي والجدود عواثر إنّي لأرضى أن تكون ممدّحاً ... وعلاك لا يرضى بأنّي شاعر وقال مهيار: فبقيتم والحاسدين علاكم ... لا خير في مجد بغير حسود وقال أبو نؤاس: وإنّي جدير إذ بلغتك بالمنى ... وأنت بما أمّلتُ منك جدير فإن تولني منك الجميل فأهله ... وإلاّ فإنّي عاذرٌ وشكور وقال بعضهم: بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله ... وهذا دعاء للبريّة شامل وقال الأرجاني: بقيت ولا أبقى لك الدهر كاشحاً ... فإنّك في هذا الزمان فريد علاك سوارٌ والممالك معصم ... وجودك طوقٌ والبريّة جيد وقال إبراهيم الغزي: بقيت بقاء الدهر ما ذرَّ شارق ... وغار جديد المكرمات وأنجدا وقال ابن النبيه: دمتم بني أيّوب في نعمة ... تحوز بالتخليد حدّ الزمان والله لا زلتم ملوك الورى ... شرقاً وغرباً وعَلَيَّ الضمان وقال ابن سنا الملك أيضاً: بقيت حتّى تقول الناس قاطبة ... هذا أبو إلياس أم هذا أبوالخضر وقال المتنبي: وأعطيت الذي لم يعط خلق ... عليك صلاة ربّك والسلام أقول: وقد أوقفناك على خلاصة القول في براعة المطلع وحسن التلخّص والمقطع. فأمّا قصيدتنا التي هي عنوان هذا الباب، فبراعة إستهلالها قولنا: قفا حييا بالكرخ عنّي حبيبها ... فياطيب ريّاه الغداة وطيبها فهو كما تراه سهل الألفاظ، حسن السبك، متناسب القسمين، مفرغ في قالب العذوبة، مشعر بأنّه في مدح ملك من ملوك بغداد، مقتبل الشبيبة، طيب الضريبة. وكذلك براعة إستهلال الخطبة من كتابنا هذا جائت دالّة على ما بني عليه هذا الكتاب، وذلك قولنا: الحمد لله الذي جعل محمّداً حسن الأخلاق، وهذا من أبرع الإستهلالات وأجودها. وكذلك اشتملت على تخلّص حسن وقع في بيت واحد، وهو قولنا فيها: يرشفينها ريقة عنبيّة ... كخلق أبي الهادي روت عنه طيبها فهذا كما تراه انتقال من وصف ريقة المحبوب وادّعاء كونها عنبيّة أي خمرة معتصرة من العنب إلى خلق أبي الهادي لأنّها تشبه في عذوبتها خلقه، وإنّ طيبها فائق لأنّها ترويه عن طيبة. وأمّا حسن المقطع فيها فهو هذا الذي يعزّ على الأفكار أن تلد مثله: إذا ما طرحت الرحل عنها بربعه ... غفرت لأيّام الزمان ذنوبها ولنورد ما كان لنا فيهم من النظم على رويّ هذا الباب تكميلاً للفصل. أقول: وكتبت إليه معتذراً من تأخّر كتابي إليه: قد جنى لي الزمان أعظم ذنب ... وغدا منه شاغلي أن أتوبا بخطوب يقول من قد عنته ... هكذا تفحم الخطوب الخطيبا ليت شعري بم اعتذار محبّ ... قد بدا منه ما يسوء الحبيبا فتأمّل في قصّتي وتعجّب ... أفهل هكذا يكون عجيبا أنا مستغفرٌ وقد أذنب الده ... ر نأى معرضاً وجئت منيبا

فتجاوز بفضل صفحك عمّن ... لسوى الصفح لم يجيء مستثيبا ثمّ هب لي جناية الدهر يا من ... لم يلد مثله الزمان وهوبا فلقد أقعدتني العلل، حيث أقامني الخجل، ومثلت بي الأمراض، في غيئة من غيره الصدود والأعراض، إلاّ أنّ أملي قبول العذر ممّن فقد بعض أفلاذ كبده، ونزل السقم منه منزلة الصحة من جسده، مع طوارق أُخر، كلّ طارقة منها تقول لا وزر، أيسرها ابتلاء الدهر له بحبسه، مع غير أبناء جنسه، فإنّي منذ فارقت ذلك النادي، وحللت لكن في غير بلادي، مقسم الفكر بين معالجة الأوصاف، ومعالجة انتساخ ذلك الكتاب، وبينا أنا كذلك إذ وردت إليّ تلك الرسائل، ورود الغيث على الجدب الماحل، فلولا أنّها تابعت طروقها، وشفعت برعدها بروقها، لما ألهاني تنسيق الجواب، عن تنميق الكتاب، وإنّها - يا عافاك الله ممّا أشتكيه - وإن كان ورودها إليّ منك، فإنّي قد آثرت الإشتغال بك حتّى عنك، وهذا عذري إليك، وأنا على ثقة من قبوله إذا نشر لديك، وقد جعلت معاني هذه الغادة السحّارة، لما سلف من الذنوب كفّارة. يا من لويت به يد الخطب ... وبه ثنيت طلايع الكرب ولقيت حدَّ الحادثات به ... ففللت ذا غرب بذي غرب وأرحت آمالي بساحته ... فطرحت ثقل الهم عن قلبي بشرى لهاشم حيث سالمني ... فيك الزمان وكان من حربي فلتشهد الدنيا وساكنها ... أنّي مخضت لخيرهم وطبي وبحسبهم ذمّاً شهادتها ... إنّي لغيرك لم أقل حسبي أنت الي آبائه درجوا ... وهم حليُّ عواطل الحقب يتناقلون الفخر بينهم ... ندبٌ له يرويه عن ندب ما زال صبٌّ بالعلا لهم ... يتورَّث العلياء عن صبّ حتّى ورثت عظيم سؤددهم ... كرم الغيوث ورفعة الشهب فقبضت عن شرف يد الجدب ... وبسطت عن سرف يدالخصب ومرى مكارمك الثناء كما ... يمري النسيم حلائب السحب طبٌّ بأدواء الأُمور لها ... تضع الهناء مواضع النقب يفديك كلّ أخي يد هي في ... خصب السنين أليفة الجدب لا بالولود ولا اللبون ولا ... بروم غير الشحّ من سقب من لو عصبت بنان راحته ... بالسيف ما درّت على العصب ماالريح ناعمة الهبوب سرت ... سحراً على نزه من العشب بأرقّ منك خلائقاً كرمت ... ممزوجة الصهباءِ بالعذب وقلت في أبيه محمّد الصالح هذه الأبيات معرضاً ببعض مناويه ومجاريه: فيا نيّر الدنيا الذي في ضيائه ... جلى عن محيّاها ظلام الغياهب عجبت لمن يبغي علاك بسعيه ... وما هو من أبناء هذي المطالب وما هو إلاّ كالمناسم لوسعت ... مدى الدهر لا تسمو سموّ الغوارب وأعجب منه من يجاريك في الندى ... وعندك يغدو باسطاً كفّ طالب يهابك إذ تبدو ومرجلُ ظغنه ... من الغيظ يغلي منه خلف الترائب ويطرق إجلالاً بحيث تظنّه ... قد انعقدت أهدابه بالحواجب فحسبك فخراً إنّ عرقك ينتمي ... لعرق علىً في طينة العزّ ضارب ولو بنداك البحر يقرن لم يكن ... بجنب نداك البحر نهلة شارب وقال عمّنا المهدي في أبيه الصالح أيضاً، وينحو فيها تفضيله على كرماء العرب: لك الله إنْ كرماء العرب ... أرت قومها في قراها العجب وإنّ في ليالي الشتاء التي ... على أنفه الكلب لفَّ الذنب أماجدها أوقدت نارها ... لعلّ لها طارق تجتلب وإنْ ماجدٌ منهم قد رأى ... بإيقاده النّار ما قد طلب فغاية ما عنده ناقة ... يعرقبها من خيار النجب ويغدو بما صنعته يداه ... من الخير مفتخراً في العرب وربع أبي المصطفى دائم ال ... زمان سنا فخره ملتهب وطبّق في نوره الخافقين ... وقال هلمَّ لنهب النشب فأين سنا نارها من سنا ... أشعّة أنوار عالي الحسب ونحرهم بدنات الجمال ... من نحره بدرات الذهب ويلبث طارقها ليلةً ... وفي الصبح للسير عنها وثب ووفّاده اختلفت في حماه ... على مقتضى مالها من أدب فهذا مقيم وذا قادم ... وذا راحل في بطان الحقب ويحبوهم بالجليل الخطير ... وينسى الخطير الذي قد وهب

فصل في التهنية

وإن فخرت حيث راعي الهجان ... على نحره خيرهنَّ انتخب على أنّ راعيها قد بكى ... على ذعلب كونها تحتلب فموقده ودً حوبائه ... لنار القرى أن تكون الحطب وليس التي هي بين الورى ... لإظهار ما صنعته تحب كمَنْ لصنايعه الباهرات ... يرى سترهنَّ عليه يجب فيكتمها وهي تبدو كما ... بدت في الدجى زاهرات الشهب وقال أيضاً وينحو فيها تفضيله على ملوك الحضر: أمَنْ تدخل الوفد من بابه ... ولم تخش دفعة بوّابه كمَنْ قد تعمّد في سدّه ... عن الوافدين بحجّابه ومَنْ فرحاً يلتقي الوافدين ... التقاء محب لأحبابه ويغمره من نداه بما ... يفوت السحاب بتسكابه كمنْ عن عطاياه أضحى يذبّ ... بغرب اللسان وقرضابه وصيّر من دونها أرقم ال ... منايا يصرُّ بأنيابه أَمَنْ دون أمواله عرضه ... تراه مباحاً لنهّابه وغادر ألسنَ أعدائه ... ثناها كألسن أحبابه وخير الورى من بأمواله ... يصون كرائم أحسابه سل الفخر إن شئت عن بيته ... يقل لك إنّي أدرى به لقد ودّت الشهب أن تغتدي ... مدى الدهر أوتاد أطنابه فما ابتهر الناس في غيره ... ولا زهت الأرض إلاّ به فصل في التهنية قلت: وكتبت بها للماجد الصالح مهنياً له بزواج ولده المصطفى: جائتك تبسّم والبنان نقابها ... فأرتك بدراً بالهلال منقّبا وكأنّما هي حين زفّت كأسها ... شمسٌ تزفُّ من المدامة كوكبا عقدت على الوسط النطاق مفوَّقاً ... ولوت على الخصر الوشاح مذهّبا أحبب إليك بها عشيقة مغرم ... راض العواذل شوقه فتصعّبا هي تلك لاعبة العشاء ومنْ لها ... ألفت بنات الشوق قلبك ملعبا أمسيت منها ناعماً بغريرة ... بنسيم ربّاها تعطّرت الصبا ونديمة لك لو تغنّى باسمها ... حجرٌ لرقّصه غناها مطربا سكبت بكاس حديثها من لفظها ... راحاً ألذَّ من المدام وأعذبا وترنّمت هزجاً فأطرب لحنها ... قمريَّ مائسة الأراك فطرّبا فكأنّها علمت بعرس المصطفى ... فشدت غناً لابن الأراكة أطربا في ليلة طابت فساعة أنسها ... لم تلق عمر الدهر منها أطيبا وفد السرور بها لمغنى أصيد ... كرماً يُحيّي الوافدين مرحّبا للكرخ ناعمة الهبوب تحمّلي ... منّي سلاماً من نسيمك أطيبا وصلي إلى بيت قد انتجع الورى ... منه جناباً بالمكارم معشبا بيت على الزوراء يقطر نعمة ... فكأنّه بالغيث كان مطنّبا قولي إذا حيّيت فيه أبا الرضا ... فسواك منه هيبةً لن يقربا بشراك بسّام العشيّ بفرحة ... ضحكت بها الدنيا إليك تطرّبا وجلاً عليك اليمن فيها طلعةً ... غرّاء طالع سعدها لن يغربا فاسعد بقرّة ناظريك فقد غدا ... في عرسه المجد الأثيل معجّبا أمقيل من لبس الهجير تغرّبا ... ومعرّس السارين تنزع لغّبا عجباً لهذا الدهر يصحب بخله ... ولجود كفّك ليس يبرح مصحبا وترى جبينك كيف يشرق للندى ... كرماً ويغدو الوجه منه مقطّبا أرحبت للأضياف دارة جفنة ... من دارة القمر الوسيعة أرحبا وحملت عبأ بني الزمان ولو به ... يعني أبوهم لاستقالك متعبا وأما ومجدك حلفة لو لم يكن ... للعالمين سجال جودك مشربا نزف اغترافهم البحار وبعدها ... ترك اعتصارهم الغمائم خلّبا فمتى تقوم بحارها وقطارها ... لهم مقامك ما جرت وتصبّبا يفدي أناملك الرطيبة معجب ... في يبس أنمله بعذلك أسهبا لو مسَّ وجه الأرض يبس بنانه ... لرأيته حتّى القيامة مجدبا عذبت مذاقة "لا" بفيه لبخله ... وبفيك طعم "نعم" غدا مستعذبا فازادد حتّى في معيشة نفسه ... ضيقاً وللوفّاد زدت ترحّبا تسع الزمان بجود كفّك باسماً ... ويضيق صدر الدهر منك مقطّبا لو رعت مهجة قلبه وزحمته ... لفطرتها وحطمت منه المنكبا ولقد جريت إلى العلاء بهمّة ... لم ترضَ عالية المجرّة منكبا

حلّقت حيث الطرف عنك مقصّرٌ ... فصعدت حيث النجم عنك تصوّبا ولقد تحقّقت اسم غادية الحيا ... فودجت معناه نداك الصيّبا وأجّلت فكري في اسم أنفاس الصبا ... فإذا به خلق الرضا قد لقّبا سيماء عزّك في أسرّة وجهه ... لله أنت فهكذا من أنجبا زيّنت أُفق الفخر منه بكوكب ... ما كان أزهره بفخرك كوكبا قد غاض فيض ابن الفرات لجوده ... إذ كان أغزر من نداه وأعذبا لا تطر كعباً واطو حاتم طييّ ... وانشر مكارمه تجدها أغربا واترك له معناً على ما فيه من ... كرم فمعنٌ لو يراه تعجّبا هو خير من ضمّت معاقد حبوة ... وأخوه فخراً خير من عقد الحبا طلعا طلوع النيّرين فما رأى ... أُفق المكارم مذ أنارا غيبها فعلاهما في المجد أبعد مرتقىً ... ونداهما للوفد أقرب مطلبا أبقيّة الكرم الذين سواهم ... لم يتّخذ نهج المكارم مذهبا لا زلتم في نعمة ومسرّة ... مادام ظهر الأرض يحمل كبّبا قلت في تهنئة محمّد الرضا وقد عوفي من علّة عرضت له وكنت مغرماً بكرم شمائله وشرف فضائله: يا نسيم الصبا وريح الجنوب ... روّحا مهجتي بنشر الحبيب إنّ روح المحبوب روح لقلبي ... ما لقلبي آس سوى المحبوب وعلى البعد منه أن تحملاه ... فعَلَيّ أنفحا به من قريب لو سوى نشر يوسف شمَّ يعقو ... ب إذاً لم يزل جوى يعقوب وعجيب بمية ذاب قلبي ... ويرى طبّه بنشر المذيب ليت يا عذبة اللمى من فؤادي ... فيه أطفأت بعض هذا اللهيب أو على السفحُ للوداع حبست ال ... ركب مقدارها لفتة من مريب منك لو نلت ساعةً ضمّة التو ... ديع أدركت غاية المطلوب وعلى المتن كان منك هلالاً ... حين شرّقتِ جانحاً للغروب ما لطيف الخيال ضاعف شوقي ... حيث وافى بوعده المكذوب فيه جائت من بعد تهويمة الرك ... ب حذراً من عاذل ورقيب قلت إنّي وفت فعاد نصيبي ... وصلها والمطال كان نصيبي بينما في العناق قد لفنا الشو ... ق ضجيعين في رداء قشيب وإذا الوصل في انتباهي أراه ... سرق الإفك من سراب كذوب أين ميٌّ منّي وقد عوّذتها ... غلمة الحيّ بالقنا المذروب شمس خدر حجابها حين تبدو ... جنح ليل من فرعها الغربيب وسوى البدر في الإنارة لولا ... كلف البدر مالها من ضريب حسدتني حتّى عيوني عليها ... لو تذكّرتها لأضحت تشي بي أو سرْت موهناً إليَّ فظنت ... كلّ نجم في الأُفق عين رقيب بوركت ذاالطيب من كثيب حماها ... حملته لنا الصبا في الهبوب قال لي الصحب من نشير أتانا ... من حمى الكرخ لا الحمى والكثيب مخبراً عن محمّد إن سرى الدا ... ء الذي فيه للحسود المريب أيهذا البشير لي حبّذا أنت ... بشيراً يبرء داء الحبيب لو سواه روحٌ لجسمي لأتحف ... تك فيه وقلَّ من موهوب لي أهديت فرحةً ما سرت قب ... لُ ولا يعدُ مثلها في القلوب غرس الدهر قبلها الذنب عندي ... فغدا مثمراً بعفو قريب وغريب من الزمان وما زا ... ل لديه اختراع كلّ غريب إن أراني وما أراني سواه ... حسنات تجنى بغرس الذنوب عجباً كيف أولد النحس سعداً ... شقَّ في نوره ظلام الخطوب فمحيا الدنيا غدا وهو طلقٌ ... ما بصافي بياضه من شحوب فاحك من غضارة البشر أنساً ... وهو بالأمس موحش التقطيب فأبق للمكرمات ما بدت الشمس ... ومالت في أُفقها للغروب بسرور صاف وطرف قرير ... ونعيم باق وعيش رطيب وقال عمّنا المهدي مهنّياً أباه محمّد الصالح بشفائه من مرض اعتراه: إلى عداك سرى عن جسمك الوصب ... وأمَّ يسعى إلى أحبابك الطرب وقمت منتعشاً في روح عافية ... بها عرى شانئيك الهمُّ والنصب هنّئت في صحّة الجسم الذي بعدت ... من قبل عن مسّه الآثام والريب وإنّ عصمته من كلّ مأثمة ... لبرء علّته كانت هي السبب بيمنه تتجلّى كلُّ نائبة ... فكيف عنه به لا تنجلي النوب

فصل في الرثاء

فيالها فرحةً منّا تداركت ال ... نفوس من قبل أن يستلّها العطب وافى البشير بها يسعى وأنفسنا ... تسعى إليه لما فيها وتقترب ودَّ الكرام له من فرط بشرهم ... لو أنّهم ملكوا أعمارهم وهبوا فأحضرَّ روض الهنا حتّى زهى لهم ... من بعد ما كان مصفرّاً به العشب يا ذاالذي زين فيه المجد وهو به ... تزيّنت للمعالي القادة النجب ما كنت أحسب قوماً يفرحون إذا ... ما اعتلّ من فيه صحَّ المجد والحسب مع أنَّ أبياتهم لولاه ما رفعت ... أعمادهنّ ولم يمدد لها طنب يا عترة المجد أمّت بيتكم فرحاً ... عذراء ما إن حكتها الخرّد العرب جائت تهنّئكم في برء علّة من ... قد شاد بيت علىً من دونه الشهب دام السرور لكم فيه ولا برح ال ... سرور عنكم ولا الأفراح والطرب فصل في الرثاء قلت معزّياً للماجد محمّد الصالح عن كريمة له توفّيت، وهي الّتي مرّ رثائها في حرف الألف في القصيدة الهمزية التي لعمّنا المهدي: لحيّ الله دهراً لو يميل إلى العتبى ... لأوسعت بعد اليوم مسمعه عتبا ولكنّه والشرُّ حشو إهابه ... على شغب إن قلت مهلاً يزد شغبا له السوء لم يلبس أخا الفضل نعمةً ... يسرُّ بها إلاّ أعدّ لها السلبا على الحرّ ملآن من الظغن قلبه ... فبالهمّ منه لم يزل ينحت القلبا يطلّ عليه كلّ يوم وليلة ... بقارعة من صرفه تصدع الهضبا كأنّ كرام الناس في حلقه شجاً ... وإلاّ قذى بدمي لناظره غربا يحاربهم من غير ذنب لنقصه ... فلست أرى غير الكمال لهم ذنبا وأصعب حرب منه يوم صروفه ... من الشرف السامي ارتقت مرتقى صعبا تخطّت حمى العلياء حتّى انتهت به ... إلى حرم للخطب يشعره رعبا وما صدرت إلاّ بنفس نجيبة ... عليها مدى الدهر العلي صرخت غضبى أسرّ لها الناعي المفجّع نعيها ... فقامت عليها تعلن النوح والندبا وهوَّن فقدان النساء مؤنّب ... يعيب الأسى لو شئت أوسعته ثلبا فما كلُّ فقدان النساء بهيّن ... ولا كلّ فقدان الرجال يرى صعبا فكم ذات خدر كان أولى بها البقا ... وكم رجل أولى بأن يسكن التربا وغير ملوم من يبيت لفقده ... كريمته يستشعر الحزن والندبا فكم من أب زانته عفّة بنته ... وكم ولد قد شان والده الندبا فساقت بمأثور الكلام له الثنا ... وساق بمنشور الملام له السبا بل الخطب فقد الإنجبين ومن له ... بذلك لولا أنّها تلد النحبا وربّة نسك بضعة من محمّد ... مضت ما زهت يوماً ولا اتّخذت تربا وخبأها فرط الحياء فلم تكن ... تصافح وجه الأرض أذيالها سحبا فلو أنّ عين الشمس تقسم أنّها ... لها ما رأت شخصاً لما حلّفت كذبا وغير حجاب الخدر والقبر ما رأت ... ولا شاهدت شرقاً لدنياً ولا غربا فلم تُدْرَ إلاّ بالسماع حياتها ... وجاء سماعاً أنّها قضت النحبا قاما هي العنقاء قلت فصادقٌ ... ولكنْ لسان الإحترام لها يأبى وما هي إلاّ بضعة من محمّد ... أجلّ بني الدنيا وأعلاهم كعبا وأرحبهم بيتاً وأوسعهم قرىً ... وأطولهم باعاً وأرجحهم لبّا رطيب ثرىً منه تحيي وفوده ... محيّاً بأنداء الحيا لم يزل رطبا وتلمس منه أنملاً هنَّ للندى ... سحائب فيها علّم المطر السكبا بنوا المصطفى أنتم معادن للتقى ... وأرجح أرباب النهى والحجى لبّا فلا طرقتكم نكبة بعد هذه ... ولا ساور التبريح يوماً لكم قلبا وقلت - وهو من الشعر الأجنبي - في رثاء ولدين صغيرين لي دفنا في مقام ينسب لنبي الله أيّوب: يا ثاويين إلى جنب الفرات معاً ... لدى مقام نبيّ الله أيّوب أورثتماني وجداً يوم بينكما ... يكاد يقرب منه وجد يعقوب فصل في الغزل قلت وفيه المبالغة بملازمة الرقيب: أيّ وقت به لنفسي تصفو ... لذّة الأُنس في وصال الحبيب ولو أنّا في الطيف نخلو لأمسى ... معناً حاظراً خيال الرقيب الباب الثالث حرف التاء وفيه فصول

فصل في المديح

فصل في المديح قلت فيه هذه البديعة الغرّاء: إنّ في الكرخ بين تلك البيوت ... كم لصبّ متيّم من خفوت ولبيض فضيّة الجسم كم منْ ... وجنات تحمرُّ كالياقوتْ يتعطّفنَ عن غصون رشيقات ... ويبسمن عن أغرَّ شتيت كلّما أحيت الضحى دعت الشمس ... وقالت لها بغيظك موتي مثل موت الحسود غيظا بفخر ال ... حسن الإسم في الورى والنعوت ماجد يخفض التكرّم منه ... ما علت فيه عنوة الجبروت عشقت نفسه مفاكهة العل ... ياء حتّى لقال حبّك قوتي لم يزل بيته على أوّل الدن ... يا عيالٌ عليه كلُّ البيوت قبلةٌ صلّت القوافي إليه ... قانتات بالمدح أيَّ قنوت قد نفى الإثم مصطفى النسك عنه ... مذ بناه على التقى للثبوت يابن قوم ما ناضلوا الخصم إلاّ ... شغلوه بسنّة المنكوت خلق الناس للكلام ولكن ... خلقوا إن نطقتم للسكوت الصب، قال في القاموس: الصبابة هي الشوق أورقته أورقة الهوى، يقال: صببت تصبّ فأنت صبّ وهي صبّة. وقال الجوهري: الصبابة رقّة الشوق وحرارته، يقال: رجل صبّ أي عاشق مشتاق، وقد صببت يا رجل بالكسر قال الشاعر: ولست تصب إلى الظاعنين ... إذا ما صديقك لم يصبب والمتيّم العبد المذلّل. قال في القاموس: تامّته المرأة أو العشق أو الحب تيماً وتيمته تيتيماً عبدته وذلّلته. والخفوت السكون، يقال: خفت الصوت، سكن، ولهذا يقال للميّت خفت إذا انقطع كلامه وسكت فهو خافت، وخفت خفاتاً أي مات فجأةً، قال الشاعر: لعمرك إنّي يوم بانوا فلم أمت ... خفاتاً على آثارهم لصبور والخفوت بفتح الخاء، المرأة المهزولة أو التي تستحسن وحدها لا بين النساء. قلت: وهذا البيت من جملة أبيات ذكرها السيّد المرتضى في الدرر، قال: إنّ الأصمعي قال: نزلت ذات ليلة في وادي بني العنبر وهو إذ ذاك مغان بأهله (أي أهلٌ بهم) وإذا فتية يريدون البصرة، فأحببت صحبتهم، فأقمت ليلتي تلك عليهم وإنّي لوصب محموم أخاف أن لا أستمسك على راحلتي، فلمّا قاموا ليرحلوا أيقظوني، فلمّا رأوا حالتيى رحّلوا لي وحمّلوني وركب أحدهم ورائي يمسكني، فلمّا أمعن السير تنادوا: ألا فتىً يحدو بنا أو ينشدنا؟ فإذا منشد في سواد الليل بصوت ند (أي مرتفع حزين) : لعمرك إنّي يوم بانوا فلم أمت ... خفاتاً على آثارهم لصبور غداة المنقى إذ رميت بنظرة ... ونحن على متن الطريق نسير فقلت لقلبي حين خفّ به الهوى ... وكاد من الوجد المبرّ يطير فهذا ولمّا تمض للبين ليلة ... فكيف إذا مرّت عليه شهور وأصبح أعلام الأحبّة دونها ... من الأرض غولٌ نازح ومسير وأصبحت نجديّ الهوى متّهم النوى ... أزيد اشتياقاً أن يحنّ بعير عسى الله بعد النأي أن يسعف النوى ... ويجمع شملٌ بعدها وسرور قال: فسكنت والله الحمّى عنّي حتّى ما أحسّ بها، فقلت لرديفي: أنزل رحمك الله إلى راحلتك فإنّي متماسك، وجزاك الله عن الصحبة خيراً. فأمّا قوله: أن يسعف النوى أي يسعفنا بتقريب النوى، فاختصر. رَجْعٌ إلى بيان ما لعلّه يحتاج إلى البيان من ألفاظ المقطوعة: المراد بالبيض النساء، وما زالت الشعراء تستحسن وصفهنَّ بالبياض والسمرة، وقد نظمت ذلك كثيراً في أشعارها. وقولنا: فضيّة الجسم أي كأنّ جسمها مصوغ من الفضّة لشدّة بياضه. وقولنا: وجنات تحمر كالياقوت أي إنّ وجناتها مع بياضها المتقدّم وصفه فيها حمرة كحمرة الياقوت، وهذا من أحسن ما تنعت به مع أنّ إيراده بلفظ تحمرُّ فيه إشعار بأنّ هذه الحمرة من شدّه خجلها حين تعاين كثرة عشّاقها الذين خفتوا أي ماتوا وانقطع كلامهم لشدّة شغفهم بها. ومعنى يتعطّفن يتمايلن ويتثنين عن قدود حسنة لطيفة كأنّها الأغصان الرشيقة. وإطلاق اسم الأغصان عليها لشدّة الشبه. ومعنى يتبسّمن عن أغرّ شتيت أي عن ثغر أبيض متباعد الأسنان. قال في القاموس: الشتيت المفرق والمشتت، ومن الثغر المفلج، يقال: هو فلج الأسنان أي متباعدها، ولابدّ من ذكر الأسنان، ولا يقال هو أفلج فقط. وما ألطف قول أبي البحتري وأرشقه: ولم أنس إذ راحوا مطيعين للنوى ... وقد وقفت ذات الوشاحين والوقف

ثنت طرفها دون المشيب ومن يشب ... فكلّ الغواني عنه مثنيّة الطرف وجنَّ الهوى فيها عشيّة أعرضت ... بناظرتي ريم وسالفتي خشف وأفلج برّاق يروح رضا به ... حراماً على التقبيل بسلاً على الرشف البسل، الحلال، والحرام ضدّه، يقال للواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث. وأمّا قولي: ماجد يخفض التكرّم منه الخ، فهو نظير قول البحتري: وتواضع لولا التكرّم عاقة ... عنه علوٌّ لم ينله الفرقد وقوله أيضاً: متواضع وأقلُّ ما يعتدّه ... في المجد يوجب نخوة المتكبّر وعزّة الجبروت المراد بها عزّة التكبّر، ومن ذلك المتكبّر وهو الذي لا يرى لأحد عليه حقّاً فهو بين الجبريّة والجبروت. والمفاكهة، يقال: فكههم بملح الكلام تفكيهاً، أظرفهم بها، والإسم الفكيهة والفكاهة بالضم، وفكه كفرح فكها وفكاهةً فهو فكه وفاكهة طيب النفس ضحوك أو يحدّث صحبه فيضحكهم. وتفكّه، تعجّب، وفاكهه مازحه، وتفكّهت بالشيء تمنّعت به، والفكه الأشر البطر وكذلك الناعم، والمراد منها هنا الإظراف بملح الكلام أو التمتّع والتنعّم، والأوّل أليق. قال البحتري ولحظ مع الإظراف بملح الكلام طيب النفس: ومفاكه عبق الكلام كأنّما ... يفضي إليك بلفظ فيه النرجس وقال الطغرائي وأراد بالمفاكهة المزاح: حلّوا الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت ... بشدّة البأس منه رقّة الغزل وقد وقع في قولي منها: قبلةٌ صلّت القوافي إليه ... قانتات بالمدح أي قنوت مراعات النظير ويُسمّى التناسب، والتوافق، والإيتلاف، والمواخاة؛ وهو جمع أمر وما يناسبه مع إلغاء التضاد وبهذا القيد تخرج المقابلة لأنّ المناسبة بملاحظة التضاد أن يكون كلّ منهما مقابلاً للآخر، فهو في بيتنا هذا قصد المناسبة بذكر الصلواة والقنوت لما تقدّم ذكر القبلة. وقول البحتري: كالقسيّ المعطفات بل الإس ... هم مبريّة بل الأوتار ومعنى البيت أنّه يصف إبلاً أنحلها السرى بحيث صارت من الهزال كالقسيّ بل السهام بل الأوتار لأنّه لمّا ذكر القسيّ ناسب أن يذكر معها ما يناسبها من السهم والوتر وإلاّ فالألفاظ التي يشبه بها في النحول كثيرة مثل الهلال والخلال والعرجون وغير ذلك. قال مهيار الديلمي يصف إبلاً بشدّة النحول: قسماً بالمنقبات الحنايا ... شقق الضالّ أو قسيّ النبع كلّ جرداء لفّها السير بالسير ... فجائت في النسع مثل النسع والمناسبة في بيت البحتري معنويّة، وهي لفظيّة في قول مهيار الديلمي: ومدير سيّان عيناه والإبر ... يق فتكاً وريقه والرحيق فالمراد بالإبريق هنا السيف البرّاق، وكان يصحّ أن يقال سيّان عيناه والصمصام أو الهندي فاختار الإبريق لمناسبته لفظاً للرحيق إذ الإبريق يطلق على إناء الخمر والرحيق هو الخمر، وهذا ليس من مراعات المعنى في شيء وإنّما هو مراعاة مجرّد اللفظ. ومن أحسن ما ورد في مراعات النظير قول ابن خفاجة يصف فرساً: وأشقر يضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل البآس من جلنار ناضر جلده ... وأُذنه من ورق الآس يطلع للغرّة في وجهه ... حبابةً تضحك في الكاس والمناسبة فيه بين الجلنار والآس والنضارة. وما أبدع قول بعضهم: أنتم بنوا طه ونون والضحى ... وبنوا تبارك والكتاب المحكم وبنوا الأباطح والمشاعر والصفا ... والركن والبيت العتيق وزمزم فإنّه أحسن في المناسبة بين أسماء السور في البيت الأوّل وبين أسماء الأماكن المذكورة في البيت الثاني ولهذا عيب على الطغرائي قوله: فيم الإقامة في الزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي قال الصلاح الصفدي: أُنظر إلى قلقلة في بيت الطغرائي لأنّه عطف الناقة والجمل على السكن ولو عطف على ذلك ما يناسبه من أهل وولد لكان أحسن وأوقع في النفس. ومن أحسن ما جاء في مراعات النظير قول الشريف الموسوي أبي الحسن الرضي: ببروق أدراع ورعدِ صوارم ... وغمام قسطلة ووبل دماء وبديع قول بعضهم يرثي فقيهاً: روضة العلم قطبي بعد ضحك ... والبسي من بنفسج جلبابا وهبي النائحات منثور دمع ... فشقيق النعمان بان وغابا ولأبي العلا المعرّي:

دع اليراع لقوم يفخرون به ... وبالطوال الردينيات فافتخر فهنّ أقلامك اللاّتي إذا كتبت ... مجداً أتت بمداد من دم هدر ولبعض شعراء الذخيرة: بدار سقتها ديمة أثر ديمة ... فمالت بها الجدران شطراً على شطر فمن عارض يبكي ومن سقف مجلس ... يغني ومن بيت يميل من السكر ومن الغايات قول البديع الهمداني من قصيدة: سماء الدجى ما هذه الحدق النجل ... أصدر الدجى حال وجيد الضحى عطل إلى أن قال في صفة السرى: كأنّ مطايانا سماء كأنّنا ... نجومٌ على أقتادها برجنا الرحل ومنها: كأنَّ السرى ساق كأنّ الكرى طلاً ... كأنّا لها شربٌ كأنّ المنى نقل كأنّا جياعُ والمطيُّ لنا فمٌ ... كأنّ الفلا زادٌ كأنّ السرى أكل كأنّ ينابيع الثرى ثدي مرضع ... وفي حجرها منّي ومن ناقتي طفل كأنّا على أرجوحة في مسيرنا ... لغور بنا يهوي ونجد بنا يعلو ومنها: كأنّ فميى قوسٌ لساني له يدٌ ... مديحي له نزعٌ له أملي نبل كأنّ دواتي مطفل حبشيّة ... بناني لها بعلٌ ونقشي لها نسل كأنّ يدي في الطرس غوّاص لجله ... بها كلمي درٌّ به قيمتي تغلو وما أرشق قول ابن رشيق: أصحّ وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كفّ الأمير تميم ومن المستحسن قول ابن زبلاق في غلام معه خادم يحرسه: ومن عجب أن يحرسوك بخادم ... وخدّام هذا الحسن من ذاك أكثر عذارك ريحانٌ وثغرك جوهر ... وخدّك ياقوت وخالك عنبر وردفك مثقال فهل أنت محسن ... عسى مقبلٌ بالوصل يأتي ميسّر وما أبدع قول ابن مطروح: وليلة وصل خلت ... ويا عاذلي لا تسل لبسنا ثياب العناق ... مزرّرةً بالقبل ومثله قول ابن عماد: شقت عليك يد الأسى ... ثوب الدموع إلى الذيول وعجيب قول ابن الخشّاب في المستضيء: ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت دون الورد وقفة حائم ظمآن أطلب خفة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم وقول ابن شرف في اجتماع البعوض والذباب والبرغوث في مجلس مخاطباً لصاحبه يستهزىء به: لك مجلسٌ كملت مسرّتنا به ... للهو لكن تحت ذاك حديث غنّى الذباب وظلَّ يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث ومن النهايات هنا قول القاضي الفاضل: في خدَّه فخٌّ كعطفة صدغه ... والخال حبّته وقلبي الطائر رَجْعٌ إلى ذكر باقي أبيات المقطوعة: فأمّا قولي فيها: يابن قوم ما ناضلوا الخصم إلاّ ... شغلوه بسنّه المنكوت فمعناه أنّ كلاًّ من آبائه منطيق ذو فصاحة وبلاغة ما ناضله خصم إلاّ وقطعه عن الكلام وتركه من شدّة الغيظ والندم مشغولاً بنكت سنّه، ونكت السنّ كناية عن ذلك وكذلك عضّ الإصبع، قال تعالى شأنه: (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنامِلَ مِنَ الغَيْظْ) ، وقال بعضهم: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنّني سبّابة المتندّم وقال الرضي: تفلي أنامله التراب تعلّلاً ... وأناملي في سنّي المقروع وقال أيضاً: يعجبني كلّ حازم الرأي لا يط ... مع في قرع سنّه الندم وجاء عنهم: رددت يد فلان إلى فيه أي منعته من الكلام. ولا بأس بذكر كنايات أوردها ابن أبي الحديد في شرح النهج، لأنّ فيها فوائد جليلة، وقد اختصرتها فذكرت أجلّها فائدة وأكثرها دوراناً في كلام الفصحاء: قال أميرالمؤمنين عليه السلام: العين وكاء السه (السه الأُست) . قال الجوهري: الأُست العجز، وقد يراد به حلقة الدبر، وأصلها سته ولذلك تجمع على أستاه مثل جمل وأجمال، ثمّ قال: وفي الحديث: العين وكاء السه، بحدف عين الفعل، ويروى: وكاء الست، بحذف لام الفعل. قال السيّد الرضي: وهذا من الكنايات العجيبة، كأنّه شبّه السه بالوعاء والعين بالوكاء فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء. وفي بعض الروايات: إذا نامت العينان استطلق الوكاء. والوكاء رباط القربة. ويروى ما هذا مضمونه أنّ أباالعلاء المعرّي رقد فحدث منه شيء، فانتبه وبعض الحاضرين يضحك منه، فقال:

إذا نامت العينان من متيقّظ ... تراخت بلا شكّ تشارج فقحته فمن كان ذاعقل فيعذر نائماً ... ومن كان ذا جهل ففي جوف لحيته وقيل: إنّ يحيى بن زياد ومطيع بن أياس وحمّاد الراوية جلسوا على شرب لهم ومعهم رجل منهم فانحلّ وكاؤه، فاستحيى وخرج ولم يعد إليهم، فكتب إليه يحيى بن زياد: أَمِنْ قلوص غدت لم يؤذها أحد ... إلاّ تذكّرها بالرمل أوطانا خان العقال لها فانبتَّ إذ نفرت ... وإنّما الذنب فيه للذي خانا منحتنا منك هجراناً ومقليةً ... ولم تزرنا كما قد كنت تغشانا خفّض عليك فما في الناس ذو إبل ... إلاّ وأينقه يشردن أحيانا أقول: وأين خجل هذا من وقاحة بشار بن برد فقد روى عنه أنّه جلس إليه رجل استثقله فأراد أن يخجله ليقوم عنه فضرط وهو بجنبه، ففزع الرجل، فقال له بشار: أسمعت أم رأيت؟ قال: بل سمعت، قال: فلا تصدّق حتّى ترى. ومن الكنايات المستحسنة قولهم: فلان من قوم موسى إذا كان ملولاً، إشارة إلى قوله تعالى: (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعام واحد) . قال أبو نؤاس في امرأة كان يختلف إليها غيره وهو يزورها ولا يعلم، فلمّا وقف على القصّة قال: ومظهرة لخلق الله ودّاً ... وتلقى بالتحيّة والسلام أتيت فؤادها أشكو إليها ... لم أخلص إليه من الزحام أظنّك من بقيّة قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام وقال آخر: فيامن ليس يكفيه صديقٌ ... ولا ألفا صديق كلّ عام أظنّك من بقايا قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام وقال العبّاس بن الأحنف: كتبت تلوم وتستريث زيارتي ... وتقول لست بها كعهد العاهد فأجبتها ودموع عيني سجّم ... تجري على الخدّين غير جوامد يا فوزُ لم أهجركم لملالة ... عرضت ولا لمقال واش حاسد لكنّني جرّبتكم فوجدتكم ... لا تصبرون على طعام واحد ويقولون للمكشوف الأمر الواضح الحال "ابن جلا" وهو كناية عن الصبح. ومثله قولهم: فلان قائد الجمل أي إنّه لا يخفى لعظم الجمل وكبر جثّته. وفي المثل: ما استتر من قاد جملاً. وقالوا: كفى برغائها نداءً. ومثل هذا قولهم: ما يوم حليمة بسرّ، يقال ذلك في الأمر المشهور الذي لا يستر، يوم حليمة يوم التقى المنذر الأكبر والحارث الغساني الأكبر وهو أشهر أيّام العرب. يقال: إنّه ارتفع فيه من العجاج ما ظهرت معه الكواكب نهاراً. وحليمة اسم امرأة أضيف إليها اليوم لأنّها أخرجت إلى المعركة مراكن الطيب فكانت تطيب به الداخلين إلى القتال حتّى تفانوا. ويقال للجارية الحسناء: قد أبقت من رضوان، قال الشاعر: جسّت العود بالبنان الحسان ... وتثنّت كأنّها غصن بان فسجدنا لها جميعاً وقلنا ... إذ شجتنا بالحسن والإحسان حاش لله أن تكوني من الإن ... س ولكن أبقت من رضوان وقال نصر بن أحمد البصري من قصيدة: تلألأ كالدرّ النقي نفاسةً ... وأشرب خدّاه عقيق حياء فأحسبه من حور عدن وإنّما ... أتى هارباً في خلسة وخفاء فلم أره إلاّ التفت توقّعاً ... لرضوان خوفاً أن يكون ورائي سيؤخذ منّا ليس رضوان تاركاً ... على الأرض حوريّاً وبدر سماء ويقولون في الشيخ الضعيف: قائد الحمار، إشارة إلى ما أنشده الأصمعي: آتي النديّ فلا يقرّب مجلسي ... وأقود للشرف الرفيع حماري أي أقوده من الكبر إلى موضع مرتفع لأركبه لضعفي. ومثل ذلك كنايتهم عن الشيخ الضعيف بالعاجن، لأنّه إذا قام عجن في الأرض بكفّيه، قال الشاعر: فأصبحت كنتياً وأصبحت عاجناً ... وشرُّ خصال المرء كنت وعاجن قالوا: الكنتي هو الذي يقول كنت أفعل كذا وكنت أركب الخيل يتذكّر ما مضى من زمانه، ولا يكون ذلك إلاّ عند الهرم أو الفقر أو العجز. ومثله قولهم للشيخ: راكع، ويقال أيضاً للإنسان إذا انتقل من الثروة إلى الفقر: قد ركع. ويقولون للكبير: يدبُّ له الأرنب، لأنّ من يختل الأرنب ليصيدها يتمايل في مشيته. ويقولون قيد بفلان البعير، للكبير الذي لا قوّة ليده على أن يصرف البعير تحته على حسب إرادته فيقوده قائد يحمله حيث يريد. ومن الكناية عن شيب العنفقة قولهم: قد عضَّ على صوفة.

ويكنّون عن المرأة التي كبر سنّها فيقولون: قد جمعت الثياب أي تلبس القناع والخمار والإزار، وليست كالفتاة تلبس ثوباً واحداً. ويكنّون عن الخاضب فيقولون: يسوّد وجه النذير، قال الشاعر: وقائلة لي أخضب فالغواني ... تطير من ملاحظة القتير فقلت لها المشيب نذير موتي ... ولست مسوّداً وجه النذير وزاحم شابّ شيخاً في الطريق، فقال الشاب: كم ثمن القوس؟ يعيره بانحناء الظهر، فقال الشيخ: يابن أخي إن طال بك عمرٌ فسوف تأتيك بلا ثمن، وأنشد لابن أحنف: تعيرني وخط المشيب بعارضي ... ولولا الحجول البلق لم تعرف الدهم حنى الشيب ظهر فاستمرّت مريرتي ... ولولا انحناء القوس لم ينفذ السهم ويقولون من رشى القاضي أو غيره: صبّ في قنديله زيتاً، وأنشد بعضهم: وعيدُ قضاتنا خبث ومكرٌ ... وزرعٌ حين تسقيه بسنبل إذا ما صبّ في القنديل زيت ... تحوّلت القضية للمقندل وكان أبو صالح كاتب الرشيد ينسب إلى أخذ الرشى، وكاتب أُمّ جعفر وهو سعدان بن يحيى كذلك، فقال لها الرشيد يوماً: أما سمعت ما قيل في كاتبك؟ قالت: ما هو؟ فأنشد: صبّ في قنديل سعدا ... ن مع التسليم زيتا وقناديل بنيه ... قبل أن تخفي الكميتا قالت: فما قيل في كاتبك أشنع، وأنشدته: قنديل سعدان على ضوئة ... فرخٌ لقنديل أبي صالح تراه في مجلسه أخوصاً ... من لمحه للدرهم اللائح ويقولون لمن طلّق ثلاثاً: نجزها بمثلّثة. ويكنّون عن العزيز وعن الذليل فيقولون: بيضة البلد، فمن يقولها للمدح يذهب إلى أنّ البيضة هي الحوزة والحمى، يقولون: فلان يحمي بيضته أي يحمي حوزته وحمايته، ومن يقولها للذمّ يعني أنّ الواحدة من بيض النعام إذا فسدت تركا أبواها في البلد وذهبا عنها، وقول الشاعر في المدح: لكنَّ قاتله من لا كفاء له ... قد كان يُدعى أبوه بيضة البلد وقال الآخر في الذم: حيا قضاعة لم تعرف لكم نسباً ... وابنا نزار فأنتم بيضة البلد ويقولون للشيء الذي يكون في الدهر مرّةً واحدةً: هو بيضة الديك. ويقولون لمن يحمد جواره: جاره جار أبي دؤاد؛ وهو كعب بن مامة الأيادي، كان إذا جاوره رجل فمات وداه، وإن هلك عليه شاة أو بعير خلّفه عليه، فجاوره أبو دواد الأيادي فأحسن إليه، فضُرب به المثل. ومثل قولهم: هو جليس قعقاع ابن شور، وكان من حديثه أنّه قدم إلى معاوية، فدخل عليه والمجلس غاصّ بأهله ليس فيه مقعد، فقام له رجل من القوم وأجلسه مكانه، فلم يبرح القعقاع من ذلك الموضع يكلّم معاوية ومعاوية يخاطبه حتّى أمر له بمائة ألف درهم فأحضرت إليه فجعلت في جانبه، فلمّا قام قال للرجل القائم له من مكانه: ضمّها إليك فهي لك بقيامك لنا عن مجلسك، فقيل فيه: وكنت جليس قعقاع بن شور ... ولا يشقى بقعقاع جليس ضحوك السنّ إن نطقوا بخير ... وعند الشرّ مطراقٌ عبوس ويكنّون عن السمين من الرجال: هو جار الأمير، وضيف الأمير، وأصله أنّ الغضبان بن القبعثرى كان محبوساً في سجن الحجّاج، فدعا يوماً فكلّمه فقال له في جملة خطابه: إنّك لسمين يا غضبان! فقال: القيد والرتعة والخفض والدعة، ومن يكن ضيف الأمير يسمن. ونظر أعرابي إلى رجل جيد الكدنة (والكدنة هي اللحم والشحم) فقال: أرى عليك قطيفة محكمة؟ قال: نعم ذاك عنوان نعمة الله عندي. ويقولون للكذّاب: هو قموص الحنجرة، يقال: قمص الفرس وغيره استنَّ وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معاً ويعجن برجليه. ويقال: هذه دابّة فيها قماص، سمّي الكذوب بهذا الإسم لأنّ حنجرته تتحرّك من غير رويّة كأنّها فرس قموص. ويقال: هو زلوق الكبد، والمزلق المكان الذي لا يثبت فيه القدم، ويعنون بهذه الكناية أنّ نحر الكذوب لا يثبت فيه كلام ولا تماسك فيه بل مزلق الكلام ويخرج كيفما كان. ويقولون فيه أيضاً: هو فاختة البلد من قول الشاعر: أكذب من فاختة ... تصيح فوق الكرب والطلع لم يبدُ لها ... هذا أوان الرطب وقال آخر في المعنى: حديث أبي حازم كلّه ... كقول الفواخت جاء الرطب وهنَّ وإن كنَّ يشبهنه ... فليس يدانينه في الكذب ويكنّون عن النمام بالزجاج لأنّه يشفُّ عمّا تحته، قال الشاعر:

أنمُّ بما إستودعته من زجاجة ... يرى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن ويكنّون عنه بالنسيم، قال الآخر: وإنّك كلّما استودعت سرّاً ... أنمُّ من النسيم على الرياض ويقولون: إنّه لصبح، وإنّه لطيب. قال بعضهم: يقال ذلك لأنّ الصبح لا يكتم ضوئه، والطيب لا يكتم ريحه، والنمام لا يكتم حديثاً. ويقولون: ما زال يقتل له في الذروة والغارب حتّى استسمحت قرونته أي نفسه، والقرونة النفس، والذروة أعلا اسنام، والغارب مقدّمه، ومعناه: يدور من ورائه لخديعته. ويقولون في الكناية: ما يدري أيّ طرفيه أطول، قيل: هما ذكره ولسانه، وقيل: هما نسب أبيه ونسب أُمّه. ويقولون: زوده زاد الضب أي لم يزوده شيئاً لأنّ الضب لا يشرب الماء وإنّما يتغذّى بالريح والنسيم ويأكل القليل من عشب الأرض. ويقولون للمختلفين من الناس: هم كنعم الصدقة، وهم كبعر الكبش، قال عمرو بن لحاء: وشعر كبعر الكبش ألف بينه ... لسان دعيّ في القربض دخيل وذلك لأنّ بعر الكبش يقع متفرّقاً. وقال بعض الشعراء لشاعر آخر: أنا أشعر منك لأنّي أقول البيت وأخاه وأنت تقول البيت وابن عمّة. فأمّا قول جرير في ذي الرمّة: إنّ شعره بعر ظباء ونقط عروس فقد فسّره الأصمعي فقال: يريد أنّ شعره حلوٌ أوّل ما تسمعه فإن كرّر إنشاده ضعف لأنّ أبعار الظباء أوّل ما تشمّ توجد لها رائحة ما أكلت من الجثجاث والشيح والقيصوم فإذا أدمت شمّها عدمت تلك الرائحة، ونقط العروس إذا غسلتها ذهبت. ويقال أيضاً في المختلفين هم أولاد علاّت كالإخوة لأُمّهات شتّى والعلّة الضرّة. ويقال للمتساويين في الردائة: كأسنان الحمار. وأنشد المبرّد في الكامل لأعرابي يصف قوماً من طي بالتساوي في الردائة: ولمّا أن رأيت بني جوين ... جلوساً ليس بينهم جليس يئست من الذي أقبلت أبغي ... لديهم إنّني رجل يئوس إذا ما قلت أيّهم لأيٍّ ... تشابهت المناكب والرؤوس قال: فقوله: ليس بينهم جليس هجاء قبيح، يقول: لا ينتجع الناس معروفهم فليس بينهم غيرهم. ويقال أيضاً للمتساويين في الردائة: هما كحماري العبادي، لأنّه قيل له: أيّ حماريك شرٌّ؟ فقال: هذا ثمّ قال هذا. ويقال في التساوي في الخير: هم كأسنان المشط، ويقال: وقعاً كركبتي البعير، وكرجلي النعامة. وقال ابن الأعرابي: كلّ طائر إذا كسرت إحدى رجليه تحامل على الأُخرى إلاّ النعام فإنّه متى كسرت إحدى رجليه جثم، فلذلك قال الشاعر يذكر أخاه: وإنّي وإيّاه كرجلي نعامة ... على ما بنا من ذي غنىً وفقير وقال أبو سفيان بن حرب لعامر بن الطفيل وعلقمة ابن علاتة، وقد تنافرا إليه: أنتما كركبتي البعير، فلم ينفر واحد منهما. فقالا: أيّنا اليمنى؟ فقال: كلّ منكما يمنى. وسأل الحجاج رجلاً عن أولاد المهلّب أيّهم أفضل؟ فقال: هم كالحلقة الواحدة. وسأل ابن دريد عن المبرّد وتغلب فأثنى عليهما، فقيل: فابن القتيبة؟ قال: ربوة بين جبلين، أي خمل ذكره بنباهتهما. ويقال للمتكفّل بمصالح النّاس إنّه وصيّ آدم على ولده، قال الشاعر: فكأنّ آدم عند قرب وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء ويقال خليفة الخضر لمن كان كثير الأسفار. ويقولون للشيء المنتخب المختار: ثمرة الغراب، لأنّه ينتقي خير الثمر. ويقولون: سمنُ فلان في أديمه، كناية عمّن لا ينتفع به أي ما خرج منه يرجع إليه، وأصله أنّ نحياً من السمن انشقَّ في ظرف من الدقيق فقيل ذلك، قال الشاعر: ترحّل فما بغداد دار إقامة ... ولا عند من أضحى ببغداد طائل محلُّ ملوك سمنهم في أديمهم ... وكلّهم من حلية المجد عاطل فلا غرو إن شلّت يد المجد والعلى ... وقلَّ سماحٌ من رجال ونائل إذا غضغض البحر الغطامط مائه ... فليس عجيباً أن تغيض الجداول ويقولون لمن لا يفي بالعهد: فلان لا يحفظ أوّل المائدة، لأنّ أوّلها: (يا أيُّها الّذين آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُود) . ويقولون لمن هو حسن اللباس: لا طائل عنده هو مشجب، والمشجب خشبة القصار التي يطرح عليها الثياب. قال ابن الحجّاج: لي سادة طارق السرور بهم ... يطرده اليأس بالمقاليع

مشاجبٌ للثياب كلّهم ... وهذه عادة المشاقيع جائزتي عندهم إذا سمعوا ... شعري هذا كلام مطبوع وإنّهم يضحكون إن ضحكوا ... منّي وأبكي أنا من الجوع وروي أنّ كيسان غلام أبي عبيدة وفد على بعض البرامكة فلم يعطه شيئاً، فلمّا وافى البصرة قيل له: كيف وجدته؟ قال: مشجباً من حيث ما أتيته وجدته لا طائل عنده. ويكنّون عن الطفيلي فيقولون: هو ذباب، لأنّع يقع في القدور، قال الشاعر: أتيتك زائراً لقضاء حقٍّ ... فحال الستر دونك والحجاب ولست بواقع في قدر قوم ... وإن كرهوا كما يقع الذباب وظريف قول الآخر: وأنت أخو السلام وكيف أنتم ... ولست أخا الملمّات الشداد وأطفل حين تجفى من ذباب ... وألزم حين تدعى من قراد ويكنّون عن القصير القامة بأبي زبيبة، وعن الطويل بخيط الباطل، وكانت كنية مروان بن الحكم لأنّه كان طويلاً مضطرباً. ولهم في تفسير خيط الباطل قولان: أحدهما: إنّه الهباء الذي يدخل من ضوء الشمس في الكوّة من البيت وتسمّه العامة غزل الشمس. والثاني: إنّه الخيط الذي يخرج من فم العنكبوت وتسمّيه العامّة مخاط الشيطان. وتقول العرب للملقوّ: لطيم الشيطان. ويقولون للحزين المهموم: يعدّ الحصى، ويخط الأرض، ويفتُّ اليرموع، واليرموع هو حجارة بيض رقاق تلمع. قال المجنون: عشيّة مالي حيلة غير أنّني ... بلفظ الحصى والخط في الدار مولع أخطّ وأمحو كلّ ما قد خططته ... بدمعي والغربان حولي وقّع وهذا كالنادم يقرع السنَّ، والبخيل ينكت الأرض ببنانه أو بعود عند الردّ. ويقولون للفارغ: فؤاد أُمّ موسى، وللمثري من المال: منقرس، لأنّ داء النقرس أكثر ما يعتري أهل الثروة والتنعّم. قال بعضهم يهجو ابن زيدان الكاتب: تواضع النقرس حتّى لقد ... صار إلى رجل ابن زيدان علّة إنسان ولكنّها ... قد وجدت في غير إنسان ويقولون للمترف: رقيق النعل، لأنّ الملك لا يخصف نعله وإنّما يخصف نعله من يمشي، وكذلك: مسمط النعال أي نعله طبقة واحدة غير مخصوف. ويقولون للسيّد: لا يطؤ على قدم أي هو يتقدّم النّاس ولا يتبع أحداً فيطأ على قدمه. ويقولون: قد اخضرّت نعالهم أي صاروا في خصب. وإذا دعوا على إنسان بالزمانة قالوا: خلع الله نعليه، لأنّ المقعد لا يحتاج إلى نعل. ويقولون: أطفأ الله نوره كناية عن العمى وعن الموت، لأنّ من يموت قد طفئت ناره. ويقولون: سقاه الله دم جوفه، دعاءٌ عليه بأن يقتل ولده ويضطرّ إلى أخذ ديتة إبلاً فيشرب ألبانها. ويقولون: رماه الله بليلة لا أخت لها، يعنون ليلة موته. ويقولون: قدر حليمه أي لا غليان فيها. ويقولون: لقيت من فلان عرق القربة أي العرق الذي يحدث من حملها. ويكنّون عن الحشرات والهوام بجنود السعد، يعنون سعد الأخبية وذلك لأنّه إذا طلع انتشرت في ظاهر الأرض بعد اختفائها. ويكنّون عن اللقيط بتربية القاضي، وعن الرقيب بثاني الحبيب، لأنّه يرى معه أبداً. قال ابن الرومي: موقفٌ للرقيب لا أنساه ... لست أختاره ولا أباه مرحباً بالرقيب من غير وعد ... جاء يجلو عَلَيّ من أهواه لا أحبّ الرّقيب إلاّ لأنّي ... لا أرى من أحبّ حتّى أراه ويكنّون عن وجه المليح بحجّة المذنب، قال الشاعر: قد وجدنا غفلةً من رقيب ... فسرقنا نظرةً من حبيب ورأينا ثمّ وجهاً مليحاً ... فوجدنا حجّة للذنوب ويكنّون عن الجاهل ذي النعمة بحجّة الزنادقة. ويقولون: عرض فلانٌ على الحاجة عرضاً سابرياً أي خفيفاً من غير استقصاء، تشبيهاً له بالثوب السابري والدرع السابرية. ويقولون: في ذلك وعدٌ سابري أي لا يقرن به وفاء. ويقولون: عرض عليه عرض عالة أي عرض الماء على النعم العالة التي شربت شرباً بعد شرب وهو العلل لأنّها تعرض على الماء عرضاً خفيفاً لا تبالغ فيه. ويكنّون عن الشيب بغبار العسكر، وغبار وقائع الدهر، قال الشاعر: غضبت ظلوم وأزمعت هجري ... وصبّت ضمائرها إلى الغدر قالت أرى شيباً فقلت لها ... هذا غبار وقائع الدهر ويقولون: القلم أحد اللسانين، وردائة الحظ إحدى الزمانتين. وجاء ينفض مذرويه لمن يتوعّد من غير حقيقة.

الفصل الثاني في الغزل

وجاء ينظر عن شماله أي منهزماً. وفلان عندي بالشمال أي منزلته خسيسة. وفلان عندي باليمين إذا كان بالمنزلة العليا. ويقولون: هم في خير لا يطير غرابه، يريدون أنّهم في خير كثير وخصب عظيم فيقع الغراب فلا ينفر. وكذلك أمر لا ينادى وليده أي أمر عظيم ينادى فيه الكبار دون الصغار. وقيل: إنّ المرأة تشتغل عن وليدها فلا تناديه. ويقال: أصبح فلان على قرن أعفر؛ وهو الظبي، يريدون أصبح على خطر لأنّ قرن الظبي لا يصلح مكاناً. وأنشد ابن دريد: وما خير عيش لا يزال كأنّه ... معرّس يعسوب برأس سنان يعني من القلق وإنّه غير مطمئن. ويقولون: به داء الظبي أي لا داء به، لأنّ الظبيى صحيح لا يزال والمرض قلّ أن يعتريه. قال الباخرزى: كالظبي لولا اعتلالٌ في نواظرها ... والظبي لا يشتكي عارض العلل وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إيّاكم وخضراء الدمن! فلمّا سئل عنها؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء. ويقولون للمتلوّن المختلف الأحوال: ظلُّ الذئب، لأنّه لا يزال مرّة هكذا ومرّة هكذا. ويقولون داء الذئب أي الجوع. ويقولون عهد فلان عهد الغراب، يعنون أنّه غادر لأنّ كلّ طائر يألف أُنثاه إلاّ الغراب فإنّه إذا باضت الأُنثى تركها وصار إلى غيرها. ويقولون: ذهب بسمع الأرض وبصرها الى إلى حيث لا يدري. ويقولون: ألقى عصاه إذا أقام واستقرّ. ويقولون للمختلفين: طارت عصاهم شققاً. ويقولون: فلان منقطع القبال أي لا رأي له. وفلان عريض البطان أي كثير الثروة. وفلان رخيّ اللبب أي في سعة. وفلان واقع الطير أي ساكن. وفلان شديد الكاهل أي منيع الجانب. وفلان ينظر في أعقاب نجم مغرّب أي هو نادم آيس. قال الشاعر: ولم أرَ ليلى بعد موقف ساعة ... بخيف منى ترمي جمار المخصّب ويبدي الحصى منها إذا قذفت به ... من البرد أطراف البنان المخضّب وأصبحت من ليلى الغداة بناظر ... مع الصبح في أعقاب نجم مغرّب ألا إنّما غادرت يا أُمَّ مالك ... صدىً أينما تذهب به الريح يذهب ويقولون: سقط في يده أي أيقن بالهلكة. وأعطاه كذا عن ظهر يداً أي ابتداءً لا عن مكافاة. وجاء فلان ناشراً أُذنيه أي جاء طامعاً. ويقال: هذه فرس غير محلفة أي لا تحوج صاحبها أن يحلف بأنّها كريمة. ويقال: حلب فلان الدهر أشطره أي مرّت عليه ضروبه خيره وشرّه. وأبدى الشرُّ نواجذه أي ظهر. وكشفت الحرب عن ساقيها، وكشرت عن نابيها. ويقولون: استنوق الجمل، للرجل يكون في حديث فينتقل إلى غيره يخلطه به. ولمن يهون بعد عزٍّ استأتن العير. وللضعيف يقوى استنسر البغاث، إنتهى. ولنرجع إلى تمام المقطوعة: فأمّا قولي فيها: خلق الناس للكلام ولكن ... خلقوا إن نطقتم للسكوت فمثله قول مهيار الديلمي: إذا نطقتم سكت الناس لكم ... على قوى الأنفاس وامتدادها كأنّما ألسنكم لهاذمٌ ... على القنا تشرع في صعادها وقوله أيضاً: تكلّموا وأرمَّ الناطقون لهم ... لا يؤمرون ولا يعصون ما أمروا الفصل الثاني في الغزل قلت هذه الأبيات: أطال اشتغالي في هواه مهفهف ... أنيق الصبا سبحان مبدع فطرته أطالع منه في ليالي فروعه ال ... طوال على مصباح أنوار غرّته صحيفة وجه عن فؤادي تجيب في ... حروف معان هنَّ عين مضرّته بصادِ فم في نقطة الخال معجم ... ولام عذار تحت تشديد طرّته الفصل الثالث في شكوى الزمان وعدم نباهة الحظ قلت: كم تراني استولد الأوقاتا ... فرجاً في انتظاره الصبر ماتا وإذا هبت الحظوظ فحظي ... يقطع الليل والنهار سباتا الفصل الرابع في الهجاء قلت في ذلك: وحشٌ من الإنس من يعلق بصحبتهم ... يكنْ كمستبدل سقماً بصحّته كأنّني بينهم مسكٌ أحاط به ... ريح البطون فأخفى طيب نفحته وقلت أيضاً: أُكرّر طرفي فلا أرى أبداً ... إلاّ غبياً أنّى تلفت من كلّ من ذقنه كعانته ... والفمُّ منه كأنّه أست ومعجب كلّ مشيه مرح ... ومترف كلُّ أكله سحت الباب الرابع في قافية الثاء

وفيها فصلان

وفيها فصلان الفصل الأوّل في المديح قلت فيه: عشقت ظماء الوشح لا بل غراثها ... تودُّ الثريا أن تكون رعاثها من الخرد الوسنانة اللحظ حرّمت ... على العين منّي أن تذوق حثاثها نشت في خدور عنك فتيان عامر ... حمت بذكور المرهفات إناثها ومرتبعات في رياض كأنّما ... ندى حسن في واسم منه غاثها كأخلاقه أزهارها اللاء دبجت ... بوطفاء خلنا من يديه انبعاثها شأى في المعالي والمكارم والنهى ... فأحرز غايات الفخار ثلاثها همام به لا قست أبناء عصره ... ومن بالصقور الغلب قاس بغاثها تراه بنوا الآمال في المحل غيثها ... وعند طروق النائبات غياثها تردّت ثياب العيش فيه قشيبةً ... وعند سواه قد تردّت رثاثها من القوم لا تلقى سوى الحمد كسبها ... وليس ترى إلاّ المعالي تراثها معوَّدة سبق السؤال صلاتها ... فإن هي لم تسبق وإلاّ استراثها وكم بفتىً لاثت مأزرها العلى ... فما حمدت إلاّ عليه ملاثها أقول: العشق طمع يتولّد في قلب العاشق وكلّما قوي زاد صاحبه في الإهتياج، واشتغل فكره في الآمال في محبوبه، والحرص على طلبه، واللجاج في محبّته حتّى يؤدّيه ذلك إلى الغم المقلق، وينشؤ عن ذلك فساد الفكر، ومعه يكون زوال العقل ورجاء ما لا يكون، وتمنّي ما لا يتم حتّى يؤدّيه إلى الجنون، فربّما قتل نفسه وربّما مات غمّاً، وربّما رأى محبوبه فمات من الفرح. واعلم أنّ العشق والهوى والحب وإن كان موردها واحد فقد فرّق فيما بينهما عمرو بن بحر الجاحظ فقال: كلّ عشق يسمّى حبّاً، وليس كلّ حبٍّ يسمّى عشقاً لأنّ العشق اسم لما فضل عن الإقتصاد في الحبّ كما أنّ السرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الإقتصاد، والهوى يتفرّع عن الحب، والحب هو المتولّد من أوّل نظرة، قال بعضهم في ذلك: الحب أوّله حبٌّ تهيم به ... نفس المحب فيلقى الموت كاللعب يكون مبدؤه من نظرة عرضت ... وخطرة قدحت في القلب كاللهب كالنار مبدؤها من قدحة فإذا ... تأجّجت أحرقت مستجمع الحطب وقال الآخر: الحب من سمع ومن لحظة ... وفيه أحلاءٌ وإمرار رأيت نار الحب بين الحشا ... تفعل ما لا تفعل النّار إن لم تكلّم في الهوى ألسنٌ ... تكلّمت باللحظ أبصار والحب داء ماله حيلة ... وليس فيه للفتى عار وقيل: إنّ الحب هو الميل الدائم بالقلب للحبيب ومصاحبته على الدوام، كما قيل: ومن عجب أنّي أحنُّ إليهم ... وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي وكقول الآخر: خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب والحب هو المحبّة، وأحسن الأقوال في اشتقاقها أنّها مشتقّة من حبّة القلب وهي سويداه، وسمّيت بذلك لوصولها إلى حبّة القلب كما قيل مثل ذلك في الشغف، إنّ الحبّ يسمّى شغفاً إذا بلغ شغاف القلب وهو غشاء على القلب رقيق، وكلّ هذه الأوصاف والأحوال بحسب مراتب الحب. فأمّا كون الحب هو المتولّد من أوّل نظرة فقد قالوا أنّ الرجل قد تمرّ به المرأة فيكون ظاهر هيئتها مشاكلاً لطبعه فتتحرّك نفسه وتنبعث همّته وإذا تكرّر نظره إليها زاد حبّه لها، فإن نظرت إليه نظرة فظنَّ أنّ في نظرها جزءً من هوىً له أو أنّ عليها مسحةً من إعجاب به دخل في عداد العاشقين، وقد أجمعوا على أنّ العشق هو الداء العلياء وما له غير وصل الحبيب من دواء، قال مهيار الديلمي: أشتكيكم وإلى من أشتكي ... أنتم الداء فمن يشفي السقاما وممّا ورد في وصف العشق ما رواه الهيثم بن عدي قال: أصبت صخرة مكتوب عليها: العشق ملك غشوم، مسلّط ظلوم، دانت له القلوب وانقادت له الألباب، وخضعت له النفوس، فالعقل أسيره، والنظر رسوله، واللحظ لفظه، مستوره غامض، وهو دقيق المسلك، عسر المخرج.

أقول: قوله: واللحظ لفظه يشهد بذلك ما قاله البحتري وذلك أنّ السيّد المرتضى روى في الدرر عن يحيى بن البحتري قال: إنّي انصرفت يوماً من مجلس أبي العبّاس محمّد بن يزيد المبرَّد فقال لي أبي البحتري: ما الذي أفدت يومك هذا من أبي العبّاس؟ فقلت: أملى عَلَيّ أخباراً وأنشدني أبياتاً للحسين بن الضحّاك. قال: أنشدني الأبيات، فأنشدته: كأنّي إذا فارقت شخصك ساعةً ... لفقدك بين العالمين غرب وقد رمتُ أسباب السلوّ فخانني ... ضميرٌ عليه من هواك رقيب أغرَّك صفحي عن ذنوب كثيرة ... وغضي على أشياء منك تريب كأنْ لم يكن في الناس قبلي متيّم ... ولم يك في الدنيا سواك حبيب إلى الله أشكو إن شكوت فلم يكن ... لشكواي من عطف الحبيب نصيب فقال: هذا من أحسن الكلام يابني، ثمّ أنشدني لنفسه: حبيبي حبيب يكتم النّاس أنّه ... لنا حين تلقاه العيون حبيب يباعدني في الملتقى وفؤاده ... وإن هو أبدى في البعاد قريب ويعرض عنّي والهوى منه مقبلٌ ... إذا خاف عيناً أو أشار رقيب فتنطق منّا أعينٌ حين نلتقي ... وتخرس منّا ألسنٌ وقلوب ثمّ قال: أرو يا بني هذا فإنّه من أحسن الشعر وظريفه. وقال بعضهم: وقد جعل الدمع كناية تخاطبه بها محبوبته إخفاءً للمحبّة التي بينهما بحيث لا يعلم بهما الوشاة: ومراعة للبين تحسب أنّها ... قمر على غصن تغيب وتطلع كتبت إليك على شقائق خدّها ... سطراً من العبرات ماذا أصنع فأجبتها بلسان حال معرب ... ما في الحيوة مع التفرّق مطمع وما أحسن قول بعضهم في إخفاء المحبّة وإظهار الصدّ حذر العذال والوشاة: وخبّرك الواشون أن لا أحبّكم ... بلى وستور الله ذات المحارم أصدُّ وما الصدّ الذي تعلمينه ... عزاء بنا إلاّ اجتراع العلاقم حياءً وتقياً أن تشيع نميمةٌ ... بنا وبكم أُفٍّ لأهل النمائم وإنَّ دماً لو تعلمين جنيته ... على الحيّ جاني مثله غير سالم أما أنّه لو كان غيرك أرقلت ... صعاد القنا بالراعفات اللهاذم ولكنّه والله ما طلَّ مسلماً ... كبيض الثنايا واضحات الملاغم رمين فاقصدن القلوب فلا ترى ... دماً مائراً إلاّ جوىً في الحيازم إذا هنَّ ساقطن الحديث حسبته ... سقوط حصى المرجان من كفّ ناظم وقال الطغرائي وقد أبدع غاية الإبداع بنظم يستوقف حسنه العيون والأسماع: خبّروها أنّي مرضت فقالت ... مرضاً طارفاً شكى أم تليدا وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا وأتتني في خيفةً تتشكّى ... ألم الوجد والمزار البعيدا ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عَلَيّ عطفاً وجيدا قال صلاح الدين الصفدي: هذه الأبيات يرشفها السمع مداماً، ويفضلها السامع على العقود نظاما، ويظنّ الشاعر ألفاتها غصوناً، والهمزات عليها حماما. رَجْعٌ إلى وصف العشق: روي أنّ المأمون قال ليحيى بن أكثم: ما العشق؟ فقال يحيى: سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه، ويتواتر بها نفسه. فقال له تمامة: أسكت يا يحيى! إنّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد صيداً وأمّا هذه فمن مسائلنا نحن. فقال له المأمون: قل يا تمامة! فقال: العشق جليس ممتع، وأليف مونس، وصاحب مالك، ومالك قاهر مسالكه لطيفة، ومذاهبه متضادّة، وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب في خواطرها، والعيون ونواظرها، والنفوس وآرائها، وأعطي زمان طاعتها، وقياد مملكتها، توارى عن الأبصار مدخله، وغمض عن القلوب مسلكه. فقال المأمون: أحسنت يا تمامة، وأمر له بألف دينار. أقول: قوله: إنّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق الخ تعريض لطيف لأنّه سُئل في هاتين المسألتين وما اهتدي إلى الجواب عنهما، فقد روي في حديث تزويج المأمون ابنته أُمّ الفضل أبا جعفر محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام أنّ يحيى بن أكثم قال للمأمون: أتأذن لي أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: إستأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: سل إن شئت. قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً؟

فقال له أبو جعفر عليه السلام: قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أم خطأ؟ حرّاً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النّهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أم الحج كان محرماً؟ فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والإنقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فلمّا تفرّق الناس وبقي الخاصة قال المأمون لأبي جعفر عليه السلام: إن رأيت جعلت فداك أن تذكر ما فصّلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه ونستفيده؟ فقال أبو جعفر: نعم، إذا قتل صيداً في الحلّ وكان من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه جمل قد فطم من اللبن، فإذا قتله في الحرم فعليه الجمل وقيمة الفرخ، فإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، وإن كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه الإثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة. فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر! أحسن الله إليك! فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك؟ فقال أبو جعفر ليحيى: أسألك؟ قال: ذاك إليك جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدته منك. فقال له أبو جعفر: أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النّهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا كان غروب الشمس حرمت عليه، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟ فقال له يحيى والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه فإن رأيت أن تفيدنا؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أوّل النّهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلمّا ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهرها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلمّا كان من نصف الليل طلّقها طلقة واحدة فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له. فقول تمامة: إنّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم قتل صيداً تعريض له بذلك، معناه أنّك مع ما تسمّيت به من الفقه ولا تعرف الجواب عن مسائله، فكذلك أنت من أهل العشق ولا تحسن وصفه. وذكر ابن خلّكان عن بعض المؤرّخين أنّه لم يكن في يحيى بن أكثم ما يعاب به سوى ما كان يتّهم به من الهناة الشائعة عنه المنسوبة إليه. قال: ونقلت من أمالي أبي بكر محمّد بن القاسم الأنباري أنّ القاضي يحيى بن أكثم قال لرجل يأنس به ويمازحه: ما تسمع الناس يقولون فيّ؟ قال: ما أسمع إلاّ خيراً. قال: ما أسألك لتزكّيني، قال: أسمعهم يرمون القاضي بالأُبنة، قال: اللهمّ غفراً، المشهور عنّا غير هذا. وذكر عنه أنّه كان يحسد حسداً شديداً وكان متفنّناً، فإذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكيٌّ حافظ، فناظره فرآه متفنّناً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: تحفظ من الأُصول؟ قال: نعم أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أنّ عليّاً عليه السلام رجم لوطيّاً، فأمسك يحيى عنه ولم يكلّمه. قال الخطيب: ودخل على يحيى بن أكثم ابنا مسعدة وكانا على نهاية الجمال، فلمّا رآهما يمشيان في صحن الدار أنشد:

يا زائرينا من الخيام ... حيّاكما الله بالسلام لم تأتياني وبي نهوض ... إلى حلال ولا حرام يحزنني إن وقفتما بي ... وليس عندي سوى الكلام ثمّ أجلسهما بين يديه وجعل يمازحهما حتّى انصرفا. ويقال: إنّه عزل عن الحكم بسبب هذه الأبيات. قال: ورايت في بعض المجاميع أنّ يحيى بن أكثم مازح الحسن بن وهب وهو يومئذ صبيّ فلاعبه ثمّ جمشه، فغضب الحسن، فأنشد يحيى: أيا قمراً جمشته فتغضّبا ... وأصبح لي من تيهه متجنّبا إذا كنت للتجميش والعضّ كارهاً ... فكن أبداً يا سيّدي متنقّبا ولا تظهر الأصداغ للنّاس فتنة ... ولا تجعل منها فوق خدّيك عقربا فتقتل مسكيناً وتفتن ناسكاً ... وتترك قاضي المسلمين معذّبا وقال أحمد بن يونس الضبي: كان زيدان الكاتب يكتب بين يدي يحيى بن أكثم، وكان غلاماً جميلاً، متناهي الجمال، فقرص القاضي خدّه، فخجل الغلام واستحيى وطرح القلم من يده، فقال له يحيى: خذ القلم واكتب ما أملي عليك، ثمّ أملى الأبيات المذكورة. وقال إسماعيل الصفّار: سمعت أبا العينا في مجلس أبي العبّاس المبرّد يقول: كنت في مجلس أبي عاصم النبيل وكان أبوبكر بن يحيى بن أكثم ينازع غلاماً، فقال: إن يسرق فقد سرق أب له من قبل. وذكر الخطيب في تاريخه: أنّ المأمون قال ليحيى بن أكثم: من الذي يقول: قاض يرى الحدَّ في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من بأس قال: أوما يعرف أميرالمؤمنين قائله؟ قال: لا، قال: يقوله الفاجر أحمد بن أبي نعيم الذي يقول: لا أحسب الجور ينقضي وعلى ... الأُمّة وال من آل عبّاس قال: فأفحم المأمون خجلاً وقال: ينبغي أن ينفى أحمد بن أبي نعيم إلى السند. وهذان البيتان من جملة أبيات أوّلها: أنطقني الدهر بعد أخراس ... لنائبات أطلن وسواسي يا بؤس للدهر لا يزال كما ... يرفع ناساً يحطُّ من ناس لا أفلحت أُمّةٌ وحقَّ لها ... بطول نكس وطول أتعاس ترضى بيحيى يكون سائسها ... ولى يحيى لها بسوّاس قاض يرى الحدَّ في الزناء ولا ... يرى على من يلوط من بأس يحكم للأمرد الغرير على ... مثل جرير ومثل عبّاس فالحمد لله كيف قد ذهب ال ... عدل وقلَّ الوفاء في النّاس أميرنا يرتشي وحاكمنا ... يلوط والرأسُ شرُّ ما راس لو صلح الدين واستقام لقد ... قام على النّاس كلّ مقياس لا أحسب الجور ينقضي وعلى ... الأُمّةِ وال من آل عبّاس قال: وحكى أبوالفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني ليحيى المذكور وقائع في هذا الباب كثيرة، وأنّ المأمون لمّا تواتر النقل على يحيى بهذا اراد امتحانه، فأخلى له مجلساً واستدعاه وأوصى مملوكاً خزريّاً أن يقف عندهما وحده، وإذا خرج المأمون يقف المملوك عند يحيى فلا ينصرف، وكان المملوك في غاية الحسن، فلمّا اجتمعا بالمجلس وتحادثا وانصرف المأمون كأنّه يقضي حاجته فوقف المملوك، فتجسّس المأمون عليهما، وكان قرّر معه أن يعبث بيحيى علماً منه أنّ يحيى لا يتجاسر عليه خوفاً من المأمون، فلمّا عبث به المملوك سمعه المأمون وهو يقول: لولا أنتم لكنّا مؤمنين، فدخل المأمون وهو ينشد: وكنّا نرجي أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قنوط متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط إنتهى. رَجْعٌ إلى ما قيل في وصف العشق: قال الأصمعي: سألت أعرابيّة عن العشق، فقالت: جلَّ والله أن يرى، وخفي عن أعين الورى، فهو في الصدور كامن، كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. وقيل لأبي زهير المدني: ما العشق؟ فقال: الجنون داء أهل الذلّ، وهو داء أهل الظرف. وقال بعض الأطبّاء في صفة الحب: الحب امتزاج الروح بالروح، ولو امتزج الماء بالماء لامتنع تخليص بعضه من بعض، فكيف والروح ألطف امتزاجاً وأرقّ مسلكاً. وسئل أعرابي عن الهوى، فقال: هو أغمض مسلكاً في القلب من الروح والجسد، وأملك من النفس بالنفس، بطن وظهر، ولطف وكشف، فامتنع عن وصفه اللسان، وعمي عنه البيان، فهو بين السحر والجنون، ولطف المسلك والكمون.

وروى أهل السير أنّ الذين علق الحب قلوبهم وماتوا أو جنّوا هم الذين عشقوا بنات العمّ والجيران في الحداثة، وإنّ ذلك هو العشق الذي لا يزايل صاحبه أبداً حتّى يموت أو يهيم على وجهه، ويشهد بذلك قول المجنون: وعلقت ليلى وهي ذات موصد ... ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرى البهم يا ليت أنّنا ... صغيران لم نكبر ولم تكبر البهم ومنه قول جميل: علقت الهوى منها وليداً ولم يزل ... إلى الآن ينمو حبّها ويزيد وأفنيت عمري في انتظار نوالها ... وأفنت بذاك العمر وهو جديد وكان أوّل ما علق جميلٌ بثينة أنّه أقبل يوماً في إبله فاستقبل وداياً يقال له وادي بغيض فاضطجع وأرسل إبله مصعدة وأهل بثينة في ذنب الوادي، فأقبلت بثينة وجارية لها واردتين الماء فمرّتا على فصال له برّك ففرّقتهنّ بثينة وهي إذ ذاك جويرية صغيرة فسبّها جميل فأقترت عليه، فملح إليه سبابها فقال: وأوّل ما قاد المودّة بيننا ... بوادي بغيض يا بثين سباب وقلت لها قولاً فجائت بمثله ... لكلّ كلام يا بثين جواب وعن رجل من جهينة أنّه قال: صادفت في الحمّام جميل بثينة وأنا لا أعرفه فقلت: من أنت؟ قال: جميل، فقلت له: أنت الذي تقول: لها النظرة الاُولى عليهنّ بسطة ... فإن كرّت الأبصار كان لها العقب فقال: نعم أنا الذي أقول: ترى البزل بكرهنّ الرياح إذا جرت ... وبثنة إن هبّت بها الريح تفرح قال: فقلت: إنّي والله لأظنّ أنّ عرقوفيها يذكيان إذا كلّت شفرة الحي، فضحك وقال: يابن أخي! لو رأيتها لوددت أن تلقى الله بهنة منها مصرّاً عليها أبداً. وممّا ورد من الأخبار التي تشهد بعفّة أهل العشق المتقدّمين ما رواه سهل بن سعد قال: كنت بمصر وخرجت لحاجة فلقيني صديق لي في بعض الطريق فقال لي: هل لك أن تعدل لعيادة جميل فقد ثقل مرضه؟ قلت: نعم، فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إليّ وقال: يابن سعد! ما نقول في رجل لم يزن قط ولم يشرب مداماً ولم يسفط دماً حراماً قد أتت عليه خمسون سنة يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله؟ فقلت: من هذا، فإنّي أظنّه ناج من عذاب النّار؟ فقال: أنا ذاك، قلت: يا سبحان الله! ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وما أحسبك تسلم وأنت تسبّب ببثينة منذ عشرين سنةً؟ فقال: إنّي في آخر يوم من أيّام الدنيا وأوّل يوم من أيّام الآخرة فلا نالتني شفاعة محمّد إن وضعت يدي يوماً عليها لريبة، وإنّما أكثر ما يكون منّي إليها أنّي آخذ يديها فأضعهما على قلبي فأستريح إليها، ثمّ أُغمي عليه فأفاق وأنشأ يقول: صرخ النعيُّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول ولقد أجرُّ الذّيل في وادي القرى ... نشوان بين مزارع ونخيل قومي بثينة واندبي بعويل ... وابكي خليلك دون كلّ خليل ثمّ أُغمي عليه فمات. وعن الحافظ أبي محمّد الأموي أنّه قال: كانت عنده امرأة تخدمه، وإنّ فتىً علقها وعلقته، فذاع سراهما وشاع أمرهما، فاجتمعا يوماً فقال لها: هلمّ نحقّق ما قاله فينا الناس، فقالت: لا والله لا كان ذلك أبداً وأنا أقرأ: (الأخلاّءُ يَوْمَئِذ بَعضُهُمْ لِبَعْض عَدوٌّ إلاّ المُتّقين) . وروي عن جميل أنّه قال لبثينة ليرى ما عندها: هل لك يا بثينة أن نحقّق ما قاله فينا النّاس؟ فقالت: مه، إنّ الحبّ إذا نكح فسد، ونظم هذا المعنى بعض الشعراء فقال: ماالحبّ إلاّ نظرةٌ ... وغمز كفٍّ وعضد ماالحبّ إلاّ هكذا ... إن نكح الحبّ فسد وروي عن الأصمعي أنّه قال: قلت لأعرابيّة: ما تعدون العشق فيكم؟ قالت: العناق والضمّة والمحادثة والغمزة، ثمّ قالت: يا حضري! كيف هو عندكم؟ قلت: يقعد المحب بين رجلي من يحب ثمّ يجهدها. قالت: يابن أخي! ما هذا عاشق، هذا طالب ولد. وسأل رجل أعرابياً عن العشق فقال: هو اللحظة والنظرة ومصّ الريقة ولثم الثغر والأخذ من لطائف الحديث بنصيب، فكيف هو عندكم يا حضري؟ فقال: العضّ الشديد، والجمع بين الركبة والوريد، وهو يوقض النيام، ويوجب الآثام. فقال: تالله ما يفعل هذا العدوّ فكيف الحبيب.

وقيل لآخر: ما كنت صانعاً بمن أحببت لو ظفرت به؟ قال: أُحلّ الخمار وأُحرّم ما وراء الإزار، وأُطهّر الحب ما يرضى الرب. وقيل لآخر: ما كنت صانعاً بمحبوبتك لو ظفرت بها؟ قال: أضمّها وألثمها وأعصي الشيطان في إثمها، ولا أفسد عشق عشرين سنة بلذّة ساعة تفنى لذّتها ويبقى عقابها، إنّي إن فعلت ذلك للئيم ولم يلدني كريم. وما ألطف وأظرف قول بعضهم: وباض الحب في قلبي ... فياويلي إذا فرّخ وما أصنع في الحبّ ... إذا لم أنزح البربخ وكان العشق أكثر وقوعاً في بني عذرة، ولقد اشتهروا فيه بين القبائل، وصاروا يُضرَب بهم المثل في العشق لكثرة من قتل منهم. روي عن محمّد بن جعفر ما هذا ملخّصه أنّه قال: سمعت رجلاً من عذرة يتحدّث عند عروة، فقال له عروة: يا هذا بحقٍّ إنّكم أرقّ النّاس قلوباً؟ قال: نعم، والله لقد تركت في الحي ثلاثين شابّاً خامرهم الموت ما لهم داء إلاّ الحب. وروي ما هذا مضمونه عن سعد بن عتبة أنّه حضر في مجلسه رجل فاستغربه، فقال له: ممّن أنت؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. فقال: عذريٌّ وربّ الكعبة، ثمّ قال له: ولِمَ كان بكم هذا الداء الذي أهلككم؟ قال: لأنّ في رجالنا صباحة وفي نسائنا عفّة. وعنهم ما هذا ملخّصه أنّه قال رجل من فزارة لرجل من عذرة: إنّكم لتعدّون موتكم في الحبّ فضيلةً لكم ومزيّة، وإنّما ذاك من ضعف البنية ووهن العقيدة وسوء الرويّة. فقال العذريّ: أمّا إنّكم لو رأيتم المحاجر البلج ترشق بالأعين الدعج من فوقها الحواجب الزج من تحتها المباسم الفلج تفترّ عن الثنايا الغرّ كأنّها البرد والدر لجعلتموها اللاّت والعزّى. واعلم أنّ من المعلوم عند العرب أنّ الشيء إذا عظم كالسيف والرمح والأسد والداهية والخمر عظمت فيه عنايتهم ووضعوا له أسماء وصفاتاً كثيرة، ولمّا كان لا شيء عندهم أعظم من الحب كانت عنايتهم فيه أعظم فوضعوا له صفاتاً وأسماء لا تكاد تحصى وأيسرها ما نقله عنهم الحصيري في بعض مصنّفاته فقال: الحب، والعشق، والهوى، والمقة، والعلاقة، والرقّة، والكئابة، والصبابة، والكرب، والصبوة، والشغف، والتوق، والوله، والكلف، والأسف، والدنف، والجوى، والخلّة، والودّ، والكمد، والسهد، والخبل، والجنون، والتدلية، والنبل، والشجون، والحرق، والرسيس، والأرق، والوجل، والحزن، والتلدد، والبلابل، والوهل، والنبالة، والتبالد، والتنيم، والجزع، والخوف، والوصب، والإكتئاب، والشجن، والهلع، والهيام، والنصب، والغرام، والحسرات، والخلاعة، والتباريح، والغمرات، واللعج، والحنين، والتلهّف، والأنين، واللذع، والندم، والإستكانة، واللوعة، والسقم، والفتون، والتفجّع، والمسُّ، واللمم، والداء المخامر، والضنى المسامر، والعقل المختلس، والنفس المحتبس، واللبّ المسلوب، والدمع المسكوب. إنتهى كلامنا على العشق. وظماء الوشح وغراثها: الظماء هي العطشانة، والغراث هي الجائعة، ووصف الأوشحة بالعطش والجوع كناية عن دقّة الخصر لأنّ ذلك من الصفات المحمودة في النساء، ويقال: هي مخطفة الحشا ومهضومة الحشا ومرهفة الخصر وعظيمة الكشح، ويقابلون ذلك بارتواء الأرداف والمخلخل، والمراد به الساق. قال امرؤ القيس: هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... عَلَيّ هظيم الكشح ريّا المخلخل وقال أبو تمام: فتأبّدت من كلّ مخطفة الحشا ... غيداء تكسى بارقاً ورعاثا وقال البحتري: أظالمة العينين مظلومة الحشا ... ضعيفة كفّي الخيال المؤرّقا وقال أيضاً: ويقلُّ انتصار من هظمته ... ذات كشح مهفهف مهظوم وقال أيضاً: أوانس ظمآنةٌ وشحها ... ريّانة خرسٌ خلاخيلها وقال الآخر: ونشوان من خمر الدلال سقيته ... شمولاً فنمت عن هواه الشمائل شكى ظمأً منه الموشّح وارتوت ... بماء الصبا أردافه والخلاخل وهذا الباب واسع جدّاً. والرعاث هو القرط. قال الأرجاني وقد شبّه القرط بالثريّا: تذكر كم ليل لهونا به ... قرطك قد كان ثريّاه وقال الأموي: بدا والثريّا في مغاربها قرط ... بريق شجاني والدجى لم شمّط وإنّما يشبّه القرط بالثريّا لأنّه مثله في الهيئة.

الفصل الثاني في الإستغاثة

وقولي: حمت بذكور المرهفات إناثها، اشتمل على الطباق، والطباق هو من المحسّنات المعنوية ويُسمّى المطابقة، والتطبيق، والتكافؤ، والتضاد. قال ابن الأثير في المثل السائر: وهو؛ يعني الطباق، في المعاني ضدّ التجنيس في الألفاظ لأنّ التجنيس هو اتّحاد اللفظ مع الختلاف المعنى، الطباق هو أن يكون المعنيان ضدّين، وقد أجمع أرباب هذه الصناعة على أنّ المطابقة هي الجمع بين الشيء وضدّه كالسواد والبياض والليل والنهار، والظاهر أنّ المقابلة أعمّ من الطباق؛ فإنّ كلّ طباق مقابلة ولا عكس، لأنّه الجمع بين متضادّين مع مراعاة التقابل فلا يجيء باسم مع فعل ولا العكس وذلك غير ملحوظ في المقابلة، ولأنّ المطابقة هي الجمع بين ضدّين، والمقابلة هي الجمع بين ضدّين فصاعداً، ومن أمثلة مجيئه من إسمين قوله تعالى: (وَتَحْسبُهُم أيقاظاً وهُمْ رُقُود) ، ومن فعلين قوله تعالى: (يُحيي ويُميت) ، وقوله: (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى ما فاتَكُمْ ولا تَفْرَحُوا بما آتاكُمْ) . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمللأنصار: إنّكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطمع. ومن حرفين قوله تعالى: (لهَا ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ) فإنّ في اللاّم معنى الإنتفاع وفي على معنى التضرّر أي لها ما كسبت من خير وعليها مااكتسبت من شرّ، إنتهى. وممّا اتّفق لي من الشعر الأجنبي ما قلته مقرضاً على المنظومات الموسومة ب "الباقيات الصالحات" نظم عبد الباقي أفندي العمري في مدح أئمّة العصمة صلى الله عليه وآله وسلم وقد مدحته فيها، فقلت: أربّ القوافي قد غدا لك مذعناً ... بها محرز الفضل اكتساباً ووارثه لو المتنبّي شاهد الحكم التي ... نطقت بها ما شكَّ أنّك باعثه هي "الباقيات الصالحات" أطائب ال ... قريض ولكن ما سواها خبائثه فحسبك منها معجزاً بمديح من ... معاجز كلّ الأنبياء موارثه غدت كعصا موسى ولكنّما بها ... قد التقفا سحر القريض ونافثه كفى أنّها في أُمّة الشعر قبلةٌ ... إليها قديم النظم صلّى وحادثه الفصل الثاني في الإستغاثة قلت مخاطباً لأميرالمؤمنين عليه السلام: أميرالمؤمنين أغث صريخاً ... ألمَّ بجنب قبرك مستغيثا أتاك يحثُّ ناجية المطايا ... وصرف الدهر يطلبه حثيثا الباب الخامس في قافية الجيم وفيها فصل واحد في المديح قلت فيه: فيك العلاء مضيئة أبراجها ... فلأنت بدر سمائها وسراجها وبك ابتهاج أسرّة الشرف التي ... لولاك بعد أخيك عطّل تاجها أقبلتما تتجاريان لغاية ... لم يستقم لسواكما منهاجها سبق الأنام لها وجئت مصلّياً ... ومعاً ملطّمةً أتت أفواجها حتّى استوت قدماكما في ذروة ... للمجد عزَّ على الورى معراجها هو مصطفى الشرف الذي من بعده ... وجدتك أكرم من عليه معاجها أنت الذي ارتشف الورى من خلقه ... راحاً ألذَّ من الرحيق مزاجها مااعتلّت الدنيا بداء جدوبها ... إلاّ وجودك طبّها وعلاجها ولقد حميت وئيدة الكرم التي ... لولاك ما سلمت لها أوداجها نسجت لك العليا ملابس فخرها ... فزها عليك مطرّزاً ديباجها لم تحد مدلجة الركائب رغبة ... إلاّ وكان لربعكم أدلاجها ما طرَّقتْ أُمُّ الرّجاء لآمل ... إلاّ وأصبح من نداك نتاجها أقول: أمّا قولي: سبق الأنام لها الخ، فالسابق أوّل خيل الحلبة، والمصلّي تلو السابق، والملطم تاسع خيل الحلبة. ومن أحسن ما جاء في الإستباق والمساواة قول الخنساء: جارى لباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملائة الحضر حتّى إذا نزت القلوب وقد ... لزّت هناك العذر بالعذر وعلا هتاف النّاس أيّهما ... قال المجيب هناك لا أدري برزت صفيحة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر وهما كأنّهما وقد برزا ... صقران قد حطّا على وكر ويقال: إنّها قيل لها: ما مدحت أخاك حتّى هجنت أباك؟ فقالت هذه الأبيات.

ويقال: أنّه قيل لأبي عبيدة: ليس هذه الأبيات في مجموع شعر الخنساء؟! فقال أبو عبيدة: العامّة أسقط من أن يجاد عليها بمثل ذلك، ولعمريى إنّها قد بلغت في مدح أخيها من غير إزراء بأبيها النهاية لأنّها جعلت تقدّم أبيها له عن قدرة منه على المساواة وعن غير تقصير منه، وإنّه أفرج له عن السبق معرفةً له بحقّه وتسليماً لكبر سنّه، ومنها أخذ الشريف الرضي قوله: ولولا مراعاة الأُبوّة جزته ... ولكن لغير العجز ما أتوقّف وقال السيّد المرتضى: وكأنّ الخنسا نظرت في هذا المعنى إلى قول زهير: فشجَّ بها الأماعز وهي تهوي ... هويّ الدلو أسلمها الرشاء فليس لحاقه كلحاق ألف ... ولا كنجائها منه نجاء يقدّمه إذا اختلفت عليها ... تمام السن منه والذكاء ويشبه أن يكون الكميت أخذ من الخنساء قوله في مخلّد بن يزيد بن المهلّب وهو: ما إن أرى كأبيك أدرك شأوه ... أحدٌ ومثلك طالباً لم يلحق تتجاريان له فضيلةُ سنّه ... وتلوت بعدُ مصلّياً لم يسبق إن تنزعا فله فضيلة سبقه ... فبمثل شأو أبيك لم تتعلّق ولئن لحقت به على ما قد مضى ... من بعد غايته فأحج وأخلق ويشبه هذا المعنى قول المؤمّل بن أميل الكوفي المحاربي يمدح المهدي في حياة المنصور: لئن فتَّ الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور فقد فات الملوك أبوك حتّى ... بقوا مابين كاب أو حسير وجئت ورائه تجري حثيثا ... وما بك حيث تجري من فتور فقال الناس ما من ذين إلاّ ... بمنزلة الخليق من الجدير فإن سبق الكبير فأهلُ سبق ... له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير وهذا مأخوذ من قول الشاعر: جياد جرت في حلبة فتفاضلت ... على قدر الأسنان والعرق واحد قال السيّد المرتضى: ممّا له بهذا المعنى بعض الشبه وإن لم يذكر فيه السن والتفضيل والكبر قول زهير: وهو الجواد فإن يلحق بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا أو يسبقاه على ما كان من مهل ... فمثل ما قدّما من صالح سبقا ويروى أنّه عرضت على جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي جارية شاعرة فأراد أن يبلوها، فقال لها: قولي على معنى بيتي زهير الذين ذكرناهما، فقالت: بلغت أو كدت يحيى أو لحقت به ... فنلتما خالداً في شأو مستبق لكن مضى وتلا يحيى فأنت له ... تال تعلّلت دون الركض بالعنق العنق دون الركض أي إنّك تعلّل بالعنق اتّقاء وحشمةً لأبيك وجدّك، ولو سرت ركضاً لسبقتهما. قال السيّد: ومن أحسن ما قيل في المساواة والمقاربة وهو داخل بهذا المعنى مناسب له قول عبّاد بن شبل: إذا اخترت من قوم خيار خيارهم ... فكلُّ بني عبد المدان خيار جروا بعنان واحد فضل بينهم ... بأن قيل قد فات العذار عذار وقول الكميت: مصلٍّ أبوه له سابق ... بأن قيل فات العذار العذارا ومثله قول العتابي وهو مليح جدّاً: كما تقاذف جردٌ في أعنّتها ... سبقاً بآذانها مرّاً وبالعذر وأوّل من سبق إلى هذا المعنى زهير في قوله يصف مطايرة البازي القطاة ومقاربته لها: دون السماء وفوق الأرض قدرهما ... عند الذنابي فلا فوت ولا درك وقد لحظ أبو نؤاس هذا المعنى في قوله يمدح الفضل بن الربيع ويذكر مقارنته لأبيه في الفضل والسؤدد: ثمّ جرى الفضل فانثنى قدماً ... دون مداه من غير ترهيق فقيل راشا سهماً يراد به ... الغاية والنصل سابق الفوق ويشاكل ذلك قول البحتري في ابن أبي سعيد: جدٌّ كجدّ أبي سعيد إنّه ... ترك السماك كأنّه لم يشرف قاسمته أخلاقه وهي الردى ... للمعتدي وهي الندى للمعتفي فإذا جرى من غاية وجريت من ... أخرى التقى شأواكما في المنصف ويشبهه أيضاً قوله: وإذا رأيت شمائل ابني صاعد ... أدّت إليك شمائل ابني مخلد كالفرقدين إذا تأمّل ناظرٌ ... لم يعلُ موضع فرقد عن فرقد وأمّا قول الخنساء: يتعاوران ملائة الحضر؛ وهي تعني بالملائة الغبار، فإنّ عدي بن الرقاع نظر إليها في قوله يصف حماراً وأتاناً:

يتعاوران من الغبار ملائةً ... بيضاء محدثة هما نسجاهما تطوى إذا وطئا مكاناً جاسياً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها وقولها: أسلمت أي بلغت السهل، كأكدي إذا بلغ الكدية. قال السيّد المرتضى: وهذا المعنى وإن كان هو معنى بيت الخنساء بعينه، فقد زاد في استبقائه عليها زيادة ظاهره صار من أجلها بالمعنى أحقّ منها، وقد ابتدأ بهذا المعنى رجل من بني عقيل، فقال من قصيدة: يثيران من نهج الغبار عليهما ... قميصين أسمالاً ويرتديان أقول: ويعجبني قول القاضي الأرجاني في مدح من تأخّر في زمانه ووصفه بالسبق على أقرانه: والدهر مضمار الكرام وهم ... أشباه خيل فيه تستبق ما إن لحقتهم وقد سبقوا ... حتّى سبقتهم فما لحقوا ولي في هذا المعنى تخميس بيت من قصيدة لعبد الباقي أفندي العمري في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لحقت وإن كنت لم تعنق ... لشأو به الرسل لم تعلق وأحرزت قدماً مدى الأسبق ... فيا لاحقاً قطُّ لم يسبق ويا سابقاً قطّ لم يلحقوما أبرع قول القاضي الأرجاني في تفضيل ممدوحه على من تقدّمه من الكرام وهو على ما هو عليه من تأخّر زمانه، وهذا بالسحر أشبه منه بالشعر: ختمت به الوزراء ختم جلالة ... من كلّ ذي سبق بذكر شائع ولئن تأخّر وارداً وتقدّموا ... فرطاً له من مبطىء ومسارع فالفجر يطلع كاذباً أو صادقاً ... ما زال قدام النهار الساطع هو لجّة الكرم التي من قبلها ... كانوا أوائل موجها المتتابع ما أسلس هذا النظم وأرقّه، وأشرف معناه وأدقّه، فلعمري إنّه ليشهد لناسج برده، أنّه في حوك هذه الحلل الفاخرة نسيج وحده. وأمّا قولي: ولقد منعت وئيدة الكرم التي ... لولاك ما سلمت لها أوداجها استعارة الوئيدة للكرم مشعرة بأنّ الكرم لا يوجد إلاّ عنده، فالوئيدة فعيلة، يقال: وأد بنته يئدها وأَداً دفنها في القبر وهي حيّة فهي موؤودة، قال الله تعالى: (وإذا المَوْؤودَةُ سُئِلَتْ، بأيِّ ذَنْب قُتِلَتْ) ، وكانت كندة تئد البنات. وقد اشتمل هذا البيت على التلميح - وهو بتقديم اللام على الميم - أن يشار في فحوى الكلام إلى قصّة أو شعر أو مثل سائر من غير ذكر تلك القصّة والشعر والمثل، وسمّاه ابن المعتزّ - وهو مخترعه الأوّل - حسن التضمين، ووافقه قدامة وابن جعفر ومن تبعهما، وقال: هو أن يضمن المتكلّم كلامه كلمة أو كلمتين من آية أو بيت من الشعر أو فقرة من خبر أو مثل سائر أو معنىً مجرّد من حكمة أو كلام. وسمّاه المطرزي وصاحب التلخيص بالتمليح - بتقديم الميم على اللام - كأنّ الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة. وسمّاه الإمام فخرالدين الرازي التلويح، وقالوا جميعاً: هو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر أو شعر نادر أو قصّة مشهورة من غير أن يذكر جميعها، ولم يختلفوا بالشواهد. قال أبو تمام من قصيدة يمدح بها أبا سعيد محمّد بن يوسف: لحقنا بأُخراهم وقد حوَّم الهوى ... قلوباً عهدنا طيرها وهي وقع فردّت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع نضى ضوئها صبغ الدجنة وانطوى ... لبهجتها ثوب السماء المجزّع فوالله ما أدري ءأحلام نائم ... ألمّت بنا أم كان في الركب يوشع أشار إلى قصّة يوشع بن نون في ردّه الشمس. وقد ظرف الرصافي البلنسي في تلميحه هذه القصّة فقال يخاطب من إسمه موسى بأبيات أوّلها: وما مثل موضعك ابن رزق موضع ... زهرٌ يروق وجدول يتدفّع يقول فيها: وعشيّة لبست رداء شجونها ... والجوّ بالغيم الرقيق مقنّع بلغت بنا أمد السرور تألّفاً ... والليل نحو فراقنا يتقطّع فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ... من دون قرص الشمس ما يتوقّع سقطت ولم يملك نديمك ردّها ... فوددت يا موسى لو أنّك يوشع وقد لمح هذه القصّة أبوالعلا المعرّي فقال: فلو صحّ التناسخ كنت موسى ... وكان أبوك إسحاق الذبيحا ويوشع ردّ يوحاً بعض يوم ... وأنت متى سفرت رددت يوحا وقد لمح قلاقس إلى هذه القصّة أيضاً فقال: ومنتصر في منع مقلوب عقرب ... بما تحته من لسع مقلوب برقع

أبنت شمسه إلاّ الغروب وقد سما ... لها كلّفي من كلّ عضو بيوشع وابن مطروح في قوله: وما أنس لا أنس المليحة إذ بدت ... دجىً فأضاء الأُفق من كلّ موضع فحدّثت نفسي أنّها الشمس أشرقت ... وإنّي قد أوتيت آية يوشع ومن جيّد التلميح قول ابن المعتز: أترى الجيرة الذين تداعوا ... عند سير الحبيب وقت الزوال علموا أنّني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال أشار إلى قصّة يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه وإخوته لم يشعروا بذلك، وقول أبي نصر محمّد الأصفهاني في ذمّ الملوك: بليت بمملوك إذا ما بعثته ... لأمر أعيرت رجله مشية النمل بليدٌ كأنّ الله خالقنا عنى ... به المثل المضروب في سورة النحل يشير إلى قوله تعالى: (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْر) . ومنه ما ذكره أبوبكر في تحفة القادم أنّ أبابكر الشبلي جلس يوماً على نهر شبل بالجسر فتعرّض له بعض الجواري للجواز فلمّا أبصرته رجعت بوجهها وسترت ما قد ظهر له من محاسنها، فقال أبوبكر المذكور: وعقيلة لاحت بشاطىء نهرها ... كالشمس طالعة لدى آفاتها فكأنّما بلقيس وافت صرحها ... لو أنّها كشفت له عن ساقها حوريّة قمريّة بدريّة ... ليس الجفا والصدُّ من أخلاقها قال في تحفة العروس: ويمكن تغيير البيتين الأوّليّين بأن يقال: وعقيلة لاحت بشاطىء نهرها ... كالشمس تتلو في المشارق صبحها لو أنّها كشفت لنا عن ساقها ... لحسبتها بلقيس وافت صرحها ومن مجون التلميح قول ابن الحجّاج: غضبت صباح وقد رأتني قابضاً ... أيري فقلت لها مقالة فاجر بالله إلاّ ما لطمت جبينه ... حتّى يحقّق فيك قول الشاعر يريد قول ابن نباتة في وصف فرس أغرّ محجّل: وكأنّما لطم الصباح جبينه ... فاقتصّ منه وخاض في أحشائه وما أملح قول بعض شعراء المغرب في التلميح: وعندي من لواحظها حديث ... يخبر أنّ ريقتها مدام وفي أعطافها النشوى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام يشير إلى قول النابغة في المتجرّدة امرأة النعمان بن المنذر: زعم الهمام بأنّ فاها باردٌ ... عذبٌ مقبّله شهيّ المورد زعم الهمام ولم أذقه أنّه ... عذبٌ إذا قبّلته قلت أزدد ومن بديع التلميح قول الرئيس أبي العبّاس بن أبي طالب: وكم ليلة نلت فيها المنى ... وبات لي الحبّ فيها نجيّا إذا ضلّ لحظي في جنحها ... هدت وجنتاه الصراط السويّا أراع فأسأل عن صبحها ... فيرجع لي جفنها نم هنيّا إلى أن بدى لي سرحانها ... يحاول للجدي فيها رقيّا فيالك من ليلة بتّها ... أنادم بدر دجاها البهيّا حكت ليلة السفح في حسنها ... فأصبحت أحكي الشريف الرضيّا يشير إلى قول الشريف الرضي في قصيدته البديعة المشهورة وهي: يا ليلة السفح هلاّ عدت ثانية ... سقي زمانك هطّال من الديم يقول فيها: بتنا ضجيعين في ثوبَيْ هوى وتقى ... يلفّنا الشوق من فرع إلى قدم وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا ... على الكثيب فضول الريط والكمم يشي بنا الطيب أحياناً وآونةً ... يضيئنا البرق مجتازاً على أضم وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي ... مواضع اللّثم في داج من الظلم وبيننا عفّة بايعتها بيدي ... على الوفاء بها والرعي للذمم يولع الطلُّ بردينا وقد نسمت ... رويحة الفجر بين الضالّ والسلم وأكتم الصبح عنها وهي غافلة ... حتّى تكلّم عصفورٌ على علم فقمت أنفض برداً ما تعلّقه ... غير العفاف وراء الغيب والكرم والمستني وقد جدّ الوداع بها ... كفّاً تشير بقضبان من العنم وألثمتني ثغراً ما عدلت به ... أرى الجنى بنبات الوابل الرذم ثمّ انثنينا وقد رابت ظواهرنا ... وفي بواطننا بعدٌ من التهم

ثمّ اعلم أنّ التلميح منه ما هو واضح الإشارة كما قدّمنا، ومنه ضرب يشبه اللغز، ومن لطائفه قصّة الهذلي مع المنصور فقد روي أنّه وعده بجائزة فنسي فحجّا معاً ثمّ مرّا في المدينة الشريفة ببيت عاتكة، فقال الهذي: يا أميرالمؤمنين! هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأخوص: يا دار عاتكة التي أتغزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكّل فأنكر عليه المنصور ابتدائه بالخبر من غير أن يسأله، ثمّ أمرّ القصيدة على باله ليعلم ما أراد، فإذا فيها: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل فعلم أنّه أشار إلى هذا البيت بتلميحه فتذكّر ما وعده به وأنجزه. ومثله ما حكي أنّ اباالعلا المعرّي كان يتعصّب للمتنبّي وشرح ديوانه وسمّاه "معجز أحمد"، فحضر يوماً مجلس الشريف المرتضى، فجرى ذكر المتنبّي عن غير قصد، فهضم المرتضى من جانبه، فقال المعرّي: لو لم يكن إلاّ قوله: لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه، فغضب المرتضى وأمر بسحبه وإخراجه وقال للحاضرين: أتدرون ما عنى بذكر هذا البيت؟ قالوا: لا، قال: عنى قول المتنبّي فيها: وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل ومن هذا القبيل قصّة السري الرفاء مع سيف الدولة ابن حمدان بسبب المتنبّي، فإنّهما كانا من مدّاحه، فجرى ذكر المتنبّي يوماً في مجلس سيف الدولة، فبالغ في الثناء عليه، فقال له السري: أشتهي أنّ الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأُعارضها ويتحقّق بذلك أنّه أركبه في غير سرجه، فقال له سيف الدولة على الفور: عارض لنا قصيدته القافيّة التي مطلعها: لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللحبّ ما لم يبق منّي وما بقي قال السري: فكتبت القصيدة واعتبرتها فلم أجدها من مختاراته لكن رأيته يقول فيها عن ممدوحه: إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثمّ قال له الحق فعلمت أنّ سيف الدولة إنّما أشار إلى هذا البيت، فأحجمت عن معارضته. ومن لطيف التلميح قول أبي نؤاس: وقال أصحيابي الفرار أو الردى ... فقلت هما أمران أحلاهما مر ولكنّني أمضي لما لا يعيبني ... وحسبك من أمرين خيرهما الأسر ولا خير في ردّ الردى بمذلّة ... كما ردَّه يوماً بسوءته عمرو يريد عمرو بن العاص لمّا ضربه علي عليه السلام يوم صفّين فرمى نفسه على الأرض وكشف عن سوئته فأعرض علي عنه وقال: عورة المرء حمى. وقد وقع ذلك لبسر بن أرطاة مع علي عليه السلام كما وقع لعمرو، وذلك أنّ بسراً كان مع معاوية بصفّين، فأمره أن يلقى عليّاً عليه السلام وقال له: سمعتك تتمنّى لقائه، فلو أظفرك الله به حصلت دنيا وآخرة، ولم يزل يشجّعه ويمنّيه حتّى رآه فقصده في الحرب والتقيا، فصرعه علي عليه السلام، فكشف بسرٌ عن سوئته فتركته عليّ، وفي ذلك يقول ابن نضر السهمي: أفي كلّ يوم فارس ذو كريهة ... له عورةٌ وسط العجاجة باديه يكفّ لها عنه عليٌّ سنانه ... ويضحك منها في الخلاء معاويه فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا ... سبيليكما لا تلقيا الليث ثانيه ولا تحمدا إلاّ الحيا وخصاكما ... هما كانتا والله للنفس واقيه في أبيات أُخر لا حاجة إلى ذكرها. ومن بديع التلميح ما حُكي أنّ عبد الرحمن بن الحكم قدم على معاوية الشام وكان قد عزل أخاه مروان عن المدينة وولّى سعيد بن العاص، فوجّهه أخوه وقال له: ألقه أمامي فعاتبه لي واستصلحه، فلمّا قدم عليه دخل إليه وهو يعشّي الناس، فأنشأ يقول: أتتك العيس تنفح في براها ... يكشّف عن مناقبها القطوع بأبيض من أمّيّة مصرخيّ ... كأنّ جبينه سيف صنيع فقال له معاوية: أزائراً جئت أم مفاخراً أم مكاثراً؟ فقال له: أيّ ذلك شئت. فقال: ما أشاء من ذلك شيئاً، وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عنّ له، فقال: على أيّ الظهر أتيتنا؟ قال: على فرس، قال: ما صفته؟ قال: أجشّ هزيم، يعرض بقول النجاشي له: ونجي بن حرب سابح ذو غلالة ... أجشَّ هزيم والرماح دواني إذا خلت أطراف الرماح تناله ... مرته له الساقان والقدمان

فغضب معاوية وقال: أمّا إنّه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب، ولا هو ممّن يتسوّر على جارته، ولا يثب على كنانه بعد هجعة الناس، وكان عبد الرّحمن يتّهم بذلك في امرأة أخيه، فخجل عبد الرحمن وقال: يا أميرالمؤمنين! ما حملك على عزلك ابن عمّك الخيانة أوجبت سخطاً أو برأي رأيته وتدبير أصلحته؟ قال: لتدبير أصلحته، قال: فلا بأس بذلك، وخرج من عنده، فلقي أخاه مروان فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية، فاستشاط غيظاً وقال لعبد الرحمن: قبّحك الله! ما أضعفك! عرضت للرجل بما أغضبته به حتّى إذا انتصر منك أحجمت عنه، ثمّ لبس حلّته وركب فرسه وتقلّد سيفه ودخل على معاوية، فقال له حين رآه وتبيّن الغضب في وجهه: مرحباً بأبي عبد الملك! لقد زرتنا عند اشتياق منّا إليك، قال: لا هاالله ما زرتك لذلك ولا قدمت عليك، فألفيتك إلاّ عاقاً قاطعاً، والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزانا، لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص والصهر برسول الله لهم والخلافة فيهم فوصلوكم يا بني حرب وشرّفوكم وولّوكم فما عزلوكم ولا آثروا عليكم حتّى إذا ولّيتم وأفضى الأمر إليكم أبيتم إلاّ إثرة وسوء صنيعة وقبح قطيعة، فرويداً رويداً! فقد بلغ بنوا الحكم وبنو أميّة نيفاً وعشرين، وإنّما هي أيّام قلائل حتّى يكملوا أربعين ويعلم أمرواني يكون منهم حينئذ، ثمّ هم للحسن بالحسنى وللسوء بالمرصاد. فقال له معاوية: عزلتك لثلاث لو لم تكن منهنّ إلاّ واحدة لأوجبت عزلك: إحداهنّ: إنّي أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما فلم تستطع أن تستشفي منه. والثانية: كرهتك لأمر زياد. والثالثة: إنّ ابنتي رملة إستعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها. قال له مروان: أمّا ابن عامر فإنّي لا أنتصر منه بسلطاني ولكن إذا تساوت الأقدام عليم أين موضعه، وأمّا كراهتي أمر زياد فإنّ سائر بني أميّة كرهوه وجعل الله لنا في ذلك الكره خيراً، وأمّا استعداء رملة على عمرو فوالله إنّه ليأتي عَلَيّ سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما كشفت لها ثوباً، يعرض بأنّ رملة إنّما استعدت عليه طلباً للنّكاح. فقال له معاوية: يابن الوزغ! لست هناك. فقال له مروان: هو ذاك وإنّي الآن والله لأبو عشرة وأخو عشرة وعمّ عشرة وقد كاد ولدي أن يكملوا العدّة؛ يعني أربعين، ولو قد بلغوها علم أين تقع منّي، فانخزل معاوية ثمّ قال: فإن أك في شراركم قليلاً ... فإنّي في خياركم كثير بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأُمّ الصقر مقلاة نزور فلمّا فرغ مروان من كلامه خضع معاوية وقال له: لك العتبى وإنّي رادّك إلى عملك، فوثب مروان وقال: لا وعيشك لا رأيتني عائداً إليه أبداً، وخرج. فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت قطّ لك سقطة مثلها، ما هذا الخضوع لمروان؟ وأيّ شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين؟ وأيّ شيء حسبنا نخشاه منهم؟ فقال له: أُدن منّي أخبرك بذلك، فدنا منه، فقال له: إنّ الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أُختي أُمّ حبيبة لمّا زفّت للنبي، وهو مولىً نقلها إليه، فجعل رسول الله عليه السلام يحدّ النظر إليه، فلمّا خرج قيل له: يا رسول الله حدّدت النظر إليه؟ فقال: ابن المخزوميّة، ذاك رجل إذا بلغ ولده ثلاثين أو أربعين ملكوا الأمر بعدي، فوالله لقد تلقّاها من عين صافية. فقال الأحنف: لا يسمعنّ هذا منك أحد فإنّك تضع من قدرك وقدر ولدك بعدك، وإن قضى الله عزّوعلا أمراًيكون. فقال معاوية: فاكتمها عَلَيّ ياأبا عمرو إذاًفقد لعمري صدقت ونصحت. ومن جيّد التلميح قول أبي تمام الطائي: إذا افتخرت يوماً تميم بقوسها ... وزادت على ما وطّدت من مناقب فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب

يشير إلى قصّة حاجب بن زرارة حين أتى كسرى في جدب أصلبهم بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنه لقومه أن يصيروا في ناحية من بلاده حتّى يحيوا، فقال: إنّكم معاشر العرب أهل غدر وحرص، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد وأغرتم على العباد. فقال حاجب: إنّي ضامن للملك أن لا يفعلوا. قال: فمن لي بأن تفي؟ قال: أرهنك قوسي هذا، فضحك كسرى وقال: ما كان ليسلّمها أبداً، فقبلها منه ثمّ أذن لهم، فلمّا أحييي النّاس بدعوته صلى الله عليه وآله وسلم وقد مات حاجب، فارتحل عطاء بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه، فردّها وكساه حلّة، فلمّا رجع أهداها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقبلها فباعها من يهودي بأربعة آلاف درهم. ويشير إلى وقعة ذي قار المشهورة وكانت بين الفرس والعرب، وكانت بعد وقعة بدر بأشهر، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، ولمّا بلغه خبرها قال: هذا أوّل يوم انتصفت فيه العرب من العجم. في بعض الأخبار: وبي نصروا. وعن ابن عبّاس قال: ذكرت وقعة ذي قار عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ذلك يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا. وقد لمح إلى ذلك المطراني بقوله: تزهو علينا بقوس حاجبها ... زهو تميم بقوس حاجبها ومن ظريف التلميح قول بعضهم: رأى صاحبي عمروا فكلّف وصفه ... وحمّلني من ذاك ما ليس في الطوق فقلت له عمروٌ كعمرو فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شبّ عن الطوق يشير إلى قصّة عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة الأبرش وكانت الجنّ قد استهوته صغيراً ثمّ قدم وقد التحى فأدخلته رقاش إلى الحمّام وألبسته من ثياب الملك ووضعت في عنقه طوقاً من ذهب كان له وأزارته خاله، فلمّا رأى لحيته والطوق في عنقه قال: شبَّ عمرو عن الطوق، فذهبت مثلاً. ومن غريب التلميح ما يُحكى أنّ رجلاً قعد على جسر بغداد فأقبلت امرأة بارعة الجمال من ناحية الرصافة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أباالعلا المعرّي، وما وقفا بل سارا مشرقاً ومغرباً. قال الرجل: فتبعت المرأة وقلت: لئن لم تخبريني بما أراد بابن الجهم وما أردت بأبي العلا فضحكتما؟ فضحكت وقالت: أراد به قوله: عيون المهابين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري وأردت بأبي العلا قوله: فيا دارها بالخيف إنّ مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال ومن ظريف التلميح ما روي أنّ شريك بن عبد الله النميري ساير يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري يوماً فبززت بغلة شريك، فقال يزيد: غضّ من لجامها، فقال شريك: إنّها مكتوبة أصلح الله الأمير. فقال له يزيد: ما ذهبت حيث أردت، ويزيد أشار إلى قول جرير: فغضّ الطرف إنّك من نميرِ ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا فعرض له شريك بقول ابن داره: لا تأمننّ فزارياً نزلت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار وكان بنوا فزارة يرمون بإتيان الإبل. ومثله ما حكي أنّ تميميّاً نزل بفزاريٍّ فقال: قلوصك يا أخا تميم لا تنفر القطا، فقال: إنّها مكتوبة. أشار الفزاري إلى قول الطرمّاح: تميم يطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلّت وأشار التميمي إلى قول ابن دارة وهو البيت المارّ. وبيت الطرمّاح هذا بعده: ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملة ... يكرُّ على صفي تميم لولّت وقد أخذ ابن لنكك البيت الأوّل فقال: تعستم جميعاً من وجوه لبلدة ... تكنّفهم لؤمٌ وجهل فأفرطا اراكم تعيبون اللئام وإنّني ... أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا ومثله ما حكي أنّ تميميّاً قال لشريك النميري: ما في الجوارح أحبّ إليّ من البازي، فقال النميري: وخاصّة إذا يصيد القطا. فأشار التميمي إلى قول جرير: أنا البازي المطل على نميرِ ... أتيح من السماء لها انصبابا وأشار شريك إلى قول الطرمّاح وهو: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا. ومن ذلك ما روي أنّ رجلاً من بني محارب دخل على عبد الله بن يزيد الهلالي، فقال عبد الله: ماذا لقينا البارحة من شيوخ بني محارب، ما تركونا ننام. فقال المحاربي: أصلحك الله! أضلّوا البارحة برقعاً فكانوا في طلبه. أراد الهلالي قول الأخطل:

الباب السادس في قافية الحاء

تكشُّ بلا شيء شيوخ محارب ... وما خلتها كانت تريش ولا تبري ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حيّة البحر وأراد المحاربي قول الآخر: لكلّ هلاليٍّ من اللؤم برقع ... ولابن هلال برقع وجلال ومن ظريف التلميح ما حكي أنّ الحيص بيص حضر ليلة عند الوزير في شهر رمضان على السماط، فأخذ أبوالقاسم بن القطّان قطاة مشويّة وقدّمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولانا! هذا يؤذيني. قال الوزير: كيف؟ قال: لأنّه يشير إلى قول الشاعر: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا، وذكر البيت، وكان الحيص بيص تميميّاً، إنتهى. فأمّا التلميح في بيتي فهو إلى بيت الفرزدق وذلك حيث قال: ومنّا الّذي منع الوائدات ... فأحيى الوئيد ولم يوئد يعني بذلك جدّه صعصعة بن ناجية. ويقال: إنّه أحيى ألف موؤودة. وأمّا قولي: ما طرقت أُمّ الرّجاء الخ، يقال: طرقت الناقة بولدها إذا نشب ولم يسهل خروجه، وكذلك المرأة. والنتاج كما في المجمع يقال: نتجت الناقة ولداً بمعنى ولدت أو حملت. قال: وفي الحديث: فما نتج فهو هدي، أي: فما ولد. ويوم ينتج يولد، فيكون معنى البيت ما عرض لآمل رجاء إلاّ وكان نجحه من نداك لا غير، إنتهى. الباب السادس في قافية الحاء وفيها ثلاثة فصول الفصل الأوّل في المديح قلت فيه هذه المقطوعة: طمحت إليك فما ألذّ طماحها ... هيفاء راض لك الغرام جماحها وحبتك للتقبيل منها وجنةً ... تحمي بعقرب صدغها تفّاحها خوطية العطفين ذات موشّح ... منه على غصن تدير وشاحها مجدولة بيضاء رائقة الصبا ... ملكت على أهل الهوى أرواحها وبمسقط العلمين غازلت الدمى ... فعلقتها مرضى الجفون صحاحها من كلّ صاحية الشمائل لم يزل ... سكر الدلال بها يطيل مراحها زفّت إليّ كخدّها عنبيّة ... خضبت بلون الراح منها راحها وتروّحت ذات الأراك بنفحة ... منها فشاق عبيرها مرتاحها والى أبي الهادي بعثت بمثلها ... في الحسن ما استجلى سواه ملاحها لاغرّ يبسط في المكارم راحةً ... بيضاء تمتاح الورى ممتاحها بدجىً حوادثها وعند فسادها ... تلقاه مصباح الورى مصلاحها ما استغلقت لبني المطالب حاجةً ... إلاّ وكان بنانه مفتاحها وقد اشتمل قولي: خوطية العطفين الخ على التجريد، والتجريد هو أن ينتزع من أمرء ذي صفة أمراً آخراً مثله فيها مبالغة لها فيه، كأنّه بلغ من الإتّصاف بتلك الصفة إلى حيث يصحّ أن ينتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة، وهو على أقسام: منها: أن يكون ب "من" التجريديّة نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم أي بلغ فلان من الصداقة حدّاً صحّ معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها. وكذلك قولي: منه على غصن تدير وشاحها أي بلغ موشحها وهو خصرها من الرقّة واللطافة حدّاً صحّ معه أن يستخلص منه غصن آخر مثله فيهما. ومنها: أن يكون ب "الباء" التجريديّة، وذلك كقولهم: سألت به البحر ولقيت به الأسد. ومنها: أن يكون ب "الباء" المعيّة والمصاحبة، كما قال الشاعر: وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى ... بمستلئم مثل الفنيق المرحل المستلئم: لابس اللاّمة وهي الدرع، والباء فيه للملابسة والمصاحبة. والفنيق: الفحل المكرم عند أهله. والمرحل: من رحل البعير أشخصه عن مكانه. والمعنى: تعدو بي ومعي من نفسي لابسٌ درعاً لكمال استعدادي للحرب بالغٌ باتّصافه في الإستعداد أن ينتزع منه مستعد آخر لابس درع. ومنها: أن يكون بدخول في نحو قوله تعالى: (لَهُمْ فيها دارُ الخُلْد) أي في جهنّم؛ وهي دار الخلد لكنّه انتزع منها داراً أُخرى وجعلها معدّة في جهنّم لأجل الكفّار تهويلاً لأمرها ومبالغةً في اتّصافها. ومنها: ما يكون بدون توسّط حرف كقول قتادة بن مسلمة الحنفي: بكرت عَلَيّ من السفاه تلومني ... سفهاً تعجّز بعلها وتلوم لمّا رأتني قد رزيت فوارسي ... وبدت بجسمي نهكة وكلوم ما كنت أوّل من أصاب بنكبة ... دهر وحي باسلون صميم إلى أن يقول فيها: ومعي أسود من حنيفة في الوغى ... للبيض فوق رؤسهم توسيم

قوم إذا لبسوا الحديد كأنّهم ... في البيض والحلق الدلاص نجوم ولئن بقيت لأرحلنّ بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم يعني بالكريم نفسه، فكأنّه انتزع من نفسه كريماً مبالغةً في كرمه إذ لم يقل أو أموت. ومنها: ما يكون بطريق الكناية كقول الأعشى: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأساً بكف من بخلا إنتزع من الممدوح جواداً يشرب الكاس بكفّه على طريق الكناية، لأنّه إذا نفى عنه الشرب بكفّ البخيل فقد أثبت له الشرب بكفّ كريم ومعلوم أنّه يشرب بكفّه فهو ذلك الكريم. ومنها: مخاطبة الإنسان لنفسه وهو أن ينتزع من نفسه شخصاً آخر مثله في الصفة التي سيق لها الكلام يخاطبه، قال أبوالطيب المتنبّي: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وممّا اتّفق لي من الشعر الأجنبي في هذا الباب ما سألني نظمه بعض الأعزّاء على في مدح الشهم الماجد صبحي بك وأسأله بفقرات نثريّة أن يكون واسطة في إيصال قصيدتي الرائيّة في إطراء الصدر الأعظم إليه لمودّة موكّدة بينهما، والفقرات هذه: بنان براعة الفصحاء، ولسان يراعة البلغاء لا ينبسطان للإحاطة بمزايا من أوضح لأهل الفخر نهجه، وهداهم صراطه. شمس العلا بدر سماء الجلال ... إنسان روح الفضل عين الكمال الأغرّ الذي إذا أسفر وجهه جائت الشمس تقول: هذا صبحي، والفصيل الذي إذا نطق لسان أقبل الملك يقول لها: هذا سيفي، فإليك عنه تنحّي. ويدّعيه المجد من بينهما ... لنفسه فيعطيان ماادّعى وكيف لا يكون كذلك من تستمدّ الشمس من نوره، ويعتضد الملك برأيه في مهمّات أُموره، شهدت معاني بيانه بباهر فضله، ودلّ بديع تبيانه على كمال ظرفه ونبله، وإنّي لمّا آنس فكري على البعد نار ذكائه، ونودي قلبي من جانب طور مجده وعليائه، عرفت أنّ الذي صار قلبي كلّه مستجمعاً لنداه، هو واحد الفضل الذي لا ربّ للكمال سواه، وحيث أنّه يجب في شرع الآداب مدح المتوحّد في الفضل الجامع لصفات الكمال عملت له هذه الحائيّة، ونسجتها حلّةً حليّة، وأهديتها إليه لكن كما تهدى إلى البحر قطرة، وإلى الطود ذرّة، ولا غرو فهي جهد المقلّ، إلى الجواد المكثر المفضل، على أنّي وإن سمّتني الفصاحة حيدر خيسها، ودعتني البلاغة بليث عرّيسها، وكان أبي سليمان عصره، يأتيه بعرض بلقيس المعاني آصف فكره، فيراه مستقرّاً لديه قبل ارتداد طرفه إليه، فأراني لو استخرجت الدراري من نهر المجرّة، ونظمت بكفّ الثريّا أنجم النثره، عقوداً أحلي بها نحور علياه، وأوشح بها حسان مزاياه، لما زدتها بذلك حسنا، ولا أفدت جميل معانيها جميل معنى، بل أكون كمن يقول لماء السحاب: ما أطهرك، ولنور الرياض ما أزهرك. ولم يستفد بالمدح ماليس عنده ... وهل ينفع التحجيل من هو أشهب هذا ورجائي من تلك الحضرة، زاده الله نظرة، إيصال هذه الرائيّة الغرّاء (وستأتي في حرف الراء) إلى حضرة صدر الوزراء، وهي وإن كانت حقيرة، في جنب معاليه الخطيرة، فأراها إن شملتها ألطافك بالعنايه، ولحظتها بعين الرعايه، وقعت موقعها لديه، أمّا الحائيّة فهي هذه: لتلق ملوك الأرض طوعاً يد الصلح ... حذار حسام صاغه الله للفتح وأجرى فرنداً فيه من جوهر العلى ... غدا بخطف الأبصار باللمع واللمح فكم شقّ فجراً من دجى ليل حادث ... وأضحك للأيّام من أوجه كلح لو الدولة الغرّاء يوماً تفاخرت ... مع الشمس قالت أين صبحك من صبحي فتىً في صريح المجد ينمي لمعشر ... بيوتهم في المجد سامية الصرح فتىً ولدت منه النجابة حازماً ... بعيد مجال يرفد الملك بالنصح أغرّ لسيماء العلى في جبينه ... سناً في حشا الحسّاد يذكي جوى البرح له طلعة غرّاء دائمة السنا ... هي الشمس لو تمسي هي البدر لو يضحي هو البحر لا بل يشبه البحر جوده ... وهل يستوي العذب الفرات مع الملح يزوّج آمال العفاة بجوده ... ويقرنه في الحال في مولد النجح ويبسط كفّاً رطبةً من سماحة ... إذا قبض اليبس الأكفّ من الشحّ أرى المدح للأشراف أفضل زينة ... ولكنّه في فضله شرف المدح هو السيف لا بل يفعل السيف فعله ... بقوم على الأضغان مطويّة الكشح

فصل في الرثاء

فقاتل أهل الضغن بالبطش لم يكن ... كقاتل أهل الضغن بالبطش والصفح هو الرمح سل عنه فؤاد حسوده ... بما بات يلقى من شبا ذلك الرمح تجده كليما وهو أعدل شاهد ... فيا شاهداً أضحى يعدّل بالجرح إليك ابن أُمّ المجد عذراء تجتلي ... كأنّ محيّا وجهها فلق الصبح بها أرجٌ من طيب ذكرك نشره ... يعطّر أنفاس الصّبا لك بالنّفح تودُّ بنات النظم أن لو حكينها ... ويا بعد مابين الملاحة والقبح لقد فاز فيها قدحك اليوم مثلما ... غدت وهي فيك اليوم فائزة القدح فليس لها كفوٌ سواك ولم يكن ... يليق سواها فيك من خرّد المدح فصل في الرثاء لمّا ورد من فارس إلى بغداد محمّد الجواد ومعه نعش كريمة محمّد الصالح التي تقدّم لها رثاء في قافية الألف، نظمت هذه القصيدة وأرسلتها للفاضل الصالح المذكور وهو في بغداد: يا نعش ما يصنع الصفيح ... لم يدر ماذا به يبوح وأيُّ لفظ إليه يغدو ... في وصف معناك أو يروح هل فلكٌ أنت من علاه ... إليه طرف السهى طموح أم أنت نعشٌ به مسجىً ... جسمٌ لجسم العفاف روح سرى على الأرض حاملوه ... وهو بأُفْق السما يلوح وخلفه والهٌ ثكولٌ ... أُمّ العلى دمعها سفوح تطارح الورق وهي تدعو ... علىمَ ورق الحمى تنوح ماهي والوجد تدعيه ... قلبي لا قلبها الجريح تضمّ أضلاعها حشاها ... ولي حشاً ضمّها الضريح في طلحها ألفها وألقي ... عن وطني شخصها طليح لقد بكت بقعة تصلّي ... فيها وشهب السما جنوح وانتحب الكاتبان لمّا ... فاتهما وردها الصحيح قد غاض ماء الحياء يندي ... به ثرىً نشره يفوح توسّدت والعفاف فيه ... يضمّه جيبها النصيح شلّت أكفُّ الزمان ماذا ... من حرم المجد يستبيح إليه دبَّ الضرّاء لمّا ... أبدى بأن جاء يستميح واغتال محجوبةً بخدر ... يحوطه السؤدد الصريح والعزُّ عنه يذبّ مالا ... يذبُّه الفارس المشيح ومن أبو المصطفى حماه ... في منعة مالها مبيح ذاك الذي راحتاه كلٌّ ... على الورى ديمة دلوح بالطبح مستحلب نداها ... إنّ حلب الغاديات ريح أغرُّ يلقى الوفود طلقا ... والعام في وجهه كلوح إن ناظم الخصم ردّ فاه ... مع أنّه المصقع الفصيح لسانه ميّت مسجىً ... والفم منه له ضريح ماهو إلاّ خضم علم ... منه ذووا العلم تستميح بل هو عنوان كلّ فضل ... وهم جميعاً له شروح ونيّر في سما المعالي ... بنوه شهب بها تلوح يا من غدا ربعهم وفيه ... أُمّ الندى منتج لقوح تلك التي عنكم استقلّت ... عيس المنايا بها تسيح طوبى لها جاورت ضريحاً ... عن جاره ربّه صفوح واضطجعت في حمىً ضجيعا ... حميّه آدمٌ ونوح وتوفي ولد لمحمّد الرضا اسمه جعفر قد سقط من سطح من سطوح الدار إلى الأرض فمات فرثيته وعزّيت أباه وجدّه بهذه القصيدة: أجل منْ علىً ما خفت يرقاه فادح ... هلال المعالي طوّحته الطوائح ومن حيث لا تعلو به الدهر أهبطت ... إلى اللحد نجم الفخر فالدهر كالح تناوله من أُفق مجد لعزّه ... قد انحسرت عنه العيون الطوامح فمطلعه في مشرق المجد مظلم ... ومغربه في موضع اللحد واضح لحي الله يوماً قد أراني صباحه ... تباريح وجد للحشا لا تبارح به صاح ناعية فأشغلت مسمعي ... وقد مضَّ في قعر الحشاشة صائح وهمّت جفوني بالبكاء فملكتها ... على الدمع أرجو الكذب والصدق لائح وقلت لمن ينعاه إذ جدّ باسمه ... ينوح تبيّنْ باسم مَنْ أنت نائح بفيك الثرى لا تسم في النعي جعفراً ... فيوشك أن تجتاح نفسي الجوائح فلمّا أبى إلاّ التي تشعب الحشا ... وإلاّ الّتي تبيضُّ منها المسائح جمعت فؤادي وانطويت من الجوى ... على حرق ضاقت بهنّ الجوانح أعاذلتا عنّي خذا اللوم جانبا ... فلا أدمعي ترقى ولا الوجد بارح

فصل في الغزل

فلم ينسفح من جفني الدمع وحده ... ولكنَّ كلّي مدمعٌ منه سافح أصبراً وذا إنسان عيني أطبقت ... على شخصه أجفانهنَّ الضرائح بمن عن ضياء العين يعتاض طرفها ... فيغدو عليه وهو للجفن فاتح لتجر الليالي كيف شائت بنحسها ... فما عندها فوق الذي أنا نائح وماذا تريني بعدما في مدى الأسى ... بدا لفؤادي سعدها وهو ذابح أقول لركب أجمعوا السير موهناً ... وقد نشطت للكرخ فيهم طلائح أقيموا فواقي ناقة من صدورها ... لأودعكم مااستحفظته الجوانج خذوا مهجتي ثمّ انضحوها عقيرةً ... على جدث دمع العلى فيه ناضح وقولا لأيد أهبطت فيه جعفراً ... ولم تدر ماذا قد طوته الصفائح لأحدرت من قلب المكارم فلذةً ... قد انتزعتها من حشاها الفوادح فغير جميل بعده الصبر والعزا ... ولا العيش لي لولا محمّد صالح فتى الحلم لا مستثقلاً لعظيمة ... تخفُّ بها الأحلام وهي رواجح تدرّع من نسج البصيرة قلبه ... أضاة أسىً لم تدرعها الجحاجح وصابرها دهياء في فقد جعفر ... يكافح منها قلبه ما يكافح تسربلتها يا دهر شنعاء وسمها ... لوجهك ما عمّرت بالخزي فاضح أفق أيّ وقت منك فيه لجعفر ... تفرغ كفٌّ ليته منك طائح وقد شغلت في كلّ لمحة ناظر ... يديك جميعاً من أبيه المنائح فتىً يجد الساري على نوره هدىً ... ولو شمّه فجٌّ من الأرض نازح كأنّ المحيّا منه والليل جانحٌ ... سهيلٌ لأبصار المهبّين لامح نمته إلى المجد الضريح معاشرٌ ... أكفّهم أنواءُ عرف دوالح مضيئون ضوء الأنجم الشهب للورى ... فأوجههم والشهب كلٌّ مصابح على أوّل الدهر استهلَّ نداهم ... فسالت به قبل الغيوث الأباطح ومدَّ أبوالمهدي فيه أناملا ... رواضعها صيد الملوك الجحاجح جرت بالنمير العذب عشر بحارها ... وكلُّ بحار الأرض عذبٌ ومالح فما للندى في آخر الدهر خاتم ... سواه ولا في أوّل الدهر فاتح فصل في الغزل قلت فيه هذه الأبيات: برزت تحمل بالراح راحا ... فكست بهجة نور براحا غادةٌ مجدولة تتثنّى ... مرحاً ريّا الشباب رداحا ومهاة أبت الوصل لمّا ... رأت الشيب برأسي لاحا قلت أنت الشمس تغرب ليلاً ... ويراها العالمون صباحا فأجابت أنّني أنا بدر ... يأفل الصبح ويبدو رواحا ثمّ قالت ما ترى الشهب عقداً ... فوق نحري والثريا وشاحا قلت فوق الكشح ما جال إلاّ ... وأعار الطير قلبي الجناحا فصل في الإستغاثة قلت هذين البيتين مستغيثاً بالإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام) وهما: ألا يا أباالسجّاد إنّ بوارقاً ... لسحب نداك العذب شمت التماحها مخائل صدق منك بالنّجح بشّرت ... أمانيَّ نفس جئت أرجو نجاحا الباب السابع قافية الخاء وفيها فصلان المديح والغزل أمّا المديح فقلت فيه: حمد الركب في حماك مناخه ... حيث ربّى طير الرجا أفراخه يا أخا المكرمات كم من صريخ ... لبني الدهر قد أغثت صراخه وبكم العطاء كم مسحت كفُّ ... ك عيناً بدمعها نضاخه ما دعاك الأنام للخطب إلاّ ... وبنعليك قد وطأت صماخه كم حمدنا نقاء كفّك جوداً ... عند كفٍّ نجلا ذممنا اتّساخه ونسخنا فضل الكرام ومن قر ... آن علياك قد عرفنا انتساخه قمت في ريق الشبيبة حتّى ... سدت في الدهر بالنهى أشياخه غاض ماء الندى عن الوفد إلاّ ... من يديكم فما تغبُّ نقاخه إنّ بين الندي وبينك عقداً ... أمنت وفدُ راحتيك انفساخه إنّما أنتم فروع فخار ... كان قدماً آباؤكم أسناخه حيث ثوب الرجاء ما رثَّ إلاّ ... وإليكم منه أجدَّ انسلاخه هاك يابن الكرام بنت قريض ... شمخت أن ينيلها شماخه وأمّا الغزل قلت فيه: يا لائمي وشهاب وجدي ثاقبٌ ... كيف العزاء وطود صبري ساخا

الباب الثامن حرف الدال

وقف السهاد بمقلتي متوسّماً ... فرأى بها أثر الكرى فأناخا الباب الثامن حرف الدال وفيه فصول فصل في المديح قلت فيه هذه الغادة الحسناء: عيشك غضٌّ والزمان أغيد ... وطرف حسّادك فيه أرمد يا لابس النعماء هنّئت بها ... ملابساً كساكهنَّ أمجد أقبح شيء أن تذمَّ زمناً ... حسبك فيه حسناً محمّد يا أعين الوفّاد قرّي بفتىً ... في مطلع العلياء منه فرقد ذاك الذي كلتا يديه لجّة ... قد طاب للعافين منها المورد مبارك الطلعة مرهوب الحمى ... في بردتيه قمرٌ وأسد موقّر المجلس ذو ركانة ... حسوته على شمام تعقد بالفصل في صدر الندي ناطق ... كأنّما لسانه مهنّد سقيط طلٍّ لك من بيانه ... أو لؤلؤٌ في سلكه منضد روضة فضل يجتني رائدها ... زهراً بطيب النشر عنه يشهد ينمي لقوم في الزمان خلقوا ... جواهراً يزان فيها الأبد هم خير من رشحه لسؤدد ... مجدٌ وأزكى من نماه محتد أقول: وقد اشتمل قولي: أقبح شيء أن تذمّ زمنا، على المقابلة وذلك أنّي قابلت اثنين باثنين؛ الذمّ والقبح بالحسن والحمد، وقال الصغرائي في لاميته: حلو الفكاهة مرّ الجدَّ قد مزجت ... بقسوة البأس منه رقّة الغزل فجمع بين ثمانية أشياء لم تجتمع لغيره بهذا الإنساجام والسلاسة، وهي: الحلاوة والمرارة والفكاهة أي المزاح، والجد والقسوة والرقّة والبأس والغزل. وقال أبوالطيب المتنبّي وأحسن غاية الإحسان: أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي ومن النادر قول بعضهم وقد قابل ستّةً بستّة: على رأس عبد تاج غرٍّ يزينه ... وفي رجل حرٍّ قيد ذلّ يشينه فإنّه قابل لفظة على ب "في"، والرأس بالرجل، والعبد بالحرّ، والتاج بالقيد، والعزّ بالذلّ، والزين بالشين. حكي أنّ شرف الدين مستوفي إربل أنشد هذا البيت لغيره، وكان أبوبكر محمّد بن إبراهيم الإربلي حاضراً فقال على البديهة وقابل أربعةً بأربعة: تسر لئيماً مكرمات تعزّه ... وتبكي كريماً حادثات تهينه وكلّما كثر عدد المقابلة كان أبلغ وأحسن. وممّا نظمته في أبيه محمّد الصالح هذه القصيدة: لا زلت يا ربع الشباب حميدا ... باق وإن خلق الزمان جديدا ما أنت للعشّاق إلاّ جنّة ... صحبوا بها العيش القديم رغيدا أيّام كان العيش غضّاً ناعماً ... والدهر مقتبل الشباب وليدا والدار طيبة الثرى ممّا بها ... يسحبن ربّات الجمال برودا يستاف زائرها ثراها عنبراً ... فيكذبن طرفاً يراه صعيدا يعطو إلى عذبات فرع أراكها ... ظبيٌ تفيّأ ظلّها الممدودا غنخٌ يسلُّ من اللواحظ مرهفاً ... يغدو عليه قتيله محسودا هو منتضىً في الجفن إلاّ أنّه ... بين الجوانح يغتدي مغمودا أضحت ضرائبه القلوب تعدُّ أد ... ماها به وهو الشقيُّ سعيدا وشقيق خدّيه النديّ من الحيا ... أضحى بعقرب صدغه مرصودا يمسي سليماً يشتفي بالريق مَنْ ... في الثم بات بقطفه معمودا كم بتُّ معتنقاً له في ليلة ... بات العفاف بها عَلَيَّ شهيدا وكأنّما في الأُفق هالة بدرها ... وبها الكواكب قد طلعن سعودا ناد محمّد حلَّ فيه وولده ... بعلاه حفّت ناشئاً ووليدا هو دارة الشرف التي قد مهّدت ... أبد الزمان بعزّهم تمهيدا متعاقدين على المكارم أحرزوا ... شرفاً تماثل طارفاً وتليدا وعليهم قطباً فقطباً دائرٌ ... فلك الفخار أبوةً وجدودا كانوا قديماً والعلى صدفٌ لهم ... درّاً تناسق في الفخار نضيدا وأبوهم البحر المحيط وقد بدوا ... منه على جيد الزمان عقودا هو لجّة المعروف ما عرف الورى ... إلاّ نداه منهلاً مورودا يمسي بنفس لا تميل مع الهوى ... لله يحيى ليله تهجيدا وإذا تجلّى الليل أصبح باسطاً ... للوفد كفّاً ما تعبّ الجودا نسكٌ كما شاء الإله وأنعمٌ ... لم يحصها إلاّ الإله عديدا تنميه من سلف المعالي أُسرة ... غلبوا على الشرف الكرام الصيد

من كلّ معصوم البصيرة لم يزل ... منه الرداء على التقى معقودا يا من تعذّر أن يحيط بوصفهم ... نظمٌ ولو ملأ الزمان قصيدا والجامعين المكرمات بوفرهم ... مذ أكثروا في شمله التبديدا ولهم بأندية العلاؤء إذا بدوا ... تهوي الأعاظم ركّعاً وسجودا أهدت لجيد علاكم ابنة فكرتي ... درر الثناء قلائداً وعقودا جليت محاسنها عليكم فاجتلوا ... منها لمجدكم كعاباً رودا هي نشرة تضفو على أحسابكم ... زغف خلفت بنسجها داودا قد خلّدت لكم الثناء وسؤلها ... أنّ الثناء لكم يدوم خلودا فبقيتم في غبطة من ربّكم ... لكن بقاء لم يكن محدودا قولي: هي نثرة، البيت وقعت فيه التورية لأنّ المعنى الظاهر من هذا اللفظ أنّي خلّفت بنسجها داود نبي الله من حيث أنّه كان ينسج الدروع، وأنا أُريد أنّي خلّفت جدّي السيّد داود بن السيّد سليمان بنسج زغف بدايع الشعر. وقد نظم عمّي المهدي قصيدة داليّة في الماجد الصالح وجارى بها قصيدة قالها الشريف أبو أحمد السيّد صالح القزويني فيه، ولها قصّة ذكرها عمّي في كتابه مصباح الأدب الأزهر، فسمطت قصيدة عمّي المشار إليه وقدّمت قبل التسميط هذه الفقرات: بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على أشرف أنبيائه محمّد وآله الطاهرين، وبعد؛ فيقول الراجي عفو ربّه الغني حيدر بن سليمان الحسيني: إنّي لمّا جارى عمّنا وسيّدنا المهدي السيّد صالح القزويني في قصيدة مدح بها زعيم الفضلاء الجحاجح الحاج محمّد صالح أحببت أن أشطر قصيدة سيّدنا السيّد مهدي كما شطر قصيدة السيّد صالح المذكور الشيخ إبراهيم صادق العاملي، فوجدتها في دقائق معانيها وسلاسة ألفاظها وقوافيها فوق ما قلته فيها: ومعربة عن فضل من صاغ لفظا ... وأودع فيها من بدايعه اللحنا بديعة حسن لو سواه يرومها ... لكان التقاط الشهب من نيلها أدنى تودّ قلوب السامعين لو أنّها ... إذا أنشدت في محفل كانت الأُذنا فما هي إلاّ وردة مااتّفقت ... كمائم حسن الشعر عن مثلها حسنا ولا ولدت أُمُّ القريض نظيرها ... ولا فتحت يوماً على مثلها جفنا فما روضة غنّاء راقت بزهرها ... وما برحت أزهارها ترضع المزنا بألطف من مدح بها لمحمّد ... وإنّي وفيه فاقت الروضة الغنّا مسدّدة الأقوال يمسي معيبها ... لخجلته بين الورى يقرع السنّا يودُّ إذا ما أنشدوها بمحفل ... له منشىء الأجساد ما خلق الأُذنا ولو رزق الله السكوت معيبها ... لكان له من نطق مذوده أهنى فوا رحمتاه لحاسدها إذا تليت في نادي ذي القدر العلى، فما أراه إلاّ كما قال مهيار الديلمي: يظهر منها السرور حاسدها ... ضرورة الحقّ وهو مكتئب يطريه البيت وهو يحزنه ... ومن أنين الحمامة الطرب وإنّها وحرمة الفصاحة في طولها وأعجازها وأحكام صدورها بأعجازها لمستحيلة التشطير على البارع في الفهم، الماهر في النظم، ولذلك عدلت عن تشطير إلى تخميسها فوجدته أيضاً في غاية الصعوبة لتجنيس كلماتها، وارتباط كلّ بيت بما بعده من أبياتها، كقوله فيها: أُناس يرى في الكرخ من فيه طوّحت ... إليهم بنات الشدقميّات من بعد جدباً على دارالسلام بيوتهم ... لكعبة جدواهم لمن أمّها تهدي وكقوله منها: تراه ولو قد كان يخفض نفسه ... لآمله عطفا ويبسم للوفد ثبيراً على جنب الوثير قد اتّكى ... ودون لقاه هيبة الأسد الورد

على أنّ في هذين البيتين ما فيهما من التعليق والمقابلة المعنويّة التي لا تخفى على أولي التحقيق، وهي أنّه لمّا أتى بذكر الخفض في البيت الأوّل قابله بضدّه معنىً في البيت الثاني وذلك قوله: ثبير اتّكى على جنب الوثير، من حيث أنّ ثبير هو الجبل، والجبل من شأنه أن يكون مرتفعاً، فقابل الخفض لفظاً بالرفعة معنىً ليكون حسن نظامه مبتدعاً، وكذلك لمّا ذكر في البيت الأوّل أنّه يبسم للوفد، قابله بهيبة الأسد الورد، من حيث أنّ الإبتسام أمنٌ للقلب، والمهابة مخافة له ورعب، وهذا النوع عند علماء البديع يُسمّى: الملحق بالطباق وهو الراجع عند الجمهور إلى الضدّين كقوله تعالى: (أَشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بَيْنَهُمْ) فإنّه تعالى شأنه طابق الأشدّاء بالرحماء لأنّ الرحمة فيها معنى اللين، وكقول بعض شعراء الحماسة: لهم جلُّ مالي أن تتابع لي غنىً ... وإن قلّ مالي لا أُكلّفهم رفدا فقوله: تتابع مالي بمعنى كثر مالي، ويقابله قولي: قلّ مالي فهو مقابلة من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وكقول أُمّ سعد بن قرط وقد تزوّج امرأةً كانت نهته عنها فقالت أبياتاً تذمّها، وهي من شعراء الحماسة: تربّص بها الأيّام علَّ صروفها ... سترمي لها في جاحم متسعّر فكم من كريم قد مناه إلهه ... بمذمومة الأخلاق واسعة الحر فقولها: بمذمومة الأخلاق ليس مقابلاً لقولها: واسعة الحر من جهة اللفظ، بل من حيث المعنى لتأوّله بضيقة الأخلاق لتصحّ المقابلة، ونظائره كثيرة على أنّ في القصيدة من نظائر هذا التعليق الصعب التخميس ما يخرس الفصحاء، ويحير البلغاء، وقد أضربت صفحاً عن ذكره خوف الإطالة، واكتفيت عنه بما قدّمته في هذه المقالة ومع ذلك فقد أقدمت بتخميسها على مجاراته، ومقابلة بدايعه ومخترعاته، وقلت: ما يمنعني عنه وقد أنحلني أدبه، وشربت من نطاف هذا النظام مشربه، فكنت وإيّاه في إطرادنا فيها كما قالت الخنساء في مساواة أخيها لأبيها: جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملائه الحضر حتّى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر وعلا هتاف الناس أيّهما ... قال المجيب هناك لا أدري برزت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السنّ والكبر وهما كأنّهما وقد برزا ... صقران قد حطّا إلى وكر فجاء تسميطاً ترتاح له أهل الأدب والفضل، وتعجّب منّي إذ حذوت فيه حذو الأصل، فلو لم يكن تسميطاً لما فرق من نظامه، ولا من حسن لامه، ولقيل إنّهما نتيجة فكر واحد، لعدم التمييز بين تلك الفرائد، ولا غرو إن حذوت مثاله، وشابهت أقوالي أقواله، فإنّ من حياضه مشربي، ومن أدبه كان أدبي، فترانا حربين بقول المؤمّل بن أميل الكوفي: وجئت ورائه تجري حثيثاً ... وما بك حيث تجري من فتور وقال الناس ما من ذين إلاّ ... بمنزلة الخليق من الجدير فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير وهذا هو التخميس المذكور، فانظر في ألفاظه ومعانيه، فإنّها أعدل شاهد على ما أدّعيه، وصلّى الله على محمّد وآله. إذا عنَّ لي برقٌ يُضيء على البعد ... نزت كبدي من شدّة الشوق والوجد وناديت معتلَّ النسيم بلا رشد ... نسيم الصبا استنشقت منك شذى الندّ أهل سرت مجتازاً على دمنتي هندي وهل لسيم الحبّ أقبلت راقياً ... بنشر فتاة الحيّ إذ كان شافيا فما كنت إلاّ للصبابة داعيا ... فذكرتني نجداً وما كنت ناسيا ليال سرقناها من الدّهر في نجد نواعم عيش مازج الأُنس زهرها ... رطاب أديم خالط المسك نشرها رقاق حواش قرّب الوصل فجرها ... ليال قصيرات وياليت عمرها يمدُّ بعمري فهو غاية ما عندي رياح الهوى فيها تنشقت عرفها ... وفيها مدام اللهو عاقرت صرفها لدى روضة لا يبلغ العقل وصفها ... بها طلعت شمس النهار فلفّها ظلامان من ليل ومن فاحم جعد سوادان يعمى الفجر عند دجاهما ... هما اثنان لكن واحد منتماهما أتت تتخفّى خفية في ذراهما ... ولو لم تبرقع خدّها ظلمتاهما

لشقَّ عمود الصبح من وجنة الخدّ فأبصرت منها إذ سهت عنه غرَّةً ... محيّاً هو الشمس المنيرة غرّةً ولاح لها خدّ هو النّور نضرةً ... قد اختلست منه عيوني نظرةً أرتني لهيب النّار في جنّة الخلد تحيّرتُ في بدر من الوجه زاهر ... يلوح على غصن من القدّ ناظر وأسياف لحظ في الجفون بواتر ... وفي وجنتيها حمرة شكَّ ناضري أمن دم قلبي لونها أم من الورد فبالشذر أيدي الحسن طرّزن صدرها ... وبالنجم لا بالدرّ وشّحن خصرها لها مقلة هاروت ينفث سحرها ... وفي نحرها عقد توهّمت ثغرها لئالؤه نظمن من ذلك العقد بنفسي خمصاء الوشاح من الدمى ... سقتني حميا الراح صرفا من اللما فأمسيت في وصف المدام متيّما ... وما كنت أدري ما المدام وإنّما عرفت مذاق الراح من ريقها الشهد وقبل ارتشاف الثغر ما لذّة الهنا ... وقبل سنا الخدّين ما لامع السنا وقبل رنين الحلي ما رنّة الغنا ... وقبل اهتزاز القد ما هزّة القنا وقبل حسام اللحظ ما الصارم الهند لها كلُّ يوم عطفة ثمّ نبوة ... وما علقت عنها بقلبي سلوة ومن بعدها زادت بقلبي صبوة ... ومن قربها مالت بقلبي نشوة صحوت بها يا ميّ من سكرة البعد ولا عجب إن يشف في عطف قلبها ... سقام جفاها يوم بتّ بجنبها هي الداء طوراً والشفاء لصبّها ... وإن زال سكر البعد من سكر قربها فلا طبَّ حتّى يدفع الضدُّ بالضد فمذ كنت ذرّاً قد تعلّقت زينبا ... وفي عالم الأصلاب زدت تعذّبا وكنت بها في ظلمة الرحم مطربا ... تعشّقتها طفلاً وكهلاً وأشيبا وهما عرته رعشة الرأس والقد أغار عليها إن يمرَّ بشعبها ... نسيم الصبا أو يكتسي طيب تربها وأدري بحبّي كيف بات بقلبها ... ولم تدر ليلى أنّني كلف بها وقلبي من نار الصبابة في وقد وأخفيت عن نفسي هوىً سقمه شكت ... ولم تدر أحشائي بمن نارها ذكت وكفّي لأسناني لمنْ أسفاً نكت ... وما علمت من كتم حبّي لمن بكت جفوني ولا قلبي لمن ذاب في الوجد إذا ما تذاكرنا الهوى بتشبّب ... أتيت بتشبيب عن الشوق معرب وموهت في ضرب من اللحن مطرب ... فأذكر سعدي والغرام بزينب وأدفع في هند ومية عن دعد وإن قلت إنّي واجد في جاذر ... فوجدي بريّا لا بوحش نوافر وإن قلت أروى فالمنى أُمّ عامر ... وإن قلت شوقي باللوى فبحاجر أو المنحني فاعلم حننت على نجد فيحسب طرفي في هوى تلك قد قذي ... وإنّ بهاتيك العذارى تلذّ ذي وفي ذكر أوطان لها القلب يغتذي ... وما ولعت نفسي بشيء من الذي ذكرتُ ولكن تعلم النفس ما قصدي وأكرم أرباب الغرام الأولى خلوا ... أُناسٌ أسرّوا سرّه مذ به ابتلوا وقالوا لقوم للإذاعة ما قلوا ... كذا من تصدّى للهوى فليكن ولو تجرّع من أحبابه علقم الصدّ فإنّ الفتى من يحكم الرأي فكره ... ويعجز أرباب البصيرة صبره وذوالحزم من يخفي على النّاس أمره ... وليس الفتى ذوالحزم من راح سرّه تناقله الأفواه للحرّ والعبد إذا لم يصنه عن خليل وحسّد ... تحدّث فيه النّاس في كلّ مشهد وغنّت به الركبان في كلّ فدفد ... فيسري إلى القاصي كما بمحمّد سرت بنت فكري بالثناء وبالحمد لقد جمدت دون القريض القرائح ... وماتت بموت الماجدين المدائح فما لرتاج النظم الآي فاتح ... وما للثناء إلاّ محمّد صالح لقد ضلَّ مهديه لغير أبي المهد يظهور العلى في مثله ما استقلّت ... له رتبة عنها الكواكب حطّت فتىً إن يرم إدراكه العقل يبهت ... همامٌ إلى علياه حدّة فكرتي بعثت فلم تبصر لعلياه من حد له خلق ما شاب سلساله القذا ... ولا هو في غير الفخار تلذّذا وغى رالعلى منذ الولادة ما اغتذى ... تربّى بحجر المجد طفلاً وقبل ذا براه إله العرش من عنصر المجد فعلّم صوب الغيث أن يتهلّلا ... ووازن منه الحلم رضوى ويذبلا

وفات جميع السابقين إلى العلى ... ترقّى النهى قبل الفطام به إلى نهاية إدراك الفطام إلى الرشد تجمّع شمل الزهد لمّا تشتّتا ... وعاش التقى من بعد ما كان ميّتا بذي نسك ما زال لله مخبتا ... ومعتصم ممّا يشان به الفتى بعفّة نفس تربه وهو في المهد فلا غرو لو عمّت نوافله الملا ... وطبقن ظهر الأرض سهلاً وأجبلا وفاق الورى فخراً ومجداً مؤثّلا ... فذا واحد الدنيا انطوى برده على جميع بني الدنيا فبورك من برد عظيم محلّ كان للفضل جوهرا ... له رتبة طالت على الشمّ مفخرا وكيف تضلّ النّاس عن ماجد ترى ... على شرفات المجد مغناه والورى بحصبائه لا بالكواكب تستهدي إذا هو بالإيحاش بدّل أنسه ... تبيت صروف الدهر تنكر مسّه همام عليه يحسد الغد أمسه ... تراه ولو قد كان يخفض نفسه لآمله عطفاً ويبسم للوفد رفيعاً بحيث النجم لم يك ممسكاً ... بأذياله والفكر لم يك مسلكا وتلفيه في القنادي ولست مشكّكا ... ثبيراً على جنب الوثير قد اتّكى ودون لقاه هيبة الأسد الورد عليم له نفس عن الله لم تمل ... ومن ذكر ما لم يرضه لم يزل وجل ومنه وعنه العلم بين الورى نقل ... لقد ضاق صدر الدهر في بعض بثّه العلوم وما يخفيه أضعاف ما يبدي وعمياء سدّت عن ذوي الرشد سبلها ... تساوى بها علم الأنام وجهلها جلاها فتى تدري العلوم وأهلها ... إذا انعقدت عوصاء أشكل حلّها فليس لها إلاه للحلّ والعقد وغامضة فهم الورى دونها انقطع ... وليس لهم في حلّ معقودها طمع إذا اعوصت في كشف غامضها صدع ... فيوضحها بعد الغموض ولم يدع لمعترض باباً بها غير منسد ومن كلّ طخياء جلا كلّ غبرة ... بإيضاح قول من لسان كزبرة ولم يك إلاّ مجدة فكرة ... رشيد بعين الحزم أوّل نظرة يرى ما به ضلّت عقول ذوي الرشد تردُّ أمور النّاس في كلّ مشكل ... إلى قلب إن أشكل الرأي حوّل ومن كلّ أمر فاتح كلّ مقفل ... يسدّد سهم الرأي في كلّ مشكل إذا طاشت الآراء فيه عن القصد فتىً معه المعروف يرحل إن رحل ... وتنزل آمال الورى حيث ما نزل ببرد التقى فوق العفاف قد اشتمل ... ترى نفسه من جها الله لم تزل بطاعته لله في غاية الجهد حليف التقى ماانفكّ الله شاكرا ... وللنوم من حبّ العبادة هاجرا وفي ورده ما زال لليل عامرا ... يقوم إلى ما كان ندباً مبادرا مبادرة الهيم العطاش إلى الورد إذا لم يفض يوماً على الدهر عفوه ... أتاه منيباً يقبض الخوف خطوه ونادى بصوة لى يرفع نحوه ... فيا سابقاً لا يدرك العقل شاوه ولا تهتدي الأوهام منه إلى قصد ألا إسق رياضي إنّها اصفرَّ زهرها ... وضوء لياليَّ التي حلن غرّها أنر وجه أيّامي التي اسودّ فجرها ... فشمس سما العلياء أنت وبدرها أخوك ربيع الخلق في الزمن الصلد ونفسكما من كلّ إثم تقدّست ... وداركما قدماً على الجود أسّست وجودكما بالنور منه الربا أكست ... وحلمكما منه الجبال لقد رست وبطبع من عزميكما الصارم الهندي وإنّكما عقدان للفضل حلّيا ... وبدران في أُفق المعالي تجلّيا وصقران في جوّ المكارم جلّيا ... وغيثا عطاء أنتما يفضح الحيا فيعول إعلاناً من الغيظ بالرعد كرامٌ على كلّ الأنام لهم يد ... وبيت علاهم في الزمان مشيد وليس عليهم زاد في الفضل سيّد ... لئن زاد في معنىً طريف محمّد عليهم فذا فرع لمجدهم التلد وإن هم ببطن الأرض من قبل أضمروا ... فإنّ لعلياهم معاليه مظهر وطيُّ مساعيهم به عاد ينشر ... وإن درّجوا موتى بعلياه عمروا بعمر لأقصى غاية الدهر ممتدّ فمن جوهر العلياء كانوا فرنده ... وأوّل من أورى من الجود زنده درى الحيّ فيهم والذي حلَّ لحده ... هم شرّعوا للجود في النّاس نجده ولولاهم ما كان للجود من نجد

فهل لسواها الزاخرات قد اعتزت ... وهل غيرها سحت إذا السحب اعوزت لقد أحرزت بالوفر حمداً فبرزت ... ولو لم تحزبا لوفر حمداً لأحرزت حسان سجاياها لها أوفر الحمد إذا في الشتاء الشول غبراء روّحت ... ومصّ الثرى ماء الرياض فصوحت فإنّهم فيها سيول تبطّحت ... أُناس يرى في الكرخ من فيه طوّحت إليهم بنات الشدّ قميات من بعد سنا نارهم قد صيروه نعوتهم ... لمسترشد الظلماء كي لا يفوتهم ويبصر من وافى لكي يستبيتهم ... جدباً على دارالسلام بيوتهم لكعبة جدواهم لمن أُمّها تهدي لهم أوجه يستصبحون بها الملا ... كأنّ بدور التم منهنّ تجتلى فلو قابلوا فيها دجى الليل لانجلى ... ولو وزنت فيهم شيوخ بني العلى لما عدلوا طفلاً لهم كان في المهد فطفلهم حذو المسنّ قد احتذى ... وعزّتهم أضحت لعين العدى قذى وكلٌّ من الحسّاد فيها تعوّذا ... وكلاًّ إذا أبصرت منهم تقول ذا محمّد فيه شارة الأبّ والجد رفيع علىً لا يطلع الفكر نجده ... حليف تقىً لا يعلق الإثم برده أخو الحزم ما حلّت يد الدهر عقده ... إذا انعقد النادي تراه وولده لناديه عقداً وهو واسطة العقد كأنَّ عقاباً فيه بين قشاعم ... وليث عرين فيه بين ضراغم وصلّ صفاة فيه بين أراقم ... على أنّهم فيه نجوم مكارم تحفُّ ببدر المجد في مطلع السعد وجودهم في المحل من جود كفّه ... وإن شمخت آنافهم فبأنفه وعرف علاهم فاح من طيب عرفه ... تضوع من أعطافهم ما بعطفه لطائم فخر ينتسبن إلى المجد أعزُّ بني الدنيا وأطيب عنصراً ... بهم عاد عود الفضل فينان شمّرا وفيهم غدا صبح المكارم مسفرا ... سلالة مجد هم مصابيح للورى بكلٍّ إذا استهدت فذاك هو المهد ييبيت على حفظ العلى غير جاهد ... ويبذل فيها من طريف وتالد وتبصر منه عين كلّ مشاهد ... فتىً قد رقى العليا بهمّة ماجد له أحرزت شأو العلى وهو في المهد ومنّي ساعة الميلاد في حبّها صبا ... وكانت له أُمّاً وكان لها أبا فإن تعتجب من ذا تجد منه أعجبا ... إذا ما ترآئى محتب شكّ في الحبا على رجل معقودة أو على أحد فإن قلت هذا مرهفاً كان أرهفا ... وأخلاقه هنّ الصبا كنّ ألطفا وإن قلت ذا ماء السما لست منصفا ... لعمرك ما ماء السماء وإن صفا بأطيب ممّا منه قد ضمّ في البرد أولي الحمد في غالي الثناء شغفتموا ... وإن عنه في معروفكم قد غنيتمو تهشّون شوقاً إن دعا من دعوتموا ... بني المجد من أبكار فكري خطبتم فتاة عن الخطّاب تجنح للصد بدايع أفكار لها الصيد أذعنت ... وفي حجب الأبصار عنهم تحصّنت لها مارنت يوماً ولا لهم رنت ... ولكن رأتكم كفوها فتزيّنت لكم وأتت تختال في حلل الحمد فلو شامها الأعشى تحير وامتحن ... وإنّ زهيراً لو رآها بها افتتن وأنّى لحسّان كمنظومها الحسن ... لها من بديع القول نظم إذا جرى الن نوابغ من مضمار إعجازه تكدي فينظم من ألفاظه الدرّ مقولي ... وفي النظم يبديه كعقد مفصّل بديع معان إنْ فيه ينقل ... إذا ما تلوه في العراق بمحفل سرت فيه أفواه الرواة إلى نجد فكم قد تبدّت منه للنّاس درّةٌ ... وكم قد تجلّت منه لشمس ضرّةٌ ومبصره قد قال هل هو زهرةٌ ... وسامعه قد شكّ هل فيه خمرةٌ أو إنّ بنظم الشعر ضرب من الشهد أرمّ لدى إنشاده المفصح اللسن ... وطاش حجى الفهّامة الحاذق الفطن فما أنا في إنشائه قطّ مفتتن ... ولست بإطرائي له مزده وإن غدا طرفة بن العبد من حسنه عبدي ولا أنا من يعلي القريض محلّه ... ولا من يزيد النظم والنثر فضله حويت بقومي المجد والفضل كلّه ... وما في نظام الشعر حمدٌ لمن له سنامٌ على ينمي إلى شيبة الحمد وقال عمّنا المذكور في مدح محمّد الصالح أيضاً وقد حلّ يناديه في بغداد ورأى ما فيه من أُبّهة العظمة:

حللت من الكرخ في معهد ... تسامى علاءً على الفرقد فواجهت فيه من الماجدين ... وجوهاً بها يستضيء الندي فقرَّت عيونك في ربعهم ... بكلّ فتىً منهم أصيد حمىً زهرت من بني المصطفى ... به أنجم المجد والسؤدد يقوم مقام ذكاً في الضحى ... أو البدر في الدامس الأسود يضيء لمن بأقاصي البلاد ... كمن جاء من أُمم يجتدي له الوفد من كلّ فجّ تسير ... على كلّ زيّافة جلعد يسابق متّهمهم في السرى ... لقطع الهضاب خطا المنجد فيزدحمون على باب از ... دحام الجمال على المورد ومن وسع ساحته الوفد في ... هـ كخردلة هي في فدفد وأوسع منه ببذل الجدى ... أكفّ محمّد للمجتدي يرى كلّما كثر القاصدون ... كأنّ بعدُ نعماه لم تقصد فتىً أقسم الغيث أن لا تقوم ... عزالاه منه مكان اليد ومن يمطر الماء أنّى يكون ... كمن هي تمطر بالعسجد يدٌ لا تملُّ العطاء الخطير ... إذا ملّه كفّ مسترفد وذاالغيث من سئم إن همى ... حياه بصيبه يرعد يميناً بأنعمها السابغات ... وما في الأنام لها من يد وما طوّقت من مجيد مجيد ... بهنَّ ومن سيّد سيّد وما هي أحيت من المجدبين ... ميتاً من البؤس في ملحد قد اصطحبت هي والجود حتى ... إذا أعسرت عنه لم تفرد ولو سألت وهي صفر لأعطت ... أناملها للذي يجتدي ولولا مست جلمداً فجّرت ... ينابيع ماء من الجلمد يودُّ لحبّ العطا أن تكون ... نقيبته جدّة المجتدي يرى الوعد نقصاً ومن شأنه ... يجيد العطاء بلا موعد وقبل السؤال لوفّاده ... بأسنى مواهبه يبتدي فكحل مآقيه مرأى الغريب ... إذا اكتحل الناس بالأثمد عظيم المهابة بين الملوك ... ومهما ترائى لها تسجد وبالحلم تنظر منه الحبا ... على غير ثهلان لم تعقد وآيات عليائه الباهرات ... تتلى بألسنة الحسّد له الله من جامع للعلوم ... شمل عواز بها الشرّد إذا أورد الفكر في مشكل ... له أعلم النّاس لا يهتدي فقبل الصدور له فكرة ... تريه الغوامض في المورد وفي صدر أمس يرى ماانطوى ... عليه مغيَّب ظهر الغد وفي الإحتجاج بليل الخصال ... له منهجٌ واضح المقصد فإن فاه بالقول لم تعرفنَّ ... الحسام الصقيل من المذود ولم يبق للخصم غير السكوت ... لديه ونقش الثرى باليد ووجهق علت صفرة الرعب فيه ... وقلب بحرقته مكمد فيغدو لدى الناس أحدوثة ... تنقّل في مشهد مشهد فياعجباً من جهول جرى ... بحلبة ذا الماجد الأوحد أهل قد رأى تولباً في الرهان ... شأى عدوة الصافن الأجرد بني المجد من بحر فكري لئالي ... الثناء تساقطن من مذودي وقلّدت نحر علاكم بها ... فضائت على النحر كالفرقد تظنّ الحواسد فيكم غلوت ... ومن لي بما ظنّه حسّدي لقد ضلّ من ظنّ أعلا النظام ... يكون لكم غاية المحمد ولكنّما هو في مدحكم ... متى أنشدته الورى يحمد ومن الشعر الأجنبي في هذا الباب ما سألني نظمه إنسان حدقة الدهر، وواسطة عقد الفخر الشريف أبو موسى الميزا جعفر نجل علاّمة العلماء ورئيس المحقّقين الفضلاء أستاذ الكلّ في الكلّ الشريف أبو جعفر السيّد محمّد مهدي الحسيني القزويني الحلّي دام علاه في الثناء على الشهم الماجد حسام الدين وقد أرسله بعض الوزراء حاكماً في الحلّة الفيحاء، فنظمت امتثالاً لأمره هذه القصيدة: أطلع شمس الراح ليلاً أغيد ... كأنّه من نورها مجسّد وزفّة اتحت الدجى فأشبهت ... مدامه وخدّه المورد فلست أدري أجلا لامعةً ... بكفّه به المدام عسجد أُمّ كفّه البيضاء من رقّتها ... بها شعاع خدّه يتّقد ساق من الجوزاء وهو المشتري ... نطاقه وعقده المنضّد شمس الضحى تودُّ لو كان ابنها ... وهي لها بدر السماء ولد إذا أدارت كفّه لثامه ... خلت الثريّا للهلال تعقد

من لي بقطف زهرة في خدّه ... وعقرب الصدغ عليها رصّد مورّد الوجنة ما استخجلته ... إلاّ وماء الورد منها بدّد مطرّدٌ في خدّه ماء الحيا ... ماء الحيا في خدّه مطرّد علّقته نشوان من خمر الصبا ... سبط القوام فرعه مجعّد أهيف كم تعطّفت قامته ... وهو لألحان الغنا يردّد تعطّف البانة تثنيها الصبا ... وفوقها قمريّة تغرّد بدر ولكن في الجمال يوسف ... لحسنه بدر السماء يسجد وشوقي الكامل ليس حرّه ... يطفيه إلاّ ريقعه المبرّد ماالحسن إلاّ جمرة بخدّه ... وجمرة في القلب منّي تقد أبرد هاتيك بلثم هذه ... يا من رأى ناراً بنار تبرد نارٌ ولكن هي عندي جنّة ... من لي لو فيها فمي يخلّد كم ليلة بات بها منادمي ... إلى الصباح والوشاة رقّد وسنان لم أجذب إليّ خصره ... إلاّ ثنى أعطافه التميّد حتّى يرى وخصره من رقّة ... عليَّ في انعطافه منعقد أعد عَلَيّ صاحبي ذكر الطلا ... وعدّ عمّا يزعم المفنّد راحك يابن النشواة فاغتنم ... حظّك منها والعذار أسود وعصر أطرابك في اقتباله ... والعيش غضٌّ لك فيه رغد وعاقر الرح يحييك بها ... شريكها في اللب إذا يغرّد ما ولدت أُمُّ الجمال مثله ... وأقسمت بأنّها ما تلد ما استجمع اللذّات إلاّ مجلس ... على معاطاة الكؤس يعقد ماهو إلاّ للندامى فلك ... به من الكأس يدور فرقد أو روضة فيها الخدود مجتنىً ... من السقاة والشفاه مورد وشادن وفّرته ريحانة ... بطيب ريّاها النسيم يشهد يا طالب العدل هلمَّ ظافراً ... فالعدل شخصٌ قد حواه بلد أما ترى الفيحاء كيف أصبحت ... والجور من ورائها مشرّد هذا حسام الدين بين أهلها ... أصبح والملك بها مقلّد سيف بكفّ الملك منه قائم ... مقام حدّيه الطلى والعضّد وأنت حيث باسمه شاركته ... لا تفتخر يا أيّها المهنّد فهو على هام العداة منتضى ... دأباً وأنت تنتضى وتغمد إن أشعرتك رهبةً هيبته ... فمنه في صدر النّديّ أسد أغلب لا يطمح في حضرته ... طرفٌ ولا ينطق فيها مذود مصوّر في شخصه روح النهى ... عليه أبراد الفخار جدّد وغيره يغريك حسن شكله ... ومنه ما في البرد إلاّ جسد أبلج عنه وإليه في النّدى ... تروى أحاديث الندى وتسند لهم نداه مشرك في وفره ... ومدحهم حقّاً له موحّد يا خير من زار الثناء ربعه ... فزار أزكى من نماه محتد إليكها سيّارة مع الصّبا ... تتّهم في نشر الثنا وتنجد سحّارة الألفاظ بابليّة ... أُمّ الكلام مثلها ما تلد بل كلّ معنىً جاهليّ قد غدا ... يودّ منها أنّه مولّد لا تحمد العود على قافية ... ما كلُّ عود في الأُمور أحمد أنت فدم سيّد أبناء العلى ... ونظمها للشعر فيك سيّد ومنه أيضاً ما سألني نظمه من دون هذا الكتاب لأجله، وقد سبقت في أوائل الكتاب إشارة إلى قصّته وذلك أنّه ولد مولود لبعض الرؤساء من أهل الشام وكان علويّاً فهنّاه بمولده بعض شعرائها وفي المجلس جماعة من أهل بغداد فعابوا ذلك النظم وافتخروا عليهم بشعراء العراق فأدّى ذلك إلى أن أرسلوا إليه يطلبون مجاراة تلك القصيدة بقصيدة بديعة فريدة ليطولوا بها عليهم ولمّا وصلت إليه أرسلها إليّ وعزم في مجاراتها عليّ، فنظمت هذه العقود النفيسة وأرسلتها إلى حضرته الأنيسة وهي: بشرى العلاء فذي مطالع سعده ... ولدت هلالاً زاهراً في مجده وحديقة المعروف هاهي أنبتت ... غصناً سيثمر للعفاة برفده ونشت بأُفق المكرمات سحابة ... من ذلك البحر المحيط لوفده الآن ردّ على الزمان شبابه ... غضّاً فأصبح زاهياً في ردّه وجلت لك الدنيا غضارة بشرها ... عن منظر شغل الحسود بوجده وجلا اصطباح الراح من يد أغيد ... في خدّه تزهو شقائق ورده تجلى بكفّ رقيق حاشية الصبا ... متمايل الأعطاف ناعم قدّه

يكسوا الزجاجة خدّه فيديرها ... حمراء تحسب أنّها من خدّه رقص الحباب على غناء نديمها ... طرباً وودَّ يكون موضع عقده شهد الضمير بأنّها من ريقه ... مزحت بأطيب لذّة من شهده فاشرب فدا الساقي عذولك واسقني ... كأساً وفي فيها الزمان بوعده وانهض كما اقترح السرور مهنياً ... بفتىً به الوهّاب جاد لعبده ميلاده الميمون بورك مولداً ... قد أصبح الإقبال خادم سعده تتوسّم العلياء وهو بحجرها ... فيه مخائل من أبيه وجدّه جدٌّ له انتهت العلى من هاشم ... وعلاء هاشم لا انتهاء لحدّه وكساه في عصر الشبيبة والصبا ... برد النهى والحمد شيبة حمده فالبدر ودّ بأن يكون له أخاً ... والشهب تهوى أنّها من ولده نضت الحميّة منه سيف حفيظة ... ماء الحيا الرقراق ماء فرنده لمّا رأيت الشام يبعد قصده ... عن ركب فيحاء العراق ووخده أودت تهنيتي إليه رسالةً ... تهدى على شحط المزار وبعده ودعوت حاملها لأشرف منزل ... بالشام خذ عنّي السّلام فأدّه حيي السعيد محمّداً فيه وقل ... بشرى بأشرف طالع في سعده بأغرَّ ينميه إلى عمرو العلى ... حسب محمّده عليّ معدّه حملته أُمّ الفخر سيّد قومه ... وأتت به والفضل ناسج برده ولدٌ يرفع من علاك بولده ... ويشدّ أزرك في بلوغ أشدّه لولم يكن فلك المجرّة مهده ... لم تطلع الشعرى العبور بمهده قرّت به عين الفخار لأنّها ... لم تكتحل أبداً برؤية ندّه فليهنينّ حمى السيادة أنّه ... قد أطلعت شبلاً عرينة أسده وانشقّ مسك ثرى النبوّة فيه عن ... ريحانة الهادي ووردة مجده فاليوم كفّ لويّ عاد بنانها ... فيها وسلّ حسامها من غمده وتباشرت طير السماء كأنّما ... نشر ابن هاشم للقرى من لحده وكأنّما الدنيا لتهنية العلى ... ناد تأنّقت السعود بعقده وكأنّ كلّ النّاس منطق واحد ... يشدو ليهن الفخر مولد فرّه وبديعة في الحسن قد أهديتها ... جهد المقل لمكثر من حمده خطبت له بلسان أشرف من بنى ... في الكرخ بيتاً سقفه من مجده بيت يظلّل بالنعيم إذا أوى ... ظيف إليه رآه جنّة خلده وإليكها غرّاء يأرج عطفها ... بنسيم غالية الثناء وندّه نطقت بنا ديك العليّ وأرّخت ... ولد الندى للفضل أسد ولده ومنه ما هنّيت به علم الشريعة الغرّاء، وعليم المعروف والسخاء الشريف أبو جعفر سيّدنا السيّد محمّد مهدي الحسيني القزويني بزواج ولده السيّد حسين وهو هذا: سقتك يا ربع العلى عهّادها ... وطفاء بشر أطلقت مزادها تلمع للزهو بها بوارق ... تقدح في القلب العدى زنّادها لاطفها فيك نسيم فرح ... إلى حماك ساقها وقادها فألبستك زهرها وأنبتت ... مابين أجفان العدى فتّادها وأبرزت منك لأحداق الورى ... حديقة نوءُ السرور جادها يا رائد الأفراح في دار العلى ... قد صدّقتك نفسك ارتيادها باكرْ مناك فارتشف رياضها ... كما اشتهيت واقتطف أورادها وحيّ في الدست زعيم هاشم ... وخير من سادت به وسادها القائم المهديّ أقضى من ثنت ... رياسة الدين له وسادها وقلْ ولا تحفل بغيظ أنفس ... قد تركت لغيّها رشادها ما علماء الأرض إلاّ رجلٌ ... قد جمع الله به آحادها فاستلّها صوارماً فواعلاً ... فعل السيوف ثكلت أغمادها الموقد النار عشيّاً للقرى ... وبشره يتّقد اتّقادها والمرخص الزاد وكان جدّه ... لراكبي ظهر الفلاة زادها قد فاخرت جفانه شهب السما ... بضوئها وكاثرت أعدادها بشراك وضّاح الدجى بفرحة ... قد بلغت فيها العلى مرادها حلّت نطاق الليل عن صبيحة ... قد نسجت أيدي الهنا أبرادها أنت الذي قد عقد الله به ... عرى الهدى وأحكم انعقادها منك أعدّت هاشم لمجدها ... من نشر الله به أمجادها فقللت فيك مريدي فخرها ... وفي بنيك كثرت حسّادها

فصل في الرثاء

أبناء مجد نشأوا سحائباً ... سقى الإله خلقه عهّادها بيض المساعي ومساعي غيرهم ... بيضٌ وصفرٌ أحسنوا انتقادها عقدت أطناب العلى وابتدروا ... يرفع كلّ منهم عمادها وغيرهم يهدم علياه التي ... سعى أبوه قبله فشادها قومٌ إذا شبّ ابن مجد منهم ... ألقت لكفّيه العلى قيّادها أو زوّجوه فبأخت شرف ... يحكي طريف مجدها تلادها لولم تجد منه المعالي كفوها ... لم ترض إلاّ في الخبا انفرادها يا من يروم بأبيه هضبهم ... ونفسه قد سكنت وهادها خلفك والفخر بنار ذهبت ... بضوئها وخلّفت رمادها بني العلى دونكموها غادةً ... عذراء قد أصفتكم ودادها جلّت بكم قدراً فما أنشدتها ... إلاّ ازدهت جبريل فاستعادها فصل في الرثاء قلت في رثاء المهدي خلف الخلف الصالح وقد توفي في بلاد فارس وجيء بنعشه ليدفن في النجف: أغارء دمعك أم منجد ... قد رحل الصبر ولا منجد يا رابط الأحشاء في راحة ... قد نضجت بالجمر ما تقصد لا تلتمس قلبك في جذوة ... ما بقيت منك عليها يد أخلت يبقى لك قلب على ... فاغرة الوجد ولا يفقد وإنّ قلباً تحت أنيابها ... طاح شظايا كيف لا يزرد حسبك منها زفرة لو غدت ... في جلمد منها نزا الجلمد كم هزَّ أظلاعك من فوقها ... حتّى تلاقين جوىً مكمد فساقطت منك الحشا أدمعاً ... حمراً على ذوب الحشا تشهد لو تعلم الأيّام ماذا جنت ... إذاً لودّت أنّها تنفد لقد أحلت بكرّ رزء لها ... في كلّ قلب مأتم يعقد إذ كوّرت شمساًبنوا المصطفى ... فيها ترجّوا أفقهم يسعد الله يا دهر أبينا هم ... في زهو بشرى للعدى تكمد إذ يرد الناهي إليهم بأن ... جاء ابن نعش ذلك الفرقد فيغتدي ذاك الهنا حنّة ... فرائص الدنيا لها ترعد نعشٌ أُتي يُحْمَلُ فيه النهى ... ميتاً عليه يندب السؤدد وخلفه العلياء في صرخة ... تدعو إلى أين به يقصد يا حاملي إنسان عيني قفوا ... نشدتكم بالله لا تبعدوا دعوه لي حسبي لتجهيزه ... عيني عليه طرفها أرمد دموعها الغسل وأكفانه ... البياض والجفن له ملحد غدرت يا دهر ومنك الوفا ... لا العذر بالأمجاد مستبعد فاذهب ذميماً إنّها غدرة ... وجهك ما عشت بها أسود مالك بالسوء لأهل الحجى ... وردت لا طاب لك المورد يا ناهداً بالشرّ من جهله ... تعلم بالشرّ لمن تنهد وطارقاً بيت ندىً يتقي ... ببابه المتهم والمنجد فمقعداه للتقى والندى ... وحاجباه العزّ والسؤدد ألم تجده حرمناً آمناً ... يحجّه الأبيض والأسود فكيف تسعى فيه لا محرماً ... كأنّما أنت به ملحد ما هو إلاّ بيت فخر له ... قبيلة المعروف قد شيّدوا بيت أبوالندب الرضى ربّه ... أكرم من تحت السما يقصد مولىً درت أهل العلى أنّه ... دون الأنام العلم المفرد وأنّه لولا ندى كفّه ... لم يرَ لا رفدٌ ولا مرفد تلقاه طلق الوجه في هيبة ... يفرق منها الأسد الملبد محبّب من حسن أخلاقه ... حتّى إلى من مجده يحسد ما سهرت من خائف مقلةٌ ... إلاّ وبالأمن لها يرقد يا أُسرة المعروف لا نابكم ... من بعد هذا الرزء ما يكمد وهذه النكبة مع أنّها ... فيها ثواب الصبر لا ينفد لا يحمد الصبر على مثلها ... لكنّه من مثلكم يحمد وقال عمّنا المهدي يرثي الرضا نجل مصباح الشرف الواضح الماجد الصالح ويعزّيه به: لا تلمني لم تجد ما أجد ... نابني ما عزَّ فيه الجلد كفَّ عنّي إنّ منّي بغتةً ... حطم الظهر وشلَّ العضد سلَّ من عينيَّ إنسانهما ... وانطوى في اللحد منّي الكبد قد أراني الدهر مالم يره ... من عظيمات الرزايا أحد ذهبت أيدي الليالي بالذي ... هو لي لو حارب الدهر يد كنت أنشي للرضا مدحاً فيا ... حزني اليوم رثاه أنشد عبجاً كيف لساني ناطق ... وهو في شطن الأسى منعقد

الباب التاسع في قافية الذال

ولفكري وهو في إذهاله ... للئالي نظمه ينتقد يالساني قل به ما شئته ... علّني أشفي به ما أجد طارح الورقاء في النوح عسى ... هي إن طارحتها لي تسعد عدمت نفسي ظلّي إن يكن ... كبدي عنه يزول الكمد فلأعطي كمدي من كبدي ... حقّه حتّى يذوب الكبد فالأسى آيست منه حيث ما ... للأسى إلاّ لقاه موعد هو نفسي كيف أسلو بعده ... هل سلا حوباه قبلي أحد هو من بيت رفيع في العلا ... أبداً ما لعلاه أمد سكنته عترة المجد التي ... طاب منها في القديم المحتد قد دهتها نكبة أحلمها ... ظلَّ من دهشته يرتعد ولعمري رزءُ آل المصطفى ... ما خلا في الأرض منه بلد تعس الدهر أهل مطروفةٌ ... عينه أم قد عراها رمد فرمى من حيث لا يبصر من ... غرر الأيّام فيه تسعد يا أبا المهدي إن ضلَّ الورى ... عن سبيل الصبر أنت المرشد فقبيحٌ إنْ أقلْ صبراً لمنْ ... سنن الصبر إليه تسند وعلى أطهر من ماء السما ... منه أطراف حباه تعقد لا دهاكم بعد هذا فادح ... ما غدى في الأرض راس وتّد وبقيتم سرمداً عيشكم ... هو في عزّ علاكم رغد تمّ بعون الله وتوفيقه الجزء الأوّل من كتاب "العقد المفصّل" تأليف الشاعر الكبير المفلق الشهير أبي الحسين السيّد حيدر بن السيّد سليمان الحسيني الحلّي ويليه الجزء الثاني أوّله الباب التاسع: حرف الذال. @الجزء الثاني الحمد لله الذي جعل محمّداً حسن السجايا، وفضّله على جميع البرايا، وخصّه من بين العرب بغاية الفصاحة ونهاية الأدب. وبعد؛ فهذا هو الجزء الثاني من الكتاب المرسوم ب "العقد المفصل" في قبيلة المجد المؤثل، وهو كسابقه في فصوله وأبوابه ونكات أغرابه وإعجابه، قد جمع من فنون النظم والنثر ما يزري بعقود الدر، وحوى من الإستحسانات البديعية والإستظرافات الأدبيّة والنوادر الغريبة والحكايات العجيبة ما يرتاج إليه أهل الأدب، وتسكن إليه نفوس ذوي الفضل، والله أسأل أن يقع منهم موقع الإعجاب والإطراب. الباب التاسع في قافية الذال وفيها فصل واحد وهو في الثناء قلت فيه هذه المقطوعة: قل لأبي الهادي الذي ما أخذت ... بنوا الثنا من الثنا ما أخذا لله في ثوب الزمان واحد ... منك بغير المدح ما تلذّذا سموت فانحطَّ سواك قائلاً ... من طلب الرفعة فليسم كذا يرقى ذرى العلياء من بحجرها ... نشى وفي لبانها المحض اغتذى ذوفكرة لم ترم في شاكلة ... بسهمها إلاّ وفيها نفذا وذولسان في الخصام لم يزل ... أقطع من حدّ حسام شحذا يسكت لكن بجواب حاضر ... يترك أكباد الخصوم فلذا فاردد أحاديث الصبا إن كنَّ لم ... يروين عن شمائل منه الشذا لا حبّذا إن لم يذعن نشره ... وإن أذنَ نشره فحبّذا كم قد أقام الدهر عن فريسة ... من برثن الخطب لها منتقذا يطرد شيطان العنا عن نفسه ... من بسماح كفّه تعوّذا حكى رجاء الوفد لولا جوده ... يونس لمّا بالعراء نبذا قولي: يسكت لكن بجواب حاضر الخ لا بأس أن أذكر في هذا المقام من الأجوبة المستحسنة والمسكتة نبذة ممتعة: قال السيّد المرتضى في الدرر: أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال: حدّثني عبد الواحد بن محمّد الخصيبي قال: حدّثني أبو علي أحمد بن إسماعيل قال: حدّثني أيّوب بن الحسين الهاشمي قال: قدم على الرشيد رجل من الأنصار وكان عريضاً يقال له نفيع، فحضر باب الرشيد يوماً ومعه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، وحضر موسى بن جعفر عليهما السلام على حمار له فتلقّاه الحاجب بالبشر والإكرام وأعظمه من كان هناك وعجّل له الإذن، فقال نفيع لعبد العزيز: من هذا الشيخ؟ قال: أوما تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا شيخ آل أبي طالب، هذا موسى بن جعفر عليهما السلام. فقال: ما رأيت أعجز من هؤلاء القوم يفعلون هذا برجل يقدر أن يزيلهم عن السرير، أمّا لئن خرج لأسوئنّه. فقال له عبد العزيز: لا تفعل فإنّ هؤلاء أهل بيت قلّما تعرّض لهم أحد في خطاب إلاّ وسموه في الجواب سمةً يبقى عارها عليه مدى الدهر.

قال: وخرج موسى بن جعفر عليهما السلام فقام إليه نفيع الأنصاري فأخذ بلجام حماره ثمّ قال له: من أنت؟ فقال: يا هذا إن كنت تريد النسب فأنا ابن محمّد حبيب الله بن إسماعيل ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، وإن كنت تريد البلد فهو الذي فرض الله على المسلمين وعليك إن كنت منهم الحجّ إليه، وإن كنت تريد المفاخرة فوالله ما رضي مشركوا قومي مسلمي قومك أكفّاء لهم حتّى قالوا: يا محمّد أخرج إلينا أكفّائنا من قريش، وإن كنت تريد الصيب والإسم فنحن الذين أمر الله بالصلاة علينا في الصلوات الفرائض في قوله: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ونحن آل محمّد، خلّ عن الحمار، فخلّ عنه ويده ويده ترتعد وانصرف بخزي. فقال له عبد العزيز: ألم أقل لك. وكان عقيل بن أبي طالب جيّد الجواب حاضره، قال له معاوية بن أبي سفيان يوماً: أنا خير لك من خيك. قال عقيل: إنّ أخي آثر دينه على دنياه وأنت آثرت دنياك على دينك، فأخي خير لنفسه منك وأنت خير لي منه. وقال له يوماً: إنّ فيكم لشبقاً يا بني هاشم. فقال: هو فينا في الرجال وفيكم في النساء. وقال معاوية يوماً: هذا عقيل عمّه أبو لهب. فقال عقيل: هذا معاوية عمّته حمّالة الحطب. وعمّة معاوية أُمّ جميل بنت جرب بن أُميّة وكانت امرأة أبي لهب. وقال له يوماً: يا أبا يزيد - وكانت كنية عقيل - أين ترى عمّك أبا لهب؟ فقال عقيل: إذا دخلت النّار فانظر عن يسارك تجده مفترشاً عمّتك حمّالة الحطب، فانظر أيّهما أسوء حالاً الناكح أم المنكوح. وقال له بصفّين: يا أبا يزيد! أنت معنا الليلة! قال: ويوم بدر كنت معكم. ولمّا أتى معاوية نعي الحسن بن علي عليهما السلام بعث إلى ابن عبّاس وهو لا يعلم الخبر، فقال له: هل عندك خبر من المدينة؟ قال: لا، قال: أتانا نعي الحسن عليه السلام، وأظهر في قوله سروراً. فقال ابن عبّاس: إذن لا ينسىء الله في أجلك ولا يسدّ حفرتك. قال: أحسبه قد ترك صبيةً صغاراً؟ قال: كلّنا كان صغيراً فكبر. قال: وأحسبه قد كان بلغ سنّاً؟ قال: مثل مولده لا يجهل. قال معاوية: لو قال قائل إنّك أصبحت بعده سيّد قومك. قال: أمّا وأبو عبد الله الحسين عليه السلام حيّ فلا. فلمّا كان من غد أتى يزيد بن معاوية ابن عبّاس وهو في المسجد يعزّى، فجلس بين يديه جلسة المعزّي وأظهر حزناً وغمّاً، فلمّا انصرف أتبعه ابن عبّاس بصره وقال: إذا ذهب آل حرب ذهب حلم قريش. وتزوّج عبد الله بن الزبير أُمَّ عمرو ابنة منظور الفزاريّة، فلمّا دخل بها قال لها تلك الليلة: أتدرين من معك في حجلتك؟ قالت: نعم عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى. قال: ليس غير هذا؟ قالت: ماالذي تريد؟ قال: معك من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد، لا بل بمنزلة العينين من الرأس. قالت: أما والله لو أنّ بعض بني عبد مناف حضرك لقال خلاف قولك. فغضب وقال: الطعام والشراب عَلَيّ حرام حتّى أحضرك الهاشميين وغيرهم من بني عبد مناف فلا يستطيعون لذلك إنكاراً. قالت: إن أطعتني لم تفعل وأنت أعلم وشأنك، فخرج إلى المسجد فرأى حلقةً فيها قوم من قريش منهم عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الحصين بن الحرث بن عبد مناف، فقال لهم ابن الزبير: أحبّ أن تنطلقوا معي إلى منزلي. فقام القوم بأجمعهم حتّى وقفوا على باب بيته، فقال ابن الزبير: يا هذه! أطرحي عليك سترك، فلمّا أخذوا مجالسهم دعى بالمائدة، فتغذّى القوم، فلمّا فرغوا قال: إنّما جمعتكم لحديث ردّته عَلَيّ صاحبة الستر وزعمت أنّه لو كان بعض بني عبد مناف حضرني لما أقرّ لي بما قلت وقد حضرتم جميعاً، وأنت يا ابن عبّاس ما تقول؟ إنّي أخبرتها أنّ معها في خدرها من أصبح في قريش بمنزلة الرأس من الجسد لا بل بمنزلة العينين من الرأس، فردّت عَلَيّ مقالتي. فقال ابن عبّاس: أراك قصدت قصدي فإن شئت أن أقول قلت وإن شئت أن أكفّ كففت. قال: بل قل، وما عسى أن تقول، ألست تعلم أنّي ابن الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنّ أُمّي أسماء بنت أبي بكر الصدّيق ذات النطاقين، وإنّ عمّتي خديجة سيّدة نساء العالمين، وإنّ صفيّة عمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمجدّتي، وإنّ عائشة أُمّ المؤمنين خالتي، فهل تستطيع لهذا إنكاراً؟

قال ابن عبّاس: لقد ذكرت شرفاً شريفاً وفخراً فاخراً غير أنّك تفاخر من بفخره فخرت وبفضله سموت. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنّك لا تذكر مفخراً إلاّ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أولى بالفخر به منك. قال ابن الزبير: لو شئت لفخرت عليك بما كان قبل النبوّة. قال ابن عبّاس: قد أنصف القارة من راماها، نشدتكم بالله أيّها الحاضرون أعبد المطّلب أشرف أم خويلد في قريش؟ قالوا: عبد المطّلب. قال: أفهاشم كان أشرف فيها أم أسد؟ قالوا: بل هاشم. قال: أفعبد مناف كان أشرف أم عبد العزّى؟ قالوا: عبد مناف. فقال ابن عبّاس: تنافرني يابن الزبير وقد قضى ... عليك رسول الله لا قول هازل ولو غيرنا يابن الزبير فخرته ... ولكنّما ساميت شمس الأصائل فقضى لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفضل في قوله: ما افترقت فرقتان إلاّ كنت في خيرهما، فقد فارقناك من بعد قصي بن كلاب، أفنحن في فرقة الخير أم لا؟ فإن قلت نعم خصمت، وإن قلت لا كفرت. فضحك بعض القوم، فقال ابن الزبير: والله لولا تحرمك بطعامنا يابن عبّاس لأعرقت جبينك قبل أن تقوم من مجلسك. قال ابن عبّاس: ولِمَ؟ أبباطل فالبطال لا يغلب الحق؟ أم بحق فالحق لا يخشى من الباطل؟ فقالت المرأة من وراء الستر: إنّي والله لقد نهيته عن هذا المجلس فأبى إلاّ ما ترون. فقال ابن عبّاس: مه أيّتها الإمرأة أقنعي ببعلك فما أعظم الخطر وأكرم الخبر، فأخذ القوم بيد ابن عبّاس وكان قد عمي فقالوا: إنهض أيّها الرّجل فقد أفحمته غير مرّة، فنهض وهو يقول: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا لغفا وناما فقال ابن الزبير: يا صاحب القطا أقبل عَلَيّ فما كنت لتدعني حتّى أقوم، وأيم الله لقد عرف الأقوام أنّي سابق غير مسبوق، وإنّ حواري وصديق متبجح في الشرف الأنيق خير من طليق. فقال ابن عبّاس: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً، هذا الكلام مردود من أمرء حسود، فإن كنت سابقاً فإلى من سبقت؟ وإن كنت فاخراً فبمن فخرت؟ فإن كنت أدركت هذا الفخر بأُسرتك دون أُسرتنا فالفخر لك علينا، وإن كنت إنّما أدركته بأُسرتنا فالفخر لنا عليك، والكثكث في فمك ويديك. وأمّا ما ذكرت من الطليق فوالله لقد ابتلي فصبر، وأنعم عليه فشكر، وإن كان والله لوفياً كريماً غير ناقض بيعةً بعد توكيها، ولا مُسلّم كتيبةً بعد التأمّر عليها. فقال ابن الزبير: أتعير الزبير بالجبن، والله إنّك لتعلم منه خلاف ذلك. قال ابن عبّاس: والله إنّي لا أعلم إلاّ أنّه فرّ وما كرّ، وحارب فما صبر، وبايع فما تمّم، وقطع الرحم وأنكر الفضل ورام ما ليس له بأهل. وأدرك منها بعض ما كان يرتجي ... وقصّر عن جري الكرام وبلدا وما كان إلاّ كالهجين أمامه ... عناق فجاراه العناق فأجهدا فقال ابن الزبير: لم يبق يا بني هاشم غير المشاغبة والمضاربة. فقال عبد الله بن الحصين بن الحرث: أقمناه عنك يابن الزبير وتأبى إلاّ منازعته، والله لو نازعته من ساعتك إلى انقضاء عمرك ما كنت إلاّ كالسغب الظمآن يفتح فاه يستزيد من الريح فلا يشبع من سغب ولا يروى من عطش، فقل إن شئت أو فدع، وانصرف القوم. قوله: دسعت بجرتك فلم تبق شيئاً، الجرّة بالكسر ما يخرجه البعير من جوفه عند الإجترار، يقال: دسع البعير بجرته، والدسع: إخراج الحرّة من الجوف. وقوله: الكثكث في فمك ويديك، الكثكث والأثلب فتاة الحجارة في التراب، يخاطب بذلك الخائب. وقوله: غير ناقض بيعة بعد توكيها ولا مُسلّم كتيبةً بعد التأمّر عليها، تلويح وتعريض بالزبير في نقضه لبيعة أمير المؤمنين وخروجه مع عائشة متأمّراً على كتيبتها يوم الجمل ثمّ أسلمها.

وذكر أبوالعبّاس المبرّد في كتاب الكامل ما يناسب هذا أنّ قتيبة بن مسلم لمّا فتح سمرقند أفضى إلى أثاث لم ير مثله، وآلات لم يسمع بمثلها، فأراد أن يرى الناس عظيم ما فتح الله عليهم، ويعرّفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم، فأمر بدار ففرشت وفي صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم، فإذا بالحضين بن المنذر بن وعلة الرقاشي قد أقبل والنّاس جلوس على مراتبهم، والحضين شيخ كبير، فلمّا رآه عبد الله بن مسلم قال لأخيه قتيبة: أذِّنْ لي في معاتبته! قال: لا تردّه فإنّه خبيث الجواب، فأبى عبد الله إلاّ أن يأذن له، وكان عبد الله يضعف، وكان قد تسوّر حائطاً قبل ذلك إلى امرأة. فأقبل على الحضين فقال: أمن الباب دخلت يا أبا ساسان؟ قال: أجل، أسنَّ عمّك عن تسوّر الحيطان. قال: رأيت هذه القدور؟ قال: هي أعظم من أن لا تُرى. قال: ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها؟ قال: أجل، ولا عيلان، ولو رآها سمّي شبعان ولم يسمّ عيلان. فقال عبد الله: أتعرف يا أبا ساسان الّذي يقول: عزلنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجرّ خصاها تبتغي من تحالف قال: أعرفه وأعرف الذي يقول: فأدّى الغرم من نادى مشيراً ... ومن كانت له أسرى كلاب وخيبة من يخيب على غني ... وباهلة بن يعصر والرباب قال: أفتعرف الذي يقول: كان فقاح الأزد حول ابن مسمع ... إذا عرقت أفواه بكر بن وائل قال: نعم أعرفه وأعرف الذي يقول: قوم قتيبة أُمّهم وأبوهم ... لولا قتيبة أصبحوا في مجهل قال: أمّا الشعر فأراك ترويه، فهل تقرأ من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، أقرأ الأكثر الأطيب (هَلْ أَتى عَلَى الإنسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئَاً مَذْكُوراً) ، فأغضبه فقال: والله لقد بلغني أنّ امرأة الحضين حملت إليه وهي حبلى من غيره. قال: فما تحرّك الشيخ عن هيئته الأُولى بل قال على رسله: وما يكون تلد غلاماً على فراشي فيقال فلان بن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم. فأقبل قتيبة على عبد الله وقال له: لا يبعد الله غيرك. ولمناسبة هذه القصّة لا بأس بذكر نبذة يسيرة من التعريضات والكنايات التي هي من الأجوبة المسكتة، فأقول: التعريض هو اللفظ الدالّ على الشيء من طريق المفهوم لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وبهذا الحدّ يفرّق بينه وبين الكناية، فإنّ الكناية هي اللفظ الذي يتجاذبه جانبا حقيقة ومجاز، ومتى أفرد جاز حمله على الجانبين معاً، ألا ترى أنّ اللمس في قوله تعالى: (أو لامَسْتُمُ النِّساء) يجوز حمله على الحقيقة والمجاز، وكلّ منهما يصحّ به المعنى ولا يختل، فيجوز حمله على المعنى الحقيقي وهو اللمس المعلوم، وعلى المعنى المجازي وهو الجماع. والتعريض أخفى من الكناية، لأنّ دلالة الكناية وضعيّة وإنّما يسمّى التعريض تعريضاً لأنّه يفهم فيه المعنى من عرض اللفظ أي جانبه. قال بعضهم: والكناية تشتمل على اللفظ المفرد واللفظ المركّب فتأتي على هذا مرّة وعلى هذا أخرى، وأمّا التعريض فإنّه يختصّ في اللفظ المركّب ولا يأتي في اللفظ المفرد ألبتة، لأنّه لا يفهم فيه المعنى من جهة الحقيقة ولا من جهة المجاز، بل من جهة التلويح والإشارة وهذا لا يستقل به اللفظ المفرد. أقول: ولعلماء هذا الفن في الفرق بين التعريض والكناية وتحديدهما كلام طويل لا حاجة إلى ذكره. ومن التعريضات اللطيفة ما روى أبوبكر بن دريد في كتاب الأمالي عن أبى حاتم عن العتبي عن ابيه أنّه عرض على معاوية فرس وعنده عبد الله بن الحكم بن أبي العاص، فقال: كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف؟ قال: أراه أجشّ هزيماً. قال معاوية: لكنّه لا يطلع على الكنائن. قال: يا أمير المؤمنين! ما استوجبت هذا كلّه، قال: قد عوّضتك عنه عشرين ألفاً. قال أبو بكر بن دريد: أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية بما قال النجاشي في أيّام صفّين: ونجى ابن حرب سابح ذو غلالة ... أجشّ هزيم والرماح دواني إذا قلت أطراف الرماح تنوشه ... مرته له الساقان والقدمان وأراد معاوية بقوله: لا يطلع على الكنائن التعريض بعبد الرحمن أنّه كان يزني بنساء إخوته.

ومن لطيف التعريض ما ذكره عبد الله بن سوار قال: كنّا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي فأتينا بخزيرة - والخزيرة شبه عصيدة بلحم وبلا لحم عصيدة - فقال: إنّها قد عملت بالسكّر والسمن والدقيق. فقال المعدّ بن عيلان العبدي: يا حبّذا السخينة! ما أكلت أيّها الأمير سخينة ألذّ من هذه. فقال: إلاّ أنّها تولد الرياح في الجوف كثيراً. قال: ولا هكذا، إنّ المعائب لا تذكر على الخوان. أراد المعدّ ما كانت العرب تعير به قريشاً في الجاهليّة من أكل السخينة، وأراد إسحاق بن عيسى ما تعير به عبد القيس من الفسو، قال الشاعر: وعبد القيس مصفرٌّ لحاها ... كأنّ فسائها قطع الضباب قال المبرّد: وقد يسير البيت في واحد ويرى أثره عليه أبداً كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة: فما تصنع بالسيف ... إذا لم تك قتّالا فكسّر حلية السيف ... وصغها لك خلخالا وكان عبد الله إذا تقلّد سيفاً ورأى من يرمقه بان أثره عليه فظهر الخجل منه. ومثل ذلك ما يحكى أنّ جريراً قال: والله لقد قلت في بني ثعلب بيتاً لو طعنوا بالرماح بعدها في أستاهم لما حكوا، وذلك قولي: والثعلبي إذا تنحنح للقرى ... حكّ استه وتمثّل الأمثالا وحكى أبو عبيدة عن يونس قال: قال عبد الملك بن مروان يوماً وعنده رجال: هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعراً ودّوا أنّهم افتدوا منه بأموالهم؟ فقال أسماء بن خارجة الفزاري: نحن يا أمير المؤمنين. قال: وما هو؟ قال: قول الحارث بن ظالم المزني: وما قومي بثعلبة ابن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا فوالله يا أمير المؤمنين! إنّي لألبس العمامة الصفيقة فيخيّل لي أنّ شعر قفاي قد بدا منها. وقال هاني بن قبيصة النميري: ونحن يا أمير المؤمنين. قال: ما هو؟ قال: قال جرير: إذا الله عادى أهل لوم وقلّة ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقتل قبيلته لا يغدرون بذمّة ... ولا يظلمون النّاس حبّة خردل ولا يردون الماء إلاّ عشيّةً ... إذا صدر الوارد عن كلّ منهل وما سمّي العجلان إلاّ لقوله ... خذا القعب واحلب أيّها العبد واعجل فكان الرجل منهم إذا سُئل يقول: من بني كعب. وكان عبد الملك بن عمير القاضي يقول: والله إنّ التنحنح والسعال يأخذاني وأنا في الخلا فأردّه حياءً من قول القائل: إذا ذات دلّ كلّمته لحاجة ... فهمَّ بأن يقضى تنحنح أوسل ولا غرو فلقد كان البيت من الشعر يضع الشريف ويرفع الوضيع، كما وضع من بني نمير قول جرير: فغضّ الطرف إنّك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا وكما رفع من بني أنف الناقة قول الحطيئة: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا فأمّا قول جرير: فغضّ الطرف إنّك من نمير الخ فقد لقيت نمير من هذا البيت ما لقيت، وجعلهم الشاعر مثلاً فيمن وضعه الهجاء إذ قال وهو يهجو قوماً من العرب: وسوف يزيدكم ضعةً هجاء ... كما وضع الهجاء بني نمير ونمير قبيل شريف وقد ثلم شرفهم هذا البيت. ومن التعريضات اللطيفة أيضاً ما روي أنّ المفضّل بن محمّد الضبي بعث بأضحية هزبلة إلى شاعر، فلمّا لقيه سأله عنها فقال: كانت قليلة الدم، فضحك المفضّل وقال: مهلاً يا أبا فلان، أراد الشاعر قول القائل: ولو ذبح الضبي بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضبي لحماً ولا دما وكانت فزارة تعير بأكل جردان الحمار، لأنّ رجلاً منهم كان في سفر فجاع فاستطعم قوماً فدفعوا إليه جردان الحمار - والجردان بالضم قضيب الفرس وغيره، كذا في الصحاح - فشواه وأكله، فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك، قال الفرزدق: جهّز إذا كنت مرتاداً ومنتجعا ... إلى فزارة عيراً تحمل الكمرا إنّ الفزاري لو يعمي فيطعمه ... أير الحمار طبيب أبرأ البصر وذكر أبو عبيدة أنّ إنساناً قال لأسماء بن خارجة الفزاري: إقض ديني أيّها الأمير فإنّ عَلَيّ ديناً. قال: مالك عندي إلاّ ما ضرب به الحمار بطنه. فقال عبيد بن أبي محجن: بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار؛ إن جعتم أكلتموه، وإن أصابكم غرم قضيتموه به.

ويحكى أنّ بني فزارة وبني هلال بن عامر بن صعصعة تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي وتراضوا به، فقالت بنوا هلال: يا بني فزارة أكلتم أير الحمار، فقالت بنوا فزارة: مدرتم الحوض بسلحكم، فقضى أنس لبني فزارة على بني هلال، فأخذ الفزاريّون منهم مائة بعير كانوا تخاطروا عليها. وفي مادر وهو الذي مدر الحوض بسلحه يقول الشاعر: لقد جللت خزياً هلال ابن عامر ... بني عامر طرّاً بسلحة مادر فأُفٍّ لكم لا تذكروا الفخر بعدها ... بني عامر أنتم شرار المعاشر هذا آخر ما أردناه أن نذكره من التعريضات، ثمّ لنرجع إلى ما كنّا فيه من ذكر الأجوبة المسكتة. يروى أنّ الفرزدق لقيه نبطي بيثرب فقال له: أنت الفرزدق؟ قال: نعم. قال: أنت الذي يخاف النّاس لسانك؟ قال: نعم. قال: فإذا هجوتني يموت فرسي؟ قال: لا. قال: فيموت ولدي؟ قال: لا. قال: فأموت أنا؟ قال: لا. قال: فأدخلني الله في حر أُمّ الفرزدق من رجلي إلى عنقي. فقال له: ولم تركت رأسك؟ قال: حتّى أرى ما تصنع الزانية. ومرّ الفرزدق بزياد الأعجم وهو قائم ينشد، فقال له: تكلّمت يا أقلف؟ فقال له زياد: ما أسرع ما خبّرتك بها أُمّك. فقال الفرزدق: هذا وأبيك الجواب المسكت. عن عوانة قال: جرى بين عروة بن الزبير وبين عبد الملك بن مروان كلام فأغلظ له عروة، وكان الحجّاج حاضراً فقال: يابن العميا! أتكلّم أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال له: وما أنت وذاك يابن المتمنّية؟! فضحك عبد الملك وقال: قد كنت غنيّاً عن هذا. وإنّما اراد عروة أنّ أُمّ الحجّاج وهي الفارغة بنت همام قالت: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر ابن حجّاج وكان نصر بن الحجّاج هذا من أجمل أهل المدينة. وعن المدايني قال: جرى بين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد منازعة، فأغلظ له عمرو، فقال له خالد بن يزيد: يا عمرو! أمير المؤمنين لا يُكلَّم بمثل هذا! فقال له عمرو: أسكت فوالله لقد سلبوك ملكك ونكحوا أُمّك فما هذا النصح الموشّح بغش، أنت كما قال الشاعر: كمرضعة أولاد أخرى وضيّعت ... بينها فلم ترقع بذلك مرقعا وهذا كما قيل: كتاركة بيضها بالعراء ... وملحفة بيض أخرى حناها ودخل مالك بن هبيرة السلولي على معاوية فأدناه وأجلسه، وكان شيخاً كبيراً، فخدرت رجله فمدّها، فقال له معاوية: يا أبا سعيد! ليت لنا جارية لها مثل ساقيك! قال: متّصلان بمثل عجيزتك يا أمير المؤمنين، فخجل معاوية وقال: واحدة بواحدة والبادي أظلم. وقال معاوية لصحار العبدي: يا أزرق! قال: الباز أزرق. قال: يا أحمر! قال: الذهب أحمر. قال: ما هذه البلاغة التي فيكم يا عبد القيس؟ قال: شيء يختلج في صدورنا فتقذفه ألسنتنا كما يقذف البحر الجوهر. وقدم الحجّاج على عبد الملك بن مروان، فمرّ بخالد بن يزيد بن معاوية ومعه رجل من أهل الشام، فقال الشامي لخالد: من هذا؟ فقال الخالد كالمستهزىء: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجّاج فقال: إنّي والله ما أنا بعمرو بن العاص ولا ولدت عمرواً ولا ولدني ولكنّي ابن الغطاريف من ثقيف، والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف كلّهم يشهد أنّك وأباك وجدّك من أهل النّار، ثمّ لم أجد عندك لذلك جزاءً ولا شكراً، وانصرف عنه وهو يقول: عمرو بن العاص، عمرو بن العاص. وقال معاوية لعقيل بن أبي طالب: والله إنّ فيكم لخصلة يا بني هاشم لا تعجبني؟ قال: ما هي؟ قال: لين فيكم. فقال له عقيل: إيّانا تعير يا معاوية؟! أجل، والله إنّ فينا لليناً من غير ضعف، وعزّاً من غير جبريّة، وأمّا أنتم يا بني أُميّة فإنّ وفائكم غدر، وعزّكم كفر. فقال معاوية: ما أردنا كلّ هذا منك يا أبا يزيد.

وقال معاوية يوماً على المنبر: أيّها النّاس إنّ الله تعالى فضّل قريشاً بثلاث: فقال لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتِكَ الأَقْرَبِين) ونحن عشيرته الأقربون، وقال: (وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ونحن قومه، وقال: (لإيلافِ قُريش إيلافهم) ونحن قريش. فقال رجل من الأنصار: على رسلك يا معاوية فإنّ الله تعالى قال: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحقّ) وأنتم قومه، وقال: (ولمّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّون) وأنتم قومه، وقال: (وقال الرَّسُولُ يا رَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذا القُرْآنَ مَهْجُورا) وأنتم قومه، ثلاثة بثلاثة ولو زدتنا لزدناك، فأفحمه. وقال قتيبة بن مسلم الباهلي لهبيرة بن مسروح: أيّ رجل أنت لو كانت أخوالك من غير سلول؟ فلو بادلت بهم، قال: أصلح الله الأمير! بادل بهم من شئت وجنّبني باهلة. وقال جرير للفرزدق: يا أبا فراس! تحتمل مسألة؟ قال: نعم فسل عمّا بدا لك. قال: أيّما أحبّ إليك: أن يتقدّمك الخير أو تتقدّمه؟ قال: لا يتقدّمني ولا أتقدّمه بل نكون معاً، فاسمع مسألتي، قال جرير: هات، قال: أيّما أحبّ إليك: أن تدخل على امرأتك فتجد يدها على أير رجل أو تجد يد رجل على حرّها؟ فقال: قاتلك الله ما أقبلح لسانك. وقيل: إنّ عمرو بن العاص رأى معاوية يضحك، فقال: ممّ تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال: أضحك من حضور ذهنك عند إبدائك سوئتك يوم ابن أبي طالب، أما والله لقد وجدته كريماً ولو شاء لخرق رقعتك. فقال عمرو: أما والله إنّي لعن يمينك حين دعاك إلى البراز فأرعدت فرائصك ومال شقّك واحولّت عيناك وربا سحرك وبدا من أسفلك ما أكره ذكره لك، فمن نفسك فاضحك أو دع. وقال بلال بن أبي بردة للهيثم بن الأسود في مجلس خالد بن عبد الله القسري: أنا ابن أحد الحكمين، فقال الهيثم: أمّا أحدهما ففاسق وأمّا الآخر فمائق، فأبن أيّهما أنت؟ ودخل عبيد الله بن ظبيان على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما هذا الذي يقول الناس فيك؟ قال: وما يقولون يا أمير المؤمنين؟ قال: يقولون إنّك لا تشبه اباك! فقال: والله إنّي لأشبه به من الماء بالماء، ومن الغراب بالغراب، ولكن أدلّك على من لا يشبه أباه، قال: ومن هو؟ قال: من لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام. قال: ومن هو؟ قال: ابن عمّي سويد بن منجوف. وإنّما أراد عبد الملك وذلك أنّه ولد لسبعة أشهر. قيل: لمّا ولي سليمان بن عبد الملك أُتي يزيد بن أبي مسلم مولى الحجّاج في جامعة وكان رجلاً ذميماً تقتحمه العين، فلمّا رآه سليمان قال: لعن الله من أجرّك رسنك وولي مثلك. فقال: يا أمير المؤمنين! رأيتني والأمر عنّي مدبر، ولو رأيتني وهو عَلَيّ مقبل لاستعظمت ما استصغرت، ولاستجللت ما استحقرت. فقال سليمان: أين ترى الحجاج: أيهوي في النّار أم قد استقرّ؟ فقال: يا أمير المؤمنين! لا تقل كذا فإنّ الحجّاج قمع لكم الأعداء، ووطأ لكم المنابر، وزرع لكم الهيبة في صدور النّاس، وبعد فإنّه يأتي يوم القيامة يمين أبيك عبد الملك، وشمال أخيك الوليد، فضعه حيث شئت. وروي عن المأمون أنّه قال: ما أعياني جواب أحد قط مثل جواب ثلاثة أحدهم: أُمّ الفضل بن سهل فإنّي عزّيتها عن ابنها وقلت: لئن جزعت على الفضل لأنّه ولدك فها أنا ذا إبنك مكانه، فقالت: وكيف لا أجزع على من جعل لي مثلك ولداً. والثاني: رجل حضرته يزعم أنّه نبيّ الله موسى عليه السلام، فقلت له: إنّ الله تعالى أخبرنا عن موسى أنّه يدخل يده في جيبه فيخرجها بيضاء من غير سوء، فقال لي: متى فعل ذلك موسى، أليس بعد أن لقي فرعون؟ فاعمل كما فعل فرعون حتّى أعمل كما عمل موسى. والثالث: إنّ جماعة من أهل الكوفة اجتمعوا إليّ يشكون من عاملها، فقلت: إرضوا بواحد منكم أسمع منه، فرضوا برجل منهم، فقال لي في العامل وأكثر، فقلت: كذبت، بل هو العفيف الورع العدل، فذهب أصحابه يتكلّمون، فسكّتهم ثمّ قال: صدقت يا أمير المؤمنين هو كما ذكرت فواسِ بين رعيّتك في العدل، فصرفته عنهم. وكتب رجل إلى صديق له يقترض شيئاً، فأجابه يشكو ضيق حاله، فكتب إليه: إن كنت كاذباً جعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً جعلك الله كاذباً، وإن كنت معذوراً فجعلك الله ملوماً، وإن كنت ملوماً فجعلك الله معذوراً.

وفي مثل هذا قول الشاعر وقد أراد أن يقترض شيئاً من صديق له فلم يعطه فقال: ولقد أتيت لصاحبي وسألته ... في قرض دينار لأمر كانا فأجابني والله داري ما حوت ... عيناً فقلت له ولا إنسانا وسمع الأحنف رجلاً يقول: ما أحلم معاوية، فقال: لو كان حليماً ما سفه الحق. وكان أبوالعينا من أحضر الناس جواباً، وأجودهم بديهة، وأملحهم نادرةً، ولنذكر طرفاً من أخباره، وهي إن لم تكن كلّها من هذا النمط وإلاّ فغالبها: قيل لأبي العينا: ما أحسن الجواب؟ قال: ما أسكت المبطل وحيّر المحق. وقال له المتوكّل يوماً: ما أشدّ عليك في ذهاب بصرك؟ فقال: فقد رؤيتك مع إجماع النّاس على جمالك. وقال له يوماً: أُريدك لمجالستي! فقال: لا أُطيق ذاك وما أقول هذا جهلاً بما لي في هذا المجلس من الشرف ولكنّي رجل محجوب والمحجوب تختلف إشاراته ويخفى عليه إيماؤه ويجوز عَلَيّ أن أتكلّم بكلام غضبان ووجهك راض، وبكلام راض ووجهك غضبان، ومتى لم أُميّز بين هاتين هلكت، قال: صدقت. وروي أنّه قال له يوماً: لولا أنّك ضرير لنادمتك! فقال له: إن أعفيتني عن رؤية الهلال وقرائة نقش الخواتيم فإنّي أصلح للمنادمة. وقال له المتوكّل: ما تقول في ابن مكرم والعبّاس بن رستم؟ قال: هما الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما. فقال: بلغني أنّك تودّهما! فقال: لقد ابتعت الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة. وقال له يوماً: بلغني أنّ سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: (إنَّ الّذينَ أجْرَموا كانَ مِنَ الّذينَ آمَنُوا يَضْحكُون) . وقيل لأبي العينا: إنّ إبراهيم بن نوح النصراني عليك عاتب، فقال: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ اليَهُودُ والنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) . ورآه زرقان وهو يضاحك نصرانيّاً، فقال: (يا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصارى أولياء) ، فقال أبوالعينا: (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ في الدّين) . قال المرتضى: أخبرنا أبوالحسن علي بن محمّد الكاتب قال: أخبرني محمّد بن يحيى الصولي قال: أخبرنا أبوالعيناء قال: كان سبب اتّصالي بأحمد بن أبي دؤاد أنّ قوماً من أهل البصرة عادوني وادّعوا عَلَيّ دعاوي كثيرة منها أنّي رافضي، فاحتجبت إلى أن خرجت عن البصرة إلى سرّ من رأى فألقيت نفسي على ابن أبي دؤاد وكنت نازلاً في داره أُجالسه في كلّ يوم، وبلغ القوم خبري فشخصوا نحوي إلى سرّ من رأى، فقلت له: إنّ القوم قد قدموا من البصرة يداً عَلَيّ. فقال: (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، فقلت: إنّ لهم مَكْراً، فقال: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكِرين) ، فقلت له: كثيرون، فقال: (كَمْ مِنْ فِئَة قَليلة غَلَبَتْ فئةً كَثيرة بإذنِ الله) فقلت: لله درّك أيّها القاضي، فأنت والله كما قال الصموت الكلابي - أو - الكهلاني: لله درّك أيّ جنّة خائف ... ومتاع دنياً أنت للحدثان متخمّط يطؤ الرّجال غلبةً ... وطأ الفنيق دوارج القردان ويكبّهم حتّى كأنّ رؤسهم ... مأمومة تنحطّ للغربان ويفرّج الباب الشديد رتاجه ... حتّى يصير كأنّه بابان فقال لابنه أبي الوليد: أُكتب هذه الأبيات، فكتبها بين يديه. قال الصولي: حفظي عن أبي العينا الصموت الكلابي على أنّه رجل، وقال لي وكيع: حفظي أنّها الصموت الكلابيّة على أنّها امرأة. ودخل أبوالعينا على الحسن بن سهل فأثنى عليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فقال: والله ما أستكثر كثيرك أيّها الأمير، ولا أستقلّ قليلك. قال: وكيف ذاك؟ قال: لا أستكثر كثيرك لأنّك أكثر منه، ولا أتستقلّ قليلك لأنّه أكثر من كثير غيرك. وقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان يوماً: أعذرني فإنّي عنك مشغول. فقال أبوالعينا: إذا فرغت لم أحتج إليك. وقال له: قد تبيّنت فيك الغضب يا أبا عبد الله؟ فقال: قد أجلّ الله قدرك عن غضبي، إنّما يغضب الرجل على من هو دونه فأمّا على من هو فوقه فلا، ولكن أحزنني تقصيرك فسمّيت حزني عضباً.

ويقال: إنّ صاعد بن مخلد كان من أحسن من أسلم ديناً وأكثرهم صلاةً وصدقةً، فصار إلى بابه أبوالعيناء مرّات كثيرة بعقب إسلامه، فحجب وقيل: إنّه مشغول بصلاته. فقال أبوالعيناء: لكلّ جديدة لذّة. ودخل أبوالعيناء على أبي الصقر يوماً فقال له: ما أخّرك عنّا يا أباالعيناء؟ قال: سرق حماري. قال: وكيف قد سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك. قال: فهلاّ أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلّة يساري، وكرهت ذلّة المكاري، ومنّة العواري. وزحمه رجل بجسر بغداد على حمار فضرب بيده إلى أُذن الحمار وقال: يا فتى قل للحمار الذي فوقك يقول الطريق. وقيل له: هل يلقى في دهرنا من يلقى في دهرنا من يلقى؟ قال: نعم في البئر. ووقف عليه رجل من العامّة فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم. فقال أبوالعيناء: مرحباً بك أطال الله بقائك، ما كنت أظنّ هذا النسل إلاّ قد انقطع. وقال له عبيد الله بن يحيى: كيف كنت بعدي يا أباالعيناء؟ قال: في أحوال مختلفة شرآها غيبت وخيرها أويتك. ووعده ابن المدبّر بغلاً ولقيه بعد ذلك على حمار فقال له: كيف أصبحت يا أباالعينا؟ فقال: على حمار أعزّك الله. قال: العشيّة يجيئك البغل. ومرّ بباب عبد الله بن منصور وكان قد اعتلّ ثمّ صلح فقال لغلامه: أيّ شيء خبره؟ قال: كا تحب، قال: فمالي لا أسمع الصراخ عليه. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدد المكذبين بالبصرة؟ قال: مثل عدد الباغين ببغداد. سمع ابن مكرم رجلاً يقول: من ذهب بصره قلّت حيلته، فقال: ما أغفلك عن أبي العينا، ذهب بصره وعظمت حيلته. وسمع ابن مكرم أباالعينا يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال: يابن الزانية ومن لست سائله. وقال ابن مكرم يوماً: ما أحد أعقل من مغنيّة تأكل وتشرب وتتلذّذ وتأخذ الدراهم. قال أبوالعينا: فكيف عقل الوالدة؟ قال: هي أحمق من دغه. وقيل له: كم تمدح الناس وتذمّهم؟ قال: ما أحسنوا وأساؤا. وقال له المتوكّل يوماً: إنّي لأفرق من لسانك، فقال له: إنّ الشريف فروقة ذو أحجام، وإنّ اللئيم ذو أمنة وإقدام. وقال له يوماً وقد دخل عليه: قد إشتقتك والله يا أباالعينا! فقال له: يا سيّدي إنّما يشتدّ على العبد لأنّه لا يصل إلى مولاه، فأمّا السيّد فمتى أراد عبده دعاه. وروي أنّه قال له يوماً: ما بقي أحد في مجلسي إلاّ وقد اغتابك وذمّك عند ما جرى ذكرك غيري. فقال أبوالعينا: إذا رضيت عنّي كرام عشيرتي ... فلا زال غضباناً عَلَيّ لئامها وذكر أبوالعينا قال: قال لي المتوكّل: كيف ترى داري هذه؟ فقلت: رأيت الناس بنوا دورهم في الدّنيا وأمير المؤمنين جعل الدّنيا في داره. وقال أبوالعينا: قال لي المتوكّل: من أسخى من رأيت ومن أبخل من رأيت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت أسخى من أحمد بن أبي دؤاد، ولا أبخل من موسى بن عبد الملك. قال: وكيف وقفت على بخله؟ فقلت: رأيته يحرم القيب كما يحرم البعيد، ويعتذر عن الإحسان كما يعتذر من الإسائة. فقال: أجئت إلى من أطرحته فسخيته وإلى من أمسكته فبخّلته. فقلت: يا أمير المؤمنين! إنّ الصدق ما هو في موضع من المواضع أنفق منه بحضرتك والنّاس يغلطون فيمن ينسبونه إلى السخاء، فإذا نسب الناس السخاء إلى البرامكة فإنّما ذاك سخاء أمير المؤمنين الرشيد، وإذا نسب الناس الحسن بن سهل والفضل بن سهل إلى السخاء فإنّما ذاك سخاء المأمون، وإذا نسبوا أحمد بن أبي دؤاد إلى السخاء فذلك سخاء أمير المؤمنين المعتصم، وإذا نسبوا الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى السخاء فإنّما هو سخاؤك، وإلاّ فما بال هؤلاء القوم لم يُنْسَبوا إلى السخاء قبل صحبتهم الخلفاء؟ فقال لي: صدقت، وسرى عنه. روى أبوالعينا عن الشعبي قال: دخل الفرزدق إلى سعيد بن العاص وعنده الحطيئة، فلمّا مثل بين يديه قال: إليك فررت منك ومن زيادِ ... ولم أحسب دمي لكما حلالا فإن يكن الهجاء أحلّ قتلي ... فقد قلنا لشاعركم وقالا ترى الغرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا قياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنّهم يرون به الهلال فقال له الحطيئة: هذا والله أيّها الأمير الشعر لا ما كنّا نعلّل به منذ اليوم، يا غلام! أقدمت أُمّك إلى الحجاز؟ قال: لا ولكن قدمه أبي.

الباب العاشر في قافية الراء

أراد الحطيئة بقوله: إن كانت أُمّك قدمت الحجاز فقد وقعت عليها وكنت منّي، وأراد الفرزدق بقوله: قدمه أبي أي وقع بأُمّك فكنت أنت أخي. وروي عن الشعبي أنّه قال: قاتل الله أباالأسود ما كان أعفّ أطرافه وأحضر جوابه، دخل على معاوية في النخيلة، فقال له معاوية: أكنت ذكرت للحكومة؟ قال: نعم. قال: فما كنت صانعاً؟ قال: كنت أجمع ألفاً من المهاجرين وأبنائهم وألفاً من الأنصار وأبنائهم ثمّ أقول: يا معشر من حضر أرجل من المهاجرين أحقّ أم رجل من الطلقاء، فلعنه معاوية وقال: الحمد لله الذي كفاناك. وروي أنّ أباالأسود طلب أن يكون في الحكومة وقال لأمير المؤمنين في وقت الحكمين: يا أمير المؤمنين! لا ترض لأبي موسى فإنّي قد عجمت الرجل وبلوته وحلبت أشطره فوجدته قريب القعر مع أنّه يمان وما أدري ما يبلغ نصحه فابعثني فإنّه لا يحلّ عقدة إلاّ عقدت له أشدّ منها وإنّهم قد رموك بحجر الأرض، فإن قيل إنّه لا صبحة لي فاجعلني ثاني اثنين فليس صاحبهم إلاّ من تقرّب وكان في الخلاف عليهم كالنجم، فأبى عليه السلام. وروى محمّ بن يزيد النحوي أنّ أباالأسود كان نازلاً في بني قشير وكانوا يخالفونه في المذهب لأنّ أباالأسود شيعيّاً، فكانوا يرمونه بالليل فإذا أصبح شكا ذلك، فشكا مرّة فقالوا له: ما نحن نرميك ولكنّ الله يرميك. قال: كذبتم، لو كان الله يرميني ما أخطأني. وقال عتبة بن أبي سفيان لعبد الله بن عبّاس: ما منع علي بن أبي طالب عليه السلام أن يجعلك أحد الحكمين؟ قال: أما والله لو بعثني لاعترضت مدارج أنفاسه أطير إذا أسفَّ وأسفُّ إذا طار، ولعقدت له عقداً لا تنقض مريرته ولا يدرك طرفاه ولكنّه سبق قدر ومضى أجل والآخرة خير لأمير المؤمنين عليه السلام من الدّنيا. وقال أبو جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام لكثير: امتدحت عبد الملك بن مروان؟ فقال له: لم أقل له يا إمام الهدى وإنّما قلت له: يا شجاع، والشجاع حيّة، ويا أسد، والأسد كلب، ويا غيث، والغيث موات. فتبسّم أبو جعفر من قوله. الباب العاشر في قافية الراء وفيها خمسة فصول الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه هذه القطعة: أيّامنا بك بيض كلّها غرر ... وعيشنا بك غضّ مونق نضر ووجهك المتجلّي للندى مرحاً ... من نوره تستمدّ الشمس والقمر يا شمس دارة أُفْق المجد كم لك من ... صنايع لم تكن في العدّ تنحصر لله كم لك من معنىً تحير في ... إدراكه العقل والأوهام والفكر قد قلت للمبتغي جهلاً علاك لقد ... جريت لكنَّ عنها شأنك القصر تبغي على ماجد ما رامه أحد ... إلاّ وعاد بطرف عنه ينحسر ذاك الذي ما جرى يوماً لنيل علىً ... إلاّ وقصّر عن إدراكه البصر كم زرته فرأيت الأرض قد جمعت ... في مجلس لفتىً فيه استوى البشر في العسر واليسر فيه لم يخب أملٌ ... ولا تغيّر من أخلاقه الغير كأنّما صلة الوفّاد واجبة ... عليه نصّت بها الآيات والسّور لولاه أصبحت الدنيا بأجمعها ... ما للسماح بها عين ولا أثر فليس في السحب من بخل إذا انقشعت ... لكنّها لحياء منه تستتر أقول: قد اشتملت هذه المقطوعة على القسم الثاني من الإبداع، والإبداع هو أن يخترع المتكلّم معان غير مسبوق إليها. قال عبد الحميد: خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكراً. وهو أي الإبداع ضربان: أحدهما: ما يبتدع عند الحوادث المتجدّدة. لمّا بنى عبد الملك باباً للمسجد الأقصى والحجّاج آخر مثله بإزائه فاحترق باب عبد الملك بالصاعنة دونه فشقّ ذلك عليه، فكتب إليه الحجّاج: وما مثلي ومثلك إلاّ كمثل ابني آدم إذ قرّبا قرباناً فتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر، فسري عنه. ولمّا عصفت الريح بخيمة سيف الدولة وكانت خيمة كبيرة، سقطت، فتطيّر من ذلك، فقال المتنبّي من جملة قصيدة: تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض في الواحد الجحفل ولا تنكرنَّ لها صرعةً ... فمن فرح النفس ما يقتل ولمّا أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنّك لا ترحل فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل أي أشار بما تفعله من الإرتحال.

وممّا اتّفق لي في وصف خيمة تنصب على صحن دار سيّدنا المهدي الشهير بالقزويني في العشر الأوائل من المحرّم لإمامة مأتم الحسين عليه السلام وكانت الخيمة أوّل عام سوداء ثمّ جعل مكانها في العام الثاني بيضاء، فقلت في ذلك: اليوم قد صوّت ناعي الهدى ... يفصح بالنعي ولا يكنّي بنعي قتيل الطف عند ابنه ... المهدي مولى الإنس والجنِّ وقائل ذا السقف ما باله ... ابيضَّ وعهدي فيه كالدجن قلت رأى المهدي مستشعر ال ... سواد حزناً باكي الجفن فصار عيناً كلّه للبكا ... وها هي ابيضّت من الحزن وكان الإمام فخرالدين الرازي يجلس للوعظ إذ أقبلت حمامة وخلفها صقر فألقت نفسها في حجر الإمام، فقال ابن عنين: جائت سليمان الزمان حمامة ... والموت يلمع من جناحي خاطف من نبأ الورقاء إنّ محلّكم ... حرمٌ وإنّك ملجأ للخائف وزارني بعض الأكابر ليلاً فاشتدّ هبوب الريح وارتفع غبار كثير، فقلت في ذلك: بوركت عشيّة زار فيها ... فمرّ المجد ربعنا فأضاء وأظنّ الرّياح قد حسدتنا ... فهي وجداً تنفّس الصّعداء وروى المرزوقي أنّ أبا تمام أنشد المعتصم قصيدته التي يقول فيها: إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس وكان إسحاق الكندي حاضراً فقال: أمير المؤمنين أكبر من كلّ من شبّهته به، فزاد بديهاً: لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شرودا في الندى والبأس فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس فتعجّب الحاضرون من فطنته وذكائه. وثانيهما: ما يبتدع من غير شاهد حال. قال المتنبّي في كافور: فجائت بنا إنسان عين زمانه ... وخلت بياضاً خلفها ومآقيا وقال أيضاً: صدمتهم بخميس أنت غرّته ... وسمهريّته في وجهه غمم فكانت أثبت ما فيه جسومهم ... يسقطن حولك والأرواح تنهزم وقال التهامي: ألا إنّ طيّاً للمكارم قبلة ... وحسان منها ركنها ومقامها تزاحم تيجان الملوك ببابه ... ويكثر في يوم السلام زحامها إذا عاينته من بعيد ترجّلت ... وإن هي لم تفعل ترجّل هامها وجاء قول بعض المغاربة في الحمر أبدع ما يكون: ثقلت زجاجات أتتنا فرّغاً ... حتّى إذا ملأت بصرف الراح خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح وروي أنّ أبا نؤاس مرّ على أديب يفيد النّاس بشعره، فلمّا افتتح قوله في الخمر: ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر وقف وقال: أُنظر ما عساه يقول. فقال الأديب: أشار الشاعر بقوله: وقل لي هي الخمر إلى حظّ حس السمع ليحظى بتمام حسّه، فتعجّب منه أبو نؤاس وقال: ما هجس هذا المعنى في خلدي. وقال الأصمعي: قال لي الرشيد: قد أحسن الأخطل في قوله: تدبّ دبيباً في العظام كأنّما ... دبيب نمال في نقاً يتهيّل فقلت: أحسن منه قول أبي نؤاس: إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همّه من صدره برحيل والإبداع في هذه المقطوعة من هذا القسم قولي: وليس بالسحب من بخل إذا انقشعت ... لكنّها لحياء منك تستر نبذة من بدايع النحويّين: دخل رجل مجلس كافور فقال: أدام الله أيّام سيّدنا - بكسر الميم - ففطن الناس فقال: لا غرو إن لحن الداعي لسيّدنا ... وغصّ من دهش بالريق أو بهر فقد تفألت من هذا لسيّدنا ... والفال مأثورة عن سيّد البشر بأن أيّامه خفضٌ بلا نصب ... وإنّ أوقاته صفو بلا كدر وقال المتنبّي: حولي بكلّ مكان منهم خلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن وقال أيضاً: إذا كان ما تنويه فعلاً مضارعاً ... مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم أي إذا نوى أمراً يفعله مضى قبل أن يقال لا تفعل أو لم تفعل لأنّه لم يسبق إلى ما يهمّ به نهي أو فتور. ولمح الصفي في هذا المعنى في قوله وهو ما نحن فيه: ما شدّد النون الثقيلة إنّه ... إن قال يسبق فعله التأكيدا وقال بعضهم: كأنّ النوى إذ نادت الدمع رخّمت ... ولا أثر فيها أجاب على العين وأوضح هذا المعنى من قال:

عجبت من دمعتي وعيني ... من قبل بين وبعد بين قد كان عيني بغير دمع ... فصار دمعي بغير عين وقال الآخر: طيب الهواء ببغداد يشوّقني ... قدماً إليها وإن عاقت معاذيري فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت ... طيب الهوى بين ممدود ومقصور وقال ابن عنين: مال ابن مازة دونه لعفاته ... خرط القتادة أو مناط الفرقد مالٌ لزوم الجمع يمنع صرفه ... في راحة مثل المنادي المفرد وقال ابن أبي الأصبع: أيا قمراً من حسن وجنته لنا ... وظلّ عذاريه الضحى والأصائل جعلتك بالتمييز نصباً لناظري ... فهلاّ رفعت الهجر والهجر فاعل تنقّلت من طرفي لقلبي مع النوى ... وهاتيك للبدر التمام منازل فلقد أبدع في قوله: من طرفي لقلبي، لأنّ القلب والطرف من منازل القمر، والطرف رائد القلب. وقال الأرجاني في هذا المعنى وإن لم يكن ممّا نحن فيه: إن تغش طرفي وقلبي نازلاً بهما ... فالطرف والقلب كلٌّ منزل القمر واستأذن رجل سيبويه فلم يأذن له وقيل: ينصرف. فقال: اسمي أحمد وهو لا ينصرف. فقيل: أحمد في المعرفة لا ينصرف وأمّا في النكرة فمنصرف. ولنرجع إلى ذكر المدائح: قلت في مدحه هذه القصيدة وأرسلتها إليه: عين فتّانة لها القلب خدر ... سحرتني وأعين الغيد سحر طفلة الحيّ شأنها اللهو لكنْ ... حالتا لهوها خضابٌ وعطر أقرأتني الجمال حرفاً فحرفاً ... وهو في صدرها المطرّز سطر وجلت لي وما سوى الثغر كاسٌ ... وسقتني وما سوى الريق خمر وهدتني بوجهها وهو بدر ... تحت ليل أضلّني وهو شعر نشرته دلاً على ولفتني ... عناقاً فلذَّ لفٌّ ونشر ياسقى عهدها حيّاً من ثنايا ... ها ودمعي له وميض وقطر جرحتني بلحظها ثمّ قالت ... هل لجرح الهوى بقلبك سبر لا وكاسي محمد حسن الفخر ... بقلبي جرح الهوى مستمرّ حيّ في مطلع السماح هلالاً ... عن عيون الراجين لا يستسرّ مستهلاًّ على يد اليمن فيه ... بارك السعد وهو طهرٌ أغرّ ونمى في العلاء غصن صباه ... وهو من ريق المحاسن نضر ما نضى بردة الشباب ومنه ... ملؤ برد الزمان مجد وفخر خلفكم يا مشائخ الحزم عجزاً ... فات سبقاً كهل التجارب غرّ من إذا حلبة الخطابة فيها ... فمّه والخصوم سبق وحضر قال بالفصل ناطقاً فأرموا ... وادّعى الففضل سابقاً فأقرّوا ورأوا نثره الفريد فقالوا ... أكلامٌ يفيه أم فيه درّ يده ليس تألف الدرهم المض ... روب مكثاً لكن عليها يمرّ كره البخل مذ ترعرع حتّى ... سمعه عن سماع لا فيه وقر وإلى الآن ليس يدري سوى قول ... "بلى" منذ قالها وهو ذرّ ذو محيّاً يكاد يقطر ماء ال ... بشر منه لو كان للبشر قطر وسجاياً كالروض باكره الطلُّ ... نسيم الصبا عليه يمرّ فهو والمكرمات روح وجسم ... ووشاح يزينها وهي خصر وبإيداعها له السرّ لطفٌ ... وبتفويضها له الأمر جبر يا أخا المكرمات وهو نداء ... أجد المكرمات فيه تسرّ هاك سيّارة مع الريح لكن ... تلك شر رواحها وهي دهر بنت فكر على النوى لك أمت ... لم يلد مثلها لمثلك فكر كلّما أثقل الحيا من خطاها ... خفّ فيها هوىً إليك مبرّ حيّها خير ما اجتليت عروساً ... بنت يوم قبولها منك مهر أخت عذر جائت على العتب تسعى ... ألها إن تأخّرت عنك عذر وقلت في أبيه محمّد الصالح هذه القصيدة الفائقة بمحاسنها الرائقة: بنور وجهك لا بالشمس والقمر ... أضاء أُفق سماء المجد والخطر وفي البريّة عن معروفك انتشرت ... رواية الشاهدين السمع والبصر تحدّثوا عنك حتّى أنّ كلَّ فم ... به عبير شذىً من نشرك العطر وخلقك الروضة الغنّاء ترهم في ... نطاف بشرك لا في ريق المطر وكفّك البحر ما غاض الرجاء به ... إلاّ وأبرز منه أنفس الدرر ودار عزّك تغدوا الوفد ناعمة ... فيها بأرغد عيش مونق نضر

بها الضيوف تحيي منك أكرم من ... يعطي الرغائب من بدوِ ومن حضر حيث الجفان على بعد تضيء بها ... للطارقين ضياء الأنجم الزهر لقد غدا الأُفق العلويّ يحسدها ... على مواقدها في سالف العصر وودّض لو أنّها كانت له بدلاً ... من الكواكب حتّى الشمس والقمر فالشهبوالبدر يطفي الصبح ضوئهما ... والشمس في الليل لم تشرق ولم تنر لكنَّ دارك لم تبرح مواقدها ... مضيئة تصل الأصباح بالسحر ما زلت ترفع فيها للقرى كرماً ... ناراً شكا الأُفق منها لافح الشرر يا مقرض الله في عصر به وثقت ... بنوا الزمان بكنز البيض والصفر يفدي يديك ابن حرص لا حياء له ... يلقى العفاة بوجه قدَّ من حجر جرى لعلياك من جهل فقلت له ... لقد جريت ولكن جري منحدر سما بك الحظ لكن عن علاء أبي ال ... مهدي حطّك ذلّ العجز والخور أنت المعذّب بالأموال تجمعها ... خوف البغيضين من فقر ومن عسر وهو المفرّق ما يحويه مدّخرا ... كنز الخطيرين من حمد ومن شكر مهذّب يتبع النعمى بثانية ... دأباً وجود سواه بيضة العقر يا ناظراً سير الأمجاد دونك خذ ... منه العيان ودع ما جاء في السير تجد به من أبيه كلّ مأثرة ... ما للحيا مثلها في الجود من أثر له مناقب مجد كلّها غرر ... في جبهة الدهر بل أبهى من الغرر ينمى إلى طيبي الأعراق من عقدوا ... على العفاف قديماً طاهر الأزر خذوا بني الشرف الوضّاح كاعبة ... مولودة الحسن بين البدو والحضر لم تجلَ في مجلس إلاّ بوصفكم ... تبسّمت كابتسام الروض بالزهر أن يصد نقص أناس فكر مادحهم ... ففضلكم صيقل الألباب والفكر لا زال بيت علاكم للورى كرماً ... تحجّه الوفد مأموناً من الغير ومن الشعر الأجنبي القصيدة الرائيّة التي قلتها في الثناء العاطر على صدر الوزارة الأعظم وقد سبقت الإشارة إليها في حرف الحاء عند ذكر الحائية التي قلتها في صبحي بك، والرائيّة هذه: أحقُّ بالعزّ من لا يرهب الخطرا ... ولا يعاقد إلاّ البيض والسمرا والسيف أجدرُ أن يستلّه لوغىً ... من ليس يغمده أو يدرك الظفرا وأبيض العرض من في كفّه صدرت ... بيض القواضب من فيض الدما حمرا لم تقض من وصله بكر العلى وطراً ... حتّى من الهام يقضي سيفه وطرا وحوزة الملك أولى في حياطتها ... من بات في حفظها يستعذب السهرا وذي الرعيّة أحرى في سياستها ... من بالتجارب غور الدهر قد سبرا ولى يملك يوماً رقَّ مملكة ... من ليس يملأ منها السمع والبصرا ولا تراض أقاليم البلاد لمن ... لم تسق من خلقيه الصفو والكدرا والحلُّ والعقد لم يورد صوابهما ... إلاّ الّذي ثقةً عن رأيه صدرا أما نظرت لسلطان البريّة من ... على الرعيّة ظلّ العدل قد نشرا كيف اغتدى مورداً أسرار حضرته ... صدراً أحاط بأسرار النهى خبرا فقال خذ منصباً أُمّ العلى نصبت ... أسرّة لك فيه الأنجم الزهرا هذي الوزارة فاحلل في ذوائبها ... فالحزم للشمس إن تستوزر القمرا فقام في رأيه والسيف يجمع من ... أطراف مملكة الإسلام ما انتُشرا مؤيّداً بجنود من مهابته ... قد انتضى معه آرائه زبرا إن يجر في حلبات الرأي مبتدراً ... أخلت له الوزراء الورد والصدرا وسلّمت لعلاه الأمر مذعنةً ... لما يقول نهى أن شاء أو أمرا ذو غرمة مثل صدر السيف باترة ... لو لاقت الدهر قرناً عمره انبترا رعى المحبّين فيها البدو والحضرا ... وروّع المبغضين الروم والخزرا قد قلّد الملك منه سيف ملحمة ... لو يقرع الصحر بأساً بالدما انفجرا كم خاض بحر وغىً بالحزم محتزماً ... بالنقع ملتثماً بالصبر متّزرا في جحفل إن سرى ضاقت بأوّله ... الدنيا وآخره لم يدرَ أين سرى وجاء والهمّة العلياء فيه أتت ... كالسيل من قلل الأجبال منحدرا فعال منتصر لله قام بها ... في الله منتهياً لله مؤتمرا

فصل في التهاني

إن ينتقم فحقوق الله يأخذها ... وليس يلغي حقوق الله إن غفرا حلو السجايا رقيق طبعه عذبت ... له خلائق ينفي صفوها الكدرا خلائق كالحميا لو ترشفها ... من كان يبغضه في حبّه سكرا آنستِ يا وحشة الدنيا بذي كرم ... أحيى بجدواه ميت الجود فانتشرا ليس السحائب تحكيه وقد علمت ... من كفّه ماؤها قد كان معتصرا ولا البحار تضاهيه وإن طفحت ... أمواجها فهي بخلاً تكنز الدررا يا من نرى النّاس أنّى عاب غائبةً ... جميعها وحضوراً أينما حضرا أمجلساً لك هذي الأرض قد جمعت ... أم أنت قد ضمنت أبرادك البشرا إنّ الصدارة لم يصلح سواك لها ... كأنّها أبداً عينٌ وأنت كرى لا زال سعدك بالإقبال مقترناً ... يستخدم المبهجين الفتح والضفرا وكان عبد الباقي أفندي العمري نظم قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأرسلها إليّ طالباً تخميسها فخمّستها وأرسلتها إليه، فبعث إليّ بمقطوعة يمدحني بها على ذلك - وستأتيان في حرف القاف - فبعثت إليه بهذه القصيدة شاكراً: باتت تروّحني بنشر عبيرها ... بيضاء تجلو النيّرين بنورها وجلت عَلَيّ مدامةً بمفاصلي ... منها وجدت فتور عين مديرها ورأيت شعلة خدّها من كأسها ... قد أوجستها مهجتي بضميرها ودنت إليّ فأسفرت عن وجنة ... حسداً تموت الشمس عند سفورها ورنت بناظرتي عقيلة ربرب ... بكرت تريع إلى نطاف غديرها وصفت لعيني في بدايع حسنها ... حور الجنان فخلتها من حورها ثمّ انثنت غنجاً تصدُّ بمقلة ... سرقت من الآرام لحظ غريرها وتستّرت بضفائر لو تحتها ... سرت الكواكب مااهتدت لمسيرها باتت ترفرف بين أنفاس الصبا ... وتضوع بين ورودها وصدورها حتّى لقد حملت شذىً من عرفها ... أشفقت تعرفه الورى بعبيرها فوددت أقطع كفَّ ماشطة الصبا ... كي لا ترجّل جعدها بمرورها ولئن ضننت على النسيم بها فلا ... عجبٌ ولو وافى بوقت هجيرها فبمقلتي لو لم أخف إنسانها ... لحجبتها عن لحظ عين سميرها وكذبت ما في العين إنسان ولا ... في العالمين صغيرها وكبيرها من أين إنسان لعيني غيرها ... والناس غير أبي الحسين أميرها ألها أميرٌ في البلاغة غيره ... وبها تشير إليه كفّ مشيرها ولئن إليه غدت تشير فإنّها ... ما أدركته بفكرها لقصورها فرأت مناقب منه فاروقيّهً ... ما إن تزيّنت العلى بنظيرها ومآثراً عمريّة بقليلها ... كثرت عداد الشهب لا بكثيرها نفحت بعارفة عَلَيّ خطيرة ... قد أفحمت منّي لسان شكورها جذبت بضبعي فارتقيت بها على ... هام المجرّة رافلاً بجبيرها فلو أنّ أعضائي تحوّل ألسناً ... تثني عليه إلى انقطاع دهورها بقصائد حبّات قلبي لفظها ... وسواد أحداقي مداد سطورها ما كنت أبلغ شكرها فيه ولو ... أنّي ملأت الكون في تحريرها هو ذاك منتجع الفصاحة مجتنى ... ثمر البلاغة مستمدّ غزيرها ربّ القوافي السائرات بحيث لم ... يقطع نهاية سيرها ابن اثيرها وكميُّ مزبرة ترى لسن الضبا ... خرساً إذا نطقت بآي زبورها من عن لسان الروح أصبح ناطقاً ... لا عن لسان لبيدها وجريرها بزواهر نجمت فأطفأ ضوئها ... شعل النجوم الزهر عند ظهورها وكأنّما طبعت بمرآة السما ... بدل الكواكب شكلهنّ بنورها لم ينشها إلاّ عقوداً ناثراً ... لنظيمها أو ناظماً لنثيرها مدحاً يفصّلهنّ مابين الورى ... لنذيرها الهادي وآل نذيرها إنّ القوافي ما برحن فواركاً ... لم تمنح الشعراء غير نفورها واليوم قد صارت طروقة فحلها ... منه وفرّ نفارها بمصيرها مسكت خطام قيادها يده وهم ... لم يمسكوا إلاّ خطام غروّها فله ذكور اللفظ دون إناثها ... ولهم إناث اللففظ دون ذكورها لا زال منها ناظماً مالم يدع ... فضلاً لأوّلها ولا لأخيرها فصل في التهاني قلت مهنّياً لأبيه محمّد الصالح وقد عوفي من مرض شديد:

أيماض برق أم ثغور ... في ضمنها نطف الخمور حلب الغمام رضابها ... وحديثها حلب العصير لمّا نشرن لها حدي ... ث الوصل كالروض النضير ساقطن عن برد تنظّ ... م رائق الدرّ النثير سقياً لليلة لهونا ... في ذلك الرشأ الغرير والكأس دائرة عَلَيّ ... تعينها عين المدير فمفاصلي وجفونه ال ... وسنى سواء في الفتور نشوات سكر أمكنت ... ني من محالات الأُمور لو يعتفيني عندها ... ربّ الشويهة والبعير لوهبت من طربي له ... ربّ الخورنق والسدير الآن دع يا سعد قا ... صرة الغواني للقصور وانهض لبشرىً طبّق ال ... دنيا بها صوت البشير بشفاء من عبرت معا ... ليه على الشعرى العبور مولىً غدت بشفائه ... الأيّام باسمة الثغور عبق بعطفيه عبير ال ... مجد لا عبق العبير تقف المكرم عنده ... وتسير حيث يقول سيري وإذا نظرت إلى الزما ... ن بعين منتقد بصير لم تلفه إلاّ صحي ... فة مأثرات بني الدهور وسوى مآثره الجمي ... لة ليس فيها من سطور تغنيه أوّل نظرة ... في الرأي عن نظر المشير ويرى بعين وروده ... في الأمر عاقبة الصدور تغذو حلوبة جوده ال ... عافين بالدَرّ الغزير يتشطّرن ضروعها ... لا بالثلوث ولا الشطور زرعوا رجائهم بجا ... نب جوده العذب النمير فنمى ورفَّ عليه مث ... ل النبت رفَّ على الغدير لولا نضارة ولده ... لحلفت عزَّ على النضير إذ من بهاه بهائهم ... وكذا الشعاع من المنير أوما ترى للبد ما ... للشمس من شرف ونور يا معشراً لولاهم ... أضحى السماح بلا عشير قرّت عيونكم بصحّ ... ة صفوة الشرف الخطير وهناكم المنشور من ... هذا السرور إلى النشور ولمّا قدم أخوه المصطفى من زيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا سلام الله عليه نظمت في تهنئته هذه القصيدة: طرب الدهر فاستهلّ منيرا ... يملأ الكون بهجة وسرورا وسرت نفحة من البشر فيه ... ضمخت خيمة السماء عبيرا عدن أوقاته رقاق الحواشي ... لك تهدي بشاشةً وحبورا كلّ وقت يمرّ منها تراه ... بارد الظل طيّباً مستنيرا فكأنّ الهجير كان أصيلاً ... وكأنّ العشيّ كان بكورا بوركت من صبيحة في ضحاها ... وفد اليمن بالسعود بشيرا وإلى طلعة جلّت كلَّ غم ... ببنان الإقبال أضحى مشيرا فتأمّل عقود هذي التهاني ... كيف زانت به الليالي النحورا طاب نشر الأفراح في بشر قوم ... لهم الفضل أوّلاً وأخيرا شرعٌ في العلى وغير عجيب ... فلها رشح الكبير الصغيرا معهم يولد النهى فترى اليا ... فع كهلاً والكهل شيخاً كبيرا خاطروا في العلى فناهيك فيهم ... شرفاً باذخاً ومجداً خطيرا منهم يستضاء شرقاً وغرباً ... بوجوه تكسوا الكواكب نورا فمع الشمس يشرقون شموساً ... ومع البدر يشرفون بدورا أيّها العصر لا أرى لك مثلاً ... زانك المصطفى فباهي العصورا قبله هل مسحت غرّة صبح ... من لثام الأسفار أبدت سفورا شخصت نحوه العيون ولكن ... عاد بعضٌ يقذي وبعضٌ قريرا فبعين شعاعه كان ناراً ... وبعين شعاعه كان نورا بلّغته الرضا عزيمة نفس ... كبرت أن ترى الخطير خطيرا كم طوى البيد باسطاً كفّ جود ... نشرت ميّت الندى المقبورا واستقلّ البحور جوداً فأجرى ... من أسارير راحتيه بحورا ما نحا بلدة بمسراه إلاّ ... وأبت نحو غيرها أن يسيرا وإذا ذكره أطاف بأخرى ... كاد شوقاً فؤادها أن يطيرا فأتى مشهداً لمن طاف فيه ... قد أعدّ الإله أجراً كبيرا فيه لطف الله الذي من يزره ... زار في عرشه اللطيف الخبيرا وانثنى راجعاً بأحشاء قوم ... معه سافرات وعفن الصدورا زار بغداد من بها ركز اليو ... م لواء المفاخر المنشورا راقها منه طالعاً بدر مجد ... لا رأت للغروب فيه نذيرا

فصل في الرثاء

ما تجلّى بباهر الضوء إلاّ ... عاد طرف الحسود عنه حسيرا فصل في الرثاء لمّا توفّي للهمام الماجد عبد الكريم أخي الفاضل الصالح ولد قد جاوز بلوغ الحلم بقليل يُسمآى محمّد ويُلقّب بالكاظم، نظمت في رثائه هذه القصيدة معزّياً بها عمّه وأباه: لا أرى للزمان ما عشت عذرا ... أفيدري لمن تأبّط شرّا وبمن بغتة ألمّ بخطب ... ساء ذاالفضل فيه عبداً وحرّا ردَّ فيه حزناً نواصي الليالي ... ووجوه الأيّام شعثاً وغبرا جذَّ من دوحة المكارم غصنا ... فذوى بغتةً وقد كان نضرا يا هلالاً رجوت يكمل بدراً ... محقته يد الردى فاستسرّا من عذيري من لائم فيك لا أق ... بل عذلاً وليس يقبل عذرا لام حتّى بلومه ضقت ذرعاً ... مثلما ضقت في مصابك صدرا قلت دعني ومقلة لي عبرى ... ببكاها ومهجة لي حرّا لا تسمني قرار عيني فهذا ... ضوئها في ثرى اللحود استقرّا هو منّي شطر الحشا أَوَ أسلو ... بعد ما من حشاي فارقت شطربا عجباً صرت فيه أسمح للتر ... ب ومنه على أطرح وقرا بعد ضنّي على العيون جميعاً ... أن ترى ذلك المحيّا الأغرّا كان لي في حايته العيش حلواً ... وهو اليوم بعده قد أمرّا وبحسبي ما عشت داءً لنفسي ... أنا أبقى ويسكن اللحد قسرا سوئةً للزمان مالي أراه ... ساء من أحسنوا لأبناه طرّا هم بنوا المصطفى ومن في البرايا ... كبني المصطفى سماحاً وبرّا قد كساهم محمّد صالح الأف ... عال برداً من فخره طاب نشرا ورعٌ من رآه قال لعمري ... إنّ لله في معانيك سرّا يا بني المصطفى رسختم حلوماً ... فغدوتم على النوائب صبرا ذاالجوى أنتم حريّون فيه ... لكن الصبر أنتم فيه أحرى ومصاب الماضي يهون إذا ما ... كنت أنت الباقي وإن عزَّ قدرا وقال عمّنا المهدي في رثاء الفاضل الصالح محمّد وتعزية أخيه وولديه المصطفى والحسن: قوّض الخير عن الدنيا بأسره ... يوم قد سار أبوالخير بقبره وانطوت لمّا انطوى في لحده ... بركات الأرض في طيّب عفره سلب الدنيا الردى غيث ندى ... ملأ الدنيا ومن فيها بقطره فدهاها بعده الجدب الذي ... لفَّ منها السهل والحزن بشره وعليه صرخ العالم في ... صرخة قد ثقفت أضلاع صدره حقّ أن يهلك من عظم الأسى ... وجوى الندب على واحد دهره فعليه منه فاض الخير حتّى ... بلغ الخير إلى هيماء قفره فبنى فيها بيوتاً يحسب ال ... سفر لو قد حلّها حلّ بمصره وبه كم من أسير بذل ال ... تبر حتّى فكّه من قيد أسره وفقير بائس ما إن أتى ... بيته إلاّ انجلت ظلمة فقره وبه نعمائه تنسيه ما ... كان فيه من أذى شدّة عسره مات من تحيى به الهلكى وها ... هي ماتت بعد محييها بوفره بأبي من شيّد الدين وفي ... كلّ ما يملكه قام بنصره لم تدع حوبائه من عمل ... صالح إلاّ أعدَّته لحشره آه للمجد فمنه الدهر قد ... جب ظهر العز في صارم غدره ولعظم الخطب في عترته ... حلم أرساها حجىً طار بذعره وهو لا يشعر إذ أشغله ... وجده في مأتم الحزن بسكره يا أباالمهدي أورثت الورى ... شجناً أكبادها ذابت بحرّه فيه قد ماتت ونشر المصطفى ... منك لمّا فاح أحياها بعطره وجدت ما فقدت منك به ... لم يزحزح مجده عن مستقرّه فتسلّت عنك فيه إذ به ... منك فضلٌ أعجزالنّاس بحصره أيّها الرّاحل عن بيت عُلَىً ... تشرق الزوراء من أنوار فخره إنّ لله بهذا البيت سرّاً ... بذراريك بدت غاية سرّه ما براها الله إلاّ لنداىً ... يدفع المضطرّ فيه كرب ضرّه وبه جيلاً فجيلاً يرد ال ... وفد من غيث نداها صفو درّه لا تخل روض الندى فيه ذوى ... فسحاب الجود هطّال بقطره بثرى لحدك طب نفساً فذا ... حسن الجدوى طغى زاخر بحره وأتى في كرم ما إن على ... مثله قد فتحت مقلة دهره

يافع تحسب منه حزمه ... حزم من قد أكمل الدهر بعمره يتلقّى الوفد في وجه يرى ال ... وفد ما يأمله منه ببشره باذلاً في بيت علياك له ... من صفايا ماله خالص تبره وهو فيه وأخوه المصطفى ... مثلما قمت به قاما بأمره إلى أن يقول في التعزية: يا عقوداً للمعالي نظمت ... من لئالي الشرف المحض ودرّه لا عراكم بعد هذا الخطب رزء ... ما ثبير قد رسى في مستقرّه وقال عمّنا المهدي أيضاً في رثاء جعفر بن محمّد الرضا وكان سقط من أعلى السطح فمات، وقد تقدّمت مرثيتي له في قافية الحاء معزّياً أباه الرضا وجدّه الصالح: حسب الدهر قد أصاب صغيراً ... فرآه في العالمين كبيرا ويله هل سواه شبل هصور ... لفّ في البرد منه ليثاً هصورا أو هلال قبل التمام سواه ... قد بدا للأنام بدراً منيرا إنّ آبائه أعدّته كنزاً ... لهم في سنيهم مذخورا وهي لو أن تحظّى به لأراها ... من أسارير راحتيه البحورا عجباً في حمى أبيه دهاه ... قدر وهو يدفع المقدورا فعلى شبله الغضنفر أنّى ... يغتدي في عرينه مقهورا كيف نال الزمان فرع علاء ... كان عنه باع الزمان قصيرا فتردّى من أوجه ساقطاً في ... الأرض ذاو وكان غضّاً نضيرا ليت شعري ما كان جعفر موسى ... ولو أن كان مرتقاه الطورا كيف قد خرَّ من رفيع علاه ... صعقاً في ابتلائه مسرورا لهف نفسي لكوكب ما رأى النا ... س له في سما العلاء نظيرا وصغير قد حيّر الفكر في أخ ... لاقه كيف لو يكون كبيرا قد رأينا مخائلاً منه لو يب ... قى رأينا اليسير منها خطيرا بينما نحن نرتجي أن نرى في ... مقبلات الأيّام منها بشيرا ونعدُّ الأيّام يوماً فيوماً ... فنراها من طولهنّ شهورا إذ دهتنا سوداء في فقده قد ... سلبتنا إنسانها والنورا ما لذي الحادثات قد أبدلتنا ... بالهنا فيه عبرةً وزفيرا وأعادت منّا التهاني مراث ... لفظها يوقد القلوب سعيرا ما لساني فيها تأخّر عيّاً ... ومتى أعيت القوافي جريرا إنّه قد رأى المصاب جليلاً ... ولأمر قد لاحظ التأخيرا ولعمريى محمّد صالح إن ... يغتدي الذنب عنده مغفورا ماجد إن نظرت شأو علاه ... رجع الطرف عن علاه حسيرا واحد ماله من الناس كفوٌ ... فيساويه في العلى تصديرا ذو لسان يوم الخصام يراه ال ... تخصم في نحره حساماً طريرا وإذا في الجدال أشكل أمر ... قد رأى حلّه الحصيف عسيرا فهو قبل الإصدار إن أورد الرأ ... ي رأى في المغيّبات الأُمورا غمز الدهر حلمه فانثنى الده ... ر سفاهاً في حلمه مغرورا فغدا مسخطاً رضاه بعقد ... منه قد ردّ نظمه منثورا وهو قد أسبغت يداه عليه ... نعماً لم دا بهنّ كفورا ولكم من أبناه أحيى كبيرا ... بالندى لم أمات منه صغيرا ابني الأنجم الزواهر أنتم ... يلتقي الخطب طفلكم مسرورا وفتاكم لكلّ أمر عظيم ... ما يراه في الله إلاّ حقيرا بدّل الله حزنكم فرحةَ ما ... دامت الأرض للورى وسرورا وكتب عمّنا المذكور رسالةً إلى الفاضل الصالح محمّد يعزّيه عن ولد صغير له توفّي قبل فطامه وشفّعها بقصيدة فريدة أثبتها هنا، وبها يعلم أنّه هو المجلي في هذه المحلبة التي قلّما جرى فيها فارس من فرسان القريض، ولم يكبّ به الطرف، ويهوي إلى حيث لا يبصره الطرف، وهذه القصيدة: جهلت فقالت مات وهو صغير ... وصغير أبناه الكرام كبير كالعين أصغر ما بها إنسانها ... وإلى السماء يكون منه النور أيضرّه صغرٌ وفيه شارةٌ ... للناظرين إلى علاه تشير؟ أنظر مخائله فها هي بشّرت ... أن ما له بين الأنام نظير هو كالهلال إذا استتمّ كماله ... فسناه في أُفق السماء منير ويعمُّ أهل الأرض نور ضيائه ... وعليه أبناء السبيل تسير من عطفه للخفر عند رضاعه ... قد ضاع للشعرى العبور عبير أوما درت شبل الهصور يعود إن ... أخطاه صرف الدهر وهو هصور

فصل في الغزل

أهون بأحداث الزمان وإن تكن ... لعظيم أبطال الأنام تبير قد جائته في الرضاع وقلبها ... فزعاً بجنح الرعب منه يطير هي لم تهبه لقوّة فيه وهل ... من قوّة للطفل وهو صغير لكنّها نظرت مخائل للعلى ... فيه عظائم شأنهنّ كبير غالته غصناً جذَّ في سيف الرّدى ... من دوحة العلياء وهو نضير كانت ترجّيه لأنباها الورى ... إن فيهم خطب ألمّ كبير فالآن قد قطع الرجا منه فمن ... لبنيهم في الحادثات يجير مهلاً إذا سلم الأصول وخولست ... بعض الفروع فليس ذاك يضير ولها محمّد صالح يبقى حمىً ... مادام باق في الزمان ثبير المستجار بظلّه في حيث لا ... من رائعات الحادثات مجير شهم إذا ما رمت تحصي وصفه ... لم يحصه المنظوم والمنثور رفع المعالي وهو قطب سمائها ... فعليه أفلاك العلاء تدور في الكرخ إن فتحت لطيمة مجده ... منها وراء النهر فاح عبير وإذا انطوى فخر الكرام ففخره ... في الخافقين لوائه منشور تدعى أنامله مجازاً أنملاً ... وحقيقة هي في العطاء بحور ابني الأطائب كلّ فرد منكم ... بعظيم أجر الصابرين خبير في الله تلتذّون فيما نابكم ... ولديكم الأمر الجليل حقير ولكلّ ما تستصغرون مصابه ... فجزائه عند الإله كبير فصل في الغزل قلت فيه: إنّ التي سكنت ضميري ... في حسنها سلبت شعوري برشاقة القدّ الرطيب ... ولفتة الظبي الغرير قد أرهفت من لحظها ... سيفاً ضريبته ضميري قسماً بعامل قدّها ال ... خطّار يخطر في الحرير ما أسكرتني خمرة ... لولاك يا عين المدير وقلت أيضاً متغزّلاً: مرّت بنا أمس تيميّة ... ساحبةً أردانها العاطره آنسة الدل ترى وهي إن ... آنستها وحشيّه نافره قد جذبت أحشائنا مذ غدت ... ترمقنا بالنظرة الفاتره فانجذبت من شغف نحوها ... تسبق منّا الأرجل السائره وعاد منّا كلُّ ذي صبوة ... وفي حشاه رجله عاثره الفصل الخامس في الهجاء قلت في ذلك: ما أكثر النّاس إلاّ إنّهم بقرٌ ... تأتي المثالب أفواجاً إذا ذكروا لو شام آدم بعضاً من فضائحهم ... لما أحبّ إليه تنسب البشر الباب الحادي عشر: في قافية الزاء وفيها فصل في المديح قلت في مدحه هذه القطعة الباهرة: ودار عُلىً لم يكن غيرها ... لدائرة الفخر من مركز بها قد تضمّن صدر النّديّ ... قتىً ليديه الندى يعتزي صليب الصفاة صليب القناة ... عود معاليه لم يغمز أرى المدح يقصر عن شأوه ... فأطنب إذا شئت أو أوجز فلست تحيط بوصف امرء ... نشا هو والمجد في حيّز ربيب المكارم ترب السماح ... قرى المعتفي ثروة المعوز فأيّ العوارف لم يبتدىء ... وأيّ المواعد لم ينجز فتى في صريح العلى ليس فيه ... لكاشح علياه من مهمز وذو هاجس أينما زجّه ... فما طلب الغيب بالمعجز تراه خبيراً بلحن المقال ... بصيراً بتعمية الملغز نسجن المكارم أبراده ... وقلن لأيدي الثنا طرّزي ترى الدهر يحلب من كفّه ... لبون ندىً قطّ لم تغرز فأمّا قولي فيها: تراه خبيراً بلحن المقال ... بصيراً بتعمية الملغز فقد اشتمل على ذكر اللحن والتعمية واللغز؛ فأمّا اللحن فهو الكناية عن الشيء والتعريف بذكره والعدول عن الإفصاح عنه، قال الله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ في لَحْنِ القَوْلْ) . وقال الشاعر: ولقد وحيت لكم ليكما تفطنوا ... ولحنت لحناً ليس بالمرتاب وقال الآخر: وحديث ألذّه وهو ممّا ... ينعت الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما جاء لحنا وقيل: إنّ المعنيّ من اللحن في هذاالبيت هو الفطنة وسرعة الفهم على معنى ما روي عن النبي عليه السلام أنّه قال: لعلّ أحدكم أن يكون ألحن بحجّته، أي أفطن لها وأغوص عليها.

وأخبر أبو عبد الله محمّد بن عمر بن موسى المرزباني قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله العسكري قال: حدّثنا العنبري قال: حدّثنا علي بن إسماعيل اليزيدي قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال: تكلّمت هند بنت أسماء بن خارجة فلحنت وهي عند الحجاج، فقال لها: تلحنين وأنت شريفة في بيت قيس؟ قالت: أما سمعت قول أخي مالك لامرأته الأنصاريّة؟ قال: ما هو؟ قالت: قال: منطق صائب ونلحن أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحناً فقال لها الحجاج: إنّما عنى أخوك اللحن في القول إذا كنى المحدّث عمّا يريد ولم يعن اللحن في العربيّة فأصلحي لسانك. قال السيّد المرتضى: وقد ظنّ عمرو بن بحر الجاحظ مثل هذا بعينه وقال: إنّ اللحن مستحسن في النساء الغرائر - جمع غريرة وهي التي لم تجرب الأُمور - وليس بمستحسن منهنّ كلّ الصواب والتشبّه بفحول الرجال، واستشهد بأبيات مالك بعينها وظنّ أنّه اراد باللحن ما يخالف الصواب، وتبعه على هذا الغلط عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري فذكر في كتابه المعروف بعيون الأخبار أبيات الفزاري واعتذر بها من لحن أن أُصيب في كتابه. قال الشريف المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال أخبرنا محمّد بن يحيى الصؤلي قال حدّثني يحيى بن علي المنجّم قال حدّثني أبي قال قلت للجاحظ: مثلك في عقلك وعلمك بالأدب ينشد قول الفزاري ويفسّره على أنّه أراد اللحن في الإعراب وإنّما أراد وصفها بالظرف والفطنة وإنّها توري عمّا قصدت له وتتنكّب التصريح به؟ فقال: قد فطنت لذلك بعد، فقلت: غيّره من كتابك، فقال: كيف لي بتغيير ما سار به الركبان. قال الصؤلي: فهو في كتابه على خطأه. قال الشريف المرتضى: ومن حسن اللحن الذي هو التعريض والكناية ما أخبرنا به أبوالحسن علي بن محمّد الكتاب قال: حدآثنا أبوبكر محمّد بن الحسن بن دريد الأزدي أنّ رجلاً من بني العنبر حصل أسيراً في بكر بن وائل فسألهم رسولاً إلى قومه فقالوا له لا ترسل إلاّ بحضرتنا لأنّهم كانوا عزموا على غزو قومه فخافوا أن ينذرهم فجيء بعبد أسود فقال له: أتعقل؟ قال: نعم إنّي لعاقل، قال: وما أراك عاقلاً، وأشار بيده إلى الليل، فاقل: ما هذا؟ قال: الليل، قال: أراك عاقلاً، ثمّ ملأ كفّيه من الرمل فقال: كم هذا؟ قال: لا أدري وإنّه لكثير، فقال: أيّما أكثر النجوم أم النيران؟ قال: كلٌّ كثير، فقال: أبلغ قومي التحيّة وقل لهم ليكرموا فلاناً فإنّ قومه لي مكرمون - يعني به أسيراً كان في أيديهم من بكر -، وقل لهم إنّ العرفج قد أدبى وشكت النساء وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء فقد أطالوا ركوبها وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معكم حيساً، واسالوا عن خبري أخي الحارث. فلمّا أدّى العبد الرسالة إليهم قالوا: لقد ألحن الأعور، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملاً أصهباً، ثمّ سرّحوا العبد ودعوا الحارث فقصّوا عليه القصّة، فقال: قد أنذركم؛ أمّا قوله: قد أدبى العرفج، يريد أنّ الرجال قد استلئموا ولبسوا السلاح، والعرفج جنس من الشوك، وأدبى أي أورق وصار الورق عليه كالدبا، الدبا صغار النمل، أي ارتحلوا عن الدهناء وأركبوا الصمان وهو الجمل الأصهب. وقوله: أكلت معكم حيساً، يريد أخلاطاً من النّاس قد غزوكم لأنّ الحيس يجمع التمر والسمن والأقط، فامتثلوا ما قال وعرفوا لحن كلامه.

الباب الثاني عشر في قافية السين

وممّا يناسب هذه القضيّة وهو من التعريض بالأفعال دون الأقوال - وهذا وإن كان ذكره في باب التعريض أليق إلاّ أنّ فيه شبهاً بهذه القضيّه - ما ذكر أنّ الأخوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه فقال: إنّ رجلاً لا نعرفه جائنا فلمّا دنا منّا بحيث نراه نزل عن راحلته فعلق على شجرة وطباً من لبن ووضع في بعض أغصانها حنظلة ووضع صرّة من تراب وحزمة من شوك ثمّ أثار راحلته فاستوى عليها وذهب. وكان أيّام حرب تميم وقيس عيلان، فنظر الأخوص في ذلك فعيّ به فقال: أرسلوا إلى قيس بن زهير، فقال: ألم تك أخبرتني أنّه لا يردّ عليك أمر إلاّ عرفت ما فيه ما لم تر نواصي الخيل؟ قال: ما خبرك؟ فأعلمه، فقال: قد تبيّن الصبح لذي عينين، هذا رجل قد أخذت عليه العهود أن لا يكلّمكم ولا يرسل إليكم وإنّه قد جاء فأنذركم: أمّا الحنظلة، فإنّه يخبركم أنّه أتاكم بنوا حنظلة، وأمّا الصرّة، فإنّه يزعم أنّهم عدد كثير، وأمّا الشوك، فيخبركم أنّ لهم شوكة، وأمّا الوطب، فإنّه يدلّكم على قرب القوم وبعدهم، فذوقوه فإن كان حلواً حليباً فالقوم قريبون وإن كان قارصاً فالقوم بعيدون وإن كان مسخاً لا حلواً ولا حامضاً فالقوم لا قريبون ولا بعيدون، فقاموا إلى الوطب فوجوده حليباً، فبادروا إلى الإستعداد وغشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدّين. ويناظر هذه الحكاية ما حكي أنّ قتيبة بن مسلم دخل على الحجّاج وبين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك وهو يقرؤه ولا يعرف معناه وهو مفكّر، فقال له: ما الذي أحزن الأمير؟ قال: كتاب ورد من أمير المؤمنين ولا أعرف معناه، قال: إن رأى الأمير إعلامي به، فناوله إيّاه وفيه: أمّا بعد فإنّك سالم والسّلام، فقال قتيبة: مالي إن إستخرجت لك ما أراد به؟ قال: ولاية خراسان، قال: إنّه ما يسرّك أيّها الأمير ويقرّ عينك، إنّما أراد قول الشاعر: يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر، فولاّه خراسان. قال في القاموس: وقول الجوهري يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم غلط واستشهاده ببيت عبد الله بن عمر باطل، وهذا البيت لعبد الله بن عمر قاله في ابنه سالم. وذكر الجاحظ في كتاب البيان والتبيين قال: خطب الوليد بن عبد الملك فقال: أمير المؤمنين عبد الملك قال: إنّ الحجّاج جلدة مابين عيني وأنفي، ألا وإنّي أقول: إنّ الحجّاج جلدة وجهي كلّه. وأمّا اللغز وهو الأحجية والمعمى، فإن يجيء المتكلّم بأوصاف أو بوصف في ألفاظ مشتركة من غير الموصوف ويشير بها إلى مقصود مجهول أو اسم بتغيير حروفه وإمّا بتصحيف أو بعكس أو حساب. والحاصل أنّ أنواعه كثيرة ليس هذا محلّ حصرها لتشعّبها، ومدار هذا النوع على الحزر والحدس والفطنة ومعرفة الحساب، ولنودر نبذة من الأمثلة في ذلك، قال بعضهم في الضرس: وصاحب لا أملُّ الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد ما إن رأيت له شخصاً فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا آخر الأبد وقال الحريري في الميل: وما ناكح أختين سرّاً وجهرة ... وليس عليه في النكاح سبيل متى يغش هذي يغش في الحال هذه ... وإن مال بعل لم تجده يميل يزيدهما عند المشيب تعاهداً ... وبرّاً وهذا في الفحول قليل وقال الآخر في الخيمة: ومضروبة من غير ذنب أتت به ... إذا ما هدى الله الأنام أضلّت وقال بعضهم في اسم عثمان: حروفه معدودة خمسة ... إذا مضى حرف تبقى ثمان وقال الآخر في القلم: وذي شحوب راكع ساجد ... ودمعه من عينه جاري ملازم الخمس لأوقاتها ... معتكف في خدمة الباري وقال الآخر في الميزان: وقاضي قضاة يفصل الحكم ساكتاً ... وبالحق يقضي لا يبوح فينطق قضى بلسان لا يميل وإن يمل ... على أخد الخصمين فهو مصدق وقال الآخر فيه: وما حاكم أعمى وفصلٌ قضاؤه ... ولو كان ذا عين لما قام بالفصل وفي هذا القدر من الأمثلة كفاية، لأنّ هذا الباب واسع جدّاً لا تحصى أمثلته لكثرتهما. الباب الثاني عشر في قافية السين وفيها فصل في المديح قلت في مدحه هذه القطعة الموجزة: أدر يا نديم علينا الكؤسا ... فقد شاقت الراح منّا النّفوسا

الباب الثالث عشر في قافية الشين

نشطنا عشيّاً لشرب المدام ... فأرعش بكأسك منّا الرؤسا وقم هاتها من بنات الكروم ... على ورد خدّيك تجلّى عروسا كأنّ الندامى على شربها ... بدور دجىً تعاطى شموسا تداعوا لنيرانها ساجدين ... ودعواهم لا عدمنا المجوسا سأحبس ما عشت ركب الرجاء ... بحيث يفكّ النوال الحبيسا لدى من تخيّرت المكرمات ... على نحرها منه عقداً نفيسا له المجلس المحتبي بالنهى ... يراع به من يروع الخميسا وقلّ بأن يفرش الفرقدين ... ويتّخذ البدر فيه جليسا فيابن نجوم جرت في العلاء ... لقوم سعوداً وقوم نحوسا غدا بك يوم الندى ضاحكاً ... ويوم العدا عاد جهماً عبوسا بقيت على عطل الحاسدين ... تحلي يد المدح فيك الطروسا فأمّا قولي: سأحبس ما عشت ركب الرجاء ... بحيث يفكّ النوال الحبيسا فقد وقع فيه التصدير ويُسمّى ردّ العجز على الصدر وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر بكلمة في صدر البيت متقدّمة أو متأخّرة ثمّ يأتي بلفظها أو معناها أو بما تصرّف من لفظها في عجزه. وأمثلة هذا النوع كثيرة وله عدّة ضروب، وأحسنه ما كانت فيه اللفظة افتتاحاً للبيت والأُخرى ختاماً له كبيتنا المذكور، وكقول الشاعر: تمنّت سليمي أن أموت صبابةً ... وأهون شيء عندنا ما تمنّت وقول البحتري: ضرائب أبديتها في السماح ... بها لم نجد لك يوماً ضريبا وقول الآخر: كلّ ريم يعطوا فيصطاد ليثاً ... عند ليث يسطو فيصطاد ريما وقول أبي تمام: وجوه لو أنّ الأرض فيها كواكب ... توقّد للساري لكانت كواكبا وقوله أيضاً: وليل بتّ أكلؤه كأنّي ... سليم أو سهرت على سليم أراعي من كواكبه سواماً ... هجاناً لا تريع إلى المسيم بل شعر أبي تمام أغلبه مبني على التصدير وبذلك بلغ غاية الإستحكام من إتقان مبانيه وتمكّن قوافيه إذا القافية تكون مرادة من أوّل البيت وعليها يبتني نظمه وحسن الصناعة يقتضي ذلك. الباب الثالث عشر في قافية الشين وفيها فصلان الفصل الأوّل في المديح قلت فيه هذه القطعة: ولربّ ريم طرفها ... بالهدب سهم اللحظ راشا ورمى به صبّاً لفرط ... ضناه يرتعش ارتعاشا قالت جنحت لسلوة ... فانظر لسهمكَ كيف طاشا فأجبتها لا والذي ... جعل النهار لنا معاشا أنا في سبيل هوى الكوا ... عب أربط العشّاق جاشا هيهات أسلو أو يقا ... ل سلا الندى حسنٌ وحاشا ذاك الذي لحوائم ... الآمال لم يترك عطاشا مذ قام للعليا مؤمّل ... ها وبحر نداه جاشا ماتت نفوس الحاسدين ... بغيضها والفضل عاشا من لو تساجله الغيو ... ث أراك وابلها رشاشا تستشعر الأسد الغضا ... ب لعظم هيبته اندهاشا وعلى سراج جبينه ... الآمال تحسبها فراشا وقد اشتمل قولي فيها: هيهات أسلو أو يقا ... ل سلا الندى حسنٌ وحاشا على الإيغال وهو ختم البيت بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها، فإنّ بيتنا هذا تمّ معناه قبل القافية إذ المراد منه تعليق حصول السلو عن عشقها على سلو الحسن عن الندى بناء على أنّه تعليق على محال وهو كما تراه حصل بتمامه قبل القافية، فلمّا أتينا بها أفدنا زيادة التنزيه مع المبالغة في ذلك، ومن النظائر قول الخنساء في أخيها صخر ترثيه: وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار فقولها: علم كاف في المقصود وهو تشبيهه بما هو معروف في الهداية، لكنّها أتت بقولها: في رأسه نار إيغالاً وزيادة للمبالغة. وفسّره قدامة فقال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافية، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعراً أفاد معنىً زائداً على معنى البيت كقول ذي الرمّة: قف العيس في أطلال ميّة فاسأل ... رسوماً كأخلاق الرسوم المسلسل أظنّ الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبديد الجمان المفصّل

الفصل الثاني في الرثاء

فالبيت الأوّل تمّ كلامه قبل القافية بقوله: رسوماً كأخلاق الرداء، ولمّا احتاج إليها وأتى بها بقوله: المسلسل أفاد معنىً زائداً، وكذلك صنع في البيت الثاني فإنّه لمّا تمّ كلامه قبل القافية بقوله: كتبديد الجمان، واحتاج إليها وأتى بها بقوله: المفصل، أفاد معنىً زائداً لو لم يأت بها لم يحصل ذلك المعنى. وقال بعضهم: الإيغال مأخوذ من إيغال السير وهو الإسراع وقطع منتهى الأرض وذلك أنّ الشاعر إذا استكمل بيته بتمامه أتى بقافية معنىً زائداً على معنى البيت فكأنّه قد أوغل الفكر حتّى استخرجها. وحكي عن الأصمعي أنّه سُئِل عن أشعر النّاس، قال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، أو ينقضي كلامه قبل القافية فإن احتاج إليها أفاد معنىً. فقيل له: نحو من؟ قال: نحو الفاتح لأبواب المعاني امرؤ القيس وذلك حيث قال: كان عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يشقب ونحو قول زهير: كان فتات العهن في كلّ منزل ... نزلن به حبّ الفنا لم يحطم فكلام امرؤ القيس إنتهى إلى قوله: الجزع، فأفاد معنىً زائداً بقوله: لم يثقب، ومعنى قول زهير إنتهى في الكلام إلى قوله: حبّ الفنا، فأفاد معنىً زائداً بقوله: لم يحطم. وبيان الزيادة فيهما هو أنّ امرؤ القيس شبّه عيون الوحش بالجزع وهو الخرز اليماني الذي فيه سواد وبياض، لكنّه أتى بقوله: لم يثقب، إيغالاً وتحقيقاً للتشبيه، لأنّ الجزع إذا كان غير مثقوب كان أشبه بالعيون. قال الأصمعي: الظبي والبقرة إذا كانا حيّين فعيونهما كلّها سود فإذا ماتا بدا بياضهما وإنّما شبّهها بالجزع وفيه بياض وسواد بعد ما ماتت، والمراد كثرة الصيد، يعني ممّا أكلنا كثرت العيون عندنا. وزهير شبّه ما تفتت من العهن بحبّ الفنا - والفنا شجر ثمره أحمر وفيه نقط سود وقال الفرا: هو عنب الثعلب -، فلمّا قال زهير بعد تمام معنى بيته: لم يحطم، أراد أن يكون حبّ الفنا صحيحاً لأنّه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة. وقيل: كان الرشيد يعجب من قول مسلم بن الوليد: إذا ما علت منّا ذوابة شارب ... تمشّت به مشي المقيّد في الوحل وكان يقول: قاتله الله ما كفاه أن يجعله مقيّداً حتّى جعله مقيّداً في وحل. وحكي أنّ بعض الشعراء قال لأبي بكر بن مجير: إنّي نظمت قصيدة وأعجزني روي بيت واحد فما أدري كيف أتمّمه؟ قال له أبوبكر: أنشدنيه، فأنشده: "قوله سليل الإمام وصنو الإمام وعمّ الإمام" فقال له من غير تفكّر ولا رويّة: قل: "ولا منتهى" فوضعه في قصيدته على ما تمّمه وكان أمكن قوافيه وأقواها. ويشبه هذه القضيّة وإن لم يكن ممّا نحن فيه إذ ليس هو من الإيغال بشيء ما حكي أنّ زهير بن أبي سلمى قال بيتاً ونصف البيت الثاني ثمّ أكدى، فمرّ به النابغة الذبياني فقال له: يا أبا أمامة أجز، قال: ماذا؟ قال: تراك الأرض أمّا متَّ خفاً ... وتحيى ما حييت بها ثقيلا نزلت بمستقرّ العزّ منها، ثمّ قال: فماذا؟ قال: فأكدى والله النابغة. وأقبل كعب بن زهير وهو غلام فقال أبوه: أجز يا بني، فقال: ماذا؟ فأنشده البيت الأوّل ومن البيت الثاني قوله: نزلت بمستقرّ العزّ منها، فقال كعب: فتمنع جانبيها أن يزولا، فقال زهير: أنت والله ابني. ويعجبني قول عمّنا المهدي في الهاشميين، فلقد أوغل أحسن الإيغال وأبدع فيما قال: وحين قامت على ساق جئت غضباً ... لها بنوا مضر الحمراء على الرّكب من تحتهم لو تزول الأرض لانتصبوا ... على الهوى هضباً أرسى من الهضب فقوله: أرسى من الهضب إيغال وأظنّه لم يُسْبَق إلى هذا المعنى وهو من معانيه الفريدة. الفصل الثاني في الرثاء قلت في رثاء الورع التقي، والنّاسك النقي شيخنا الشيخ محسن ابن الشيخ حسين الملقّب بمصبح الحلّي وقد رثيت أباه قبله بقصيدة حائيّة لم يحضرني منها سوى بيت أرّخت فيه عام وفاته وقد اشتمل على التورية فأحببت ذكره هنا، وهو قولي: ومذ راح للجنّات قلت مؤرّخاً ... لا طيب ظلّيها حسين مصبح فأمّا مرثية العالم العامل، والفريد الكامل الشيخ محسن المشار إليه طاب مرقده فهي هذه: بكيت لمحمول إلى القبر في نعش ... سرى حاملوه في الثرى وهو في العرش

الباب الرابع عشر في قافية الصاد

نعاك لي الناعي فخلت حشاشتي ... عليها التقت أنياب أفعي من الرقش وقد كنت أرجو أن أُهنّيك بالشفا ... فأصبحت أنشي في رثاك ما أنشي وما خلت أنّ الدهر فيك مخاتلي ... يراصدني سرّاً بغائلة البطش إلى أن رأت عيني سريرك والعلى ... على أثره ثكلى وتعلن بالجهش فلم أرَ لي من حيلة غير أنّني ... نظرت إليه إذ نأى نظر المغشي كأنّ الذي في الأُفق نعشك سائراً ... وطرفي السهى والحامليك بنوا نعش مشت خلفك التقوى تشيّع روحها ... ومن غير روح ما رأى ميّت يمشي بكتك وظفر الوجد يخدش قلبها ... فمدمعها المحمر من ذلك الخدش لئن كنت فيما تبصر العين ثاوياً ... بدار البلى في ذلك الجدث الوحش فإنّك عند الله حيٌّ منعّم ... لديه على تلك النّمارق والفرش ولولا ابنك الزاكي لأدمى تأسّفاً ... عليك التقى كفّيه بالعضّ والنّهش ولكن رأى والحمد لله باقياً ... له حسنٌ فاختار ما اختار ذوالعرش فتىً حنيت منه على قلب خاشع ... جوانح ذي نسك سلمن من الغشّ فما ينطق العوراء مذود فضله ... ولا سمع تقواه يعي قولة الفحش تعاهد غيث العفو مرقد محسن ... يبلّ ثرىً وأراه رشّاً على رشّ الباب الرابع عشر في قافية الصاد وفيها فصل في المديح قلت في مدحه هذه القطعة الفذّة: أنخ يا سعد ناجية القلاص ... بحيث الدار طيّبة العراص وعد فأعد حقائبها بطاناً ... بنائل موئل النفر الخماص فثمّة ضاحك العرصات عمّت ... نوافله الأداني والأقاصي بها حلّت تميمتها المعالي ... وأمست وهي مرخية العقاص أما وندىً كم انتاش ابن دهر ... به نصب البلا شرك اقتناص لقد خلص الثناء على مجيد ... به وجد السبيل إلى الخلاص أغرّيري دلاص الحمد أصفى ... على عرض الكريم من الدلاص ترقّى في العلاء بحيث منها ... تبوء في الذائب والنواصي شرى درر الثنا تغلوا ونادى ... أوفري أنت عندي في ارتخاصي ويا عَرضي هدرت دماك جوداً ... ويا عرْضي اقترح شرف القصاص فقل يا بحر مدّك رهن جزر ... وقل يا بدر تمّك لانتقاص دعا دعوى الفخار فكلّ فخر ... به لمحمّد شرف اختصاص فأمّا قولي: وعد فأعد حقائبها بطاناً ... بنائل موئل النفر الخماص المراد بالخماص الجياع إلاّ أنّه مرّة يلخط به الجياع من الفقر وهم العفاة فهو منجاهم ومقرّهم لأنّهم لا يفدون إلاّ عليه لاستماحة جوده، ومرّة يلخط به الجياع من الإيثار بطعامهم وهم الكرام الذين تطرقهم الأضياف فهو موئلهم الذي تجتمع أُمورهم عليه وتنتهي آراؤهم في المهمّات إليه والملحوظ بذلك رياسته عليهم وزعامته فيهم، وتفسير الخماص بهذاالمعنى من أحسن صفات المدح، قال مهيار الديلمي: يبيت خميصاً جنبه ووساده ... وطارقه خصباً كما شاء بائت وفي خطبة لفاطمة عليها السلام: وفهتم بكلمة الإخلاص مع النفر البيض الخماص. وعلى ذكر الحقائب ما رواه السيّد المرتضى في الدرر قال: أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا أبو عبيدة عن يونس قال: دخل الفرزدق على سليمان بن عبد الملك ومعه نصيب الشاعر، فقال له سليمان: أنشدني، فأنشده: وركب كان الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب سروا يخبطون الليل وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار من كلّ جانب إذا أبصروا ناراً يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب فاسودّ وجه سليمان وغاظه فعله وكان ظنّ أنّه ينشده مدحاً له، فلمّا راى نصيب ذلك قال: ألا أُنشدك؟ فأنشده: أقول لركب قافلين رأيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب قفوا خبّروني عن سليمان أنّني ... لمعروفه من أهل ودّان طالب فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب فقال له سليمان: أنت أشعر أهل جلدتك. وفي بعض الأخبار: إنّ الفرزدق قال ذلك في نصيب لمّا سأله عنه سليمان.

وروي أيضاً أنّه لمّا أنشد نصيب أبياته، قال له سليمان: أحسنت ووصله ولم يصل الفرزدق، فخرج الفرزدق وهو يقول: وخير الشعر أكرمه رجالاً ... وشرّ الشعر ما قال العبيد قال السيّد المرتضى: ولا شبهة في أنّ أبيات الفرزدق مقدّمة في الجزالة والرصانة على أبيات نصيب، وإن كان نصيب قد أبدع وأغرب في قوله: ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب، إلاّ أنّ أبيات نصيب وقعت موقعها ووردت في حال تليق بها، وأبيات الفرزدق جائت في غير وقتها وعلى غير وجهها فلهذا قدّمت أبيات نصيب على أبيات الفرزدق مع تقدّمه في الشعر وبلوغه فيه إلى الذروة العليا والغاية القصوى، وكان شريف الآباء، كريم البيت، له ولآبائه مآثر لا تدفع ومفاخر لا تجحد. وروي أنّه قيل له: هل حسدت أحداً على شيء من الشعر؟ قال: لا لم أحسد أحداً على شيء منه إلاّ ليلى الأخيليّة في قولها: ومخرق عنه القميص تخاله ... بين البيوت من الحياء سقيما حتّى إذا رفع اللواء رأيته ... تحت اللواء على الخميس زعيما لا تقربنّ الدهر آل مطرف ... لا ظالماً أبداً ولا مظلوما على أنّي قد قلت: وركب كأنّ الريح تطلب عندهم، وذكر الأبيات المتقدّمة. قال السيّد المرتضى: وليست أبيات الفرزدق بدون أبيات ليلى بل هي أجزل لفاظاً وأشدّ أسراً إلاّ أنّ أبيات ليلى أطبع وأنصع. وقد كان الفرزدق مشهوراً بالحسد على الشعر والإستكثار لقليله والإفراط في استحسان مستحسنه. وقد روي أنّ الكميت بن زيد الأسدي لمّا عرض على الفرزدق أبياتاً من قصيدته التّي أوّلها: أتصرّم الحبل حبل البيض أم تصل ... وكيف والشيب في فوديك مشتعل والأبيات: لما عبأت لقوس المجد أسهمها ... حيث الجدود على الأحساب تنتضل أحرزت من عشرها تسعاً وواحدة ... فلا العمى لك من رام ولا الشلل الشمس أدّتك إلاّ أنّها امرأة ... والبدر أدّاك إلاّ أنّه رجل حسده الفرزدق وقال له: أنت خطيب، وإنّما سلّم له الخطابة ليخرجه عن أسلوب الشعراء، ولمّا بهره حسن الأبيات وأفرط بها أعابه ولم يتمكّن من دفع فضلها جملة، عدل في وصفها إلى معنى الخطابة. وحسد الفرزدق على الشعر وإعجابه بجيده من أدلّ دليل على حسن نقده له، وقوّة بصيرته فيه، وإنّه كان يطرب للجيّد منه فضل طرب، ويعجب منه فضل عجب. ويدلّ أيضاً على إنصافه فيه وأنّه مستقلّ للكثير الصادر منه فإنّ كثيراً من النّاس قد يبلغ منهم الهوى والإعجاب والإستحسان لما يظهر منهم من شعر أو فضل إلى أن يعموا عن حاسن غيرهم فيستقلّوا منهم الكثير ويستصغروا الكبير، إنتهى. أقول: وكذا كانت حال أبي عبداة البحتري، فلقد كان معجباً بشعره، تيّاهاً بنظمه، لا يرى فيه فضلاً لغيره عدا أبي تمام، فإنّه كان يقدّمه على نفسه ويسمّيه الشيخ ويقول: ما علمنا أكل الخبز بالشعر سواه. وممّا يدلّ على زهوه بنفسه ما نقل في معاهد التنصيص عن بعضهم قال: كنت عند المتوكّل والبحتري ينشده: عن أيّ ثغر تبتسم ... وبايّ طرف تحتكم حتّى بلغ إلى قوله: قل للخليفة جعفر ... المتوكّل ابن المعتصم والمجتدى ابن المجتدى ... والمنعم ابن المنتقم أسلم لدين محمّد ... فإذا سلمت فقد سلم قال: وكان البحتري من أبغض النّاس إنشاداً يتشادق ويتزاور في مشيه مرّة جانباً ومرّة القهقري، ويهزّ رأسه مرّة وينكّسه أخرى، ويشير بكمّه ويقف عند كلّ بيت ويقول: أحسنت والله، ثمّ يقبل على المستمعين فيقول: مالكم لا تقولون لي أحسنت، هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله. فضجر المتوكّل من ذلك. قال ناقل هذه الحكاية: فأقبل عَلَيّ المتوكّل وقال: أما تسمع يا صيمري ما يقول؟ فقلت: بلى يا سيّدي، فمرني فيه بما أحببت، فقال: بحياتي أهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه، فقلت: تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول، فدعا بقرطاس ودواة وحضرني على البديهة، فقلت: أدخلت رأسك في حرِ أُمّ ... وعلمت أنّك تنهزم يا بحتريّ حذار ويحك ... من قضاقضة ضغم فلقد أسلت بوالديك ... من الهجا سيل العرم فبأيّ عرض تعتصم ... وبهتكه جفّ القلم والله حلفة صادق ... وبقبر أحمد والحرم وبحقّ جعفر الإما ... م ابن الإمام المعتصم

الباب الخامس عشر في قافية الضاد

لأصيرنّك شهرةً ... بين المسيل إلى العلم في أبيات أخرى من هذا النمط. قال: فخرج مغضباً يعدو وجعلت أصيح به: أدخلت رأسك في حرِ أُمّ ... وعلمت أنّك تنهزم المتوكّل يضحك ويصفق بيده حتّى غاب عنه، وأمر لي بالصلة التي أُعدّت للبحتري. ولولا خوف الإطالة لذكرت من إعجاب بعض الشعراء بنظمهم ما يطول ذكره. الباب الخامس عشر في قافية الضاد وفيها فصلان الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه هذه القطعة المفردة: وسم الربيع بزعمه ذات الأضا ... كذب الربيع فذاك دمعي روّضا وقف السحاب بها معي لكنّما ... دمعي استهلّ وإنّما هو أومضا بكر الخليط عن الدّيار فلم أزل ... أدعوه إذ هو واصطباري قوّضا يا راحلاً عن ناظريَّ لمهجتي ... أزمعت من سفح العقيق إلى الغضا الآن أبناء الرجاء غدا السرى ... لهم يحبُّ وكان قبل مبغضا من حيث لم يستقبلوا في مطلب ... وجه النجاح هناك إلاّ أعرضا حلف الزمان بأن يديم مطاله ... حتّى لدى حسن المكارم يقتضي وصلوا السهول إلى الحزون وإنّما ... قطعواالفضاء لخير من ضمَّ الفضا لبسوا له ليل المطامع أسوداً ... وبه اجتلوا صبح المكارم أبيضا فرأوا أغرَّ يكاد يقطر بشره ... ماءً له اهتزَّ الرجاء وروّضا وفتىً له الشرف الرفيع بأسره ... ألقى مقاليد السماح وفوّضا أعباء مجد لو تكلّف ثقلها ... حتّى يلمّلم لم يطق أن ينهضا ذكر السيّد المرتضى في الدرر قال: أخبرنا أبو عبيد الله قال: حدّثني محمّد بن العبّاس قال: قال بعضهم لأبي العبّاس محمّد بن يزيد النحوي ما أعرف ضاديّة أحسن من ضاديّة أبي الشيص، فقال له: كم ضاديّة حسنة ولكن لا تعرفها، ثمّ أنشده لبشار قوله: غمض الجديد بصاحبيك فغمّضا ... وبقيت تطلب في الحبالة منهضا وكأنَّ قلبي عند كلّ مصيبة ... عظم تكسّر صدعه فتهيّضا وأخ سلوت له فأذكره أخ ... فمضىوتذكرك الحوادث ما مضى فاشرب على تلف الأحبّة إنّنا ... جزر المنيّة ظاعنين وخفّضا ولقد جريت مع الصبا طلق الصبا ... ثمّ ارعويت فلم أجد لي مركضا وعلمت ما علم امرؤ في دهره ... فأطعت عذّالي وأعطيت الرضى وصحوت من سكري وكنت موكّلاً ... أرعى الحمامة والغراب الأبيضا الحمامة أراد بها المرآة، والغراب الأبيض الشعر الشائب. فيقول: كنت كثيراً أتعهّد نفسي بالنظر في المرآة وترجيل الشعر. وصف الغراب بالأبيض لأنّ الشعر كان غربيباً أسود من حيث كان شابّاً ثمّ ابيضّ بالشيب. رَجْعٌ إلى ذكر باقي القصيدة، وذلك قوله: ما كلُّ باقة تجود بمائها ... وكذاك لو صدق الربيع لروّضا هكذا أنشده المبرّد ويحيى بن علي، وأنشده ابن الأعرابي: ما كلُّ بارقة تجود بمائها ... ولربّما صدق الربيع فروضا قد ذقت ألفته وذقت فراقه ... فوجدت ذاعسلا وذاجمر الغضا ياليت شعري فيم كان صدوده ... ءأسأت أم رعد السحاب وأومضا ويلي عليه وويلتي من بينه ... كان الذي قد كان حلماً وانقضى سبحان من كتب الشقا لذوي الهوى ... ما كان إلاّ كالخضاب فقد نضى قال المبرّد: وهي طويلة. قال السيّد المرتضى: ولأبي تمام والبحتري على هذا الوزن والقافية وحركة القافية قصيدتان ضاديّتان إن لم تزيدا على ضاديّة بشار التي استحسنها المبرّد لم تقصرا عنها. فأوّل قصيدة أبي تمام: أهلوك أضحوا راحلاً ومقوّضاً ... ومزمّماً يصف النوى ومعرّضا إن يدج عيشك إنّهم أموا اللوى ... فبما أضاء وهم على ذات الأضا بدّلت من برق الثغور وبردها ... برقاً إذا ظعن الأحبّة أو مضى ما أنصف الشرخ الذي بعث الهوى ... فقضى عليك بلوعة ثمّ انقضى عندي من الأيّام ما لو أنّه ... أمسى بشارب مرقد ما غمّضا لا تطلبنّ الرزق بعد شماسه ... فترومه سعياً إذا ما غيّضا ما عوّض الصبر امرؤ إلاّ رأى ... ما فاته دون الذي قد عوّضا يا أحمد ابن أبي دؤاد دعوة ... ذلّت بذكرك لي وكانت ريّضا

الفصل الثاني في التهنية

لمّا انتضيتك للخطوب كفيتها ... والسيف لا يرضيك حتّى ينتضى قد كان صوّح نبت كلّ قرارة ... حتّى تدوح في نداك وروّضا أوردتني العدّ الخسيف وقد أرى ... أتبرّض الثمد البكيّ تبرّضا وأمّا قصيدة البحتري فهذه: ترك السواد للابسيه وبيّضا ... ونضى من الستّين عنه ما نضى وشناه أغيد في تصرّف لحظه ... مرض أعلَّ به القلوب وأمرضا إلى أن يقول: قعقعت للبخلاء أذعر جاشهم ... ونذيرة من فاصل أن ينتقضى وكفاك من حنش الصريم تهدّداً ... إن مدَّ فضل لسانه أو نضنضا لا تنكرن من جار بيتك إن طوى ... أطناب جانب بيته أو قوّضا فالأرض واسعة لنقلة راغب ... عمّن تنقّل ودّه وتنقّضا لا تهتبل أغضاي أمّا كنت قد ... أغضيت مشتملاً على جمر الغضا لست الذي إن عارضته ملمّة ... أصغى إلى حكم الزمان وفوّضا لا يستفزّني الطفيف ولا أرى ... تبعاً لبارق خلّب إن أومضا أنا من أحبّ تحرّياً وكأنّني ... فيما أعاين منك ممّن أبغضا أغببت صيبك كي يجمّ وإنّما ... غمد الحسام المشرفي لينتضى وسكتُّ إلاّ أنّ أعرض قائلاً ... نزراً وصرّح جهده من عرّضا الفصل الثاني في التهنية قلت مهنّياً أخاه الماجد محمّد الرضا المترجم في أوّل الأبواب بختان ولديه عبد الحسين وعبد العزيز، وذلك حيث قلت: صبح الهنا اليوم تجلّى أبيضا ... وبالمنى ربع التهاني روّضا فقم إلى كاس التهاني فاصطبح ... فيها بناد بسنا البشر أضا فإنّ هذي فرحة من قبلها ... لمثلها الزمان ما تعرّضا من لم يكن يأخذ منها حظّه ... فليت شعري ما الذي تعوّضا وكيف لا يدخل في كلّ حشاً ... منها سرورٌ سرَّ أحشاء الرضا أسخى الورى الناهض من ثقل الندى ... بما به كلّ الورى لن تنهضا ذاك الذي من كرم النفس يرى ... ندب صلات وفده مفترضا ذاك الذي كلتا يديه رهمة ... ربعيّة بها المنى قد روّضا ذاك الذي للمستنين جوده ... رقىً إذا صلُّ الجدوب نضنضا له سجاياً من أبيه حسنت ... وبسط كفّ في الندى ما انقبضا وغرّة من لمعها تحت الدجى ... أعارت البرق السنا فأومضا يصرّح البشر لها للمجتدي ... بالنجح قبل أن يرى معرّضا أحبب بدهر جلب البشرى له ... وكان قبل جلبها مبغّضا إذ في ختان قرّتي عين العلى ... سرَّ الأنام أسوداً وأبيضا طاب الهنا فيه لهم فياله ... قطعاً به وصل الهنا تقيّضا واليوم في ختان كلّ أرّخوا ... بالزهو قد حوى محمّد الرضا الباب السادس عشر في قافية الطاء وفيها فصل في المديح قلت في مدحه: ليس إلاّ إليك للعيس ينشط ... كلُّ رحل إلى حماك يحط يا أخا المكرمات حسبك فخراً ... أنّها حين تعتزي لك رهط لك خلق به الرضا لمحبّ ... ولذي البغض والقلى فيه سخط بشّروا يا بني الرجاء الأماني ... بابن علياء كفّه الجعد سبط وأنزلوا حيث لا تمدُّ الليالي ... يد خطبوحيث لا الدهر يسطو في حمىً ليس يرفع الطرف فيه ... رهبةً أشوسٌ ولا الليث يخطو حرم آمن مهابته ستر ... على من به استجار يلطّ رجع الدهر لاقتبال صباه ... بعد ما قد علاه للشيب وخط بفتى أصبحت مناقبه الغرّ ... على جبهة الزمان تخط يقبض المال لا لغير العطايا ... فالندى في يديه قبض وبسط لو رأينا الجوزاء تحكي مزاياه ... لقلنا لدرّها أنت سمط والثريّا قد داسها فلهذا ... لم نقل أنّها لعلياه قرط أقول: قولي: ليس إلاّ إليك للعيس نشط، الأُنشوطة عقدة واهية يسهل انحلالها كالتكّة، فيقال في المثل: ما عقالك بأُنشوطة، معناه: ما مودّتك بواهية. ويقال في المثل أيضاً: كأنّما أنشط من عقال، أي حلّ من عقال، فالأوّل من نشطت الحبل أنشطه نشطاً عقدته أُنشوطة، والثاني من أنشطته أي حللته. والإنتشاط مدّ الحبل حتّى ينحلّ، ومنه قول مهيار: قم فانتشطها حسبها أن تعقلا ... ودع لها أيديها والأرجلا

الباب السابع عشر في قافية الظاء

ويقال في المثل: لا حتّى يرجع نشيط من مرو، نشيط إسم رجل بنى داراً لزياد بالبصرة وهرب إلى مرو قبل أن يتمّها، وكلّما قيل لزياد: تمّم دارك، يقول: لا حتّى يرجع نشيط من مرو، فلم يرجع وصار مثلاً. والناشط: الثور الوحشي يخرج من أرض إلى أرض، ومنه قوله تعالى: (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطَاً) أي النجوم تنشط من برج إلى برج، والهموم تنشط بصاحبها، قال هميان بن قحافة السعدي: أمست همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طوراً وطوراً واسطا فالنشط في بيتنا إمّا مأخوذ من هذا أو من المعنى المتقدّم في أنشطته نشطاً. وقولي: لك رهط، رهط الرجل قومه وقبيلته، وجعل المكارم رهطاً له لزيادة الإختصاص، قال البحتري: حتّى لو أنّ المجد خيّر في الورى ... نسباً لأصبح ينتمي في يعرب أراد باختصاصه بهم إنتماء المجد إليهم. وقال أبو تمام: إذا ألجمت يوماً لجيم وحولها ... بنوا الحصن نجل المحصنات النجائب فإنّ المنايا والصوارم والقنا ... أقاربهم في الروع دون الأقارب وقولي: يلطّ، هو من لطّ الستر أرخاه، قال السيّد المرتضى في رثاء أُمّه: أم من يلطّ لي ستر دعائه ... حرماً من البأساء والضرّاء والوخط: أوّل الشيب، من وخطه الشيب إذا خالطه. والسمط هو الخيط مادام فيه الخرز وإلاّ فهو سلك، والمسمّط من الشعر ما قفي أرباع بيوته وسمّط في قافية مخالفة، يقال: قصيدة سمطيّه ومسمّطة، قال بعضهم: ومستلئم كشفت بالرمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله فجعت به في ملتقى الحيّ خيله ... تركت عتاق الطير تحجل حوله كأنّ على سرباله نضح جريالالسفاسق: طرايق السيف، ويقال إنّها فرنده. ولا يذهب عليك أنّ التخميس والموشّح كلّه من هذا، لا أنّ المتأخّرين اخترعوا طريقتهما، وإنّما غيّروا فيهما التسمية لمناسبة لحظوها فسمّوهما بذلك. الباب السابع عشر في قافية الظاء وفيها فصل في المديح قلت في مدحه هذه المدحة: رأت المشيب بعارضيك فغاضها ... وثنت بذات البان عنك لحاظها هيفاء لو برزت لنسّاك الورى ... يوماً لأصبى دلّها وعاضها ريم لئالي نحرها تحكي لئا ... لىء ثغرها اللائي حكت ألفاظها قد كان شملك بالكواعب جامعاً ... أيّام سوق صباك كان عكاظها فتنبّهت عين الزمان ففرّقت ... بالشيب شملك لا رأت إيقاظها رقّت إليك قلوبهنّ مع الصبا ... وأعادهنَّ لك المشيب غلاظها فدع الغواني القاتلات بصدّها ... كم فتنة غنح الحسان أفاظها واهتف هديت ولو من النبل العدا ... كسرت عليك لغيظها أرعاضها بمدائح الحسن الذي آباؤه ... كانوا لأسرار الندى حفّاظها حمّال ثقل المكرمات بهمّة ... لم تشك مذ نهضت بها أبهاظها يا من أعار النيّرات ضيائها ... فزهت وأعطى المخدرات حفاظها أوقدت نار قرى لضيفك ضوئها ... وبقلب كاشحك اقتدحت شواظها فأمّا قولي: رأيت المشيب بعارضيك الخ فمثل قول مهيار الديلمي من قصيدة: ولم أنس إذ راحوا مطيعين للنوى ... وقد وقفت ذات الوشاحين والوقف ثنت طرفها دون المشيب ومن يشب ... فكلّ الغواني عنه مثنيّة الطرف وقد ولع الشعراء في وصف المشيب فأتوا فيه بكلّ معنى دقيق، في نظم أنيق، ويعجبني قول بعضهم في جارية سوداء: وجارية من بنات الحبوش ... ذات لحاظ صحاح مراض تعشّقتها للنصابي فشبت ... غراماً ولم أك بالشبيب راضي وكنت أعيّرها بالسواد ... فصارت تعيّرني بالبياض وظريف قول بعضهم وهو من الهزل المراد به الجدّ: تبسّم الشيب بذقن الفتى ... يوجب سفح الدمع من جفنه حسب الفتى بعد الصبا ذلّة ... أن يضحك الشيب على ذقنه وذمّ الشباب بعضهم بقوله: لم أقل للشباب في دعة الله ... ولا حفظه غداة استقلاّ زائراٌ زارنا أقام قليلاً ... سوّد الصحف بالذنوب وولّى وما أحسن قول أبي العلا المعرّي في مدح الشيب: خبّريني ماذا كرهت من الشيب ... فلا علم لي بذنب المشيب أضياء النهار أم وضح اللؤ ... لؤ أم كونه كثغر الحبيب وفي هذا المعنى قول بعضهم في ذمّ الشباب:

الباب الثامن عشر في قافية العين

أخبرني فضل الشباب وماذا ... فيه من منظر يروق وطيب غدره بالخليل أم حبّة للغي ... أم كونه كعيش الأديب وبديع قول حسن بن النقيب في التأسّف على فقدان المشيب لا على أخلاق رداء الشباب القشيب: لا تأسفنّ على الشباب وفقده ... فعلى المشيب وفقده يتأسّف هذاك يخلفه سواه إذ انقضى ... ومضى وهذا إن مضى لا يخلف وأمّا قولي في هذه المقطوعة: هيفاء لو برزت لنسّاك الورى ... يوماً لأصبى دلّها وعاضها فنظير قول ابن دريد في مقصورته حيث يقول: ولاعبتني غادة وهنانة ... تضني وفي ترشافها برؤ الضنا لو ناجت الأعصم لانحطَّ لها ... طوع القياد من شماريخ الذرى أو صابت القانت في مخلولق ... مستصعب المسلك وعر المرتقى ألهاه عن تسبيحه ودينه ... تأنيسها حتّى تراه قد صبا كأنّما الصهباء مقطوب بها ... ماء جنى ورد إذا الليل غشا يمتاحه راشف برد ريقها ... بين بياض الثغر منها واللما ومنها: يا هؤلاء هل نشدتنّ لنا ... ثاقبة البرقع عن عيني طلا ما أنصفت أُمّ الصبيين التي ... أصبت أخا الحلم ولمّا يصطبى وأمّا قولي فيها: ريم لئالي نحرها تحكي لئا ... لىء ثغرها اللائي حكت ألفاظها فالمقصود منه أنّ عقدها وأسنانها وألفاظها كلّها لئالىء يظهر ذلك من تشبيه بعضها ببعض. وللشعراء في هذا النحو والتشبيه معان غريبة، فمن ذلك قول البحتري: ولمّا التقينا والنقا موعدٌ لنا ... تعجّب رائي الدرّ منّا ولاقطه فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه وقال المتنبّي في ذلك: ديار اللواتي دارهنّ عزيزة ... بسمر القنا يحفظن لا بالتمائم حسان التثنّي ينقش الوشي مثله ... إذا مسن في أجسامهنّ النواعم ويبسمن عن درٍّ تقلّدن مثله ... كأنّ التراقي وشحت بالمباسم وشبّه الأرجاني الدمع في خدّ معشوقه باللؤلؤ في حال الفراق فقال: نأى النوم عنّي لمّا نأوا ... وأقسم لا عاد حتّى يعودوا فبلّغ سلامي بدر الخيام ... يكسفه نأيه والصدود بآية ما قال يوم الرحيل ... مرعيّة للخليل العهود ولمّا وقفنا غداة الوداع ... وقيّدت لتظعن بالحيّ قود بكى وتنفّس خوف الفراق ... فأسلم عقديه جفن وجيد كان الذي خلعته النحور ... من لؤلؤ لبسته الخدود وقال أيضاً: وكأنّ كلّ مليحة يوم النوى ... قد علّقت في الخدّ عقد الجيد وأمّا قولي فيها: واهتف هديت ولو من النبل العدا ... كسرت عليك لغيظها أرعاضها فالرعظ بالضم مدخل سنخ النصل وفوقه لفائف العقب وتُسمّى الرصاف، والجمع أرعاظ، ويقال: إنّ فلاناً ليكسر عليك أرعاظ النبل، مثلٌ لمن يشتدّ غضبه، كأنّه يقول: إذا أخذ السهم نكت به الأرض نكتاً شديداً حتّى تنكسر رعظه، أو معناه: يحرق عليك الأسنان، شبّه مداخل الأسنان ومنابتها بمداخل النصال من النصال، ومثلٌ آخر: ما قدرت على كذا حتّى تعطّفت عَلَيّ أرعاظ النّبل. الباب الثامن عشر في قافية العين وفيها فصلان الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه هذه الأبيات: دعوا كبدي ودونكموا دموعي ... فداعي البين يهتف بالجميع وما أبقي على كبدي ولكن ... لتأنس في محلّكم ضلوعي كتمت بها الهوى زمناً إلى أن ... دعاها يومُ بينكم أُذيعي فصاعدت الدموع لكم نجيعاً ... ويوشك أن تسيل مع الدموع وبالعلمين واضحة المحيّا ... رشوف الثغر طيّبة الفروع تمنّي المستهام بغير نيل ... فتطمعه بخالبة لموع منعت وصالها فسلوت عنها ... وقلت لها ورائك من منوع فأنت وما صنعت فعنك حسبي ... بمدح محمّد الحسن الصنيع ربيع زماننا وأرقُّ طبعاً ... إلى الندماء من زمن الربيع ربيب مكارم وفتى معال ... ترعرع في ذرعى الشرف الرفيع درور أنامل الكفّين جوداً ... غداة السحب جامدة الضروع كسا أعطافه نفحات فخر ... وقال لها على الثقلين ضوعي

الرشوف هي المرأة الطيّبة الفم، والرشف المصُّ، وقد رشفه يرشفه، ويرشفه وارتشفه أي امتصّه. وفي المثل: الرشف أنقع إذا ترشّف الماء قليلاً قليلاً كان أسكن للعطش. وعلى قولي: تمنّى المستهام الخ قول بعضهم: لقد كنت جلداً قبل أن توقد النوى ... على كبدي ناراً بطيئاً خمودها ولو تركت نار الهوى لتضرّمت ... ولكنَّ شوقاً كلّ يوم يزيدها وقد كنت أرجو أن تذوب صبابتي ... إذا قدمت أيّامها وعهودها فقد جعلت في حبّة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولي بشوق يعيدها بمرتجه الأرداف هيفٌ خصورها ... عذابٌ ثناياها عجافٌ قيودها مخصرّة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن ممّا زيّنتها عقودها وصفرٌ تراقيها وحمرٌ أكفّها ... وسودٌ نواصيها وبيضٌ خدودها يمنيننا حتّى ترفُّ قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طلٌّ يجودها ويروى أنّ منها: ولي نظرة بعد الصدود من الجوى ... كنظرة ثكلى قد أُصيب وليدها هل الله عاف عن ذنوب تسلّفت ... أم الله إن لم يعف عنها معيدها فمعنى قولي: تمنّي المستهام أنّها تريه من الإمارات في أحوالها وأقوالها ما يقرب إلى ظنّه الظفر بحصول ما تشتهيه نفسه من وصالها بحيث يبقى متشوّفة نفسه إلى أن يحظى بتلك الإرادة متوقّعاً حصولها، وهذا الطمع ممّا جرت به العادة. وما أحسن قول البحتري في صفة الأحوال المطمعة: إنّ في السّرب لو يساعفنا السرب ... شموساً يمشين مشياً وئيدا يتدافعن بالأكفّ ويعرضن ... علينا علوارضاً وخدودا وما أحلى قول أبي حيّة النميري: ألمّا بسلمى قبل أن ترمي النوى ... بنافذة نبض الفؤاد المتيّم يقف عاشق لم يبق من روح نفسه ... ولا عقله المسلوب غير التوهّم فقلنا لها سرّاً فدنياك لا يرح ... صحيحاً وإن لم تقتليه فالممي فألقت قناعاً دونه الشمس واتّقت ... بأحسن موصولين كفٍّ ومعصم ومن المطمعات الرقّة واللين في الكلام كما وصفه الله عزّوجلّ فقال: (لا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذي في قَلْبِهِ مَرَض) وقال بعض الشعراء، وأحسن في ذلك ما شاء: ومستخفيات ليس يخفين زرننا ... يسحبن أذيال الصبانة والشكل جمعن الهوى حتّى إذا ما ملكنه ... نزعن وقد أكثرن فينا من القتل موارق من ختل المحبّ عوارف ... بختل أولى الألباب بالجدّ والهزل مريضات رجع القول خرس عن الخنا ... تألّفن أهواء القلوب بلا بذل ولآخر: بيض حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكّة صيدهنّ حرام يحسبن من لين الكلام زوانياً ... ويصدّهنّ عن الخنا الإسلام وللمتنبّي: أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب ولا برزن من الحمام مائلةً ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب ولآخر: وإذ دعونك عمّهنّ فإنّه ... نسب يزيدك عندهنّ خبالا ولآخر: وكانت تسمّيني أخاها تعلّلاً ... فقلت لها أفسدت عقل أخيك وإنّي لأستحسن لبعض شعراء عصرنا المسمّى بملاّ محمّد التبريزي قوله وفيه التورية: وقائلة عمّي وما أنا عمّها ... ولكنّني أفدي بعمّي خالها وعلى ذكر التمنّي فما أحسن قول مهيار الديلمي: أتمنّى والمنى جهد المقلّ ... واقضي الدهر في ليت وهل وأسوّي كلف العيش إذا ... أظلمت لي بطلاوات الأمل سلوة وهي الغرام المشتكى ... وتعاليل أسىً هنَّ العلل قيل: إنّ بعضهم تمنّى في منزله فقال: ليت لنا لحماً نطبخ منه سكباجاً، فما لبث أن جاء ابن جاره بصفحة وقال: أغرفوا لنا قليلاً من المرق، فقال: إنّ جيراننا يشمّون رائحة الأماني. ولذا قيل: الأماني بضائع النوكى. وقيل: التمنّي رأس مال المفلس. وعلى ذكر الطمع ما روي أنّه تخاصم رجلان عند دير، فقال أحدهما: أير هذا الرّاهب في حر أُمّ الكاذب، فما لبث أن نزل الراهب منعضّاً وهو يقول: أيّكما الكاذب. ويقال: إنّ بعضهم اجتاز بدارا فسمع صاحبها يقول لزوجته: إن لم أحمل عليك ألف رجل فما أنا برجل، فجلس على الباب إلى أن أعيى ثمّ قام وضرب الباب وقال: تحمل على هذه القحبة أو نمضي.

الفصل الثاني في التهاني

وقيل لأشعب الطمّاع: هل رأيت أطمع منك؟ قال: نعم كلبة أُم حؤمل تبعتني فرسخين وأنا أمضغ كندراً. وقيل له يوماً: ما بلغ من طمعك؟ قال: ما رأيت عروساً في المدينة تزفّ إلاّ كنست بيتي ورششته طمعاً في أنّها تزفّ لي. ووقف على رجل خيزراني يعمل طبقاً فقال: وسعه قليلاً، فقال الخيزراني: وما تريد بذلك؟ لعلّك تريد أن تشتريه؟ قال: لا، ولكن يشتريه بعض الأشراف فيهدي إليّ فيه شيئاً. ونوادره كثيرة. واتّفق أنّا سافرنا إلى بغداد أوّل الشتاء، فهبت علينا في بعض الطريق ريح نكباء وأرخت السماء عزالاها وذلك وقت الطفل، فملنا إلى حصن بناه على الطريق أبوالممدوح محمّد الصالح، فلمّا نزلنا فيه أنشأ عمّنها المهدي فيه وله الأصل النفيس، ولي هذا التخميس: أجل لم يكن في ساحة الكون فاعلمن ... لسار حمىً إلاّ ببيتين في الزمن ببيت بناه الله أمناً من المحن ... وبيت على ظهر الفلاة بناه من له همّة من ساحة الكون أوسع ألا ربَّ قفر قد قطعنا فضائه ... بيوم وصلنا بالصباح مسائه ولمّا علينا الليل مدّ ردائه ... نزلنا به والغيث يكسب مائه كأنّ قطره من سيب كفّيه يهمع كأنّ النعامى حين وافت بقطره ... لنا حملت من خلقه طيب نشره فما قطرة إلاّ تتابع وفره ... وما برقه إلاّ تبسّم ثغره لوفّاده من جانب الكرخ يلمع فبورك بيتاً كان فيه احتجابنا ... عن السوء مذ أمسى إليه انقلابنا به أمنت حصب الرياح ركابنا ... ومنه وقفتنا أن تبلَّ ثيابنا مقاصر من شأو الكواكب أرفع مقاصرُ بتنا من حماها بجنّة ... وقينا الأذى من حفظها بمجنّة غدت مجمع السارين أنس وجِنّة ... ولم ير في الدّنيا مقاصر جنّة لشمل بني الدنيا سواهنّ تجمع فوحشتنا زالت بإنس رحابها ... عشيّه بتنا في نعيم جنابها إلى أن نسينا السير تحت قبابها ... كأنّا حلولٌ في منازلنا بها ولم تتضمّنا مهامة بلقع بنا أدلجت تطوي المهامة عيسنا ... إلى أن بأيدي السير دارت كئوسنا فمالت نشاوى نحوهنَّ رؤسنا ... وبتنا بها حتّى تمنّت نفوسنا نقيم بها ما دامت الشمس تطلع ومذ كان فيها بالسرور مبيتنا ... محيث ثمار الإنس والبشر قوتنا رأينا الهنا في ظلّها لا يفوتنا ... وعنها وإن عزمت علينا بيوتنا وددنا إلى أكنافها ليس نرجع فلا عجب أن تغد صبحاً وعتمةً ... بها الوفد من كلّ الجهات ملمّةً وتمسي لهم بالخوف أمناً وعصمةً ... ففيها أبوالمهدي أسبغ نعمةً على النّاس فيها طوق النّاس أجمع بها عمَّ أهل الأرض دان وشاسعا ... وفيها لكلّ الخير أصبح جامعا وليس لهذي وحدها كان صانعاً ... له الله كم أسدى سواها صنائعا بأمثالها سمع الورى ليس يقرع لقد غمر الدّنيا معاً بسخائه ... فكانت لساناً ناطقاً بثنائه وأدّب صرف الدهر بعد اعتدائه ... فلا برحت في الكون شمس علائه بأُفق سماء المجد بالفخر تطلع الفصل الثاني في التهاني أقول: لمّا قدم الممدوح الفاضل الشيخ محمّد الحسن من حجّ بيت الله الحرام في سنة 1292 وكنت عازماً أن أُؤرّخ ذلك العام وأشهد حضرته لتلاوة ما أنشأته من النظام، فمنعني عن ذلك حلول وباء تلك السنة يشبه الطاعون بشدّته وخطبه المتفاقم، وقلت: ما أصدق من قال: عرفت الله بنقض العزائم، فأنشأت هذه الموشّحة اببديعة وأرسلتها إلى حضرته الرفيعة: عرَّفت ناسكةً ذات اللما ... فرنت فاتكةً في أضلعي ولكم بالهدب راشت أسهما ... فرمت شاكلتي صبري معي أنشقتني يوم جمع عرفها ... وعلى الخيف حمتني رشفها كحل الغنج بسحر طرفها ... ما رنت للصبّ إلاّ أقسما ما كذا ترنوا ظباء الأجرع ... والغواني تدّعي السحر وما هو إلاّ تحت ذاك البرقع غادة أقتلها لي كلّها ... مثلما أحيى لقلبي وصلها ذات غنج قد سباني دلّها ... طرقت وهناً فقالت أجرما أذرأتني بائتاً في الهجع ... ونعم يا ريم طرفي هوّما طمعاً منك بطيف ممتع

دميةٌ نشر الخزامى نشرها ... بفتات المسك يزري شعرها كم ليال هي عندي بدرها ... قابلت فيهنّ مرآت السما بمحيّاها فقيل انطبعي ... هي والظبية من واد كما هي والبدر معاً من مطلع كلّما ورَّد خدّيها الخجل ... قطفت ذيّالك الورد المقل لا تسل عنها وعنّي لا تسل ... وقفت فاستوقفتني مسقما وأفاضت فأفاضت أدمعي ... عجباً راقبت فيها الحرما واستحلّت صيد قلبي الموجع كم قضت في سعيها من منسك ... ما أضاعت فيه إلاّ نسكي فلقد عدتُ بقلب مشرك ... في الهوى يعبد منها صنما فهو في اللاهين لا في الرّكع ... ضلّةً يقرؤ قلْ من حرَّما زينة الله ولمّا يقلع لست أنسى بالمصلّى موقفاً ... فيه يرجى العفو عمّا سلفا إذ بدت أحلى الغواني مرشفا ... تجرح النسك بلحظ إن رمى سهمه قرطس قلب الورع ... وانثنت تطعن في الحجّ بما قد حوى لين الرماح الشرّع يا سقى الله ضحيّات النقا ... وسقاها الروض وشياً مونقا كم أرت عيني وجهاً مشرقا ... وجلت لي من فتاة مبسما عن شتيت واضح ملتمع ... قد دعا دمعي ولكن رخّما فأجابت بعقيق أدمعي عجبت حين بدت في تربها ... ورأتني بين صرعى حبّها ثمّ قالت للتي في جنبها ... هل وصلن الغيد قبلي مغرما وسوى الشيب له لم يشفع ... سنّة ما عملت فيها الدمى وهي في دين الهوى لم تشرع لا ومن أودع في خصري النحول ... ورمى نرجس جفني بالذبول لست أحيي أشيباً واسمي قتول ... للذي ماء الصبا فيه نمى غصنه من ناشىء أو يفع ... كلّما استقطرت منه اللمما قطرت ماءً فبلّت موضعي قلتُ يا سالبتي طيب الوسن ... ما لمن تصبى المعنى والسنن فصلي الصبّ الذي فيك افتتن ... واجعلي وصلك في هذا الحما بدعةً جائت كبعض البدع ... وألمّي كخيال سلما هوّم الركب فحيّى مضجعي من رأى خدّيك قال العجب ... كيف في الماء يشعُّ اللهب والّتي طاب أبوها العنب ... بالذي أودعها منك الفما فغدت أورى لقلب المولع ... ما الذي من يرتشفه أثما هي أم فوك فزيدي ولعي وحديث تتهاداه الربى ... طاب نشراً بين أنفاس الصبا عن بشير جاء يطوي السبسبا ... تأرج البشرى عبيراً أينما حلَّ في الأربع بعد الأربع ... شعبت شمل العلى فالتأما ودّعت قلب الحسود انصدع فادر يا صاحبي كأس الطرب ... واطرح في كأسها بنت العنب قم فشاركني بما سرَّ الحسب ... بشّر المجد وهنّ الكرما وعلى هذا الهنا بارك معي ... قد تجلّى كلّ أفق أظلما بسنا هذي البدور الطلّع زُهْرُ مجد زَهَرَ الدهر بهم ... لا خلت أفلاكه من شهبهم كلّما خفَّ الهوى في صبّهم ... وعلى المسرى إليهم عزما ثقلت نهضته في المربع ... من أمور طاريات كلّما همَّ ينحو قصدهم قلن ارجع لك يا عبد الكريم الفرح ... ولأعدائك زال الترح وصفت لابن أخيك المنح ... مصطفى المجد بأزكى من نمى شرفٌ سام لمجد أرفع ... كبدور التم تنضوا اللثما عن ثغور كالبروق اللمع قرَّ طرف الفخر منها بالحسن ... ذاك من قرّت به عين الزمن شخصة والدهر روحٌ وبدن ... فحياة الدهر لمّا قدما رجعت للنّاس أحلى مرجع ... ما براه الله إلاّ عيلما لبني الآمال عذب المشرع مذ حوى صدر المعالي قلبها ... وسماء المجد أبدت قطبها سبّحت غرّ القوافي ربّها ... وأتت تهدي إليه أنجما ما حواها فلكٌ في مطلع ... درراً وهي تسمّى كلّما مثلها ما أنشدت في مجمع شهدت للمجد أبهى محفل ... فدعت فخراً وقالت هوّلي أيّها القالة مثلي فصلي ... من فريد المدح ما قد نظما ثمّ يا صاغة مثلي رصّعي ... أو فكفّي وأريحي القلما وبياض الطرس للطرس دعي هذه الأفناء أفناء الشرف ... منتدى الآداب فيها والظرف

لم يزل للمدح فيها معتكف ... من يرد يهدي إلى هذي السما يلتقط من هذه الزهر معي ... ما وعاها الدهر إلاّ مغرما قال أحسنت فقرط مسمعي دار مجد مصطفى الفخر بها ... كأبيه حلمه من هضبها فالورى في شرقها أو غربها ... كلّها تلحظ منه علما شامخاً هضبته لم تطلع ... خيرها مجداً وأعلى منتمى في العلى من كلّ ندب أروع يا عرانين المعالي والشرف ... لكم أهديتها أسنى التحف كعروس الغيد تجلى وتزف ... فلها البشر بكم زهواً كما لكم البشر بها في المجمع ... والبسوا الأفراح ثوباً معلما عنكم طول المدى لم ينزع ولمّا ختن ولدا أخ الممدوح الماجد المصطفى وهما عبد الغني ومحمّد سليم نظمت هذه الموشّحة لتهنئة أبيها وعمّها: نصب العشق لعقلي شركا ... من جعود كم سبت ذا ولع ومن اللحظ بقلبي فتكا ... بسهام ليتها لم تنزع يا نديميّ على الورد الندي ... من خدود الخرّد الغيد الكعاب غنّياني بلعوب بالعشي ... ليس غير العطر تدري والخضاب قد حوى مرشفها العذب الشهي ... شهدة قد لقّبوها برضاب أطرباني ودعا من نسكا ... إنّما الجنّة تحت البرقع في محيّا ذات خدر قد حكى ... قمر التمّ بأبهى مطلع علّلاني برشوف ثغرها ... مرتو خلخالها عطشى الوشاح غضّة الجيد رهيب خصرها ... لم تكن تبسم إلاّ عن أقاح طرّقت زائرة تسترها ... طرّة في ليلها يعمى الصباح بتّ لا أجذبها إلاّ اشتكى ... خصرها ممّا تلوّى ولعي لفنا الشوق وقال احتبكا ... بعناق وبضمّ ممتع غادة قامتها الغصن الوريق ... فوقه ريحانة الفرع ترف صدغها والخد آس وشقيق ... فتروّح وإذا شئت اقتطف خالها والريق مسكٌ ورحيق ... فتنشق وكما تهوى ارتهف نصبت ألحاظها معتركا ... غير عذريّ الهوى لم يجمع جفنها في سيفه كم سفكا ... من دم لولا الهوى لم يضع معركٌ للشوق كم فيه مقام ... لأخي قلب من الوجد صديع وبه كم قلبت أيدي الغرام ... بين ألحاظ الغواني من صريع ودعت حوراؤه موتوا هيام ... فلدينا أجركم ليس يضيع في سبيل الحب ما قد هلكا ... فمعي يمسي ومن يمسي معي كان في جنّة حسني مسلكا ... أينما مدّ يداً لم يمنع أقبلت سكرى ومن خمر الصبا ... عطفتها نشوة الدلّ عليك تسرق النظرة من عين الظبا ... وبلحظ فاتر ترنو إليك تخذت ماشطة كفَّ الصبا ... كلّما رجّلت الجعد لديك نثرت مسكا بذي البان ذكا ... فسرت نفحته في لعلع كم تستّرت بها فانهتكا ... ذلك الستر بطيب المضجع ونديم لفظه العذب الرخيم ... كنسيم الورد في رقّته قبله ما خلت ولدان النعيم ... بعضها يسرق من جنّته إنّما آنست يا قلبي الكليم ... شعلةً في الكاس من وجنته لا تقل كيف من الكاس ذكا ... جمرُ خدّيه معاً في أضلعي فذكاً وهي تحلُّ الفلكا ... إن تقابل بزجاج تلذع عدّ عن ذكرك ربّات الخدور ... واعدلي ذكر أرباب الحسب وادر راح التهاني والحبور ... للندامى واطرح بنت العنب فصبا الأفراح عن نور السرور ... فتحت يا سعد أكمام الطرب والعلى والمجد بشراً ضحكا ... في سرور قال للسعد أسطع إن يكن قطعاً ففيه اشتركا ... بسرور ليس بالمنقطع طاولوا الشمَّ بني الشم الرعان ... والبسوا الفخر على طول السنين ما أتمّ المجد فيكم فالزمان ... منكم العليا به في كلّ حين لم تلد إلاّ غنيّاً عن ختان ... وسليماً من زيادات تشين كلّكم في منبت العزّ زكا ... وكطيب الأصل طيب المفرع من نرى منكم نخله ملكا ... قد ترائى بشراً في المجمع لكم البشرى ذوي الفخر الأغر ... بسليلي أكرم النّاس قبيل لست أدري أفهل أنتم أسرّ ... بهما اليوم أم المجد الأثيل وهل العلياء عيناها أقرّ ... بهما أم عين ذي الرأي الأصيل مصطفى المعروف من لو ملكا ... حوزة الأقطار لم تتّسع

الفصل الثالث في الحماسة

لأياد كم بها قد سمكا ... من سماء لعلاه أرفع إن أقل يا بدر مجد زهرا ... وبزعمي غاية المدح بلغت قال لي البدر كفاني مفخراً ... فبتشبيهك لي هذا مدحت أو أقل يا بحر حود زخرا ... قال لي البحر لماذا بي سخرت قست من لو رام فخراً لاتّكى ... وكفى عنّي بصغرى أصبع كم بها نجل غثياً فبكى ... وغدا ينحب بالرعد معى واحدٌ في كلّ فضل منفرد ... بمزاياً في الورى لم تكن حلف الدهر به أن لا يلد ... للعلى مثلاً له في الزمن لا تخلها حلقةً لم تنعقد ... فبها استثنى له بالحسن ذاك من أصعد حتّى أدركا ... من سنام المجد مالم يفرع وغدا للفخر يجلو فلكا ... لاح والشمس به في مطلع ذي كمال سقيت روضته ... فارتوت بالعذب من ماء النهى كم له عند المعالي نهضة ... لو بها شاء إذاً حطّ السهى وهو الغيث ولكن ومضه ... ينبت الشكر بمنهلّ اللهى مثلما ينبت طوراً حسكا ... في عيون حسداً لم تهجع أعينٌ ليت الكرى إن سلكا ... بين جفنيها جرى في الأدمع الفصل الثالث في الحماسة قلت هذه الأبيات وفيها تضمين هذا البيت: "ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأُخرى الأعادي فهو يقضان هاجع" ألفتُ قراع الدهر إذ أنا يافع ... فكيف تروع اليوم قلبي الروائع لقد عركت منّي الليالي ابن حرّة ... على العرك منه لا تلين الأخادع وسيّان عندي سلمُ دهري وحربه ... وما هو معط والذي هو مانع لعمري ليصنع أيّها شاء إنّه ... حقيرٌ بعيني كلّما هو صانع فما أنا مسترٌّ بحسن صنيعه ... ولا أنا ممّا سائني منه جازع سأنشد لا عجزاً ولكن تحمّساً ... لي الله أيّ الحادثات أُصارع وأيّ الأعادي أتّقى وهم الحصا ... عديداً وكلٌّ مجهرٌ ومصانع فحيث طرحت اللحظ أبصرت منهم ... أخا حنق شخصي لأحشاه صادع إذا ما رآني عنّي ازورَّ طرفه ... كأنّي رمحٌ بين جفنيه شارع وإنّي ولا فخرٌ كفاني تفرّدي ... تحاشدهم أنّى حوتنا المجامع أريهم بأنّي عن دهاهم مغفّلٌ ... وعندي لهم خبؤٌ من الحزم رادع كذئب الغضا تلقاه رخواً إذا مشى ... ويشتدُّ إن واثبته وهو قاطع "ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي ... بأُخرى الأعادي فهو يقضان هاجع" الباب التاسع عشر في قافية الغين وفيها فصل في المديح قلت في مدحه: ذكرت بذات الأثل حيث مضى لنا ... زمان به ظلّ الشبيبة سابغ كواعب ترمي عن قسيّ حواجب ... بأسهم لحظ لاتّقيها السوابغ تدبُّ على الورد النديّ بخدّها ... عقارب من أصداغهنّ لواذع لوادغ أحشاء يبيت سليمها ... ودرياقه عذب من الريق سائغ لهوت بها حيناً أطيع بها الهوى ... غراماً وشيطان الصبابة نازغ إلى أن رأت عيني يد الشيب ناصلاً ... بها من كلا فوديّ ما الله صابغ فأصبحت لا قلبي من الغيد فارغ ... بلى قلبها منّي غدا وهو فارغ وأمسيت في ليل من الغمّ تحته ... فؤادي له ضرس من الهمّ ماضغ إلى أن جلا عنّي الهموم بأسرها ... هلال عُلىً في مطلع السعد بازغ هلال عُلىً تجلوه طوقاً لنحرها ... له ربّه من جوهر المجد صائغ فتىً لم تكن أهل المساعي جميعها ... لتبلغ من علياه ما هو بالغ يقصّر كعب عن نداه وحاتم ... ويقصر حتّى جرول والنوابغ فأمّا قولي: كواعب ترمي عن قسي حواجب، فنظيره قول أبي الحسن الهمداني من شعراء اليتيمة: ظلّت تجيل لحاظها ... كالسيف لم يخط المضارب للسحر في أجفانها ... مهما أدارتها ملاعب جعلت قسيّ سهامها ... إن ناضلته عقد حاجب لم تخط سهماً أرسلته ... إنّ سهم اللحظ صائب وقول القاضي الأرجاني: أذمت لنا سلمى عشيّة سلّمت ... علينا بتوديع لإيماء حاجب فما شبهت عيني لها قوس حاجب ... أشارت به نحوي سوى قوس حاجب وقول الصفي الحلّي: لم تترك الأتراك بعد جمالها ... حسناً لمخلوق سواها يخلق

إن نوزلوا كانوا أُسود عرينة ... أو غوزلوا كانوا بدوراً تشرق جذبوا القسي إلى قسي حواجب ... من تحتها نبل اللواحظ ترشق وتشبيه اللحظ بالسهم، والحاجب بالقوس، كثير جدّاً في الشعر. وأمّا قولي: تدبّ على الورد النديّ بخدّها، فمثله قول صفي الدين الحلّي: دبّت عقارب صدغه في خدّه ... وسعى على الأرداف أرقم جعده وبدت محاسنه ففوق لحظه ... سهماً يذود بشوكه عن ورده وقال ابن بسّام البغدادي: كنت أتعشّق غلاماً لخالي، فنمت ليلة وقمت لأدبّ عليه فلسعتني عقرب، فقلت: آه، فانتبه خالي وقال: ما أتبى بك إلى هنا؟ فقلت: قمت لأبول، قال: صدقت لكن في أُست غلامي فحضرني إذ ذاك هذه الأبيات فقلت: ولقد سريت مع الظلام بموعد ... حصلته من غادر كذّاب فإذا على ظهر الطريق مدبّة ... سوداء قد علمت أوان ذهابي لا بارك الرحمن فيها إنّها ... دبّابة دبّت إلى دبّاب وقيل: إنّ صاحب الغلام أنشد: وداري إذا نام سكّانها ... تقيم الحدود بها العقرب إذا غفل النّاس عن دينهم ... فإنّ عقاربنا تضرب وقد تركنا ذكر كثير من النظائر في الدبيب لفحشها. وما أحسن ما اعتذر به القائل من ترك الدبيب: قالوا وقد بصروا بأيري نائماً ... عند الدبيب إليه رخو المفصل ماذا عراه فقلت ساري ليلة ... عرف المحلّ فبات دون المنزل ومثل قوله: رخو المفصل ما قال أبوالنجم العجلي وذلك أنّه دخل على هشام وقد أتت عليه سبعون سنة، فقال له هشام: ما رأيك في النساء؟ قال: إنّي لأنظر إليهنّ شزراً، وينظرن إليّ خزراً، فوهب له جارية وقال له: أُغد عَلَيّ واعلمني ما يكون منك، فلمّا أصبح غدا عليه فقال له: ما صنعت شيئاً ولا قدرت عليه، وقلت في ذلك أبياتاً هي: نظرتْ فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه ونظرتُ في سرباليا فرأت لها كفلاً ينوء بخصرها ... وعثماً روادفه وأجثم ناتيا ورأيت منتشر العجان مقلّصاً ... رخواً مفاصله وجلداً باليا ومنها: ما بال رأسك من ورائي طالعاً ... أظننت أنّ حر الفتاة ورائيا فاذهب فإنّك ميّت لا ترتجى ... أبد الأبيد ولو عمرت لياليا وقال الحسين بن الحجّاج: إذا يئس المرء من أيره ... رأت عرسه اليأس من خيره ومن كان في سنّه طاعناً ... فقد عدم الطعن في غيره وقال أيضاً: نم فما عندك خير يرتجى ... أيّها الأير القليل المنفعه كنت بالأمس جموحاً في الصبا ... فاشتهيت الخفض واخترت الدعه طالما جدّلت فرسان الوغى ... وافتتحت القلعة الممتنعه وتقحّمت مطامير الهوى ... فعرفت الضيق منها والسعه وقال أيضاً: قالت وقد قلت اعبثي لي به ... يوماً وقد نامت وقد ناما وقال بعضهم: تقول لي وهي غضبى من تدلّلها ... وقد دعتني إلى أمر فما كانا إن لم تنكني نيك المرء زوجته ... فلا تلمني إذا أصبحت قرنانا كأنّ أيرك من شمع رخاوته ... فكلّما عركته راحتي لانا وقال بعضهم: تعقّف فوق الخصيتين كأنّه ... رشاءٌ على رأس الركيّة ملتفُّ كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثمّ يسقطه الضعف ومن ظريف ما يحكى أنّ بعض البغايا دخلت مع رجل في بيت، فلمّا خلا بها لم ينعض، فلمّا طال عليها أخذت تعنّفه، فلمّا زادت عليه في اللوم قال لها: ويلك! أنت تفتحين بيتاً، وأنا أنشر ميتاً، وإنّ بينهما لفوتاً. وحكي عن المبرّد أنّه قال: عشقت جارية في قصر المعتزّ بالله، فلحقني بها ما خفت عاقبته على نفسي، وطال شوط مطالها، وأنا بنفس ترجي وصالها، فلمّا رحمت عبدها وأنجزت وعدها وحضرتني زائرة نام أيري لشوم طيري، فاجتهدت أن يقوم فأبى، فتحيّرت خجلاً، وتلدّدت وجلاً خوفاً أن تظنّ تلك السيرة، ولا تعرف السريرة، فأخذت سكّين الدواة، فقالت: ما تصنع؟ قلت: أقطعه، فقالت: دعه تبول منه، فكان ذلك أشدّ عَلَيّ من جدع أنفي، فانصرفت وأنا أقول: الشأن في أير يقوم، فالتفتت إليّ وقالت: وهوىً بلا نيك يدوم، فقلت: أيري على مرّ الزمان، فمن أذمّ ومن ألوم.

وقال الأصمعي: تزوّجت أعرابيّة غلاماً من الحي، فقال لها: يا واسعة، يعيرها بذلك، فقالت بديهة: إنّي تنقّيت من بعد الخليل فتىً ... مرزءاً ماله عقل ولا باه ما غرّني فيه إلاّ حسنُ نقبته ... ومنطقٌ لنساء الحيّ تيّاه فقال لمّا خلا بي أنت واسعة ... وذاك من خجل منّي تغشّاه فقلت لمّا أعاد القول ثانية ... أنت الفداء لمن قد كان يملاه وتزوّج بعضهم امرأة، فسُئِل عنها بعد أيّام، فقال: فيها خصلتان من خصال البرد والسعة. وقيل: إنّ رجلاً كان يدلّ بعضم الأير، فقال يوماً لامرأة واقعها وأعجبه ما معها: هل خرج من خلفك؟ فقالت له: وهل دخل الآن. وحكي ما هذا مضمونه أنّ رجلاً أراد شراء جارية فسألها: كم دفعوا فيك؟ فقالت: وما يعلم ... ودخلت جارية على راشد في رسالة من مولاتها إليه، فرأت حماراً قد أدلى، فبهتت وقالت: تقول لكم مولاتي كيف أير حماركم؟ فقال راشد: قائم ... وقيل: تزوّج رجل صغير الأير امرأةً، فلمّا واقعها اعتذر إليها، قال: إن كان أيري صغيراً فهو ذكيّ، فقالت: ليته كان كبيراً أبله. وقال بعضهم: وفيشة ليست كهذي الفيش ... قد ملئت من خرق وطيش إذا بدت قلت أمير الجيش ... من ذاقها يعرف طعم العيش ويقال: دبّ رجل على امرأة، فانتبهت مذعورة، فقال لها: ما تأمرين، أخرجه؟ قالت: لا دعه يذهب ويجيء حتّى أُفكّر. أقول: وميل النساء وشغفهنّ بذلك معروف، ولهنّ في الإشتياق إلى الرجال من النثر والنظم ما لا يحصى. قيل لأعرابيّة: أيّ الأيور أحبّ إليك؟ قالت: الشديد أسره، العظيم نشره، البطي فتره، الكثير غزره، الذي إن أصاب حفر، وإن أخطأ عقر. ولبعض نساء العرب من رائق النظم قولها: أيا أخوي اللائمي على الهوى ... أُعيذكما بالله من مثل مابيا سألتكما بالله إلاّ جعلتما ... مكان الأذى واللوم أن تاوياليا ويا أمتا حبّ الهلالي قاتلي ... سطون النوى لا زال عنّي نائيا أشم كغصن البان جعد مرجّل ... شغفت به لو كان شيئاً مدانيا فإن لم أوسّد ساعدي بعد هجعة ... غلاماً هلاليّاً فشلت بنانيا ثكلت أبي إن كنت ذقت كريقه ... سلافاً ولا ماء الغمامة صافيا ونظير قولها: أشم كغصن البان الخ ما قالته بعض بنات العرب فيما حكي أنّه كان لذي الإصبع بنات أربع، فعرض عليهنّ أن يزوّجهنّ، فأبين وقلت: خدمتك وقربك أحبّ إلينا، ثمّ تشرّف عليهنّ حيث لا يرينه، فقلن: لتقل كلّ واحدة ما في نفسها، قالت الكبرى: ألا هل أراها ليلةً وضجيعها ... أشمّ كنصل السيف غير مهنّد عليم بأدواء النساء واصله ... إذا ما انتمى من سرّ أهلي ومحتدي فقلن لها: أنت تريدين ذا قرابة قد عرفته، ثمّ قالت الثانية: ألا ليت زوجي من أناس ذوي عداً ... حديث الشباب طيّب الثوب والعطر لصوق بأكباد النساء كأنّه ... خليفة جلن لا ينام على وتر فقلن لها: أنت تريدين فتىً غنيّاً ليس من أهلك، ثمّ قالت الثالثة: ألا ليته يكسي الجمال نديّه ... له جفنة تشقى بها المعز والجزر له حكمات الدهر من غير كبرة ... تشين فلا فان ولا ضرع غمر

فقلن لها: أنت تريدين سيّداً شريداً، وقلت للرابعة: قولي، فقالت: لست أقول شيئاً، فقلن: يا عدوّة الله علمت ما في أنفسنا ولا تعلمينا ما في نفسك، فقالت: زوجٌ من عود خير من قعود، فمضت مثلاً، فزوّجهنّ أربعهنّ وتركهنّ حولاً، ثمّ أتى الكبرى فقال: ياابنتي كيف ترين زوجك؟ قالت: خير زوج، يكرم الحليلة، ويُعطي الوسيلة، قال: فما مالكم؟ قالت: خير مال الإبل، نشرب ألبانها جزعا، ويروى جرعا، ونأكل لحمها مزعا، وتحملنا وضعيفنا معا. فقال: يا بنتي زوج كريم، ومال عميم. ثمّ أتى الثانية فقال: ياابنتي كيف زوجك؟ قالت: خير زوج، يكرم أهله، وينسى فضله. قال: وما مالكم؟ قالت: البقر تألف الفناء، وتملو الإناء، وتودك السقاء، ونساء مع نساء. قال: حظيت ورضيت. ثمّ أتى إلى الثالثة فقال: ياابنتي كيف زوجك؟ فقالت: لا سمح بذر، ولا بخيل حكر. قال: فما مالكم؟ قالت: المعزى نولدها فطما، ونسلخها أدما، لم نبغ بها نعما. فقال لها: جذوة مغينة. ثمّ أتى الصغرى فقال: ياابنتي كيف زوجك؟ قالت: شرّ زوج، يكرم نفسه، ويهين عرسه. قال: فما مالكم؟ قالت: شرّ مال. قال: وما هو؟ قالت: الضان جوف لا يشبعن، وهيم لا ينقعن، وصمّ لا يسمعن، وأمر مغويتهنّ يتبعن. فقال أبوها: اشبه امرؤ بعض بزّه، فمضت مثلاً. قولها: وأمر مغويتهنّ يتبعن أي القطيع من الضأن يمرّ على قطنرة فتزلّ واحدة فتقع في الماء فيقعن كلّهنّ اتّباعاً لها، والضأن توصف بالبلاة. قال الأصمعي: رأيت امرأة من العرب تطوف بالكعبة وتنشد بلسان ذرب: أستغفر الله لذنبي كلّه ... قبّلت إنساناً بغير حلّه لحسن عينيه وحسن دلّه ... مثل غزال كانس فى ظلّه وانتصف الليل ولم أصلّه ... والخمر مفتاح لهذا كلّه فقلت لها: لله درّك ما أحدّ جنانك، وأفصح لسانك؟! فقالت: إليك عنّي، ما ترك كتاب الله لأحد فصاحة، ولقد سمعت منه آية جمعت أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين وهي قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنا إلى أُمِّ مُوسى أن أرضعِيهِ فإذا خِفْتِ عَلَيْهِ فألْقِيهِ في اليَمِّ ولا تَخافِي ولا تَحْزَني إنّا رادُّوهُ إليكِ وجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِين) . وفي فتح القريب: إنّ عمر بن الخطّاب خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة، وكان يفعل ذلك كثيراً، فمرّ بامرأة مغلق عليها بابها، فاستمع لها عمر وهي تقول: تطاول هذا الليل تسري كواكبه ... وأرقني أن لا ضجيع أُلاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لحرّك من هذا السرير جوانبه وبتُّ أُلاهي غير بدع ملعن ... لطيف الحشا لا يحتويه مصاحبه يلاعبني طوراً وطوراً كأنّما ... بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه يسرُّ به من كان يلهو بقربه ... يعاتبني في حبّه وأُعاتبه ولكنّني أخشى رقيباً موكّلاً ... بأنفسنا لا يفتر الدهر كاتبه ثمّ تنفّست الصعداء وقالت: لهان على ابن الخطّاب وحشتي في بيتي، وغيبة زوجي عنّي، وقلّة نفقتي. فقال عمر: يرحمك الله، فلمّا أصبح بعث إليها بنفقة وكسوة وكتب إلى عامله يسرح إليها زوجها. ويقال أيضاً بطريق آخر: إنّ عمر بن الخطّاب خرج في الليل، فسمع امرأة تقول: تطاول هذا الليل واسودَّ جانبه ... وأرقني أن لا خليل أُلاعبه فوالله لولا الله إنّي أُراقبه ... لزلزل من هذا السرير جوانبه فقال عمر بن الخطّاب: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت حفصة: ستّة أشهر أو أربعة، فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيش أكثر من أربعة أشهر. وحدّث أبوالعينا قال: حجّ الحسين بن الضحّاك فمرّ في منصرفه عل يموضع يعرف بالقريتين وإذا جارية كأنّها القمر في ليلة التم تتطلّع من تحت ثيابها وتنظر إلى حرها ثمّ تضربه بيدها وتقول: ما أضيعني وأضيعك، فأنشا الحسين يقول: مررت بالقريتين منصرفاً ... من حيث يقضي ذووا الهوى النسكا إذا فتاة كأنّها القمر التم ... إذا ما توسّط الفلكا واضعةً كفّها على حرّها ... تقول واضيعتي وضيعتكا فلمّا سمعت قوله ضحكت وغطّت وجهها وقالت: وا فضيحتاه. ويروى أيضاً ما هذا مضمونه أنّ امرأةً قالت لأُخرى: خرجت اليوم إلى العيد، قالت لها: إي وحياتك، قالت لها: فما رأيت؟ قالت: أحراءً تتثأب وأيوراً تتمطّى.

قال صاحب المعاهد: وقد روي هذه الحكاية عن أبي حيّان التوحيدي. ومن بديع الإستعارة على سخفه ومجونه قول السعيد ابن سناء الملك وهو: يا هذه لا تستحي ... منّي فقد كشف المغطّى إن كان فرجك قد تثأب ... إنّ أيري قد تمطّى ويقال: كان عبد المطّلب المخزومي قاضياً على المدينة، وكانت عنده امرأة مات عنها خمسة أزواج، فمرض فجلست عند رأسه تتباكى وتقول: إلى من توصي بي؟ قال: إلى السادس الشقي. ومن جيّد الهزل المناسب لهذا المقام قول بعضهم: يستغفر النّاس بأيديهم ... وهنّ يستغفرن بالأرجل فياله من عمل صالح ... يرفعه النيك إلى أسفل ومثله أيضاً: قد هزّني الشوق ... من أجل أبي طوق فلم أشعر تدحرجت ... من تحت إلى فوق ومن ظريف الهزل والمجون ما حكي أنّ الحسين بن الحجاج كان له صديق وكان له ابن يقال له أبا جعفر مستهتراً بالقحاب، فسأله أن يعاتبه ويشير عليه بالتزويج، فكتب إليه ابن الحجاج: إيّاك والعفّة إيّاكا ... إيّاك أن تفسد معناكا أنت بخير يا أبا جعفر ... ما دمت صلب الأير نيّاكا ومن النوادر الظريفة ما حكي أنّه كان بإصبهان رجل حسن النعمة، واسع النفس، كامل المروّة يقال له سماك ابن النعمان، وكان يهوى مغنية من أهل إصبهان تعرف بأُمّ عمرو، فلإفراط حبّه إيّاها وصبابته بها وهبها عدّة من ضياعه وكتب عليه بذلك كتباً وحمل الكتب إليها على بغل، فشاع الخبر بذلك وتحدّث الناس واستعظموه، وكان بإصبهان رجل متجلّف بين الركاكة، يهوى مغنّية أخرى، فلمّا اتّصل به ذلك ظنّ بجهله وقلّة عقله أنّ سماكاً إنّما أهدى إلى أُمّ عمرو جلوداً لا كتابة عليها وأنّ من الهدايا التي تستحسن عند من تهدى إليه، فابتاع جلوداً كثيرة وحملها على بغلتين لتكون هديّته ضعف هديّة سماك وأنفذها إلى التي يحب، فلمّا وصلت الجلود إليها ووقفت على الخبر فيها فغيّظت عليه وكتبت إليه رقعة تشتمه وتحلف أنّها لا تكلّمه أبداً، وسألت بعض الشعراء أن يعمل أبياتاً في هذا المعنى لتودعها الرقعة، ففعل، وكانت الأبيات: لا عاد طوعك من عصاكا ... وحرمت من وصلي مناكا فلقد فضحت العاشقين ... بقبح ما فعلت يداكا أرأيت من يهدي الجلود ... إلى عشيقته سواكا وأظنّ أنّك رمت أن ... تحكي بفعلك ذا سماكا ذاك الذي أهدى الضياع ... لأُمّ عمرو والصكاكا فبعثت منتقنة كأنّك ... قد مسحت بهن فساكا من لي بوصلك يا رقيع ... ولست أهوى أن أراكا لكن لعلّي أن أقطّع ... ما بعثت على قفاكا ونظير هذه النادرة في اللطافة ما نقل عن الحسين بن الضحّاك أنّه قال: كان رجل من أهل الشام عيجب الخلقة، والشكل غليظ جلف جاف، فكنت أحتمل ذلك منه، وكان حظي التعجّب منه، وكان يأتي بكتب عتيقة له ما رأيت كتباً أحلى منها ولا أظرف ولا أشكل من معانيها، ويسألني أن أجيب عنها، فأجهد نفسي في الجواب عنها وأصرف عنايتي إليها على علمي أنّ الشامي على جهله لا يميّز بين الخطأ والصواب، ولا يفرّق بين الإبتداء والجواب، ولمّا طال ذلك عَلَيّ حسدته وتنبّهت على فساد حاله عند محبوبته، فسألته عن اسمها، فقال: بصبص، فكتبت إليها عنه في جواب كتاب منها كان جائني به: أرقصني حبّك يا بصبص ... والحبّ يا سيّدتي يرقص أرمصت أجفاني بطول البكا ... فما لأجفانك لا ترمص وأنبىء وجهك ذاك الذي ... كأنّه من حسنه سعفص

نبذة من نوادر الحمقاء

قال: فجائني بعد ذطلك فقال: يا أبا علي! ما كان ذنبي إليك؟ وما أردت بما صنعت بي؟ فقلت له: وما ذاك عافاك الله؟ فقال: ما هو إلاّ أن وصل إليها ذلك الكتاب حتّى بعثت إليّ: إنّي مشتاقة إليك، والكتاب لا ينوب عن أن أراك، فتعال إلى الروشن الذي بالقرب من بابنا لتقف بحياله حتّى أراك، فتزيّنت بأحسن ما قدرت عليه وصرت إلى الموضع فبينا أنا أنتظر مكلّماً لي أو مشيراً إليّ وإذا شيء قد صبّ عَلَيّ فملأني من فرقي إلى قدمي، وأفسد ثيابي وسرجي، وصيّرني وجميع ما عَلَيّ ودابّتي في نهاية السواد والنتن والقذارة، وإذا هو ماء قد خلط ببول وسواد وسرجين، وانصرفت بخزي وكان ما مرّ بي من الصبيان وسائر من مررت به من الطنز والضحك والصياح أعظم ممّا جرى عَلَيّ، ولحقني من أهلي ما هو شرٌّ من ذلك وأعظم من كلّ ما ذكرته إنمنعت رسلها وانقطعت عنّي. قال: فجعلت أعتذر إليه وأقول: إنّ الآفة أنّها لم تفهم الشعر بجودته، وأنا أحمد الله على ما ناله وأسرّ بالشماتة إليه. وحيث انجرّ الكلام إلى ذكر هذين الغبيين فلا بأس بتوشيحه بذكر نوادر بعض الحمقاء ونوادرهم كثيرة. نبذة من نوادر الحمقاء منها ما أورده أبو العبّاس السنجري في كتابه قال: قال واحد من أهل حمص لآخر: عليك بالسنّة تدخل الجنّة، فقال: وما السنّة؟ فقال: حبّ أبي بكر بن عثمان، وعمر بن الصدّيق وعثمان بن الفاروق وعلي بن أبي سفان ومعاوية بن أبي طالب. فقال صاحبه: وما معاوية بن أبي طالب؟ قال: كان صلّى الله عليه وسلّم رجلاً عابداً من أهل حملة العرش، وكاتب المؤمنين، وخال الوحي، وختن النبي على ابنته عائشة جدّة فاطمة. وجاء بعضهم إلى القضاة آخذاً بتلبيت رجل، فقال: أعزّ الله القاضي، اصلى الله عليه وآله وسلم نّ هذا رافضي ناصبي مجبري مشبهي جهمي مبتدعي حروري يشتم عليّ بن أبي طالب ويحبّ عمر بن أبي قحافة وأبابكر بن عفّان. فقال القاضي: لا أعرف أيّ شيء أحسد منك: علمك بالمذاهب أم معرفتك بأنساب العرب؟ ومات ابن قاض وكان القاضي يتفلسف، فلمّا أرادوا دفن الميّت قال للحفّار: أضجعه على شقّة الأيسر فإنّه أهضم للطعام. وجاء حمصي إلى الطبيب فقال: إنّ امرأتي تشكت جوفها أو وسط بطنها أو فوق بطنها. فقال الطبيب: إحمل مائها إليّ لأنظر فيه. قال: لعلّك تعني بولها؟ قال: نعم، فذهب وجاء بطست، فقال الطبيب: ألا جئت به في قارورة؟ فقال: جعلت فداك إنّ إحليلها أوسع من ذلك. ولنكتف من ذكر نوادرهم بهذا المقدار، ثمّ نعود إلى الكلام على ما في بعض أبيات المقطوعة. أقول: فأمّا قولي: تدبُّ على الورد النديّ بخدّها ... عقارب من أصداغهنّ لواذع لوادغ أحشاء يبيت سليمها ... ودرياقه عذب من الريق سائغ ففيه تشابه الأطراف وهو أن يجع الشاعر أو الناثر قافية بيته الأوّل أوّل بيته الثاني ليبقى الطرفان متشابهين، والنّاثر كذلك يفعل في السجعات، وهذا النوع كان يسمّى التسبيغ بسين مهملة وغين معجمة. وإنّما ابن أبي الأصبع قال: هذه التسمية غير لائقة بهذا المسمى فسمّاه: تشابه الأطراف، ومن أبرع ما جاء نظماً في ذلك قول ليلى الأخيليّة في الحجّاج وذلك ما روى في الفتح القريب أنّ مولىً لعنبسة بن سعيد ابن العاص قال: كنت أدخل مع عنبسة إذا دخل على الحجاج، فدخل يوماً ودخلت عليهما وليس عند الحجاج غير عنبسة، فأقعدني فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً وجائني به، ثمّ جاء الحاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها، فدخلت، فلمّا رآها الحجاج طأطأ رأسه حتّى ظننت أنّ ذقنه أصاب الأرض، فجائت حتّى قعدت بين يديه، فنظرت فإذا امرأة قد أسنّت وهي حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نفسها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتانا بك؟ فقالت: أخلاف النجوم، وقلّة الغيوم، وكلب البرد، وشدّة الجهد، وكنت لها بعد الله الرفد. فقال لها: صفي لنا الفجاج، فقالت: الفجاج مغبره، والأرض مقشعرة، والمبرك معتل، وذوالبال مختل، والهالك للقل، والناس مسنتون، رحمة الله يرجون، وأصابتنا سنون محجفة مبلطة، لم تدع لنا هيعاً ولا ريعاً، ولا عافطة ولا نافطة، أذهب الأموال، ومزقت الرجال، وأهلكت العيال، ثمّ قالت: قلت في الالمير قولاً، فأنشأت تقول:

أحجّاج لا يفلل سلاحك إنّما ... المنايا بكفّ الله حيث تراها أحجّاج لا يعطي العصاة مناهم ... ولا الله يعطي للعصاة مناها إذا هبط الحجّاج أرضاً مريضة ... تتبّع أقصى دائها وشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال حيث حال حشاها إذا سمع الحجّجاج ردّ كتيبة ... أعدّ لها قبل النزول قراها أعدَّ لها مسمومةً فارسيّة ... بأيدي رجال يحلبون صراها فما ولد الأبكار والعون مثله ... ببحر ولا أرض يجفّ ثراها قال: فلمّا قالت هذا البيت قال الحجّاج: قاتلها الله ما أصاب صفتي شاعر منذ دخلت العراق غيرها، ثمّ التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إنّي لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبداً، ثمّ التفت إليها فقال: حسبك، فقالت: إنّي قلت أكثر من هذا، فقال لها: ويحك حسبك، ثمّ قال: يا غلام إذهب إلى فلان فقل له: إقطع لسانها، فذهب بها، فقال له: يقول الأمير: إقطع لسانها، فأمر بإحضار الحجّاج فالتفتت إليه وقالت: ثكلتك أُمّك أما سمعت ما قال؟ إنّما أمر أن تقطع لساني بالصلة، فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً وهمّ بقطع لسانه، فقال: أُرددها، فلمّا دخلت عليه قالت: كاد وأمانة الله يقطع مقولي، ثمّ أنشأت تقول: حجاج أنت الذي ما فوقه أحد ... إلاّ الخليفة والمستغفر الصمد حجاج أنت شهاب الحرب إن لقحت ... وأنت للناس نور في الدجى يقد ثمّ أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيّها الأمير إلاّ أنّا لم نر أحداً قط أفصح لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها، فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة من حبّها. وعلى اختصار هذه الرواية أنّ الحجّاج قال لها في أثناء محادثتها له: أنشدينا في رثاء توبة، فأنشدت قصيدة منها قولها: كأنّ فتى الفتيان توبة لم ينخ ... قلائص يفحصن الحصا بالكراكر فلمّا فغت من القصيدة قال محصن الفقعسي وكان من جلساء الحجاج: ومن هذا الذي تقول هذيه فيه وإنّي لأظنّها كاذبة، فنظرت إليه ثمّ قالت: أيّها الأمير! إنّ هذا القائل لو رأى توبة لسرّه أن لا تكون في داره عذراء إلاّ وهي حامل منه. قال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت غنيّاً عنه، ثمّ أجزل لها صلتها. أقول: فأمّا قولها: لو رأى توبة لسرّه أن لا تكون في داره عذراء إلاّ وهي حامل منه، فيناسبه ذكر هذه القضيّة وإن كانت تلك من الجدّ في الجواب وهذه من الحماقات المضحكة وذلك أنّ لقمان بن عاد وكان منجباً وله أخت محمقة فقالت لإحدى نساء أخيها: هذه الليلة الطهر وهي ليلتك فدعيني أنام في مضجعك فإنّ لقمان رجل منجب فعسى أن يقع عَلَيّ فأنجب، فوقع عليها فحملت منه بلقيم، فلذلك قال النمر بن تولب: لقيم ابن لقمان من أخته ... فكان ابن أخت له وابنما ليالي حمقاوها استحصنت ... إليه فغرَّ بها مظلما فأحبلها رجل محلم ... فجائت به رجلا محلما فأمّا قولي في المقطوعة: يقصر كعب عن نداه وحاتم ... ويقصر حتّى جرول والنوابغ كعب بن مامة الأيادي هو الذي كان يضرب به المثل في الجود، فيقال: أجود من كعب، وهو الذي أراده أبو سعيد الرستمي في قوله من قصيدة يمدح بها الصاحب بن عباد، ولقد أحسن ما شاء وأجاد: إذا عدّ كعب في السماح أبت له ... يمين لها في كلّ أنملة كعب ويقال: إنّ صاحبه النمري صحبه في سفر له فقلَّ ماؤهم فجعلوا يتقاسمونه بالمقلّة وهي حصاة كانوا يضعونها في قعب ثمّ يغمرونها بالماء ويشربونها على السويّة، فلمّا تصافو الماء أي تقاسموه حصصاً كان النمري كلّما وصل الماء إلى كعب قال له: أذكر أخاك النمري، فيؤثره على نفسه بنصيبه من الماء حتّى هلك عطشاً. وقيل: إنّه كان قد أشرف على الماء فقيل له: رد يا كعب فلم يقدر على الورود لضعفه فظلّلوا عليه خوفاً من السباع، فلمّا رجعوا إليه بالماء وجدوه ميتاً، فقال له أبوه مامه: ما كان من سوقة أسقى على ظماء ... خمراً بماء إذا ناجودها بردا من ابن مامة كعب ثمّ عيّ به ... ردّ المنيّة إلاّ حرّة وقدا

الباب العشرون في قافية الفاء

أوفى على الماء كعب ثمّ قيل له ... رد كعب إنّك ورّادٌ فما وردا فأمّا حاتم فقد تقدّم ذكره، وأمّا النوابغ فمعروفون، وأمّا جرول فهو الحطيئة، وقد تقدّم طرف من أخباره. ويعجبني له هذه الأبيات وهي قوله: وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ... ببيداء لم تعرف لساكنها رسما أخا جفوة فيه من الإنس وحشة ... يرى البؤس فيها من شراسته نعما تفرّد في شعث عجز إزائها ... ثلاثة أشياخ تخالهم بهما حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة ... ولا عرفوا للبرّ مذ خلقوا طعما رأى شبحاً عند العشاء فراعه ... فلمّا رأى ضيفاً تسوّر واهتما وقال هيا ربّاه ضيفاً ولا قرىً ... بحقّك لا تحرمه تاالليلة اللحما فقال ابنه لمّا رآه بحيرة ... أيا أبتى اذبحني ويسّر له طعما ولا تعتذر بالعدم علّ الذي طرى ... يظنّ لنا مالا فيوسعنا ذمّا فروى قليلاً ثمّ أحجم برهةً ... وإن هو لم يذبح فتاه لقد هما فبيناهم عنت على البعد عانة ... قد انتظمت من خلف مسحلها نظما ظماء تريد الماء فانساب نحوها ... على أنّه منها إلى دمها أظمى فأمهلها حتّى تروّت عطاشها ... وأرسل فيها من كنانته سهما فخرّت بجوض ذات جحش فتية ... قد اكتنزت لحماً وقد طبّقت شحما فيابشره إذ جرَّها نحو قومه ... ويا بشرهم لمّا رأوا كلمها يدمى وباتوا كراماً قد قضوا حقّ ضيفهم ... وما غرموا غرماً وقد غنموا غنما وبات أبوهم من بشاشته أباً ... لضيفهم والأُمّ من بشرهم أُمّا الباب العشرون في قافية الفاء وفيها ثلاثة فصول الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه: الفتك نافرة الظبا الهيف ... واستوطنت في ربعك المألوف فانعم بناعمة الشبيبة غضة ... بيضاء ضامية الوشاح رشوف أبداً يروق العين في وجناتها ... وردٌ ولكن ليس بالمقطوف هي قبلة صلّى لها غزلي كما ... صلّى ثناي لقبلة المعروف الماجد الحسن المكارم ملجأ ... العاني الكريث ونجدة الملهوف قمر زهت منه البسيطة كلّها ... بأشعّ من قمر السماء الموفي الأزهر الغطريف نجل الأزهر ... الغطريف نجل الأزهر الغطريف ما راق في صدر النديّ بشاشة ... إلاّ وراع بهيبة ابن غريف ومقوّم الآراء ثقّفه النهى ... وكذا الرماح تقام بالتثقيف كرماً يتابع للوفود هباته ... لم يثن في عذل ولا تعنيف والجود عند سواه أن يعد الندى ... ويميت ذاك الوعد بالتسويف هو غيث مكرمة وبدر مفاخر ... ومحطّ آمال وأمن مخوف قولي في هذه المقطوعة: الأزهر الغطريف نجل الأزهر ... الغطريف نجل الأزهر الغطريف اشتمل على التكرار، والتكرار هو إعادة الشيء بنفسه لفائدة، ويأتي على وجوه للتنوية بشأن الممدوح كما في بيتنا هذا، وكما في بيت المتنبّي: العارض الهتنى ابن العارض الهتن ... ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن ومنه إيقاع الجزاء نفس الشرط نحو قولهم: من أدرك الضمان فقد أدرك أي مرعى ليس بعده مرعىً إلى غير ذلك، وإمّا لتقرير المعنى وإمّا لمقارنة تمام الفصل لئلاّ يأتي الكلام متبوراً لطوله، وإمّا ليناط به حكم آخراً وللترغيب أو للترهيب، والحاصل أنّ الوجوه التي يأتي التكرار لأجلها كثيرة ليس هذا الكتاب موضعاً لضبطها، ولا بأس بذكر بعض الشعر في هذا المقام. قالت ليلى الأخيلية ترثي توبة الحميري: لنعم الفتى يا توب كنت إذا التقت ... صدور العوالي واستشال الأسافل ونعم الفتى يا توب كنت ولم تكن ... لتسبق يوماً كنت فيه تجاول ونعم الفتى يا توب كنت مقدّماً ... على الخيل تمضيها ونعم المنازل ونعم الفتى يا توب كنت لخائف ... أتاك لكي يحمى ونعم المجامل ونعم الفتى يا توب جاراً وصاحباً ... ونعم الفتى يا توب حين تناضل لعمري لأنت المرء أبكي لفقده ... ويكثر تشهيدي له لا أوائل لعمري لأنت المرؤ أبكي لفقده ... بجدٍّ ولو لامت عليه العواذل لعمري لأنت المرؤ أبكي لفقده ... ولو لام فيه ناقص الرأي جاهل

الفصل الثاني في التهنئة

لعمري لأنت المرؤ أبكي لفقده ... إذا كثرت بالملحمين التلاتل أبى لك ذمّ النّاس يا توب كلّما ... ذكرت أمورٌ محكماتٌ كوامل أبى لك ذمّ النّاس يا توب كلّما ... ذكرت سماحٌ حين تأوى الأرامل فلا يبعدنك الله يا توب إنّما ... لقيت حمام الموت والموت عاجل ولا يبعدنك الله يا توب إنّما ... كذاك المنايا عاجلات وآجل ولا يبعدنك الله يا توب والتقت ... عليك الغوادي المدجنات الهواطل وعن مصعب بن عبد الله الزهري قال: تزوّج عمرو الغساني بنت عمّ للنعمان بن بشير الأنصاري وكلف كلّ واحد منهما بصاحبه، وكان مالك شجاعاً فاشترطت عليه أن لا يقاتل شفقة عليه وصابة به وأنّه غزا حيّاً من لخم وباشر القتال بنفسه فأصابته جراح فقال وهو مثقل: ألا ليت شعري عن غزال تركته ... إذا ما أتاه مصرعي كيف يصنع فلو أنّني كنت المؤخّر بعده ... لما برحت نفسي عليه تطلّع ومكث يوماً وليلة ومات من جراحته، فلمّا وصل خبره إلى زوجته بكته سنة ثمّ اعتقل لسانها وامتنعت من الكلام وكثر خطّابها، فقال عمومتها وولاة أمرها: زوّجوها لعلّ لسانها ينطلق فإنّما هي النساء، فزوّجوها بعض ملوك القبائل، فساق إليها ألف بعير، فلمّا كانت الليلة التي أُهديت إليه فيها، قامت على باب القبّة فقالت: يقول رجال زوّجوها لعلّها ... تقرّ وترضى بعده بخليل فأيقنت في النفس التي ليس بعدها ... رجاء لهم والصدق أفضل قيل وحدّثني أصحابه أنّ مالكاً ... أقام ونادى صحبه برحيل وحدّثني أصحابه أنّ مالكاً ... ضروب بحدّ السيف غير فلول وحدّثني أصحابه أنّ مالكاً ... جواد بما في الرحل غير بخيل وحدّثني أصحابه أنّ مالكاً ... خفيف على الجدّات غير ثقيل ثمّ شهقت شهقة فماتت. وقال مهلهل ابن ربيعة يرثي أخاه كليباً: على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا طرد اليتيم من الجزور على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما ظيم جار المستجير على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا رجف العضات من الدبور على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأُمور على أن ليس عدلاً من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلاً من كليب ... غداة تلاتل الأمر الكبير الفصل الثاني في التهنئة قلت مهنّياً للماجد محمّد الصالح بزواج ولد الجواد محمّد وكان زعيم القبيلة: أبشر فيك العلى والشرف ... وأهدي الى المجد أسنى التحف وأنظم فيك لجيد الفخار ... لئال تفوق لئالي الصدف وأجلو عليك بنادي السرور ... عروس الثنا بالتهاني تزف أباالمصطفى أنت فخر الكرام ... وأكرم من بالفخار التحف لك الله أكمل هذا السرور ... بعزٍّ عليك لواه يرف ولا زلت في آلك الأكرمين ... ترى ما يقرُّ عيون الشرف تروح على فرح فيهم ... وتغدو على فرح يؤتنف جلا اليوم بشرك وجه الزمان ... فماء الغضارة فيه يشف نظمت بأيّامك الصالحات ... شمل المكارم حتّى ائتلف اقول لمن بات ينضي الركاب ... رويدك في السى لا تعتسف إذا للإقامة فيه أتم ... أجدّ به نيّةً فاعتكف وحي به من وبادر إلى ماجد بيته ... به للأكارم نعم الخلف ترى علّة المكث للضيف فيه ... طيب القرى فهو لا ينصرف أبي المصطفى ... ربيع العفاة إذا الضرع جف أجل نظراً في مزايا علاه ... وفي قومه خلفاً عن سلف تجد فيه كلّ صفات الكمال ... وفيهنّ عبد الكريم اتّصف فتىً وكفت كرماً كفّه ... فعلمت الغيث حتّى وكف ترى للمكارم والأكرمين ... في المصطفى المجد نشراً ولف إذا بسط الكف يوم العطاء ... طوى كلّمن نشرته الصحف له حلف الدهر أن لا يجيء ... بمثل وقد برَّ فيما حلف وكيف يساجله الأكرمون ... وكلّهم من نداه اغترف ولو شاء جارى بصغرى بنان ... أخيه من الأكرمين الأكف وأبدى من الحسن المكرمات ... مزاياً جمعن حسان الظرف

الفصل الثالث في الرثاء

هو الحسن الندب من في الكمال ... أقرَّ الحسود له واعترف تباري الصبا كرماً راحتاه ... وأخلاقه الغرُّ منها أشف بني المصطفى من يباهيكم ... وأنتم نجوم سماء الشرف حللتم من المجد أوساطه ... وغيركم منه حلّ الطرف سبقتم إلى صهوات العلى ... فأعلى الورى خلفكم مرتدف ثقال الحلوم فلو توزنون ... برضوى إذاً لرجحتم وخف يقرُّ بعين العلى أن ترى ... بيوتكم للعلى مختلف وإنّ عليهنّ طير السعود ... بأجنحة اليمن زهواً يرف أهنّيكم بفتى ماجد ... حسان العلى فيه تبدي الشغف غدا عرسه روضةً للهنا ... وزهر السرور بها يقتطف به قد غفرنا ذنوب الزمان ... وقلنا عفا الله عمّا سلف وبتنا على طرب نستطيب ... أرقَّ النشيد بنادي الشرف نفضُّ ختام رحيق السرور ... ونرشف أعذب ما يرتشف نعمّكم ونخصّ الجواد ... فيابورك الفرح المنتصف ليهن بغرس هلال له ... ظلام الخطوب به ينكشف جواد جرى سابقاً للندى ... وعن شأوه الدهر عجزا وقف فيا أُسرة الفخر لا زلتم ... ببشر مدى الدهر لا ينصرف الفصل الثالث في الرثاء قلت في رثاء كريمة توفّيت لسيّد العلماء ورئيس المحققين والفضلاء علاّمة الزمن المهدي نجل الحسن أعلى الله كلمته ورفع درجته، وهذه ليست التي مرّت مرثيتنا لها في باب الهمزة، وإنّما تلك كريمته الصغرى وهذه كريمته الكبرى: مالهم يا قبر قد جدّوا انصرافا ... بعدما قد دفنوا فيك العفافا وحثوا منك على عين العلى ... تربةً تستافها الحور استيافا نفضوا تربك والصبر معاً ... عن يد تمسك أكباداً لهافا وردوا أمس ثقالاً بالجوى ... فبماذا صدروا اليوم خفافا هل أعادوا معهم ما أخذوا ... من حشاشات تبقوها ضعافا لا ومن قد طهر الماء بها ... مذ لها مطلقه صار مضافا والتي راح الحيا ملتحفاً ... معها طاهر برديها التحافا بل أعادوا جمرة الوجد إلى ... أضلع باتت إليها تتجافى حجب القبر ابنة الوحي التي ... شرف الذكر بعلياها أنافا من كريمات على الله لها ... ضرب العصمة خدراً وسجافا لم تلد إلاّ الذي يسقي كلا ... ماتحي سجليه شهداً وذعافا والتي ما مدّت العليا على ... مثلها يوماً لتخدير طرافا ساقها الحتف ولكن بعدما ... شقّ من صدر الهدى عنها الشغافا أبت العلياء إلاّ ردّها ... وأبى الموت بها إلاّ انصرافا وعليها مسح المجد ضحى ... مقلة عمياء لا تدري الجفافا أوحشت من أُمّ شبل غابة ... لو بها مرَّ أبو شبل لخافا كعبة التخدير إلاّ أنّها ... خلقت للملأ الأعلى مطافا دار قدس أودع الله بها ... خير أهل الأرض نسكاً وعفافا قل لمن رام انحرافاً عنهم ... ضلّ من يبغي عن الحقّ انحرافا سادة للرشد في مهديّهم ... جعل الله من الغيَّ انتصافا كلّهم أبحر علم طفحت ... فاغترف من أيّهم شئت اغترافا فضّلوا الخلق أكفّاً سحباً ... ترفع المحل وأخلاقاً سلافا أسكرت في حبّهم حتّى العدى ... فهي الصهباء لطفاً وارتشافا كرماء لقرى أضيافهم ... ينحرونالبدر لا البدن العجافا آمنوا في الله من آمنه ... وأخافوا من له الله أخافا يا ذوي الحلم وفيكم رقّة ... فقتم فيها حنوّاً وانعطافا إنّما هزت قنا صبركم ... نكبة الدهر فزادتها ثقافا وعلى زحف الليالي لا شكت ... أبداً أبيات علياكم زحافا وقال عمّنا المهدي قدّس الله روحه في رثاء أخي الممدوح الماجد محمّد الرضا نوّر الله ضريحه: قلبك خلف الطاعنين انصرفا ... ألحق الظعون أم تخلّفا علمت فيمن لا يزال عاطفا ... عليه في حثّ السرى ما عطفا وظلّ في صيخودة من حزنه ... تعسّف السير بها فضعفا وعنه في جمانة المجد سرى ال ... موت للحد نورها فيه اختفى والهفتا لدرّة المجد التي ... أمست لها ثرى اللحود صدفا

الباب الحادي والعشرون في قافية القاف

من بعد ما كانت على جيد العلى ... عقداً وفي أُذنيه كانت شنفا يامسعدي عيني من الحزن قد ابي ... ضّت ومنها دمعها ما نزفا قد غشيتني ظلمة الحزن التي ... مادمت فوق الأرض لن تنكشفا من ناقلٌ لي للرضا صحيفةً ... أقصُّ فيها من شجوني طرفا لعلّه على محبّه الذي ... أنحله فقدانه أن يعطفا إنّي أرى لهابريداً ومتى ... قد بعث الحي لميت صحفا روحي فداء للذي قد غاب عن ... عيني وعن قلبي ما تخلّفا فذكره لم يخل من قلبي وإن ... ذكرته قلبي منّي اختطفا منها: لله يوم هتّف الناعي به ... بموته وليته لا هتفا وقفت من حرّ الأسى ذا قدم ... خيل على جمر حشاه وقفا أعضّ كفّي أسفاً ولم يفد ... إذ فاتني عضّي كفّي أسفا ومنها: والوعة المجد على نيّره ... الزاهر أمسى في الثرى ملتحفا كان هلالاً يرتجى كماله ... وحينما حاز الكمال انخسفا وروضة المعروف في أزهارها ... صوّحها الدهر وكانت أنفا والمكرمات أصبحت معولةً ... على أخيها تكثر التلهّفا تدعوا أخي صحبت منك ماجداً ... عنّي في حياته ما صدفا وأنت للوفّاد بحرٌ زاخر ... منك متى شاء النوال اغترفا لله أيّ ماجد بموته ... الناس وأملاك السماء اختلفا هذه تلقّت روحه ضاحكة ... وهذه تبكي عليه أسفا وهذه لروحه قد زيّنت ... جنّة عدن فرحاً والغرفا وتلك شقّت جدثاً لجسمه ... بصرخة ثهلان منها رجفا يا نكبة لم يستطع مصابها ... لسان كلّ ناطق أن يصفا ومنها في تعزية أبيه الماجد محمّد الصالح: يا من تراه الناس في الجلى إذا ... ماليلها بالحادثات أسدفا أقرّها قلباً إذا ما أقبلت ... سوداء قلب الدهر منها وجفا أنت الذي بوجهه عن الورى ... ما إن دجا الحادث إلاّ انكشفا في الأسى تهدي إلى قلب من ... صبرك لو جلَّ المصاب تحفا فيغتدي قلبك من رقّته ... أشدُّ إصلاداً بها من الصفا محمّد للصبر أنت صالح ... عرفت من معناه ما لن يعرفا وهي طويلة. واعلم أنّ كثيراً من شعر عمّنا المذكور لم نذكر منه إلاّ اليسير اتّكالاً على ذكره له في كتابه المسوم ب "مصباح الأدب الزاهر". الباب الحادي والعشرون في قافية القاف وفيها فصلان الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه: حمّلتك الديار ما لا تطيق ... مذ عرى شمل أهلها التفريق عرصات حبست أيدي المراسيل ... عليها والدمع منك طليق كنت ترتادها وريقة روض ... وهي اليوم دمنةٌ لا تروق سحقتها اليوم المطايا كأن لم ... تك بالأمس وهي مسك سحيق صاح ماذا عليك من رسم دار ... قد تعفّت وزال عنها الفريق أوحشت غير أن يئنَّ ابن ورقاء ... بها أو يحن صبٌّ مشوق فأطرح ذكرها لمدح عظيم ... هيبةً باسمه تضيق الحلوق حسن الفعل ماجد الفرع والأصل ... جدير بالمكرمات خليق لحقته أماجد العصر لكن ... عزَّ في شأوه عليها اللحوق ذو لسان كما ينضنض صلٌّ ... وفم فيه ريقة الصلّ ريق وهو في أعين الخصوم لسان ... وبأحشائهم سنان ذليق وإذا غاية من المجد عنّت ... لم يعقه عن نيلها العيوق قولي: لحقته أماجد العصر الخ قد مضى طرف من ذكر المسابقة في قافية الجيم ونحن نذكر طرفاً منها الآن، قال مهيار الديلمي: عرفت من نفسك ما لم يعرفوا ... فطرت حتّى صرت حيث تستحق كم عجبوا منك وأنت ترتقي ... وانتظروا فيك الزليل والزلق وخاوصوك حسداً بأعين ... لم تحفل الشهلة منها والزرق حتّى تركت النجم في خضرائه ... يخطر زهواً إن سبقت ولحق وإنّي لأستحسن لعمّنا المهدي في السبق واللحوق من جملة قصيدة ولقد أجاد في معنى أبياته هذه: ورأوك تسعى للمعالي ساحبا ... ذيل الفخار على ذرى الجوزاء فجروا وراك فغبت عن أبصارهم ... فتخيّلوا سبقوك للعلياء وإذا هم بمكانهم لا يستطي ... عون اللحوق بكم من الإعياء

فجسومهم في الأرض واهية القوى ... وعقولهم طارت مع العنقاء ياليتها تبعت عقولهم ولا ... تبقى لهم في خزية شنعاء وقال السري الرفاء: كم حاولا أمدي فطال عليهما ... أن يدركا إلاّ مثار ترابي عجزا ولن تقف العببيد إذا جرت ... يوم الرهان مواقف الأرباب ومثل قوله: أن يدركا إلاّ مثار ترابي، قول السيّد الرضي في صفة الجواد، ولقد أحسن وأجاد: وذي حجول نافض سبيبه ... على طموح الناظرين بازل ينقضُّ لا تلحق من غباره ... إلاّ بقايا فلق الجراول وفي هذا البيت من المبالغة ما لا يخفى، لأنّه جعل هذا الجواد في سرعة عدوه لا يلحق غباره وإنّما يحلق منه فلق الجراول - وفلق الجراول الحجار الصغار التي تنحتّ من الصخر وتكون مع ترابه لدقّتها - وحيث انتهى الكلام إلى ذكر الجواد وشدّة عدوه لا بأس بذكر نبذة ممّا نظمته الشعراء في الخيل، قال الطغرائي: سبقت حوافرها النواظر فاستوى ... سبق إلى غاياتها وصفون لولا ترامي الغايتين لأقسم ... الرائون أنّ حراكها تسكين وتكاد تشبهها الصروف لو أنّها ... لم تعتلقها أعين وظنون وما أحسن ما وصف به ابن حجاج فرسه: قال له البرق وقالت له ... الريح جميعاً وهما ما هما ءأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتما منكما هذا ارتداد الطرف قد فتّه ... إلى المدى سبقا فمن أنتما وقال ابن دريد: يجري فتكبو الريح في غاياته ... حسرى تلوذ بجراثيم السحا وقال ابن نباته: لا تعلق الألحاظ من أعطافه ... إلاّ إذا كفكفت من غلوائه قال ابن حمديس الصيقلي: يجري فلمع البرق في أثاره ... من كثرة الكبوات غير مفيق ويكاد يخرج سرعة من ظلّه ... لو كان يرغب في فراق رفيق وما أبدع قول ابن المعتز: فكأنّه موج يذوب إذا ... أطلقته وإذا حبست جمد وما أحلا قوله أيضاً: يكاد أن يخرج من إهابه ... إذا تدلّى السوط لولا اللبب وقال شمس الدولة: أبت الحوافر أن يمسَّ بها الثرى ... فكأنّه في جريه متعلّق وكأنّ أربعة تراهنُ طرفه ... فتكاد تسبقه إلى ما يرمق ولقد أجاد عمّنا المهدي حيث نسج على منوال هذا المعنى فقال: يعدو عليهم على عداء سابحة ... من شدّة الجري لم تبصر توائمها تطير بين السما والأرض جائلة ... كأن قوائمها كانت قوادمها وقال بعضهم: كم سابح أعددته فوجدته ... عند الكريهة وهو نسر طائر لم يرم قط بطرفه في غاية ... إلاّ وسابقه إليها الحافر وبليغ قول الصفدي: يا حسنه من أشقر قصّرت ... عنه بروق الجورّ في الركض لا تستطيع الشمس من جريه ... ترسمه ظلاًّ على الأرض وعجيب قول الصفي: وأدهم يقق التحجيل ذي مرح ... بميس من عجبه كالشارب الثمل مطهّم مشرف الأذنين تحسيه ... موكلا باستراق السمع عن زحل ركبت منه مطاليل تسير به ... كواكبٌ تلحق المحمول بالحمل إذا رميت سهامي فوق صهوته ... مرّت بهاديه وانحطّت عن الفل وغريب قوله أيضاً: وأغرّ تبريّ الإهاب مورد ... سبط الأديم محجّل ببياض أخشى عليه بأن يصاب بأسهمي ... ممّا ييسابقها إلى الأغراض وقال المتنبّي: يقبّلهم وجه كلّ سابحة ... أربعها قبل طرفها تصل إن أدبرت قلت لا تليل لها ... أو أقبلت قلت مالها كفل وبديع قول جمال الدين: وأدهم اللون فات البرق وانتظره ... فغارت الريح حتّى غيّبت أثره فواضعٌ رجله حيث انتهت يده ... وواضع يده أنّى رمى بصره سهم تراه يحاكي السهم منطلقاً ... وماله غرض مستوقف خبره يعقّر الوحش في البيداء فارسه ... وينثني وادعاً لم يستثر غبره وقال ابن نباتة: وردٌ مع العرب منسوب فلا قطعت ... يد الحوادث من أنسابه شجره إذا امتطى ظهره رامي السهام مضى ... والسهم حذواً فلولا سبقه عقره عجبت حين تسمّى سابحاً وله ... وثب لو البحر راسى دونه طفره فتخاء في هضبات الحسن صاعدة ... أولا فصاعقة في السهل منحدره

لمّا ترفّع عن ندٍّ يسابقه ... أضحى يسابق في ميدانه بصره ومن الشعر الأجنبي تخميس قصيدة في مدح النبي وذلك أنّ مركز دائرة الفصاحة، من حلّ من الزوراء أشرف ساحه، الذي كانت تغترف أهل النظم من حبره، وننسج ديباج كلامها على منوال نثره، عبد الباقي أفندي الفاروقي العمري نظم هذه القصيدة القافية في مدح النبي سيّد البرية وأرسلها إلى الفيحاء، فخمستها وأرسلتها إليه إلى الزوراء، وسمّطْتُها بهذا العقد النفيس، الذي جاء حسبما اقترحه من التخميس: تعاليت من فاتح خاتم ... عليم بما كان من عالم فيا صفوة الله من هاشم ... تخيّرك الله من آدم وآدم لولاك لم يخلق بك الكون آنس منه مجيئاً ... وفيك غدا لا به مستضيئاً لأنّك مذ جاء طلقاً وضيئاً ... بجبهته كنت نوراً مضيئاً كما ضاء تاج على مفرق فمن أجل نورك قد قرّبا ... إله السماء آدماً واجتبى نعم والسجود له أوجبا ... لذلك إبليس لمّا أبى سجوداً له بعد طرد شقي وساعة أغراه في إفكه ... بأكل الذي خصَّ في تركه عصى فنجى بك من هلكه ... ومع نوح إذ كنت في فلكه نجا وبمن فيه لم يغرق وسارة في سرّك المستطيل ... غداة غدا حملها مستحيل بإسحاق بشّرها جبرئيل ... وخلّل نورك صلب الخليل فبات وبالنّار لم يحرق حملت يصلب أمين أمين ... إلى أن بعثت رسولاً مبين وهل كيف تحمل في المشركين ... ومنك التقلّب في الساجدين به الذكر أفصح بالمنطق براك المهيمن إذ لا سماء ... ولا أرض مدحوّة لا فضاء ومذ خلق الخلق والأنبياء ... سواك مع الرسل في إيلياء مع الروح والجسم لم يلتق وكلٌّ رأى الله لم يحذه ... علاك وعلمك لم يغذه فنزّه عهدك عن نبذه ... فجئت من الله في أخذه لك العهد منهم على موثق صدعت به والورى في عماء ... فحفّت بمجدك جند السماء ورفَّ عليك لواء الثناء ... وفي الحشر للحمد ذاك اللواء على غير رأسك لم يخفق وحين عرجت لأسما مقام ... وأدناك منه إله الأنام أصبت بمرقاك أعلا المرام ... وعن غرض القرب منك السهام لدى قاب قوسين لم تمرق وقدماً بنورك لمّا أضاء ... رأت ظلمة العدم الإنجلاء فمن فضل ضوئك كان الضياء ... لقد رمقت بك عين العماء وفي غير نورك لم ترمق أضاء سناك لها مبرقاً ... وقابل مرآتها مشرقاً إلى أن أشاع لها رونقاً ... فكنت لمرآتها زيبقاً وصفو المرايا من الزيبق بك الأرض مدّت ليوم الورود ... وأضحت عليها الرواسي ركود وسقف السما شيد لا في عمود ... فلولاك لاانطمَّ هذا الوجود من العدم المحض في مطبق ولولاك ما كان خلق بعود ... لذات النعيم وذات الوقود ولا بهما ذاق طعم الخلود ... ولا شمّ رائحةً للوجود وجود بعرنين مشتنشق ولو لم تجدك لمولوده ... أباً أُمُّ أركان موجوده إذاً عقمت دون توليده ... ولولاك طفل مواليده بحجر العناصر لم يبغق ولولاك ثوب الدجى ما انسدل ... ونور سراج الدجا ما اشتعل ولولاك غيث السما ما نزل ... ولولاك رتق السماوات وال أراضي لك الله لم يفتق ففيك السماء علينا بنى ... وذي الأرض مدّ فراشاً لنا فلولاك ما انخفضت تحتنا ... ولولاك ما رفعت فوقنا يد الله فسطاط إستبرق ولا كان بينهما من ولوج ... لغيث تحمل ماءً يموج ولا انتظم الأرض ذات الفروج ... ولا نثرت كفّ ذات البروج دنانير في لوحها الأزرق ولاسير الشهب ذات الضياء ... بنهر المجرّة ربّ العلاء ولم ينش نوتي زنج المساء ... ولا طاف من فوق موج السماء بسيطة أيدي الحيا المغدق ولولاك ما فلّت الغاديات ... بأنمل قطر نواصي الفلاة لا الرعد ناغى جنين العضات ... ولا كست السحب طفل النبات من اللؤلؤ الرطب في بخيق ولا صدغ آس بدا في ربى ... على خدّ ورد غدا مذهبا

ولا رنحت قدّ غصن صبا ... ولا اختال نبت ربىً في قبا ولا راح يرفل في قرطق أفضت نطاف ندىً دافقات ... بها اخضرَّ عرس رجا الكائنات فلولاك ما سال وادي الهبات ... ولولاك غصن نقي المكرمات وحقّ أياديك لم يورق لك الأرض أنشأ علاّمها ... وقد نصبت بك أعلامها فولالك لم تنخفض هامها ... وسبع السماوات أجرامها لغير عروجك لم تخرق ولولاك يونس ما خلّصا ... من الحوت حين دعا مخلصا وعيسى لما أبرأ الأبرصا ... ولولاك مثعنجرٌ بالعصا لموسى بن عمران لم يفلق ولا يوم حرب على الشرك قاظ ... بسيف هدىً مستطير الشواظ ولا أنفس الكفر أضحت تفاظ ... ولولاك سوق عكاظ الحفاظ على حوزة الدين لم تنفق بحبل الهدى كم رقاب ربقت ... وكم لبني الشرك هاماً فلقت وكم في العروج حجاباً خرقت ... وأسرى بك الله حتّى طرقت طرائق بالوهم لم تطرق لقد كنت حيث تحير العقول ... بشأو عُلىً ما إليه وصول فأنزلك الله هاد رسول ... ورقاك مولاك بعد النزول على رفرف حفَّ بالنمرق لك الله أنشى من الأُمّهات ... كرائم ما مثلها محصنات ومذ زوّجت بالكرام الهدات ... بمثلك أرحامها الطاهرات من النطف الغرّ لم تعلق لحقت وإن كنت لم تعنق ... لشأو به الرسل لم تعلق وأحرزت قدماً مدى الأسبق ... فيا لاحقاً قطُّ لم يسبق ويا سابقاً قطُّ لم يلحق خلقت لدين الهدى باسطاً ... لنا وبأحكامه قاسطاً وحيث صعدت عُلىً شاحطاً ... تصوّبت من صاعد هابطاً إلى صلب كلّ تقي نقيّ هبطت بأمر العليّ الودود ... إلى عالم عالم بالسعود ونورك سام لأعلا الوجود ... فكان هبوطك عين الصعود فلا زلت منحدراً ترتقي فلمّا وصلت إليه هذه القصيدة متحلّية بهذا السمط كتب إليّ بهذه المقطوعة يشكرني على ذلك: لقد أبد السيّد المرتقي ... بتسميطه ذروة الأبلق وفاه بما فيه لا فضَّ فوه ... لبيد الفصاحة لم ينطق وبرَّز في حلبة غيره ... إليها وإن طار لم يسبق وقلّد أبكار شعري حلىً ... تباهي الكواكب في الرونق كأنَّ انحلال نظامي لديه ... من الربط كان على موثق فقيد منه نحور الشطور ... فها هي للحشر لم تطلق وأدناه منه وأحنى عليه ... حنو الشفيق على المشفق وحيدر في فتكه ما سواه ... إذا ماادّعى الفتك لم يصدق غداً باقراً البطون الفنون ... فأظهر منها الصريح النقي ومن فكره الحسن العسكري ... عليها لقد كرَّ في فيلق تسامي فطال على واستحال ... من الباقيات على مابقي فمن ذا يجاريه وهوالخضم ... وفي لجّة منه لم يغرق إذا صال أو جال يوم النضال ... فمن ذا يحامي ومن ذا يقي بنار قريحته ذهنه ... عجبت له كيف لم يحرق ومن لطفه كيف لا يستطير ... ومن صفوه كيف لم يبرق ومن لينه كيف لا ينثني ... ومن ريعه كيف لم يورق ومن أُفقه كيف لا يستنير ... ومن برجه كيف لم يشرق وفي ريّه كيف لا يرتوي ... وفي ريّه كيف لم يعبق على رقعتي صال تخميسه ... كما صال رخٌّ على بيدق فهل بالغ من بليغ مداه ... وقد جاء بالمفحم المفلق على نسق مثل تنسيقه ... بنان التصوّر لم تنسق تخلّق في خلق لو يقال ... بطيب الخلوق به أخلق تملّك حرَّ الكلام الرقيق ... فمن رقّه قطُّ لم يعتق له مزبرٌ يرو عن ذي الفقار ... إذا هو أجراه في مهرق ومنه الصرير يحاكي الصليل ... فيخبر عن غزوة الخندق ويصعد للأوج منه الصريف ... فيسمعنا نغمة الموسقي ومن نعت خير الورى جدّه ... تحدّى لما فيه لم يلحق هو اليوم مثلي به يحتمي ... وفيه غداً من لظى نتّقي فلا زال والفضل يرنو إليه ... بألحاظ ذي صبوة شيّق به أهل حلّته تستطيل ... على آل كيوان في جلّق

ومن ذلك ما نظمته في مدح علم المفاخر ومعدن المآثر، غصن الدوحة الطيّبة من آل عبد مناف السيّد سلمان أفندي نقيب الأشراف، وذلك بمدينة السلام بغداد سنة 1295. بني العشق ما أحلى إلى كلّ عاشق ... طلاً لمشوق زفّها كفُّ شائق ولم أر في الأحشاء ألطف موقعاً ... وأرشق من نبل العيون الرواشق وأغرق أهل الحب في الحبّ مهجة ... بكلّ غرير في المحاسن فائق أضنّهم حتّى على لحظ عينه ... بما احمرَّ من ورد بخدّيه رائق وما العمر عندي كلّه غير ليلة ... يبيت رهيف الخصر فيها معانقي ترفُّ على صدري خوافق فرعه ... رفيف حشاً منّي على الشوق خافق كأنّ الثريا طوّقته هلالها ... ومن حسدت مدّت له كفّ سارق من الريم لم يألف سوى الرمل ملعباً ... ولم يرتبع إلاّ بأحناء بارق ونشوان من مشمولة الدلّ قدّه ... أرقّ من الغصن انعطافا لوامق مورد ما بين العذارين زارني ... فنزّه أحداقي بورد الحدائق وقلت وقد أرخى على الخدّ صدغه ... لقد سلسل الريحان فوق الشقائق أُقبّل طوراً ورد خدّيه ناشقاً ... عبير شذاً ما شقَّ عرنين ناشق وألثم طوراً ثغره العذب راشفاً ... سلافة خمر لم تدنّس بذائق خلوت وما بي ريبة غير نظرة ... تزوّدتها منه بعيني مسارق وراودته لكن من الثغر قبلة ... ألذَّ وأشهى من غبوق لغابق وأعرضت عمّا دون عقد إزاره ... عفافاً وقد زالت جميع العوائق وحسبك منّي شيمة قد ورثتها ... عن الغالبين الكرام المعارق خليلي ما للكأس كفّي ولا فمي ... ولا كبدي للناهدات العواتق نسبت ومابي يعلم الله صبوة ... ولا اجتذبت أحشاي بعض العلائق عشقت ولكن غير جازية المها ... وما العشق إلاّ للمعالي بلائق خذا من لساني ما يروق ذوي النهى ... ويترك أهل النظم خرس الشقاشق مديحاً له تجلو مفارقها العلى ... و"سلمان" منها غرّة في المفارق وقورٌ على الأحداث لا تستخفّه ... إذا طرقت في الدهر إحدى البوائق ومن كعليّ القدر كان أباً له ... يزن بحجاه راسيات الشواهق نقيب بني الأشراف أعلى كرامهم ... عماداً وأسناهم فناءً لطارق فما قلبت أُمُّ النقابة قبله ... ولا بعده في مثله طرف رامق فتىً إن سرى يوماً لإحراز مفخر ... فليس له غير العلى من مرافق لقد غدت الدنيا عليه جميعها ... مغاربها تثني ثناء المشارق تطرّق أُمّ المجد في بيت سؤدد ... يظلّل عزّاً بالبنود الخوافق فأنجب من سلمان وهو ذكا العلى ... ببدر نهى يجلو ظلام الغواسق همامٌ نمته دوحة نبويّة ... إلى مثمر في المجد منها ووارق يعدُّ رسول الله فخراً لمجده ... وحسبك مجداً في الذرى والشواهق تضوع بعطفيه السيادة مثلما ... تضوّع عرف المسك طيباً لناشق به اقتدحت زند النجابة هاشم ... ففي وجهه من نورها لمع بارق سما في المعالي طالباً قدر نفسه ... إلى شرف فوق الكواكب باسق وفات جميع السابقين إلى العلى ... فقصّر عن إدراكه كلّ سابق وقالوا رويداً حكَّ عاتقك السهى ... فقال وهل قدر السهى حكُّ عاتقي تمنطق طفلا بالرياسة واحتذى ... بأخمصها تيجان أهل المناطق إليكم ملوك الأرض عن ذي سرادق ... تجمّعت الدنيا به في السرادق تقبّل أهل الفخر أعتاب داره ... فيأرج منهم طيبها في المفارق فداء مفاتيح الندى من بنانه ... أكفّ على أموالها كالمغالق تعلّل راجيها إذا اسودَّ ليله ... بكاذب وعد فجره غير صادق نديّ بنان الكفّ في كلّ شتوة ... يجفّ بها ضرع الغيوم الدوافق فحيث يشيم المجدبون بوارقاً ... تمنّوا نداه غيث تلك البوارق وضيء المجالي والمعالي كليهما ... وعذب السجايا والندى والخلائق أخف عل يالأرواح طبعاً من الهوى ... ولكنّه في الحلم هضبته شاهق فما طلعة البدر المنير مضيئة ... كطلعته الغرّاء في كلّ غاسق مهيبٌ فلولا ما به من تكرّم ... لما لمحته رغبة عين رامق

فما هيبة الضرغام دون عرينه ... كهيبته القعساء دون السرادق تضايقت الدنيا ببعض فخاره ... على أنّه فرّاج كلّ المضائق يضيق فضاء الأرض في رحب صدره ... إذا هي غصّت بالخطوب الطوارق من الفاطميين الذين تراضعت ... قناهم طلا الأعداء في كلّ مازق هم توّجوا هام الملوك ببيضهم ... وداسوا على أنماطهم بالسوابق إذا نزلوا كانوا ربيع بني المنى ... وإن ركبوا كانوا حماة الحقائق تعانق فوق الخيل عالية القنا ... عناق سواها الغيد فوق النمارق هم القوم ما في الشيخ منهم لكهلهم ... وما منهم في كهلهم للمراهق وهذا ابنهم سلمان والفرع طيبه ... يجيء على مقدار طيب المعارق إذا مسحت منه العلى وجه سابق ... جلت من أبي محمود غرّة لاحق فتىً علمه يحكي غزارة جوده ... وما علم قوم غير محض التشادق لقد قوّمت منه الإصالة رأيه ... فكان لفتق الدهر أحزم راتق ومنطيق فضل لو يشاء لسانه ... لفلَّ حدود الفاصلات البوارق يحاكي بقطع الخصم أسياف قومه ... فيمضي مضاها في الطلا والمرافق ويطعنه في قلبه بنوافذ ... نفوذ قناهم في قلوب الفيالق أباالمصطفى أرغمت أنت وذوالنهى ... شقيقك في العليائ شمّ المناشق لقد زنتما جيد العلى من بنيكما ... بسمطي فريد في العلى متناسق فياقمراً سارت بذكر علائه ... نجوم القوافي في سماء المهارق إليك تعدّت فكرتي كلّ فكرة ... لما لم يكن فيه مجال لحاذق فجاءت من القول الذي انفردت به ... بآيات نظم أفحمت كلّ ناطق سلمت على الدنيا وفخرك مشرق ... يضيء ضياء الشمس في كلّ شارق لك الدهر عبد لا يرى المجد عتقه ... ولا هو يلوي عنكم جيد آبق واتّفق لي مع ذلك الماجد زعيم الزوراء ونعيمها، والمحرز طريق المكارم وقديمها، نقيب الأشراف ببغداد السيّد سلمان أفندي خلّد الله مجده ما لو ظفرت بلئالئه الحور، لزيّنت به النحور، ووشحت به الحضور، فمنه أنّي وردت بغداد في سنة 1295 فلمّا حللت بنادي جوهرة الزمن، الفاضل الماجد الشيخ محمّد الحسن خلف الخلف الصالح نشر الله فضله، وطوى بالإعدام من حاسده ظلّه، بلغني أنّ السيّد المذكور يتشوّق إليّ كثيراً، فنظمت هذه الأبيات وأرسلتها إليه برسم الهديّة. سبقت الورى مجداً يدوم بلا حدّ ... فكان بلا قبل ويبقى بلا بعد خلقت كما شائت نقيبتك التي ... أتاها الندا كوني فكانت بلا ندّ وجئت إلى الدّنيا كما اشتهت العلى ... تعيد من المعروف أضعاف ما تبدي وتبسط أندى من أديم غمامة ... بناتاً يعلّمن الحيا كيف يستنجدي وفي القوم من يغدو به مستميحه ... كمستقطر ماءً من الحجر الصلد يقولون في الدنيا بنت دارك العلى ... فقلت بل الدنيا بها بنيت عندي كذبنا فذا رضوان بشرك مخبر ... يحدّث عنها أنّها جنّة الخلد فمنك المزيّا قد تقسّمن فردها ... وأعجب شيء قسمة الجوهر الفرد ألست من القوم الذين وليدهم ... يرشّح طفلاً للعلى وهو في المهدى فما حضنوا إلاّ بحجر نقابة ... ولا رضعوا يوماً سوى حلم الرشد فيا قمم الأعداءللأرض طأطأي ... ويا عينهم عودي من الجفن في غمد نضا الله في كفّ النقابة سيفها ... وقال احتكم ما شئت يا فاصل الحدّ وهبتك أبصار العدى وقلوبها ... فدونك ما تختاره من ذوي الحقد وممّا يعير الأرض فخراً على السما ... وببهي الحصا فيها على أنجم السعد بيوتٌ بها قد أودع الله منكم ... أطائب ما استصفاه من عترة المجد لكم أذن الله العظيم برفعها ... وأنتم مصابيح بها الناس تستهدي لوجهك قد صلّى بها المدح والثنا ... لأنّك فيها قبلة الشكر والحمد

فأمّا قولي فيها: يوقولن في الدنيا بنت دارك العلى الخ، ففيه العقد وهو نظم الكلام المنثور، ويقابله الحل، وهو نثر المنظوم وكلاهما من محسناة الكلام. وقد عقدنا كلمات منثورة لأبي العينا، وذلك أنّه دخل على المتوكل وهو في قصره المعروف بالجعفري، فقال له المتوكل: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال أبوالعينا: الناس بنوا دورهم في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه. ومنه إنّي نظمت فيه هذين البيتين وأرسلتهما إليه: لقد قلت للأرض ادّعت بنجومها ... عليك السما فخراً فقالت أجيبها لئن هي بالأشراف منها تزيّنت ... فما الفخر إلاّ حيث حلّ نقيبها ومنه ما جرى لي مع أخيه فريد الزمان، وجمال العصر والأوان السيّد عبد الرحمن أفندي دام مجده، وذلك أنّه بعث إليّ الحاج مصطفى آل كبّه أن يرسل له كتاب نهج البلاغة وقصيدة الرضي المقصورة التي قالها في رثاء الحسين عليه السلام، فأرسلهما، وكانت المقصورة غير تامّة، ثمّ بعد ذلك وجد المقصورة تامّة فأرسلها وسالني أن أكنت معها عن لسانه شيئاً، فقلت: يا من تفرّع من ذوابة معشر ... غدت النقابة منهم في آلها هذي بديلة أختها المقصورة ... الأُولى أتتك تفوقها بكمالها فلمّا وصلت إليه أرسل أبياتاً يلتمس من الله بها نصر المسلمين وسلطانها، وخذلان المشركين وأعوانها، وسألني تشطيرها وتخميسها وهي هذه: يا إله الخلق يا بارئنا ... نحن في الضيق فكن عوناً لنا وانصر الغازين وارحم حالهم ... وتلطّف بهم في ذا العنا فهم المفدون أرواحهم ... وهم الموفون فرضاً بيّنا فأجزهم خيراً وضاعف أجرهم ... أنت فيّاض العطايا والغنى واخذل الكفّار واخرب دارهم ... واهلكنهم واشف فيهم قلبنا فنشطت لما ندبني إليه وأنا معترف بأنّ له المنّ عَلَيّ لا لي المنّ عليه، لأنّه لمّا دعاني للأخط بخطي من الإنتظام، في سلك الداعين بالنصر لحامي حوزة الإسلام، وبالتأييد لجند المسلمين، المرابطين في سبيل الله في جهاد الكافرين، وقلت: وما فاتني نصرهم باللسان ... إذا فاتني نصرهم باليد ثمّ شطرت فقلت: "يا إله الخلق يا بارئنا" ... لك نشكوا اليوم ما حلَّ بنا كظّنا حشد الملمّات فها ... "نحن في الضيق فكن عوناً لنا" "وانصر الغازين وارحم حالهم" ... فلقد أبلوا بلاءً حسنا حيث عانوا فيك ما عانوا فجد ... "وتلطّف بهم في ذا العنا" "فهم المفدون أرواحهم" ... ليقوا فيها الهدى والسننا لك قد دانوا فمن يفضلهم ... "وهم الموفون فرضاً بيّنا" "فأجزهم خيراً وضاعف أجرهم" ... واجعل النصر بهم مقترنا ومن الفيء فوفّر حظّهم ... "أنت فيّاض العطايا والغنى" "واخذل الكفّار واخرب دارهم" ... وأبحنا أرضهم والقنّنا قد تشفّوا فادلنا منهم ... "وأهلكتهم واشف فيهم قلبنا" ثمّ قلت مخمّساً: نشأت نكباء يا ذارئنا ... إن تذرها أهرمت ناشئنا خذ بأيدينا وكن كالئنا ... يا إله الخلق يا بارئنا نحن في الضيق فكن عوناً لناواخذل الكفّار واشغل بالهم ... وأبحهم واخترم آجالهم واصطلمهم ليروا أعمالهم ... وانصر الغازين وارحم حالهم ووتلطّف بهم في ذاالعناقوموا للحرب أشباحهم ... ثمّ باعوا الكرب أفراحهم فزد اللهمّ أرباحهم ... فهم المفدون أرواحهم وهم الموفون فرضاً بيّناعنهم ضع يا إلهي أسرهم ... وبنصر منك فاشدد أزرهم محّضوك اليوم حقّاً صبرهم ... فأجزهم خيراًوضاعف أجرهم أنت فيّاض العطايا والغنىفي حمى الأشراك أوقد نارهم ... واقتساراً ولهم أدبارهم ولئلاّ يخذلوا كن جارهم ... واخذل الكفّار واخرب دارهم واهلكنهم واشف فيهم قلبناثمّ كتبت إليه مع هذا الشعر بهذه الفواصل من النثر والأبيات التي في أثنائها لي قلتها فيه وهي هذه: "ممّن وقع منه طائر القلب ... حيث يلتقط الحُب لا الحَب" إلى فتىً من قبيلة آبداً ... قبيلة في الفخار واحدها لم تنمه هاشم لذروتها ... إلاّ وغيظاً يموت حاسدها

الفصل الثاني في التهنئة

جلا على الطرس من فرائده ... عروس فكرّ زهت فرائدها خلوقها من شذا حجّاه ومن ... جوهر ألفاظه قلائدها قد انتظمت بسلك الإيجاز، وانتظم في سلكها الإعجاز، فبرزت تخطر دلالا، وتسحب أبراد البلاغة اختيالا، تجرّ تلك الأذيال، على نثر هو السحر الحلال، قد تنزّلت من سماء ذلك الجلال آياته الباهره، واستغرقت من الصب حواسه الخمس بما أقامه في مقام الذهول فجدير أن يتلى عليه فإذا هم بالساهره، وحيث أنّ الداعي وإن كان ليس ببعيد الغور، يرى الأمر الصادر من تلك الحضرة للفور، بادر إلى الإمتثال، راجياً أن ينظمه القبول في سلك من حظي بالإقبال، عقد الله عزّ ذلك الجناب بناصيته الدهر، ولا برحت تأرج بعبير ثرى تلك الأعتبار مفارق الملوك الغر، ما ضرب الليل رواقه، وحلّ بيد الصبح عن الغزالة نطاقه، وهذا دعاء للبريّة شامل. فكتب إليّ جواباً أبدع فيه وأغرب في تقريض التخميس والتشطير المذكورين، وجاء في آخره قوله: ثمّ إنّي ورفيع قدرك، وسنيّ فصاحتك، وعَلَيّ بلاغتك قد صرت غريق بحار الحيرة لا أدري كيف أؤدّي شكرك، وبأيّ لسان أصفك فأكافي فضلك، بما تنزّلت له العزم وشددت حيازيم الهمّة ونقلت الأقدام، لأداء هذا المرام، قصر بي ضعف قوى الفكر، وعيّ اللسان، وضيق الجنان، وكبّوا أدهم القلم في هذا الميدان، لعلوّ شرفك الذي لا يبارى، ووفور محاسنك التي لا تجارى، غير أنّ العدول عن ذلك بالكليّة إخلال بالواجبات، لأنّ شكر المحسن من المفروضات، وبناء على أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه أقول، وليس سواء عالم وجهول: لأشكرنّك شكراً يليق بجنابك، ويفي بإحسانك، ما كرّ الجديدان، وتعاقب الملوان. فأجبته عن هذه الرسالة، بهذه العجالة وهي: لاطفت الصب جميلة برّك، وتلطّفت بالمغرم المشوق عقيلة نثرك، قد زارت محبّاً رفعها على الأحداق، واجتنى في لثم محاسنا ثمرات الأوراق، ثمّ حلّ عنها النطاق ببنان فكره المتأمّل، ونضى عنها أبرادها الرقاق إلاّ لبسة المتفضّل، فوجدها آخذةً بأطراف النباهة في الفكاهة، ووجد نفسه عن منادمة مثلها على طرف من العي والفهاهة، فترك مفاوضتها المدح، وعدل عن مقارضتها الثناء ولا قدح. لي العذر كلَّ لسان القلم ... وجفَّ بما فوق طرسي رسم وعندي ولا عربي سواه ... لسان بهذا المقال انعجم أكلّفه نعت سعد السعود ... ومن للثريّا به وهو فم وغاية وصفي له أن أقول ... يا علماً ويقلّ العلم هو البدر لكنّه للكمال ... وبدر السما بين نقص وتم من الماثلين بصدر النديّ ... رزان الحلوم رزان القمم فيامن إذا غاب قال الحضور ... وإن حضر القول كلُّ إرم مننت ابتداء بدرّ المقال ... ويا بحر بالطبع منك الكرم نعم حقّ لي فيك شكر الزمان ... فحسن اعتنائك أعلى النعم ولكن عجزت فمالي يد ... بما يستقلّ بهذي الحكم هذا والرجالء إسبال ستر التكرّم، والإغضاء على عيوب هذه الألوكة كما هو شأنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الفصل الثاني في التهنئة قلت في زواج الممدوح وزواج ابن أخيه الرضا مهنياً بذلك الماجد محمّد الصالح: حيتك من وجناتها بشقيقها ... وجلت عليك مدامة من ريقها وتبسّمت لك عن ثناياً لم تشم ... عين كبارقها ولا كعقيقها وحبتك من رشفاتها بسلافة ... ما فضَّ مرتشفٌ ختام رحيقها وتعطّفت لك بانة غير الصبا ... لم يحظ قبلك بانعطاف رشيقها ورنت بأجفان إليك فواتر ... بأخي الهوى الدنيا تضيق لضيقها يا أهل رامة ما الجمال وما الهوى ... إلاّ لشائق ريمكم ومشوقها نفحتكم بعبيرها ريح الصبا ... ونحتمكم ديم الحيا ببروقها فسقت ملاعبكم بأوطف تزدهي ... منه برائق زهره وأنيقها غيث بسيب ندى محمّد صالح ... تشبيه واكف سحبه ودفوقها ملك تجلّى في البريّة فخره ... السامي تجلّي الشمس عند شروقها فإذا تكرّم كان فارج ضيقها ... وإذا تكلّم كان ضيق حلوقها هو خير من رضع المكارم درّها ... ورعى لها مذ كان فرض حقوقها من مثله وهو ابنها البرّ الذي ... ما هم لمحة ناظر بعقوقها

ورث العلى عن سابقين لغاية ... ما للبريّة مطمع بلحوقها ولدته ثمّ أباالأمين فأحرزت ... بهما ثناء عدوّها وصديقها بلغا السماء علىً وزاد أبوالرضا ... شرفاً سما فيه على عيوقها أحيت أنمله العفاة ومن رأى ... لججاً تكون بها حياة غريقها كرم كغادية السحاب تزينه ... لمعات بشر كالتمال بروقها يا من تفرّع في الذرى من دوحة ... تجني المكارم من ثمار وريقها من دوحة الشرف التي بثرى العلى ... وشجت قديماً ساريات عروقها أهدى لك الفرح الإله مخلّداً ... وكساك من حلل الهنا برقيقها هذي المسرّة كم أقرّت أعيناً ... ولا عين كانت قذى في موقها فليهنينّك سائغ الطرب الذي ... لك قد أغصَّ الحاسدين بريقها واسعد بعرس محمّد حسن العلى ... وأخي النهى عبد الحسين شقيقها داما بظلّلك رافهين ولم تزل ... تغلي حشاشة من أبى بحريقها ابني العلى ارتشفوا سلافة فرحة ... أحلى من الصهباء في راووقها طاف السرور بها فقلت مؤرخاً ... وصل الأحبّة عرسكم برحيقها وقلت مهنّياً للفاضل محمّد الصالح عند قدوم ولدي ولده المهدي من الحج وهما عبد الهادي ومحمّد الحسين، وأرسلتها إليه. وصلت وريعان الشبيبة مونق ... وجفت وقد لبس المشيب المفرّق والغيد طوع نسيم ريعان الصبا ... يهتزُّ غصن شبابهنّ المورق والشيب إن حطّت عقاب نهاره ... فغراب ليلة وصلهنَّ محلّق أدرت فتات الحي إنّي مذ نأت ... قلبي أسير هوىً ودمعي مطلق أنا والجوى والدمع وهي ومهجتي ... طوع البعاد مغرب ومشرق عافت أخا دمعي العقيق وثغرها ... أمسى يضيء به أخوه الأبرق لله موقفنا صبيحة أجمعت ... بيناً له جزعاً بريقي أشرق ومسكت قلبي كي يقرّ وإنّه ... ليكاد يلفظه الزفير فيخفق وكظمت أنفاسي الغداة وفوقها ... كادت مجامع أضلعي تتفرّق جاذبتها فضل الرداء فأقبلت ... بالعنف تجمع ما جذبت وأرفق ومذ استقلَّ بها الفراق دعوتها ... بالدمع إذ هو من لساني أطلق الله يا ذات النطاق بواجم ... لسن المدامع عن جواه تنطق وتذكّري عهد المودّة بيننا ... أيّام أوقاتي بلهوك تنفق متألّفين بحيث لا ظلُّ الهوى ... ضاح ولا صفو الوداد مرنّق في روضة عذراء لم يبرح بها ... يمري مذانبه الغمام المغدق يسري النسيم عليلةً أنفاسه ... فيها بنشر من عبيرك يعبق وعيون نرجسها المندى غازلت ... منك المحيّا وهو شمس تشرق فكأنّ في أجفانهنّ الطلُّ من ... أنوار وجهك أدمعٌ تترقرق ولهوت منك بذات خدر زانها ... ثوب الشباب الغض لا الاستبرق طوراً تعاطيني الحديث وتارةً ... راحاً بها شمل الهموم تفرّق قالت وقد عاقرتها من كفّها ... صرفاً لها نور يروق ورونق ألها نظير قلت خلق محمّد ... في لطفه منها أرقُّ وأروق خلق لأبلج غير معقود الندى ... ديم الغمام به غدت تتخلّق عذبت بفيه نعم فليس بغيرها ... يلقى الذي من جوده يسترزق ويودُّ أنَّ بكلّ منبت شعرة ... منه بقول نعم لساناً ينطق أثرى من الحسب الكريم وكلّمن ... أثرى بلا حسب مقلٌّ مملق المستجار من الزمان بظلّه ... إن جاء يرعد بالخطوب ويبرق والمستضاء بوجهه إن يدج من ... دهم الحوادث ليلهنَّ الأودق ومسدّد الآراء أسهم رأيه ... غرض القضايا الغامضات تطبق بقضان قد سبرت تجارب حزمه ... غور الزمان بأيّ فنّ يطرق إن أبهمت يوماً مطالع شبهة ... عمياء فيها الحقُّ لا يتحقّق يغشى نعاس الجهل تحت ظلامها ... بصر القلوب المدركات فتخفق فعمود صبح بيانه بضيائه ... غسق العمى لذوي البصائر يفلق وإذا تحيّرت العقول بمشكل ... صعب مجال الوهم فيه ضيّق جمع العقول عللى الصواب بحجّة ... فيها احتمال الريب لا يتطرّق فمن السكينة والوقار سكوته ... وله المقال الفصل ساعة ينطق

وعلاؤه الآفاق ضقن بعظمها ... وبعظم مفخره البسيطة أضيق فالناس في جدواه شخص واحد ... وبمدحه الدنيا جميعاً منطق ونداه لو سكتوا لنوّه باسمه ... إنّ الندى لهو الخطيب المفلق وإذا ترادفت المحول تشعّبت ... منه غمائم للبلاد تطبّق وغدا يرفُّ على البريّة ظلّها ... ويريق النعماء فيهم تغدق حتّى تمجّ الأرض ماء نعيمها ... ريّاً وبالعشب الثرى يتشقّق فتبيت حالية بوشي ربيعها ... ولساكنيها العيش غضّاً يونق مننٌ تفوت الواصفين وإنّما ... وصف الأنام ببعضها يستغرق وإذا انتمى فلدوحة الشرف التي ... تنمو على مرّ الزمان وتورق وشجت قديماً ساريات عروقها ... حيث المجرّة نهرها يتدفّق فأصولها فوق السما وفروعها ... شرفاً إلى ما لا نهاية تبسق إلى أن قلت في قدوم الهادي والحسين من الحج: قدماً معاً والسعد طائر يمنه ... غردٌ يرفُّ عليهما ويرنق ولئن تشوّقت البلاد إليهما ... فإلى لقائهما المعالي أشوق لا مسَّ أيدي الراميات إلى منىً ... نصبٌ ولا منها عقرن الأسوق فلكعبة البيت الحرام بكعبتي ... أمل العفاة سرت خفائف تعنق وبثقل أجرهما ثقيلات الخطا ... صدرت كأنّ لها الرواسي أوسق المحرمَين وإن أحلاّ دائماً ... زهداً بما تهوى النفوس وتعشق فكأنّ كلّ مقام احتلاّ به ... حرمٌ وحجٌّ كلُّ يوم يخلق والركن يشهد أنّ كفّهما التي ... استلمته لا إثمٌ بها متعلّق نحرا غداة النفر هدياً قال لم ... يقبل سواي لو أنّ هدياً ينطق وسرين من حرم الإله جوانحاً ... بهما إلى حرم النبي الأينق بيت لو البيت استطاع لجائه ... بالركن يسعى سعي من يتملّق فالدهر فيه محرم فمقصّر ... والفخر فيه طائف فمحلّق عكفا به يتمسّكان فناشق ... لثم الضريح ولاثم يستنشق واستقبلا حرم الوصيّ وإنّه ... حرم الإله به الملائك تحدق وحمىً يجير من السعير لأنّه ... نفحات عفو الله منه تعبّق فاستشفعا لله فيه ويمّما ... ناد بغير العزّ ليس يروّق رفعت بأعلا الكرخ منه سرادق ... بعلائها العيّوق لا يتعلّق جمع الصلاح على التقى أطرافه ... وغدا لواء الفخر فيه يخفق أوما ترى كأس المسرّة تجتلي ... لعشيرة الشرف الرفيع وتدهق عقدوا الندي وللوفاء محبّهم ... ينشي القريش مهنّياً وينمق يا من رباعهم غدت مملوئة ... بالوفد من كلّ الأماكن تطرق فتحوا لهم باب السماح بهنَّ في ... زمن به باب المكارم مغلق قد زفَّ فكري من عقائله لكم ... عذراء ليس لغيركم تتشوّق أضحت بجيب الدهر جونة عنبر ... في نشر ذكركم تضوع وتعبق جائت كما اقترح السرور وإن يكن ... كثر القصيد فغيرها لا يعشق وترى الوفا نفس الكريم لأهله ... فرضاً ولو بأدائه هي تزهق وتمجّه نفس اللئيم ولو لها ... لا زلت بالعسل المصفّى تلعق وقال عمّنا المهدي مهنّياً للفاضل محمّد الصالح بعرس ولده مصطفى الشرف الواضح آل كبّه: أتتكومنها الشمس في الوجه تشرق ... ونشر الخزامى في الغلائل يعبق رشيقة قدٍّ في السهام لحاظها ... حشا صبّها عن قوس حاجب ترشق ولم تشبه الأغصان قامة قدّها ... وأنّى ومنها قدُّ مية أرشق وليس التي بالماء يورق غصنها ... كمن هو من ماء الشبيبة مورق لقد فضحت في عينها جؤذر النقا ... وإن هي في عينيه ترنو وترمق وهاروت منها قد تعلّم سحره ... فما بالها ما قد تعلّم تسرق فأعجب بها للمرء تسلب قلبه ... وأضلاعه عن قلبه لا تشقق فتأخذه منه وأضلاع صدره ... على قلبه مجموعة لا تفرق تميس وقرطاها قليقان والحشا ... على وفق قرطيها من الشوق يخفق وما قلقنا إلاّ تمنّت نفوسهم ... مكانهما أكبادهم تتعلّق وفاحت عليهم للمسرّات نفحة ... عليهم بأنواع المسرّات تعبق وطبّقت الدنيا سروراً بعرس من ... بغير النهى آباؤه ما تمنطقوا

الباب الثاني والعشرون في قافية الكاف

وقد نادت الدنيا بنيها ألا ابشروا ... سينشي لكم روض من الجود مونق فللمصطفى زفّ الفخار نجيبة ... ببيت علاء بالفخار يسردق ومن نسله فيكم تعول أماجد ... على نهج آباها المكارم تنسق لقد عقدوا النادي فكانوا نجومه ... وفي صدره شمس العشيرة تشرق وكم قام مابين السماطين مصقع ... بتلك التهاني منشداً يتأنّق فيهتزُّ عطفاها لمدح زعيمها ... ومبسمها عن بارق يتألّق فتىً كلّما ترنو ترى فيه غيرما ... رأيت من الفضل الذي ليس يسبق وما للعلى إلاّ محمّد صالحٌ ... لأكمام أزهار المعالي يفتق وإنّ على الزوراء كالشمس بيته ... بأشراقه غرب تساوي ومشرق فمن بأقاصي الخافقين يرى سنا ... ضياه كمن في جنب علياه ملصق ومن كان في مرمي سحيق يشمُّ من ... ثرى أرضه مسكاً سحيقاً وينشق فطينته من طينة المجد صلصلت ... ومن نور شهب الفخر حصباه تخلق وساحته مدّت به من سماحة ... سحاب نداها في البريّة مغدق زوبالشرف الوضّاح عَلَيّ سقفه ... فأضحت به ريح المكارم تخفق وفي منتهى العلياء إن صيّروا له ... أساساً لعمري السقف أين يحلّق إذا ما تجلّى ربّه يوم مفخر ... رأيت أجلاّء البريّة تصعق فيامن رأى منه الأنام عجائباً ... ببحر معانيها البصائر تغرق فضحت الذي جاراك إذ فتَّ طرفه ... فظنّ بمضمار العلى هو أسبق ولم يدر أمسى في الحضيض وأنت عن ... هواجس أوهام الأنام محلّق حنانيك فيك الوهم لا يتعلّق ... فإنّى لك الصيد الأماجد تسبق سموت وخلّفت النجوم بغيظها ... ورائك تبدوا تارةً ثمّ تخفق وبدر السما من شدّة الغيظ وجهه ... به كلفٌ لا ينجلي حين يشرق إذا الشهب لم تلحقك كيف بك الذي ... تقاعد في الأرض البسيطة يلحق فهذا وما شارفت ما تستحقّه ... وأنت بمن جاراك في السبق ترفق فلو تعطين منك النقيبة حقّها ... وكنت إلى حيث التسحقّق تجلّق لقمت مقاماً دون أدنى محلّة ... تقطّع أوهام الورى وتفرّق لعمري لانت الحوّل القلب الذي ... لما فتقت أيدي الحوادث ترتق إذا أعوصت عمياء أسدف نهجها ... ومن دونها باب الإصابة مغلق وضلّ بها رأي الحصيف وكلّما ... تثبّت فيها حازم الرأي يزلق كشفت بديهاً أمرها وكأنّما ... على غامضات الغيب صدرك مطبق فما أنت إلاّ آية جلَّ قدرها ... بأعجازها أعداء مجدك صدّقوا وهي طويلة ومن أرادها فليطلبها من كتابه المسمّى بمصباح الأدب الزاهر. الباب الثاني والعشرون في قافية الكاف وفيها فصل واحد في المديح قلت في مدحه: قامت تجني لي في دلّها ... قلت لها رفقاً بأسراك قالت نعتّ البدر في سعده ... قلت نعم وهو محيّاك قالت وصفت الدرّ في سمطه ... قلت بلى وهو ثناياك قالت نسيم الورد أطريته ... قلت أجل والورد خدّاك قلت فمن خصرك قلبي اشتكى ... ضعفاً فقالت كذب الشاكي قلت إذاً أدعوا له بالضنا ... قالت وزده ثقل أوراك قلت فمشغوف الحشا ماله ... منك سوى أن يتمنّاك عنآي أذيعي يا نموم الصبا ... مقالةً طابت كريّاك آليت لا أنسب خبثاً إلى ... عصر أتى بالحسن الزاكي أحنى بني الأيّام عطفاً على ... ضرّائك منهم وهلاّك ذو راحة حاكي الحيا جودها ... والفضل للمحكي لا الحاكي بخلت البحر فقال الورى ... ما أجمد البحر وأنداك تجني ادّعي له الجناية ولم تكن صدرت منه. وقد وقع في هذه المقطوعة المراجعة ومنهم من يسمّيها بالسؤال والجواب وهو ضربان: أحدهما: أن يكون بين اثنين كما جرى بين ابن الدمينة وبين محبوبته. حدّث ابن أبي السري عن هشام قال: هوى ابن الدّمينة امرأة من قومه يقال لها أميمة فهاج بها مدّة فلمّا وصلته تجنّى عليها وجعل ينقطع عنها ثمّ زارها ذات يوم فتعاتبا طويلاً ثمّ أقبلت عليه، فقالت والشعر لها: وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني ... وأشمت بي من كان فيك يلوم

وأبرزتني للناس حتّى تركتني ... لهم غرضاً أُرمى وأنت سليم فلو أنّ قولاً يكلم الجسم قد بدا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم قال: فأجابها ابن الدمينة فقال: وأنت التي كلّفتني دلج السرى ... وجون القطا بالحلمتين جثوم وأنت التي قطّعت قلبي حرازة ... وقرّفت قرح القلب فهو كليم وأنت التي أحفظت قومي وكلّهم ... بعيد الرضا داني الصدود كظيم قال: ثمّ تزوّجها بعد ذلك وقتل وهي عنده. وكتب ابن مطروح إلى زهير المصيري يطلب منه درج ورق ومداداً، فقال: أفلست يا سيّدي من الورق ... فابعث بدرج كعمرك اليقق وإن أتى بالمداد مقترناً ... فمرحباً بالخدود والحدق ومن ظرفه أنّه فتح الراء من الورق وكسرها وكتب عليها معاً فسير إليه مداداً ودرجاً وكتب: مولاي سيّرت ما أمرت به ... وهو يسير المداد والورق وعزّ عنديى تسيير ذاك وقد ... شبّهته بالخدود والحدق والثاني: إمّا أن تحكي محاورةً جرت بين اثنين كما قال حسين بن حجّاج في وصف فرسه وقد تقدّم يلزم أن نذكره هنا مرّة ثانية: قال له البرق وقالت له ... الريح جميعاً وهما ما هما ءأنت تجري معنا قال لا ... إن شئت أضحكتكما منكما هذا ارتداد الطرف قذفته ... إلى المدى سبقاً فمن أنتما وإمّا أن تحكي محاورة جرت بينك وبين آخر، وذلك كما قال الصاحب بن عبّاد: وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتقل في الأُمم فقلت دعيني عَلَى غصّتي ... فإنّ الهموم بقدر الهمم وقال الآخر: وقائلة خلّ التصابي لأهله ... فإنّ الصبا عند المشيب جنون فقلت لها كفّي عن اللوم واقصري ... لذيذ الكرى عند الصباح يكون وقال الآخر: إذا قلت أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين لولا الهجر لم يطب الحب وإن قلت كربي دائم قلت إنّما ... يعدُّ محبّاً من يدوم له كرب وإن قلت مالي الذنب قلت مجية ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب وظريف قول بعضهم: قالت ألا لا تلجن دارنا ... إنّ أبانا رجل غائر قلت فإنّي طالب غرّةً ... منه وسيفي صارم باتر قالت فإنّ البحر من دوننا ... قلت فإنّي سابح ماهر قالت فإنّ القصر عالي البنا ... قلت فإنّي فوقه طائر قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر قالت لقد أعييتنا حيلة ... فأت إذا ما هجع السامر واسقط عينا كسقوط الندى ... ليلة لاناه ولا آمر وظريف قول الآخر: سألتها عن فؤادي أين مسكنها ... لأنّه ضاع منّي يوم مسراها قالت لديَّ قلوب جمّة جمعت ... فأيّها أنت تعني قلت أشقاها وحسن قول الباخرزي: قالت وقد فتّشت عنها كلّمن ... لاقيته من رائح أو غادي أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي ونادر قول الآخر: أقول له على م تميل عجباً ... على ضعفي وقدك مستقيم فقال تقول عنّي فيَّ ميلٌ ... فقلت له كذا نقل النسيم وبديع قول الآخر: عاتبت طيف التي أهوى فقلت له ... كيف اهتديت وجنح الليل مسدول فقال آنست ناراً من جوانحكم ... يضيء منها لدى السارين قنديل فقلت نار الهوى معنىً وليس لها ... نور يضيء فماذا القول مقبول فقال نسبتنا في القول واحدة ... أنا الخيال ونار الشوق تخييل وما أحلا قول الآخر: جارية أعجبني حسنها ... ومثلها في النّاس لم يخلق خبّرتها أنّي محبّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي والتفتت نحو فتاة لها ... كالرشأ الوسنان في قرطق قالت لها قولي لهذا الفتى ... أُنظر إلى وجهك ثمّ اعشق وقال الآخر: ولمّا توافقنا بمنعرج اللوى ... بكيت إلى أن كدت بالدمع أشرق فقالت أتبكي والتواصل بيننا ... فقلت ألسنا بعده نتفرّق وقال الآخر: قالت لطيف خيال زارها سحراً ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد فقال خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن ورود الماء لم يرد قالت صدقت الوفا في الحبّ شيمته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

الباب الثالث والعشرون في قافية اللام

وقال الآخر: قالوا أحب حبيباً ما تأمّله ... فكيف حلّ به للسقم تأثير فقلت قد يعمل المعنى بقوّته ... في ظاهر اللفظ رفعاً وهو مستور وما أبدع قول الآخر: قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبياً كحيل الطرف ألمى وحلاه ما عاينتها ... فظنون قد شغلتك وهما فأجبت أنّي موسوي ... العشق إنصاتاً وفهما أهوى بجارحه السماع ... ولا أرى ذات المسمّى الباب الثالث والعشرون في قافية اللام وفيها فصلان الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه: حيتك تنهمل انهمالا ... وطفاء مرخية العزالى يا دار لا سلبت أكفّ ... الدهر حسنك والجمالا وتنسّمت فيك الريا ... ح صباً ولا هبّت شمالا فلكم على هيفاء قد ... ضرب الغيور بك الحجالا من كلّ ناعمة الصبا ... تثني معاطفها دلالا يا سعد عدّ عن الهوى ... فلقد أطلت به المقالا أعط المدائح حقّها ... ودع الغزالة والغزالا خف الرجاء لمن نشأن ... أكفّهم سحباً ثقالا قومٌ على الزوراء أو ... جههم نجوم دجىً تلالا بمحمّد الحسن ارتقوا ... شرفاً على الجوزاء طالا داسوا النجوم بفخره ... وبحلمه وزنوا الجبالا هو أمجد الدنيا أباً ... هو أكرم الثقلين خالا العزلاء فم المزادة الأسفل والجمع العزالى بكسر اللام وإن شئت فتحت، مثل الصحارى والصحاري والعذارى والعذاري. قال الكميت: مرته الجنوب فلمّا اكفهر ... حلّت عزاليه الشمئل وتنسّمت، النسيم الريح الطيّبة، يقال: نسمت الريح نسيماً ونسماناً، ونسم الريح أوّلها حين تقبل بلين قبل أن تشتدّ، والنسم الإنسان، وتنسّم تنفّس. وقولي: وتنسّمت فيك الرياح مأخذو من هذا استعارة والمراد وتنفّست فيك الرياح. والصبا ريح ومهبها المستوي أن تهب من موضع مطلع الشمس إذا استوى الليل والنهار، وتزعم العرب أنّ الدبور تزعج السحاب وتشخصه في الهواء ثمّ تسوقه فإذا علا كشفت عنه واستقبلته الصبا فردعت بعضه على بعض حتّى يصير كسفاً واحداً. والجنوب تلحقه روادفه به وتمدّه، والشمال تمزق السحاب. قالت الخنساء ترثي أخاها صخراً: ويلي عليك إذا تهبّ الر ... يح باردة شمالا وقالت عمرة بنت عجلان ترثي أخاها عمرواً: كأنّهم لم يحسسوا به ... فيخلوا النساء له والحجالا ولم ينزلوا بمحال السنين ... به فيكونوا عليه عيالا وقد علم الضيف والمجتدون ... إذا اغبرّ أُفقٌ وهبت شمالا وخلت عن أولادها المرضعات ... ولم تر عين لمزن بلالا بأنّك كنت الربيع المغيث ... لمن يعتريك وكنت الثمالا الفصل الثاني في التهنية قال عمّنا المهدي من قصيدة في تهنئة الماجد محمّد الصالح بمولود ولد لابن أخيه: اليوم أظهرت السعود هلالها ... وارت كرام بني العلا إقبالها وكسا سناه طلعة الدنيا بهاً ... قد زادها حسناً وزاد جمالها وثنت له أعطافها وكأنّها ... أعطاف غانية تريك دلالها تاهت بمولده سروراً إذ رأت ... فيه مخائل ما رأت أمثالها لو لم يكن طفلاً لحقّق ظنّها ... فيه وصدق في علاه فآلها فلتهن فيه قبيلة المجد التي ... حسدت مصابيح السما إقبالها من معشر أولى الزمان كرامهم ... كانوا قبيل المكرمات وآلها حرصت على حفظ النوال وضيّعت ... مابين طلاّب الندى أموالها من ذا يساجل جودها وأكفّها ... لم تحك هامية السحاب سجالها هذا محمّدها الذي هو آية ... في الجود لم ترى في الورى أمثالها قد فجّرت يده ينابيع الندى ... لعفاته وسقتهم سلسالها وقال أيضاً من قصيدة في تهنئته بزواج ابن أخيه أيضاً وأوّلها: من ثغرها سقتك ميُّ سلسلا ... فبت من خمر لماها ثملا فدبّ في الأعضاء منك مثلما ... تدبّ في الأعضاء صهباء الطلا قد شابه المدام لكن وجه من ... يرشفه من فرح تهلّلا ومحتسي كأس المدام وجهه ... مقطّب وإن عليه تجتلى فارشف هنيئاً لعساً فهو الذي ... في هذه الدنيا يسمّى العسلا

الباب الرابع والعشرون في قافية الميم

ووجهها الشمس فما برقعها ... يحجبه إذا عليه انسدلا إلى أن يقول: نعمت بالأنعم في وصالها ... بروضة فيها السرور اكتملا كما بعرس كاظم على الورى ... وجه الزمان بالمسرّات انجلى وطائر السعد بسجعه على ... بيوت آل المكرمات هلهلا والشرف الوضّاح ناري جذلا ... مبشّراً بالكرخ أبناء العلى زفّت إلى علاكم كريمة ... من بيت مجد بالعلى تأثّلا تنمى لأعلا الماجدين من غدت ... عزّته للخائفين معقلا جاء كريماً في زمان أهله ... جليلهم يرضع فيه البخلا في فترة من الندى كأنّما ... جاء به إلى الأنام مرسلا حيث على الفلس يرى منها الفتى ... بهدب جفنيه يخيط المقلا لا بل من الحرص يودُّ بدل ... المخّ عليه الرأس كان مقفلا فقام فيهم شارعا لجوده ... شرائعاً للنّاس أضحت منهلا ونطقت آيات جدوى كفّه ... بمعجز النوال مابين الملا له مزايا ليس تحصى غير أن ... كلٌّ غدا بين الأنام مثلا يا صفوة المجد الأثيل هاكموا ... عقد نظام فيكم تفصّلا قد نظمته بنت فكر لبست ... من وشيها للتهنيات حللا ويمّمت ربعكم فغودت ... عليكم في الأنديات تجتلى الباب الرابع والعشرون في قافية الميم وفيها أربع فصول الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه: قل لامّ العلى ولدت كريماً ... رقَّ خلقاً وراق خلقاً وسيما بدر مجد مدحته فكأنّي ... من مساعيه قدنظمت نجوما ملك تلمح النواظر منه ... ملكا في سما المعالي كريما مجده في ارتفاعه ثامن الأف ... لاك من فوقها أطلَّ قديما وإذا ما رأيت دار أبي الهادي ... ومعروفها رأيت نعيما إن رحلت ارتحل لربع نداه ... وأقم فيه إن ترد أن تقيما فهو الجنّة التي استعذب النا ... س جميعاً رحيقها المختوما سبر الدهر بالتجارب حتّى ... بالنهى والفخار صار زعيما واستهلّت كلتا يديه إلى أن ... لم يدع في بني الزمان عديما فبه ينزل الرجا وإليه ... كلّ ركب سرى ينصُّ الرسيما هو من أيكة على أوّل الدهر ... زكت في ثرى المعالي أروما أثمرت سؤدداً وفخراً وعزّاً ... ونمتها غطارفاً وقروما وقد اشتمل قولي: وإذا ما رأيت ثمّ مغانيه ... ومعروفها رأيت نعيما على الإقتباس وهو على رأي بعضهم لا يكون إلاّ من الكتاب، وعلى رأي الآخرين أنّه لا يكون إلاّ من القرآن أو من الحديث. قال من لا يرى الإقتباس إلاّ من القرآن هو أن يضمن المتكلّم كلامه كلمة أو آية من الكتاب العزيز خاصّة، وهو على ثلاثة أقسام: محمود مقبول، ومباح مبذول، ومردود مرذول؛ فالأوّل ما كان في الخطب والعهود في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني: ما كان في الغزل والصفات والرسائل ونحوها، والثاث على ضربين: أحدهما تضمين ما نسبه الله عزّوجلّ إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقّع على مطالبة فيها شكاية من عمّاله: (إنَّ إلَيْنا إيابَهُمْ، ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) والآخر تضمين آية كريمة في معرض هزل وسخف، كقول بعضهم: قالت وقد أعرضت عن غشيانها ... يا جاهلاً في حمقه يتباها إن كان لا يرضيك قبلي قبلةً ... لأولينّك قبلةً ترضاها والأحسن في الإقتباس من القرآن نقله عن معناه كما قال ابن الرومي: لئن أخطأت في مدحك ... ما أخطأت في منعي لقد أنزلت حاجاتي ... بواد غير ذي زرع فقوله: بواد غير ذي زرع معناه في القرآن واد لا ماء فيه، ونقله إلى جناب لا خير فيه ولا نفع. ومثله قول الخبّاز البلدي: ألا إنّ إخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمال لا تقصّر في اللسع ظننت بهم خيراً فلمّا بلوتهم ... نزلت بواد منهم غير ذي زرع وقال آخر في هجاء بعضهم: جميع ما يفعله كلفة ... إلاّ أذاه فهو بالطبع من حلَّ منّا بفناء له ... حلّ بواد غير ذي زرع وقال الأخوص في الإقتباس: إذا رمت عنها سلوةً قال شافع ... من الحب ميعاد السلوّ المقابر

ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودٍّ يوم تبلى السرائر وقال الأبيوردي في هجاء بعضهم: وقصائد مثل الرياض أضعتها ... في باخل ضاعت به الأحساب فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ... الممدوح قالوا ساحرٌ كذّاب وقال القاضي المنصور الهروي: ومنثقب بالورد قبّلت خدّه ... وما لفؤآدي من هواه خلاص فأعرض عنّي مغضباً قلت لا تجر ... وقبّل فمي إنّ الجروح قصاص وقول أبي منصور عبد الله بن سعيد: حلّة الغانيات حلّة سوء ... فاتّقوا الله يا أولى الألباب وإذا ما سئلتموهنّ شيئاً ... فاسئلوهنّ من وراء حجاب وروي ما هذا مضمونه أنّ بعض الشعراء كان ينشد بعض الأُمراء وبينهما الحجاب، فلمّا بلغ قوله: أُنظرونا نقتبس من نوركم ... إنّه من نور ربّ العالمين أمر برفع الحجاب حتّى أتمّ إنشاده ثمّ أجازه. والغاية في القبح قول بعضهم: أقبل والعشّاق من خلفه ... كأنّهم من حدب ينسلون تقول عيناه لعشّاقه ... هيهات هيهات لما توعدون وردفه يقرؤ من خلفه ... لمثل ذا فليعمل العاملون وقال بعضهم في الإقتباس من الحديث: قال لي إنّ رقيبي ... سيّىء الخلق فداره قلت دعني وجهك الجنّة ... حفّت بالمكاره ولعمّنا المهدي هذه القصيدة في مدح ديمة المنايح الماجد محمّد الصالح وذلك أنّا حللنا في ربعه فأنشدت وكان ابتداؤها موافقاً للحال التي ذكرها: قد حملتك النجائب الرسم ... لمن على الكرخ بيتهم علم قد كنت تهوى لقاء من سكنوا ... فيه ويهوون ملتقاك هم فقر عيناً فيه برؤيتهم ... ففيك قرّت فيه عيونهم وانظر إلى ما سمعت عنه تجد ... ما يقصرون دون وصفه الكلم بيت جميع الدنيا بساحته ... وتحت أبراد ربّه الأُمم من احترام الورى لساحته ... تخال في الكرخ أودع الحرم على التقى أُسّست قواعده ... وكلّ أيّام دهره حُرم كأنّ على الأرض ساحة قمر ... بها على الخلق تكشف الظلم تحسبها المدلجون إن سطعت ... نار قراها في الليل تضطرم فيه أُناس تخال أنّهم ... الأملاك من كلّ مأثم عصموا شعارها الصمت وهي إن نطقت ... تفجّرت من كلامها الحكم تبيت تبكي من خشية الواحد الفر ... د وتضحي للوفد تبتسم تحنوا على الأبعدين مشفقة ... حنّو من فيه أطت الرحم في الله تمسي خمص الحشا وعلى ... بذل قراها الأنام تزدحم يسأم أرفادها الوفود ولا ... في بذله يعتريهم سأم للشرف الباذخ الرفيع سمت ... من قبل أن يفطموا بها الهمم لو قيل للمجد من هم سمكوا ... وانبعثت من أكفّها الديم تعتمُّ حين الرضاع سؤددها ... وترتدي الفخر حين تنفطم أوّل ما ينطقن رضيعهم ... حيّ على الجود أيّها الأُمم أو قد أطاق القيام تسرع لل ... علياء فيه بخطوها القدم أو سابقته لها الكرام ولو ... مشى الهوينا بفوت طرفهم أماجد زيّنت سماء على ال ... مجد بشهب منها كهولهم عقد طلاها هم وواسطة ... العقد على نحرها زعيمهم تشمُّ من عطفه عبير شذا ... فخار آبائهم ومجدهم قوم على الأرض غيث نائلهم ... قبل نزول السحاب منسجم صفوة بيت العلى وطينته ... قد عركتها قدماً أكفّهم من قبل أن تنصب الجبال على ... الأرض عماد العلياء قد دعموا دلّ على طيب أصله شرف ... تورّثته منهم فروعهم فمن آرها قدماً وينظر ابنا ... ها فما يفرقنّ بينهم غرُّ مساعيهم العظام وما ... منها اصطفتها النفوس والشيم بين ذراريهم إن اقتسمت ... فقد حواها طرّاً زعيمهم منطهيقاً في الخصام حيث فلم ... المنطيق منه اللسان ينعجم إن هدرت منه فيه شقشقة ... فألسن الإختصام تنحسم لا يرجع اللفظ في مقالته ... كي يتأتّى برجعه الكلم وإنّما اللفظ في تتابعه ... سيل ولكن سيله عرم تصفرُّ من قرعه المسامع من ... مخاصميه رعباً وجوههم كأنّ من لونها لصفرته ... لم يك فيهنّ قبل ذاك دم

الفصل الثاني في التهنية

لقد تحاماه أن يناضله ... من هو في العلم عيلم علم فالفصحا لم تطق تجادله ... أنّى ومنه مهابة وجموا تخال من صمتهم وجوههم ... لم يتصوّر في خلقهنّ فم ذب عن الدين في سنان فم ... كم فيه عنه تكشّفت غمم وثلَّ فيه عرش الضلال وقد ... هدم منه ماليس ينهدم بني المعالي إليكم مدحاً ... يسمعها من بإذنه صمم تلبس عرض الكريم سابغة ... في الطعن منها الرماح تنحطم كأنّها سرمد الزمان على ... أفواه حسّاد مجدكم لجم وإن غدوتم وما لشانئكم ... بين بني الدهر مهمز بكم سيّارة تقطع البسيطة لا ... غور عداها منكم ولا أكم وفي قلوب الورى لآخرهم ... جيلاً فجيلاً بالحفظ ترتسم قد غودرت عندكم كفاتحة ال ... كتاب لم تنسها قلوبهم الفصل الثاني في التهنية نظمت في تهنية الماجد محمّد الصالح بقدوم ولديه محمّد الرضا وأخيه المصطفى من الحج هذه الموشّحة البديعة: اجتل الكاس فذي كفّ الصبا ... حدرت عن مبسم الصبح اللثاما واصطبحها من يدي عضّ الصبا ... أغيد يجلو محيّاه الظلاما بنت كرم زوّجت بابن السحب ... فتحلّت في لئالي من حبب مذ جلاه الشرب في نادي الطرب ... ضحكت في الكاس حتّى قطبا كلّمن كان لها بيدي ابتساما ... وانثنى الزامر يشدو مطربا غرقوا بالراح كسرى يا ندامى هي نار في إناء من برد ... عجباً ذابت به وهو جمد أبداً تحرق نمرود الكمد ... وإذا منها الخليل اقتربا غودرت برداً عليه وسلاما ... فاحتسى أعذب من ماء الزبى خمرةً أطيب من نشر الخزامى أشبهت صافية في الأكؤس ... دمعة الهجر بخدّي العس إن أديرت مثّلت للمحتسي ... وجنة الساقي بها فاستلبا عقله حتّى تراه مستهاما ... ليس بدري وجنة قد شربا أم سلاف عتقت عاماً فعالا تنشي الخفة في روح النسم ... وتروض الصعب منهم للكرم لو حساها وهو في اللؤم علم ... مادرٌ منه إذاً لانقلبا ذلك اللؤم سماحاً مستداما ... ودعا خذ مع عقلي النشيا آخر الدهر ودعني والمداما كم على ذات الفضا من مجلس ... قد كساء الروض أبهى ملبس فيه بتنا تحت برد الحندس ... نتعاطى من كؤس شهبا تطرد الهمّ وإن كان لزاما ... إذ به نامت عيون الرقبا ليتها تبقى إلى الحشر نياما ونديمي من بني الترك أغن ... شهدة النحل بفيه تختزن هبّ يثني عطفه سكر الوسن ... بمدام خلت منها خضبا أنملا أبدى بها الحسن وشاما ... وكأنّ خداه منها أشربا حمرة إذ زفّها جاماً فجاما رشأ جسد صافي جسمه ... من شعاع الخمر لا من جرمه خفيت صهباؤه من كتمه ... لسناها مذ عليه غلبا نور خدّيه فما تدري الندامى ... أسنا خدّيه أبدى لهبا أم سنا الكأس لهم أبدى ضراما إن يقل لليل عسعس شعره ... قال للصبح تنفّس ثغره أو من الردف تشكى خصره ... قال يا زادك من زان الظبا بالحصور الهيف ضعفا وانهضاما ... ولكاسيك الوشاح المذهبا زاد جفنيه فتوراً وسقاما يا أليفي صبوتي بشراكما ... جاء ما قرّت به عيناكما ذا جديد الأنس قد حيّاكما ... وخلاصاً لكما قد جلبا ناقلا عن صفة الراح الكلاما ... فاجعلاه للتهاني سببا فعل من يرعي لذي الود الذماما خلّيا ذكر أحاديث الغضا ... واطويا من عهد حزوى ما مضى وانشرا فرحة إقبال "الرضا" ... وأخيه "المصطفى" ابن المجتبى إنّ إقبالهما سرّ الأناما ... وكذا الدنيا استهلّت طربا إذ معاً آبا وقد نالا المراما بوركا في الكرخ من بدري على ... شعّ أوج المجد لمّا أقبلا ومحيّا الفخر بالبشر انجلى ... وغدا زهواً ينادي مرحبا بمنيري أبرج المجد القدامى ... بكما قرّت عيون النجبا آل بيت المصطفى السامي دعاما رجع السعد إلى مطلعه ... وألبها رد إلى موضعه والندى عاد إلى منبعه ... بسراجي شرف قد أذهبا

بالسنا عن أُفق الكرخ الظلاما ... وخضمي كرم قد عذبا مورداً يروي من الضامي الأواما هل بنات السير في تلك الفلا ... علمت غاربها ما حملا وبماذا من وقار وعلى ... رحلت بالأمس تطوي السبسبا جدداً تهبط أو تعلوا أكاما ... وأريحت بالمصلّى لغبا قد برت أقتابها منها السناما كم لأيدي العيس يا سعد يد ... أبداً مشكورة لا تجحد فعليها ليس ينأى بلد ... وبها وخداً سرت أو خببا يدرك الساري أمانيه الجساما ... ويرى أوطأ شيء مركبا ظهرها من طلب العزّ وراما أطلعت في الكرخ من حجب السرى ... قمري سعد بها قد أزهرا وغراماً بهما أُمّ القرى ... لو أطاقت لهما إن تصحبا حين آبا لأتت تسعى غراما ... وأقامت لا ترى منقلبا عن حمى الزوراء ما دامت وداما أوبةٌ جائت ينيل المنح ... ذهبت فرحتها بالترح فبهذا العام أُمّ الفرح ... ولدتها فاجدّت طربا بعدما حالت بها من قبلُ عاما ... ولها الإقبال قد كان أبا سعده أخدمه اليمن غلاما فاهن والبشرى أبا المهدي لك ... تلك علياك لبدريك فلك قد بدا كلٌّ بها يجلو الحللك ... فترى الأقطار شرقاً مغربا لم يدع ضوئهما فيه ظلاما ... والورى أبعدها والأقربا بهما تقتسم الزهو اقتساما ملّت القلب سروراً مثلما ... قد ملئت الكفّ منها كرما واحتبت زهوا تهنّيك بما ... خصّك الرحمن من هذا الحبا حيث لا زلت لها تعرى الذماما ... جالياً إن وجه عام قطبا للورى وجهاً به تسقي الغماما ففداء لك يا أندى يدا ... من بني الدهر وأزكى محتدا معشر ما خلقوا إلاّ فدا ... لبسوا الفخر معاراً فنبا عن أُناس تلبس الفخر حراما ... كلّما فيهم علا الحظُّ أبى قدرهم من ضعة إلاّ الرغاما تشتكي من مسّ أبدانهم ... حللٌ ترفع من شانهم وإذا صرَّ بإيمانهم ... قلمٌ فهو ينادي عجبا صرت في أنملة اللؤم مضاما ... من بها قرّ مقيما عذبا إنّها سائت مقرّاً ومقاما هب لهم درهمهم أصبح أب ... فسما فيهم إلى تلك الرتب أكرام هم لدى نصّ النسب ... إن يعدّوا نسباً مقتضبا لا عريقاً في المعالي أو قدامى ... عدموا الجود معاً والحسبا فبماذا يتسمون كراما عبدوا فلسهم دهرهم ... وعليه قصروا شكرهم فاطرح بين الورى ذكرهم ... وأعد ذكر كرام نجبا قصّروا الوفر على الجود دواما ... وبنوا للضيف قدماً قببا رفعت منها يد الفخر الدعاما معشر بيت علاهم عامر ... بهم للضيف زاه زاهر فيه ما أمُّ الأماني عاقر ... تلد النجح فتكفي الطلبا وأبو الآمال لا يشكو العقاما ... وعلى أبوابه مثل الدبا نعم الوفد لها تلقي ازدحاما صفوة المعروف قرّوا أعينا ... واهنأوا بالصفو من هذا الهنا لكم السعد جلا وجه المنى ... بيد اليمن ومنه قربا لكم الإقبال ما ينأى مراما ... فالبسوا أبراد زهو قشبا عنكم لا نزعت ما الدهر داما وإليكم غادة وشحتها ... وبريا ذكركم عطّرتها وإلى عليائكم أزففتها ... فلها جاء افتتاحا طيّبا نشر راح الأُنس منكم لا الخزامى ... ولها تشهد أنفاس الصبا من ثناكم مسكه كان ختاما وقلت مهنّياً للفاضل الصالح حين قدم من الحج أخوه عبد الكريم وولده محمّد الأمين، وكانت قد هبت على الحاج تلك السنة في الموقف ريح شديدة أهلت الأكثر منهم وقد أشرقت إلى ذلك أثناء القصيدة، وهي هذه: فقت يا أيّتها الدار نجوما ... في السنا فخراًوفي الجود الغيوما ونعم أنت بآل المصطفى ... معدن الفخر حديثاً وقديما لم تلد أُمُّ المعالي منهم ... فيك إلاّ واضح الوجه كريما معشر طابوا فروعاً في العلى ... وزكوا في طينة العزّ أروما وكفاهم بأبي المهدي فخراً ... حيث أضحى لهم اليوم زعيما المحيّا عند بذل الجود وجهاً ... صاحياً والمرتجى كفّاً مغيما

الفصل الثالث في الرثاء

تخجل المزن إذا ساجلها ... بيد أرطب منهنّ أديما وتموت الشهب إن قابلها ... بمحيّاً يكشف الليل الهبيما ليم في الجود ولا جود لمن لا ... يغتدي بين الورى فيه ملوما وكريم الطبع من لم يتغيّر ... طبعه في عذل من أضحى لئيما ليس يثني الغيم عذل فمتى ... ينثني من علم الجود الغيوما همم لو عن مدىً زاحمها ... منكب الدهر لردّته حطيما عاد مرعي الفضل مخضرّاً به ... وهو لولا جوده كان هشيما تحمد النّاس فإن جئنا به ... لم نجد أحمدهم إلاّ ذميما من أُناس ركبوا ظهر العلى ... وجروا في حلبة الفخر قديما ذهبوا بيض المجالي طيّبي ... عقد الأزر مصاعيباً قروما وتبقوا من بينهم لعلالهم ... زينةً في نحرها عقد نظيما كرماء لا تباري كرماً ... حلماء تزن الشمّ حلوما كم دعتهم للقوافي ألسن ... تركت قلب أعاديهم كليما يا نجوماً في سما المجد زهت ... ويسرُّ المجد قولي يا نجوما للعلى أنتم مصابيح كما ... لشياطين العدى كنتم رجوما قد أقرّ الله منكم أعيناً ... كم لحظتم بالغنا فيها عديما وحباكم فرحةً تشملكم ... والمحبّين خصوصاً وعموما ذهب الروع الذي غمَّ وقد ... جائت البشرى التي تنفي الغموما بالفتى عبد الكريم المجتبى ... وأمين الفضل من طاب أروما قد لعمري سنن الحج لها ... ما رأت مثلهما أمس مقيما خيف يدنو منهما الكرب الذي ... لذوي الأحلام ما أبقى حلوما قلت كلاّ لا أراه أبداً ... منهما يدنو وإن كان عظيما فهما من أُسرة في برّهم ... يدرؤ الخطب وإن كان جسيما آل بيت المصطفى حيتكم ... غادة تجلو لكم وجهاً وسيما أقبلت زهواً تهنّيكم بما ... زاد من يحسد علياكم وجوما فبقيتم في سرور دائم ... ولكم لا برح السعد نديما وقال عمّنا المهدي في تهنية الحاج محمّد صالح كبّه وقد عوفي من مرض كان قد عراه: لصحّة جسمك صحَّ الكرم ... وعنك سرى لعداك السقم وثغر المعالي غداة انتعشت ... لفرحتها في شفاك ابتسم ووجه الزمان غدا مشرقاً ... وعنه تجلّت غواشي الظلم وأيّامه عدن للنّاس بيضا ... بمن زانها بجسام النعم همام ملي الدهر فخراً علىً ... عطاءً كصوب الحيا المنسجم به فتح المجد باب الندى ... بعصر به سدَّ باب الكرم كريم أعاد لهذا الزمان ... شبيبته بعد ما قد هرم به فرح الدهر إذ لم يجد ... نظيراً له في كرام الأُمم إذا رمت مدح أبي المصطفى ... لأحصي ما فيه يفنى الكلم وتبقى معان من اللفظ قد ... خلت وعلى الطرس لم ترتسم أما من بيان لهذي المعاني ... فعنها لساني عجزاً إرم وهل حيلة حيث لا حيلة ... لحصر معاني كريم الشيم فتىً كلّ أعماله حسبما ... به أمر الله باري النسم له الله من ناسك في تقاه ... من كلّ مأثمة قد عصم ويأخذه فزع التائبين ... ولم يك مثلهم قد أثم فيحسبه من يراه سقيما ... وما فيه سقم ولا من ألم وإنَّ معائب أفعاله ... محاسن أفعال أهل الشيم وما مرَّ يوم من الدهر إلاّ ... بأعماله الصالحات انتظم فذا نجم خلّص أهل التقى ... بعصر خلا منهم قد نجم وجاء بآخر هذا الزمان ... بمالم يجيئوا به في القدم ومن بعد نسّاكه الصالحين ... صدع الهداية فيه التئم طليق المحيّا إذا وفده ... على باب بيت علاه ازدحم فيلقاه مستبشراً ضاحكاً ... وتغمره كفّه بالنعم فما هو إلاّ حياً للندى ... بتسكابه فاضح للديم وبدر علىً يتجلّى به ... ظلام الخطوب إذا ماادلهَم سما لعلىً دون إدراكها ... قد انقطعت عاليات الهمم وقام بأعباء مجد سواه ... من الماجدين بها لم يقم الفصل الثالث في الرثاء

لمّا توفّي الماجد الصالح محمّد نظمت هذه القصيدة معزّياً بأبيها ولديه المصطفى والحسن وكانت قد ألمت أسباب قد اقتضت تأخّرها شهراً كاملاً فكتبت أمام القصيدة هذه المقدّمة الفريدة كالإعتذار عن التأخير وقرأتا معاً في محفل الرثاء، وهاهي المقدّمة: وقفت على الزوراء وهي يتيمة ... تحنُّ لمن أبقى المعالي ثواكلا فتنعاه طوراً للفواضل والنهى ... وطوراً له تنعى النهى والفواضلا قد شقّت بيد المصاب جيبها وردائها، حين أخذت رجفة الحزن أحشائها، وجزت بمدية الجزع ناصيتها ولمتيها، وبادرت حثو التراب على رأسها بكلتا يديها، وغسل الدمع من عينها سوادها، فصبغت فيه أبرادها، وبرزت في محفل النياحة، معولة يا عظيم المناحة، موحشة العيوس والتقطيب، معلنةً بالبكاء والنحيب، ما ترائت للعيون ماثله، إلاّ وأنشأت قائلة: بكائي بعيني لم يكفيني ... لمن قطع الدهر فيه وتيني فليت توزع دمعي الأنام ... لأبكي عليه بكلّ العيون وهي في نعاء قلق الدهر من ضجّته، وبكاء غرق الصبر في لجّته، فحين رأيت خطبها عظيما، وشاهدت كربها جسيما، مسكت بكفّي رواجف صدري، وطفقت أسألها على سبيل تجاهل العارف كأنّني لست أدري: فقلت على من رنّة النوح والبكا ... فقالت عَلَى من لا نرى الدهر مثله أليس أبي ذاك الذي تعهدونه ... طوت نوب الأيّام عنّي ظلله فقلت وعندي من فؤادي بقيّة ... خذي بأيد الآخران قلبي كله فما ينطبع في مرآة فكري، ولا يرتسم في لوح صدري، أن يروع قلبي ما بقيت صوت ناعيه، بعد أن ملأت سمعي رنّة هذه الواعة، التي ضرب فيها بازل الحزن بجرانه على صدر رباحة الكرم، وانقصمت من إلقاء كلكله عليها فقارة ظهر الشرف الأقدم، ورباع السؤدد أضحت فيها ثميلة الدمع محلولة الوكاء، بعد ما كانت مطلولة الربع بمخيلة السخاء، وعاد رواق المجد محفلاً للنوح والرثاء، بعد ما كان محلاًّ للمدح والثناء. عادت مراث تهنيات العلى ... ينصدع القلب بإنشادها قد رحل اليوم سرور الورى ... فلتلتمسه يوم ميعادها قد دفنت تحت الثرى عيدها ... وأبقت النحر لأكبادها فلا ازدهاها يوم نيروزها ... ولا أتى الفطر بأسعادها وبمن تسر، أو تسعد مابقي الدهر، والذي كانت عيالاً عليه، وعين رجائها ممدودة إليه، قد أدرج والتقى في طاهر برده، ووسّد والصلاح في لحده، ولقد هممت أن أعقل لسان هذه الثاكلة، وأواري شخص هذه النائحة الماثلة، لتأخّر زمانها، وعدم مبادرتها كأمثالها من أترابها وأخدانها، ولقولهم "إذا قدمت المرزية سمجت التعزية" فقالت: لا واد معك الغزار، لا يقر لي قرار، دون أن أنوح عليه بما يكون كالمثل السائر، في نعوت فلك مصابه الدائر، أبتلك المراثي يناح دوني عليه، فتكون كفاءً لعظيم مصابه، وإن تقدّمتني إليه، فإليك عنّي إنّ الكلم رحيب، وما المصاب كمن يؤمّل أن يصيب، وربّ نائحة وسواها المستعبرة، "وليست الثكلى كالمستأجرة"، على أنّ كلّ يوم يمرّ من بعده، ولا يرى فيه فهو يوم فقده، وأمّا وأخلاقه الزاهرة، وتربة مرقده الطاهرة، التي لا يزال فيها نسيم الرحمة والرضوان، يهب أطيب مهب، فيحلب فيها سحائب الغفران، وإن لم يكن هناك ذنب لأن تركت لي عناني، وأطلقت في ميدان القول لساني، لأنوحنّ عليه نياحة ترجف منها الأرض بأوتادها، وتمزق عليها الدنيا أحشائها قبل أبرادها، ولأدعنَّ ساعة قيامي بها تشبه قيام الساعة، حتّى يحطم الدهر صدره وأضلاعه، وتقول للخنساء أين أنت منها، ويا بنة الأرا خلفك عنها، فخلعت عنها عذارها، وتركت لها مضمارها، وأوسعت لها من مجالها، فافتتحت في عتاب الدهر براعة استهلالها: يا دهر ما شئت فاصنع هان ما عظما ... هذا الذي للرزايا لم يدع ألما رزءٌ تلاقت رزايا الدهر فاجتمعت ... فيه فهوَّن ما يأتي وما قدما ما بال أُمّ الليالي فيه قد حملت ... فليتها وأبا أيّامها عقما لقد تحكّم في الدنيا فنال بها ... من النواظر والأحشاء ما احتكما عجّت ولا كعجيج الموقرات به ... وهل تلام وهذا ظهرها انقصما مضى الذي طبّقتها كفّه نعماً ... فطبّقتها الليالي بعده نقما الآن غودرت الآمال حائمة ... وأين في الدهر منها من ببلُّ فما

وقبّة المجد قد مالت ولا عجب ... فإنَّ أثبت أركان العلى انهدما فلينتظم مأتماً عمر الزمان لمن ... بالصالحات جميعاً عمره انتظما ولتحتلب عينها الدنيا لمن يده ... كانت حلوبة جود تقتل الأزما وكيف تسئم من دمع تتابعه ... ومن متابعة النعماء ما سئما في الكفّ ما زرعت حسن الرجاء له ... إلاّ وأمطرها من كفّه كرما يا آخذاً كلّ قلبي في ملامته ... دع الملام وشاطرني الدموع دما واقرع بلومك سمع الدهر حيث أتى ... برنّة تركته يشتكي الصمما طويت من يستظلّ المعدمون به ... فليت يا دهر قسراً ظلّك انهدما هل يعلم الزمن الغدّار لا علما ... ماذا به هجم المقدار لا هجما فأيُّ رزء يايّ الناس يكبر في ... صدر الأنام سوى هذا الذي دهما أفي ذوي الحلم فالثاوي زعيمهم ... أم في بني فالعلم الثاوي أبوالعلما أم في الأنام جميعاً فالذي افتقدوا ... هو الذي جمعت أبراده الأُمما بل كلّ ميّت له ثلم بحوزته ... لكنَّ في موته الإسلام قد ثلما قام النعيُّ على دار السلام له ... فقلت بعدك ليت الكون لا سلما مازال بشرك بالعافين ملتمعاً ... حتّى تحوَّل في أحشائهم ضرما وإن بكتك فلا منٌّ عليك لها ... بمآء جودك جاري جفنه انسجما هذي الدموع بقايا ماء عيشهم ... من فضل ما كنت توليهم عليك همى إن لم تفظ بك عن وجد نفوسهم ... فسوف بعدك عن قرب تغيض ظما يا راحلاً ولسان الحال ينشده ... وللمقال لسان بالأسى انعجما واهاً أباالمصطفى ماذا يقول فمي ... وما البلى منك أبقى للجواب فما الموت حتم وإن كان المنى لك أن ... تبقى ولو جاوزت أيّامك الهرما وددت يومك لم يجر القضاء به ... لو كان للوح أن يستوقف القلما حتّى تفرّج غمّاء الجدوب كما ... فرّجت من قبلها أمثالها غمما ماذا يراد بأهل الأرض فابتدرت ... دهياء يوشك أن تستأصل النسما أشاءَ ربّك إرسال العذاب بها ... لما جنوها ذنوباً تهتك العصما فغيض الماء من أنهارها وطوى ... بالموت شخصك عنها والحيا انعدما مشت بنعشك أهل الأرض تحمله ... فخفَّ حتّى كأن لم يحملوا علما وما دروا رفعته من كرامته ... أهل السماء على أكتافها عظما لم يرفعوا قدماً إلاّ وقد وضعت ... من قبلهم غرُّ أملاك السما قدما كأنَّ نعشك محمول به ملك ... وخلفه العالم الأعلى قد ازدحما ساروا به وسماء الدمع ترسلها ... لك النواظر مدراراً ولا سئما وعبَّ حين التقى ماء العيون على ... أمر نزا منه قلب الدهر واضطرما فكنت نوحاً وكان الفلك نعشك وال ... طوفان فائر دمع أغرق الأُمما إن يحملوك على علم فما حملوا ... إلاّ الركانة والأخطار والهمما أو يدفنوك على علم فما دفنوا ... إلاّ المحاسن والأخلاق والشيما أو ينفضوا الكفّ من ترب به دفنوا ... ميتاً فتربك بالأفواه قد لثما كأنّ قبرك فوق الأرض نجم سما ... أو أنّه في ثراه حلَّ نجم سما يا نازلاً حين لا صوتي يلمُّ به ... عليك أُمّ المعالي جزت اللمما وقفت بعدك في الزوراء أنشدها ... أين الذي كان للاجين معتصما وأين من يزهر النادي بطلعته ... للزائرين ويجلو عنهم الغمما ومن بنى لقرى الأضياف دار علىً ... عمادها الفخر فيه طاولت إرما ومن تردُّ جميع المشكلات له ... إذا القضيّة أعيى فصلها الحكما وأين للشتوة الغبراء من كرماً ... ما قطّب العام إلاّ ثغره ابتسما وأين من كان للعافين يلحفها ... جناح رحمته ما دهرها أزما لا فرق مابين أقصاها إذاص نسباً ... عنه ومابين أدناها له رحما وأين من ليتامى الناس كان أباً ... في برّه قد تساوت كلّها قسما في فقد آبائها لليتم ما عرفت ... لكنّها عرفت في فقدك اليتما أحببت في الله كتمان الصنيع ولا ... يزداد إلاّ ظهوراً كلّما كتما من كان يحلف إن لم يعتلق أبداً ... إثمٌ بردك لم يحنث ولا أثما

الفصل الرابع في الإعتذار

إلاّ وقتك حشا العافين صائنة ... ولا وقاء إذا رامي القضاء رمى وهل توفيك شكر المنعمين وقد ... طوقت حيّاً وميتاً جيدها نعما بالأمس وجهك تستسقى الغمام به ... واليوم قبرك تستسقى به الديما يا غائباً ما جرت في القلب ذكرته ... إلاّ ترقرق دمع العين وانسجما لا غرو إن يعقد الإسلام حوزته ... جميعها مأتماً يوري الحشا ضرما فالثاكل الدين والمثكول شخصك وال ... ناعي الهدى والمعزّى خاتم العلما محمّد حسنٌ نظم الثناء له ... فقلَّ في سلك تقواه من انتظما سقت ضريحك من جدواك واكفة ... وطفاء ترضع داراً ما الحيا فطما أُعيذ قلبك أن يهفو به حذر ... على المكارم أو يغدو لها وجما طب في ثرى الأرض نفساً لا النديُّ خلا ... من الوفود ولا عهد الندى انصرما وأنت يا حرم المجد المنيف علىً ... لا راعك الدهر واسلم للعلى حرما إن يوحشنّك ما من بدرك انكتما ... فليؤنسنّك من نجميه ما نجما لولا ابنه المصطفى للجود قلت شكت ... من بعد إنسانها عين الرجاء عمى ندب به فتح المعروف ثانيةً ... من بعد ما بابيه أوّلاً ختما من يلقه قال هذا في شمائله ... محمّد صالحٌ إن يغتدي علما حلو الخلائق في جيل لهم خلق ... لو مازج الكوثر الخلديّ ما طعما المشتري الحمد والأشراف أكسبها ... لجوهر الحمد أغلاها به قيما لو قال قوم نرى في الجود مشبهه ... لقلت هاتوا وعدّوا العرب والعجما أستغفر الله إن شبّهت أنمله ... بالقطر منسجماً والبحر ملتطما نعم حكاه أخوه من به ظهرت ... مخائل من أبيه تفضح الديما محمّد وكفى أنّ الزمان لنا ... عن منظر حسن منه قد ابتسما إذا بدا سمت الألحاظ ترمقه ... تخاله بهلال العيد ملتثما من لفظه العذب إن شئت ألتقط درراً ... أو فاقتطف زهراً أو فاقتبس حكما فاهتف بمن مات من الأهل العلاء وقل ... لولا الردى لافتضحتم فاشكروا الرجما أمات نشرُ مساعيه مساعيكم ... حتّى انطوت مثلكم تحت الثرى رمما فلو رآه زهيرٌ في شبيبته ... إذاً لفداه واختار الفدى هرما من دوحة ما نمت إلاّ غصون علىً ... وكلّ غصن بماء المكرمات نما يا أسرة المجد لا زلتم بأسركم ... عقداً على نحر هذا الدهر منتظما صبراً بني الحلم إنّ الصبر منزلة ... حتّى لمن منكم لم يبلغوا الحلما وحسبكم مصطفى العلياء فهو لكم ... نعم الزعيم به شمل العلى التئما الفصل الرابع في الإعتذار قال عمّنا المهدي من قصيدة في عاب الحاج محمّد صالح كبّه أوّلها: نهضت تحمل عذراً وسلاما ... منهما تسقيك شهداً ومداما يقول فيها ويذكر رسالة عتب أرسلها معها: بليت في سيرها حتّى اغتدت ... لم تجد من تلكم البلوى عصاما من ألوك صحبتها حملت ... من غليظ القول للعتب كلاما تأكل البيداء في أرجلها ... وتلفُّ الأرض سهلاً وأكاما منها في المدح: ملك دون علاه زحل ... ومن الآمل يدنو حيث قاما كفّه أجرت ينابيع الندى ... وعليها ازدحم النّاس ازدحاما ما عسى أثني على من عبده ... كان في وجنة هذا الدهر شاما إلى أن يقول: يا جواداً لو غوادي كفّه ... مطرت بحراً به العالم عاما ظنّ برق السحب منها خلّباً ... وغوادي كفّه عادت جهاما مالما أسديته من نائل ... طرف شكري عنه أمسى يتعامى لست ممّن يكفر النعمى سوى ... أنّ نفسي أنفت من أن تضاما ولئن منّي ألوكٌ نقلت ... لك من ألحان أقوالي كلاما وبها لمتك لا أنّي أرى ... حسناً فيما جنوه أن تلاما إن رموا سيراً بسهم لم يصب ... فبهم أنشبت إعلاناً سهاما ولهم من مقولي صلّ نقىً ... لم يروا منه رقىً إلاّ الحماما ولك اقتصَّ لساني منهم ... وأراهم قوله حرباً عقاما وجلا من غارة القول التي ... أجلبوها عنك لا عنّي القتاما حيث أنّ النّاس لامتك ومذ ... قد كشف الأمر قالت لا ملاما

الباب الخامس والعشرون في قافية النون

الباب الخامس والعشرون في قافية النون وفيها ثلاثة فصول الفصل الأوّل في المديح قلت في مدحه: لازلت يا دهر تجلو منظر حسناً ... عن طلعة سعدها في يمنها اقترنا لماجد اشرقت في الكرخ غرّته ... شمساً تمزّق في أنوارها الدجنا أغرَّ سار فكان البدر ترمقه ... الدنيا وجاد فكان العارض الهتنا وكم سمعت بداع من لمكرمة ... فهل سمعت سواه من يقول أنا محمّد حسن الأخلاق راحته ... البيضاء كم طوّقت جيد الورى مننا أما وحبوة علياه وما جمعت ... من الفخار وبرديه وما ضمنا لقد كسا مجده الزوراء باجمعها ... برداً من الفخر فيه فاخرت عدنا يا باسطاً للندى كفّاً بنائلها ... تبخّل الأجودين البحر والمزنا قسنا الورى فوجدناها الوهاد لكم ... جميعها ووجدناكم لها القننا والحلم يولد فيما بينكم معكم ... يا خفّة الطود لو في طفلكم وزنا لا زال بيت علاكم للورى حرماً ... من راعه الدهر واستذرى به أمنا أنتم جواهر عقد الفخر لا برحت ... بكم تحلي يدا علياكم الزمنا أقول: فأمّا قولي: يا باسطاً للندى كفّاً بنائلها ... تبخّل الأجودين البحر والمزنا ففيه التوشيع وهو من الوشيعة وهي الطريقة الواحدة في الروي المطلق، كأنّ الشاعر أهمل البيت كلّه إلاّ آخره فإنّه أتى فيه بطريقة تعدُّ من المحاسن وهو عبارة عن إتيان المتكلّم أو الشاعر باسم مثنّى في آخر الكلام، أو البيت لم يكن بعده إلاّ مفردان هما غير ذلك المثنّى، فيكون الأخير منهما هو قافية البيت أو سجعة الكلام كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يشيب المرؤ وتشب معه خصلتان: الحرص وطول الأمل. وشاهده من النظم قول أبي تمام: إنّ الحمامين من بيض ومن سمر ... دلّوا الحيانين من ماء ومن عشب وقول أبي محمّد عمارة بن أبي الحسن الحكمي الشاعر المشهور ولقد أجاد فيما قال: حيث الخلافة مضروب سرادقها ... بين النقيضين من عفو ومن كرم وللإمامة أنوار مقدّسة ... تجلوا البغيضين من ظلم ومن ظلم وللنبوّة آيات تدلّ لنا ... على الخفيين من حكم ومن حكم وللمكارم أعلام تعلّمنا ... مدح الجزيلين من بأس ومن كرم وللعلى السن تثني محامدها ... على الحميدين من فعل ومن شيم في أبيات آخر على هذا المنوال، والشواهد في هذا المقام كثيرة ولا طائل في الإكثار منها. الفصل الثاني في الرثاء لمّا توفّي محمّد الرضا خلف الفاضل محمّد الصالح، حملت جنازته من بغداد للنجف واجتازوا بها على الحلّة ولم أكن يومئذ بها ولم أعلم بالأمر حتّى عادوا، فقلت: نعم هذه يا دهر أُمّ المصائب ... فلا توعدني بعدها بالنوائب ألا هلمّ فاستمع مقالي، وتعجب ممّا تصرّفت بي الليالي، هل رأيت مثلي فقيداً شطّ به المزار، فلا يدري بنفسه وهي قد خرجت من دار الدنيا إلى دار القرار. كفاني بهذا جوىً ما بقيت ... يجدّد في القلب داءً رغيها نعم وكلّما أردت النياحة في هذه المصيبة، أفحمني استعظام هذه النازلة الغريبة، فاعذل عن هذه الحبسة نفسي، وأتمنّى لو أنّني حبست قبلها برمسي، حتّى قالت لي النفس أجل، مالك سبق السيف إلى أوداجك العذل، ما عسى أن أقول ولمن أعزي وأنا الثكول، وعلى من أنوح وأنا الفقيدة، ولمن في اللحد أُنادي وأنا الملحودة. ما أخطأك النائبات ... إذا أصابب من تحبُّ بلى، لا سمحت لك قريحة لبّي، أو تنوح عنّي بلسان حالي، وإلاّ فبحسبي نياحة قلبي، فاجتباها إليّ مقالها، وقلت على لسان حالها: أطوياني ملامة وانشراني ... بلغ الوجد حيث لا تبلغان قد عناني جوىً يطول وفيه ... يقصر اللوم عن مردّ عناني كيف عيني لم تغد بيضاء حزناً ... وهي قد أصبحت بلا إنسان إنّ صوت النعي مذ خاض سمعي ... خلته في حشاي غرب سنان وعضضت البنان غيظاً ولكن ... لا يفيد المكلوم عضَّ البنان فاعذراني إذا ربطت فؤادي ... بيدي وانطويت ممّا دهاني إنّ قلبي من دهشتي طار حزناً ... فغدا وهو دائم الخفقان

الباب السادس والعشرون في قافية الواو

كفكفا عن حشاي غرب ملامي ... من جراح الجوى بها ما كفاني أين منّي صبري لأرضى فأسلو ... صبري اليوم والرضا ميّتان أنا يا لائميّ أدرى بطبّي ... فاعذلاني ما عشت أو فاعذراني سلياني بردّ روحي وإلاّ ... فبماذا عنه إذاً سلواني قرباه فوق الثرى اليوم منّي ... أو فمنه تحت الثرى قرباني وأقبراه إذاً بقلبي وإلاّ ... فخذاني لقبره واقبراني وإلى جنب مهجتي وسداه ... أو إلى جنب جسمه وسّداني فحياتي وموته رزءآن ... لم أقدر عليَّ يجتمعان بل تخيّلت أن يعيش وأفنى ... أو سواء تضمّنا حفرتان لم أُفارقه أجنبيّاً ولكن ... هو روحي قد فارقت جثماني قد نشرنا ما بيننا الود دهراً ... فطواه الردى وليت طواني غمّضا ناظريَّ ما عشت غيضا ... فعلى من بعد الرضا تفتحان وزفيري ثقف حنايا ضلوعي ... فعلى ودّ من يبتن حواني وخطوب الزمان دونك شخصي ... فلك اليوم قد كشفت عياني نزعت عنّي الحوادث درعي ... فبمن أتّقي شبا الحدثان كم به قد لويت دهري وهذا ... دهري اليوم كيف شاء لواني لك أسمحت يا خطوب الزمان ... ذهبت نخوتي فهاك عناني قد أبانت حشاي فاستهدفيها ... نكبة طوّحت ضحىً بأبان راصدتني من حيث لست أراها ... أعين النائبات وهي تراني فرمتني من حيث لا أتّقيها ... بسهام الهموم والأحزان فأنا اليوم يا نوائب كلّي ... مقتل بارز لمن قد رماني كنت قدماً إذ ودّ نبلك عنّي ... ببناني فأين منّي بناني قد نعاه الناعي إليّ أيدري ... لا درى أنّه إليّ نعاني؟ حملوه وخلفه كلّ عاف ... بدماه عيناه فائرتان عجباً خفّ نعشه وهو قد سار ... بثقل المعروف والإحسان بل أراه ما خفّ إذ سار لكن ... حملته ملائك الرحمان فاحملاني إلى ثراه احملاني ... وقفا بي عليه وقفة عاني يا فقيداً فقدت منه غماماً ... كلّما قلت قد ظمأت سقاني ودفيناً دفنت منه حساماً ... كنت أعددته لحرب الزمان أغمدته في الترب كفّي فشلّت ... فات نصري وأبتُ بالخذلان شغلت منطقي عليه المراثي ... وخلا من هوى سواه جناني يا تراني أثني على منْ بمدح ... وهو من أجنّة يا تراني مات محيي الثنا ولولا أبوه ... قلت في لحده دفنت لساني ذاك مولىً صفاته الغرُّ جائت ... في مزايا علياه طبق المعاني صالح الفعل راجح الفضل امن الم ... ستغثين غيث أهل الأماني ورع ناسك تفرّغ لله ... بقلب من خوفه ملآن جامعاً قوّة الحميّة للدين ... انتصاراً ورقّة الإيمان وبعزّ الملوك يصبح مرهوباً ... ويمسي بذلّة الرهبان قد بنى للقرى على الكرخ بيتاً ... والتقى أسّ ذلك البنيان شارع الباب تلتقي طرق الأر ... ض جميعاً لديه بالضيفان رافعاً تحت ظلمة الليل للسا ... رين فيه ذوائب النيران كرماً قد أعدَّ للضيف فيه ... عدد الطارقين غرّ الجفان قلت للبحر هل تساويه يوماً ... قال كلاّ لا يستوي البحران وسألت الحيا أتحكيه جودا ... قال أين الباكي من الجذلان يا أباالمصطفى وحلمك أرسى ... في لقاء الخطوب من ثهلان لك نفس تقدّست وبها قد ... حزت أعلى مراتب العرفان فرّغ النفس من جوى الثكل يا من ... هو في الفضل ملؤ عين الزمان الباب السادس والعشرون في قافية الواو وفيها فصل واحد في المديح قلت في مدحه: أفحمتني وأنا المفوَّه ... وارق من أثنى ونوَّه إرتجت باب رويتي ... فتبدلّت ضعفاً بقوّه فافتح على ذهني أصف ... ما فيك من شرق الفتوّه وتدان من فكري فمج ... دك لم ينل فكرٌ علوّه أولست بالسيف الذي ... أمنت مرجوه نبوّه جمع الصباحة والسما ... حة والسجاحة والمروّه وحنا على الدنيا فلا ... فقدت بنو الدنيا حنوّه وأجدّ من رسم المكا ... رم ما شكت قدماً عفوّه

الباب السابع والعشرون في قافية الهاء

محض الصنيعة لا كجو ... د سواه مصنوع مموّه في كلّ يوم عنده ... حسنى يسوء بها عدوّه شرع كلا وقتيه أحر ... ز في الندى بهما سموّه فغدوه كرواحه ... ورواحه يحكي غدوّه وقد اشتملت هذه المقطوعة على اللزوم، وهذا القسم منهم من سمّاه لزوم ما لا يلزم، ومنهم من يسمّيه الإعنات، وقالوا جميعاً فيه: هو أن يلزم الناثر في نثره أو الشاعر في شعره قبل حرف الروي حرفاً فصاعداً على حسب قوّته مشروطاً بعدم التكلّف، وهو في مقطوعتنا هذه التزم أحد الواوين في القافية لأنّه غير لازم إذ يسوغ أن تكون القافية مثلاً غدوه أخوه، ومثل ذلك قصيدة كثير عزّة التي يقول فيها: خليلَيّ هذا ربع عزّة فاعقلا ... قلوصيكما ثمّ احللا حيث حلّت في التزام أحد اللامين وهي طويلة مشهورة. ومن الكتاب العزيز قوله تعالى: (وَالطُّور، وكتاب مَسْطُور) فالطاء في أحد الفاصلتين لزوم. الباب السابع والعشرون في قافية الهاء وفيها فصل واحد في المدح قلت فيه: باتت تعاطيني حميّاها ... بيضاء كالبدر محيّاها جائت من الفردوس تهدي لنا ... نفحة كافور بمسراها لولم تكن من حورها لم يكن ... رحيقها بين ثناياها ذات قوام حبّذا بانة ... منه نسيم الدلّ ثنّاها ووجنة تغنيك في شمّها ... عن شمّك الورد بريّاها بتُّ كما شئت بها ناعماً ... معانقاً مرتشفاً فاها في روضة تروي شاذها الصبا ... عن حسن لا عن خزاماها من لم يدع للفخر من غاية ... إلاّ وقد أحرز أقصاها لم تجر أهل السبق في شأوه ... إلاّ غدا العجز قصاراها ذو راحة أغزر من ديمة ... تحلبها كفّ نعاماها تنميه من حيّ العلى أسرة ... أحلى من الشهد سجاياها هم أنجم الأرض بأنوارهم ... أضاء أقصاها وأدناها الباب الثامن والعشرون في قافية الياء وفيها فصل واحد في المديح قلت في مدحه: للمجد طلعتك البهيّه ... شمسٌ تشعّ على البريّه وبنان كفّك للندى ... وطفاء ساكبة رويّه ولك المناقب في سما ... ء الفخر زاهرة مضيّه لا زلت يابن جلا هموم ... الوفد طلاّع الثنيّه كالطود حلمك أو تهزّك ... للثناء الأريحيّه أبني الزمان ورائكم ... عن هذه الرتب العليّه ودعوا الفخار بأسره ... لا غرَّ بسّام العشيّه خير البريّة من تعيش ... على عوارفه البريّه هذا أبوالهادي الذي ... يعطي ويحتقر العطيّه لم يرض بالدنيا وما ... فيها لوافده هديّه كرماً تبشّر وفده ... بالنجح بهجته الوضيّه حلو الحميّا خلقه ... مرّ الحفاظ مع الحميّه فأمّا قولي: وبنان كفّك للندى ... وطفاء ساكبة رويّه ففيه التضمين من قول بعضهم في رثاء الحسين عليه السلام: أمرر على جدث الحسين ... وقل لأعظمه الزكيّه يا أعظماً لا زلت من ... وطفاء ساكبة رويّه وقد صرفته عن معناه لأنّ ساكبة صفة للوطفاء ورويّة صفة للأعظم وقد جعلتهما كلاهما صفة للوطفاء. والتضمين هو أن يضمن الشاعر شعره شيئاً من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهوراً عند البلغاء، وإن كان مشهوراً فلا حاجة إلى التنبيه. قال البحتري في هجاء بعض النّاس: ولقد رأيت البيض تأخذ درعه ... فذكرت عرض محمّد بن الهيثم غرض الأيور يقول عند لقائها ... ليس الكريم على القنا بمحرّم مزج المدح لإنسان بذمّ آخر وتضمّن من قول عنتر قوله: ليس الكريم على القنا بمحرّم، وهنا نادرة أحببت ذكرها وإن لم تكن من التضمين إلاّ أنّ فيها مناسبة لحال المهجو. قيل: إنّ الحسن بن وهيب وكان يُرمى بالأبنة استعرض غلاماً فقال: أكشف عن ساقيك وذراعيك وجعل يفتّشه والغلام يخجل، فقال له نجاح الكاتب: لا تخف إنّك أنت الأعلى. ولبعضهم في الهزل: وباخل يشنؤ الأضياف حلَّ به ... ضيف من الصفع نزّال على القمم سألته ماالذي يشكو فجاوبني ... ضيف ألمَّ برأسي غير محتشم والتضمين هذا من قول المتنبّي:

ضيف ألمّ برأسي غير محتشم ... والسيف أحسن فعلاً منه بالقمم وقال ابن أبي الأصبع: إذا الوهم أبدى لي لماها وثغرها ... تذكّرت مابين العذيب وبارق ويذكّرني من قدّها ومدامعي ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق وظريف قول ابن نباتة في الهزل: أقول لمعشر جلدوا ولاطوا ... وباتوا عاكفين على الملاح ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح أتنسى صدع أُمّك فوق أيري ... بذور كما يذور بني رياح تقول وقد جلست عليه إيه ... وقد قعدت على الورد الوقاح ألسنا خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح فقلت دعي فليس أوان فخر ... ولا بأوان هجو وامتداح ولكنّ الأوان أوان نيك ... وإدخال الفياشل في الفقاح وقال ابن نباتة: تصدّى إلى أيري فقلت له اثئد ... وحقّك لو عاينته وهو ثائر رأيت الذي لا كلّه أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صاير ومن ظريف التضمين ما حكي أنّ الحيص بيص الشاعر قتل جرو كلب وهو سكران فأخذ أبوالقاسم القطان الشاعر كلبة وعلّق في رقبتها قصّة وأطلقها عند باب الوزير، فأخذت القصّه من عنقها وأدخلت على الوزير، فإذا فيها مكتوب: يا أهل بغداد إنّ الحيص بيص أتى ... بخزية أورثته العار في البلد أبدى شجاعته بالليل مجترياً ... على جري ضعيف البطش والجلد فأنشدت أُمّة بعد ما احتسبت ... دم الأبيلق عند الواحد الصمد أقول للنفس تأساءً وتعزية ... إحدى يديَّ أصابتني ولم ترد كلاهما خلف من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي البيتان الأخيران لامرأة من العرب قتل أخوها ابناً لها فقالتهما تسلية لنفسها. وقال بعضهم في قاض مات غلامه وبغلته معاً وضمن المثل، فقال: قالوا غلام القاضي وبغلته ... راحا جميعاً منه على البغته قلت لقد برح الزمان به ... لم يبق لا فوقه ولا تحته وقال آخر مضمّناً في مدح بعضهم: أستغفر الله أين الغيث منقطعاً ... من جوده وهو طول الدهر متّصل من حاتمٌ عدّ عنه واطرح فيه ... في الجود لا بسواه يضرب المثل أين الذي برّه الآلاف يتبعها ... كرائم الخيل ممّن برّه الإبل لو مثل الجود سرحاً قال حاتمهم ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل والأحسن في التضمين صرفه عن معناه الأصلي فمن ذلك قول أبي الحسن في تضمين قصيدة امرء القيس وجرّها إل مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: نبي الهدى قد قال للكفر نوره ... ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي تلا سوراً ما قولها بمعارض ... إذا هي نصّته ولا بمعطّل وقد تلاعب الشعراء بتضمين هذه القصيدة، فمن ذلك قول أبي منصور: أكتاب ديوان الرسائل مالكم ... تجمّلتم بل متّم بالتجمّل وأرزاقكم لا تستبين رسومها ... لما نسجتها من جنوب وشمئل إذا ما اشتكى الإفلاس والضر بعضكم ... تقولون لا تهلك أسىً وتحمّل حلفتم على باب الأمير كأنّكم ... قفانيك من ذكرى حبيب ومنزل وكتب بعضهم إلى ابن نباتة: أفي كلّ يوم منك عتب يسوئني ... كجلمود صخر حطّه السيل من عل وترمي على طول المدى متجنّياً ... بسهميك في أعشار قلب مقتل في أبيات طويلة فأجابه متهكّماً: فطمت ولائي ثمّ أقبلت عاتباً ... أفاطم مهلاً بعض هذا التدلّل بروحي ألفاظ تعرّض عتبها ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل فأحييت ودّاً كان كالرسم عافياً ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل ومن التضمين الغريب ما اخترعه الصاحب فخرالدين في مداعبة رجل من أصحابه كبير الأنف وهو: تأنّف عن وصف الغزال تغزّلي ... بلحية أنف ذي حقاف عقنقل من البق فيها جملة قد تعرّضت ... تعرّض أثناء الوشاح المفصّل فياقبح شعر فوق أنف معرقف ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل ترى القمل والضبيان في عرصاتها ... وقيعانها كانّه حبّ فلفل كأنّ الفسا إن قيس مع ريح أنفه ... نسيم الصبا جائت بريا القرنفل

خاتمة الكتاب

والشواهد في هذا النوع كثيرة، وما أحلى قول بعضهم وكان مغرماً بالتضمين: أُطالع كلّ ديوان أراه ... ولم أزجر عن التضمين طيري أضمّن كلّ بيت فيه معنىً ... فشعري نصفه من شعر غيري تمّت الأبواب بعون الملك الوهّاب، وتتلوها خاتمة الكتاب. خاتمة الكتاب وفيها فصول فصل في نبذة من رسائلي له كتبت إليه بهذه الرسالة جواباً عن رسالة بعث بها إليّ: في فمي لم يزل لذكرك نشر ... طيب واختبر بذاك النسيما وبمرآة فكرتي لم يزل شخ ... صك نصب العينين منّي مقيما وعلى النحر من علاك ثنائي ... ليس ينفك عقده منظوما لا تظنّ العباد يحجب عنّي ... منك ذيّالك المحيّا الكريما فوشوقي وموقع الودّ منّي ... قسماً لا أراه إلاّ عظيما أنت عندي بالذكر أحضر من قل ... بي بقلبي فكن بذاك عليما لست أقوى لحمل عتبك يا من ... حملت فخره المعالي قديما فاثن من غرب عتبك اليوم عنّي ... فيه قد تركت قلبي كليما إنّي ومن جعلك ريحانة الأديب، وسلوة الغريب، لم أستوجب منك كلّ هذا العتاب، ولم أستجلب بمسائة كلّ هذا الخطاب، وهبني أسأت فأين العفو والكرم، ولعمري لقد تجرّمت عَلَيّ فلا جرم، إنّي أعتذر الآن فأقول ما حلت إزرار جيبها الصبا، ولا فتحت إكمام النور على الربى، بأوقع في النفس، وأشغل للحواس من الخمس، من بديع بيان، كأنّه قطع جنان، يجلو بواضح الإعتذار ظلمة العتب، ويمحو بصادق التنصّل كاذب الذنب، من محبّ صدع التقريع منه الأحشاء، وأرمضت قلبه هواجر الإستجفاء، إلى من حنوت له ولا حنواً المرضعات على العرام، وعذوت له الحبّ ولا غذاء الآباء طرائف الهيام، حتّى شبّ وليد شوقي إليه على الشغف، ونشا طفل ولوعي به في حجر الصبابة والكلف، وحتّى سكنت نفسي إلى هواه، سكون الجفن الساهر إلى كراه، أعني به جوهرة الزمن، وغرّة وجهه الحسن، أنمى الله غصن شبيبته على الفضائل، وشدّ إزر المعروف من عطائه بواصل. فله أياد لا تزال ... سمائها كرماً مخيله ونقيبة ما غيّرت ... في الجود عادتها الجميله ويد كضرع الغيث ... يمخضها الرجا مخض الثميله أمّا بعد؛ فحين وصلت إليّ عقيلة فكرك، وجميلة نظامك ونثرك، طرحت عنها الإزار، وحللت من غلالتها الإزرار، ثمّ قبلت منها فتاة يزري بفتات المسك خلوقها، وبابنة العنقود راووقها، فشفت بعذب كلامها غلّة صدري، ونفثت بسحر بيانها في عقد صبري، قد نشرت لدي حديث واصل، ثمّ بسطت على لسان عاذل، فأباتني تأنيبها مبيتاً نابغي، وقلّبني توبيخها في مضجع ابن هاني المغربي، بل كلّما ضرب الليل على الأُفق رواقه، وعقد على الشفق إزراره ونطاقه، أمسي وهمومي القارعة، وأفلاذ كبدي الواقعة، وفاتحة الرعد سائغ ريقي، وخاتمة الأعلى في شرايين أوردتي ووشائج عروقي، وآرائي في الشعراء، وأحشائي ما جعله الخليل وسط الأنبياء، تقريباً بلا استثناء، وكلّما فلق الصبح بعموده هامة الغسق، وشهر خاضباً من وريد الظلام سيفه الشفق، أصبح ولسان حالي، يترجم عن لسان مقالي، إذا رأيت قوماً، إنّي نذرت للرحمان صوماً. فوا عجباه والدهر سلك عجائب، والأيّام مثرية من الغرايب، كيف يتطرّق إلى وهم، أو يتصوّر في خيال أخي وهم، إنّي في تياك المودّة أشقى، بعد ما تمسّكت منها بالعروة الوثقى، لا وعافاك الله من العلل، وبلغك منتهى المجد وقد فعل، لا يلهو عن تلك المحبّة عميدها، ولا يخلق على تعاقب الليالي والأيّام جديدها، وليت شعري اعتاض عنك، بأيّ بدل منك، ولمن أربى مولود الوفاء، وإلى من أزفّ عروس الإخلاص والصفاء، وملتمس الثقة، لا يداع المقه، كالمرتبع بواد غير ذي زرع، والمنتجع في بواد خالية اللمع، والمغترف من الراب الخادع، والقابض على الماء خانته فروج الأصابع، فهم ومن جعلكم جواهر الزمن، حريون بقول المهيار أبي الحسن: خلق إذا حدّثت عن أخلاقها ... فكأنّما كشّفت عن سوآتها

وأمّا وعليا أبيك، وخلاله الصالحة التي اجتمعت فيك، لا أنت على بعدك، يا نسيج وحدك، ثاني النفس لدي، وثالث عيني بل أعزّ منها عَلَيّ، وما تركت المواجهه رغبة عن المشافهه، ولا المراسله رغبة عن المواصلة، كلاّ بل لعوائق طاريه، وشواغل غير متناهيه، تلهي الحليم عن نفسه، وتنسيه يومه فضلاً عن أمسه، ولولاها: لنثرت حبّات الفؤاد الوكةً ... ونظمتها شوقاً إليك قريضا وكتبت إلى أخيه الحاج محمّد رضا بهذه الرسالة وصدّرتها بهذه الأبيات: أغضَّ النسيم تحمل سلامي ... فحيّ بريّاه دار السلام سلام محبّ عريق الوداد ... غريق الفؤاد ببحر الغرام يميت بشوق بياض النهار ... ويحيي بتوق سواد الظلام وتهفوا نوازع أشواقه ... بلبّ حشاشته المستهام يطالع بالفكر وجه الحبى ... فيحظى برؤية بدر التمام حبيب أروح قلبي العليل ... من ذكره بنسيم المدام وشوقي إلى درّ ألفاظه ... كشوق الرياض لدرّ الغمام ممّن سكن روحه بمحاني الزوراء، وأقام جسمه بمعاني الفيحاء، إقامة المغترب عن وطنه، اللابث في غير عطنه، لا يملك على الخفوق، أثناء قلبه المشوق، ولا يلقى سمعه إلى نديم، ولو كان من أفصح الأنام، ولا يرتاح إلى مفاكه، ولو كان من ولدان النعيم، عبق الكلام، ولا ينظر إلاّ بعين إنسيّة الأجفان، وحشيّة الإنسان، قد عرفت أماقها الأرق، وأنكرت أحداقها الرفق، لم تفتح على أُناس بصرها، إلاّ استوحشت منه فغضّت عنهم نظرها. أتأنس في فتح أجفانها ... عيوني في غير إنسانها ويخلص يوماً لنفسي السرور ... إذا واصلت غير خلصانها إذاً كذبت في ادّعاء الوداد ... نفسي وما الكذب من شانها نعم عندها الغدر بعد الوفاء ... هو الكفر من بعد إيمانها على أنّي لم أبرح مسائي وصباحي، وغدوي ورواحي، وعشيّي وإبكاري، وأصيلي وأسحاري، حرج الصدر، متشعّب الفكر، ملوي الحشاشة على حسرات متعاليه، مطوي الجوانح على زفرات إلى التراقي متراقيه، من لوعة غير ماضيه، أقتل من ماضية الحد، وصبابة كأنّها جمرة ذاكية الوقد، فإذا غشيني الدجى بغياهبه، ورقدت الورى أحصيت عدد كواكبه، بعين ابن شوق نسيت أجفانه الكرى، وإذا نضا الليل عنّي ثياب ظلمائه، وألبسني النهار جلباب ضيائه، أقبلت على نفسي أُعلّلها بوشيك التداني، وأسلى غلّة شوقها بسراب الأماني، فتذمّ من أمسها ما استدبرت، وتحمد من يومها ما استقبلت، حتّى يأكل فم الغروب قرص الشمس، ولم تحصل من الرجاء إلاّ على اليأس، ولمّا لم يبق لي في قوس الآمال منزع، ولا في مطمعات الأماني مطمع، سبرت بعين البصيرة والعقل، مذاهب طرق الوصل، فوجدتها على ثلاثة أنحاء، بين أهل المودّة والإخاء، إمّا بمشاهدة العيان على القرب، أو حضور الحبيب في مهجة المحب، أو بثّ الشوق إليه والوجد، بالمراسلة على البعد، فألفيت أوّلها مستحيلا، بعد أن طلبته بكرة وأصيلا، وأمّا الثاني، فما عداني، وحين وصلت بالنظر طريقها الثالث، وقطعت عن أوّلها قرينة البواعث، وجدت نفسي مقصرةً في عدم إتيانه، لاقتدارها عليه مع شدّة إمكانه فلم أزل أوبّخها في ذلك وألومها، وأعذلها والندم فيما هنالك نديمها، إلى أن تمنّت من شدّة الخجل، لو سبق السيف إليها ذلك العذل، وقد أخرسها الذنب، وأفحمها العتب، لأنّها قطعت لسان عذرها، في شباة هجرها، حيث أنّها وإن طلبت من أنواع المواصلة أطيبها، وأكملها لذّةً وأعذبها، إلاّ أنّ ما لا يدرك أجله، لا يترك أقله، ولكن منها هذه الزلّة، صدرت مع ماجد شابه فرعه أصله، ووصف طيب أخلاقه، كريم أعراقه، ولذلك نهضت بعد كبوتها، بأذيال هفوتها، وسلكت إلى المواصلة، بطريق المراسلة، وإلى المخاطبة بالمكاتبة، ومع ذلك فهي تستمدّ اللطف، وترجو الصفح، وتأمّل قبول العذر والسلام. وكتبت إليه هذه الرسالة أيضاً: فما روضة مرشوفة عن عبيرها ... تحدّثن أنفاس الصبا والجنائب بأطيب عرفاً من سلام بنشره ... يعطّر فاه كلّ راو وخاطب

ترفعه عوامل شوق تنازعت خلدي، وجلبت السقم في تصرّفها إلى كبدي، فنسخت جميل صبري، وأطالت اشتغال فكري، إلى حضرة من نصب الله على التمييز علم فخره، فانخفضت بالإضافة إلى عزّه جميع أبناء دهره، وجزمت بنوا الدنيا أنّه في السماحة البحر المحيط، إذ بسط لها بالعطاء كفّاً استغرق وافر جودها ما حوته دائرة البسيط، فأقال به من كبوة الجدّ عثارها، حتّى سلمت له بالفضل إقرارها، فهو في أصله الذي عرقت به العلياء، كما قلت فيه مخاطباً له بهذه الثناء: يا أمجد الناس فرعاً ... ينمى لأكرم أصل وقاتل المحلّ جوداً ... في كلّ أزمة محل وابن القرى ولعمري ... أبوك زاد المقلّ لا يستشار سواه ... في كلّ عقد وحلّ الموقد النّار ليلاً ... للطارق المستدلّ مرفوعة وعليها ... مراجل الزاد تغلي يمتدّ منها لسان ... إلى السّماء متجلّي حتّى يضيء سناه ... في كلّ حزن وسهل يدعوا الضيوف هلمّوا ... إلى القرى لمحلّي فيهتدي بسناه ... إليه كلّ مضلّ أكرم به من كريم ... له انتهى كلّ فضل والخلق منك ومنه ... مثلان من غير مثل هذا مجاجة مسك ... وذاك شهدة نحل يفدي علاك ابن خفض ... ساع برجل ابن ذل يبغي العلى وهو شيخ ... همّ بهمّة طفل وهل تنال الثريّا ... عفواً بباع أشل وماله في طريق ... العلياء موطىء نعل ولا له حوض جود ... يرجى لعل ونهل إلاّ حقيقة بخل ... تبدو بصورة بذل ولعمري كيف ينالها، وهي علاء ماجد تفرع من دوحة ضربت في طينة المجد أرومها، وأخذ بأطراف الشرف حديثها وقديمها، فهو ينتمي منها إلى نسب كريم الطرفين، وحسب لم يزن معشار فخره فخار الثقلين، ذاك صفوة المكارم، من أبنائها الأكارم، رفع الله قواعد مجده، وخفّض حواسد جدّه، وجعل كوكب سعده طالعاً في سماء الفخار، ما استدار الفلك الدوّار. دعاء إخلاص إذا رفعته ... قال الحفيظان معي آمينا أمّا بعد؛ فالغرض من توشيع هذه الألوكة وتسهيمها، وترصيف منثورها ومنظومها، بثُّ وجد حركت ساكنه الذكرى، وترويح كبد أرمضتها هواجر البعد فغودرت حرّى، وتعليل نفس لم تزل من ثنايا الشوق إليكم متطلّعه، ولأخباركم من فم الصادر والوارد لم تزل منتجعه، ليرد عليها في ارتيادها، ما يجلب المسرّة إلى فوآدها، من صحّة أجسادكم التي هي لجسم الزمان أرواح تدبّره، وصفاء أيّامكم التي هي أوضاح هذا الدهر وغرره، وصّل الله عزّكم بيمن إقبالها، وقرن لكم بعمر الدهر غضارة اقتبالها، فلست أسأل غيرك من محقّق الحقائق، في كلّ غاسق وشارق، والسلام عليكم، ما رفّ فوآدي بأجنحة الشوق إليكم. وكتبت إليه بهذه الرسالة أيضاً: نسخت ولم يحص اشتياقي ولو له ... جميع الذي قد ضمّه الكون ناسخ لقد دان قلبي في شريعة حبّكم ... فليس له حتّى القيامة ناسخ سلام فتقت نور زهره صبا الحب، وأعربت أنفاس نشره عن طي سريرة الصب، ورقّت ألفاظه حتّى سرق النسيم طبعه من رقّتها، ونفحت بريا الإخلاص فقراته حتّى استعار العنبر المحض طيبه من نفحتها، وما هي فقرات في الطروس قد رسمت، بل روح محب أذابها الشوق وفي قالب الألفاظ تجسّمت، فلو نشق أرواح عرفها من غشيته سكرات الموت لصحا، ولو سرح النظر في لؤلؤ ألفاظها ذوالطبع السليم لسحرت عقله ماس منها مرحا. عرائس لفظ حكى مسكها ... على الطرس أنفاس ريح الصبا رقاق كرقّة قلب المحب ... وخدّ الحبيب بعصر الصبا حكت في العذوبة أخلاق من ... له أهديت وإليها صبا

من محبّ قطع قلبه الشوق الملح، وبرح به الغرام المبرح، وحال من البعاد بينه وبين حبيبه، ما أوقد في أحشائه سعير وجد إذا انحنت عليه أضلاعه تجافت عن لهيبه، وغودر جنباه من تلهّب أنفاسه الحرار، يرسل عليهما شواظ من نار، وكاد في تصاعد حريق زفرته، يضرم الهواء ناراً في كرّته، وحشدت جحافل الغرام في منحني ضلوعه، وانتجعت سفح عقيق دموعه، فهي تستدير عينه دموعها في كلّ آن، فتنبعث كأنّهنّ الياقوت والمرجان، وأوطنت الصبابة في غوير لبّه، وقوّض السلو عن غضا قلبه، وحال من مترادفات الأشجان، بينهما برزخ لا يبغيان، وأوشك الفراق أن ينسف طود حلمه بريح عقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم، فلا يتناهى في تحرير نعنت شوقه الكلام، ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام، إلى من حلقت به قدامي شرفه، فقصّر كلّ محلق عن شأو علاه التي أحرزها عن سلفه، وغذي بلبان العلياء إلى أن بحجرها نشا، وارتشف مدامة حبّها إلى أن انتشى، وطابت منه الخليقة، فكانت بما قلت فيها خليقة. يا طيب أخلاق كريم روى ... السامع عنها ما رأى المبصر بأنّها أطيب من روضة ... طينتها مازجها العنبر لو مزج الماء بها شارب ... ما شكَّ فيه أنّه الكوثر ندب له في حلبات العلى ... دون الأنام الورد والمصدر كأنّ من يأوي إلى بشره ... من وحشة في روضة يحبر معارج العلياء مرصودة ... ليس عليها غيره يظهر الفصيح الذي عقدت عليه الفصاحة حبك نطاقها، والبليغ الذي مدّت فوق البلاغة رفيع رواقها، والماجد الذي سمح الدهر بجوده، فدلّ على نفي بخل الدهر وإثبات جوده، وأحيى به روضة الأدب بعد ما ذوت، وأجدّ به ربوع الفضل بعد ما عفت، ورفع به سماء المجد بعد هبوطها، واقام به أعمدة السؤدد بعد سقوطها، وأقرّ عيون السماح منه بإنسانها، ووصل بيمين المعروف منه ببنانها، ونشر به جميع ما طوى من المحاسن العجيبه، وأظهر به ما أخفى من بدايع الكلمات الغريبه، فهو من أهل زمانه بمنزلة الروح من الجسد، والواسطة من العقد المنضّد، فأكرم به من ماجد بهيج تعشوا من ضوء صباح محيّاه نواظر الرائين إذا ملأت من نوره البصر، وأعجب به من فطن تعشوا في ظلام الأشكال إلى مصباح ذكاه بصائر ذوي النظر، لا زالت شمس إقباله طالعة في أعلى بروج المراتب، وكوكب سعده ثاقباً في سماء شرفه التي يتمنّى أن يحلّ فيها سعد الكواكب، ولا برح طائر اليمن له مزجورا، وروض مسرّته غضّاً مونقاً نضيرا، بمحمّد وآله المبرّئين من الزلل، وصحبه الذين مالهم في التقى من مثل. أمّا بعد؛ فإنّي لم أزل فيك للغرام نديماً، وعلى الصبابة حيثما رحلت مقيماً، تذهب بي الأشواق كلّ مذهب، وطرف عيني لم يزل في آفاق السماء مقلب، فكأنّ عيني وقد نبت عن إغضائها، ووكلت بعدّ النجوم وإحصائها. أنا أحصي النجوم فيك ولكن ... لذنوب الزمان لست بمحصي غير أنّي كلّما ألحّ على قلبي الجوى فأضناه، روّحته بذكراك فتنتعش بعد الضعف قواه، وبينا أعلّل نفسي بذكر الوصال، وهي من شدّة الشوق تتمثّل بذكر من قال: ولم أر مثل قطع الشوق قلبه ... على أنّه يحكي قساوته الصخر إذ وردت منك إليّ رسالة بديعة الكلام، حسنة النسق والإنسجام، قد افتتحت بزهر السلام روضة كلماتها، وختمت بمسك الثناء عقود فقراتها، فنشقت منها نسيم المودّة حين نشرت لدي، واقتطفت منها نور المحبّة حين قُرئت عَلَيّ، وهزّني إليها الطرب، وملكني بها العجب، ولمّا استوقفت النظر فيها، وأجلت الفكر في ألفاظها ومعانيها، سكرت من كؤس ألفاظها ولا جام، بمدامة معانيها ولا مدام، قد ابتدأت برفع خبر الشوق نحوالخليل، وأنهت إليه الجزم بتمييزه فيما بنيت عليه من مضمر الحب وظاهر المدح الجليل، وأنبأت فيما أكّدت من الشوق أن لا بدل من الصب عند صبّه، وأن لا عوض عنه حين نعتت من اشتغال قلب الحبيب بمحبّه، وإنّ هوى الخليل مقصور على خليله في كلّ أحواله، بالإضافة إلى عدم الإستثناء في حذف عذاله، وصرحت عن إلغاء مقالة الحسّاد، وإثبات ما راموا نفيه من المحبّة والوداد، فطفقت أكسوها من استبرق المدائح برداً أحكم فكري نسجه، وأحلّيها بعقود الثناء، وإن لم تزد حسنها بهاء وبهجه. أطرسك أم خدُّ عذراء بكر ... وذا درُّ لفظك أم لفظ در

سحرت غداة فضضت الختام ... عنه كأنّ لفظه نفث سحر وشكّكني حسن تنميقه ... أوشي بنانك أم وشي زهر فناهيك بها من مبلغة أوعزت فأوجزت، ومفصحة لما فيه لكلّ منطيق أعجزت، قد حملت جزيل الحمد من مبادر بشكره، إلى من تقدّم إليه بمدح مجده وتنويه قدره، فنسأل الله سبحانه أن يجعل عزّكم ملازماً للدوام ما بقي الدهر، ويصل بالبقاء ما خلع عليكم من مطارف الوقار والفخر، إنّه على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير. ولمّا قدم قطب دائرة الوزراء والي بغداد المعظم أحمد مدحت باشا نظم بيتين يتخمّس بهما وهما قوله: فلا والقنا والمرهفات البواتر ... فلا ترة أبقيت لي عند واتر أيذهب خصم في دم لي مضيّع ... ولست أذيق الخصم طعم البواتر فكتب إليّ الحاج مصطفى إلى الحلّة يستجثني بعد الإلتماس على تشطيرهما وتخميسمها وإن أنثر مع ذلك نبذة في مدح الوالي المشار إليه، وأن أنظم من الشعر ما يحسن به الثناء عليه، وذكر أنّه حضر في بعض تلك المجالس وجرى ذكر البيتين فضمن التشطير والتخميس ثمّ ألزمني بذلك وحثّني على الإستعجال فأجبته وقلت مصدّراً للنثر بهذين البيتين مورياً فيهما باسم الوالي المقدم ذكره: لي قواف في جنبها البحر رشحه ... سلسلتها روية لي سمحه مدح الدهر حسنها غير أنّي ... لست أرضى بها لأحمد مدحه ذاك من ألحف بيضة الإسلام جناح ظلّه، وأقام دون حوزة الملك سرّاً من زبر آرائه ونصله، ومدَّ غطاء الأمن على الدين، وبسط العدل بين جميع المسلمين، قد اصطفاه حضرة مصدر التأمير للرياسة، وأرسله على حين فترة من التدبير والسياسة، فجاء بعد ما غاضت بحيرة البراعة، وخمدت نيران البأس والشجاعة، جامعاً بين آية النصل، ومعجز المقال الفصل، تنفجر من بنانه ينابع الكرم، وتفرق عن بيانه جوامع الحكم، حتّى هتف لسان العراق، الآن برزت شمس العدل باهرة الإشراق، ودرّ حلب البراعة، ونطق بعد الإفحام لسان البراعة، واستطيبت نفحات غوالي الفضل، بعد ما منع من شمّها زكام الجهل، وقام وزن الآداب بعد كا كسدت منها البضايع، حين نجم مشتري زهرة الكمال في حضرةِ فلكيّة المطالع، كما قلت فيها: حضرة مولىً سواه ليس يرى ... في غير هذا الزمان إنسان مذ شبّ يكسي العلى ومرهفه ... شاب به الدهر وهو عريان فأرض أفنيتها الشرف، ونديم أنديتها الظرف، وخلّتاها الشجاعة والكرم، وخادماها السيف والقلم، وسفيراها العلاء والمجد، وسميراها الثناء والحمد، والهيبة حاجب طراقها، والعزّة خفير رواقها، ويحقّ هاهنا الإنشاء، وإن كان قاصراً لسان الهيبة والثناء: رواقك ذالا بل وليجة خادر ... بل الليث يخطو دونه خطو قاصر لك العسكر الجرّار والهيبة التي ... مخافتها تكفيك جرّ العساكر خطبت الوغى بالرمحوالسيف شاغلا ... لسانيهما بين الكلا والمغافر فسيفك فيها ناثر غير ناظم ... ورمحك فيها ناظم غير ناثر وكم من عدوّ قد خلقت لقلبه ... جناحين من ذعر ورعب مخامر فهابك حتّى ساعة السلم لم يكن ... ليلقاك إلاّ في حشىً منك طائر وخافك حتّى حين يخلو بسرّه ... كأنّ رقيباً منك خلف السرائر طلعت ثنيّات التجارب كلّها ... فصرت ترى بالورد ما بالمصادر رويد الأعادي إنّ حزمك عوده ... على الغمز يوماً لا يلين لهاصر وإن جهلت يوماً حسامك فلتسل ... به هامها عن عهده بالمغافر لك القلم النفّاث في عقد النهى ... بديع بيان من معان سواحر فوالله ما أدري أهل نثر ساحر ... على الطرس يبدو منه أم سحر ناثر وفكرك يوحي أيّ نظم وإنّها ... لقول كيم جلّ لا قول شاعر هذا ولقد رغدت سماء ذلك الفكر المدار، فقرعت سمع الأعداء بصاعقتين يخطب منهم برقهما القلوب والأبصار، قد أوشكت أن تطلع على نفوسهم منهما الآجال، إذ تحمّس بهما فقال: فلا والقنا والمرهفات البواتر ... فلا ترةً أبقيت لي عند واتر أيذهب خصم في دم لي مضيّع ... ولست أذيق الخصم طعم البواتر

فصل في رسائله

هذا والله الشعر الذي تكاد تقطر منه الحماسة دما، وتجبن عن إنشاده الثريا حتّى لو كانت للأسد فما، وحيث فاض على الأسماع صوب هذين العارضين، وصقل الخواطر والطباع لمع هذين البارقين، رجوت على قلّة البضاعة، ونزارة الإطّلاع في هذه الصناعة، أن أنخرط في سلك من شكر، وأكون في نظم من خمّس وشطر، فقلت لا متحمّساً، بل على سبيل الحكاية مخمّساً: أثرت الثرى نقعاً بكرّ الضوامر ... إلى أن تركت الدهر أعمى النواظر فقل للعدى أمنّا شفى الكرُّ خاطري ... فلا والقنا والمرهفات البواتر فلا ترةً أبقيت لي عند واترأبحتكم للعفو أبرد مشرع ... غداه غسلتم كلّ جرح بمدمع طمعتم لعمر الله في غير مطمع ... أيذهب خصم في دم لي مضيّع ولست أذيق الخصم طعم البواترثمّ أقمت إلى جنب كلّ شطر جليل، خادماً له من نظام جميل، فقلت مشطّراً: "فلا والقنا والمرهفات البواتر" ... عن الخصم لم أصفح سوى صفح قادر لقد صلت حتّى قلت حسبي من الوغى ... "فلا ترةً أبقيت لي عند واتر" "أيذهب خصم في دم لي مضيّع" ... وسيف حفاظي فلَّ صرف الدوائر فكيف تذوق النوم عيناي لحظة ... "ولست أذيق الخصم طعم البواتر" ثمّ رأيت أن أخمّس هذا التشطير، تلذّذا بمعاودة الفكر إلى ذلك النظام الخطير، فقلت: سطوت فلمّا لم أدع غير صاغر ... عفوت إلى أن لم أجد غير شاكر رعى الله صفحي عن عظيم الجرائر ... فلا والقنا والمرهفات البواتر عن الخصم لم أصفح سوى صفح قادرحملت له أثقال عزمي وقد طغى ... على عود هذا الدهر حتّى بها رغا فلا وأبي لم يبق لي بعد مبتغى ... لقد صلت حتّى قلت حسبي من الوغى فلا ترةً أبقيت لي عند واترضمنت على سيفي بهمّة أروع ... دم المجد من خصمي لأكرم مودع فلست له ابناً أن يضع عند مدّعي ... أيذهب خصم في دم لي مضيّع ولست أذيق الخصم طعم البواترأبى جدُّ سيفي أن أُكلّم لفظة ... بغير شباه من أرى فيه غلظة لقد أطعمت عيني الحفيظة يقظة ... فكيف تذوق النوم عيناي لحظة ولست أذيق الخصم طعم البواترثمّ شفّعته بهذه المقطوعة، وإن لم تكن لائقة لتلك الحضرة الرفيعة: أثنت عليك بأسرها الدول ... وتشوّقت الأعصر الأول وأعدت للأيّام جدّتها ... فاليوم عمر الدهر مقتبل وأرى الممالك يابن بجدتها ... لك شكرها كنداك متّصل أوسعتها وفضّلتها كرماً ... عنه يضيق السهل والجبل وسبرت غور زمانها فغدا ... لا جرح إلاّ هو مندمل مافي الحياة لخالع أمل ... أنت الحمام وسيفك الأجل من ذا يردُّ لعزمتيك شباً ... وشباك يقطع قبلما يصل لو شئت قتل الدهر ثمّ درى ... لقضى عليه قبلك الوجل إن تنتعل قمم الملوك فقد ... توجّتهم بالفخر لو عقلوا وطأت لك الدنيا باخمصها ... همم بساط نعالها القلل ولئت أقمت بحيث أنت وقد ... أمنت بك الأقطار والسبل فالأرض حيث تجوسها بلد ... والناس حيث تسوسها رجل وإذا الصواهل أرعدت وعلا ... برق الصوارم أمطر الأسل وعلت رياح الموت خافقة ... بأجشَّ قسطله له زجل خضت السيوف وكلّها لجج ... تحت الرماح وكلّها ظلل وجنيت عزَّ الملك محتكما ... من حيث نبت في الكلا الذبل ولديك آراءٌ مثقفة ... ما مسّة اكمثقّف خطل فإذا طعنت بها العدا وصلت ... منهم لحيث السمر لا تصل وعزائم كالشهب ثاقبة ... في كلّ ناحية لها شعل قل للقبائل لا نعدّكم ... جمع القبائل كلّها رجل أسدٌ قلوب عداه من فرق ... ذهلٌ ونابل فكره ثعل فاطرح أحاديث الكرام له ... فبه لكلّ منهم مثل واترك تفاصيل الملوك فقد ... أغنتك عنها هذه الجمل يابن الوزارة أنت واحدها ... لا راعها بفراقك الثكل ومن ادّعى للعين ليس سوى ... إنسانها ابن تشهد المقل فأقم وبدرك كامل أبداً ... والبدر منتقص ومنتقل في دولة صلحت وزارتها ... لك فهي تحسدها بك الدول فصل في رسائله

لمّا ورد أخوه المصطفى إلى الحلّة الفيحاء مع قطب دائرة الولاية المنصور المؤيّد "عاكف باشا" ونزلا دار رئيس علمائها وزعيم فضلائها السيّد مهدي القزويني دام علاه، فكتب المصطفى بيتين قالهما على لسانه ارتجالاً علم العلم المشهور السيّد محمّد بن السيّد مهدي المذكور وأرسلها إلى أخيه مع البرق "التلغراف" وهما: ببابل طاب عيشي ... مابين روض أنيق فصرت نعمان دهري ... لو أنّ عندي شقيقي فأجابه الجناب الحاج محمّد حسن في الحال على سبيل الإرتجال وأرسلهما إليه في التلغراف وفيهما التورية: رصافتي رصفتها ... مدامعي بالعقيق بها صبغت الأفاحي ... لكي تريني شقيقي فأجابه جناب السيّد المذكور عن لسان جناب الحاج مصطفى أيضاً وذلك في التلغراف أيضاً وفيها التضمين: لقد سحرتني بابل فاستمالني ... هواها عن الزوراء من حيث لا أدري ولو لم يكن فيها هجرت لأجلها ... "عيون المها بين الرصافة والجسر" فأجابه الحاج محمّد حسن في الحال بلسان البرق "التلغراف": أتسحر مثل المصطفى أرض بابل ... وإن حلَّ فيها ثالث الشمس والبدر وهذي عصا موسى أخيه بكفّه ... ترآئت فما أبقت لبابل من سحر وكتب أيضاً إلى أخيه المذكور هذين البيتين بالتلغراف جواباً عن تلغراف كتبه إليه: وافت الوكة سيّد شفت كما ... شفّ النسيم وخلقه والماء تحكي هلال العيد عن متيّم ... هو والتصبّر واصلٌ والراء ولمّا وصل جناب الحاج مصطفى إلى بغداد بعث إلى الحلّة للشريف أبي موسى الميرزا جعفر نجل علاّمة العلماء السيّد مهدي القزويني الحسيني هذين البيتين وأرسلهما مع البرق والإنشاء لأخيه الحسن: لم أنس عهد مغان فيك مزهزة ... قد أنستني فأنستني بك الوطنا فما تجاوزت ميلاً عنك مرتحلاً ... حتّى اكتحلت بسهد يطرد الوسنا فأجابه الميرزا المذكور برقياً أيضاً وفيها التورية باسمه واسم أخيه جناب الحاج محمّد حسن وهما: على محاني بابل ... من بعد مسراك العفا ياحسناً في فعله ... أنت لقلبي مصطفى وكتب حرسه الله إلى علم العلم والفضل السيّد سلمان نقيب الأشراف وأرسلها على لسان البرق "التلغراف" وهو إذ ذاك في دمشق الشام متوجّهاًً إلى وطنه دارالسلام: ما زلت تولي أولياك الهنا ... بعزمة ترغم حسّادك مرتقياً في كلّ آن علىً ... عَلَى السهى ترفع بغدادك وكتب أيّده الله وأعزّ علياه بهذه الرسالة إلى حضرة السيّد عبد الرحمن أفندي نجل المرحوم نقيب الأشراف السيّد علي الأفندي تغمّده الله برضوانه وكان قد أراد كتاب نهج البلاغة ومقصورة السيّد الرضي في رثا الحسين عليه السلام وكلّف بذلك حضرة الحاج مصطفى فأرسلهما إليه وكتب معهما جناب الحاج محمّد حسن عن لسانه: ريحانة المجد المؤثّل من رأت ... عين المكارم أنّه إنسانها شرفاً أخوك من النقابة سيفها ... الماضي وأنت لدى الخصام لسانها نور حدقة الشرف الباذخ، ونور حديقة العلم الراسخ، من انتهج من البلاغة نهجها القويم، وتسنّم من النجابة برجها الكريم، سلالة النسب القصير، وغرّة الحسب الواضح المستنير، الذي تعطّرت العلياء بارج فخره الندي، السيّد عبد الرحمن أفندي، مدّ الله عليه رواق العزّ والتخليد، وأضفى جلالبيب الإقبال والتأبيد. أمّا بعد؛ فقد سيّرنا إليك ما أمرت به من النهج الواضح، والمقصورة في خيام الأحزان المشجيه في ذلك المصاب الفادح، امتثالاً لأمرك، وطوعاً لإرادتك، والسلام. وممّا قاله دام مجده في مدح الشريف العلوي السيّد محمّد سعيد النجفي الملقّب بحبّوبي: لعبت للطلا به نشوات ... فتثنّى واحمرّت الوجنات طعنتني أعطافه الميد لمّا ... فتكت بي ألحاظه الفاترات غير بدع إذا أصاب فؤادي ... إنّما أسهم الهوى صائبات تلك في معرك الغرام علينا ... مشرعا وهذه ماضيات فإذا جال فاللحاظ سيوف ... وإذا مال فالقوام قناة هي أمضى من أنصل ورماح ... حملتها يوم الكفاح كماة راع غزلان عالج والمصلّى ... منه جيد ومقلة والتفات فهو ما أنفك بالفؤاد ولكن ... هي سرب في عالج سانحات

نسمات الصبا خجلن إذا ما ... مرّ يوماً وللصبا نسمات حسدت ضوء وجهه الشمس لكن ... سرقت لحظ ناظر به المهاة فالمغاني بوجهه مزهرات ... والغواني بلحظه مولعات قد هدى وجهة المشوق إليه ... وسعيد من فيه تهدى الهداة المعيُّ فات ابن سينا بفضل ... لسنا نوره لنا لمعات وشحته إذ كان للمجد أهلا ... للمعالي من آل فهر سرات فسما ذروة السماكين لمّا ... حسنت منه للأنام الصفات بمحياه للطلاقة معنىً ... وبكفّيه للنوال سمات لم أقس فيك بالفصاحة قساً ... ذاك ملح وأنت عذب فرات لك حوزالرهان في كلّ مجرى ... إن أعدّت بين الملا الحلبات فلو اسطعت أن تريث قليلا ... لسعت ولهاً لك القصبات فأجابه السيّد المذكور السيّد محمّد سعيد عنها بقصيدة يمدحه بها وهي هذه: دموعي وهي حمرٌ مرسلات ... وشت بي عند أهلك لا الوشات أتنكر يا أخا القمرين لتمي ... وفي خدّيك من شفتي سمات فسل عطفيك كم طعنا فؤادي ... إذا علمت بموقعها القناة أتحكي السمر قدك باعتدال ... وما ثقفت وهي مثقّفات وسل كبدي ففي كبدي سهام ... بأهداب الجفون مربّشات فلو نزعت لحاظك عن قسيّ ... لما حملت سواهنّ الرماة لقد وقعت على كبدي كأنّي ... لأحداق المها عندي ترات فصلني إن وصلت أخا غرام ... فشملي كاد يصدعه الشتات وإن نظر الزمان إليَّ شزراً ... وكادت أن تقاطعني الحياة فقد أحيى بوصلك لي وتحيى ... بجود محمّد الحسن العفاة فعنع في مدائحه حديثاً ... فذاك أصحُّ ما نقل الرواة قد اختلفت طباع النّاس نوعاً ... كما اختلفت بالسنها اللغات فكان أجلّها شأناً همام ... تغنّت في مدائحه الحداة فتى قد أعوزت كفّاه شبهاً ... وإن زعمته دجلة والفرات هما قد شرّقا سيراً فخصّا ... مسيلاً لم تسل منه الفلاة وقد عمّت يداه الكون جوداً ... قد امتلأت به الستّ الجهات طما نهر المجرّة من نداه ... فأنجمه أقاح نابتات كتب جناب الحاج محمّد حسن حرسه الله بيتين إلى حضرة نقيب الأشراف السيّد سلمان أفندي يهنّيه بالعيد عيد النحر وبرتبة "مكة ?ايه سي" التي حصلت له من نفحات حامي حوزة الملّة الإسلاميّة حضرة "السلطان عبد الحميد خان" دام عزّه وأرسلهما بالتلغراف إلى بغداد من كربلا لأنّه كان فيها والبيتان قوله: أقامك ربّ مكّة مستجاراً ... بسعيك إذا بلغت مقام قربه فعيد النحر فيك وأنت ركن ... حقيق أن يهنّي بيت ربّه وكتب أيضاً إليه هذين البيتين على لسان أخيه الأفخم جناب الحاج مصطفى يهنّيه بذلك: بمجدك الدهر لا بالعيد مبتهج ... وفي محيّاك يزهو لا محيّاه فالله حيّاك بالعيد السعيد كما ... بنور طالعك الميمون حيّاه وقال أيضاً حرسه الله تعالى مشطراً ومخمّساً هذين البيتين وقد التمسه على ذلك الحاج أحمد ال?ا?هـ ?ي والبيتين هما: عكس المدام بخدّه فتورّدا ... ودنا يعاطيها يحاكي الفرقدا وبدا يجول بحليته مشهراً ... سيف اللوا حظليته لن يغمدا فقال مشطّراً ومخمّساً: أفدي رشاً غصّ الشبيبة أغيدا ... بوضيء وجنة خدّه الساري اهتدى مذ كان في كلّ المحاسن مفردا ... عكس المدام بخدّة فتورّا وبخدّه نور الجمال تجسّدارشأ بغير حشاي ليس بقاطن ... وهواي عن مغناه لى بظاعن ناديته صل ذاجوىً بك كامن ... فدنا بشمس الراح بدر محاسن ودنا يعاطيها يحاكي الفرقدانادمته رشأ تلفّت أحورا ... ولثمته قمرا تكامل مسفرا فغدا يهزُّ من المهفهف أسمرا ... وبدا يجول بحلّتيه مشهّرا من مقلتيه على العباد مهنّدارقّت معاطفه كرقّة خدّه ... وزهت خلائقه كرهوة ورده قد سلّ مرهف لحظه من عمده ... فبمهجتي وأنا الصريع بحدّه

سيف اللواحظ ليته لن يغمداوأرسل هذه القصيدة من جصّان جناب السيّد عبّاس ابن السيّد محمّد ابن السيّد العلاّمة السيّد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة أعلا الله مقامه مادحاً بها ومهنّياً لجناب الحاج محمّد حسن في عرسه المبارك وذلك في سنة 1349: أنهى إلى القلب خمار الشقف ... فياخمار الصرف منه انتصف وخذ بما أسرف ويك من دمي ... فأنت مابيني وبين مسرف معربد اللحظ بأيّ علقت ... ألحاظه غودر أيّ متلف وأغيد يخطر في دور الطلا ... هزَّ الردينيّ بأسنى مطرف مغنّجاً ماارفضَّ إلاّ بثَّ لي ... من جفنه النشوة قبل القرقف وهو إذا ما ثقلت أردافه ... رجرجها السكر وسوق المعزف لولا انكسار منك يا أجفانه ... الوسنى لما جردّت غير مرهف وأنت يا قامته قد غمزت ... مرهف جفنيه الطلا فانقظصفي قم واسقنيها امتزجت أكوابها ... من لثّتيك فهو أحى مرشف واشبب لظاها فهي مهما استعرت ... لو رسبت في البحر ما إن تنطفي وإن سعت للمزج منك قدم ... فلا أقيلت عثرات الرفرف لا دعدعاً أوانا من أرواحها ... أدركها صرفا برشح الأنف بكسرويات إذا ما أشرقت ... فهي شموس أشرفت في كتف نسيت مالي فالشموس دونها ... إذ هي عمر الدهر لمّا تكسف قرَّطها الساقي غداة ارتعشت ... كفّاه من أبهى لئالي الصدف فهي بنادي اللهو مهما بزغت ... أخالها الشمس بدت في شنف فياغيون اللهو بالراح انطفي ... ويا خياشيم الأباريق ارعفي وأنت يا زوراء قد راق الهنا ... في ضفّتيك بهجة تزخرفي قد أذن المجد إلى شمس الضحى ... إن تلك أبراج العلى فازدحفي فقد رأيت للشيف أن يرى ... أخا الشريف وأباً للشف من عقد الله له مئازر ... الفخار من قبل انعقاد النطف خلفك يا أحساب من فاضله ... قد قعدت بك الجدود فقفي فوَّقها شهباً وقد تفلتت ... به إلى المجد التماس الهدف هم شرعوا المجد زمان لم تكن ... أكرومة بين الورى أو تعرف فأوضحوا النهج إلى أبنائهم ... فهي لهم بالمكرمات تقتفي فأتبعوا التالد في طريفه ... فهم كرام خلفاً عن سلف وأرخصوا ما هو غال فهم ... لديهم العسجد مثل الخزف أي ويمين الخير كفّ المصطفى ... فهي بغير الخير لمّا تكف لو شحَّ نوء القطر في روائه ... لاخلفته بالقطار الموطف لا أحسب الصحف التي تسوّدت ... بمدحه إلاّ وضاء الصحف جمُّ المزايا لا تطيق رقمها ... وإن تحرّينا انتساق الأحرف يا مسعفي هنّ سميَّ المصطفى ... هنّ سميَّ المصطفى يا مسعفي بمن به العلياء قرّت عينها ... لا برح الدهر بعيش الترف فكتب إليه الحاج محمّد حسن بهذه الرسالة يتشوّقه ويشكره: سلام أحى من ريقة النحل، وأبهى من خصب بعد محل، وألطف من ساعة منح فيها الحبيب بالوصل، تزفّه نفحات الأشواق، محفوفاً بحبات القلوب والأحداق، إلى من عبرت معاليه على الشعرى العبور، وحلّ من جنان البراعة في جنان اعلا القصور، علوي الذات، المعي الصفات، من لمك أعنّة الفضائل فألقت إليه قيادها، وأذعنت له فصحاء البيان بالمقال الفصل فسادها، وحاز قصبات السبق في حلبات المعالي، وحلى عواطل الفضل من بحر كماله بالدرر واللئالي، وفاز من أقداح المفاخر بالمعلي والرقيب، فكان في درر فرائده وغرر قصائده ريحانة الأديب، وسلوة الغريب، ذاك سليلب الشرف الباذخ، وليث عرّيس البأس الراسخ، من عطر الأكوان بعرف معارفه وكرمه، وانتشت الأرواح بمكارم أخلاقه ومحاسن شيمه، عديم ندّه في المنثور والمنظوم، نسيج وحده في حلّ مشكلات العلوم، المتفرّع من دوحة جلال طيّبة الأغراس، والمتضوّع في روضة كمال عطريّة الأنفاس، علم الفضل المفرد، وعيلم العلم الأوحد، ذاك خلي السيّد عبّاس المؤيّد، أدام الله له من الخلود أسناه، وأضفى عليه من الإقبال أبهاه، رافعاً علم مجده بخفض عداه، صاقلاً روض سعده بقطر نداه، ما سجعت الحمائم بالأغاني، وهبّت النسائم في المغاني، بمحمّد أفص من نطق بالضاد، وأبلغ من أوتي جوامع الكلم فأروى ببلاغته كلّ قلب صاد.

أمّا بعد؛ فالداعيى لتنميق صحيفة الإخلاص، والوكة المحبّة والإختصاص، هو محض الإستفهام عن مزاج من فضح النسيم طبعاً، والإستعلام عن دوام ابتهاج من ترك محبّيه على ساحة الفراق صرعى، على أنّي أسير أعلاق الوجد والهيام، ورهين أشراق الشوق والغرام، فالأرض تارة معشبة بدموعي، وأخرى مصوحة بضرام ولعي وهلوعي. فبرح بي شوق ملحٌّ إلى فتىً ... تعلم منه الغيث كيف يجود همام طما بحراً بكلّ فضيلة ... وقد ساغ منه للأنام ورود وبينما أُعلّل النفس بالفوز في نظر محياك، وأروّح الروح بجميل ذكرك ونشر ريّاك، إذ وردتني مألكة نثرك الرائق، وعقيلة نظمك الفائق، منسوجة ببنان الفضل البار، فأزرت بوشي صنعاء، مرصّعة بدرر بحر البارع الماهر، فحسدتها قلائد الحسناء، فيا أيّة االسيّد الذي أضاء بفلك المجد بدر علاه، والبارع الذي ما نصب للفضل منبر إلاّ رقاه. كسوتَ فضلي أبراداً مفوّقةً ... من النهى نسجتها أنمل الفكر وزنت جيد العلى من بحر فكرك في ... منظومة درراً أبى من الدرر ألفاظها نفحات الروض باكره ... قطر الندى فغدا مستطرف الزهر لها معان بآراء الورى فعلت ... فعل اللحاظ بأبناء الهوى العذري لقد تحلّت وراقت في دقائها ... كما تحلّت عيون الغيد بالحور فليس لفظ حوته غير منتخب ... وليس معنىً زهاها غير مبتكر فيالها من بدائع بيان بزغت في أكواب الطروس شماً، وذكّرتنا سلاف أسلافها وأنستنا قبساً وقسّاً، فأسكرتنا براح معانيها الرقاق، وملئت جانبي بغداد بالإشراق، وغنّت بها بلابل السعد، على منابر الأغصان، وحدّت بها حداة الوخد، بمطربات الألحان، فيامن تحلّت بدرر ثنائه الطروس، وانتعشت بذكر صفائه النفوس. لولا الهموم الطارقات وإن أكن ... فرغت شطر القلب في ذكراكا لنظمت حبّات القلوب فرائداً ... عرنيةً يزهو بها مغناكا لكنّني ماذا أقول وإنّما ... يتحيّر النحرير في معناكا غير أنّي حين حرّكتني لواعج الشوق والكلف، وهيّجتني علائق التوق والشغف، بعثت بهذه الخريدة الهيفاء، والفريدة الغرّاء فأعرها سمع رأفتك الكامله، وألحظها بعين محبّتك الشامله، وهي هذه: نبت الروض من دموعي الذوارف ... إذ شجاني في الدوح سجع الهواتف ذكّرتني وكيف أنسى أغناً ... مائس القد كالرديني هائف وغزالاً مورد الخد غضّاً ال ... جيد مرَّ الصدود حلو المراشف راقني منه مرسلات جعود ... بين قاني خدوده والسوالف فلو أنّي لم أخش تلك الأفاعي ... كنت من ورد خدّه الغضّ قاطف عكّف الحسن والدلال عليه ... والتصابي باد عليه وعاكف لاذ بالمستجار من وجنتيه ... منه خالٌ بكعبة الحسن طائف أمن النّاس حيث فيَّ استجاروا ... وفوآدي مروَّع منه خائف يا رشيقاً قد راق للعين حتّى ... ما عليه من ناعمات المطارف عد لربع تخذّت فيه صبوحي ... وغبوقي اللما وأنت المساعف فترفّق بالمستهام وإنّي ... جئت مستعطفاً بلين المعاطف وأمنحن بالوصال يا روح روحي ... شافعاً للتليد منه بطارف يا فؤادي دع عنك ذكر غزال ... شأنه الدل للصدود محالف واذكر عهد سيّد ألمعيّ ... أبهر النّاس بالحجا والمعارف يا أباالفضل قد تساميت فضلاً ... ولسان الثنا بفضلك هاتف حار وصفي في كنه فضلك يا من ... بمزاياه لم يحط وصف واصف إن أقل فاضل فما الفضل إلاّ ... لك عبدٌ للأمر عندك واقف أو أقل حاتم الندى فأيادي ... ك ندىً عمّت الورى بالعوارف إنّما حاتم وإن فاض جوداً ... هو بالجود من بحارك غارف وحداة المطا بذكرك غنّت ... وتحلّت بالمدح فيك المصاحف ردّ لي عهدك القديم بمغنىً ... ألبسته يد الربيع مطارف ففؤادي قد بان مذ بنت عنّي ... وهو أنّي خطفت كالبرق خاطف وضلوعي انحنت عَلَيّ جمرات ال ... شوق والجفن في دمق القلب راعف

وكتب أيضاً إلى السيّد المذكور السيّد الشريف العالم الفاضل السيّد محمّد سعيد حبّوبي كتاباً وضمّ إليه قصيدة فائيّة يصف بها القصر الذي سيأتي ذكره يمحده بذلك ويمدح جناب الحاج محمّد حسن والكتاب هذا: أهدي إليك مع النسيم تحيّة ... تدع النسيم من التلهّب بارقاً فاصحر لها ما إن تهبّ مجزية ... بربى ديارك شائماً أو ناشقا سلام أرقُّ من نسمات الصبا، وإن أدركت من رقّة طبعك نصيبا، وأطيب من نفحات الكبا، وإن تضمّخت من نثرك طيبا، نظمته من بيض لؤلؤ مكنون، فانسقت فرائده صفوفا، ثمّ احترقتها بنار الشجون، فاسودّت في الطروس حروفا، لى طراز حلّة الفخر المذهّبة، ونور الدوحة الفاطمىّ المهذّبة، نخبتي من النّاس، مولاي السيّد عبّاس، حفظه الله وحرسه، بالنبيّ وآله، ومن عقد في عراهم مرسه، وأتبعهم في أحواله وأقواله. وبعد؛ فالقصد الأصلي، والمطلب الأوّلي، هو الفحص عن ذاتك التي هي عنوان الشرف، وطباعك المصقولة بأكفّ الترف، المسكوبة في أقداح اللطافة والظرف، التي ما تعاطي ذكرها الأحباب، إلاّ وأسكر الأرواح ما يروقها، المتشعشة في الأكواب، مذ كان من العلم والأدب راووقها، وإن سئلت عن صبك العميد، فهو بحمد الله في عيش رغيد، وإنّي وردت إلى الزوراء، قبل تزويج زين الخلاء، فكنت بهجة الألسن حيث لم نأنس إلاّ وذكرناك، ومتى النفوس والأعين، حيث ما منينا إلاّ وتمنّينا. فلكم جلسنا مجلساً ... فيه الأنيس جميل ذكرك هذا بمدك آخذ ... ويروح ذا بمزيد شكرك فكأّ ذكرك خمرة الأنس المتعاطات، والخطوة بمجيئك خطوة الأمل المتباطات، فلم توفق آفاقنا بإشراق شمسك، ولا ردَّ يومنا ما فات من أمسك، فكان بعدك كالغصة في ذلك العيش، وفي مراماة تلك القارة يميناً وشمالاً سهمنا بالطيش، حتّى زارت الزوراء خريدتك الفائيّة، التي آنستنا بكلّ بحترية وطائيّة، فتغنّت الندمان بها على كلّ سلافة، ونظمتها عقوداً كعاب الرصافة، بعد أن أقبلت ترفل في قوافيها، فتلقّتها الأخلاّء بالقبول، وعانقوا من ضخامة معانيها، ما تفصّمت في ساقها الحجول، فانعقد مجلس لأجلها، وتعطّشت الأسماع لسجلها، فلم يبق بيت إلاّ استعيد مائة وعشراً، ولا لطيمة مسك إلاّ وفضت ما استقصيناها نشراً، إذ تبسّمت مفترة عن ثغر عبّاس، وانسكبت صهباء على مسامع الجلاس، فانهت خمار شغفها إلى قلوب السامعين، وحلّت بانعقاد نطفها عرى المتعصّبين، فلو كان السامعون من ذبيان، لا نيغ فيهم غيرك من زياد، ولو كنت في سالف ذلك الزمان، لما أبقى طريفك من تلاد، ولو وعاها الوليد لشاب، أو سمعتها أخت صخر لارفضَّ قلبها وذاب، ولعمري هي صدر التهاني من الناظمين، وإن كنت منخرطاً في سلكهم، فقد رمت الوزارة على المهنّين، فردّوني وظفروا منك بملكهم، فهي المقدّمة على تأخيرها، والمعشوقة على تأميرها، ولعمري لهي الشنب المرتشف من الثغور، والحبب المرقص بأقداح الخمور، هذا وقد أرسلت إليك هذه الخود الكعاب، فأذّن لها ولا تغلق من دونها الباب، فهي وإن لم تكن بشأنك وافيه، إلاّ أنّها تحلّت عن بديعتك بالقافيه. بلوى الرقمتين من أُمّ أوفى ... طلل بان أهله فتعفّى غيّرته الأعصار يوماً وليلاً ... وشمالاً يعصفن بالربع عصفا ومحاه مسرى الرياح جنوباً ... وانهطال السماك سحباً ووكفا وثلاث لم يبلها صوب قطر ... لا ولا كابدت من البين صرفا قربت بينها ولائد بكر ... وارتضتها مواقد الحيّ ألفا بين نوئين خلفت ضمياء ألقت ... من حليّ لها سوراً ووقفا قال لي صاحبي وقد أخضل الدمع ... ردائي ومزنة الشوق وطفا طارحاً بالطلول عبأ دموع ... أثقلت ناظري عسى أن يخفّا أو تبكيك باللوى عرصات ... دارسات الطلول من أُمّ أوفى؟ صاح دعني في اربع نعمتني ... بلعوب لطيفة الخصر هيفا كان عهدي بها قريبة عهد ... لم ترعني في موعد الوصل خلفا تتمشّى مدلّة بين بيتي ... جاريتها ممكورة تتكفّى بقضيب يهزّه اللين قدّاً ... وكثيب يرجّه الثقل ردفا هي روض الجمال يرتادها الطر ... ف اختلاسا وتمنع الكفّ قطفا مبسماً واضحاً ووجها أغرّاً ... وحشىً مخطفا وزندا ألفا

وثنايا كأنّهنَّ لئال ... نسقتها نساقة الغيد رصفا هي أحلى من الرحيق إذا ما ... خلطوها بالزنجبى المصفّى وجفوناً أودى بها السقم حتّى ... كدن يحكينني سقاماً وضعفا فتنت نرجس البطاح إذا ما ... نبهته الصبا وقد كان أغفى ريّشت نبلها وريّشت نبلي ... فمضى لحظها وأرعشت كفّا وارتمينا فكنت أكذب مرمىً ... وانثنينا فكنت أصدق حتفا هزَّ منها الصبا قضيبي أراك ... للتصابي ولفنا الشوق لفّا إن تعشقتها هوىً فلعمري ... أنا ممّن إذا تعشّق عفّا أدّعي حبّها لينصل منّي ... ربّ مبد أيدي هواه ليخفى أهلها قرّبوا الجمال وحطّوا ... حجبها للنوى حجالاً وسجفا فتبدّت من القطيفة شمساً ... واستقلّت على الرحالة خشفا فبعيني ظعائناً جزن بالرمل ... وراء الهضاب يحدون عنفا أيّها الرّاكب التي انتجوها ... من ظليم أصاب وجناءَ حرفا فهي خلقٌ مابين ذاك وهذا ... أعملت للسرى جناحا وخفّا عجّ إذا جزت أرض بدرة واقصد ... شعب جصان جادها الغيث وكفا واخلع النعل في مقدّس واد ... لو أتاه المشوق يوماً تحفّى واقرأنَّ السلام عنّي خليلاً ... قد قرأنا هواه حرفاً فحرفا علويّاً حاز المعالي لا بل ... زانها مبسماً وجيداً وطرفا يا أباالفضل كنية قد أبانت ... لك فضلاً فأصبحت لك وصفا وعميد الوغى إذا هيج يوماً ... وحليف الإبا إذا سيم خسفا رفَّ شوقاً إلى لقاك فؤادي ... عمرك الله هل فؤادك رفّا لم يزل بي إلى لقائك لوح ... ولو أنّي أفنيت دجلة رشفا إن تسلني كيف استمرّت حياتي ... فبطيّ الكتاب جائتك لفّا أم تراك الغداة تذكر عهداً ... قد تقضّى ومعهداً قد تعفّى أزعجتنا النوى وكنّا جميعاً ... بربى الكرخ في نعيم وزلفى في مشيد من القصور منيف ... أوطأته حمراء دجلة كتفا فسما تحسب البسيطة رامت ... أن تشمَّ السما فمدّته أنفا شامخ الركن والأزاهير تزهوا ... جهتي أرضه أماماً وخلفا تحت ورديّة إذا ضربوها ... رفعت تشتكي إلى الله طرفا هي في طرحها سدىً وإذا ما ... ضربت جلّلت على الجوّ سقفا ضربوها وهل تحدُّ فتاة ... ما رمي عرضها الكواشح قذفا زانها الفرس بالتصاوير حتّى ... مثّلت لي الضبا صنفاً فصنفا ورواها البديع نوعين منه ... دون كلّ الفنون نشراً ولفا فانتظمنا عقداً وواسطة العقد ... أغرّ قد راق طبعاً وشفّا ذاك من علم الهيام فؤادي ... وسقاني مدامة الحبّ صرفا ذاك معنى الثنا بكلّ لسان ... ملىء الدهر من مزاياه صحفا ذاك خلي محمّد الحسن الأخ ... لاق والخلق أحسن الخلق وصفا لم أفه باسمه المطيّب إلاّ ... وفضحنا أرواح دارين عرفا فعليك السلام منه ومنّي ... ما تغنّى الحمام يندب ألفا وقال السيّد الجليل والفاضل النبيل السيّد عبّاس المتقدّم ذكره مقرضاً على نظم هذا السيّد المبدع، والمنشي المخترع، وقليل بمقامه، أن أقول أجاد في نظامه، وهو: هذا نظامك يا فرد الجمال أتى ... كالروض جرت عليه ذيلها الديم جزل المعاني رقيق اللفظ موجزه ... يروق مبتدؤٌ منه ومختتم قد ضمن الزهر إلاّ أنّه كلم ... والأنجم الزهر إلاّ أنّه حكم منظّم لدراريه ابن بجدته ... طرف له السبق لا زلت له قدم وذاك منثورك الزاهي فرائده ... يبثّها منك فكر ثاقب وفم عبد الحميد بن يحيى في بلاغته ... وابن العميد إذا قيسا به عدم نظم هو اللؤلؤ المكنون زان به ... نحر العلى مفرد في مجده علم ذاك الفتى الحسن الميمون طائره ... بوجهه تنجلي الغمّاء والظلم فلا يزال السعيد الجد في دعة ... ما هزَّ عطفيه في يوم الندى الكرم

وكان حضرة سيّدنا المؤيّد، بعناية الواحد الصمد، الميرزا جعفر نجل علم الملّة والشريعة السيّد مهدي القزويني دام علاه قد سافر من الحلّة الفيحاء إلى المرقد المقدّس لزيارة سيّد الشهداء، وكذلك الماجد الحاج محمّد حسن قد قدم من الزوراء للزيارة فضمّهما معاً مجلس المؤانسة والمفاكهة فعزم الحاج محمّد حسن على حضرة سيّدنا أن يشرّف إلى بغداد ويتشرّف بزيارة الكاظمين عليهما السلام فوعده بذلك بعد رجوعه إلى الحلّة فكتب إليه بعد ذلك يتشوّق إليه ويتقاضاه ذلك الوعد الذي سبق منه، والكتاب هذا: لوعة الوجد أحرقت أحشائي ... وفؤادي في الحلّة الفيحاء خامرتني الأشواق في مجلس الذ ... كر فكان السهاد من ندمائي أنا لم أصف للهنا بهواء ... مذ تنائيتم ولا عذب ماء ومحال صفاء دجلة مالم ... يجر ماء الفرات في الزوراء بك يا حلية المعاني ومعنى ... رقّة الماء راق معنى الهواء فعليك السلام ما سجع الورق ... سحيراً في بانة الجرعاء من موّق إلى على علوي ... جاز هام السماك والجوزاء ذاك من علم البحر التيّار، بصغرى أنملته، إن يجود بدرر الرائقه، وأعار الرند والعرار، من طيب نفحته، ما عطر الأرجاء بنسمته الفايق، هضبته الحلم الراسخ الرزين، وعيبة العلم الموروث عن الأنزع البطين، من تسنّم ذروة الزعامة من هاشم، ونشر بالرياسة أعلامه على قبيلة المكارم، معنى أبهة الشرف، وحياة روح الكمال والظرف، نيّر أفق المجد الأزهر، حضرة مولانا وعمادنا الميرزا جعفر، لا برح سنا هالة عليائه، متشعشعا بمطالع آفاق سمائه، ما اهتدت لمناهج السرى حداة الأظعان، بأنجم فضله السيّارة، وبلت بنوء الوجد أزهار الثرى من دم دمعتها الهتان، إذ رشقتها الأحداق بألحاظها السحّارة. آمين آمين لا أرضى بوادحة ... حتّى أضيف إليه ألف آمينا أمّا بعد؛ ومن طرز حلّة البراعة، من أفلاك نهاك بأنجم النثرة نظماً ونثراً، ورفع ببنانك اليراعه، في محفوظ لوح حجاك على هام المجرّة شرفاً وقدراً، لأليف شوق مخامر، ألحّ على الصب بزفراته، وحليف نوق مسامر، برح بالقلب بجمراته. فسل دراي الأُفق عن محاجري ... هل غير بعد نورها أرقّها وسل مغاني الكرخ عن مدامعي ... هل غير قاني مزنها أغرقها تلك مغان لم تزل مزهرة ... لو لم يكن حرُّ الجوى أحرقها وسل حمامات تئنّ لوعة ... في الدوح بالهدبل من أنطقها ومن غداة راعني يوم النوى ... بذائب من الحشا أطوقها وإنّي لأسئل من نشر أشعّة فضائلك على سائر الأرجاء، وكسا الكون من نشر عوارفك وفواضلك حلل الشرف والعلياء، أن يعيد الزوراء بزورة بدر المجد باسمة الثغور، ويسعف المتّسمين بالولاء بإنجاز سالف الوعد فيطوّقهم بالحبور، وأسألك أيّها الراقي من ثريّا الفخار بسلّم محامده مناطها، والغائص في عيلم علمه الزخّار ليلتقط درر فوائده فأحسن التقاطها، أن ينوب عن الداعي بلثم أنامل مولانا العماد، وينهي أكمل ثنائه إلى القادة الأمجاد، وأن لا ينسي المحب وحاشا كرائم عاداته، من مستجاب دعواته. فأجابه السيّد المذكور الميرزا جعفر عن رسالته هذه بقوله: أرج معاهد من معاهد الزوراء ... نشره فاح في حمى الفيحاء أم عروس زفّت من الكرخ تمشي ... لي على الدل لا على استحياء ونجوم من الرصافة ألبسن ... حمى بابل برود ضياء أم سطور بها حباني حبيب ... هو من مهجتي قريب نائي لسكرتني ألفاظها ومعاني ... ها فقل في الكؤس والصهباء وسبتني صدورها وقوافي ... ها فقل في المشوق والحسناء هيجت لي شوقاً بها كان قدماً ... كامناً في ضمائر الأحشاء لفتىً ينتمي إذا انتسب النا ... س فخاراً لأكرم الآباء

ذاك من حلق نسر مجده الطائر، عن أن تصل أفكار الواصفين إليه، وتعالى شأن سعده الباهر، عن أن تقع أبصار الناعتين عليه، بدر هالة الكمال المشرقة، على الأرجاء أنواره، وفرقد دائرة الإفضال المتألقة، أشعّته وآثاره، فرع الشرف الباهر، وسلالة المجد الموروث كابراً عن كابر، عين أعيان الزمن، وغرّة وجهه الحسن، لا زال نيّر مجده، طالعاً في آفاق سعده، ما طاف بربعه المعمور طائف، وسعى بفناء عزّه بادي الوفد والعاكف، آمين آمين. أمّا بعد؛ فقد وافت الوكتك التي حيّرت بما حبرت فيها عقول ذي الألباب، ورسالتك التي أعجزت بما أوجزت فيها من المحكمة وفصل الخطاب. فكم أهاجت في الأسى لي مهجة ... إلى حمى الزوراء ما أشوقها وكم أذالت في الهوى لي مقلة ... إلى مغاني الكرخ ما أرمقها وكم روت لي عنك في إسنادها ... مودّه في الدهر ما أصدقها وكم دعت بالفضل من ذي لهجة ... عليك بالثناء ما أنطقها فاسأل من ألبسك مطارف الفخر حتّى صرت إنسان عين الزمان، وكساك برود العزّ حتّى أشير إليك بالبنان، أن يتمّ لنا ما أمّلناه من مواصلتك، وبعجل ما تمنّيناه من زيارتك، والسلام عليك ورحمة الله. وممّا كتب به جناب الحاج محمّد الحسن إلى النجف إلى جناب السيّد محمّد سعيد حبّوبي: نسم الصبان إن جزت كوفان بلّغي ... سنا هامة العليا تحيّة مغرمه وإن فهت نطقا فانشري طي لوعة ... ورتها الليالي بين جنبي متيّمه عسى أنّ ألفاً لم يعودنّ جفوةً ... يرقّ لرقّ ريُّ خدّيه عن دمه فلا والهوى لولاه لم أدر ما الهوى ... مولم يشجني ورق الحمى بترنّمه ولم تلهني عن ذكره ريم رامة ... ولا عيس نعمى لا وربّي وأنعمه فيا روح روح الصب عجّل بردّها ... فما هي إلاّ أنت يا بدر أنجمه ودمت لمنثور اللئالي منظّما ... فرائد فكر أنت لجيُّ عيلمه أما والذي هداني صراط ولائك، ومزج يوم أخذ الميثاق حوبائي بحوبائك، لم يسل عميد هواك عن سعيد جدّ علاك، ونشر عاطر رياك، وفجر باهر محيّاك، ولا آناً يرشق الأكحل فيه بنلة لحظة، بل ولا زماناً ينسق إلاّ لثغ ذوالدل من فية مدرة لفظه. إنّي ولاعج شوقي بات ينفرني ... طعم الكرى وغرامي الصبر إنساني فسال إنسان عيني في مدامعها ... وأنت بأضوء عيني عين إنساني ولكم أماتت كئابتي من النهار بياضه، وأحيت فرط صبابتي سواد الظلام ولا غضاضة، وكيف يملك عنان أساء من أنسى هيامه بني عذره، على أنّه لو نبا حدّ وجده واساه لم يقبل الهوى عذره، فلا وحلّة فضلك السابغه، وشرعة نبلك السائغه، ما ريع مذ أتيت سهم داعيك بالطيش، كلاّ ولا راق إذ نأيت بعين مراعيك لذّة العيش. ولم ترق حدائق مبهجة ... ما لم يكن وجهك نور روضها ولا الصبا سارية ما لم يكن ... يروي لنا خلقك نشر غضّها فكيف عن مثلك يا عديمه ... تذوق عين الصب طعم غمضها زنت العلى من هاشم معنى العلى ... ففزت في لبابها ومحضها بوركت من ندب على رغم العدا ... أعلى منار وندبها وفرضها وجدّك الأعلى على سمائها ... والعروة الوثقى لأهل أرضها فلا زال رواق عزّك على قصر نسبك القصير ممدودا، ولا برح ساحل يمّ جودك العذب النمير للناهلين منهلاً مورودا، وإنّي لأسأل من أبدع فطرة ذات مجدك المؤثّل، وزان جيد الفضائل والفواضل بجوهر عقدك المفصّل، ورصّع من مستظرف نهاك فرائد الجمان بكلّ درّة يتيمه، ورصّف من مستطرف غضّ بهاك قلائد العقيان بدرر أشعّة طلعتك الكريمه، أن يعطر بطيب مجالسك الذكيّة، أندية الرصافة، فنتعاطى بها منادمة أخلاقك الزكيّه، عن منادمة السلافه، ولمّا أن هزّني إليك الشوق الملحّ، وأمالني وجداً عليك الهوى المبرح، نظمت ببنان المودّة عقود قلائد هذه الغانيه، فأزففتها تمشي على استحياء إلى جنّة فضلك العاليه. دم الدمع من عين المتيّم مرزم ... لك الله من دامي الحشا يا متيّم شجاك الهوى وجداً فأشجيت نائحاً ... حمامات ذات الأثل إذ تترنّم فما غار منك الصبر إلاّ وأنجدت ... مدامع حمر منك والركب متّهم فيا سائقي أضعان لبنى ترفّقاً ... بقلب مشوق ليس ينفك عنكم

ربيع الثرى ذوا بحرّ حشاشتي ... ونومي مذبنتهم عليَّ محرّم فليس الهوى العذري إلاّ لمغرم ... قضى أسفاً يوم النوى وهو مغرم وما كنتم الواشون سرَّ صبابتي ... وأيّة أسرار من الحبّ تكتم تتيّم قلبي في هواكم وإنّما ... يقطع أفلاذ الفؤاد التتيّم بنفسي ريماً سانحاً بين سربكم ... وبد سما حسن حواليه أنجم مغنّج لحظ ماالسيوف وإن مضت ... بحاسمة مالم تكن عنه تحسم رقيق حواش ما الصبا برقيقة ... إذا نسمت إن لم تكن عنه تنسم مفلّج ثغر ما الأقاحي نظيرة ... إذا لم يزنها ثغره المتبسّم تدبّ على ورد بخدّيه عقرب ... وفوق رقيق الخصر يناسب أرقم فيهمّ لي ما كان بالثغر موضحاً ... ويوضح لي ما كان بالشعر مبهم ترعرع في حجر الدلال وقد نشا ... رقيق صباً يلهو به المتنعّم لهوت ولكن عن هواه بماجد ... إذا عدّد الأشراف فهو المقدّم فتىً فات معناً بالنوال وحاتماً ... بلفظ ومعنى وهو أعلى وأكرم فتىً فاز بالقدح المعلّى من النهى ... وكان له في حلبتيه التقدّم فيانجعة العافي عفى رسم مهجتي ... من الوجد لولا أن خيالك ترسم وربعي يا أنسى بنأيك موحشٌ ... أجل وربيعي من دموعي مرهم فهلاّ تراعي ما مضى من عهودنا ... وتثنّى لنا أيّام كنّا وكنتم ويا بدر ما بدر السماء بمرتق ... إليك ولو أنّ الكواكب سلّم بنعلك دس هام الدراري مباهياً ... فأنت لجيد الفضل عقد منظّم ونهاية المأمول من مولاي، ومالك حوز ولاي، أن يذكر الداعي لدوام عزّه، تحت قبّة ذخره في عظائم الأمور وحرزه، وينوب عنه بالبشرى في لثم يدي علم العلم وكنزه، متّعنا الله ببقاه، وبلغ به من الفضل أعلا مرتقاه، وإبلاغ الفضلاء الكرام أوفر الثناء عنّا وأكمل السلام. وكتب إليه من النجف، مركز دائرة الكمال والظرف، من لا تعقد الخناصر بغير اسمه، ولا تصاب شاكلة الغرض إلاّ بسهام رويته وفهمه، فرع زيتونة الفخار، ولسان فصحاة نزار، الذي هو بكلّ المزايا فريد، جناب السيّد محمّد سعيد الملقّب بحبّوبي النجفي جواباً عن هذا الكتاب: إليك يا أباالهاديى تحيّة شيّق ... تضمّخ فيها شمأل وشمول فآية تسليمي إذا ضاع عنبر ... شذاه وما هبّت صباً وقبول وكلّ أريج ضاع فهو تحيّة ... وكلّ نسيم هبّ فهو رسول أخي والذي طوّقني بفضلك طوق الحمامة، لا ينتزع من جيدها ولا تخشى انفصامه، وملكك دون البريّة صعب عناني، لئن خلا منك ناظري فقد امتلأ منك جناني، وكأنّك لم تبرح نصب عيني، وإن حالت المهامة بينك وبيني، وعندي من الشوق ما تتلجلج ألسنة الأقلام عن ذكره وتقريره، وتبيضّ عيون المحابر في الأرقام عند تحبيره وتحريره، على أنّي لو جاوزت به سماعي، وأفشيت سرّه إلى يراعي، لالتهبت ريقته جمرة تجفّف لسانه، ولتعثر في مناجات القرطاس فلم يعرف بيانه، ولأعيى المحابر أن تبرد برشفاتها أنفاسه، ولم تبق من ريقه رشحة ينقط بها أطراسه، على أنّه أصمّ لا يسمع سرّاً أو نجوى، وليس بذي قلب فيرقّ لبث أو شكوى. ولو أنّني فاوضت ذاالطرس بعضه ... لأحرقه حتّى وهي وبيدا ولم تقو عيسى أن تنوء بحمله ... ولو مسخت أخفافهنَّ حديدا ولو سخرت شمّ الجبال لنقلة ... وحملنه لانهلن منه صعيدا ألا فليطب بالكرخ عيش أحبّتي ... فما ذقت عيشاً بالغريّ رغيدا وأشرب عذب الماء رنقا كأنّما ... سقاني ضيعاً صدّكم وصديدا ومن شقوتي أن يحكم البين بيننا ... ويا شدّ ما أشقى الزمان سعيدا غيره: فلي زفرة وجه النّهار وزفرة ... أسامر فيها الليل دون سميري وما تلك أنفاساً تشبّ وإنّما ... شظايا فؤادي في شواظ زفيري غيره: وخامرت من داء الصبابة نشوة ... أخال لها ما إن مشيت نزيفا وسار وجيباً نحوكم بين أضلعي ... فؤادي إذ لا يستطيع وجيفا وأنكرت كلّ النّاس ألفاً وصاحباً ... وكلّ المغانيى مربعاً ومصيفا

وكلّما متّعت في طيب ذكراك اللسان، قالت العين لاحظ لي في غير العيان، ولقد خالطني برح لم أجد له من براح، وبراني ممضه بري القداح، فبينا أنا أطالع النجود والتهائم، واستنشد عنك البروق والنسائم. إذا بابن موسى جاء من نحو أرضكم ... بما لو أتى عيسى به لتجمّلا رسالة شوق مذ فضضت ختامها ... وجدت بها للدرّ "عقداً مفصّلا" فقبّلت منها أحرفاً وحسبتني ... أُقبّل من كفّيك في الطرس أنملا وشاهدت معناكم بها ولربّما ... بدا المرء في آياته فتمثّلا فقلت أراني لست أهلاً لمثلها ... فقال جواد قد حنا وتفضّلا وإنّي لم أبعث إليه رسالة ... سوى الريح إن هبّت جنوبا وشملألا فتهلّل وجه الأرض لبشري وابتهاجي، على أنّي كدت أن أطير بأجناح السرور عنها فرحا، وقلت لبراق سعدي رويداً فقد تناهي معراجي، فها أنا أختال على أفلاك الأماني مرحا، وكدت قبل أن أفض لها ختما، أن أستأصلها تقبيلاً ولثما، حتّى إذا فضضت ختامها، ورفعت عن لألأ غرّتها لثامها، وجدتها معاجز محمّديّة، ورأيتها فقراً حسنيّة، تفيض بأسرار البلاغة ينابيع بيانها، وتشير إلى المودّة أساريع بنانها، وتأرّجت الأرجاء بطيبها نفحا، وطفق لسان الشكر ينشىء له مدحا، وترنّمت بلابل الوجد صدحاً. طلعت الوكته عليك بأسعد ... وأتتك تحسبها سبيكة عسجد وكأنّ أحرفها على وجناتها ... آس العذار يشقّ خدّي أمرد ولقد أتت والكتب بيض قبلها ... ورديّة تجلو خدود مورد وتبسّمت تفترُّ من كلماتها ... كالخود تبسم عن خمار أسود كاللؤلؤ المنثور وشي حروفها ... لو لم تكن صبغت بماء زبرجد بالشمئل الشمل استقلّ نسيمها ... وأريجها قد ضاع بالندّ الندي حتّى كأنّك قد ك تبت سطورها ... دون اليراع بمندل متوقّد فلثمتها في ناظري لا في فمي ... وحملتها في صبوتي لا في يدي وطفقت أسحب مطرفيَّ تمايلا ... فكأنّنيى خامرت نشوة صرخد فكأنَّ معناها سلافة قرقف ... وكأنّما يسقي السلافة منشدي أمشرّفاً قدري برائق لفظه ... ومطوّقاً جيدي به ومقلّدي هل كيف تختلس المداد مقدّراً ... كفٌّ قد انبجست ببحر مزبّد وتشكّل الكلمات في رشحاتها ... وهي السحابة تشتهلّ لمجتدي يا ساكني الزوراء حسبكم النوى ... فلقد وهى جلدي لكم وتجلّدي أمرضتموني بالبعاد وإنّما ... أقصى شفائي إن أراكم عوّدي ألقيت أقليدي إليكم طائعا ... ولكم تقاعس عن سواكم مقودي كثرت عَلَيّ النائحات صوارخاً ... إن لم أكثّر في هواكم حسّدي موّهت عنك بحاجر وبلعلع ... ولأنت من تلك العبارة مقصدي فليحل بالزوراء عيشك سائغاً ... أنّي أغصُّ بكلّ عيش أرغد وليهنّ أعينك الرقاد فإنَّ لي ... عيناً إذا رقد الملا لم ترقد أن أسلمتك يد الغرام فإنّني ... ملقىً بقبضته أروح وأغتدي أو تنس لي العهد القديم فإنّما ... نسيان عهدي حين أقوى معهدي فلو أنّ لي للكرخ أوبة راجع ... لتخذت مغناه مقدّس مشهدي ثمّ لم تكتف منك بإرسال هذا الكتاب، وتشريفي بما أكبرته من لذيذ ذلك الخطاب، حتّى عقدت لي قصيدة على حيالها، وزففت لي خريدة من منيع حجالها، قد أخرست كلّ متكلّم بليغ، ورقّت لسلاستها كلّ لذيع، لقد واترت أنعامك على غير مستحقّه، ولعمري لأنت يا محمّد الحسن في خلقه وخلقه، فلم أطو على العجز عن شكرها كشحا، ولم أضرب عن التعرّض لحمدها صفحها، فاقتدحت قريحة خبا زنادها، وأجريت رويّة قد كبت في مضامير القريض جيادها. يا ريم حسبك مهجتي مرعى ... لا شيح كاظمة ولا الجرّعا وكفاك عن ورد تلمُّ به ... عين تفيض غروبها دمعا فارحم جوانح قد حللت بها ... دون الحمى وسكنتها ربعا ترمي لحاظك والسهام معاً ... إنّ اللحاظ أشدّها وقعا الله من سهم رميت به ... فأصاب لا غرباً ولا نبعا كانت حواجبك القسىّ له ... وبغمزهنَّ نزعته نزعا ريّشته بالهدب مرتمياً ... فتركت آساد الشرى صرعى يرعاك من لم ترع ذمّته ... ولكمن رعيت لغير من يرعى

كم ليلة أرسلت غيهبها ... لك بردة ونشرتها فرعا فإذا طلعت شمس ضحىً ... وإذا انثيت فبانة الجرعا فبأضلعي وبما تضمُّ رشاً ... كابدت في كبدي له صدعا أرخى الجعود لردفه فغدت ... فوق الكثيب أراقماً تسعى وبعقربي صدغيه وجنته ... شاكت مقبّل وردها لسعا من لي بأغيد راح محترساً ... بالعقرب الحجناء والأفعى أحمامة الوادي عداك جوىً ... لو حلَّ فرعك أحرق الفرعا إنّي اتّخذتك لي منادمة ... ولقد شربت فغرّدي سجعا يا ربع أين الساكنوك فقد ... أضحت خدودك بعدهم سفعا فلقد بكيت لبينهم بدم ... حتّى صبغت ملابسي ردعا لو صحّ للمشتاق مرتجع ... لربوعهم لرأى بها الرجعى وأقام خسماً من فرائضه ... ولطاف حول حماهم سبعا إن يقطعوا فهواي متّصل ... لم يلف منصرماً ولا قطعا إن أهوهم فتطبّعٌ وأرى ... لمحمّد الحسن الهوى طبعا قرم كأنّ السيف في يده ... برق أضاء بمزنة لمعا وعلى المجرّة قد جرت خبباً ... أفراسه فأثّرنها نقعا لو سابقته الشمس ما لحقت ... ولا دركت بسباقه الظلعا ومتوّج بالفخر ترمقه ... شمس النهار إذا الضحى شعّا وتودُّ لو مدّت إليه يداً ... وسعت له لو أنّها تسعى يخشاه حتّى السيف في يده ... فيكاد يقطع حدّه قطعا يا من أبحت له الفؤاد هوىً ... وحجبته عن غيره منعا وإذا نظرت وجدته بصراً ... وإذا وعيت وجدته سمعا ما راجحتك الراسيات حجاً ... يا من يخفّ على الصبا طبعا قسماً بشعث قد حدا بهم ... حادي الحجيج ويمّموا جمعا بمحو شنّات قد قطعن بهم ... شقق الفلا جزعاً يلي جزعا ومعطفات كالقسيّ سرت ... رمي السهام تفلتت نزعاً حتّى أجزن بذي الأراك ضحىً ... وعلى المطاف حبسن والمسعى لقد انقلبت لبينكم بجوىً ... وضنى أضيق لوصفه ذرعا إنّي اتّخذت هواكم حسباً ... أعزى إليه وحبّكم شرعا حسبي من الدنيا هواك وما ... تولّت إن ضّرّاً وإن نفعا وإليك ما وشت إليك يدي ... ماليس تصنع مثله صنعا بأنامل لم تقض حقّكم ... ولو أنّني أعلقتها شمعا وقال جناب السيّد الشريف محمّد سعيد حبّوبي يهنآي جناب الحاج محمّد حسن في زواجه في سنة 1293: لي في محيّاك ما للنّاس في القمر ... هدى لمسراي أو عون علي سهري فامرح ببرديك تيهاً إنَّ بينهما ... روح الجمال بدت في أحسن الصور وما رأيتك إلاّ قلت مبتهجاً ... لولا محاسن هذا لم أرد بصري يا شادناً لم يزل واشيه يرصده ... فما اجتمعت به إلاّ على حذر ادنيته وقد أثاقلت من نفسي ... لما استطار إلى خدّيه بالشرر خشيت أحرق روضاً راق مرتعه ... أرعيته سائمات اللحظ والبصر ونحن في مربع حاك الربيع له ... برود موشية خيطت بلا أبر خال الكثيب به ردفاً فغار له ... وراح يكسوه أبراداً من الزهر فبتُّ أعبث في أعطاف ذي غنج ... مهفهف رقصته نغمة الوتر مفلّج الثغر يسقى من مراشفه ... صهباء ما دنّستها كفُّ معتصر أرخى الغدائر أكليلا فحين بدا ... بدا بلا معجر في زيّ معتجر ما مزّق الليل سيف من أشعّته ... إلاّ وحاك له ثوباً من الشعر يعطو بأتلع لو حلّت قلائده ... لما فقدن لما يبقين من أثر من عقده وثناياه ومنطقه ... وراشح العرق المنهلّ بالدرر رأيت منتظماً يزهو بمنتظم ... وشمت منتثراً يهمي بمنتثر يا حاكماً جائراً في حكمه أبداً ... وأيّ ملك تولّى الحكم لم يجر زدني بحبّك تعذيباً أسرُّ به ... فليس لي غير ما تهواه من وطر قد غرّني خدّك القاني برقّته ... وما علمت بأنّ القلب من حجر أم هل نسيت ليالينا التي سلفت ... عجلى وأبطؤ منها لمحة البصر ولو تطاول ليلي الدهر يجمعكم ... ثمّ انقضى عبت ذاك الليل بالقصر يا جارتا بزرود طال عهدك ... بالمستهام فلم يذكر ولم يزر

بعد ارتفاعي في عينيك صغّرني ... مثل السهى إذ رأته العين ذا صغر سلي بي الخيل تنزوا في شكائمها ... فما جهلت بهذا الحيّ من مضر إنّي تركت طريق المجد واحدة ... كي لا يرى المجد إلاّ مقتفي أثري وطال باعي حتّى كاد يدرك لي ... ما لست أدركه في منتهى بصري بذا نظمت دراري الشهب تهنئة ... لما شهدت زفاف الشمس للقمر محمّد الحسن الزاكي الذي شهدت ... بفضله فصحاء البدو والحضر المطعم الجزر ابن المطعم الجزر ابن ... المطعم الجزر ابن المطعم الجزر مؤيّد تهتك الأستار فكرته ... حتّى يحيط بكنه الكلّ بالفكر وربّ علم جليل راغ عن ملك ... يغدو بجملته وقفاً على بشر نداه والغيث غيث عمّ سيبما ... والمنبت الحمد غير المنبت الشجر سرٌّ بكفّك لم يغرق مقبّلها ... وقد تلقى بفيه ديمة المطر فيا أخيَّ ومن أدعو سواك أخاً ... وهذه دعوة يسمو بها قدري قالت لحلمك رضوى حين راجحها ... ما طبع ربّك إلاّ نسمة السحر يا مجهداً يتمنّى أن يجيء له ... بمشبه في طوامير من السير خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به ... ففي العيان وثوق ليس في الخبر يا راكباً ذات لوث في مناسمها ... رقىً تقيها سمام الأين والضجر حرف أبوها ظلم في مناسبه ... وأُمّها الحرف للمهرية الصعر فخلقها برزخ مابين ذاك وذي ... مثل الظليم ولكن ذاك لم يطر وأعجب لها ذات أخفاف وأجنحة ... حصاء من ريشها ترتاش بالوبر يمّم بها حيث حلَّ المصطفى بلداً ... بزري حصاه بحسن الأنجم الزهر وحيّه مبلغاً علياه تهنئةً ... تضمّخت من شذاه بالشذا العطر بفرحة صدحت تشدوا بلابلها ... كسحب كفّيك عمّت سائر البشر أباالغني أما في راحتيك غنىً ... عن السحاب فلم يهمي بمنهمر والشمس تطلع أحياناً وقد علمت ... بأنّ وجهك بدر غير مستتر وهبهما حكياً بعضاً فمن لهما ... أن يجمعا شبه الأحوال والصور يا حائزي قصب العليا بسبقهما ... بلغتما منتهى العليا على قدر وما ونى واحد عن واحد فهما ... كالفرقدين خلال الأنجم الزهر لا تأملا صدري عن ورد ودّكما ... في المورد العذب ما يلهي عن الصدر بقيتما ملجأ العافي ومأمنه ... ما هيّجت مستهاماً نسمة السحر وقال نابغة زمانه ذوالفضل الواضح الشيخ صالح الملقّب بالحريري مهنّياً له بزواجه وبالعيد ومهنّياً أخاه المصطفى به: وافتك تختال بثوب الدلال ... منجزة وعدك بعد المطال زارتك والليل دجا يقظةً ... وكنت منها تكتفي بالخيال ناعسة الأجفان لكنّها ... إذا رنت ترمي الحشا بالنبال تطعن قلب الصب في قامة ... تشرع كالرمح بيوم القتال إن هجرتني العمر أو واصلت ... فإنّني راض على كلّ حال وأنكرت وجدي فكم لي بها ... عقيق دمع فوق خدَّي سال لست أطيق الهجر إن لم أكن ... أُعلّل النّفس بيوم الوصال ياما أحيلي ليلة أشرقت ... بطلعة تخجل بدر الكمال يا لائمي دعني فقد عمّني ... نور محيّاً فيه أبصرت خال الكأس فيما بيننا كوكب ... والراح شمس والمدير الهلال وكم سقتني ليلة الوصل من ... رضا بها المعسول خمراً حلال تجود في قهوتها مثلما ... تجود كفّ المجتبى بالنوال الحسن الأخلاق من فضله ... أنسى الورى فضل السحاب الثقال قل للذي رام إذا ما سعى ... يدنو إلى علياك رمت المحال أقصر ولو أصبحت ذا رفعة ... ما أبعد الجوزاء من أن تنال فأنت رأس الفخر صدر العلى ... وأنت قلب المجد روح الكمال فديتك النفس أخا المصطفى ... وما حوت يمناي عزّاً ومال أتحفك الدهر بإقباله ... تحفة بشرى لكم لا تزال قد زارك العيد به فاحتفل ... زورة ظبي غنج ذي دلال فيك نهنّي العيد يابن الأولى ... سموا سماء المجد دون الرجال وكنت أنت المقتفي نهج من ... قد كانت الدنيا عليه عيال صالح هذا الدهر من كان في ... راحته الراحة يوم النوال

ما أصلح الدهر سوى صالح ... بالبذل والحلم وصدق المقال فمن سواه قد بنى كعبةً ... كانت هي المأوى لنا والمئال ماانفكّ عنها الدهر قصّادها ... لها مدى العمر تشدّ الرحال فإنّ في ساحتها المجتبى ... يبدؤ بالإعطاء قبل السؤال فدم مدى الأيّام والمصطفى ... أخوك في نعماء من ذي الجلال لا يحسن التاريخ إلاّ له ... قارن بدر السعد شمس الجمال وممّا قاله السيّد الشريف الذي أبدع في اختراع بدائعه الرائقة، وبرع في ابتداع إختراعه الفائقة، السيّد محمّد سعيد حبّوبي النجفي دام مشمولاً باللطف الجلي والخفي، مادحاً توأمي المجد الأشم، وعمادي السؤدد الأقدم، الأفخمين الأعظمين الحاج مصطفى والحاج محمّد حسن دام علاهما مدى الأيّام، ما سجعت على الأراكة ورق الحمام: منح الصبابة أضلعاً وفؤادا ... وعصته سلوة مقصر فتمادى وطغى عليه الحب وهو أميره ... فأطاع جامح قلبه وانقادا ولهان يفرح إن دنا أهل الحمى ... منه ويحزن إن نأوه بعادا بعثوا الخيال وما رقدت فليتهم ... بعثوا إليّ مع الخيال رقادا أحيي الدجى قلقاً كأنّ نواظري ... خلقت محاجرها قذىً وسهادا قلق الوساد كأنَّ من أهواه قد ... أهدى وشاحيه إليّ وسادا قطف العيون ارورد من وجناته ... غرس المضاجع للمحبّ قتادا يا غارساً بالجزع روضة حسنه ... ومخيف رائدها ظباً وصعادا كنيت عنك بمن سواك مورياً ... بهوى سعاد وما هويت سعادا أعرضت عنّي وادّعيت مودّتي ... أرأيت أعراضاً يكون ودادا إن لم تساعف بالوصال فربّما ... عوّدت قلبي للجفا فاعتادا ولقد أزورك بالمنى وخداعها ... وأجوب في فكري إليك وهادا أبق فؤادي جمرة لا تطفه ... فالنّار إن خدمت تعود رمادا إنّي تعبّدني الهوى لمغنّج ... دان الجمال لعزّه وانقادا كبر الوقور إذا مشى يعتاده ... حتّى إذا غلب الدلال تهادى فكأنَّ في برديه ملكا ظافراً ... جذلان أبدى زهوه وأعادا قاس رقيق نال من زهر الربى ... خدّاً ومن زبر الحديد فؤادا فإذا هززت هززت منه أراكة ... وإذا سئلت سئلت منه جمادا لا يستجيب ولا ينيب ولا يثيب ... ولا يقيل ولا ينيل مرادا ينأى فلا بعد الدنوّ فإن دنا ... يوماً نوى لك فرقة وبعادا وتريبه عيني تخالس لحظه ... وضنىً طلى جسدي عليه جسادا إنّي لأستر عفّتي بخلاعتي ... وأريد فيما أنتحيه مرادا والضد قد يبدو بمظهر ضدّه ... أوما ترى نور العيون سوادا بذمام ذيّاك الغزال حشاشة ... أسرت ولم تقبل فدىً فتفادى أخذ الحشاشة ثمّ ضنَّ بردّها ... وأبى البخيل بأن يكون جوادا لله يوم وداعه من عصبة ... وقفت وقد سرت الجمال وخادا وقفت بهم أقدامهم أن يقتفوا ... أثر النياق فأركضوا الأكبادا فوق الركائب أنجم لا تجتلي ... ورياض حسن تمنع الروّادا عرب معاطف غيدهم ورماحهم ... سيّان كلّ ينثني ميّادا سلوا لواحظهم فكنَّ صوارماً ... وغدت ذوائبهم لهنّ نجادا فتخال كلاًّ في المحاسن يوسفاً ... وتخال من مصر له بغداد يا ربع لذّاتي ومربع جيرتي ... روى معاهدك الغمام وجادا لا أبتغي للوصل فيك نهاية ... أبداً ولا للعيش فيك نفادا لا والذي سمك السموات العلى ... وأقامهنَّ وما أقام عمادا ودحا البسيط صحارياً وصحاصحاً ... وسباسباً وفدافداً ووهادا لا أرتضي غير الأكارم معشراً ... يوماً ولا غير العراق بلادا كلاّ ولا أنشي لغير المصطفى ... وأخيه قافية تروق نشادا الباذلين لكّ ثاو بلغة ... والمتبعين لكلّ ركب زادا والسابقين بكلّ حلبة مفخر ... والجائزين من العلى الآماد سلكا من العلياء نهج أبيهما ... إنّ الشبول لتقتفي الآسادا علمي هدىً قمري دجىً مطري جدى ... إن أرشدا أو أشرقا أو جادا وتجاريا فتباريا وتساويا ... في كلّ ما قد أبديا وأعادا

الكلُّ يأبى ما أباه شقيقه ... خلق الكرام وما أراد أرادا كالناظرين على الزمان تراهما ... يتشاركان معاً كرىً وسهادا لم تغتمض عين إذا ما أختها ... أرقت ولا هي تستطيع رقادا فهما يد العلياء ساعة بطشها ... أو ناظراها المبصران رشادا من معشر ضربوا رواق بيوتهم ... فوق السماك وغادروه مهادا وإذا الفخار غدا هنالك حلبة ... ركبوا مساعيهم فكنّ جيادا ومن العزائم ينتضون صوارماً ... ومن الحفائظ يشرعون صعادا مادت لبشرهم البسيطة بهجة ... فرست حلومهم بها أطوادا ءأباالغني وتلك أسمى كنية ... تدعى بها بين الورى وتنادى شكرت مساعيك البلاد وأهلها ... وإليك قد ألقى الزمان قيادا طأ فوق متن الفرقدين بأخمص ... وأسحب على فرقيهما الأبرادا إن أعرقت عيس إليك أرحتها ... وكفيتها الإتهام والإنجادا وإلى أبي الهادي انتهت جمل الثنا ... وأحاط فيها طارفا وتلادا المخرس البلغاء والمعيبهم ... حججاً تسلُّ على الخصوم حداد يتهلّل النادي ببهجة بشره ... كالروض راوحه الغمام وغادى يبدو بمنبلج الجبين تخاله ... شمس الضحى والكوكب الوقّادا تسمو لطعلته العيون تشوّقاً ... لترود أحسن منظر مرتادا يتباشرون إذا رأوه كأنّه ... برق وراء المحل زفَّ عهادا شرف القبائل في مواقف فخرها ... إن طوّقت بهباته الأجيادا أخويَّ إن ضاقت بوصف علاكما ... سعة القريض وما بلغت مرادا فلي القوافي الشاردات كأنّها ... حصّ الجمان يقلّد الأجيادا من كلّ معربة المتون تناسقت ... مثنى فرائد درّها وفرادا لولاكم ما كنت أنظم عقدها ... يوماً ولا أعطيتها الإنشادا أخويَّ فلتشرق شموص علاكما ... بسما المكارم تصحب الآبادا وكتب أيضاً علم العلم والأدب، نادرة الدهر وفريد العصر السيّد محمّد سعيد حبّوبي النجفي إليه من النجف هذه الموشّحة البديعة يهنّيه بها في زواج ولد أخيه عبد الغني ويهنّي أباه الحاج مصطفى وقد قدّم قبلها هذه الأبيات والفقرات: عليك سلام الله ما غرّدت ورق ... وما هلّ وسميٌّ وما أومض البرق وما نظرت بالروض مقلة نرجس ... جرى من ضروع المزن مدمعها الودق وما حنَّ مشتاق إلى ما يشوقه ... ومادام للقلب العلوق بكم خفق وما غربت شمس النهار وأشرقت ... ومادام من أوطانها الغرب والشرق أحبّك حبّاً لست أدري خواطر ... من الخبل تعروني لذلك أم عشق فأخرس عن نطقي وتجري محاجري ... بسرّي وكاد القلب إذ ذاك ينشق فربّ لسان كالعيون له بكاً ... وربّ عيون كاللسان لها نطق هذا وقد وجّهت إليّ وجهتكم هذه الموشحة التي هي لتهنية المجد بكم مرشّحه، فإن شملت منكم بالقبول، فإنّ ذلك غاية المأمول. هزّت الزوراء أعطاف الصفا ... وصفت لي رغدة العيش الهني فارع من عهدك ما قد سلفا ... وأعد يا فتنة المفتتن عارض الشمس جبيناً وجبين ... لنرى أيّكما أسنى سنا واسب في عطفك عطف الياسمين ... وانثنى غصناً إذا الغصن انثنى حبّذا لو قلبك القاسي يلين ... إنّما قدّك كان الألينا فانعطف غسناً إذا ماانعطفا ... قدّك المهزوز هزَّ الغصن إنّ في خدّيك روضا شغفا ... مقلة الرائي وكفّ المجتني يا غزال الكرخ وا وجدي عليك ... كاد سرّي فيك أن ينهتكا هذه الصهباء والكاس لديك ... وغرامي في هواك احتنكا فاسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا أترع الأقداح راحاً قرقفا ... واسقني واشرب او اشرب واسقني ولماك العذب أحى مرشفا ... من دم الكرم وماء المزن من طلاً فيها النديّ ابتسما ... إذ سرت تارج في نشر العبير أطلعت شمس سماها أنجما ... من حباب ولها البدر مدير فالسما أرض أو الأرض السما ... إذ غدت تلك كهذي تستنير في ربوع ألبستها مطرفا ... أنمل الزهر من الوشي السني وحمام البشر فيها هتفا ... معرباً في لحنه لم يلحن

وحميا الكاس لمّا صفقت ... أخذت تجلى عروساً بيديه خلتها في ثغره قد عتقت ... زمناً واعتصرت من وجنتيه من بروق بالثنايا ائتلقت ... في عقيق الجزع أعني شفتيه كشفت ستر الدجى فانكشفا ... وانجلى الأفق بصبح بين اكسبتنا إذ سقتنا نطفا ... خفة الطبع وثقل الألسن سلها حمراء من إبريقه ... بسنا تحسبها نار الفريق وغدا يمزجها من ريقه ... حبّذا مزج رحيق برحيق رقصت بالدن من تصفيقه ... حبباً كالدر في ذوب العقيق رسب الياقوت فيها وطفا ... فوقه لؤلؤه الرطب السني ما رآها البرق إلاّ انشغفا ... بسناها شغف المفتتن أنت يا روحى المنى روحي فداك ... مسقمي حبّاً ومبري سقمي أتشكّى لك من سيف جفاك ... لا تبح يا مانع الريق دمي قد شبت الخمر لكن كلماك ... ما رأت عيني ولا ذاق فمي لو به ابتلَّ غليلي لانطفى ... لا بدمع حرّه أشعلني كلّما كفكفت منه وكفا ... فوق خديَّ وكيف المزن أصبحت روحي في مثل الخلال ... إذ تلاشى الجسم في علّته وأنا أصبحت عن شخصي مثال ... بارزاً للناس في صورته من رآني خالني طيف الخبال ... واعتراه الشك في يقظته لا تسلني عن نحولي فجفا ... ناحل الأجفان قد أنحلني من لذي جسم عليل نحفا ... بالهوى ليت الهوى لم يكن من رشاً لمّا تبدّى رابعا ... أشرق افترَّ تثنّي نفرا قمرا ثمّاً وبرقاً لامعاً ... وقنا لدناً وظبياً أعفرا إن بدا أبدى الربيع اليانعا ... وعن الزهر المندى أسفرا خدّه والصدغ فيه اكتنفا ... وردة محفوفة في سوسن أو شقيق فوق الآس ضفا ... أو كميٌّ متّق في جوشن أو هو الديباج زرته الحسان ... في قميص من حرير أخضر أو هو الياقوت في عقد الجمان ... ناطه الزنجيى فوق المنحر أو هو الجمر ذكا بين الدخان ... أو هو الكافور تحت العنبر أو هو الدينار حين انصرفا ... في يمين الحبشي الأدكن أو هو المرّيخ شقّ السدفا ... وترائي في الظلام المردن قرطوه بالثريا والأثير ... ولووا في جيده طوق الهلال وكسوه دون موشي الحرير ... قمص العزّ وأبراد الدلال وجلوه جلوة البدر المنير ... قمراً يشرق في برج الجمال كسروي الشكل رومي القفا ... يوسفي الحسن صلت المرسن قلبه ينحت من صمّ الصفا ... وجنى وجنته الورد الجني أنا آساد الشرى دون الشرى ... نتّقيني فلماذا أتّقيه من مريض الجفن كم قد شهرا ... صارماً فيه حمى رشفة فيه ودمي طلَّ لديه هدرا ... أراه إن ودى القتل يديه ماله ساق لجسمي التلفا ... وهو في شرع الهوى لم يضمن لا تقل يحكم فينا جنفا ... إنّه أدرى بهذي السنن وافر الأرداف أبدت نقصه ... بدقيق الخصر إذ رجّت لديه ما تأمّلت بعيني شخصه ... غيرة من نظر العين عليه ولو اسطاعت لكانت قمصه ... أعين ما نظرت إلاّ إليه إنّها منذ تولّى وجفا ... هجرت حتّى لذيذ الوسن أنا أهوى أن يراها مألفا ... لتقيه أعيني من أعيني ملك بالحسن أصحى معجبا ... وهو لا يحكم إلاّ في القلوب إن جنى ذنباً تجنّى مغضبا ... وله من ذنبه نحن نتوب من رأى قبلك يا غضّ الصبا ... مذنباً يجزي بريئاً بالذنوب قلت إذ مرّ بقدّ أهيفا ... ومن الدهشة ما يخرسني أيّها الساكن قلبي مألفا ... كيف ترضى بحريق المسكن فاحد بالركب إذا الركب حدا ... فيه يوماً وأقم ما إن أقام يمن نجداً إذا ما أنجدا ... وإذا اتهم فالمسرى تهام وهو إن يشهد فامّ المشهدا ... وسلام لك من دارالسلام إن ثوى جسمي فحلَّ النجفا ... ففؤادي عنده لم يظعن أين من حلوا بجمع والصفا ... من مقيم بالغريّ الأيمن أيّها العّذال كفّوا عذلكم ... بالهوى العذري عذريى اتّضحا وامنحوا يا أهل نجد وصلكم ... مستهاماً يتشكّى البرحا

واذكروني مثل ذكري لكم ... ربّ ذكري قربت من نزحا الوفا يا عرب يا أهل الوفا ... لا تخونوا عهد من لم يخن لا تقولوا صدَّ عنّا وجفا ... عندكم روحي وعندي بدني أنا ما حوّلت عنكم شغفي ... لا ولا من سكرتي فيكم صحوت عنكم لم أسل في شيء وفي ... قربكم عن كلّ شيء قد سلوت ليس في الدّنيا صفيٌّ أو وفي ... أنا قد جرّبت جيلي وبلوت فلكم جبت إليكم نفنفا ... طالباً أوطانكم من وطني فحفت عيسى ومن بعد الحفا ... لم تجد في الربع غير الدمن يا معيسيل اللمى خذ بيدي ... أنا في حبّك مشبوب غريق بتُّ أستشفي بدمعي كبدي ... كيف يستشفي حريق بحريق فخذوا دمعي وردّوا كمدي ... ليس لي فيكم رفيق أو فريق أسفاً من أهل نجد أسفا ... كيف أهواهم وهم من زمني وإذا نبت البطاح اختلفا ... غلب الشوك على الورد الجني لا تخل ويك ومن يسمع يخل ... إنّني بالراح مشغوف الفؤاد أو بمهضوم الحشا ساهي المقل ... أخجلت قامته سمر الصعاد أو بربّات خدور وكلل ... يتفننَّ بقرب وبعاد إنّ لي من شرفي برداً ضفا ... هو من دون الهوى مرتهني غير أنّي رمت نهج الظرفا ... عفّة النفس وفسق الألسن لست بالغيد مشوقاً مغرماً ... لا ولا أستسقينهنّ الأكؤسا أو تصببني الغواني بعدما ... حاك لي مبيض فودي برنسا فابغ من حزمك طرفاً ملجما ... إذ غدت خيل التصابي شمّسا والهُ واسلُ ويك عمّن سلفا ... عهده حتّى كأن لم يكن إن يخنك الصبر فالأنس وفا ... يوم تزويج الفتى عبد الغني سعد بالسعد انجلى قطر العراق ... مالئاً بالبشر أقطار الملا وحميا الأُنس تجلوها الرفاق ... وبها مجلس الأنس كملا فاسقني سقيت بالكاس الدهاق ... إنّنا اليوم بلغنا الأملا فاتلُ من غرّ القوافي صحفا ... ما يعيها القلب قبل الأذان حاليات بتهاني المصطفى ... وأخي الحمد أخيه الحسن عارضا عاف وروضا رائد ... نبتا من قبل نبت العارضين أملا راج وغيضا حاسد ... من رأى الغيضين كانا أملين ما تعدّا واحد عن واحد ... باقتران كاقتران الفرقدين جريا مجراهما ماختلفا ... مستقلّين معاً في سنن لا يزل شملها مؤتلفا ... أبد الدهر وعمر الزمن قل لشاني المصطفى كنت الفدا ... للذي ترهب من أنصله ملك ما إن تجلّى أو بدا ... سجد الدهر على أرجله وإذا غاضت ينابيع الندى ... أخذت تمتاح من أنمله والحيا من راحتيه اغترفا ... فسقى الأرض بغيث هتن تحسب التبر لديهخزفاً ... باذلاً ما يقتنيه المقتني يتبع الهمّة ماضي عزمه ... فيرى الأبعد أدنى ما ينال وتراه هيّناً في سلمه ... وإذا ناضل يصمي بالنضال لا تهال الحرب إلاّ باسمه ... وهو من حرب الضواري لا يهال يسم الصعب إذا ما أرجفا ... سمة الذلّ إلى أن ينثني لو بشمّ الراسيات اعتكفا ... واختفى خائفه لم يأمن وأخوه القرم وقّاد الذكا ... كان أن يهتك أستار الغيوب كلّما صوّب فكراً أدركا ... خالص الرأي من الرأي المشوب قد براه الله ملكاً ملكا ... طيّب الأعراق تهواه القلوب جاء في الحلم يضاهي الأحنفا ... وحجاً رضوى به لم توزن وذكاء وتقى ما عرفا ... لأياس وأويس القرني ترجمت خلقك لي ريح الصبا ... مذ سرى طبعك في أنفاسها فسرت تفضح أزهار الربي ... بشذاً فاق الشذا من آسها كاد لولا شانه أن يشبا ... طبعك المصبي الطلا في كاسها بمراس لك لولان الصفا ... ملمساً ملمسه لم يلن وشبا عزم يفلُّ المرهفا ... ويقود الصعب قود المذعن أنتما من أُسرة المجد الأثيل ... ما تخطّى بعضهم عن بعضهم ورثوا المجد قبلاً عن قبيل ... وتعاطوه تعاطي فرضهم وإذا ما أجدب الربع المحيل ... أخصبت جوداً مغانيى أرضهم هذه العلياء لا ما زخرفا ... من أسانيد دنيّ لدني

فصل في نبذ من فرائد نظمه

شرفا آل المعالي شرفا ... فبكم أشرق وجه الزمن كانت الدنيا جماداً يبسا ... فسقوها وهم أندى المزن بيد قد عمّ حين انبجسا ... سيبها أهل الصحاري والمدن وأبي لولاكم لاندرسا ... مربع العلياء لا بل لم يكن وغدا المعروف قاعاً صفصفا ... ليس في مغناه غير الدمن أنتم جدّدتموه مذ عفا ... وأبنتم منه مالم يبن أنتم الناس بلى ثمّ بلى ... والأيادي البيض أقوى حجج أنتم الناس فخاراً وعلا ... وسواكم من سوام الهمج عطل الأجياد من كلّ حلى ... لم يسيروا للعلى في منهج حاولوا العزّ فنالوا الصلفا ... وتولّوا باشتباه بيّن سيّر الرائي إذا ما انكشفا ... ذلك السرّ انكشاف العلن فرس العلياء ماانفكّت جموح ... لم ترض ظهراً لمن يركبها كم رأت من جسد مافيه روح ... فرمته ما درى مذهبها لا تغرّنّك أجساد تلوح ... نضرة فيها فذا مطلبها ليس هذا الضرب إلاّ خزفا ... أي ومن في فضله سدّدني سل عن العسجد منّي صيرفا ... إنّني أدرى بما في معدني لا تؤمّل من لئيم كرما ... ليس للطرفا دخان طيّب وإذا استجديت يوماً ديّما ... فاختبر أيّ الغمام الصيّب دع أُناساً قد تصدّوا برما ... وهم في جبّ جهل غيّبوا قد تودُّ الأرض أن تنخسفا ... وهم في ظهرها كالبدن لم تجد في مائهم قطّ صفا ... لا ولا في الكأس غير الدرن أنتم القوم الذين اتّسعا ... في معاليهم مجال الشعرا حاولوا حصراً لها فامتنعا ... وأبت شهب السما أن تحصرا شرفاً فضلاً كمالاً ورعاً ... كرماً عزّاً علاً مفتخرا سلّم الفضل لكم لو أنصفا ... مستبدٌّ بلجاج بيّن ذاك لو أصغى لشعري انكسفا ... وتلوّى كتلوّي المحجن يا أباالهادي وما أملحها ... كنيةً تحلو مذاقاً بفمي هاكها غرّاء قد وشّحها ... لؤلؤ لولاك لم ينتظم أملت منك بأن تمنحها ... بقبول يا جميل الشيم لم أقل ما قلت إلاّ شغفا ... بك يا حلية جيد الزمن ليس قصدي وقصيدي اختلفا ... أنا من وافق سرّي علني فصل في نبذ من فرائد نظمه وقد تقدّمت منه نبذة يسيرة في مقدّمة التاب، فمنه قوله: شجاك هوى الملاح فذبت وجدا ... ونادمت السهى أرقاً وسهدا وأشجيت الحمائم في مناح ... يهدُّ حشاك والأطواد هدّا وراعك يوم ذات الأثل ظعن ... ألحَّ عليك بالزّفرات وخدا فصوح من زفيرك كلّ زهر ... وعاد بدمعك الزهر المندّى فدع نجداً وسكّاناً بنجد ... أليس الكرخ قد أنساك نجدا بأغيد أبهر النسمات لطفاً ... وراع شقايق النعمان خدّا وأخجل سرب آرام المصلّى ... لحاظاً والغصون الميد قدّا أرقّ من النّسيم الغضّ طبعاً ... له قلب من الجلمود قدّا كليلات لواحظه ولكن ... نبا لمضائها الهنديّ حدّا فيا لله من لحظات ريم ... لعوب بالفؤاد تروع أسدا فلا والله لا أنسى لألفي ... غداة معالم العلمين عهدا ولا والله لا أنسى سلاماً ... أبيت له سوى العبرات ردّا ومنه قوله: رعى الله ربعاً جاده مرزم الحيا ... ترامت به أيدي المطي الرواسم مشين سراعاً يستبقن إلى حمى ... به ولعي من قبل شدّ التمائم فياسائقاً ظعن الخليط تحيّة ... إلى سكن عن مغرم فيه هائم يبيت بلبّ طائش ونواظر ... تنقّب شجواً بالدموع السواجم ومنه قوله: رقص المدمع من غناء الحمام ... لليال مضت بدار السلام في مغان كجنّة الخلد فيها ... ضحك الروض من بكاء الغمام فاسقياني وغنّيا باسم ألفي ... فعسى باسمه ترقّ مدامي لست أنساه مائساً يتثنّى ... بالرديني من رشيق القوام إنّ ليلي من وجهه في انبلاج ... ونهاري من شعره في ظلام إن يكن يوسف الجمال فإنّي ... أنا يعقوب لوعة وهيام أنا نشوان للقيامة سكراً ... بمعانيه لا بكأس وجام أنا لم أدر إن تذكّرت ألفي ... أحياتي بذكره أم حمامي

رشق القلب يا خليلي عمداً ... بسهام اللحاظ لا بالسهام فعيوني من هجره في انهمال ... وفؤآدي من حبّه في اضطرام خدّه أخجل الورود وأزرى ... لحظه البابليُّ بالآرام وله زيد علاه: أنا أشجيت يا منى حوبائي ... بمناحي حمامة الجرعاء وففضحت البروق عند زفيري ... وبدمعي مدامع الأنواء صوّح الروض من زفيري لو لم ... يجر من مقلتي بفيض الماء ولقد زوَّر الخيال لعيني ... طيف ظبي بالكرخ والزوراء يا منائي أين الليالي اللواتي ... بك راقت وهل سواك منائي أنا راض ولو بطعن فؤادي ... منك دلاًّ بالقامة الهيفاء أنا لا أختشي سوى فتك سيف ... غمده جفن عينك النجلاء لا تسلني يا ريم عن داء قلبي ... إنّ من نجلك المريضات دائي عمرك الله حيّني بسلام ... واحي قلبي بالريقة اللعساء وله دام مجده: قدَّك يا ريم الحمى بانه ... فتنثني أم ساق ريحانه فامرح بإبراد الصبا لاهياً ... ودع معناك واشجانه صرعنني أجفانه بالحمى ... لمّا سبت باللحظ غزلانه وراك عن لومي يا لائمي ... لا يملك المشتاق سلوانه هل كيف نيران الحشا تنطفي ... وحبّه أسعر نيرانه أم كيف أصحو من خمار الهوى ... وقامة المحبوب نشوانه فتنت حبّاً يالقومي به ... وعينه النجلاء فتّانه ومن قوله: أرقت ولي بين الخيام مغنّج ... يخامره من ناظريه مدام رماني بألحاظ فأصمى بها الحشا ... وما ذاك إلاّ أنّهنّ سهام فبلّغه إن هزّتك من أريحيّة ... شمول قفاها نشوة وغرام سلام مشوق كلّما رقّق الصبا ... حواشيه أو ما راق منه سلام وقال أيضاً أيّده الله تعالى: وليلة جلببتها برد أنوار ... نضّارة الأُفق عن هالات أقمار بيضاء قد باهلت خضرائها فارت ... حمراء دجلة فيها جدَّ أسفار قد زخرفت جبهات الأُفق فانتظمت ... بها الكواكب من راس ومن سار ولوح ابن علاّط في مجرّتها ... كأنّه زورق يجري بأنهار كأنَّ ما نظمته نثر منتظم ... وأنَّ ما نثرته نظم أنثار فذي بدجلة ما قد أبدعته وها ... أبراجها مثلاً بالصفو والجاري ياليلةً صفو عيشي في هواك صفا ... لا شاب صفوك توديع بأكدار يروقني منك للطاووس أجنحة ... ترفُّ لكنّما ارتاشت بأزهار سهرتها والأماني الغرّ تحدق بي ... وبتها ونجوم الليل سمّاري بساحة لثمت خدّي شقايقها ... فوردته نسيمات من الساري فرشنها سوسناً أيدي الربيع فإن ... فوفن بالورد وشاها بنوّار أذكى الشقايق فيها مثل ماالتهبت ... في وفرة الليل إقباس من النّار أحال ريّا خاماها يداً حملت ... مجامراً أوقدتها المندل الداري باهى بها الأُفق حتّى لو أعدَّ له ... أسحاره ثمّ لاقاها بأبكار لم أقض من صفوها لا والهوىوطري ... وكم قضيت من العلياء أوطاري وكم سكرنا ولم نشرب بكاس طلا ... وكم طربنا ولم نضرب بأوتار إذ راح فيها حمام الأيك يسمعني ... نقر المزاهر أو تنغيم مزمار وروح القلب فيها نشر سارية ... من النسيم استشالت ذيل أسحار فضوّعت بشذاها أفق ساحتنا ... كما تضوع بنشر الحمد أطماري وبات سيّار ركب القلب يذكر لي ... في مهمه الحب إدلاجاً لأكوار فيا رشا بضميري طاب مرتعه ... لم يجد في كتم سرّ الحبّ أضماري هتكت أستار ليل الهجر مبتسما ... بطلعة هتكت في الوصل أستاري فإن أطقت زماناً كتم عالجتي ... على هواك فقد نمّت بأسراري أثرن نقع هيامي خيل عاذلتي ... على هواه فلم يقفين آثاري مهفهف القدّ قاني الخدّ ذو هيف ... حلو المعاطف مجدول بزنّار لم أدر ما شعّ في خدّيه من قبس ... أمن لظى القلب أم من جذوه النّار وما هداني من وضّاح مبسمه ... أكاس صهباءَ أم مقباس أنوار فاسكر الصبّ وهناً من محاجره ... مالم يعتقه في حانوت خمّار بدرت اشتار شهداً من مراشفه ... ولم أكن قبل ذا يوماً بمشتار

لا تأخذي بارتيابي في هواه فقد ... زرت على عفّة ياميُّ أزراري ومنه قوله: نور الأفاحي ثغره ... منهما بدا منه ابتسام والأقحوان شيق خدّ ... يه وربقته المدام والبان مائس قدّه ... وجفونه الوسنى سهام والليل فاحم جعده ... فأظلّنا منه الظلام والصبح وجنة خدّه ... فعلى محيّاه السلام ومنه قوله: كم ليلة من ليالي الشوق مقمرة ... هبّت بها نسمات الشوق والشغف سهرتها محصباً منها كواكبها ... مراعياً بدرها من شدّة الدنف فمذ أبت مقلتي إلاّ انسكاب دم ... وأشرفت كبدي الحرّا على التلف قال النديم على م الوجد قلت له ... نعم تذكّرت من قد حلَّ بالنّجف فقطّت قلبي الذكرى وبرح بي ... شوق ملح وتوق أوهنا اكتفي وله حرسه الله: مالي ومالك يا أغن ... فالقلب عندك مرتهن أنت الذي إن زرتني ... أذهبت عن قلبي الحزن وإذا هجرت متيّماً ... غادرته غرض المحن بجفاك واصلني الجوى ... حتّى جفا جفني الوسن فأملك عليَّ حشاشتي ... يا مالكي من غير من قد كنت تمنحني المنا ... وتزور سرّاً أو علن فشحذت لي حدّ الظبا ... وقلبت لي ظهر المجن يا راكب الحرف التي ... تجتاب سهلاً عن حزن هلاّ مررت بربعهم ... وحبست في تلك الدمن ونشدت ثمّة مهجة ... عبثت بها كفّ الزمن ينزو فؤادي كلّما ... برق من الزوراء عن فيها بديع محاسن ... ملك الفؤاد بلا ثمن يامن بنقض عهوده ... في الودّ نقض العهد سن إنّي لذكرك حافظ ... حفظ الفرائض والسنن وله دام فضله: وشادن في المحجّه ... أعلى من الشمس حجّه ما رقَّ غصن صباه ... إلاّ وزادك بهجه غدا لعيني نورا ... وللحشاشة مهجه يسبي العيون بغنج ... أفدي بروحي غنجه أنار وهو هلال ... قد أصبح القلب برجه فالشمس تقفو سناه ... والبدر ينهج نهجه أورى بقلبي ناراً ... وغادر العين لجّه يا أغيداً كلّ واد ... للدلّ جاوز فجّه قم عاطني الجام صرفاً ... أو فاجعل الريق مزجه على أزاهر روض ... قد دبّج الورد مرجه كفّ الحيا طرزنه ... وأحسن النور نسجه وقال أيّده الله: راق النسيم وطبع من أهوى ... وسلاف فيه جنّه المأوى وصفت معاهدنا فلا عدمت ... نفسي لييلات الهوى صفوا وأغرّ إذ راقت مراشفه ... لم أدر إلاّ المنّ والسلوى وكأنّما قبسٌ بوجنته ... وعلى لظاه أضالعي تطوى ما ألهف الحرّان عن برد ... يرنو إليه ومنه لا يروى إن تلو من عزمي أعنّته ... فلغير من أهواه لا تلوى أو يقو عن حلو اللما جلدي ... فعلى مرير الصدّ لا يقوى يا غصن ما أحلى شمائله ... وآهاً إليه يجود في رضوى قد أوهنت كشحيه مجهدة ... أردافه فحذار أن تهوى ياطيب ليلتنا وقد عبثت ... أبدي النسائم في ربى حزوى حيث النديم بها أخو غنج ... حلو المراشف أشنب أحوى بسواد طرّته النهار دجا ... وبصبح غرّته الدجى أضوى لست الملوم وقد بدا شغفي ... متضاعفاً فبثثت بالشكوى فلقد غويت بريقه وعلى ... من عاود النشوات أن يغوى وقال يصف النارجيليه ويتغزّل: يا نارجيليّةً تهدى بكفّ رشاً ... حلو الدلال رشيق القدّمياس غضّ الشبيبة أحوى الطرف ذي غنج ... أرقّ طبعاً من الصهباء في الكاس حكيت لي نغمة الموسيق مطربة ... برجع صوت مجيب جذب أنفاسي كأنّ رأسك والمقباس كلّله ... تاج تحلّى بياقوت على الراس فبنى عليه السيّد محمّد سعيد حبّوبي وقال يصفها أيضاً: ونارجيليّة تهدى بكفّ رشاً ... حلو الدلال رشيق القدّمياس ظلّت تعربد في كفّيه شاربة ... من ريقه العذب لا من نهلة الكاس حتّى إذا جاد لي فيها بثثت بها ... وجدي عياناً تراه أعين النّاس حيث الدخان إذا ما جاس في كبدي ... موهّت في نفحه تصعيد أنفاسي

جائت تزر فويق الماء مأزرها ... وفوق مفرقها لئلاء مقباس أعديتها داء برحائي معاكسةً ... فالدمع في قلبها والنّار في راس وقال يصف مجلساً كان فيه السيّد محمّد سعيد والسيّد عبّاس المتقدّم ذكرهما: حبّذا مجلساً تضمّن قوماً ... من نسيم الصبا أشفَّ طباعا فهم أنجم المعالي ولكن ... تّخذوا هامة النّجوم رباعا وقصار الأنساب يقصر عنهم ... من سواهم وإن تطاول باعا نشروا من على لوي لواءً ... فيه من طيب نشره الكون ضاعا وقال مقرضاً على أبيات للشريف الألمعي السيّد حسين بن السيّد راضي القزويني وأوّلها: مابين سلع ومنى ... ريم على الخيف رنا ماالسيف إلاّ طرفه ... وقدّه لدن القنا إلى أن يقول: ياسيف يمناي التي ... أرهبت فيه الزمنا ومن إذا ما زارني ... أذهب عنّي الحزنا أحسنت في نظم ولا ... زلت حبيباً محسنا قد راقني في رقة ... فيها فؤادي افتتنا فكم تذكّرت بها ... سرور عيش ظعنا أيّام آنسنا لدى ... طور الهوى نارالهنا حيث الربيع مزهر ... والبدر وقّاد السنا والقلب مرتاح بمن ... كان لقلبي سكنا وممّا قاله أيّده الله: لك طبع أرقُّ من نفحة الورد ... ووجه من أبلج الصبح أسنى ولحاظ من الصوارم أمضى ... وقوام فاق الردينيّ حسنا كيف لا أتّقيهما بفؤادي ... إنّ ذا مائس وهاتيك وسنا وقال مرتجلاً يصف محجّة الحديد بين الكاظميّة وبغداد: ربَّ مقصورة تطير كقلبي ... يوم بان الخليط لا بجناح غضّة الصفحتين تسبق طرفين ... بطرفين في عمودي صباح فهي البرق أو براق إذا ما ... جاز في عدوه سنام الضراح فإذا ما أويتها مستظلاًّ ... فزت من سهمها بأعلى القداح نعمتنا من صفوها باغتباق ... وازدهتنا من لهوها باصطباح وانتظمنا بها نظام عقود ... رصفتها بنان ذات الوشاح وانتسقنا بأفقها كنجوم ... ونبتنا بروضها كأقاح وارتوينا بلطفها لا بماء ... وانتشينا بوصفها لا براح بنت سير لدى السرى إن تغنّت ... أعزبت عن ضمير ذات الجناح وله دام توفيقه: أعذارٌ على الشقيقين لاحا ... أم دجى الليل قد بدا لي صباحا أم سطورٌ نقشنها أنمل اللهو ... على أكؤس المدام ارتياحا أم أنيق الريحان عانق ورداً ... لا بل الآس قابل التفاحا وله أيضاً: مابين رامة والغوير أخوصباً ... لعبت صباً بقوامه فترنّحا نادمته بجماله متمنطقا ... وجذبته بدلالة متوشّحا وقال في الثغ: وأما ولام عذار غض شبيبة ... فتن الأنام هوى بنقطة خاله ما بتُّ طوع يد ابن آدم خاضعاً ... لكنّني أصبحت طوع دلاله وأما وصاد فم العذيب رضابه ... وبنون حاجب فاتني بجماله لو رام منّي بذل نفسي سائلاً ... لوهبتها في الحبّ قبل سؤاله وأما ولثغته بثا متلجلج ... وبميم مبسمه وعذب زلاله لم يصف لي عيش ولو ملكت يدي ... جنّات عدن دون يوم وصاله ونحن قد أوردنا بعض ما يؤثر من النظم في اللثغ في هذا الكتاب عند ذكر واصل بن عطاء ونتبعه هنا نبذة أخرى: قال أبو عمرو يوسف بن هارون الكندي يشير إلى واصل وكان لثغا قد تجنّب الراء: لا الراء تطمع في الوصال ولا أنا ... الهجر يجمعنا فنحن سواء فإذا خلوت كتبتها في راحتي ... وقعدت منتحباً أنا والراء ولأبي نؤاس في الثغ ببدل السين ثاء وكان اسمه عبّاساً: وشادن قلت له ما اسمه ... فقال لي بالغنج عبّاث بات يعاطبني سخاميّةَ ... وقال لي قد هجع النّاث أما ترى حثن أكاليلنا ... زيّنها النثرين والآث فعدت من لثغته ألثغاً ... وقلت أين الطاث والكاث وقال حرسه الله وفيه الجناس المفروق وهو مااتّفق ركناه لفظاً واختلفا خطّاً: وكم قائل لي عش بأنس فقلت لا ... حبيب مدان أو مواس فانتعش فقال أجل عش مستهاماً فقلت لا ... أرم الحياة العاشقين فأنت عش وقال وفيه الجناس المذكور أيضاً:

ذو شامة من نار خدّيه قد ... تقاربت مثوىً ولم تحترق أشار لي تخلص في ودّنا ... أحبته أنّي لكم تحت رق أقول: ولا بأس بذكر بعض الشواهد للجناس المفروق. وقال أبوالفتح البستي: كلّكم قد أخذ الجام ولا جام لنا ... ماضر مدير الكأس لو جاملنا وقال المطوّعي: أمير كلّه كرم سعدنا ... بأخذ المجد عنه واقتباسه يحاكي النيل حين نروم نيلاً ... ويحكي باسلاً في وقت باسه وقال البستي أيضاً: إن هزّ أقلامه يوماً ليعملها ... أنساك كلّ كميّ هزَّ عامله وإن أقرَّ على رقٍّ أنامله ... أقرّ بالرقّ كتاب الأنام له وقال أبو بشر المأمون أو علي الخوارزمي مهنّياً بعض أصحابه بزفاف: بدر دجىً أصحبوه شمس ضحىً ... بارك ربّ السماء فيها له ضمّتهما هالة الوصال معاً ... من ذا رأى النيّرين في هاله وقال بعضهم: لنا صديق يجيد لقماً ... راحتنا في أذى قفاه ماذاق من كسبه ولكن ... أذى قفاه أذاق فاه وهو القائل أيضاً: لنا صديق إن رأى ... مهفهفاً لاطفه وإن يكن في دهرنا ... مهفهف لاط فهو وقال ابن العفيف: أسرع وسر طالب المعالي ... بكلّ واد وكلّ مهمه وإن لحى عاذل جهول ... فقل له يا عذول مه مه وقال الحريري في مقاماته: سم سمةً تحسن آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه والمكر مهما اسطعت لأتانه ... لتقتني السؤدد والمكرمه وقال ابن العفيف أيضاً: إنّ الذي منزله ... من سحب دمعي أمرعا لم أدر من بعدي هل ... ضيّع عهدي أم رعى؟ وقال أبو نصر القشيري: تقبيل خدّك أشتهي ... أملي إليه أنتهي إن نلت ذاك فلم أبل ... بالروح منّي إن تهي دنياي لذّة ساعة ... وعلى الحقيقة أنت هي فصل: في ماله من النظم المشترك بينه وبين أليفه العالم الفاضل السيّد محمّد سعيد حبّوبي النجفي اتّفق أنّه كان جالساً في قصر له عند بستان له على دجلة شرقي بغداد وقدّام القصر روضة يانعة أنيقة وقد ضبت فيها خيمة كبيرة كثيرة التصاوير وكان معه من أهل العلم والأدب جمع منهم السيّد المذكور فأنشئا معاً في وصف ذلك القصر وتلك الخيمة قصيدة مدح كلّ منهما صاحبه بها، وهي هذه: قال السيّد: ما شاقني ركب ذاك الحيّ إذ نزحا ... كلاًّ ولا هاج لي ترحاله برحا ولا توسّمت رسماً في منازلهم ... ولا تطلّعت برقاً بالغضا لمحا إنّي وقد بتُّ وهالآمال طوع يدي ... أنادم المسعفين اللهو والفرحا وغيهب الليل بحر ماج ملتطماً ... فليست الشهب إلاّ لؤلؤ طفحا والبدر زورق تبر سار يحمله ... نهر المجرّة ينحو فيه حيث نحا وقال جناب الشيخ محمّد حسن: في روضة جمعت شمل الهوى سحراً ... ماست بسارية أغصانها مرحا بتنا نشاوي بخمر الأُنس عن طرب ... نميل سكراً ولم نشرب بها قدحا نعم شربنا بكاس الثغر ريقة من ... مذ ماس أوهمنا المغبوق مصطبحا لم يصح منّا بعذويّ الهوى ثمل ... إلاّ وأسكر من جفنيه حيث صحا رقّت فراقت سجاياً منه قد طردت ... عنه النفور وعن أحشائنا الترحا فلم تكن أرمٌ حسناً كروضتنا ... كلاّ ولا صرح بلقيس الذي انصرحا وماءُ دجلة جار في جداولها ... والعندليب على عيدانها صدحا وقال السيّد: ترى الشقايق فيها وهي جمر غضا ... يزيده الماء وقداً كلّما سفحا فأعجب لجمر يذكي الماء شعلته ... والماء يطفي لهيب الجمر ما نضحا يحمر خدّ ثراها في شقائقه ... كأنّما قبّلته الريح فانجرحا والأقحوانة ثغر بات يرمقه ... للنرجس الغض طرف كلّما انفتحا وكم غزال كحيل الطرف ذي غنج ... مهفهف القدّ في أرجائها سنحا قد أخجل البدر حسناً فالندى عرق ... في وجنة الورد من بدر السما رشجا أما تراه لئال بات ينظمها ... مسرى الصبا وبها غصن النقا اتّشحا فيالها روضة لو كان يرمقها ... طرف السنان بصدر الرمح لانشرحا وقال الشيخ محمّد حسن:

رقّت كرقّة من حلو بساحتها ... طبعاً أرقّ من الساري إذا نفخا فاقوا الخلائق في خلق وفي خلق ... وفيهم للورى نهج الهدى اتّضحا وقال السيّد: فلست أدري ءأملي فيهم غزلاً ... لما رأيتهم أو أنشي المدحا وقال الشيخ محمّد حسن: فيالهم معشراً أضحى وليدهم ... على شيوخ ذوي الآراء قد رجحا كالألمعي سعيد الجد خير فتى ... به مرام النهى والفضل قد نجحا مولى تسامى لأهل الفضل بدر سماً ... كما غدا للمزايا الغرّ قطب رحى من مقلة المجد قد أمسى السواد لها ... ومن صباح المعالي أصبح الوضحا ما هزَّ مزبره يوماً لغامضه ... إلاّ وضاق من أشكالها انفسحا وما جرى بمضامير النهى لسناً ... إلاّ وضاقت لديه ألسن الفصحا وما ترائى بيوم البذل بحر ندى ... إلاّ وأخجل صوب المزن فافتضحا ولا تقلّد يوماً سيف عزمته ... إلاّ وأرجع ليل الحادثات ضحى قتّال آساد يوم الحرب مرهفه ... كالبرق يختطف الأرواح مالمحا محّضته الحب طبعاً جلّ عن زلل ... وأكمل الحبّ مالله قد صرحا ما غاب لا غاب وهو الروح عن بصري ... إلاّ وأبصرت في قلبي له شبحا يروح في فتية لم يشؤ شأوهم ... طرف العبور ولا طرف ولا طمحا وقال السيّد: محمّد الحسن الزاكي عميدهم ... أكرم بذي حسب كالشمس راد ضحى نشا بحجر المعالي فانتشت طربا ... ومذ رقى متنها اهتزّت له مرحا شكائم الدهر ملقاة بساحته ... بها يردّ جماح الدهر ما جمحا فليهنّأ الكرخ من علياه في ملك ... غلامه الدهر يجري حسبما اقترحا مخائل الجود لم تخلب ببارقه ... وليس يخبو زناد الفضل ما قدحا يا دهر كن طوعه ما دمت فهو فتى ... كصخرة الواد لم تعبأ بمن نطحا يا أيّها القمر المرخي أشعّته ... تهدي لساحته الغادين والروحا إليك درّ قصيد رصّفته يدا ... فكر بغير رياض الودّ ما سرحا فلك من الشعر في البحر البسيط سرى ... سرى النسيم وفي آدابه سبحا ما كنت أهلا لفوزي في مديحكم ... لكنّني لم أجد عن ذاك منتدحا ولو نظمت دراري الأُفق أجمعها ... مدائحا لك لاستقللتها مدحا فهاكها جملاً أعيت مفصّلها ... فمتن فضلك لا يحصيه من شرحا ولم أزدك علىً لكن لتبلغني ... منك الوداد وحسبي ذلكم منحا وأنت كالبدر أغناه تبلجه ... للناظرين له عن مدح من مدحا وممّا اشتركا في نظمه أيضاً هذه القصيدة وقد مدح كلّ منهما صاحبه بها. قال السيّد: صبح محيّاك بليل العذار ... أسفر أم ليل بدا في نهار وصدغك الملوي أم عقرب ... تلسع أحشائي فيعيي القرار فالصدغ من آس ومن نرجس ... عيناك والخدّان من جلّنار أياأخا الغصن إذا ماانثنى ... وياأخا البدر إذا ما أنار إنّي أهواك على ما أرى ... من قلّة الودّ وبعد المزار كم جرت بالحكم على عاشق ... أكلّ من قد ولّى الحكم جار أنت الذي أجّج في أضلعي ... ناراً تذكّيها الدموع الغزار إن يك بالأضلاع حرّ الجوى ... فما دموع العين إلاّ حرار يقدح زند الشوق في مهجتي ... ناراً ومن عيني يطير الشرار كم ليلة بالقصر قضّيتها ... يشدو المغنّي والحميّا تدار يطوف في كاساتها أغيد ... دبّت بخدّيه ثمال العذار لم يرق العين سوى حسنه ... مالم يكن من حسنه مستعار فاعتقل الصعدة من قدّه ... واستلّ من جفنيه بيض الشفار ما زال يرمي الليل من كأسه ... بشعلة حمراء حتّى أنار لولم تكن ذهبيّة ماالتوى ... من رشحها في معصميه السوار أقبل فيها باسماً ثغره ... وهي كخمر نضّ عنه الخمار فذي ثناياه وذا ريقه ... من حبب الطافي وشمس العقار والجوّ قد طبّق في عارض ... يهزم بالقطر محول الدرار كأنّما الرعد فنيقٌ به ... يحدوا غواديه حداء العشار في روضة غنّاء مصقولة ... لا غبَّ سقياها ملثّ القطار حاك الربيع الغضُّ أبرادها ... بنفسجا طرّزه بالعرار

سدَّى لها السوسن حتّى إذا ... أطاله ألحمه بالبهار فيالها مطارفا وشّعت ... توشيع ربّات الأزار الأزار دبّجها النرجس فاعجب لها ... مدبّجاً قد دبجت بالنضار والأيك في أعطافه راقص ... إذ غنت الورق وصاح الهزار وقال الحاج محمّد حسن في مدح السيّد المذكور: فآنست مبهجة في فتىً ... زكى له الفرع وطار النجار بشراك يا هاشم في سيّد ... يحقُّ أن تفخر فيه نزار أخفّ طبعاً من نسيم الصبا ... لكنّه هضبة رضوى وقار يا من شأى في زعمه شأوه ... أقصر فما أدركت منه الغبار فحبّذا تلك الليالي وإن ... مرّت وإن كانت ليال قصار وقال السيّد: وغارب للهو لم يعره ... كوري ولم أشدده إلاّ وسار طويت للعمر به مهمهاً ... طيَّ المذاكي حلبات العذار فليتني ما جزت هذا المدى ... كلاّ ولا قشعت هذا الغبار وليت ذاك الليل لم ينطوي ... ولم يكن يطلع هذا النهار إذا اغتدي والغيد يرمقنني ... كأنَّ من أهدابهنّ العذار فعاد مبيضّاً كنور الكبا ... أرخص بهذا النور عند النوار قطّع حبل الودّ ما بيننا ... بياضه تقطيع بيض الشفار يا راكب الوجناء يطوي بها ... مهامه البيد قفاراً قفار عرّج على الكرخ وسلّم على ... من في محيّاه النديُّ استنار الحسن الزاكي حليف الندى ... ونجعة العاني وحامي الذمار أقسم بالخوص نجوب الفلا ... أنجد فيها سائق أو أغار تحمل شعثاً فوق أكوارها ... قد لبسوا الليل وراء النهار حتّى أناخوها بحيث انجلت ... مشاعر النسك ومرمى الجمار لأنت ربّ المجد ربّ العلى ... ربّ الأيادي البيض ربّ الفخار أعيت مزاياك الورى عدّة ... كالشهب إلاّ أنّ منها البحار كأنَّ من نيلك صوب الحيا ... لو أنّه من فضّة أونضار وأنت قطب والمعالي رحىً ... فلم يكن إلاّ عليك المدار ولم يرق للمجد من معصم ... لم يلوَ من علياك فيه سوار وليس للعلياء من مفخر ... مالم يكن نعلك تاج الفخار هل أمت العيس بركبانها ... مأوى سوى مأواك أو مستجار كأنّما الأكوار آلت على ... أظهرها إلاّ إليك الظهار فاسلم رغيد العيش ما غرّدت ... بلابل السعد وغنّى الهزار وممّا اشتركا في نظمه. قال السيّد: بعيني من يروق العين حسنا ... رشاً من وجنتيه الورد يجني ثقيل الردف رجرجه التثنّي ... بنفسي ما ترجرج أو تثنّي إذا خفّ القوام به نهوضاً ... تقول له روادفه تأنّي ترنّحه النسائم حيث هبّت ... ويرقصه الحمام إذا تغنّي وقال الشيخ: وظبي من بني ثعل أغن ... بروحي ذلك الظبي الأغنّا رشاً بالمعجزات يريك عيسى ... ويوسف بالمحيّا الطلق حسنا يميت بهزّ قامته ويحيى ... بريقته الذي صرعته طعنا وقال السيّد: فأمّا لاح فهو يلوح شمساً ... وأمّا ماس فهو يميس غصنا فإن عبدتك رهبان النصارى ... فقد ألفوا لديك جليل معنى وإن أقضي بحبّك مستهاماً ... فكم قلبي قضى صب معنى قضى القيسان قبلي قيس ليلى ... من الهجر الطويل وقيس لبنى وقال الشيخ: فهل يسوي الجوى حنيت ضلوعي ... وهل لسوى لقاك القلب حنّا لقائك دون كلّ منىً منائي ... لو أنّ المرء يدرك ما تمنّى تلهّب من فؤادي كلّ واد ... وأعشب من دموعي كلّ مغنا فما جمر الغضا إلاّ زفير ... أذاب جوانحي فجرين مزنا وقال السيّد: شجاني إن شممت رياح نجد ... وشمت بها وميض البرق وهنا وقال الشيخ: فأشجيت الحمامة في مناحي ... وهدَّ من الفؤاد الوجد ركنا وممّا اشترك في نظمه هو والسيّد. قال السيّد: رويداً سائق النوق ... فما ودّعت معشوقي فبالأحداج لي رشأ ... رمى سهما بلا فوق بسهم اللحظ يرشقني ... وقلبي جدّ مرشوق كأنّ القلب يوم سرى ... هوى من فوق عيّوق فليت العيس لا رحلت ... ولا قامت على سوق

فقد خفّت بمنبلج ... من اللؤلؤ مخلوق وقال الشيخ: صفت لي خمر ريقته ... وما مرّت براووق وقال السيّد: فذى عَلَى وذي نهلي ... ومصبوحي ومغبوقي إشاراتي لها أبداً ... ومفهومي ومنطوقي فإن هبّت روائحه ... سباني عرف منشوق كمسك أو كغالية ... بفهر الحيّ مسحوق فليت العين لا نظرت ... غزالا مرَّ في السّوق رماني سهم ناظره ... وما ارتدَّ على فوق فذي الإشراك تعلقني ... وما كنت بمعلوق وقال الشيخ: ونجديَّ الحمى غنج ... رشيق القدّ ممشوق تحلّت ريم رامتها ... بلحظ منه مسروق لقد قالت عواذله ... ودمعي انهلَّ من موقي تبدّل من مراشفه ... بعذب غير مطروق فقد أصبحت ذائقه ... بعهد غير موثوق وممّا اشتركا فيه أيضاً. قال الشيخ: لك قامة تدعى بصعده ... وحسام لحظ ما أحدّه فصرعت في حدّيهما ... مضنىً يكابد فيك وجده حيران موهون القوى ... كلفا أضاع لديك رشده فسل الحمى عن وجده ... إذ بات في الزفرات وحده يا بانة الوادي إذا ... غضّ النسيم أمال قدّه وقال السيّد: هل غير طرفك صارم ... في الكحل قد صقلوا فرنده كن حيث كنت فإنّه ... أبد الزمان يراك عنده هو مطلق قبل الهوى ... وعلقنه الأشراف بعده هل غير خدّك جمرة ... تقد الجوانح وهي ورده فانظر إلى قمر الدجى ... يرياك طلعته وجعده وقالا أيضاً وهو ممّا اشتركا فيه. قال السيّد: بات معناك بأعلاقه ... مستنجداً أدمع آماقه وقال الشيخ: فإن ذوى الروض بأنفاسه ... يحيى من الدمع بمهراقه فسل من الكرخ ذرى دوحه ... فكم شجاني سجع أوراقه قال السيّد: إيّاك يا قلب وهذا الرشا ... أو فادَّرع عن سهم أحداقه وقال الشيخ: رقّت حواشي رشأ مذ رنا ... باللحظ أصمى قلب مشتاقه وقال السيّد: مورد الوجنة قد عنعنت ... حمرتها عن دم عشّاقه وقال الشيخ: يفضح غصن البان في لينه ... ويخجل البدر بإشراقه قلتومنه الشمس قدأشرقت ... تباركت قدرة خلاّقه تحكي لنا رقّة أعطافه ... في لطفها رقّة أخلاقه فما الهوى إلاّ هوى شادن ... غضّ رقيق الطبع رقراقه ما ضرّه وهو نسيم الصبا ... لو رقّ للمضنى بأشواقه قد سرقت منه المها لحظة ... مذ حسدت موضع أطواقه ابرئني هزُّ قنا قدّه ... حيث براني سيف أحداقه وقال السيّد: تلسعني عقرب أصداغه ... فيسمح الثغر بدرياقه أطفأ من ريقته لاعجي ... إن برحت بي نار أعلاقه كان حليفي في زمان الصبا ... حتّى تذاوى غضّ أوراقه واليوم أضحى لاوياً جيده ... يصرف عنّي لحظ أحداقه قل للصبا إن صحّ عتب الصبا ... أسلمت ذاالقلب لإحراقه فاذهب فدتك النفس من ذاهب ... لم يمض أعلاقي بأعلاقه قد فاتني مذ فتَّ ريح الهوى ... إذ كنت لي موسم أسواقه دع ذا وقل يا راكباً أعيساً ... يطوي الدياميم بأعناقه عرّج على الكرخ إذا جئته ... وحيّ عنّي بدر آفاقه محمّداً الحسن المجتبى ... من لا يضاهى حسن أخلاقه ماطاب روح الجود حتّى روى ... نافحه عن طيب أعراقه فليحل جيد الدهر في فضله ... فإنّه أحسن أطواقه وليعكف الخلق على كفّه ... فإنّها مفتاح أرزاقه إليك منّي يا حليف الندى ... مدح امرء راق بأوراقه قد كاد أن يغرق لكنّما ... مدحك لا يحصى بأغراقه ليس سوى حبّك في قلبه ... مغلغلا مابين أطباقه ما خفّ ركبي عنك إلاّ لوى ... إلى مغانيك بأعناقه وممّا اشتركا في نظمه. قال السيّد: فتكت بي سيوف تلك اللحاظ ... في مغاني منّي وسوق عكاظ وقال الشيخ: نبّهت مغفي الفؤاد إفتتانا ... بهواها ولسن بالإيقاظ كدت أن أملك الشهادة لولا ... أن حمتني عذوبة الألفاظ وقال السيّد: كم تخوّفتها فلمّا لقتني ... لم يفدني تخوّفي واحتفاظي

وقال الشيخ: فالثرى من دم الجفون نديٌّ ... وفؤادي من خدّه في شواظ وممّا اشتركا في نظمه أيضاً. قال السيّد: أصات الركب تغليسا ... وزجّوا للسرى العيسا فهل يسطيع سائقهم ... يردّ العيس تنكيسا ويلويهنّ مبتدلاً ... عن الأدلاج تعريسا وقال الشيخ: فبالأحداج لي غصن ... يباهي الذبل الميسا وقال السيّد: فيالله من صنم ... له أصبحت قسّيسا وقال الشيخ: تفوق الشمس طلعته ... بحسن فاق بلقيسا رسمنا ذكره سوراً ... لنقراهنّ تدريسا بعيد لم ننله بدي ... كأنّي رمت برجيسا وقال السيّد: رميت القلب في كرب ... فهل تسطيع تنفيسا وممّا اشتركا في نظمه أيضاً. قال السيّد: يا حامل الوردة ما ألطفك ... فهل ترى لي اليوم إن أرشفك بادرة الناظر بالله قل ... بهذه الوردة من أتحفك لا أقطف الورد ولكنّني ... قد كدت من روضك أن أقطفك أنكرني أهلي لكنّهم ... ما أنكروني قبل أن أعرفك عنّفني فيك عديم الحجا ... فلم يكن يصرفني مصرفك عنّفني فيك فلم يلوني ... فلم لوى جيدك إذ عنّفك شبّهك الشمس إلاّ أنّه ... قد أنصف الشمس وما أنصفك ثقّلك التمويج يا ردفه ... فأنت ياذالخصر من خفّفك وأنت يا مبسمه لؤلؤ ... قد رقت ترصيفاً فمن رصّفك قتلت أسد الغيل يا طرفه ... ما كان أقواك وما أضعفك صرعت في خدّك منّي الحشا ... بالله يا ذاالطرف من أرهفك ويا بنان الكفّ لا تقضني ... دمي فقد زانك أم طرفك وقال الشيخ: يا أهيف القد ترفق على ... مضنى الهوى أما تمل أهيفك رقَّ على الرق نسيم الصبا ... إذ كان من عهد الصبا مدنفك وروّح الأرواح في نشر من ... رقَّ وفي ريّاه قد لطفك وقال السيّد: فآه يا قلبي لو أنّني ... ضمنت فيك اليوم من أتلفك أخلفك الموعد ظبي الحمى ... فهل له ينجز ما أخلفك إن لم يكن يسعف في منية ... فحسبك الإقبال إذ أسعفك في مدح من في مدحه زينة ... لقائل قد قال أوفكَّ فك لذاك خلّي الحسن المجتبى ... أحسن من أطلق عان وفك وذاك ذاك الصارم المنتضى ... على دم العدم وفيه انسفك فامرح على العيوق من عزّة ... واسحب على هامته مطرفك يعدُّ في تعريفه مخطئاً ... يا علم الأعلام من عرّفك وممّا اشتركا في نظمه أيضاً. قال السيّد: دبّ من صدغه على الخدّ عقرب ... كلّما رامه المتيّم يلسب فبنفسي أفدي بديع جمال ... مستهام به الفؤاد المعذّب مترف تقطف اللواحظ منه ... ورد خدّين بالجمال مشرب أرسل الجعد خيفة من رقيب ... فهو شمس في جنح ليل تحجّب وقال الشيخ: من بني الترك أهيف القد غض ال ... جيد طفل حلو المعاطف ربرب وجنتاه من المنيرين أسنى ... ولماه من الحميّة أعذب بلهيبيهما احترقت ولكن ... بردا باللما فلقّب أشنب وقال السيّد: حاول الستر بالنقاب ولكن ... أحرقته أنواره فتلهّب فهو ماانفكّ مسفراً لعيون ... إن بدا مسفراً لنا أو تنقّب وقال الشيخ: صال بالمرهفين من ناظريه ... فهو ريم في معرك الحسن يرهب وقال السيّد: لو سرى في الشرات يوم كفاح ... لاختشت حربه سرات المهلّب أنت يا قائد الجمال جموعاً ... كيف يدنوا إليك قائد مقنب وقال الشيخ: بفؤادي أفديك من ذي دلال ... غنّج بالفؤاد يلهو ويلعب ذاك ساق قاسي الفؤاد ولكن ... كاد من رقّة على الكاس يسكب فسقى معجلاً برقّة طبع ... كاد من لطفه على الكاس يشرب ومن النظم المشترك بينه وبين الشريف النجفي السيّد محمّد سعيد حبّوبي أيضاً هذه اللامية. قال السيّد: هل سلا عاشق سواي فأسلو ... والتأسّي في شرعة الحبّ يحلو؟ وقال الشيخ: لا وألفي ما راق عيني إلاّ ... أعين تخجل المها منه نجل هي مرضى وما بهنّ سقام ... وهي كحلى وليس فيهنّ كحل وقال السيّد:

زججت حاجباً لها وهو قوس ... ورمتني بلحظها وهو نبل وقال الشيخ: يا حبيباً أدال صدغيه حسن ... وقضيباً أمال عطفيه دلُّ رشق قلبي بسهم لحظيك جور ... واقتطافي من ورد خدّيك عدل ورصالي إن كان عندك صعباً ... فحمامي مذ بنت عنّي سهل وقال السيّد: يا هلالاً وارى البعاد سناه ... عن عيوني فما لها تستهلّ فلقد أبكت الحمامة عيني ... فهي تملي وأدمعي تستملّ ولقد شاق لحظ عينك قلبي ... ومتى شاق قلب جرحاه نصل لنا حرّمت في هواك رقادي ... لم يا منيتي دمي تستحلّ وقال الشيخ: كرّرا لي حديث ريم زرود ... يا نديميَّ إنّه لا يملّ واسقياني على اسمه العذب راحاً ... إنّ راحي على اسمه العذب تحلو قال السيّد: كتب الذكر نصب عيني كتاباً ... من معانيه لم أزل فيه أتلو يا عريباً بين الرصافة والكر ... خ أقاموا لا بل بقلبي حلّوا كم هجرتي وكم وصلتم مشوقاً ... وكذاك الزمان هجر ووصل وقال الشيخ: ولكم بالجفا قتلتم محبّاً ... وكذاك الهوى حياة وقتل وقال السيّد: لي مابين سربكم ريم سرب ... لحظ عينيه صارم لا يفلّ وقال الشيخ: بخدود بيض وسود جعود ... هو طورا يهدي وطوراً يضلّ أحرقتني تلك الأسيلات لو لم ... أك في ظلّ شعره أستظلّ فلقد ساب كانسياب الأفاعي ... فوق متنيه فاحم اللون جثل إن يكن ثغره المفلّج برقاً ... فحنيني رعد ودمعي وبلّ وقال السيّد: أيّها العاقد النطاق بقلبي ... لك بالقلب عقدة لا تحلّ لا ترعني بسيف جفنيك سلا ... إنّ روحي تسلُّ مهما يسلُّ لي على الكرخ رشّة من دموعي ... داميات وغلّة لا تبلُّ أيّها المدلجون للكرخ تخدي ... بهم ضمر نجائب بزل بعملات كأنّهنّ الحنايا ... تقطع البيد والمرافق فتل قد محاها السرى فلم ير منها ... إن ترائت إلاّ نسوع ورحل قف على الكرخ ثمّ حيّي غزالاً ... قتل الصبّ منه سحر ودلُّ عن محبّ يزداد فيه ولوعاً ... فيه ما مرّ بين سمعيه عذل وقال الشيخ: يا عذوليّ تشمتنَّ بهجري ... فعسى أن يعود ما كان قبل ولهما أيضاً معاً. قال الحاج محمّد حسن: بك يا بهجتي حمى الكرخ أبهج ... وبرياك لا بمسّك تارج وقال السيّد: لك صدغان فوق خديك لاحا ... مثلما التفَّ بالشقيق بنفسج وقال الشيخ: يا أخا البدر طلعة ما أحيلا ... كأس خمر من عذب ريقك تمزج وقال السيّد: يا قضيباً يقدء إن تثنى ... وكثيباً بردفه إن ترجرج وقال الشيخ: يا حياتي إن لم تصلني فقل لي ... هل سبيل إلى السلو فننهج؟ لا تباهي ليلي سناً يا نهاري ... إنّ من وجنتيه ليلي تبلّج قرّ عيناً يا عاذلي بهواه ... صرعتني ألحاظ هذا المغنّج وقال السيّد: سعر الحسن خدّه فتلظّى ... وسقاه ماء الصبا فتموّج وقال الشيخ: عكس الحسن إذ رماني بلحظ ... لون دمعي بخدّه فتضرّج وقال السيّد: أولم يدر قاتلي حرج الق ... تل لعمري ولو درى ما تحرّج لهج المادحون فيَّ ولكن ... أنا في غير ذكره لست ألهج وممّا أشترك فيه هو والسيّد المذكور قوله: برحت بي لواعج الحبّ وجداً ... بأغنٍّ هزَّ الرديني قدّا هو ريم الفلاة لحظاً وجيداً ... والتفاتاً وورد نعمان خدّا قال السيّد: وهو غصن التقا إذا ما تثنّى ... وهلال السما إذا ما تبدّى زرَّ برديه فوق روض جمال ... تقطف العين منه زهراً مندّى فبأهلي هذا وإن عزَّ أهلي ... بل بروحي أفديه فهو المفدّى وممّا اشتركا فيه أيضاً. قال السيّد: يا منزل الحيّ بدار السلام ... جاد مغانيك ملثُّ الغمام وقال الشيخ: كم أنعشتنا فيك ريح الصبا ... سارية مرّت بلين القوام وقال السيّد: من أهيف الخصر هظيم الحشا ... تقعده الأرداف عند القيام يميس كالصعدة مهزوزة ... يحملها الأرعن يوم الزحام وقال الشيخ:

يا طرفه الفتّان حتّى متى ... ترشق أفلاذ الحشا بالسهام أنت حياة الصب لكنّما ... صريع جفنيك صريع الحسام هتكت أستار الدجى مشرقاً ... بطلعة تفضح بدر التمام علمت آرام النقا لفتة ... يا غصنه والأقحوان ابتسام والبان ليناً والهوى رقّة ... والماء لطفاً وفؤادي الهيام وممّا اشتركا فيه أيضاً وللسيّد الشطر الأوّل من المطلع وللشيخ الشطر الثاني: أيّها المشرق في الزوراء شمساً ... أنت لي نفس وإن أفدك نفساً وقال الشيخ: فبعيني يا رشيقاً قدّه ... لك عين فتكت بي وهي نعسا وقال السيّد: لست أنسى عهدك الماضي وإن ... مرَّ بالعين خيالاً لست أنسى طفت سبعاً حول مغناك كما ... قمت أقضي صلوات الشوق خمساً أنت كالشمس دنت أنوارها ... لعيون وعدتها الكفّ لمسا إن شربت الكاس لا يمزجها ... لك ريق لا سقاني الله كأسا روّض الصخر رواء مدمعي ... وزفيري عاد فيه الروض يبسا إنّ داء الوجد لو أبرأته ... عاد ذاك الداء بالمشتاق نكسا ولهما وهو ممّا اشتركا فيه أيضاً. قال السيّد: لا ومجرى نطاقك المعقود ... فوق مهتزّ قدّك الأملود لم تحلَّ اللحاظ وهي سيوف ... عقدة الوجد من حشا المعمود ما أحيلاك مائساً نتثنّى ... بثياب من الصبا وبرود وقال الشيخ: وأحيلا سود الغدائر تسعى ... كالأفاعي من فوق بيض الخدود وقال السيّد: قصمت كاهلي محاسن طفل ... قسم الحسن بين بيض وسود هالة الحسن من سناه استنارت ... فاستدارت بغيهب من جعود وقال الشيخ: منه لولا احمرار خدٍّ أسيل ... لم ترق نضرة احمرار الخدود ربّ كأس ورديّة شمت فيها ... وجنتيه فساغ منها ورودي عنعنت لي احمرارها عن لماه ... عن دم المدمع عن دم العنقود أنا لاه عن ذكر ليلى ولبنى ... ومغان بالمنحنى وزرود بربوع بالكرخ مثل نحور ... نظمتنا بها انتظام عقود لك يا ريم رامة لحظات ... فتكت بي بمصلت معمود وقال السيّد: لا تدر لي من صاب صدّك صاباً ... إنّ طعم الصديد دون الصدود ولها أيضاً. قال الشيخ أدامه الله: وجنة من أهوى الهوى ألمها ... إذ سرقت من دمع عيني دمها فمن دمي قد ارتوت حتّى روت ... للناظرين عن دمي عندمها ما راق لي كلثمها وإنّما ... تمنعني الرقّة أن ألثمها وقال السيّد: إن خطّ نوناً حولها عذاره ... فخلّه بنقطة أعجمها قد أوحضت طرق المنى لئلائها ... لكنّ ليل شعره أبهمها كم سلسلت سلاسلا جعوده ... قيّدت الليث فما فصّمها قالوا الغرام مهلك قلت لهم ... ما عيشتي إن لم أكن مغرمها وقال الشيخ: كان حياة مهجتي لو لم يكن ... إلى الحمام لحظه أسلمها فكيف لا أيئس من سلامتي ... وقد أقام هجره مأتمها لله ألحاظ له سقيمة ... ما كان أمضاها وما أسقمها وقال السيّد: فلا تقل مقلته قد فوّقت ... ألحاظها بل فوّقت أسهمها وقال الشيخ: كأنّها تطلب عندي ترة ... فليتني أعلم من أعلمها كتمت فيما قد مضى صبابتي ... فيها فمن لي اليوم أن أكتمها هل تنقع الأدمع نّي غيلتي ... كيف وفي نار الجوى أضرمها فحيّ بالزوراء ريم سربها ... يا حادي الركب الذي يمّمها وقال السيّد: وحيّ بدراً في سماها مشرقاً ... أمدَّ من شعاعه أنجمها يا عاذليَّ في الهوى تورّعوا ... وأطرحوا نفسي ومن تيّمها وممّا اشتركا فيه أيضاً. قال الشيخ: نعم الأنيس الراح للأرواح ... فألفه ألف العيد للأفراح وادر على تذكاره قدح الطلى ... فلتلك أحسن خمرة الأقداح إرتاح مشتاقاً إليه ولم أكن ... لولا هواك إليه بالمرتاح كيف الرصافة تستهلّ هلالها ... وبها هلال جبينك الوضّاح أم كيف في حزوى نعارض نشرها ... ولقد نفحت بنشرك الفيّاح تصحو ويسكرك الصبا متدلّلا ... نفسي فداؤك من نزيف صاحي

تذييل في ذكر بعض تقريظات الكتاب

كم رمت وصلك مجهداً بوسيلة ... فقصصت لي المرتاش من أجناحي وتركتني حيران أختبط الدجى ... لا أهتدي قصداً للحيّ اللاحي ريم تدجّح مذرنا متمايلا ... تيهاً بلدن قناً وبيض صفاح فاحذره إن هزَّ القوام فإنّما ... للطعن هزَّ مثقّف الأرماح لطفت شمائله فكان بلطفها ... كالروح بل كالروح بل كالراح ناحت عليَّ النائحات صوارخاً ... إن لم أفز من وصله بنجاح سفحت عيوني مائها لنواظر ... تروي بفتكتها عن السفاح كان الصبا للعشق أحسن موسم ... تربو بضاعته عَلَى الأرباح إن تشج حائمة الحمام سواجعاً ... فلكم شجاها بالغوير مناحي يا مرسل الأصداغ فوق خدوده ... عجباً سدلت الليل فوق صباح وارشت من عينيك أقتل أسهم ... فتركت قلبي مثخناً بجراح وقال السيّد: أمحمّد الحسن الخصال أليةً ... بنداك لا بالعارض السفّاح إنّي عشوت إليك عن كلّ الورى ... والشمس مغنية عن المصباح وعقلت عيسى في ذراك معرّساً ... في ذروة الشرف الرحيب الساح راحت إليه واغتدت بذميمها ... فأراحها من مغتدىً ورواح ألقيت إقليدي إليه ولم أكن ... ألقي إلى أحد يد الممتاح هذا آخر ما أردنا إثباته في هذا الكتاب ولنختم عليه حامدين الله مصلّين على رسوله محمّد خاتم المرسلين وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين. تمّ طبعه على نسخة مخطوطة بيد مصنّفه - كانت تلك النسخة عند الشيخ العلاّمة الحاج محمّد حسن آل كبّه وهي المهداة له من المؤلّف - وقد أذن ولد المؤلّف الفاضل الكامل السيّد حسين للقائمين بطبعها إذناً مطلقةً بنشرها وطبعها خدمةً للأدب وحبّاً لنشر آثاره - وقد انتهى طبعه في شهر ربيع الثاني سنة 1332 -. تذييل في ذكر بعض تقريظات الكتاب التقريظ الأوّل ما أنشأه العلم العلاّمة، جوهرة الزمن، وغرّة وجهه الحسن، الفاضل الماجد المهدى إليه الكتاب، وهو هذه القطعة الشعر، بعد فقرات بديعة من النثر. قال أدام الله مجده. هبّت تحيّيك بوادي السدير ... سارية الريح بنفح العبير في روضة غنّاء غنّت بها ... بلابل السعد بيوم مطير فقمت مرتاحاً إلى نشرها ... مقابلاً نفحتها بالزفير فملت والقامة من فاتني ... نشوانة باللحظ دون العصير فهي كغصن البان ميّاسة ... عهدي لروحي الروح عند الهجير مهفهف الأعطاف غضّ الصبا ... عذب اللما حلو السجايا غرير طاب به عيش الهنا مثلما ... طاب برو الفضل نشر العبير مولىً روى العلياء عن حيدر ... حامي ذمار الجار والمستجير وحاز في حلبة سبق النهى ... نهاية ما حازها ابن الأثير وفاز بالقدح المعلّى كما ... شاء العلى فهو عليها أمير أبهرنا في آية ضمّنت ... سحر النهى لا سحر طرف الغرير فرقّ ديباج التهاني بها ... وشياً بصنعاء عديم النظير وراق أبهاج المعالي بها ... حلياً بها الأبهاج غضٌّ نضير فما امرؤ القيس على فضله ... إن قيس يوماً في نهاه الخطير ولا أبوالطيب وإن طاب لي ... إلاّ حصىً قيس ببدر منير وما الحريري وإن زانه ... نسج لئالي الفضل دون الحرير التقريظ الثاني ما تفضّل بإنشائه علم العلم الراسخ، وطود الشرف الشامخ، ينبوع السماحه، وفارس ميدان البلاغة والفصاحة، أبوالمعزّ سيّدنا السيّد محمّد نجل علاّمة العلماء معزّ الدين السيّد مهدي القزويني لا زال بدر سعده، مضيئاً في آفاق مجده. قال أيّده الله: قسماً بجلالة منشيه ... وبآيات تليت فيه وبناظم سمط فرائده ... ومفصّل عقد لئاليه ومسوّد طرس صحائفه ... من بيض حسان معانيه ومرصّع ناصع غرّته ... ومطرّزها بدراريه ومشيّد ركن قواعده ... ومؤسّس سمت مبانيه برياض الورد به ابتهجت ... لسقيط الطلّ بناديه وبحمرة خدّ شقائقه ... وبياض ثغور أقاحيه بسطور التبر لناظره ... وعقود الدرّ لرائيه بشوارده وفرائده ... ومدائحه وتهانيه هذا الفرقان وقد بلغت ... حدّ الإعجاز مثانيه

التقريظ الثالث

بل هذا النهج لحيدرة ... ودلائله ظهرت فيه سطعت في الدهر مفاخره ... وشواهدهنَّ قوافيه وسما شرفاً بمكارمه ... ورقى فخراً بمعاليه وزكا نسباً وعلا حسباً ... بمآثره ومساعيه بفضائله وفواضله ... أضحى لا حرَّ بواديه حتّى قد عزَّ وجلَّ عن ... الأنداد فليس تدانيه باهل عرب الإسلام به ... بأقاصيه وأدانيه ومخضرمها ومولدها ... من حاضره أو باديه وانشد أدباهر الدهر له ... من ذا في الدهر يدانيه وانظر إن شئت له قلما ... بنبي عن قدرة باريه واسمع نظماً يروي فضلاً ... لمصدره ومقفيه وانشق من زهر حدائقه ... كالمسك تفوح غواليه واقطف من روض محاسنه ... ورداً كخدود غوانيه واسجد إن أنشد منشده ... بيتاً أو حدّث راويه كسجود الذكر لسامعه ... قد عمّ الحكم وتاليه التقريظ الثالث ما أنشأه العلاّمة الأوحد المتفرّد في المعقول والمنقول، والفروع والأصول، فصيح قريش ومنطيقها، والمجلي في حلبة بلاغتها، سيّدنا السيّد حسين نجل العلاّمة المتقدّم ذكره السيّد مهدي القزويني. قال أدام الله عزّه: أعقود تنضّدت من جمان ... أم رياض تفترُّ عن أقحوان أم ورود ترفّ فاقتطفتها ... حدق الناظرين بالأجفان أم عروس من صنعة الفكر جائت ... تتهادى مابين خمس بنان أم شطور من الكمال سطور ... تتجلّى أم محكم الفرقان يا نديميَّ قرّطاني نشيداً ... بأغانيه لا بلحن الأغاني لعبت بالعقول غرّ معاني ... هـ كلعب الشمول بالإنسان نفحنا أزهاره فانتشقنا ... من خزاماه نفحة الريحان نسجت وشيه البلاغة فانصا ... ع وما للربيع فيه يدان واجتنينا منه شقائق لكن ... أنفت نسبة إلى النعمان غازلتنا عيونها فانثنينا ... وبنا صارف عن السلوان وارتنا محاسنا عرفتنا ... أنّها صنع حيدري الزمان من سما مفرق العلاء فجازت ... بمساعيه ذروتي كيوان لاح فيى مطلع الكمال هلالاً ... أطلعته السراة من عدنان قد براه الإله شخص كمال ... مفرداً جلَّ عن شبيه مداني يا وحيد الزمان في كلّ فضل ... وفريداً من عالم الأكوان لم تقم عن نظيره محصنات ... عقمت بعد أن تجيء بثاني لك أمضي من السنان يراع ... ضاق ذرعاً به الحسام اليماني ولك السائرات شرقاً وغرباً ... ببديعغ من لفظها والمعاني لست أدري أذاك رائع شعر ... لاح لي أم قلايد العقيان إنّ أقلامك التي تنفث الس ... حر حلالا إذا جرت في البيان معجزات لو الكليم يراها ... ليس يرضى بآية الثعبان فتراه والفكر يبتدران ... فهما فرقدان لا يبغيان والقوافي بسيره سائرات ... ليس يحكي مسيرها النيران تلك تجري لمستقرّ وهذي ... شرع سيرها بكلّ أوان كلّ بكر عذراء لم تفترعها ... يد فكر ولا جرت في لسان التقريظ الرابع ما أنشاه أصدق أهل الفضل رويّه، وأصفاهم طويّه، وأملكهم لعنان الفصاحه، وأدلّهم على الصعب من المعاني كيف يروض جماحه، السيّد إبراهيم ابن السيّد حسين الطباطبائي وجدير بمن جدّه بحر العلوم، أن تراه أعلم أهل الفن بالتقاط درر المنثور والمنظوم. قال دام علاه: هل الروض القشيب أعاد زهرا ... أو العذب الرطيب أعلَّ قطرا أو الودق المفوف حاك برداً ... أو النوء المطرّز خاط طمرا أو النور المكمّم باكرته ... بروق سحابة وطفاء غرّا وهل هزّت صباً بالغور مهداً ... لطفل حواضن النوروز غيرى على عذبات أوراق رقاق ... عقدن على الغصون الميد أزرا مطارلف للربيع معضّدات ... ترفّ نواصعاً بيضاً وحمرا هل الشفق المشعشع شفَّ لوناً ... أو الصبح استنار فشقَّ فجرا بل الفقر الخوالد حبّرتها ... يد تستخدم الأقلام ثرّا تسومها شوارد نازعات ... تلفُّ أباطحاً وتجوب وعرا كأمثال الصلال بكلّ شعب ... نوافث بالسام تسور سورا

التقريظ الخامس

طوت منها الصحائف عايقات ... تعير ذوائب النسرين نشرا فهل دارين ذات الطيب أهدت ... لطائم في الطروس تفوح عطرا عقيد الفضل قد فصّلت عقداً ... بعقد جمانة البحرين أزرى نط العقد المفصّل بين قرطي ... مبتلة لعبوب الجيد عفرا تشظى رصفه فغدا شعاعاً ... يساقط لؤلؤ في الطرس نثرا فأعرب عن كتاب كنوز فضل ... أحاط بجوهر الأفكار خبرا لعمري عبَّ منه عباب يمّ ... فأعيى ملحم الصدفين قطرا ضربت عن المعاني العون حتّى ... قرعت حصانها تفتضّ بكرا هو القلم الذي في الطرس يجري ... فيزري بالجراز العضب مجرى ومتّهم لدى الجلى أمين ... تراه مبرّأً طوراً وطورا ولولا علمة عرفت بفيه ... لأعوز فاقداً نفعاً وضرّا ينكسّس منه في القرطاس رأساً ... ليودع مسمع الألواح سرّا كمثل الصبّ أنحله هواه ... فباح بسرّه المكتوم جهرا التقريظ الخامس ما نظمه بدر سماء الشرف، وذكاء دارة النجف، من شحذ الحذق ظبة ذهنه، وألجم عن النطق كلّ مفوّه على حداثة سنّه، أفقه الشعراء لا بل أشعر الفقهاء، عقد الشرف الفريد، سيّدنا السيّد محمّد سعيد حبّوبي. قال دام فضله: هذا كتاب المجد مصحفه ... ومآل وحي الفضل مألفه فدلائل الإعجاز أسطره ... وقلائد العقيان أحرفه هذا المفصّل باسم منشئه ... وهو المفضّل إذ تصفّحه كالفلك تشحنه غرائبه ... فيشقّ لجّ الفكر مجدفه متضوّعاً كالروض باكره ... صوب الغمام فراق زخرفه كالماءبالرصف اصطبحت به ... أو عقد غانية ترصفه ودّت عيوني لو تكون فماً ... تحسوا سلافته وترشفه ويودُّ سمعي لو يكون يداً ... لينال زهراً منه يقطفه فاسئل به إن شئت ذا أدب ... فمميّز الدينار صيرفه وكأنّه لعموم مادحه ... سيّان حاسده ومنصفه يا أيّها العلوي حزت علاً ... مااسطاع حصراً من يوصفه لله من قلم كتبت به ... وأنامل أخذت تصرفه في سحر بابل قد أتى ويرى ... ثعبان موسى ليس يلقفه يصل المحابر وهي تظمؤه ... ويصدّ عنها وهي ترشفه متوقّف مالم يعلّ فماً ... فإذا أعلَّ يقلُّ موقفه ظام قان شرب المدام مشى ... للطرس يلقيه ويقذفه وكأنّه لدقيق قامته ... صبّ نحيف الجسم مدفنه عاري المناكب لا يخاط له ... بردٌ ولا ممّا يفوفه لا يعلم السرّ المصون وقد ... ينيبك عن سرٍّ ويكشفه جمُّ اللغات لسانه ذرب ... لا يختشي ممّا يحرّفه متكلّم بالحقّ مؤتمن ... ما صحَّ عنه ما يصفّحه ومبيّن ما لا يبيّن له ... ومعرّف ماليس يعرفه التقريظ السادس ما أنشأه طراز الحلّة البغداديّة، ومنطقيها في قصل كلّ قضيّة، الحاج ملاّ عبّاس الصفّار الزبوري. قال حرسه الله للفضل والأدب: كتابك تحت كتاب الإله ... وفوق كتابة كلّ الورى أقول وعيناي ترنو إليه ... لقد جمع الصيد جوف الفرا وأهتف إن قيس فيه سواه ... أين الثريا وأين الثرى أجل، ها أنا أتمنّى عند رؤيته أنّ أغضائي كلّها نواظر تبصره، وخواطر تتذكّره، وألسنه تذكره، والناظر لا يملّ لحظا، والخاطر لا يكلُّ حفظا، واللسان لا يزلُّ لفظا، سدَّ على الأُدباء موارد الصفات، ومصادر التشبيهات، هذا وهو أرقّ من الماء والهواء، وألذّ وألطف من الصهباء، تدار بين الندماء، ما أجلّت نظري في صحاح جوهر منظوم، هذا العقصل المفصّل، ومنثور درر هذا السيّد المفضّل، إلاّ همت شوقاً فيه، وودت أستقصيه، واعترفت مع ما تحقّق من قصر باعي وتقصير يراعي بالقصور، وعزمت على زجر النفس عن كلّ منظوم ومنثور، ثمّ بدا لي مع ضعف حالي، وإشغال بالي، شكر هذه النعمة الغير المتناهية، لصاحب هذه الهمّة العاليه، فنظمت هذه القصيدة، التي هي بقصورها فريده: وافى مذ وافاني غده ... ووفى لي فيما أقصده غصن يسري في بدر دجى ... طافت في شمس ضحىً يده رشأ بسيوف لواحظه ... شمل العشّاق يبدّده يشدو فيرقُّ لنغمته ... إسحاق اللحن ومعبّده

تلفي شرفي بمحبّته ... وعذابي عذب مورده يدني أجلي فيقرّبه ... في يوم وصال يبعّده ريّان الخدّ مورده ... سكران اللحظ معربده غصن يسري في بدر دجىً ... يزري بالغصن تأوّده ياليلاً بثُّ أُسامره ... ما أسرع ما وافى غده تركي ناش في عجم ... وصفاء اللون يبغدده بتنا بقميصي عفتنا ... والحيُّ تولّت حسّده ولهيب فؤاد أضرمه ... بزلال الريق أبرده ويميت القلب وينشره ... سيف عيناه تجرّده زمن تجب النعماء له ... جحد الباري من يجحده عجباً من خصر رقّته ... حملت جبلاً هو مجهده عجباً للخدّ بنار الورد ... جلا الأبصار توقّده أيعود زمان الفوز به ... ويشاهدني وأُشاهده كمشاهدتي لكتابة من ... هو فرد الدهر وسيّده هو حيدر أهل العلم له ... ملك بالنظم يسدّده وله من خالقه نظر ... مابين الخلق يؤيّده مولىً للنظم يكمّله ... فيقيم الملك ويعقده نفحات الطيب بعنصره ... تبدوا والطيب مولده صلحت لله سريرته ... فالصالح ما كتبت يده يا ثالث بدري عالمنا ... بل أنت لفضلك مفرده من قاسك في أحد فأنا ... في وصف علاك أفنده ندب يحلولي المدح به ... فلهذا صرت أُردّده بحرٌ والبدر بطلعته ... يبدو والكوثر مورده فحماه آل الخلق ولا ... يزل الإقبال يؤيّده

§1/1